البحوث

الأقليات المسلمة

الأقليات المسلمة

د. يوسف القرضاوي

مقدمة

الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على الهادي إلى صراط الله المستقيم، سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..

فقد طلبت إليّ الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي أن أكتب بحثا حول المشكلات الفقهية للأقليات المسلمة في الغرب، ليقدم إلى مؤتمر إسلامي عالمي تعقده الرابطة في مكة المكرمة. ونعني بالمشكلات الفقهية: المشكلات التي تتطلب حلا وعلاجا من الفقه الإسلامي في ضوء الشريعة الإسلامية.

       ولا ريب أن هناك مشكلات يعاني منها المسلمون في كل مكان، وفي داخل (دار الإسلام) نفسها، أي في قلب المجتمعات الإسلامية في العالم الإسلامي. بعضها مشكلات فردية، وبعضها مشكلات أسرية، وبعضها مشكلات اجتماعية، وبعضها مشكلات اقتصادية، فلا غرابة أن تشكو الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب ونحوها، مما تشكو منه الأكثريات الإسلامية في بلاد الإسلام نفسها.

       وهذه المشكلات العامة التي تشمل المسلمين في كل مكان، لا حديث لنا عنها في هذه الدراسة، ولكن حديثنا هنا يتركز حول المشكلات التي تختص بها الأقليات المسلمة لظروفها الخاصة، أو أنها تكون عندها أكثر حدة، وأعظم إلحاحا منها في الديار الإسلامية.

       وهو ما جعل المسلمين في تلك الديار منذ بدأوا يعودون إلى ذاتهم، ويحسون بهويتهم، يعقدون الندوات الحلقات للبحث عن حلول لمشكلات حياتهم المتصلة بالدين، في ضوء الشريعة الإسلامية.

      ومنذ عشر سنوات عقدت ندوتان في فرنسا، نظمهما وأشرف عليهما اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، ودعا إليهما عددا من العلماء المهتمين بالأقليات الإسلامية ومشكلاتهم الفقهية والعملية[1]. وكان موضوع الندوتين محددا في هذه المشكلات التي تواجه الأقليات التي تعيش في الغرب بصفة عامة، وفي فرنسا بصفة خاصة، مثل الإقامة في بلاد الغرب.. والحصول على جنسية هذه البلاد.. والزواج من أوربية غير مسلمة للحصول على الإقامة.. والزواج بامرأة أخرى عرفا على خلاف القانون، وتطليق المرأة قانونا، وهو متزوج بها فعلا، للحصول على معونة المطلقة.. وأخذ الرجل معونة البطالة من الدولة، مع أنه يعمل ولكن لا يبلغ عن عمله. الخ هذه الأشياء.

      وقد صدر عن هذه الندوة عدد من الفتاوى والقرارات المهمة، بعد أن نوقشت مناقشة مستفيضة. وإن كان من المؤسف أنها ـ فيما يبدو ـ لم تنشر حتى اليوم.

      وهو ما بعث أيضاً المهتمين بالشؤون الإسلامية في تلك البلاد، مثل: (اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا) للدعوة إلى إنشاء (مجلس أوربي للإفتاء والبحوث) تكون مهمته البحث والعناية بـ(فقه الأقليات) وما تعانيه من مشكلات تحتاج إلى حلول في ضوء الشريعة الإسلامية، ومن خلال فقه إسلامي معاصر، يراعي الزمان والمكان والعرف والحال.

       ولقد عقد المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث ست دورات له، وبحث في عدة موضوعات أو مشكلات عرضت عليه، وقدمت فيها الدراسات والبحوث، وناقشها أعضاؤه مناقشات حرة مستفيضة، ثم أصدر في أكثرها فتاوى أو قرارات، بعضها بالإجماع، وبعضها بالأغلبية، كما هو شأن المجامع العلمية، وكما هو شأن القضايا الاجتهادية، التي يتعسر ـ وربما يتعذر ـ أن يتفق فيها البشر، وهم يختلفون فيما بينهم، من ناحية الميل إلى الظواهر، أو الميل إلى المقاصد، ومن ناحية الميل إلى التشديد، أو الميل إلى التيسير. ولا حرج على الناس أن يختلفوا في ذلك، فقد اختلف من هو خير منهم، وهم الصحابة رضي الله عنهم وتابعوهم بإحسان. ولكنهم اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، ووسع بعضهم بعضا، وصلى بعضهم وراء بعض.

       كما عقد الإخوة في أمريكا في شهر نوفمبر 1999م مؤتمرا لعلماء الشريعة هناك، سعدت بالمشاركة فيه، وعرض فيه عدد من القضايا، أصدر فيها فتاوى مهمة.

       وكل هذا يدل على أن المسلمين ـ وإن كانوا أقلية في بعض البلاد ـ شرعوا يؤكدون هويتهم، ويعبرون عنها بالقول والعمل، ولا سيما العمل الجماعي المؤسسي، وهو مما يبشر بخير، ويعد بغد أفضل إن شاء الله.

       وهو ما يتفق مع المبشرات الكبيرة والكثيرة من القرآن، ومن السنة، ومن التاريخ، ومن الواقع، ومن سنن الله تعالى (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون) التوبة: 32،33

       ولا غرو أن رحبت بالكتابة في هذا الموضوع لإيماني بأهميته، ولأني في الواقع مشغول به منذ فترة طويلة، أي منذ بدأت الزيارة لأوربا وأمريكا وبلاد الشرق الأقصى، منذ أكثر من ربع قرن، وبدأت تنهال عليّ الأسئلة في المؤتمرات والندوات واللقاءات التي كنت أشارك فيها، أو عقب المحاضرات التي كنت ألقيها. وهذا فتح عيني على المشكلات التي يعانيها المسلمون الذين يعيشون خارج المجتمعات الإسلامية، في صورة أقليات هنا وهناك.

       تجلَّى ذلك أول ما تجلى في كتابي (الحلال والحرام في الإسلام) فقد كلفتني به مشيخة الأزهر، استجابة لطلبات المسلمين في بلاد الغرب، ضمن ثلاثين موضوعا طلبوا الكتابة فيها بلغة تناسبهم، وتراعي ظروفهم.

      ولقد تجلى اهتمامي بهذه القضية الحيوية في صور شتى، وبأساليب متنوعة كما تجلى ذلك في كتابي (فتاوى معاصرة) بأجزائه الثلاثة.

       وتجلى ذلك في برامجي الدينية في (القنوات الفضائية) ولا سيما برنامج (الشريعة والحياة) الذي يبث من قناة (الجزيرة) في قطر، وغدت له شهرة واسعة، ومشاهدون كثر في أنحاء العالم، ويذاع مساء كل أحد.

        وكذلك برنامج (المنتدى) الذي سمي أخيرا (المنبر) في قناة (أبو ظبي الفضائية) ويذاع مساء كل سبت.

       كما تجلى ذلك في (صفحات القرضاوي على الإنترنت) الذي تشرف عليه شركة (آفاق) الإعلامية في دولة قطر.

       ثم على الموقع الإسلامي العالمي المتميز Islam Online(إسلام أون لاين) الذي يتجاوب مع الأقليات الإسلامية في الغرب والشرق.

       وأخيراً تجلى ذلك في (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث) الذي شرفني الإخوة المؤسسون والأعضاء برئاسته. ووظيفته الأساسية هي تفقيه الأقليات المسلمة في أوربا وترشيدها، والإجابة عن تساؤلاتها، والعمل على إيجاد حلول لمشكلاتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها.

       وقد أصدر المجلس مجموعة طيبة من الفتاوى في موضوعات مهمة، وأجاب عن أسئلة كثيرة مطروحة في الساحة الأوربية الإسلامية، كانت تنتظر جواباً منذ زمن.

       ولكن هذا النشاط العلمي المتعدد حول الأقليات، كان يحتاج إلى (تأصيل شرعي) يرد الفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، ويؤسس القواعد اللازمة لوضع (منهجية علمية) لهذا الفقه، تضبط مساره، وتنظم حركته، وفق مبادئ الشريعة ومقاصدها، الضابطة والحاكمة لفروع المعاملات المختلفة.

       لهذا كان طلب رابطة العالم الإسلامي فرصة لإيضاح هذه المنهجية، ومحاولة وضع إطار علمي لها، عسى أن يقبله أهل العلم والفكر، أو ينضجوه بالمزيد من الدراسة والمناقشة، ولعل هذه الدراسة الأولية تفتح الباب لمن يعمقها ويوسع آفاقها. ويزيدها نماء وضياء. أو يبدي عليها ملاحظات نافعة وبناءة، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.

       أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعل لنا منه نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نحكم في المتشابهات، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا يرزقنا اجتنابه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

                                                                    الدوحة في: رجب 1421هـ – أكتوبر 2000م

                                                             الفقير إلى عفو ربه

                                                             يوسف القرضاوي

(1)

الأقليات المسلمة ومشكلاتها الفقهية

المقصود بمصطلح (الأقليات):

مالمراد بمصطلح (الأقلية) الذي نتحدث عنه هنا؟

      لقد راجت هذه الكلمة في عصرنا، نتيجة لكثرة الهجرات وتقارب العالم بعضه مع بعض، ويراد بها: كل مجموعة بشرية في قطر من الأقطار، تتميز عن أكثرية أهله في الدين، أو المذهب أو العرف، أو اللغة، أو نحو ذلك، من الأساسيات التي تتمايز بها المجموعات البشرية بعضها عن بعض.

       ومثل ذلك: الأقليات المسلمة في المجتمعات المسيحية في الغرب، أو الهندوسية في الهند، أو البوذية في الصين، فهي تخالف الأكثرية في العقيدة والدين، ومثلها الأقليات المسيحية في مصر وسورية والعراق وغيرها. والأقليات اليهودية في المغرب وإيران وتركيا وغيرها.

       ومثلها الأقليات الكاثوليكية في كثير من بلدان العالم، كالأقليات البربرية في الجزائر والمغرب، والأقليات الكردية في العراق وإيران وتركيا وسورية.

       وهناك الأقليات اللغوية، مثل الأقليات الناطقة بالفرنسية في كندا (مونتربال وما حولها).

       وأظهر الأقليات في العالم هي الأقلية الدينية، وهي التي تثور حولها المشاكل هنا وهناك.الأقليات المسلمة الأقليات الأقليات المسلمة 181506 shutterstock 105088712

       ومن لوازم الأقلية: أنها تكون عادة ضعيفة أمام الأكثرية، فالكثرة تنبئ عن القوة، والقلة تنبئ عن الضعف.

       والقرآن يحدثنا عن الكثرة في معرض الامتنان والتذكير بالنعمة، وذلك على لسان شعيب عليه السلام، حين قال لقومه (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) الأعراف:86.

       ونحو ذلك قوله تعالى في الامتنان على المهاجرين بعد غزوة بدر، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) الأنفال:26.

       والشاعر العربي قديما يقول: وإنما العزة للكاثر! وقال عمرو بن كلثوم مفاخرا بكثرة قومه:

ملأنا البر حتى ضاق عنا             ***            ونحـن البحر نملأه سفينـا!

وقال السموءل يعتذر عن قلة قومه، فيقول:

تعيرنا أنا قليـل عديدنا             ***             فقلت لها: إن الكرام قليل!

       وهذه القلة العددية كثيرا ما تسبب للأقلية أن تلقى الظلم والاضطهاد من الأكثرية، وخصوصا إذا غلب على الأكثرية التعصب والاستعلاء على الآخرين.

       ولهذا نرى الأقليات في أنحاء الأرض تتضام وتتلاحم فيما بينها، لتحافظ على كيانها أمام الأكثرية، وإن كانت الأقليات الإسلامية أقل الناس حظا من هذا التلاحم والتماسك. على الرغم من أن تعاليم دينهم تحثهم على التكامل والترابط والتعاون فيما بينهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، بحكم الأخوة الإسلامية الواصلة بينهم، والعقيدة الإسلامية التي تجعلهم كالجسد الواحد.

الأقليات الإسلامية:

       المسلمون ينقسمون ـ من حيث الأوطان التي يعيشون فيها إلى قسمين:

القسم الأول: الذي يعيش داخل ما سماه الفقهاء (دار الإسلام). وبتعبيرنا المعاصر: داخل المجتمعات الإسلامية، أو البلاد الإسلامية. ونعني بها: البلاد التي أغلبية سكانها مسلمون معلنون بإسلامهم، على الأقل في إقامة الشعائر الدينية مثل: الأذان والصلاة والصيام وتلاوة القرآن، وإقامة المساجد، والسماح بالحج ونحو ذلك، ويمارسون أحوالهم الشخصية من الزواج والطلاق ونحوهما وفق أحكام دينهم.

والقسم الثاني: هو الذي يعيش خارج (دار الإسلام) بعيدا عن المجتمعات الإسلامية، أو عن (العالم الإسلامي).

     وهذا القسم نوعان:

     النوع الأول: من أهل البلاد الأصليين، الذين أسلموا من قديم، ولكنهم يعتبرون أقلية بالنسبة لمواطنيهم الآخرين من غير المسلمين.

       وقد تكون هذه الأقلية كبيرة مثل الأقلية المسلمة الهندية، فإنها تبلغ نحو 150 (مائة وخمسين) مليونا. وقد تكون أقل من ذلك، حتى إن بعض الأقليات لا تبلغ أكثر من عدة ألوف.

       ومن هؤلاء عدة ملايين في أمريكا الشمالية معظمهم من المسلمين الذين جيء بهم من أفريقيا، واقتيدوا قسرا على أنهم رقيق، وهم أحرار أبناء أحرار.

       ومنهم عدة ملايين في أوربا الشرقية، كما في بلغاريا وغيرها.

     والنوع الثاني: من المهاجرين الذين قدموا من البلاد الإسلامية للبلاد غير الإسلامية، للعمل فيها، أو للهجرة، أو للدراسة، أو لغير ذلك من الأسباب المشروعة، وحصلوا على إقامة قانونية بهذه البلاد. وبعضهم حصل على جنسيتها، وأصبح له حق المواطنة والانتخاب وغير ذلك مما تقره دساتير هذه الأقطار.

الأقليات المسلمة في الغرب:

       وهناك الأقليات المسلمة في أوربا الشرقية والغربية.

       بعضهم من أهل البلاد الأصليين، مثل الجزء الأوربي من تركيا، وألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا، ومسلمي كرواتيا وصربيا والجبل الأسود، وبلغاريا، وغيرها.

       وهناك من دخل الإسلام من أهل أوربا الغربية، ومن انضم إليهم من المهاجرين من بلاد المغرب في فرنسا، وفيها أكبر جالية إسلامية ـ نحو خمسة ملايين ـ بعضهم يحملون الجنسية الفرنسية، وآخرون يقيمون إقامة مشروعة لها حقوقها.

       وكذلك الجالية المسلمة في ألمانيا، ومعظمها من الأتراك، ويبلغون نحو ثلاثة ملايين، كثير منهم ولد في ألمانيا.

       وهناك الجالية المسلمة في بريطانيا، ومعظمهم من بلاد (الكومنولث) من الهند وباكستان وبنجلاديش، وغيرهم.

       وهناك مسلمون في عدد من دول أوربا الغربية في هولندا وبلجيكا والنمسا. وإيطاليا وإسبانيا والبلاد الاسكندنافية، وغيرهما.

       ولقد بدأ السلمون في أوربا منذ مدة يشعرون بذاتيتهم، وأدركتهم الصحوة الإسلامية العامة، فطفقوا ينشؤون المؤسسات المختلفة ـ دينية وثقافية واجتماعية واقتصادية ـ للحفاظ على كيانهم: المساجد لصلواتهم، والمدارس لتعليم أولادهم، والكليات والجامعات لتخريج المتخصصين منهم.

ومن المؤسسات التي تذكر للجالية المسلمة في أوربا: اتحاد المنظمات الإسلامية، والكلية الأوربية للدراسات الإسلامية في فرنسا، وقد خرجت عدة دفعات، ومثلها في بريطانيا، والمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وقد عقد ست دورات، وأصدر عددا من الفتاوى والتوصيات المهمة، حلت كثيرا من مشكلات المسلمين في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها.

       وهناك عدد من المؤسسات مثل (المؤسسة الإسلامية) و(دار الرعاية الإسلامية) في بريطانيا، والمركز الإسلامي في (لندن)، وعدد من المراكز الإسلامية في (روما) وفي(دبلين) في ايرلندا، و(ميونخ) و(آخن) في ألمانيا، وفي عدد من البلدان الأوربية.

       وهناك المسلمون في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويقدر عددهم بأكثر من ستة ملايين، معظمهم من (المسلمين الأفارقة) الذين استلبوا من أوطانهم استلابا، وسيقوا بسلاسل القهر إلى (الرق) وهم أحرار أبناء أحرار.

       واستخدمت معهم أشنع صنوف التعذيب والإرغام، وقتل منهم من قتل بالأمراض، أو بالعذاب.

       لقد عادت أعداد من هؤلاء بعد إلغاء الرق، إلى (جذورهم)، وعرف كثير منهم أنهم في الأصل مسلمون أبناء مسلمين، وكان إسلام مجموعة غير قليلة منهم مشوشا ومضطربا، ثم هيأ الله لهم من الرجال الأخيار من صحح لهم إسلامهم، فرجعوا إلى (الإسلام الحق) بعد شرود عنه. وانضموا إلى القافلة الإسلامية الكبرى.

       كما انضم إلى هؤلاء المهاجرون الجدد من البلاد العربية والإسلامية، ممن أصبحوا يحملون الجنسية الأمريكية والكندية، ومن له حق الإقامة في هذه البلاد.

       وقد أصبحت لهم مؤسساتهم الدينية والتربوية والثقافية والاجتماعية، بل والسياسية، بما يتناسب مع عددهم ونشاطهم وهممهم.

الأقليات المسلمة في الشرق:

       ومما لا يجوز أن ننساه من أحوال الأقليات والجاليات الإسلامية في أنحاء العالم: الأقليات في الشرق، وبعضها أقليات كبرى مثل الأقلية الإسلامية في الهند، وتقدر بأكثر من 150(مائة وخمسين مليونا) من المسلمين، لهم تراثهم ومساجدهم ومدارسهم وثقافتهم وشخصيتهم، ولهم مشاركاتهم العميقة في بناء الحضارة الهندية، بل جل ما تعتمد عليه الهند من آثار تجذب إليها السياح من أنحاء العالم هي الآثار الإسلامية، كما كان لهم مشاركاتهم القوية المتميزة في حرب الاستقلال، ومعارك التحرير ضد الاستعمار الإنجليزي.

       وهناك بلاد إسلامية خالصة كانت تعتبر إلى وقت قريب من بلاد الأقليات الإسلامية، وهي بلاد الجمهوريات الإسلامية في آسيا: أوزبكستان وطاجيكستان، وكازاخستان وأذربيجان وغيرها، وقد كنت أقول أيام الاتحاد السوفيتي: إن اعتبار هذه الجمهوريات أقليات إسلامية ظلم مبين لها، فهي جمهوريات إسلامية صميمة، ضمت بالقسر والإكراه إلى السوفيت.

       وفي روسيا الاتحادية حوالي عشرين مليونا من المسلمين من القوقاز والتتار وغيرهم من القوميات المختلفة. ومنهم الشيشان، الذين قاتلوا ولا زالوا يقاتلون في سبيل الحصول على استقلالهم من الروس، فهم لا يشعرون بأي وشيجة تصل بينهم وبين الروس، لا من عرق، ولا من لغة، ولا من وطن، ولا من تاريخ، ولا من دين.

       ويوجد في الصين عشرات الملايين، يحاول الرسميون في الصين تقليل أعدادهم ما استطاعوا، وقد ذكر أمير البيان شكيب أرسلان ـ رحمه الله ـ في تعليقاته الشهيرة على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) الذي ترجمه الأستاذ عجاج نويهض ـ أن عدد المسلمين في ذلك الوقت منذ نحو سبعين سنة أو تزيد (50) خمسون مليوناً.

ولو حسبنا عددهم وفق النمو السكاني للمسلمين في العالم طوال هذه السنين، لكان عددهم لا يقل عن (150) مائة وخمسون مليونا.

       وهناك بلاد هي في حقيقتها ذات أكثرية إسلامية، ولكن الغرب مصر على أن يجعلها مسيحية، ويجعل المسلمين فيها أقلية، رغم أن الأرقام تكذب تلك الدعوى. ويتمثل ذلك بوضوح في أثيوبيا وأرتيريا وتشاد.

       وهناك أقليات لها وزنها في عدد من البلاد الآسيوية والإفريقية مثل تايلاند وبورما وسنغافورة وسيريلانكا، ومثل تنزانيا وأوغندا وكينيا وغانا والكونغو والنيجر وجنوب أفريقيا وغيرها.

تطور صلة الأقليات الغربية المسلمة بالإسلام:

       ولقد مرت الأقليات المسلمة في صلتها بالإسلام_ فكرا وشعورا وسلوكاـ بمراحل متفاوتة، وخصوصا فئات المهاجرين من أوطان الإسلام الأصلية.

       في المرحلة الأولى كانت( ضياعا) بمعنى الكلمة. لم يكن هناك وعي، ولا حتى إحساس كاف بالانتماء الإسلامي، أو الهوية الإسلامية.

       بدأ ذلك من بعد الحرب العالمية الأولى، حيث هزمت دولة الخلافة، وانتصر الحلفاء، وتألق العالم الغربي بحضارته، وانسحب العالم الإسلامي ليدخل تحت سلطان الاستعمار، الذي لم يكن قد دخل بلدانه من قبل.

       كانت الأقليات الإسلامية في ذلك الوقت تمثل صنفين من المسلمين:

  • أهل البلاد الأصليين.
  • المهاجرين الجدد من العالم الإسلامي.

أما أهل البلاد الأصليون فكان معظمهم في (أوربا الشرقية) وفي داخل(روسيا) تحت مطارق الحكم الشيوعي، ومنهم: أهل البوسنة والهرسك وكسوفا ومقدونيا وألبانيا وبلغاريا، وغيرها. فهؤلاء قد عزلوا عن الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وثقافة، كما عزلوا عن سائر الأمة الإسلامية. فأصبح هؤلاء جاهلين بالإسلام من ناحية الفكر، بعيدين عن الإسلام من ناحية السلوك. فكل ما يربطهم بالإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، التي يلقنها الآباء والأمهات للأبناء والبنات، دون أن يعرفوا حقيقة مدلولها، وما تقتضيه من قائلها من التزام بفرائض تؤدى، ومحرمات تجتنب، ومع هذه الشهادة عاطفة إسلامية غامضة نحو الإسلام، وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن الكريم، أو المصحف الشريف الذي يعرفون اسمه، ويقدسون رسمه، ولا يعرفون حتى تلاوته. ومع هذا لم يكونوا يجدون هذا المصحف إلا بصعوبة. ومن وجده منهم ـ بطريقة أو بأخرى ـ فكأنما عثر على كنز عظيم.

وقد أدخل في دائرة (الأقليات المسلمة) في ذلك الوقت المسلمون في (الجمهوريات الإسلامية الآسيوية) في الاتحاد السوفيتي، مثل: أوزبكستان، وطاجيكستان، وكازاخستان، وأذربيجان، وغيرها.. باعتبارها ضمت قسرا إلى الاتحاد السوفيتي، وأصبحت جزءا من كيانه السياسي، فاعتبرت أقليات من هذه الحيثية، وكنت أقول في ذلك الوقت: إن هذه (أقطار إسلامية) كاملة، لا يخرجها عن وصفها الإسلامي ضمها بالقوة إلى السوفيت.

على كل حال،كان هذا هو وضع الأقليات المسلمة من أهل البلاد الأصليين.

     أما وضع المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية، فقد كانوا قليلين في أول الأمر، وكان معظم المهاجرين من أناس لم يكن تدينهم راسخا، وكانوا يبحثون عن الرزق وعن المال، وأما هذا العالم فلم يكونوا يعرفون عنه شيئا. وقد هاجروا من بلاد ضعف شأن الإسلام فيها، فكان وضعهم الخاص، ووضع قومهم العام ـ مع ظهور العالم الغربي في أوج قوته وانتصاره ـ يجعل هؤلاء لا يفكرون في هويتهم ومتطلبات دينهم؛ فكانت النتيجة أن ضاع الجيل الأول والثاني من هؤلاء وخصوصا الجيل الأول، فقد ذاب تماما في المجتمع الجديد؛ إذ لم يكن له من عقيدته ووعيه عاصم يعصمه من الذوبان، ولا يوجد من حوله أية (محاضن) تحتضنه أو (حراسة) تحميه.

وأبرز ما يتجلى ذلك في المهاجرين الأوائل إلى (أستراليا) وكانوا من الأفغان، وأكثرهم من الأميين، فبني الجيل الأول منهم مساجد، ولكنهم تزوجوا أستراليات، ونشأ أولادهم على دين أمهاتهم، وبعد ذلك رأينا (المساجد) هناك (أبنية) فقط، ولا يوجد من يعمرها بالصلاة والعبادة والعلم.

ومثل ذلك في (أمريكا الجنوبية) وخصوصا في (الأرجنتين) فقد فني الجيل الأول في أهل البلاد، حتى رأينا منهم من تنصر علنا (مثل كارلوس منعم[2]) وغيره.

ثم بدأ المسلمون المهاجرون ينفضون غبار الغفلة عن أعينهم، ويشعرون بالحنين إلى أصلهم، وبالهوية الدينية لهم، وبأن لهم عقيدة تخصهم، ورسالة تميزهم، وطفقوا يتصلون بإخوانهم المسلمين داخل العالم الإسلامي، يطلبون منهم المساعدة في بناء المساجد، وإرسال العلماء والدعاة.

وربما كان هذا التنبه الجديد، ثمرة لعناصر جديدة لحقت بالمهاجرين القدامى، فأحيت مواتهم، وحركت سواكنهم. وهي عناصر ربما دفعها إلى الهجرة الاضطهاد في وطنهم الأصلي، فهاجرت بدينها إلى تلك البلاد، لتبذر فيها بذورا جديدة، يخرج الله منها ثمرات مختلفا ألوانها (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) إبراهيم:24،25

وبهذا بدأ عصر جديد للأقليات المسلمة، ولا سيما المهاجرة. تطور هذا العصر من مرحلة إلى مرحلة، ومن درجة إلى درجة أقوى منها وأرسخ، حتى انتهى إلى ما نراه ونلمسه اليوم في أوربا والأمريكتين وأستراليا، وبلاد الشرق الأقصى وإفريقيا، وهو ما يمكن أن نسميه (عصر الصحوة الإسلامية).

وأدركت هذه الصحوة الجديدة المسلمين الأصليين، فاستيقظوا من سباتهم العميق، وشرعوا ينضمون بقوه ـ تتفاوت من بلد إلى بلد ـ إلى الركب الإسلامي المتحرك.

ويمكننا أن نقسم مراحل هذا العصر الجديد للأقليات إلى ما يأتي:

1- مرحلة الشعور بالهوية.

2- مرحلة الاستيقاظ.

3- مرحلة التحرك

4- مرحلة التجمع

5-مرحلة البناء.

6- مرحلة التوطين.

7- مرحلة التفاعل.

ونحن الآن في مرحلة هذا التفاعل الإيجابي مع المجتمع، فلا مجال في هذه المرحلة للعزلة والانكفاء على الذات، والحذر من مواجهة الآخرين، فقد غدت الأقليات المسلمة واقفة على أرض صلبة، واثقة من نفسها، معتزة بذاتها، قادرة على التعبير عن هويتها، والدفاع عن كينونتها، وإبراز خصائصها، وتقديم ما عندها من رسالة حضارية للبشرية.

وهي في هذه المرحلة تستكمل مؤسساتها العلمية والتربوية والدعوية، فقد كانت في وقت ما معنية أبلغ العناية بإنشاء (المسجد) وكانت ضرورية؛ لأنها المؤسسة الأولى في المجتمع المسلم.

ثم تطورت فأصبحت تعنى بإنشاء (المدرسة) ليتعلم فيها أبناء المسلمين أصول دينهم، كما يتعلمون المناهج الدراسية المقررة على أمثالهم.

ثم تطورت أكثر فأصبحت تنشئ المعاهد العليا والجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية؛ لتخريج الإمام والداعية المعاصر، والمعلم المؤهل المعاصر، والعالم الشرعي المعاصر الذي ينهل من الثقافة الإسلامية الأصيلة، ويعيش في عصره وتياراته ومعارفه ومشكلاته وتطوراته، ويجتهد أن يأخذ من الشرع ما يحل به مشاكل العصر.

المشكلات الفقهية للأقليات:

       هذه الأقليات ـ بنوعيها الأصلي والمهاجر ـ لها مشكلات كثيرة تشكو منها، بعضها سياسي من جراء حيف الأكثرية على حقوقها، وعدم رعايتها لخصوصيتها الدينية.. وبعضها اقتصادي، فكثيرا ما تكون تلك الأقلية من الفقراء وذوي الدخل المحدود، الذي تتحكم في مقدراتهم وأقواتهم، الأغلبية المتحكمة… وبعضها ثقافي، ناشئ من هيمنة ثقافة الأكثرية على التعليم والإعلام ومراكز التوجيه، والحياة العامة، متجاهلين ثقافة المسلمين التي تميزهم وتعبر عن عقائدهم وقيمهم وهويتهم الخاصة.

وكثير من مشكلات المسلمين لها طابع فقهي، وذلك ناشئ من رغبة الأقليات المسلمة في تلك البلاد في التمسك بهويتها الدينية، وعقائدها الإسلامية، وشعائرها التعبدية، وأحكامها الشرعية في الزواج والطلاق وشؤون الأسرة، ومعرفة الحلال والحرام في أمور المطعومات والمشروبات والملبوسات، وسائر المعاملات، وشتى العلاقات بين الناس، وخصوصا غير المسلمين: هل ينعزلون عنهم أو يندمجون فيهم؟ وإلى أي حد يجوز الاندماج؟

       وأذكر أني منذ بدأت زياراتي للمسلمين في أوربا وأمريكا والشرق الأقصى منذ نحو ربع قرن أو يزيد، لا أكاد أنزل مدينة أو ولاية، وألقي محاضرة أو درسا، إلا وأمطر في العادة بسيل من الأسئلة، كثيرا ما تكون متشابهة أو مكررة، لأن الجميع يعيشون ظروفا واحدة، ويحملون هموما مشتركة، ويعانون من مشكلات واحدة أو متقاربة.

       إن أسئلتهم تبدأ أول ما تبدأ ـ وخصوصا من المهاجرين منهم ـ عن وجودهم نفسه في هذا العالم الغربي: أهو مشروع أم غير مشروع؟ وبعبارة أخرى: هل تجوز الإقامة في بلاد الكفر، أو لا تجوز؟ وما المراد بالأحاديث التي تمنع من ذلك؟ مثل حديث ” أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ” وحديث ” من جامع مشركا فهو مثله ” وهل هذه الأحاديث صحيحة؟

       وما حكم إقامة المسلم هنا إذا خاف على دينه أو دين أبنائه وبناته من العيش في محيط غير إسلامي؟ وغير أخلاقي؟

       ثم إن هناك ما هو أقوى من مجرد الإقامة، وهو الحصول على (جنسية) تلك البلاد، وهي تعطي المسلم قوة مادية ومعنوية، وتجعل له حق المواطنة، كالمواطنين الأصليين، فلا يستطيع أحد طرده كما يشاء، وله حق الانتخاب والترشيح، وحقوق أخرى كثيرة ومهمة، وتستطيع الجماعة المسلمة إذا اتحدوا وتفاهموا وتعاونوا أن يكونوا جماعة من (جماعات الضغط) السياسي، (اللوبي) وحينئذ تخطب الأحزاب السياسية ودهم، وتحاول كسبهم إلى جانبها، ويستطيع المسلمون أن يقوموا بدور مهم في الترجيح بين الأحزاب، وبين المرشحين، ويختاروا منهم من يرونه أقرب إلى قيمهم، أو أرعى لمصالحهم وحقوقهم. أو قضايا أمتهم الكبرى.

       ولكن هذه الجنسية قد يترتب عليها أشياء تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، وهي صيغة القسم التي يؤديها من يأخذ الجنسية، وفيها يعلن عن احترامه للدستور أو للنظام العام. فهل هذا ينافي الإسلام أو لا؟

       كما أن هذا قد يعرض المسلم للتجنيد الإجباري في جيش تلك الدولة، ولا حرج في ذلك، إلا إذا قامت تلك الدولة بإعلان الحرب على بلد إسلامي، فماذا يكون موقف المسلم في تلك الحالة؟ أيعصي دولته أم يحارب إخوانه المسلمين؟ وكل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه؟

       ومن الأسئلة التي سئلت عنها، ويسأل عنها عادة كل عالم ديني يزور تلك البلاد: ما حكم اللحوم التي تباع في الأسواق، وتقدم مطبوخة في المطاعم، وهي من ذبائح القوم، ولا نعرف أهي مستوفية الشروط الشرعية للذبح أم لا؟

       هل يجب أن تكون هذه الذبائح مستوفية كل شروط ذبيحة المسلم أو يترخص بعض الترخيص في ذبائح أهل الكتاب، الذين أباح الله تعالى لنا طعامهم؟

       وهل يجب أن نتحرى ونسأل ونستقصي أو أن ما غاب عنا لا نسأل عنه، ونسمي الله عليه ونأكل؟

       وما حكم الأطعمة مثل (الجلي) وغير الأطعمة، مثل (الصابون) أو بعض (المعجونات) التي قد تكون مصنوعة من دهن الخنزير أصلا، ولكنه تغير تغيرا كيماويا، أو بتعبير الفقهاء: (استحالت نجاسته) هل يعتبر الأصل الخنزيري أو الحالة التي صار عليها الشيء الآن؟

       وما حكم (الجبن) الذي قد تدخله (المنفحة) وهي قد تؤخذ من معدة حيوان، قد يكون الخنزير، وقد يكون غيره؟ وما الحكم إذا غلب على الظن أنها مأخوذة من الخنزير؟

       وإذا سلمنا أنها من الخنزير هل هذه المنفحة نجسة أو غير نجسة؟ وإذا كانت نجسة فهل مقدارها في صناعة الجبن بحيث لا يعفى عنه أو يمكن أن تدخل دائرة العفو لضآلتها؟

       وما حكم العمل في المطاعم التي تقدم لحم الخنزير ومشروب الخمر؟ وما حكم الأكل فيها؟ وإن لم يتناول الخمر والخنزير؟

       وما حكم عمل المسلم في المحلات (البقالات ومحلات السوبر ماركت) التي تبيع أشياء كثيرة معظمها حلال، ولكن منها الخمر ولحم الخنزير؟

       وهل يجوز للمسلمين أن يفتحوا مثل هذه المحلات إذا كانت القوانين تلزمهم أن يبيعوا هذه المحرمات فيها، وإن كانت نسبتها قليلة؟ أو يحرم المسلمون من هذه التجارة تماما؟

       وما الحكم إذا دُعي المسلم إلى وليمة؟ يقدم فيها للضيوف الخمر والخنزير، وإن كان لا يقدم له هو شخصيا؟ أيعتذر عن عدم استجابة الدعوة، ويعيش وحده ويقاطع المجتمع من حوله، وبهذا يقدم صورة سلبية للمسلمين؟ أم يقبل الدعوة من باب المجاملة وحسن التعايش؟

       وما حكم السلام على غير المسلم؟ وما حكم مجاملته في حضور عرسه وأفراحه المشروعة؟ وما حكم تهنئته بأعياده، ولا سيما إذا كان هو يهنئ المسلمين بأعيادهم؟ ولا سيما الأعياد الدينية مثل (الكريسماس).

       وما حكم الزواج الذي يتم في تلك البلاد عن طريق الجهات الرسمية؟ أيعتبر زواجا شرعيا وإن لم يعقده مسلم؟ أو لابد من عقد زواج في مسجد أو مركز إسلامي على يد أحد شيوخ الدين؟ وهل يغني هذا عن توثيق الزواج في الجهة الرسمية؟

       وما حكم الطلاق إذا تم من الجهة الرسمية، ورفضه الزوج المسلم، لأنه طلاق من قاض غير مسلم؟

       وما حكم المسلم الذي تزوج زوجة ثانية ـ زواجا عرفيا ـ والقوانين لا تسمح له بذلك؟

ومن يضمن حقوق هذه الزوجة إذا اختلفت مع زوجها؟ وهل يجوز لإمام المركز الإسلامي أن يخالف القوانين ويعقد هذا النوع من الزواج؟

       وهل يجوز للمرأة إذا اضطرتها الظروف القاسية أن تكون وحدها في تلك البلاد أن تتزوج بدون ولي؟ أو يكون وليها رئيس الجالية أو إمام المركز أو نحو ذلك؟

       وما حكم الزواج من امرأة غربية؟ وهل يعتبر الغربيون الآن كتابيين أو لادينيين؟ وهل هناك شروط وقيود لهذا الزواج؟

       وما حكم المرأة إذا أسلمت ولم يسلم زوجها معها؟ هل يفرق بينها وبين زوجها أو هناك حل آخر؟

       وما حكم من مات وله أب ذو مال أو أم ذات مال، وقد تركا تركة يستحقها كلها أو بعضها بحكم القانون؟ هل يدع هذا المال وهو في أمس الحاجة إليه لنفسه ولأهله ولإخوانه، وللدعوة الإسلامية؟ بناء على أن المسلم لا يرث الكافر، كما أن الكافر لا يرث المسلم؟ أو هناك رخصة لميراث هذا المسلم من أبيه أو أمه؟

       وما حكم التعامل مع البنوك الربوية، ومع شركات التأمين في هذه  الديار، ولا يوجد غيرها هنا؟

       وهل يجوز لنا أن نودع أموالنا فيها، مع أننا مضطرون إلى ذلك؟ وهل يمكن أن نودعها بفائدة ونأخذ هذه الفائدة لنعطيها للفقراء، أو للجمعيات الإسلامية، التي تحتاج إلى التمويل ولا تجده؟

       وما حكم شراء البيوت للسكنى عن طريق القرض من البنك الربوي؟ مع حاجة المسلم إلى أن يكون له بيت يملكه، يسع أسرته وضيوفه، ولا يتحكم فيه المالك؟ هذا مع أن ما يدفعه المشتري من البنك من قسط وفائدة يساوي أو يقارب ما يدفعه من أجرة شهرية؟

       وما حكم المشاركة في الحياة السياسية في هذه البلاد، عن طريق الانتخاب أو الترشيح إن تيسر، أو تأييد بعض الأحزاب أو الانضمام إليها واكتساب عضويتها أو مساندة بعض المرشحين الأقرب نفعا للمسلمين؟

       وهل يجوز للمسلمين تكوين حزب لهم يعبر عن مطالبهم؟

       وما حكم العمل الجماعي بين المسلمين، لإقامة المساجد والمدارس والأندية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية؟

       إلى آخر هذه الأسئلة الكثيرة والمتشعبة في شتى نواحي الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدولية، والتي نريد التعرف على  موقف الدين منها، وموقف المسلم حيالها إذا أراد أن يلتزم بأحكام دينه.

       وهذه الأسئلة ينبغي ألا تزعجنا ولا تقلقنا، بل هي بالعكس تدلنا على أن الإسلام لا يزال له أثره البالغ على سلوك المسلم وعلى تفكيره، وإن كان خارج دار الإسلام، وأن اغترابه عن وطنه الإسلامي، لم ينسه دينه وربه وشرعه، بل هو حريص على أن يرضى الله عنه، وألا يخرج من سلطان دينه، وأحكام شريعته، والله تعالى يقول: (ولله المشرق  والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) البقرة: 115والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ” اتق الله حيثما كنت[3] “.

       وهذه الأسئلة المطروحة من الأقليات والجاليات المسلمة في بلاد الغرب ونحوها، تتطلب الإجابة من علماء الشريعة الحاكمة على جميع أفعال المكلفين أينما كانوا، في غرب أو شرق، في دار الإسلام أو خارجها.

       وكثير من هذه الأسئلة أجاب عنها العلماء، واختلفت إجاباتهم تبعا لمذاهبهم التي يقلدونها، أو لوجهتهم التي يتبنونها، موسعين أو مضيقين، ميسرين أو معسرين.

       وبعضهم علماء فضلاء، ولكنهم ينقصهم الوعي بظروف هذه الأقليات، ومعاناتها في مجتمع غير مسلم، فلا يكفي أن يفتيهم العالم بما قرأ في بطون الكتب، دون فقه لواقعهم، ودراسة كافية لضروراتهم وحاجاتهم.

       لهذا كان لا بد لنا من فقه بصير، فقه واقعي، فقه معاصر، فقه ينطلق من محكمات النصوص، ومن قواعد الشرع ومقاصده، ولكنه يراعي تغيرات الزمان والمكان وأحوال الإنسان، وهذا ما نحاول إلقاء بعض الضوء عليه في هذه الصحائف. وبالله التوفيق، ومنه العون.

فقه الأقليات المسلمة

أهدافه وخصائصه ومصادره

       عندما أصدرت الطبعة الأولى من كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) لأعالج ـ في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها ـ قضية الأقليات الدينية غير الإسلامية، التي تعيش في الأوطان الإسلامية، وهم من أهل البلاد الأصليين، وأصبحت بعض الجهات الأجنبية تستغل قضيتهم في تعويق الدعوة إلى الحل الإسلامي، وتحكيم الشريعة الإسلامية، واستئناف حياة إسلامية متكاملة، ويعتبرون وجود هؤلاء عقبة في سبيل ما يطالب به المسلمون المتدينون من تحقيق الإسلام والعودة به إلى قيادة المجتمع والحياة.

       فأردت بهذا الكتاب أن أجيب عن أهم التساؤلات حول وضع غير المسلمين ـ الأقليات الدينية ـ في ظل مجتمع إسلامي، وحكم إسلامي.

ولكن مما أذكره، ولا أنساه: أن بعض الإخوة ممن يعيشون في الغرب، قالوا لي: قد قرأنا كتابك المهم عن (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) وانتفعنا به، وننوي أن نترجمه إلى الإنجليزية، ولكن نطمع منك في كتاب آخر نحن أشد حاجة إليه، وهو(المسلمون في غير المجتمع الإسلامي) فإذا كان كتابك يعالج فقه الأقليات غير المسلمة في المجتمعات المسلمة، فنحن في حاجة إلى علاج آخر، لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات غير المسلمة، أعني في الغرب وغيره من البلاد التي لا يدين أغلب سكانها بدين الإسلام.

       وهذه الأقليات المسلمة خارج دار الإسلام أو البعيدة عن المجتمع المسلم، تحتاج إلى فقه خاص، يقوم على اجتهاد شرعي قويم، يراعي مكانها وزمانها وظروفها الخاصة، وأنها لا تملك أن تفرض أحكام شريعتها على المجتمع الذي تعيش فيه، وأنها مضطرة أن تتعامل وفق أنظمة ذلك المجتمع وقوانينه، وبعض هذه الأنظمة والقوانين تخالف شريعة الإسلام.

       ولعل هذه الحاجة، وهذه الاعتبارات هي التي دفعت بعض الإخوة الغيورين والمهتمين بالشأن الإسلامي، في(اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا) إلى السعي لإنشاء مؤسسة علمية فقهية إسلامية، تسد هذه الثغرة، وتلبي هذه الحاجة، وتجيب عن تساؤلات المسلمين في تلك الديار، فأنشئ (المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث) الذي اجتمع مؤسسوه في بريطانيا. وقرروا بالإجماع قيام هذا المجلس، الذي أعلن ميلاده، وعن أهدافه وعن وسائله وعن أعضائه.

حقائق حول فقه الأقليات:

       وفي حديثنا عن (فقه الأقليات المسلمة) يجب أن نقرر بعض الحقائق التالية:

ليس بالفقه وحده تحيا الجماعة المسلمة:

       أولاً: ليس بالفقه وحده تحيا الجماعة المسلمة وتقوى وترقى. فالفقه ـ بالمعنى الاصطلاحي المعروف ـ إنما يعنى ببيان الأحكام للحياة الظاهرة للإنسان، ولا يعنى في الأساس بحياته الباطنة: الحياة الروحية ـ الإيمانية والأخلاقية ـ  وإنما يعنى بها علم السلوك أو التصوف والتزكية. وهذا هو أساس الاستقامة والسعادة في الدنيا، والخلاص ورضوان الله في الآخرة.

       ولقد اعتبر الإمام الغزالي في (الإحياء) علم الفقه من (علوم الدنيا) وليس من (علوم الآخرة) وذلك أنه الذي يوصل إلى مناصب القضاء والإفتاء والإشراف على الأوقاف، وتصدر المجالس للخلاف والجدل، إلى غير ذلك من الاعتبارات، التي جعلت الغزالى يخرج الفقه من علوم الآخرة، حتى إنه حين يتعرض للعبادات، يهتم بمادتها لا بروحها، بظاهرها لا بباطنها ولبها.

       ومن هنا كانت الجماعة المسلمة في حاجة إلى عدد معين من أهل الفقه والفتوى، وإلى أضعافهم من الدعاة والمرشدين والمربين، الذين يعلمون الجماعة (الفقه الأكبر) ويزكونها ويعلمونها الكتاب والحكمة.

الأقلية المسلمة جزء من أمتها المسلمة ومن مجتمعها الخاص:

       ثانياً: إن الأقليات المسلمة هم جزء من الأمة الإسلامية من ناحية، التي تشمل كل مسلم في أنحاء العالم، أيا كان جنسه أو لونه أو لسانه، أو وطنه، أو طبقته، وهم ـ من ناحية أخرى ـ جزء من مجتمعهم الذي يعيشون فيه، وينتمون إليه. فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا نطغي أحدهما على الآخر، ولا نضخم أحدهما على حساب الآخر.

فقه خاص في دائرة الفقه العام:

       ثالثاً: إن (فقه الأقليات) المنشود، لا يخرج عن كونه جزءا من (الفقه العام). ولكنه فقه له خصوصيته وموضوعه ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم.

       وإذا كان عندنا الآن ما يمكن أن نسميه (الفقه الطبي) المتعلق بالصحة والمرض وعلاج الأمراض، والمشكلات الخاصة بالطب وتطوراته ومستجداته…

       وكذلك عندنا ما يمكن أن نسميه (الفقه السياسي) وهو ما يتعلق ببناء الدولة المسلمة ومؤسساتها الشورية والقضائية والتنفيذية والعسكرية، وموقف هذه الدولة من الديموقراطية والتعددية، وغير المسلمين والسلام والحرب ونحوها…

       إذا كان عندنا هذه الأنواع من الفقه، فلماذا لا يكون عندنا (فقه الأقليات) كي يهتم بعلاج مشكلاتهم، والإجابة عن تساؤلاتهم. وإن كانت كل هذه الأنواع من الفقه لها جذور في فقهنا الإسلامي، ولكنها غير منظمة، وهي مجملة غير مفصلة، ناقصة غير مكتملة، مناسبة لعصرها وبيئتها. لأن هذه طبيعة الفقه، ولا يتصور من فقه عصر مضى أن يعالج قضايا عصر لم تنشأ عنده، ولم يخطر ببال أهله حدوثها.

ضرورة الوجود الإسلامي في الغرب:

       رابعاً: أود أن أشير هنا إلى حقيقة مهمة، ينبغي لنا ـ نحن المسلمين ـ ألا نغفل عنها، وهي: أنه يجب أن يكون للمسلمين ـ بوصفهم أمة ذات رسالة عالمية ـ (وجود إسلامي) ذو أثر، في بلاد الغرب، باعتبار أن الغرب هو الذي أصبح يقود العالم. ويوجه سياسته واقتصاده وثقافته.

       فلو لم يكن للإسلام وجود هناك، لوجب على المسلمين أن يعملوا متضامنين على إنشاء هذا الوجود ليقوم بالمحافظة على المسلمين الأصليين في ديارهم، ودعم كيانهم المعنوي والروحي، ورعاية من يدخل في الإسلام منهم، وتلقّي الوافدين من المسلمين، وإمدادهم بما يلزمهم من حسن التوجيه والتفقيه والتثقيف. بالإضافة إلى نشر الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.

       ولا يجوز أن يترك هذا الغرب القوي المؤثر للنفوذ اليهودي وحده، يستغله ويوجهه لحساب أهدافه وأطماعه، ويؤثر في سياسته وثقافته وفلسفاته، ويترك بصماته عليها. ونحن المسلمين بمعزل عن هذا كله، قابعون في أوطاننا، تاركين الساحة لغيرنا، في حين نؤمن نظريا بأن رسالتنا للناس جميعا وللعالمين قاطبة. ونقرأ في كتاب ربنا (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الأنبياء: 107 (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) “الفرقان:1”.

       ونقرأ في حديث نبينا ” كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة “. متفق عليه عن جابر.

       ومن هنا لا مجال للسؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، أو في (دار الكفر) كما يسميها الفقهاء، ولو منعنا هذا ـ كما يتصور بعض العلماء ـ لأغلقنا باب الدعوة إلى الإسلام وانتشاره في العالم. ولاَنْحصر الإسلام من قديم في جزيرة العرب ولم يخرج منها.

       ولو قرأنا التاريخ وتأملناه جيدا، لوجدنا أن انتشار الإسلام في البلاد التي تسمى الآن: العالم العربي، والعالم الإسلامي، إنما كان بتأثير أفراد من المسلمين، تجارا وشيوخ طرق، ونحوهم، ممن هاجروا من بلادهم إلى تلك البلاد في آسيا وإفريقيا، واختلطوا بالناس في بلاد الهجرة، وتعاملوا معهم، فأحبوهم لحسن أخلاقهم وإخلاصهم، وأحبوا دينهم الذي غرس فيهم هذه الفضائل، فدخلوا في هذا الدين أفواجا وفرادى.

       حتى البلاد التي دخلتها الجيوش الإسلامية فاتحة، إنما كان قصدها بالفتح إزاحة العوائق المادية من طريق الإسلام، حتى تبلغ دعوته للشعوب، ليمكنهم أن يختاروا لأنفسهم، وقد اختارت الشعوب هذا الدين راضية مختارة، حتى كان ولاة بني أمية في مصر يفرضون الجزية على من أسلم من المصريين لكثرة الداخلين في الإسلام، حتى أبطل ذلك عمر بن عبد العزيز، وقال قولته الشهيرة لواليه: ” إن الله بعث محمدا هاديا، ولم يبعثه جابيا “.

أهداف الفقه المنشود للأقليات:

       والفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة في أنحاء العالم ـ وخصوصا العالم الغربي ـ له أهداف ومقاصد يسعى إلى تحقيقها في حياة هذه الأقليات، في إطار أحكام الشريعة وقواعدها.

       أولاً: أن يعين هذه الأقليات المسلمة ـ أفرادا وأسرا وجماعات ـ على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا.

       ثانياً: أن يساعدهم على المحافظة على (جوهر الشخصية الإسلامية) المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين.

ثالثاً: أن يمكِّن المجموعة المسلمة من القدرة على أداء واجب تبليغ رسالة الإسلام العالمية لمن يعيشون بين ظهرانيهم، بلسانهم الذي يفهمونه، ليبينوا لهم، ويدعوهم على بصيرة، ويحاوروهم بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف:108 فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة، وخصوصا من كان يعيش بين غير المسلمين.

رابعاً:  أن يعاونها على المرونة والانفتاح المنضبط، حتى لا تنكمش وتتقوقع على ذاتها، وتنعزل عن مجتمعها، بل تتفاعل معه تفاعلا إيجابيا، تعطيه أفضل ما عندها، وتأخذ منه أفضل ما عنده، على بينة وبصيرة، وبذلك تحقق المجموعة الإسلامية هذه المعادلة الصعبة. محافظة بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان.

خامساً: أن يسهم في تثقيف هذه الأقليات وتوعيتها، بحيث تحافظ على حقوقها وحرياتها الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كفلها لها الدستور، حتى تمارس هذه الحقوق المشروعة دون ضغط ولا تنازلات.

سادساً: أن يعين هذا الفقه المجموعات الإسلامية على أداء واجباتهم المختلفة: الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، دون أن يعوقهم عائق، من تنطع في الدين، أو تكالب على الدنيا، ودون أن يفرطوا فيما أوجب الله عليهم، أو يتناولوا ما حرم الله عليهم، وبهذا يكون الدين حافزا محركا لهم، ودليلا يأخذ بأيديهم، وليس غلا في أعناقهم، ولا قيدا بأرجلهم.

سابعاً: أن يجيب هذا الفقه المنشود عن أسئلتهم المطروحة، ويعالج مشكلاتهم المتجددة، في مجتمع غير مسلم، وفي بيئة لها عقائدها وقيمها ومفاهيمها وتقاليدها، في ضوء اجتهاد شرعي جديد، صادر من أهله في محله.

خصائص هذا الفقه المنشود:

       ولهذا الفقه المنشود خصائص لا بد أن يراعيها، حتى يؤتي أكله، ويحقق أهدافه، تتمثل فيما يلي:

  • 1) ينظر إلى التراث الإسلامي الفقهي بعين، وينظر بالأخرى إلى العصر وتياراته ومشكلاته. فلا يهيل التراب على تركة هائلة أنتجتها عقول عبقرية خلال أربعة عشر قرنا، ولا يستغرق في التراث بحيث ينسى عصره وتياراته ومعضلاته النظرية والعملية، وما يفضله من دراسة وإلمام عام بثقافته واتجاهاته الكبرى على الأقل. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
  • 2) يربط بين عالمية الإسلام وبين واقع المجتمعات التي يطب لها ويشخص أمراضها، ويصف لها الدواء من صيدلية الشريعة السمحة، فقد رأينا الرسول يراعي طبائع الأقوام وعاداتهم، كما قال: ” إن الأنصار يعجبهم اللهو ” أو كما أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده.
  • 3) يوازن بين النظر إلى نصوص الشرع الجزئية، ومقاصده الكلية، فلا يغفل ناحية لحساب أخرى، فلا يعطل النصوص الجزئية من الكتاب والسنة، بدعوى المحافظة على روح الإسلام، وأهداف الشريعة، ولا يهمل النظر إلى المقاصد الكلية والأهداف العامة، استمساكا بالظواهر وعملا بحرفية النصوص.
  • 4) يرد الفروع إلى أصولها، ويعالج الجزئيات في ضوء الكليات، موازنا بين المصالح بعضها وبعض، وبين المفاسد بعضها وبعض، وبين المصالح والمفاسد عند التعارض في ضوء فقه الموازنات، وفقه الأولويات.
  • 5) يلاحظ ما قرره المحققون من علماء الأمة من أن الفتوى تختلف باختلاف المكان والزمان والحال والعرف وغيرها. ولا يوجد اختلاف بين زمان وزمان مثل اختلاف زماننا عن الأزمنة السابقة، كما لا يوجد اختلاف مكان عن مكان، كالاختلاف بين دار استقر فيها الإسلام وتوطدت أركانه وقامت شعائره، ودار يعيش فيها الإسلام غريبا أو مضطهدا.
  • 6) يراعى هذه المعادلة الصعبة: الحفاظ على تميز الشخصية المسلمة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة مع الحرص على التواصل مع المجتمع من حولهم، والاندماج به والتأثير فيه بالسلوك والعطاء.

مصادر هذا الفقه:

       وقد يسأل سائل هنا: ما مصادر هذا الفقه؟ وهل له مصادر غير مصادر الفقه العام؟

      وأبادر فأقول: إن مصادر (فقه الأقليات) هي مصادر الفقه العام نفسها. ولكن ينبغي أن يكون لهذا الفقه وقفات (تجديدية) لهذه المصادر، ذكرنا نماذج لها في الجزء الأول من كتابنا (تيسير الفقه للمسلم المعاصر) .

ومن أهم هذه الوقفات:

  1. الاعتماد على المصدر الأول، أو مصدر المصادر، وأصل الأصول ـ وهو القرآن الكريم ـ في تأصيل هذا الفقه، وترسيخ قواعده، بحيث ترد الأصول أو المصادر كلها إلى القرآن، حتى السنة النبوية يجب أن (تفهم في ضوء القرآن الكريم)، كما بينا ذلك بتفصيل في كتابنا (كيف نتعامل مع السنة النبوية؟)

إن القرآن بمثابة الدستور للتشريع، والأب لكل القوانين والأحكام، ولذا يعنى بإرساء القواعد والمبادئ العامة، أكثر من التعرض للجزئيات والتفصيلات، بخلاف السنة التي تعالج مسائل وقتية، وحالات شخصية، وأمورا دنيوية لا علاقة لها بالدين، وهي التي جاء فيها الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة وأنس رضي الله عنهما: ” أنتم أعلم بأمر دنياكم “.

وبهذا قرر المحققون من علماء الأمة: أن السنة فيها ما هو للتشريع، وما ليس للتشريع. وما كان للتشريع منه ما هو عام وما هو خاص، وما هو دائم وما هو مؤقت، ومنها ما صدر عن الرسول الكريم بصفة الفتوى والتبليغ عن الله تعالى، ومنه ما صدر بوصف الإمامة ورئاسة الدولة. ومنها ما كان في وقائع أحوال جزئية أو شخصية، يقول فيها العلماء: إنها مقصورة على موضعها ولا عموم لها.

ومما يلزم التنبيه عليه هنا: بعض الأحاديث التي لم تثبت صحتها، ويبني بعضهم عليها أحكاما، مثل حديث: ” أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين “.[4]

وحديث ” من جامع مشركا، وسكن معه، فهو مثله “.[5] وإن حسنهما بعض العلماء، ولكن تحسين الحديث ـ لا سيما لغيره ـ  مما ينبغي التثبت فيه.

على أن لحديث ” أنا بريء ” تأويلاً غير ما يتبادر منه؟

وكلمة (المشرك) في المصطلح القرآني تعني الوثني، ولا يدخل فيها الكتابي، وكيف يحرم الإسلام مساكنة الكتابي في بيت واحد، وهو يجيز للمسلم أن يتزوج كتابية، تكون ربة بيته؟

وهناك أحاديث صحيحة، ولكنها مؤولة، لمعارضتها لظاهر القرآن، كحديث: ” لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطروهم إلى أضيقه “.[6] فهو مخالف لآية (أن تبروهم وتقسطوا إليهم) الممتحنة:8 ولعموم قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) النساء:86.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ” أفشوا السلام “[7].

ويجب تأويل هذا الحديث بأنه خاص بأهل الحرب المعادين للمسلمين، وليس في شأن المسالمين.

وقد فصلنا القول في ذلك في مواضع آخر.[8]

والمهم أن ترد السنة إلى القرآن، وأن ترد السنن بعضها إلى بعض، وأن تفهم الأحاديث في ضوء ملابساتها ومقاصدها، وأن نميز بين الهدف الثابت والوسائل المتغيرة.

وبعد القرآن والسنة يأتي الإجماع، ولا بد لنا هنا من التنبيه على أن كثيرا من دعاوي الإجماع غير ثابتة، بل ثبت عكسها، وتبين للباحثين أن فيها خلافاً.

بل إن بعض أنواع الإجماع المنقولة تكون مبنية على مصلحة وقتية أو عرف تغير، فينبغي أن يتغير حكم الإجماع بتغير مناط الحكم.

بل إن الإجماع إذا كان مبنيا على نص، وقد راعى النص ظرفاً أو عرفاً، فتغير هذا العرف أو هذا الظرف، فإن الحكم المبني عليه يجب أن يتغير، كما ذكرنا في قصة وجود نصابين للنقود في الزكاة، نصاب للفضة ونصاب للذهب، وهما متفاوتان غاية التفاوت.

وبعد الإجماع يأتي القياس بشروطه وضوابطه، وإن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، كما لا تسوي بين مختلفين. ولا يستغني فقيه في أي عصر عن استخدام القياس إذا اتضحت علته، ولم يوجد فارق معتبر بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه.

وهناك المصادر أو الأدلة المختلف فيها، وهي: الاستصلاح (العمل بالمصلحة المرسلة)[9] والاستحسان، وسد الذرائع، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستصحاب، وقول الصحابي..إلخ.

وعلى الفقيه في عصرنا أن يستفيد من كل هذه الأصول أو الأدلة، على أن يضع كلا منها في موضعه، ويقدم أقواها على أضعفها إذا تعارضت، في ضوء موازين التعارض والترجيح، وهي معروفة.

(3)

ركائز فقه الأقليات

       يقوم فقه الأقليات المنشود على ركائز أساسية يجب أن يراعيها أكثر من غيره من أنواع الفقه الأخرى، وإن كان كل الفقه في حاجة إليها:

1ـ لا فقه بغير اجتهاد معاصر قويم:

       أولى هذه الركائز: أن الفقه الذي ننشده للأقليات المسلمة ـ ليحقق الأهداف والغايات المنوطة به ـ لا يتحقق إلا من خلال (اجتهاد صحيح) صادر من أهله في محله.

       أما إذا روجنا مقولة إغلاق باب الاجتهاد، وفكرنا بعقول الأموات من السابقين، ولم نفكر بعقولنا، فلن تحل بالفقه مشكلة.

       لقد بينا فيما كتبناه من قبل أن الاجتهاد فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، فالاجتهاد هو الذي يبرز خصوبة الشريعة وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان.

       والاجتهاد الذي نريده، منه ما هو ترجيحي انتقائي، ومنه ما هو إبداعي إنشائي.

       فأما الاجتهاد الانتقائي والترجيحي، فهو الذي يختار من تراثنا الغني من الأقوال والآراء المتعددة أرجحها ميزانا، وأولاها بتحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، فإذا ذكر ابن القيم تسعة أقوال في شأن المرأة إذا أسلمت ولم يسلم زوجها، فالاجتهاد المطلوب هنا أن نختار قولا من هذه الأقوال نجده أقوم قيلا، وأهدى سبيلاً.

       وأما الاجتهاد الإبداعي والإنشائي، فهو يتعلق بالمستجدات في أمور الحياة، وقد امتلأت حياتنا المعاصرة بمئات ـ بل بألوف ـ من المسائل الجديدة، التي لا يمكن أن تجد لها جوابا مباشرا في تراثنا الفقهي العظيم.

       وهذا طبيعي، لأن التطور الذي حدث في عالمنا المعاصر، تطور هائل في كمه وفي نوعه، وهو تطور لم يكن يخطر ببال أحد من الأئمة الماضين، حتى يتخيل له حلا.

       ولقد رأينا الخلاف ما بين أبي حنيفة وصاحبيه كثيرا ما فسره علماء الحنفية بقولهم: هذا اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان، برغم قصر المدة ما بين أبي حنيفة وصاحبيه (مات أبو حنيفة سنة 150هـ ومات أبو يوسف سنة 182هـ ومات محمد سنة 189هـ)

       وغير الشافعي مذهبه من قديم إلى جديد، وهو لم يعش أكثر من 54سنة قمرية (ولد سنة 150هـ وتوفي سنة 204هـ)

       وإذا كان الفقه كله يحتاج إلى الاجتهاد بنوعيه الانتقائي والإنشائي، فإن فقه الأقليات أشد حاجة، للظروف التي تعيشها الأقلية بين ظهراني أكثرية تخالفها في الدين، وبالتالي في الكثير من المفاهيم والسلوكيات والتقاليد.

       وهذا الاجتهاد إنما هو جزء من (التجديد) الذي حدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها “.[10]

       والتجديد للدين يشمل تجديد الفقه فيه والفهم له، وتجديد الإيمان به، والالتزام بتعاليمه، والدعوة إليه بلسان القوم والعصر حتى يبين لهم. ولا يتجدد الفقه والفهم للدين إلا باجتهاد معاصر قويم.[11]

2ـ مراعاة القواعد الفقهية الكلية:

       ومما ينبغي لهذا الفقه أو هذا الاجتهاد المنشود أن يراعيه: الرجوع والاستناد إلى القواعد الفقهية التي أصلها الفقهاء، استمدادا من القرآن والسنة والاستدلال منها والبناء عليها، وهي كثيرة، ولها تطبيقاتها المتعددة في الجزئيات والفروعيات العملية المختلفة، مثل:

الأمور بمقاصدها.

العادة محكمة.

ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

لا ضرر ولا ضرار.

الضرر يدفع بقدر الإمكان

الضرر يزال بقدر الإمكان.

الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه.

يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.

يرتكب أخف الضررين.

درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

تغتفر المفسدة القليلة لجلب مصلحة كبيرة.

تفوت أدنى المصلحتين.

المشقة تجلب التيسير.

إذا ضاق الأمر اتسع.

يجوز تبعا ما لا يجوز أصلا.

يجوز بقاء وانتهاء ما لا يجوز إنشاء وابتداء.

الأصل في الأشياء الإباحة.

الأصل في العاديات والمعاملات النظر إلى العلل والمصالح.

الغرم بالغنم.

المسلمون عند شروطهم.

المعروف عرفا كالمشروط شرطا.

النادر لا حكم له.

للأكثر حكم الكل.

حقوق الله مبنية على المسامحة. وحقوق العباد مبنية على المشاحة.

حق الأمة مقدم على حقوق الأفراد.

فرض العين مقدم على فرض الكفاية.

فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد مقدم على فرض الكفاية الذي قام به بعض الناس.

لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.

المشدد يشدد الله عليه.

العبرة بالخواتيم.

أعمال القلوب أفضل من أعمال الجوارح.

لا يزال المنكر بمنكر أكبر منه.

الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها.

ما قارب الشيء يأخذ حكمه.

ما بني على باطل فهو باطل.

ليس بعد الكفر ذنب.

البدعة شر من المعصية.

الظني لا يقاوم القطعي، فضلا من أن يقدم عليه.

اليقين لا يزول بالشك.

إلى غير ذلك من (القواعد) التي لا يستغني عنها مفت ولا قاض ولا باحث في علوم الشرع.

3ـ العناية بفقه الواقع المعيش:

       ولا يستطيع هذا الاجتهاد المعاصر المرجو أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتى ثمرته، إلا إذا ضم إلى فقه النصوص والأدلة: فقه الواقع المعيش.

       فالفقيه أشبه بالطبيب، ولا يمكن الطبيب أن يصف الدواء للمريض إلا إذا عاينه وفحصه وسأله، وعرف تاريخ مرضه، وحجمه ومداه، فاستطاع بذلك أن يشخص الداء، ويصف له الدواء الملائم.

      وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم في (إعلامه) : ” لا يتمكن المفتي ولا الحاكم (القاضي) من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه،واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرآن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر.

فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً.

      ” فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع التفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة عن الأم[12] … “

       والفقيه الحق ـ كما قال ابن القيم في مقام آخر ـ هو الذي يزاوج بن الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون فقط، بل فيما هو كائن، وبهذا يعرف ما يفرضه الواقع من أحكام، فكثيرا ما ينزل من المثل الأعلى إلى الواقع الأدنى.

       وهذا ما جعل ابن القيم يقرر وجوب تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال.

       وقبله قرره الإمام المالكي شهاب الدين القرافي.

       وقرره بعدهما علامة المتأخرين من الأحناف ابن عابدين صاحب الحاشية الشهيرة (رد المحتار على الدر المختار).

       إن واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.

       ونريد بدراسة الواقع: أن يدرس على الطبيعة لا على الورق، بلا تهويل، ولا تهوين. فأعظم ما يؤثر في سلامة النظرة العلمية هو اللجوء إلى أسلوب المبالغة والتضخيم، الذي يجعل من الحبة قبة، أو من القط جملا، كما يقول المثل أو إلى الأسلوب المقابل، وهو التصغير والتهوين، ومحاولة التقليل من أهمية الأمر، رغم خطورته، كما نشاهده في موقفنا من دولة العدو الصهيوني (إسرائيل)، وكما نشاهده في موقفنا من الحضارة الغربية.

       إننا أحياناً نبني حكمنا الفقهي على معرفتنا بالواقع. فإذا أراد الفقيه أن يفتي في مسألة كالتدخين، فإنه يبني فتواه على رأي الطبيب، وتقرير المحلل، فإذا قال الطبيب: إن التدخين ضار بالصحة، خطر عليها، فلا يسع الفقيه إلا أن يقول: هو حرام.

       وكذلك إذا قال الخبراء الاجتماعيون والاقتصاديون: إن تملك بيوت السكنى للأسر المسلمة في الغرب يعتبر حاجة ماسة للأفراد وللجماعة، وأنه لا يوجد وسيلة لتملك هذه البيوت لغالبية المسلمين إلا بالشراء عن طريق البنك، لم يسع الفقيه المسلم إلا أن يفتي بالجواز، للحاجة التي تنزل منزلة الضرورة. فإن تقدير الحاجة هنا ليس للفقهاء، بل لأهل الاختصاص.

       ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتي لها، فلا شك أن الأقليات تتفاوت فيما بينها تفاوتاً بعيداً.

       فالأقلية التي يكون معظمها من الوافدين المهاجرين، غير الأقلية التي يكون معظمها من المواطنين الأصليين.

       والأقلية المستضعفة غير الأقلية المتمكنة ذات المال والجاه والنفوذ.

       والأقلية المحدودة العدد، غير الأقلية الكبيرة، كالأقلية المسلمة في الهند (أكثر من 150مليونا).

       والأقلية الحديثة الوجود غير الأقلية العريقة التي لها مئات السنين.

      والأقلية في البلاد الليبرالية التي تنعم بالحريات وحقوق الإنسان، غير الأقلية في البلاد الدكتاتورية التي لا تعترف للإنسان بحق ولا حرية، ولا ترقب في مؤمن إلا ولا ذمة.

       والأقلية المبعثرة المنقسمة على نفسها، المختلفة فيما بينها، باختلاف عروقها واتجاهاتها الدينية والفكرية، غير الأقلية المتماسكة المنظمة، التي أمست لها قياداتها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

       ويلزم الفقيه الذي يعالج الواقع في ضوء الشريعة أن يراعي هذا الواقع المتغير، فإن لكل واقع حكمه.

4ـ التركيز على فقه الجماعة لا مجرد الأفراد:

       ومما يسهم في ترشيد فقه الأقليات: التركيز على الأقلية باعتبارهم (جماعة) متميزة، لها هويتها وأهدافها ومشخصاتها، ولا يمكنها أن تتغافل عنها. وينبغي لأهل الفقه أن ينظروا إلى هذا الكيان الجماعي وما يتطلبه من مقومات، وما له من ضرورات وحاجات. وكيف تستطيع الجماعة أن تعيش بإسلامها في مجتمع غير مسلم، قوية متماسكة، مؤمنة بالتنوع في إطار الوحدة.

       وقد لاحظت أن أهل الفقه عادة حينما يتحدثون عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن الحاجة التي قد تنزل منزلة الضرورة، إنما يركزون على ضرورة الفرد المسلم وحاجته، غير معنيين كثيرا بضرورات الجماعة المسلمة وحاجاتها.

       وأعتقد أن من المهم واللازم للفقيه لتكون فتواه عن بينة: أن يهتم بالجماعة وضروراتها وحاجاتها المادية والمعنوية، الآنية والمستقبلية، وألا يغفل تأثير هذه الضرورات والحاجات في سير الجماعة وقوتها الاقتصادية، وتماسكها الاجتماعي، وسلوكها الأخلاقي، وتقدمها العلمي والثقافي، وقبل ذلك: هويتها الإيمانية.

       لقد عني القرآن والسنة بالجماعة، ولهذا كان الخطاب القرآني بأحكام الله تعالى خطابا للجماعة (يا أيها الذين آمنوا) سواء تعلق التكليف بالتعبد (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) البقرة: 183 أم تعلق بالمعاملات (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) البقرة: 282 أم تعلق بشؤون الأسرة (وإذا طلقتم النساء، فبلغن أجلهن (أي إذا انتهت عدتهن) فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) البقرة: 231 أم تعلق بالعقوبات والتشريع الجنائي (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) البقرة: 178

       بل يخاطب القرآن الجماعة أو الأمة كلها بما ينفذه الولاة والأمراء، مثل إبرام المعاهدات مع الأعداء، ومثل إقامة الحدود على الجناة، مثل قوله تعالى (إلا الذين عاهدتم من المشركين) التوبة:4 وقوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما جزاء بما كسبا نكالا من الله) المائدة:38.

       وهذه النصوص وغيرها تؤكد أهمية الجماعة، ومسؤوليتها التضامنية في إقامة شرع الله، وتطبيق أحكامه في الأرض.

       والأحاديث النبوية تؤيد هذا الاتجاه وتقويه: ” يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار “.

       والفقه الإسلامي يبارك هذه النزعة الجماعية بأحكام كثيرة، بعضها يتعلق بالجانب الاجتماعي، وبعضها يتعلق بالجانب الاقتصادي، وبعضها بالجانب السياسي.

       وحسبنا أنه يقدم حق الجماعة على حقوق الأفراد الخاصة، فنعدما يغزو العدو أرضا، تنفر الجماعة كلها للمقاومة، فيخرج الابن بغير إذن أبويه، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والمرؤوس بغير إذن رئيسه، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا حق لفرد أمام حرمات الأمة.

       ويذكر الإمام الغزالي هنا مسألة (التترس) وهو أن يتخذ العدو المحارب بعض المسلمين (تروسا بشرية) يحتمي بهم، ويضعهم في مواجهة الخطر، ويجيز الإمام الغزالي وغيره من الفقهاء التضحية بهؤلاء المتترس بهم إذا كان في الإبقاء عليهم خطر على الجماعة كلها، لأن الإبقاء على الكل أهم من الإبقاء على الجزء.

       ومن ثم كان لابد للفقه المطلوب هنا: أن يراعي مصالح الجماعة المسلمة، ولا يجعل كل همه الاقتصار على حفظ مصالح الأفراد، فالفرد قليل بنفسه كثير بجماعته.

       ومن حق الجماعة المسلمة في ديار الغرب ونحوها: أن تكون جماعة قوية متعلمة متماسكة قادرة على أن تؤدي دورها، وتحافظ على هويتها، وتنشئ أبناءها وبناتها تنشئة إسلامية حقة، وتبلغ رسالتها إلى من حولها بلسان عصرها.

5ـ تبني منهج التيسير:

      ومن خصائص فقه الأقليات: تبني منهج التيسير ما وجد إليه سبيل، اتباعا للتوجيه النبوي: حينما بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن، فأوصاهما بقوله. ” يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا “[13] وروى عنه أنس: ” يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا “[14]

       ولا شك أن الناس تختلف طبائعهم، فمنهم الميسر بطعبه، ومنهم المشدد، وكل ميسر لما خلق له، وقد عرف تراثنا الفقهي: شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس.

       والمعروف أن الصحابة ـ بصفة عامة ـ كانوا أكثر تيسيرا من تلاميذهم من التابعين، كما أن التابعين كانوا أكثر تيسيرا ممن بعدهم.

       فالفقهاء في عهد الصحابة ومن بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأيسر، والذين جاءوا من بعدهم كانوا أميل إلى الأخذ بالأحوط، وكلما نزلنا من عصر إلى عصر زادت كمية (الأحوطيات). وإذا كثرت الأحوطيات وتراكمت كونت ما يشبه الإصر والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليضعها عن الناس (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف: 157

       وإنما اختار الصحابة منهج التيسير والتخفيف، لأنهم وجدوا هذا هو منهج القرآن الكريم، ومنهج هذا الدين الذي شرع الرخص في المرض والسفر، وأجاز تناول المحرمات عند المخمصة والضرورة، وأجاز التيمم لمن لم يجد الماء، إلى غير ذلك من الأحكام التي تتضمن التخفيف. ولذا عقب القرآن على أحكام آية الطهارة بقوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) المائدة: 6 وعقب على آية أحكام الصيام بقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185 وعقب على أحكام النكاح بقوله (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) النساء: 28

       كما وجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تيسيرا، وأشدهم ضد الغلو والتنطع في الدين، فروى عنه ابن مسعود ” هلك المتنطعون “[15] قالها ثلاثا، وروى عنه ابن عباس: ” إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين “[16]

       وأنكر على من مال إلى الغلو في عبادته تقليدا لرهبان النصارى وغيرهم، كما فعل مع عبد الله بن عمرو بن العاص،[17] ومع الغلاة الذين قال أحدهم: أنا أصوم فلا أفطر، وقال الثاني: أنا أقوم الليل فلا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا[18].. ورد على عثمان بن مظعون إرادته للتبتل[19]، وأنكر على معاذ بن جبل إطالة الصلاة بالناس، وقال له: أ فتان أنت يا معاذ؟ ثلاثا[20]، وغضب على أبي بن كعب غضبا شديدا حين بلغه طول صلاته بالناس، وقال: ” إن منكم منفرين، من أم الناس فليتجوز “[21]

       وأنكر على بعض الصحابة الذين أفتوا رجلا أصابته جراحة ـ وقد أصابته جنابة ـ أن يغتسل، فمات من ذلك، فقال: قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم[22] “!

       من هنا تعلم الصحابة التيسير، شربوه من الهدي النبوي.

       وينبغي الاستئناس هنا بقول الإمام سفيان بن سعيد الثوري رضي الله عنه: إنما الفقه الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد. [23]

       وهذا قول رجل انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات: في الفقه، حيث كان له مذهب متبوع لمدة من الزمن، وفي الحديث، حيث سمي (أمير المؤمنين في الحديث). وفي الورع والزهد، حيث كان من الشيوخ المقتدى بهم في هذا الجانب.

       كما يحسن بنا أن نذكر هنا ما كان يذكره الفقهاء المتأخرون في ترجيح بعض الأقوال على بعض، فيقولون: هذا القول أرفق بالناس.

6ـ مراعاة قاعدة (تغير الفتوى بتغير موجباتها):

       ومن أعظم ما يقتضي التخفيف والتيسير: أن يكون المستفتي في حالة ضعف، فيراعى ضعفه ويخفف عنه بقدره. ولهذا يخفف عن المريض مالا يخفف عن الصحيح، ويخفف عن المسافر ما لا يخفف عن المقيم، ويخفف عن المعسر مالا يخفف عن الموسر، ويخفف عن المضطر ما لا يخفف عن المختار، ويخفف عن ذي الحاجة ما لا يخفف عن المستغني، ويخفف عن ذي العاهة (الأعمى والأعرج) ما لا يخفف عن السليم.

       ولهذا كله أدلة من نصوص الشرع وقواعده.

والمسلم في المجتمع غير المسلم أضعف من المسلم في داخل المجتمع المسلم، ولهذا كان يحتاج إلى التخفيف والتيسير أكثر من غيره.

وأحسب أنه مما لا يختلف فيه اثنان: أن الفتوى تتغير بتغير المكان والزمان والعرف، كما قال الإمام ابن القيم الحنبلي، وبينه من قبله الإمام القرافي المالكي، وأكده بعدهم علامة متأخري الحنفية ابن عابدين في رسالته (نشر العرف في بيان أن من الأحكام ما بني على العرف)

ومن ذلك ما روي أن عمر بن عبد العزيز كان يقضي ـ وهو أمير في المدينة ـ بشاهد واحد ويمين، فلما كان بالشام، لم يقبل إلا شاهدين، لما رأى من تغير الناس هناك عما عرفه من أهل المدينة.

وهو القائل كلمته المشهورة: ” تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور “.

ومن ذلك ما ذكر: أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده ـ عهد أتباع التابعين ـ اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه ـ أبي يوسف ومحمد ـ منعا ذلك لانتشار الكذب بين الناس[24].

ويقول علماء الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان!!

وقد خالف المتأخرون من علماء المذهب الحنفي ما نص عليه أئمتهم، والمتقدمون منهم في مسائل عدة، بناء على تغير الزمان والحال، وألف في ذلك علامة الحنفية المتأخرين الشيخ ابن عابدين في ذلك رسالته الشهيرة ” نشر العرف ” وذكر في هذه الرسالة: ” أن كثيرا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد (إمام المذهب) في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه[25] “.

وفي المذهب المالكي نجد ما كتبه العلامة شهاب الدين القرافي في كتابه ” الفروق ” وكتاب ” الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام ” منبها على وجوب تغير الحكم إذا كان مبنيا على عادة تغيرت، أو عرف لم يعد قائماً.

ومن الأمثلة التي تذكر هنا ما حكي عن الشيخ الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني (المتوفى سنة 386 هـ) صاحب ” الرسالة ” المشهورة في فقه المالكية، والتي شرحها أكثر من واحد من جلة علماء المذهب.

فقد رووا أن حائطا انهدم من داره، وكان يخاف على نفسه من بعض الفئات، فاتخذ كلبا للحراسة، وربطه في الدار، فلما قيل له: إن مالكا يكره ذلك، قال لمن كلمه: لو أدرك مالك زمانك لاتخذ أسدا ضاريا !!.[26]

وفي كل مذهب نجد مثل هذه المواقف ـ على تفاوت فيما بينها ـ مما يدلنا على مقدار السعة والمرونة التي أودعها الله هذه الشريعة، وجعلها بذلك صالحة لكل زمان ومكان.

ولا نزاع أن من أعظم ما يتغير به المكان اختلاف دار الإسلام عن غير دار الإسلام، فهذا الاختلاف أعمق وأوسع من الاختلاف  بين المدينة والقرية، أو بين الحضر والبدو، أو بين أهل الشمال وأهل الجنوب.

ذلك أن دار الإسلام ـ وإن قصر فيها من قصر، وانحرف من انحرف ـ تعين المسلم على أداء فرائض الإسلام، والانتهاء عن محارم الإسلام.

بخلاف دار غير الإسلام، فلا توجد فيها هذه الفضيلة. ولهذا اعتبر الفقهاء، الجهل بالأحكام في دار الإسلام لا يعتبر عذرا لصاحبه، تخفيفا عنه، لتيسر التعلم لمن أراده في دار الإسلام، بخلاف الجهل في غير دار الإسلام، فقد يكون عذرا للجاهل.

7ـ مراعاة سنة التدرج:

       وينبغي أن يقوم فقه الأقليات على سنة (التدرج) رعاية لظروفهم واغترابهم عن المجتمع المسلم. والتدرج ـ كما نعلم ـ سنة كونية، وسنة شرعية.

       أما أنه سنة كونية، فإن الله تعالى قد خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين. ثم خلق النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاما، فكسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، هذا في المرحلة الجنينية ثم بعد ولادته، يكون طفلا وليدا، فرضيعا، ففطيما، فصبيا، فغلاما، فمراهقا، فبالغا، فشابا، فكهلا، فشيخا..إلخ.

       وهذا يتم في عالم الحيوان، وعالم النبات أيضا.

       كما أنه تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ـ الله أعلم بحقيقتها ـ ولم يخلقها في لحظة واحدة، دلالة على سنة التدرج.

       وأما أنه سنة شرعية، فإن الله تعالى شرع أول ما شرع في الإسلام: أسس العقائد، وأصول الفضائل، ثم بدأ يشرع العبادات بالتدرج، وقد شرعت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر، كما روت عائشة رضي الله عنها.

       والصيام شرع أولا على التخيير (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) البقرة: 184 ثم جاء الإلزام بالصيام (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) البقرة: 185

       والمحرمات حرمت بالتدريج، كما في قصة الخمر.

       فلا مانع أن نتدرج في تعاملنا مع المسلمين إذا كانت لهم ظروف غير مساعدة.

       ويحسن بنا أن نضرب المثل هنا بعمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين. فقد كان من الذين رعوا هذه السنة واحتفلوا بها.

       فقد جاء هذا الخليفة الراشد بعد انحراف الحكم، وانتشار المظالم، واتخاذ كثير من الأوضاع الفاسدة صورة التقليد المستمر، والنظام المستقر.

       وكان على هذا القائد المؤمن أن يواجه هذا الفساد بالإصلاح، وهذا العوج بالتقويم، وأن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في أيام الخلفاء الراشدين.

       وشرع بالفعل يرد المظالم ويزيل المفاسد، لا يخاف في الله لومة لائم، ولكن بسياسة عاقلة، ونفس هادئ، وتدرج حكيم، قد يحسبه بعض المتحمسين أو المتسرعين ضربا من التساهل أو التهاون في تطهير الدولة من رواسب الفساد.

بل هذا ما حدث فعلاً من أقرب الناس إلى عمر بن عبد العزيز: من ابنه نفسه (عبد الملك بن عمر)، وكان من الشبان الأتقياء الصالحين، ولهذا لم تمكنه ثورة الشباب، ولا حرارة أهل التقوى، أن ينظر من الزاوية التي ينظر منها أبوه.

فهذا ابن الجوزي يقص علينا حوارا بين الابن الشاب وأبيه، حيث يريد الابن ألا ينام عن مظلوم حتى يؤتيه حقه، مع كثرة المظلومين حين ذاك.

       ولهذا يوقظه من نوم القيلولة ويقول له: ما يؤمنك في نومك وقد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها؟

ويرد الأب قائلاً:

       ” يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، وإني إن أتعبت نفسي وأعواني لم أك ذاك إلا قليلا، حتى أسقط ويسقطوا، وإني لأحتسب في نومي من الأجر مثل الذي احتسب في يقظتي ! إن الله جل شأنه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين، حتى استكن الإيمان في قلوبهم[27] “! وما أبلغه من رد ينطوي على أعمق الفهم وأوسعه لمنهج الإسلام.

       ويذكر الإمام الشاطبي في ” الموافقات ” موقفا شبيها بذلك، حيث قال الابن يوما لأبيه: مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق!

       قال عمر: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذم الخمر مرتين، وحرمها في الثالثة: وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة.[28]

       وكان له سياسة حكيمة في تنفيذ ما يهدف إليه من التمكين لقيم الدين.

       فيقول عمر: والله ما أستطيع أخرج لهم شيئا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا، أستلين به قلوبهم، خوفا أن ينخرق عليّ منهم ما لا طاقة لي به.[29]

8ـ الاعتراف بالضرورات والحاجات البشرية:

       ومما يقوم عليه فقه الأقليات: النظرة الواقعية لمشكلات الناس، لا النظرة المثالية، التي تحلق في أجواء حالمة، لا يستطيع الناس أن يطيروا إليها. وهذه النظرة هي التي تتفق مع خصائص هذه الشريعة، فهي من غير شك شريعة واقعية.

       ومن واقعية الشريعة: اعترافها بالضرورات التي تطرأ في حياة الناس، سواء أكانت ضرورات فردية أم جماعية، فجعلت لهذه الضرورات أحكامها الخاصة، وأباحت بها ما كان محظورا في حالة الاختيار من الأطعمة والأشربة والملبوسات والعقود والمعاملات، وأكثر من ذلك أنها نزلت (الحاجة) في بعض الأحيان ـ خاصة كانت أو عامة ـ منزلة (الضرورة) أيضا، تيسيرا على الأمة  ودفعا للحرج عنها.

       والأصل في ذلك ما جاء في القرآن الكريم عقب ذكر الأطعمة المحرمة في أربعة مواضع من القرآن الكريم رفع فيها الإثم عن متناولها مضطرا غير باغ ولا عاد..

       (فمـن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليـه، إن الله غفور رحيم) البقرة: 173

       وقد جاء في السنة الاعتراف بالحاجة، وتخفيف الأحكام من أجلها، مثل ما صح في الحديث، بعد تحريم لبس الحرير على الرجال: أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حكة بهما فأذن لهما بلبسه تقديرا لهذه الحاجة.

       ومن واقعية الشريعة: أنها أقرت بيعة الإمام المفضول مع وجود من هو أفضل منه، منعا للفوضى، وحفظا لمصالح الأمة.

       وأمرت بطاعة الأمراء وإن كان فيهم هنات وهنات، صيانة لوحدة الأمة أن تمزق، وحفظا للدماء أن تسفك في غير طائل ” إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان “، ولم تجز الخروج المسلح على الأمير الجائر أو الفاسق إذا ترتب على ذلك فتنة أكبر من بقائه، ارتكابا لأخف الضررين، وتجنبا لأعلى المفسدتين.

       وبهذا أقرت القعود عن إزالة المنكر إذا ترتب عليها منكر أكبر منه. والأصل في ذلك حديث عائشة الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم “.

       أي أنه راعى ظروف أهل مكة وحداثة عهدهم بالإسلام، وقربهم من الشرك، وخشي نفورهم إذا هدم الكعبة، وبناها من جديد، فترك ذلك لهذه المقاصد، ومن هذا الباب أقر الفقهاء  ” إمارة الغلب ” وإن كان الأصل في الإمارة هو الرضا، والاختيار بالشورى والبيعة.

       ومن كلام ابن القيم في ” إعلام الموقعين ” قال: إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا عن شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض، وولي الأمثل فالأمثل “.

       ونظير هذا: ” لو كان الفسق هو الغالب على أهل البلد وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له، لتعطلت الحقوق وضاعت، قبل شهادة الأمثل فالأمثل “.

       ونظير هذا: ” لو غلب الحرام والشبه حتى لم يجد الحلال المحض فإنه يتناول الأمثل فالأمثل “.

       ونظير هذا: ” لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو مال أو عرض وهن منفردات، بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس، قبل شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعا.

       ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ويعطل إقامة دينه في مثل هذه الصور أبدا، بل نبه الله على قبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة نزلت ولم ينسخها شيء البتة، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة، ولا اجتمعت الأمة على خلافه ولا يليق بالشريعة سواه، فإن الشريعة  شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أثناء تلك العقود شاهدان حران ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: نقبل شهادة النساء. حيث لا رجل، وينفذ حكم الفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عادل عالم، فكيف لا تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعضهم إذا خلا جمعهم عن مسلم؟[30]

 9ـ التحرر من الالتزام المذهبي:

       ومن الضروري في فقه الأقليات خاصة  ـ وفي الفقه المعاصر بصفة عامة ـ ألا يضيق المفتي المسلم على الناس بالتزام مذهب معين، لا يخرج عنه بحال، وإن كان فيه من التضييق على عباد الله ما فيه، وربما كان مأخذه ضعيفا، ودليله غير مُرْضٍ عند التحقيق.

       والأولى بالمفتي المعاصر: أن يخرج بالناس من سجن المذهبية الضيقة إلى باحة الشريعة الواسعة، بما فيها المذاهب المتبوعة، والمذاهب المنقرضة، وأقوال الأئمة الذين لم يعرف لهم مذهب يتبع، وهم جد كثيرين.

وفوق هؤلاء جميعا، أقوال علماء الصحابة، الذين هم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وهم شيوخ الجميع بلا منازع، وهم الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وربوا في حجر الرسالة، مع فطرة نقية، وأنفس زكية، وقلوب مشرقة بنور الإيمان، وفهم سليقي للغة العرب، فلا غرو أن يكونوا أقرب ممن بعدهم إلى الاهتداء إلى الحق والصواب، وإن لم يكونوا معصومين، فلا عصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

       إننا قد نرى بعض المذاهب تشدد في مسألة، على حين يخفف فيها مذهب آخر أو مذاهب أخرى. وبعضها يضيق في قضية غاية التضييق، وغيره يوسع فيها غاية التوسعة، وهذا يعطينا فرصة للموازنة والترجيح، واختيار ما هو أهدى سبيلا، وأرجح دليلا.

ومن هذه الأدلة المعتبرة: أن يكون الرأي أو المذهب إلى أدنى تحقيق مقاصد الشرع، ومصالح الخلق، فما قامت الشريعة إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد.

       وهنا يلزم الفقيه أو المفتي أو الباحث الشرعي، أن يسبح سبحا طويلا في آفاق الفقه، بمختلف مدارسه ومشاربه، ولا يقف عند الرأي السائد والشائع، فكم من آراء رشيدة مخبوءة في بطون الكتب لا يعلمها إلا القليلون، أو لعلها لا تعلم إلا بالبحث والتفتيش، وكم من آراء مهجورة، تستحق أن تشهر، وآراء ضعفت في زمنها، يجدر بها أن تقوى الآن، وكم من آراء  أهيل عليها التراب لأنها لم تجد من ينصرها ويدافع عنها، أو لأنها كانت سابقة لزمنها، فلعلها لم تكن صالحة لذلك الزمن، وهي صالحة لزماننا هذا.

       ولعل أبرز مثال لذلك: آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق ونحوه، فقد رفضها أكثر أهل عصره، واتهموه من أجلها بتهم شتى، وحاكمه علماء وقته، ودخل السجن أكثر من مرة من أجل آرائه هذه.

       والآن نرى كثيرين من علماء العصر يفتون بها، إذ يرون فيها إنقاذ الأسرة المسلمة من الانهيار بسبب كثرة إيقاع الطلاق، مع حرص الزوجين على بقاء العشرة.

       ولو أردت أن أضرب مثلا لذلك في موضوعنا، لوجدت أمثلة شتى.

     من ذلك: ما يتعرض له كثير من الذين يهديهم الله للإسلام، فيدخلون في دين الله، من الرجال والنساء، ثم يتوفى آباؤهم أو أمهاتهم، وقد تركوا وراءهم تركات كثيرا ما تكون كبيرة، فهل يسع المسلم والمسلمة أن يرث هذا المال من أبيه أو أمه؟ والقوانين تجعل له الحق في الميراث، وهو وأسرته في حاجة إليه، وإخوانه من المسلمين من حوله في حاجة إليه؟

       إن الذي يكتفي بالمذاهب الأربعة المشهورة عند أهل السنة، بل الذي يقرأ المذاهب السبعة أو الثمانية (بزيادة مذهب الجعفرية والزيدية والإباضية والظاهرية) يجد  أن اختلاف الدين مانع من موانع الميراث المشهورة، وهم يستندون في ذلك إلى الحديث المشهور ” لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم[31] ” والحديث الآخر:   ” لا يتوارث أهل ملتين[32] “.

       ولكن من يبحث خارج المذاهب الأربعة يجد قولا معتبرا بجواز توريث المسلم من الكافر، وهو رأي قال به بعض الصحابة والتابعين، فقد روي عن معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، من الصحابة، كما روي عن محمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسن، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله ابن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهوية.

       وقد رجح هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم ـ رحمهما الله ـ وهو ترجيح له وزنه وقيمته في عصرنا.[33]

       وأول أصحاب هذا القول (الكافر) في حديث ” لا يرث المسلم الكافر” أن المراد به (الكافر الحربي) مثل حمل طائفة من العلماء حديث “لا يقتل مسلم بكافر” على الكافر الحربي. قال ابن القيم: وحمله على الحربي هنا أول وأقرب محملا.

       ونجد المذاهب الثلاثة تشدد في نجاسة الكلب، في حين يخفف مالك في ذلك، ويرى أن كل حي طاهر، حتى الكلب والخنزير.

ويستدل مالك على طهارة الكلب بأن الله تعالى أباح صيده، كما في قوله تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم) المائدة: 4

       والقوم في بلاد الغرب مبتلون بالكلاب من حولهم في كل ناحية، فالقول بنجاستها يحرجهم في دينهم، ويضيق عليهم في دنياهم.

       ونجد المذاهب الثلاثة تشترط الولي للزواج، وتعتبر العقد باطلا بدونه، ويرى أبو حنيفة أن من حق المرأة البالغة الرشيدة أن تزوج نفسها، بشرط أن يكون الزوج كفئا لها. وهذا كثيرا ما يحتاج إليه في ديار الغرب.

       وقد قال الإمام بن قدامة في (المغني) بعد أن رجح اشتراط الولي في عقد النكاح: فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولِّي لعقده حاكما، لم يجز نقضه. لأنها مسألة مختلف فيها، يسوغ فيها الاجتهاد، فلم يجز نقض الحكم له، كما لو حكم بالشفعة للجار[34].

      ومثل ذلك إذا أسلمت الزوجة الكتابية ـ كالمسيحيات في الغرب ـ ولم يسلم زوجها معها، فالرأي السائد في المراجع الفقهية للمذاهب الأربعة، بل المذاهب الثمانية: أن الواجب هو التفريق بينها وبين زوجها، إما في الحال، أو بعد انقضاء العدة، أو بعد أن يعرض الإسلام على الزوج فيأبى.

      وهذا هو الذي يفتي به عامة العلماء في عصرنا في أوربا وغيرها، وهو لا شك يحدث مشكلة إذا كانت المرأة متعلقة بزوجها، ولم يسئ إليها، ولم يضق بإسلامها، وخصوصا إذا كان لها منه أولاد وذرية ضعاف.

      فإذا خرجنا عن دائرة المذاهب المتبوعة، ورجعنا إلى الفقه العام، وإلى آثار الصحابة وتابعيهم بإحسان، رأينا في الأمر سعة، لم نكن نتصورها، فقد ذكر المحقق ابن القيم في المسألة (تسعة أقول) وردت عن علماء الصحابة والتابعين، نقلتها المصادر الموثقة مثل مصنف عبد الرزاق،ومصنف ابن أبي شيبة،وشرح الآثار للطحاوي، وسنن البيهقي، وأمثالها.

      منها: ما يجعل للزوجة حق البقاء مع زوجها دون أن يعاشرها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم.

      ومنها: ما يخيرها بين تركه والإقامة معه.

      ومنها: ما يقرها على الإقامة معه، ما لم تخرج من مصرها.

      ومنها: ما يبقي نكاحهما على ما هو عليه، حتى يفرق بينهما سلطان.[35]

       وفي هذه الأقوال متسع ليختار منه الفقيه المعاصر ما يراه أرجح وأهدى، وأقرب إلى ترغيب النساء المتزوجات في الدخول في الإسلام، دون أن يخشين فراق من يحببن من الأزواج. وكذلك لا يخشين تشتيت الأولاد، بعد الفراق بين الأم والأب.

       وفي هذا كله من التيسير ما فيه، فلماذا نعسر ما يسره الله علينا، ونضيق على أنفسنا ـ بالتزام مذهب أو مذاهب معينة ـ وقد وسع الله لنا، وهو يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر.

       والحق أنه لا يلزمنا شيء إلا ما ألزمنا به الله ورسوله، وهما لم يلزمانا باتباع فلان أو علان من الناس، وإن عظمت منزلته في العلم والاجتهاد.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

[1] من هؤلاء الأستاذ مصطفى الزرقا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، و.د. سيد الدرش، والشيخ مناع القطان رحمهم الله، والشيخ عبد الله بن بية، والشيخ محمد العجلان، و.د. ناصر المبمان، والشيخ فيصل مولوي، و.د. عصام البشير، وعدد من الأخوة الذين يعملون في أوربا، والفقير إليه تعالى.

[2] الذي انتخب رئيسا لجمهورية الأرجنتين، وأصله مسلم، كما هو واضح من اسمه.

[3]رواه الترمذي عن أبي ذر (1987) وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد (5/153،158،177) والدارمي.

[4]رواه أبو داود (2645) عن جرير بن عبد الله وقال عقبه: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة، لم يذكروا جريرا. وقال المنذري: رواه الترمذي والنسائي. وذكر أبو داود: أن جماعة رووه مرسلا. وأخرجه الترمذي أيضا مرسلا، وقال هذا اصح. وذكر أن أكثر أصحاب إسماعيل ـ يعني ابن أبي خالد ـ لم يذكروا فيه جريرا. وذكر البخاري أنه قال: الصحيح مرسل، ولم يخرجه النسائي إلا مرسلا. انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري (3/437،438) برقم (2530) مطبوع مع معالم السنن للخطابي وتهذيب السنن لا بن القيم بتحقيق: الشيخين شاكر والفقي. ومع ذلك صححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود) برقم (2304)!

[5]رواه أبو داود (2787) عن سمرة بن جندب. وقال الشيخ الألباني في (الإرواء): سنده ضعيف. وله عن طريق أخرى أشد ضعفا منها، أخرجه الحاكم (2/141،142)وقال “صحيح على شرط البخاري”! ووافقه الذهبي في “التلخيص” ، ولكن وقع فيه “صحيح على شرط البخاري ومسلم”!

      وذلك من أوهامهما فإن فيه إسحاق بن إدريس وهو متهم بالكذب، وقد ترجمه الذهبي نفسه في ” الميزان” أسوأ ترجمة.

     وذكر له الشيخ الألباني شاهدا أخر رواه الحاكم، وذكر أن فيه روايا ليس بالقوي. انظر: إرواء الغليل (5/32،33)حديث رقم (1207) ومع ذلك صححه في (صحيح سنن أبي داود) برقم (2420)!

[6]رواه مسلم (2167) عن أبي هريرة.

[7] صح ذلك من حيث عبد الله بن الحارث، وأبي هريرة وأبي موسى والبراء وأبي الدرداء وابن عمر وعبد الله بن سلام وغيرهم. انظر: صحيح الجامع الصغير. الأحاديث: (1021) و (1089).

[8] أبرزها ما كتبناه في فصل (الجانب التشريعي في السنة) من كتابنا( السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) نشر دار الشروق بالقاهرة.

[9] انظر: ما كتبناه عن (المصلحة المرسلة) في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها). نشر مكتبة وهبة. بالقاهرة.

[10] رواه عن أبي هريرة أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة وصححه جمع من العلماء.

[11] انظر معالم هذا الاجتهاد في كتابنا (الاجتهاد قي الشريعة الإسلامية) وكتابنا (الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط).

[12] إعلام الموقعين (1/87،88) طبعة السعادة.

[13] متفق عليه عن أبي موسى، كما في اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (1130).

[14] متفق عليه عن أنس، المصدر السابق (1131).

[15] رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود. صحيح الجامع الصغير (7039).

[16] رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس صحيح الجامع الصغير (2680)

[17] حين قال له: ” إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا “. الحديث متفق عليه كما في اللؤلؤ والمرجان.

[18] متفق عليه عن أنس، كما في اللؤلؤ والمرجان (885).

[19] متفق عليه عن سعد. المصدر السابق (886).

[20] رواه البخاري وغيره.

[21] رواه البخاري وغيره.

[22] رواه أبو داود عن جابر ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس صحيح الجامع الصغير (4362) و (4363).

[23] رواه أبو نعيم في الحلية(6/367) وابن عبد البر في جامـع بيان العلم (ج2 ص26) وابن طـاهر في السماع ص 90 والنووي في مقدمة المجموع (1/42).

[24] انظر: أصول التشريع الإسلامي ـ للأستاذ علي حسب الله ص 84،85

[25] مجموعة رسائل ابن عابدين: ج2 ص125

[26] انظر: شرح العلامة زروق على ” الرسالة ” ج2 ص414 ط مطبعة الجمالية بمصر.

[27] ” سيرة عمر بن عبد العزيز ” لابن الجوزي ص106

[28] ” الموافقات ” للشاطبي: 2/94.

[29] ” سيرة عمر بن عبد العزيز ” لابن عبد الحكم ص 60.

[30] الفواكه العديدة في المسائل المفيدة ج2 ص 182،183 وانظر: كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية) ص123-125

[31] رواه الجماعة عن أسامة، كما في صحيح الجامع الصغير (7685).

[32] رواه الترمذي عن جابر، والنسائي والحاكم عن أسامة. المصدر السابق (7613).

[33] انظر: أحكام الذمة بتحقيق د. صبحي الصالح. نشر جامعة دمشق ج1 ص

[34] انظر: المغني لابن قدامة (9/346،347) تحقيق:  د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ود. عبد الله الفتاح محمد الحلو.

[35] انظر: أحكام أهل الذمة لابن القيم ج1 ص317 وما بعدها.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق