البحوث

تعامل المسلمين مع أهل الأديان والمذاهب في أوروبا

تعامل المسلمين مع أهل الأديان والمذاهب في أوروبا

(الأديان في أوروبا: التاريخ والتأثير الراهن)

 

من التراث المشترك إلى القيم المشتركة، ومن التاريخ المشترك إلى المهام المشتركة

أعدها ويقدمها:

الدكتور مصطفى تسيريتش

 

رئيس العلماء والمفتي العام

في البوسنة  والهرسك

المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

الدورة الحادية والعشرون

دبلن – أيرلندا

26 رجب – 1 شعبان 1432هـ

28 يونيو – 02 يوليو 2011م

 


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات، 13).

إننا أينما نعيش، مسلمين ونصارى ويهود، نقتسم تراثا مشتركا، هو كلمة الله التي أوحاها، فآمنّا بها، وإن كان بطرق مختلفة، وبلغات مختلفة، وفي أماكن مختلفة وأوقات مختلفة.

ونحن المسلمين نؤمن بأن القرآن الكريم الكتاب الخاتم الذي أنزله الله للبشرية. وعندما نقول أنه هو خاتم كتب الله، فإننا نعترف في الوقت نفسه أنه ليس كلام الله الوحيد، بل إن هناك كتبا أخرى أيضا، ولكن القرآن جاء مصدقا لما قبله، ومعلنا نفس الرسالة، وفي هذا المعنى يعلمنا القرآن الكريم:

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} (النساء، 163}.

ولقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية وليس مبطلا لها، بل إن الكثير مما جاء فيها يخاطب المسلمين، ونتعلم من حديث أبي هريرة:

ٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الآخِرِ)، [البخاري، جامع الصحيح، مجلد 2، كتاب الإيمان، حديث رقم 48، وكتاب تفسير القرآن، حديث رقم 300].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ) [البخاري، جامع الصحيح، كتاب الإيمان، حديث رقم 50].

وبناء على ما جاء في القرآن الكريم، فالكتب التي يجب علينا أن نؤمن بها هي:

  • “صحف إبراهيم” (سورة الأعلى، 18-19)،
  • “التوراة” التي أنزلت على موسى (البقرة، 53؛ هود، 17؛ الأحقاف، 12)،
  • “مزامير داود (الزبور)”(النساء، 63؛ الإسراء، 55)،
  • “الكتاب” ليحيى عليه السلام (مريم، 12) ،
  • “الإنجيل” لعيسى عليه السلام (المائدة، 46)،
  • “القرآن العربي” المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (يوسف، 2).

إذا يجب علينا أن نؤمن بالقرآن الكريم والكتاب المقدس الذي يسمى أيضا بالإنجيل، ويعود السبب في ذلك إلى أن تلك الكتب المقدسة مصدرها نفس المصدر الإلهي، وهي الكلام الموحى من الله سبحانه وتعالى، فهي بذلك النور والهداية للناس، ومن المؤكد أنها تحتوي على الحقيقة، إذ يقول سبحانه وتعالى:

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (آل عمران، 3-4).

لقد تم وضع القرآن الكريم والكتاب المقدس في سطر واحد يمكن وصفه بأنه سلسلة من الآيات المكشوفة: إن كل وحي لاحق ، على الرغم من أنه يحل محل سلفه، إلا أنه يؤكد في الوقت ذاته حقيقته:

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ …} (المائدة، 44).

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (المائدة، 46)

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة، 48).

إن التوراة والإنجيل والقرآن، سلسلة من التراث، وسلسلة من الآيات البينات. ووفقا لهذا المفهوم فإن الكتاب المقدس يمتلك المعنى للقرآن الكريم، والقرآن يعطي المعنى للكتاب المقدس. ولذلك، خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم قائلاً:

{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس، 94).

توجد رابطة داخلية بين القرآن الكريم والإنجيل، تشبه الرابطة بين الإنجيل والتوراة، ولقد قام الحاخام “دافيد نوفاك” قبل عدة سنوات بإجراء دراسة للرابطة التي تربط بين التوراة والإنجيل، فطوَّر فكرة العهدين الواضحين، واقترح أن نرى التوراة باعتبارها وثيقة العهد الأول من الله، والإنجيل بوصفه وثيقة العهد الثاني من الله.

وفي ضوء هذه الفكرة عن العهدين المتتابعين، فإنني أشعر بالتشجيع على الخروج بفكرة عن وجود العهد الثالث، وفهم القرآن الكريم على أنه وثيقة العهد الثالث والخاتم من الله سبحانه وتعالى.

القيم المشتركة

وبناء على هذا التراث المشترك، فإننا مشتركون أيضا في عدد من القيم الأساسية والحقوق المستمدة منها، ولاسيما حقوق الإنسان المنصوص عليها في القرآن الكريم والكتاب المقدس على حد سواء. والكتاب المقدس يدعوها بالوصايا العشر، والقرآن يصف على أنها محتوى لوحين من الألواح التي سلّمت إلى موسى عليه السلام: (الأعراف: 144-145؛ الأنعام: 152-154؛ الإسراء: 23-39)

وتشمل هذه القيم قيمة الحياة والمحافظة عليها؛ وقيمة المعتقد واحترام الاختلافات في التعبير عنه؛ وقيمة الحرية واحترام حدودها، لأن حريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الآخر؛ وقيمة الممتلكات واحترام ممتلكات الآخرين؛ وقيمة كرامة الإنسان واحترام كرامة الآخرين.

وبالرغم من الجوهر الديني لهذه القيم، فإن هذه القيم والحقوق المستمدة منها، ولاسيما حقوق الإنسان، ومنذ زمن بعيد، ما عادت قيما أوروبية قط، بل أصبحت قيما وحقوقا عالمية.

فهي عالمية بقدر ما هي أوروبية، وهي عالمية بقدر ما هي مشتركة بين جميع البشر، بغض النظر عن انتمائهم العرقي واعتقادهم الديني وخلفيتهم الثقافية وتوجههم السياسي.

ولنأخذ على سبيل المثال قيمة الحياة والمحافظة عليها. فهل من شيء أكثر اشتراكا بيننا جميعا من قيمة الحياة؟ لا تقتل، وهذا لا يعني فقط أنه لا يجوز لك ارتكاب المحرقة، ولا يجوز لك ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ولا يجوز لك أن تمارس التطهير العرقي، بل يعني أيضا أنه لا يجوز لك ارتكاب التفجيرات الانتحارية، لأن قتل الآخرين عن طريق التفجيرات الانتحارية لا يجعل من الفاعل شهيدا، بل يجعله قاتلا مزدوجا، إذ إنه يقتل نفسه ويقتل غيره في آن واحد.

أو قيمة المعتقد، واحترام الاختلافات في التعبير عنه. فإن القرآن الكريم يعلمنا:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) وانظر أيضا (المائدة: 69).

إن قيمة حرية المعتقد واحترام الاختلافات في التعبير عنه، ليست فقط قيمة أوروبية مشتركة عندنا، بل إنها تتضمن حرية الفرد وحقه في اختيار دينه، كما تعرّف الأوروبيون في تاريخهم على العديد من الأديان التي وصلت إلى قارتهم على مر التاريخ، كاليهودية والمسيحية والإسلام، وكذلك الديانات الشرقية الأخرى، ويجب علينا أن ندرك الحقيقة التاريخية بأن جميع الديانات الرئيسة الموجودة في أوروبا اليوم لم تنشأ في الأصل على أرض أوروبا، وإنما جاءت كلها من الشرق. إن الله سبحانه وتعالى لم يرسل نبيا إلى أي شعب من الشعوب الأوروبية.

ومن القيم المشتركة بيننا جميعا، قيمة الحرية، لأن حياتنا بدون حرية لا معنى حقيقي لها، لذا، كانت الطريق من العبودية إلى الحرية واحدة من أهم الرحلات في التاريخ البشري، لكن هذه الحرية ليست مطلقة أو بدون حدود. وعندما أنقذ الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل من دار العبودية، أنزل عليهم الوصايا العشر وأمرهم أن ينظموا حياتهم وفقا لها، أي وفقا لمتطلبات القانون الإلهي.

وكذلك الأمر عندما وصل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة، إن حرية الفرد محدودة بحرية الآخر، فحرية جاري تضع حدودا لحريتي.

وحق الملكية واحترام ممتلكات الغير، ليس مجرد وسيلة لحياة إنسانية كريمة ينبغي الالتزام بها قيمة مشتركة بين جميع البشر، بل إنها تكفل أيضا حق المجتمعات والدول في تعريف أنفسهم ويجب على الآخرين احترام هذا التعريف.

وأخيراً قيمة كرامة الإنسان واحترام الآخرين، بغض النظر عن جنسهم ذكوراً كانو أم إناثاً، سوداً أو بيضاً، صغاراً أو كباراً، مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، أو أتباع ديانات أخرى.

وعلى الرغم من قبول هذه القيمة باعتبارها قيمة مشتركة، إلا أننا نرى ضرورة تنميتها وتطويرها أكثر من ذلك في الكثير من أنحاء أوروبا وخارجها، ولا سيما في النضال ضد التمييز وإنكار المساوة في الحقوق بين الرجال والنساء، وضد كراهية الأجانب والعنصرية ومعاداة السامية والتخويف من الإسلام، وما شابهه.

التاريخ المشترك

كتب فولتيير Voltaire  في عام 1751 واصفا أوروبا بأنها “نوع من جمهورية كبيرة مقسمة إلى عدة دول، بعضها ملكي، وبعضها الآخر مختلط … ولكنها جميعها تتواصل فيما بينها. فجميع تلك الدول لديها أساس ديني واحد، وإن كانت تنقسم إلى عدة طوائف. وجميعها لديها نفس مبادئ القانون العام والسياسة، الأمر الذي لا تعرفه الأجزاء الأخرى في العالم”. (نورمان ديفيز، أوروبا: لمحة تاريخية، بيمليكو، لندن، 1997،  7).

وفي محاولة لإظهار وحدة الثقافة الأوروبية، كتب واتس إليوت في عام 1946 زاعماً: “إن الدين هو السمة الغالبة في خلق ثقافة مشتركة بين الشعوب، على اختلاف ثقافاتها وتميزها… إنني أتحدث عن التراث المشترك للمسيحية، الذي جعل من  أوروبا ما هي عليه الآن، وعن العناصر الثقافية المشتركة التي جلبتها هذه المسيحية المشتركة معها … إنها المسيحية التي وضعت الفنون لدينا، وهي المسيحية التي جعلت القوانين متجذرة في أوروبا حتى وقت قريب. وإنها الخلفية المسيحية التي أعطت الأهمية لكل فكر عندنا. وقد لا يؤمن الفرد الأوروبي أن العقيدة المسيحية حق؛ لكن كل ما يقوله، ويفعله، ويقوم به، … يعتمد على (التراث المسيحي). إن الثقافة المسيحية لأوروبا هي الوحيدة التي يمكنها البقاء حتى إذا اختفت العقيدة المسيحية بالكامل”(المرجع نفسه، 9).

لكن نظرة غير متحيزة في التاريخ الأوروبي، تثبت عكس ذلك. إذ نجد أن هيو سيتون واتسون Hugh Seton-Watson ، عند كتابته سنة 1985 عن علاقة أوروبا بالديانات والثقافات الأخرى، قد اتخذ نهجا أكثر شمولاً: “إن تداخل مفهومَي أوروبا والعالم المسيحي يمثل حقيقة تاريخية، تعجز أبرع السفسطات عن إعادتها … لكن هناك حقيقة أخرى تفيد وجود فروع غير مسيحية في الثقافة الأوروبية: كالرومانية واليونانية، ويمكن القول الفارسية، واليهودية (في القرون الحديثة)”. (المرجع نفسه، 15).

فقط فيما يتعلق بالإسلام فإن هيو سيتون واتسون، يقول مشككا: “ويصعب الحديث عن وجود فرع مسلم أيضا” (المرجع نفسه، 15).

ويذهب وولف ليبينيز Wolf Lepenies  خطوة أبعد من ذلك، في كلمته التي ألقاها بمناسبة جائزة فرانكفورت للسلام عندما تحدث في 8 أكتوبر سنة 2006  عن “الرؤية التاريخية التي كان الغرب [أوروبا] والعالم الإسلامي، وما زالا، متشابكين فيها بشكل وثيق”، مضيفا أن أوروبا لديها جذورها ليس فقط في التراث اليهودي المسيحي، وفي الثقافة القديمة اليونانية الرومانية، كما يزعم في كثير من الأحيان، بل تم تشكيلها بشكل ملموس، وعلى قدم المساواة، بتأثير الحضارة الإسلامية.

وأكثر من ذلك، فإن مايكل بورجوMichael Borgolte  في كتابه “تاريخ أوروبا (300-1400 م)”، أثبت بشكل مقنع أن أوروبا، عندما ينظر إليها بالكامل، لم تكن أبدا “مسيحية” صِرفة.

فمنذ بداية الغزوات الإسلامية في أسبانيا في بداية القرن الثامن الميلادي، كان هناك دائما مسلمون يعيشون في أوروبا، وإن لم يكن ذلك في غرب القارة، فقد كانوا يعيشون في شرقها و/أو في جنوب شرق القارة.

وقبل فترة طويلة من أن تصبح أوروبا الوسطى والشرقية مسيحية في القرنين الميلاديين الثالث عشر والرابع عشر، هاجر المسلمون من آسيا الوسطى إلى هذه المناطق بدعوة من الملوك والدوقات، واستقروا في ما يعرف الآن بليتوانيا وروسيا البيضاء وبولندا وأوكرانيا، وبعد فترة وجيزة وصل المسلمون إلى منطقة البلقان.

في الواقع، لم يكن وجود المسلمين في عدد من البلدان الأوروبية، كالبوسنة، وليتوانيا، وبولندا، مقتصرا على الوجود الجسدي لعدة قرون، بل إنهم كانوا يشكلون جزءا لا يتجزأ من التاريخ، ومن ماضي وحاضر تلك البلدان ومجتمعاتها. حتى في ألمانيا، فإن المسلمين وبشكل ما ليسوا بالوافدين الجدد.

وكما تعلمون، فإن أول مجتمع من المسلمين تأسس في ألمانيا بين عامي 1731-1732، ويعود تاريخ إقامة أقدم مقبرة للمسلمين في برلين إلى عام 1788. لذا، فقد أثبت المسلمون أوروبيتهم منذ أمد بعيد.

بيد أنه، لا ينبغي في هذا السياق التعامل فقط مع الوجود الجسدي للمسلمين؛ بل هناك أيضا البصمة الروحية والثقافية التي تركها الإسلام والمسلمون في أوروبا.

وعلى الرغم من أن سيلفان غوغنهايم Sylvain Guggenheim  كتب في كتابه “أرسطو في جبل سان ميشال” (الذي ترجم مؤخرا إلى اللغة الألمانية) أن الأوروبيين لم يكونوا أبدا في حاجة للوساطة العربية الإسلامية في نقل المعرفة اليونانية القديمة لتطوير ثقافتهم، كما يدعي البعض في كثير من الأحيان، لأنهم كانوا دائما قادرين على دراسة النصوص القديمة في لغاتهم الأصلية، فإنه لا يمكن، ولا يجوز إغفال حقيقة أن المئات من النصوص اليونانية القديمة وبعض النصوص اللاتينية كانت معروفة في أوروبا بفضل ترجماتها العربية، والتي ترجمت منها بعد ذلك إلى اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى، وتم نسخ بعضها وطباعته بعد ذلك عدة  مرات، وقد أسهم ذلك في تطوير الثقافة الأوروبية. إن وولف ليبينيز محق بالتأكيد عندما يقول إن الحضارة العربية الإسلامية والتراث الفكري الإسلامي أيضا كانا أيضا مصدر إلهام للنهضة بدرجة لا تقل عن كونهما مصدرا للتنوير.

إننا سوف نحتفل – إن شاء الله – في العام القادم بذكرى مرور مائة عام على صدور “قانون الاعتراف بأتباع الإسلام وفقا للمذهب الحنفي على أنهم  جماعة دينية” وقد اعتُمِد هذا القانون في 15 من يوليو 1912 من قبل سلطات الإمبراطورية النمساوية المجرية. وكما أصدر الدوق الأكبر في ليتوانيا في 1397 ميثاقا يمنح المسلمين في أوروبا الشرقية نفس الحقوق والحرية بممارسة شعائرهم الدينية (بما في ذلك بناء المساجد)، فإن قانون 1912 منح المجتمع المسلم في الإمبراطورية النمساوية المجرية حقوقا متساوية مع الكنائس المسيحية.

إنه من المؤكد أن الوقت والمكان لا يسمحان بالدخول في المزيد من التفاصيل، ولكن يجب علينا أن ننوه بأن هذا الاعتراف كان له أيضا تأثير قوي في أحوال المسلمين الذين كانوا يعيشون تحت الحكم النمساوي المجري، كما سبق بيانه من قِبَل زميلي الأستاذ كارتشيتشKarčić  في كتابه “البوشناق وتحديات الحداثة”.

ومن نتائج هذا اللقاء مع “الحداثة النمساوية المجرية” تأسست كلية الدراسات الإسلامية التي تتبع حاليا لجامعة سراييفو، مما يثبت إمكانية تدريس الدين الإسلامي وتعليمه في السياق الأكاديمي الأوروبي، باستخدام نفس المنهجيات والتدابير. وقد أظهرت مبادرة توبنغن Tübingen initiative  الأخيرة من أجل المركز الديني الإسلامي أن الروح الأكاديمية لحرية التعليم والتعلم في توبنغن ما تزال على قيد الحياة.

وبطبيعة الحال، فإن جامعة توبنغن هي واحدة من أقدم الجامعات في ألمانيا، وواحدة من بين أقدم خمسين جامعة في أوروبا.

وعلاوة على ذلك، فإن توبنغن هي المكان الذي تركت فيه العقول والأرواح الألمانية العظيمة من أمثال فريدريك فيلهلم جورج هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel  (المتوفى 1831) وقداسة البابا بنديكت السادس عشر، وكذلك الأستاذ هانس كونغ Hans Küng، إرثهم الفكري والروحي والأكاديمي للبشرية.

ويسرني أن تمَّت دعوة كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو لتكون جزءا من هذه العملية الفريدة من الدراسة الأكاديمية الإسلامية في ألمانيا، ومن المؤكد أن هذا سيكون نموذجا لأوروبا، مما سيفتح ولا ريب آفاقا جديدة في العلاقات المسيحية الإسلامية وسوف يقدم بلا شك فرصة لجيل الشباب من أجل بناء أوروبا جديدة تقوم على تراث “وِسْتفَاليا” وما وراءها.

مهام مشتركة

وبغض النظر عن النقاش الذي يبدو لي مصطنعا نوعا ما، حول كون “الإسلام ينتمي إلى ألمانيا” أم لا، فإن المسلمين موجودون هنا وسيبقون هنا، وكذلك هو الحال في جميع الدول الأوروبية. وهذا يعني، أن المسلمين – كما فعلوا في الماضي- سيكون له دور في تشكيل مستقبل أوروبا كذلك. وبعبارة أخرى: إن مستقبل أوروبا سيكون نتاج تضافر جهود المسلمين وغير المسلمين معا.

وسوف أقتبس مرة أخرى قول وولف ليبينيز: ليس “تحالف  الحضارات” الساذج والحالم هو البديل عن “صدام الحضارات”، بل إن البديل هو الوعي بالتاريخ المشترك والدروس المستفادة منه.

أو كما قال الشاعر الشهير إيميه سيزير Aimé Césaire: “إن أقصر الطرق إلى المستقبل هو التفكير في الماضي”.

إن تزايد التنوع العرقي والديني الثقافي في مجتمعاتنا (بسبب الهجرة لأسباب مختلفة) يتطلب من جميع أعضاء هذه المجتمعات المزيد من التخصص بين الثقافات والأديان، والذي لا غنى عنه من أجل التعايش السلمي والعيش المشترك.

إن هذا التخصص ليس بدون جدوى، بل يمكن تعلمه من خلال الحوار، أي من خلال الحوار الذي يمكن وصفه بأنه تعلّم عبر الثقافات، ولقاء ديني للناس المحافظين على وفائهم لتراثهم الديني والثقافي، مع الاحترام المتبادل لهوية الآخرين، وهو الحوار الذي يتعامل مع الاختلافات بجدية، ولكن لا يجعل من الالتزام الديني المختلف، والخلفيات الثقافية المختلفة، والميول السياسية المختلفة، عقبة أمام التفاهم بين الثقافات والأديان.

{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} (العنكبوت: 46).

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق