البحوث

قاعدة في التشبه

 

قاعدة في التشبه

 

د. عبد الله الجديع

 

مادَّةُ (شبه) تدلُّ على تَشابُهِ الشَّيْءِ وتَشاكُلِهِ لَوْناً وَوَصْفاً([1])، والشِّبْهُ: المِثْلُ، والمُشابَهَةُ: المماثَلَة، وأشْبَهَ فُلانٌ فُلاناً: ماثَلَهُ، وتَشبَّهَ بهِ: قَصَدَ إلى مُماثلَتِهِ، و(التَّشبيهُ) عندَ البلاغيينَ يقومُ على وجودِ العَلاقةِ بينَ المشبَّهِ والمشبَّهِ به، فلا يُقالُ: (فلانٌ شِبْهُ فُلانٍ) إلاَّ إذا وُجِدَ بينَهما معنى مُشتَرَكٌ حَقَّقَ المُشابَهَة، كقولِكَ: (فُلانٌ أَسَدٌ) بجامِعِ القوَّةِ أو الشَّجاعةِ، فحيثُ وجِدَ هذا المعنى في (فلان) فقدْ أشْبَهَ الأسَدَ فيه، لثُبوتِ ذاتِ هذه الصِّفةِ في الأسَدِ.

والشَّبَهُ بينَ الأشياءِ ثابِتٌ خِلقةً، كالشَّبَهِ بينَ الإنسانِ والحَيوانِ في الأكْلِ والشُّرْبِ والحركةِ والسُّكونِ والنَّومِ والإحساسِ وغيرِ ذلكَ، والاشتراكُ والتَّشابُهُ بينَ بَني آدَمَ في الصِّفاتِ الآدميَّةِ حاصِلٌ ضرورةً.

لكنَّ التَّشابُهَ بينَ الأشياءِ لا يُلْحِقُ بعْضَها ببعْضٍ من كُلِّ وجْهٍ، وإِلاَّ لَما أمكنَ التَّمييزُ بينَ إنسانٍ وحيوانٍ، وإنَّما الاعتبارُ في الفَصْلِ بينَ الأجناسِ بصِفاتِ الجِنْسِ القائمةِ بهِ والَّتي لا توجَدُ في غيرِهِ، وتلكَ الصِّفاتُ هي الفوارِقُ المميِّزةُ بينَ جِنْسٍ وآخَرَ.

ثُمَّ إنَّ تلكَ الفوارقَ منها ما هو ثابِتٌ خِلقَةً، كالصِّفاتِ المميِّزةِ لجِنْسِ الذُّكورِ عن الإناثِ بأصْلِ الخَلْقِ، كاختلاف الفَرْجَيْنِ، والأنثى تَحيضُ دونَ الذَّكَر، ومنها ما يتَّصِلُ بالكَسْبِ كالصِّفاتِ الَّتي يُصْطَلَحُ على أنَّها للذُّكورِ أو للإناثِ، كاللِّباسِ والهيئةِ.

وبتلكَ الفَوارِقِ تُعْرَفُ استقلاليَّةُ كُلٍّ من الجِنْسَيْنِ عن الآخَرِ، وإزالةُ الفارِقِ تعْنِي المشابَهَةَ في تلكَ الجُزئيَّةِ بينَ الجِنْسَينِ، لكنَّ النَّوعَ الأوَّلَ من الفَوارِقِ وهو الثَّابِتُ خِلْقةً لَمَّا كانَ الأصْلُ عدَمَ قُدرَةِ المكلَّفِ عليهِ خَرَجَ عن مَوضوعِ التَّشَبُّهِ إلاَّ بتَغْييرِ الْخِلْقَةِ، ولَيْسَ مَعْنِيًّا هُنا، وَيَنْحَصِرُ الحديثُ في النَّوعِ الثَّاني وهو الفَوارِقُ المكتَسَبةُ بِما اصْطُلِحَ عليهِ للتَّمْيِيزِ بينَ الجِنْسَيْنِ، فذلكَ هو المنْدَرِجُ تحتَ مقدورِ المكلَّفِ.

فإذا تحرَّرَ هذا؛ فإنَّ الفَوارِقَ إمَّا ثابتةٌ بالشَّرْعِ أو بالعُرْفِ.

فالثَّابتُ بالشَّرْعِ ما اختَّصَتْ بهِ شريعةُ الإسلامِ جِنْسَ المسلمينَ عن جِنْسِ الكُفَّارِ في العقائِدِ والعباداتِ والمعاملاتِ، كالتَّوحيدِ الَّذي فارَقوا به المشركينَ، والتَّعبُّدِ بشَرائعَ مخصوصةٍ كالصَّلواتِ الخَمْسِ وصومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ الحرامِ، والتَّعامُلِ في أبوابٍ على صفاتٍ مخصوصةٍ، كأحكامِ الميراثِ والنِّكاحِ والطَّلاقِ والبيوعِ وشرائع الحدودِ والقِصاصِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا ارتضاهُ الله عَزَّ وجَلَّ للمسلمينَ ديناً يستقلُّونَ بهِ وبشرائعِهِ عن سائرِ الأديانِ.

والثَّابتُ بالعُرْف ما اصطلَحَ عليهِ النَّاسُ من عادةٍ، كانتسابِهِمْ إلى بُلدانِهِمْ وقبائلهِمْ وشُعوبِهِمْ وصنائعِهِمْ وغيرِ ذلكَ، والتَّحدُّثِ بلغةٍ مخصوصةٍ، والتَّزيِّي بزِيٍّ مخصوصٍ.

وتمييزُ الفارقِ الشَّرعيِّ إنَّما يكونُ بمعرفةِ ما شَرَعَ الله وَرَسولُهُ صلى الله عليه وسلم من الشَّرائعِ، والتزامِ ذلكَ، فيحْصُلُ به الفَرْقُ بينَ أهْلِ الإسلامِ وغيرِهِمْ، وبمقدارِ ما يحقِّقُ المسلمُ من المتابعةِ لِما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم يكونُ تميُّزُهُ بدِينِهِ عن غيرِ أهْلِ ملَّتِهِ، وبمقدارِ ما يقعُ منه من الإخلالِ بتلكَ المتابعةِ يكونُ شَبَهُهُ بغيرِ أهْلِ ملَّتِهِ، لأنَّ ما وَقعَ به الخُروجُ عن شريعةِ الإسلامِ كانَ بهِ اللِّحاقُ بغيرِ أهْلِهِ، ولْنمثِّلْها بالمعاصِي كالزِّنا وشُرْبِ الخَمْرةِ وأكْلِ الرِّبا، فإنَّ الممتنِعَ عن ذلكَ بقصْدِ المتابعَةِ لِما جاءَ به الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم محقِّقٌّ في موضعِ امتناعِهِ الْمُفارَقةَ لسَبِيلِ غيرِ المؤمنينَ، والمواقعَ لذلكَ محقِّقٌّ للشَّبَهِ بغيرِ المؤمنينَ بمقدارِ ما حَصَلَ من جهتِهِ من الموافقةِ، فالعُصاةُ بارتكابِ المعاصِي فيهمْ شَبَهٌ بغيرِ المسلمينَ بالمقدارِ الَّذي وافَقوهُمْ فيه.

ويَقْوَى اعتبارُ الشَّبَهِ أو يَضْعُفُ بحَسَبِ درَجَةِ ما حَصَلَتْ فيه المشابهةُ في حُكْمِ الشَّرْعِ، إذ التَّكاليفُ مُنْقَسِمَةٌ على الأحكامِ الخَمْسَةِ: واجبٍ ومَندوبٍ ومحرَّمٍ ومَكروهٍ ومُباحٍ، ليسَ يخرُجُ شيءٌ من شرائعِ الدِّينِ عن ذلكَ، فالمشابهةُ بتركِ الواجِبِ أو فعْلِ المحرَّم أقوى منها في تركِ المندوبِ أو فعلِ المكروهِ، ويجبُ أن يتفرَّعَ القولُ في التَّشبُّهِ على صُورةِ تفرُّعِ الأحكامِ، فيُقالُ: التَّشبُّهُ بغيرِ أهْلِ الإسلامِ بفعلِ الحرامِ أو تركِ الواجِبِ محرَّمٌ، وبفعْلِ المكروهِ وتركِ المندوبِ مرغوبٌ عنه، وبفعلِ المباحِ مُباحٌ، ذلكَ أنَّ شرائعَ الإسلامِ قد استوعَبَتْ بيانَ الصِّفاتِ الَّتي تُميِّزُ شخصيَّةَ المسلِمِ، فيجِبُ الثَّباتُ عندَها.

وأمَّا الثَّابتُ بالعُرْف، فالحُكْمُ فيهِ يعودُ إلى تفصيلِ أنواعِ العُرْفِ: فهوَ إمَّا مُعتَبَرٌ في الشَّرْعِ، وإمَّا مُلغًى، وإمَّا مسكوتٌ عنه.

فَما اعتَبَرَهُ الشَّارِعُ من الأعرافِ والعاداتِ فلا يُسقِطُهُ وجودُهُ في غيرِ جِنْسِ المسلمينَ، كانتسابِ النَّاسِ إلى القبائِلِ والشُّعوبِ والصَّنائعِ وغيرِها، والكلامِ باللُّغاتِ، وإعفاءِ اللِّحيةِ وقَصِّ الشَّارِبِ، وغيرِ ذلكَ، فاشتراكُ النَّاسِ في تلكَ الأعرافِ لا يؤثِّرُ في الحُكْمِ لأنَّ شريعَةَ الإسلامِ قدْ اعتبَرَتْ ذلكَ.

وَما ألغاهُ الشَّارِعُ من تلكَ العاداتِ كأكْلِ الرِّبا، والطَّعْنِ في الأنسابِ، والنِّياحَةِ على الميِّتِ، ونحْوِ ذلكَ من فعْلِ الجاهليَّةِ أو أهْلِ الكتابِ ممَّا جاءَت شريعةُ الإسلامِ بنَقْضِهِ، فمُواقعتُهُ تشبُّهٌ مُعْتَبَرٌ بَمَنْ واقعَ ذلكَ من غيرِ المسلمينَ.

أمَّا ما سَكَتَ الشَّارِعُ عن اعتبارِهِ أو إلغائِهِ من العاداتِ والأحوالِ، فالحُكْمُ فيهِ مبنيٌّ على قاعدةِ (الأصْل في الأشياءِ الإباحَة)، فكُلُّ أعرافِ النَّاسِ وعاداتِهم وإن اشتَرَكَ فيها أهلُ المِللِ المختلفةِ مُباحَةٌ، لا يكونُ فعْلُها تشبُّهاً ممنوعاً ولا مذموماً.

وبهذا يعودُ الاعتبارُ في العُرْفِ إلى الشَّرْعِ أيضاً.

فالحاصِلُ من هذا: أنَّ الموافقةَ بينَ المسلمينَ وغيرِهمْ في صفةٍ من الصِّفاتِ لا تعْني التَّشبُّهَ الممنوعَ حتَّى تكونَ تلكَ الصِّفةُ مِمَّا منَعَ الله أو رسولُهُ صلى الله عليه وسلم من الاتِّصافِ بها مَنْعَ تَحْريمٍ أو كَراهَةٍ، فيكونُ حكمُها مُستفاداً بأصْلِهِ بوضْعِ الشَّارِعِ لا بمجرَّدِ مواقعةِ تلكَ الصِّفةِ، والتَّحسينُ والتَّقبيحُ الْمُلزِمانِ للمكلَّفينَ شَرعيَّانِ، فلا يمكِنُ العِلْمُ بذلكَ إلاَّ عن طريقِ الشَّرعِ.

وإذا تأمَّلْتَ ما ورَدَتْ بهِ عامَّةُ النُّصوصِ الآمرةِ بمخالفةِ المشركينَ وأهْلِ الكتابِ في كتابِ الله وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وجَدْتَها تعودُ إلى شِعارِهِمُ الَّذي يُميَّزونَ بهِ، وذلكَ جُزْءٌ من دينِهِمْ، ونحنُ ممنوعونَ من التَّشبُّهِ بهِمْ فيه إمَّا بالنَّصِّ صريحاً على إبطالِ ذلكَ لوقوعِهِ زمَنَ التَّشريعِ، كامتناعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من اتِّخاذِ البُوقِ والنَّاقوسِ للنِّداءِ للصَّلاةِ لأنَّهما من شِعارِ أهْلِ الكتابِ([2])، وإمَّا بالأصْلِ في أنَّ العباداتِ تَوقيفيَّةٌ، لا يُصارُ إليها إلَّا بإذْنٍ، فامتنَعَ فيها متابعَةُ غيرِ المسلمينَ.

وهذا ليسَ فيه شيءٌ من بابِ العُرْفِ والعادةِ المجرَّدةِ.

فلوْ كانَ من شِعارِهم الدِّينيِّ نوعٌ من اللِّباسِ كلِباسِ الرُّهبانِ الَّذي يكونُ على صفةٍ مخصوصةٍ يُعرَفونَ به، أو مُناسباتُهُم وأعيادُهُمْ، أو شِبْهُ ذلكَ مِمَّا يتَّصِلُ بأمْرٍ دينيٍّ فموافقتُهُمْ فيه تشبُّهٌ ممنوعٌ، لامتناعِ أصْلِهِ في شريعَةِ الإسلامِ.

وبهذا يتَّضِحُ أنَّ التَّشبُّهَ الممنوعَ لا يكونُ بمجرَّدِ وقوعِ المشابَهَةِ حتَّى يصحَّ في الكتابِ والسُّنَّةِ أنَّها مشابَهَةٌ ممنوعةٌ لِما تضمَّنتْ من فِعْلِ محرَّمٍ أو مَكروهٍ، أو زيادةٍ في الدِّينِ، أو تركِ واجِبٍ.

فاعْتَبِرْ ما تَراهُ من صُوَرِ المشابَهَةِ بهذا، فإنِ انتفى أن يكونَ ما وَقَعَتْ فيهِ المشابَهَةُ محرَّماً جاءَتْ شريعَةُ الإسلامِ بفَرْضِ تَرْكِهِ، أو مَكْروهاً أَمَرَتْ بِضِدِّهِ، أو شَأناً دينيًّا لم تَأْتِ شَريعَةُ الإسلامِ بالأمْرِ بهِ، أو تَرْكاً لواجِبٍ جاءَتْ شريعَةُ الإسلامِ بفَرْضِ فعْلِهِ، فتكونُ تلكَ المشابَهَةُ غيرَ ممنوعَةٍ.

ومن خِلالِ ما تقدَّمَ يتبيَّنُ أنَّ مجرَّدَ وقوعِ المشابَهَةِ الممنوعَةِ مَمنوعٌ في شريعَةِ الإسلامِ، سواءٌ أوَقعَتْ عن قَصْدٍ للمشابهةِ وهو التَّشبُّه، أم موافقةً مجرَّدةً لِما فيها من مُواقعةِ المحظورِ الشَّرعيِّ، لكنَّ التَّشبُّهَ أَغْلظُ في حكمِهِ وأعْظَمُ إثماً لِما اجتمعَ فيهِ من عَمَلِ القَلْبِ بالقَصْدِ إلى المُشابَهَةِ وعمَلِ الجارحةِ بالمواقَعَة.

وإذا تبيَّنَ هذا فإنَّ شريعَةَ الإسلامِ جاءَتْ بأصْلِ مَنْعِ التَّشبُّهِ بغيرِ المسلمينَ في نُصوصٍ كثيرةٍ في الكتابِ والسُّنَّةِ، وجميعُ ذلكَ مندرجٌ تحتَ ما تقدَّمَ تفصيلُهُ، لكنَّ كثيراً من النَّاسِ إذا تحدَّثَ عن ذلكَ قَصَرَهُ على أبوابٍ فرعيَّةٍ يعودُ أكثرُها إلى قَضايا اجتهاديَّةٍ، فتراهُ يُلْحِقُ كُلَّ صفةٍ أو فعلٍ يوجَدُ في غيرِ المسلمينَ مندرجاً تحتَ التَّشبُّهِ الَّذي منعَتْهُ الشَّريعَةُ، فيُحَرِّجُ على المسلمينَ الاستمتاعَ بالطَّيِّباتِ والمباحاتِ لعلَّةِ سَبْقِ الكفَّارِ إليها قبْلَ المسلمينَ، وأنَّ المسلمينَ أخذوها متأثِّرينَ بالكفَّارِ، وهذا في التَّحقيقِ معارَضٌ بِما تقدَّمَ من التَّفصيلِ، ومُعارَضٌ بالأدلَّةِ القواطِعِ الَّتي جعَلَت الأصْلَ في الأشياءِ الإباحةَ لأهْلِ الإسلامِ إلاَّ ما جاءَ البُرهانُ باستثنائِهِ من عُمومِ هذا الأصْلِ، قال الله عَزَّ وجلَّ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]، فالإباحَةُ هي الأصْلُ، والمُحرَّماتُ محصورةٌ، ولا يحِلُّ أن تُعْكَسَ الأصولُ فيدخُلَ الحَرَجُ ويَضِيقَ الواسِعُ.

وهذا التَّأصِيلُ الَّذي ذكرْتُهُ في مَعنى التَّشبُّهِ يَقْضِي على الاستدلالِ بعُمُوماتٍ ونُصوصٍ مُجْمَلاتٍ منَعَتْ من التَّشبُّهِ، كالحديثِ المشْهُورِ: “مَنْ تَشبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ”([3]).

حكم مخالفة غير المسلمين في الأشكال والمظاهر

تقدم أن مِن أَعْظَمِ مقاصِدِ هذا الدِّينِ مُخالَفَةَ سَبيلِ المُجرِمينَ والكافِرينَ، والأصْلُ فيهِ أنَّ تحقيقَ تلكَ المُخالَفَةِ حاصِلٌ بمُفارَقَةِ دينِهِم إلى دينِ الإسْلامِ، وذلكَ بنَبْذِ عقائدِهِمْ كالشِّرْكِ والكُفْرِ، وأخْلاقِهِم الخارِجَةِ عَن منهَجِ العَدْلِ كالظُّلْمِ والمعاصي والفَسادِ، لكنَّ الشَّريعَةَ لم تَقْتَصِرْ منهُ على ذلكَ؛ بل قَصَدَت إلى أن تكونَ المُفاصَلَةُ تامَّةً مِن كُلِّ وَجْهٍ، لا تَقْتَصِرُ على المُفارَقَةِ بالشُّعورِ والإيمانِ، بل حتَّى في العَلاماتِ البارِزَةِ والسِّماتِ الظَّاهِرَةِ ما كانَ مِنْ خَصائِصِ الكافِريِنَ، ليُعْرَفَ بذلكَ كونُ هذا الإنْسانِ مِنَ المُسلمينَ أو مِنَ غَيْرِهم، وفي هذا من المصالحِ شيءٌ كثيرٌ:

أعظَمُهُ ما يورِثُهُ في قَلْبِ المُسْلِمِ مِنَ الاعْتِزازِ بدينِهِ وحُبِّهِ وحُبِّ أهْلِهِ، بِخِلافِ ما تؤثِّرُهُ صِفَةُ المشابَهَةِ لغيرِ المسْلِمِ، فإنَّ ذلكَ يورِثُ امْتِزاجاً وَاختِلاطاً، حيثُ إنَّ الفارِقَ الظَّاهِرَ بمنزلةِ الحُدودِ، فإزالَةُ تلكَ الحُدودِ تعني التَّداخُلَ والاشْتِراكَ وإسْقاطَ سِمَةِ الاسْتِقْلالِ، ومِن ثَمَّ فقَد تَصيرُ إلى التَّساوي بينَ الشَّخصيَّتينِ مِن كُلِّ وَجْهٍ، وتأثيرُ القُرْبِ والاشْتِراكِ لا يخفى، فإنَّه يَصيرُ بالإنسانِ مِنَ الموافَقَةِ في الشَّيْءِ إلى الموافَقَةِ في غيرِهِ، وإنَّما يتآلَفُ النَّاسُ فيما بينَهُم بمقدارِ ما يحْصُلُ بينَهُم مِنَ التَّوافُقِ في الأحوالِ والأفعالِ، والأُلْفَةُ تورِثُ الرِّضا، والرِّضا يورِثُ المودَّةَ، والمودَّةُ عَمَلُ القَلْبِ، فتأمَّل كيفَ تَصيرُ الموافَقَةُ في الظَّاهِرِ إلى الموافَقَةِ في الباطِنِ، وهِيَ إن لم تَنْتَهِ بصاحِبِها إلى موافَقَةِ سَبيلِ الكافرينَ مِن كُلِّ وَجْهٍ، فإنَّهُ لا يخْلو مِن اللِّحاقِ بهِم مِن بَعْضِ الوُجوهِ، وكَفى بذلكَ محذوراً.

ومِن مصالحِهِ أن يَعْرِفَ بهِ المُسْلِمُ أخاهُ، وهُوَ مطلوبٌ في الشَّرْعِ لِما يُحقِّقُ من امْتِثالِ أوامِرِه في الحُقوقِ بينَ المُسلمينَ، كالسَّلامِ عليهِ إذا لَقِيَهُ، وتَشميتِهِ إذا عَطَسَ، ونُصْرَتِهِ إذا ظُلِمَ، فهذه وشِبْهُها حُقوقٌ لا تتوقَّفُ على سَبْقِ مَعرِفَةٍ بهِ، وإنَّما تَثْبُتُ لهُ بالعَلامَةِ الظَّاهِرَةِ.

فَمن أجْلِ ما في التَّميُّزِ في الصُّورَةِ والهيئَةِ مِن المصالحِ المقصودَةِ في الإسْلامِ، جاءَتِ الشَّريعَةُ باعتبارِ مُخالَفَةِ الكُفَّارِ فيها حتَّى معَ اختِلافِ القَصْدِ في فِعْلِ تلكَ الهيئَةِ بينَ قَصْدِ المُسْلِمِ وقَصْدِ الكافِرِ، كما في حالِ الإمامِ يُصلِّي قاعِداً والنَّاسُ خَلْفهُ قِيامٌ، كما جاءَ في حَديثِ جابِرِ بنِ عَبْدِاللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُما، قالَ:

رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَساً بالمدينَةِ، فَصَرَعَهُ على جِذْمِ نَخْلَةٍ([4])، فانْفَكَّت قَدَمُهُ، فأتَيْناهُ نَعودُهُ، فوجَدْناهُ في مَشْرُبَةٍ([5]) لعائِشَةَ يُسَبِّحُ([6]) جالِساً، قالَ: فَقُمْنا خَلْفَهُ، فَسَكَتَ عَنَّا، ثُمَّ أَتَيْناهُ مَرَّةً أُخْرى نَعودُهُ، فَصَلَّى المكتوبَةَ جالِساً فَقُمْنا خَلْفَهُ، فأشارَ إلينا فَقَعَدْنا، قالَ: فلمَّا قَضى الصَّلاةَ قالَ: “إذا صَلَّى الإمامُ جالِساً فَصَلُّوا جُلوساً، وإذا صَلَّى الإمامُ قائماً فَصَلُّوا قِياماً، وَلا تَفْعَلُوا كَما يَفْعَلُ أهْلُ فارِسَ بعُظَمائِها”([7]).

فَهذا أمْرٌ لَهُم بالمُخالَفَةِ معَ أنَّها صُورَةٌ مُجرَّدَةٌ عَنِ القَصْدِ إلى المشابَهَةِ، إذِ القَصْدُ ههُنا عنْدَ الْمُصلِّي تعظيمُ ربِّهِ لا تعْظيمُ إمامِ صَلاتِهِ، بِخِلافِ قيامِ الفُرْسِ على رُءوسِ مُلوكِها.

نَعَمْ، الأمْرُ بالْمُخالَفَةِ في الصُّورَةِ قَد لا يكونُ واجِباً حينَ يَنتفي القَصْدُ كما في هذه المسألَةِ على ما سيأتي، لكن فيهِ الدَّلالةُ الواضِحَةُ على إرادَةِ هذه الشَّريعَةِ ترْكَ صِفاتِهِم وأحوالِهِم ومُخالَفَتَهُمْ فيها وإنْ كانَ ذلكَ في مُجرَّدِ الصُّورَةِ؛ إشْعاراً للمُسْلِمِ بضَرورةِ استِقْلالِهِ في شخصيَّتِهِ مِن كُلِّ وَجْهٍ، حتى في مجرد الهيئةِ.

مِن هذا يتبيَّنُ أنَّ مُشابَهَةَ الكُفَّارِ في الهيئَةِ والصُّورَةِ فِي خَصائصِهِمْ على درجَتَيْنِ:

الأولى: مُشابَهَةٌ مقترِنَةٌ بالقَصْدِ، فهذا التَّشبُّهُ بهِمْ، وهِيَ مُحرَّمَةٌ، لدَلَالَةِ قوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم”([8]).

والتَّشبُّهُ: تَفعُّلٌ، وهُوَ دالٌّ بنَفْسِهِ على إرادَةِ الفِعْلِ والقَصْدِ إليهِ، بل وتكلُّفِهِ، كما يُقالُ: (تشجُّعٌ، وتحمُّلٌ، وتفقُّهٌ)، فهذا وشِبْهُهُ قَصْدٌ إلى الفِعْلِ معَ مُعاناتِهِ وبَذْلِ الجُهْدِ فيهِ.

قالَ شيخُ الإسْلامِ ابنُ تيميَّةَ في تفسيرِ هذا اللَّفْظِ: “يعمُّ مَن فَعَلَ الشَّيءَ لأجْلِ أنَّهم فَعَلوهُ”([9]).

والثَّانيةُ: مشابَهَةٌ مُجرَّدَةٌ عَنِ القَصْدِ، فهذه لا تُسمَّى تَشبُّهاً؛ لانتِفاءِ إرادَةِ ذلكَ، لكن لما صيَّرَتِ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ موافِقَةً لصورَةِ غيرِ المُسْلِمِ في ذلكَ الفِعْلِ أو تِلْكَ الهيئَةِ المختَصَّةِ بِهِ، كانَت مكروهَةً مطلوباً فِعْلُ خِلافِها، ولا تَرقى إلى دَرَجَةِ التَّحريمِ.

قالَ ابنُ تيميَّةَ: “فأمَّا مَن يَفْعَلُ الشَّيءَ واتَّفَقَ أنَّ الغَيْرَ فَعَلَهُ أيْضاً ولم يأخُذْهُ أحدُهُما عَنْ صاحِبِهِ ففي كَوْنِ هذا تشبُّهاً نَظَرٌ، لكِن قَدْ يُنْهَى عنْ هذا لئَلاَّ يكونَ ذَريعَةً إلى التَّشبُّهِ، ولِما فيهِ مِنَ المُخالَفَةِ”([10]).

ولهذه نماذِجُ كثيرةٌ، منها:

1 –  صَبْغُ الشَّيْبِ.

فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: “إنَّ اليَهُودَ والنَّصارى لا يَصْبُغُونَ؛ فخالِفوهُمْ”([11]).

وفي رِوايةٍ: “غَيِّروا الشَّيْبَ، وَلا تَشَبَّهُوا باليَهودِ وَلا بالنَّصارى”([12]).

والشَّيْبُ صُورةٌ وهَيْئَةٌ ليسَ للإنْسانِ فِعْلٌ في كَسْبِها، لِذا فلا يقَعُ التَّشبُّهُ بأهْلِ الكِتابِ بمجرَّدِ وُجودِه، لكن حينَ أرادَت الشَّريعَةُ كمالَ التَّميُّزِ لشخصيَّةِ المسلمِ عَنْ غَيْرِهِ جاءَ الأمْرُ بذلكَ لتحقيقِ هذا المطلوبِ.

وفي هذا تنبيهٌ للمُسْلِمِ على أنَّ المُخالَفَةَ في الصُّورَةِ حينَ أُمِرَ بها فيما ليسَ للإنْسانِ فِعْلٌ فيهِ كالشَّيْبِ، يتناوَلُ بطريقِ الأولى الأمْرَ بالمُخالفَةِ لهُمْ فيما يكونُ للإنْسانِ فِعْلٌ فيهِ.

وهذا التَّغييرُ المأمورُ بهِ في هذا الحديثِ إنَّما هُوَ على سَبيلِ كراهَةِ وقوعِ الشَّبَهِ لهُم في الصُّورَةِ، لا على سبيلِ الإلْزامِ بالمُخالَفَةِ، والقَرينَةُ الصَّارِفَةُ عن إرادَةِ الإلْزامِ هيَ مُراعاةُ المعنى الَّذي أُمِرَ بالمخالَفَةِ في هذه الصُّورَةِ لأجْلِهِ.

ولِذلكَ جاءَ النَّقْلُ عَنْ أصْحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُم كانُوا يصبُغونَ ويَترُكونَ، ولو كانَ الصَّبْغُ لازِماً لوَجَبَتِ المواظَبَةُ عليهِ، كذلكَ جاءَ الفِعْلُ والتَّرْكُ عَنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ، كما جاءَ فعْلُهُ عنْ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ وعُثْمانَ بنِ عَفَّانَ وأبي هُرَيْرَةَ وابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهِمْ، وتَرْكُهُ عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِاللَّهِ وأبي ذَرٍّ الغِفاريِّ والسَّائِبِ بنِ يزيدَ([13])، ولَوْ كانَ الأمْرُ عندَهُم في هذا على الوُجوبِ لما ترخَّصوا في تركِهِ.

2 – فَرْقُ الشَّعرِ.

فعَنِ ابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَسْدِلُ شَعْرَهُ، وكانَ المُشرِكونَ يَفْرُقونَ رءوسَهُمْ، فكانَ أهْلُ الكِتابِ يَسْدِلونَ رُءوسَهُمْ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوافَقَةَ أَهْلِ الكِتابِ فيما لم يُؤمَرْ فيهِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رأْسَهُ([14]).

وسَدْلُ الشَّعْرِ: إرْسالُهُ، تنزِلُ أطرافُهُ كيفَما اتَّفَقَ، وفَرْقُهُ: فَصْلُهُ في وَسَطِ الرَّأسِ مِن جِهَةِ مُقدَّمِهِ نِصْفَينِ نِصفاً ذاتَ اليَمينِ ونِصْفاً ذاتَ الشِّمالِ.

كانَ هَدْيُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوَّلاً مُخالَفَةَ المشركينَ فيما كانوا يصْنَعونَ في تَرجيلهِمْ شُعورَهُم، وهذه المُخالَفَةُ كانَت تَقَعُ بها الموافَقَةُ لأهْلِ الكِتابِ، فلمَّا ثابَ النَّاسُ إلى الإسْلامِ ولم يَبْقَ في المدينَةِ مِن جِنْسِ غيرِ المسلمينَ إلاَّ اليَهودُ صارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى مُخالفتِهمْ في هذه الصُّورَةِ.

قالَ الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ: “وكأنَّ السِّرَّ في ذلكَ أنَّ أهْلَ الأوْثانِ أبْعَدُ عَنِ الإيمانِ مِن أهْلِ الكِتابِ، ولأنَّ أهْلَ الكِتابِ يتمسَّكونَ بشَريعَةٍ في الجُملَةِ، فكانَ يُحِبُّ مُوافَقَتَهُم ليتألَّفَهُم ولوْ أدَّت مُوافَقَتُهُمْ إلى مُخالَفَةِ أهْلِ الأوْثانِ، فلمَّا أسْلَمَ أهْلُ الأوثانِ الَّذينَ معَهُ والَّذينَ حَوْلَهُ واسْتَمرَّ أهْلُ الكِتابِ على كُفْرِهِمْ تمحَّضَتِ المُخالَفَةُ لأهْلِ الكِتابِ”([15]).

فهذه المُخالَفَةُ مأمورٌ بها بعُمومِ النُّصوصِ الآمِرَةِ بالمُخالَفَةِ، لكنَّ الأمْرَ بها على سَبيلِ النَّدْبِ لا على سَبيلِ الوُجوبِ، ولم يُعْرَفِ القوْلُ بوُجوبِها عَن أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، وإنَّما كانوا يستحبُّونَها([16]).

3 – الصَّلاةُ في النِّعالِ.

فعَنْ شَدَّادِ بنِ أوْسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنْهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “خالِفوا اليَهودَ، فإنَّهُم لا يُصلُّونَ في نِعالِهِمْ وَلا خِفافِهِمْ”([17]).

هذا أمْرٌ بالمُخالَفَةِ في هيئَةٍ ظاهِرَةٍ، هي أنَّ اليهودَ لا يُصَلُّونَ في النِّعالِ والخِفافِ، وكأنَّهُم يَرْجِعونَ فيهِ إلى قوْلِهِ تعالى لموسى عليهِ السَّلامُ: {فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]، فأمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمُخالَفَتِهِمْ في هذه الصُّورَةِ، والوَجْهُ المُدْرَكُ من هذا الأمْرِ مُجرَّدُ المُخالَفَةِ.

وهذا حُكْمٌ على سَبيلِ الاستِحْبابِ لا على سَبيلِ الوُجوبِ، وذلكَ بقرائِنَ صَريحَةٍ، مِنها قوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: “إذا صَلَّى أحدُكُم فخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلا يُؤذِ بهِما أحَداً، ليَجْعَلْهُما بينَ رِجْلَيْهِ، أو ليُصَلِّ فيهِما”([18]).

فهذا التَّخييرُ دَليلٌ على أنَّ المُخالَفَةَ ليْسَتْ واجِبَةً.

4 – أكْلَةُ السَّحَرِ.

فعَنْ عَمْرِو بنِ العاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: “فَصْلُ ما بَيْنَ صِيامِنا وَصِيامِ أَهْلِ الكِتابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ”([19]).

فهذهِ الصُّورَةُ مِنَ العَمَلِ مطلوبَةٌ محبوبَةٌ ليْسَتْ بواجِبَةٍ، فلو لم يتسحَّرْ مَن يُريدُ الصَّوْمَ لم يأثَمْ، والأكْلُ والشُّرْبُ بابُهُما الإباحَةُ، يُسْتَحبَّانِ للتَّقوِّي عَلى العِبادَةِ، والأمْرُ في النَّدْبِ لا يخفى في هذِهِ المسألةِ فلا يحتاجُ إلى تكلُّفِ الاسْتِدْلالِ.

إذَن هذا وجْهٌ مِنَ المُخالَفَةِ لأهْلِ الكِتابِ ليسَ بواجِبٍ.

وهكذا لوْ تأمَّلْتَ جميعَ ما وَرَدَ في هذا البابِ مِمَّا يؤمَرُ فيهِ بالمُخالَفَةِ الصُّوريَّةِ الظَّاهريَّةِ لا تَجِدُ فيهِ شيئاً يَجِبُ فعْلُهُ أو تركُهُ لمجرَّدِ علَّةِ المُخالَفَةِ، وإنَّما قدْ يكونُ تَرْكُ الشَّيْءِ واجِباً لسَبَبٍ آخَرَ غيرِ المُخالَفَةِ، معَ حُصولِ المُخالَفَةِ بامتِثالِهِ، مِثْلُ تحريمِ اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ، والأكْلِ والشُّرْبِ في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولُبْسِ الحَرِيرِ، وتَحرِّي الصَّلاةِ عنْدَ طُلوعِ الشَّمْسِ وعِنْدَ غُروبِها.

فهذِهِ الأمورُ أمَرَ الشَّارِعُ أن يُفْعَلَ فيها بخِلافِ فِعْلِ الكُفَّارِ، ومُخالَفَتُهُم فيها واجِبَةٌ، لكنَّ المنْعَ منها لم يكُن لمجرَّدِ المُخالَفَةِ لهُم كَما لا يخفى على مَن تبصَّرَ في الأدلَّةِ الوارِدَةِ فيها.

أمَّا ما لم يَرِدْ له مِنَ التَّعليلِ إلاَّ المُخالَفَةُ المُجرَّدَةُ كما في الأمثلةِ المتقدِّمَةِ، فإنَّ الأمْرَ فيهِ لا يزيدُ على النَّدْبِ، وما كانَ كذلكَ كانَ غايَةُ فِعْلِ ضِدِّهِ مكروهاً، إلاَّ أن يَتقصَّدَ الإنْسانُ مُشابَهَةَ الكُفَّارِ فتَصيرَ المُشابَهَةُ مُحرَّمَةً لاندِراجِها تحتَ (التَّشبُّهِ)، وتقدَّمَ بيانُ حُرْمَتِهِ.

ومن أبرز ما يُذْكَرُ في سِياقِ هذِهِ القَضِيَّةِ، أنك إذا جئتَ إلى تقريرِ حُكْمِ مُخالَفَةِ الكُفَّارِ في قَصِّ الشَّارِبِ وإعْفاءِ اللِّحيَةِ على ضَوْءِ ما تقدَّمَ، فإنَّه مثالٌ يندرجُ تحْتَ الدَّرجَةِ الثَّانيةِ للمُشابَهةِ، وهيَ الكَراهَةُ، فإذا كانَ المأمورُ بهِ لأجْلِ المُخالَفَةِ قَصَّ الشَّارِبِ وإعْفاءَ اللِّحْيَةِ، ففعْلُ ضِدِّ ذلكَ مِن غيرِ قَصْدِ مُشابَهَةِ الكُفَّارِ مكروهٌ، فإذا اقتَرَنَ بقَصْدِ المُشابَهَةِ وهُوَ أمرٌ محلُّهُ القَلْبُ، فيكونُ حينئذٍ مِنَ التَّشبُّهِ المُحرَّمِ.

أمَّا دلالةُ صيغَةِ الأمْرِ بإعْفاءِ اللِّحى وقَصِّ الشَّوارِبِ فَلا تُسْتَشْكَلُ، إذ صيغةُ الأمْرِ تكونُ للنَّدْبِ كما تكونُ للوُجوبِ، نَعَمْ، الأصْلُ فيها الوُجوبُ وتَصيرُ إلى النَّدْبِ بالقَرينَةِ، وههُنا حينَ جاءَتِ الأدلَّةُ الآمِرَةُ بالمُخالَفَةِ مُفرِّقَةً بينَ مُجرَّدِ المُخالَفَةِ فلم تكُن على سَبيلِ الإلْزامِ، ومعَ التَّشبُّهِ فجعَلَتْهُ على سَبيلِ الإلْزامِ؛ وجَبَ المصيرُ إلى ما دلَّت عليهِ مِنَ التَّفصيلِ، وقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا هُوَ وارِدٌ في هذه المسألة أنَّ الأمْرَ بالمُخالَفَةِ هُوَ المقصودُ في الأحاديثِ وليسَ مُجرَّدَ إعْفاءِ اللِّحيَةِ وقَصِّ الشَّارِبِ، فلا يصلُحُ بعْدَهُ التَّعلُّقُ بالأمْرِ بالإعْفاءِ والقَصِّ مُجرَّدينِ عَنِ السَّبَبِ فيهِما.

وإضافةً إلى ما تقدَّم مِنْ أنَّ الأمْرَ بالمُخالَفَةِ في الصُّورَةِ لا يكونُ للوُجوبِ إذا لم يَقْصِدْ صاحِبُهُ التَّشبُّهَ، فإنَّه جاءَت قَرينةٌ قويَّةٌ مُتَّصلةٌ بحَديثِ الأمْرِ بتوفيرِ اللِّحيَةِ وقَصِّ الشَّارِبِ؛ دلَّتْ على أنَّه ليْسَ للوُجوبِ، وذلكَ سِياقُ حديثِ أبي أُمامَةَ الباهِليِّ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، فإنَّه قالَ:

خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على مَشْيَخَةٍ مِنَ الأنْصارِ بِيضٌ لِحاهُمْ، فقالَ: “يا مَعْشَرَ الأنْصارِ، حَمِّروا وَصَفِّروا، وَخالِفوا أَهْلَ الكِتابِ”، فقُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ الكِتابِ يَتَسَرْوَلُونَ وَلا يَأْتَزِرونَ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “تَسَرْوَلُوا وَائتَزِروا، وَخالِفوا أَهْلَ الكِتابِ”، قالَ: فَقُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ الكِتابِ يتَخَفَّفونَ وَلا يَنْتَعِلُونَ؟ فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “فَتَخَفَّفُوا وَانْتَعِلُوا؛ وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ”، قالَ: فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَهْلَ الكِتابِ يَقُصُّونَ عَثانِينَهُمْ، وَيُوَفِّرونَ سِبالَهُمْ؟ قالَ: فَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “قُصُّوا سِبالَكُمْ، وَوَفِّروا عَثانينَكُمْ، وَخالِفُوا أَهْلَ الكِتابِ”([20]).

العُثْنونُ: اللِّحيَةُ([21])، والسِّبالُ: جَمْعُ سَبَلَة، وهيَ الشَّارِبُ([22]).

وهذا الحديثُ جاءَ فيهِ الأمْرُ بأرْبَعَةِ أشياءَ اجتَمَعَتْ جميعُها في علَّةٍ واحِدَةٍ هي مُخالَفَةُ أهْلِ الكِتابِ، ويَشْبَهُ أن تكونَ الأمورُ الأربعَةُ المذكورَةُ فيهِ سِوى الأوَّلِ حَصَلَتِ اتِّفاقاً، فإنَّهُم حينَ نُدِبوا إلى صَبْغِ الشَّيْبِ مخالَفَةً لأهْلِ الكِتابِ، سألوهُ بعْدَه عَن أشْياءَ رأوا فيها بعْضَ هَدْي أهْلِ الكِتابِ، فكانُوا لا يذكُرونَ لهُ شيئاً منها إلاَّ نَدَبَهُم إلى فِعْلِ ما تحصُلُ بهِ مُخالَفتُهُم فيهِ، ولو زادوا على ما سألوهُ عَنْهُ مِمَّا كانوا يرَوْنَهُ مِن حالِ أهْلِ الكِتابِ لأُمِروا فيهِ بالمُخالَفَةِ؛ لأنَّها هي المعنى المقصودُ في كُلِّ ذلكَ، أمَّا الشَّأنُ في هذه المذكوراتِ:

1 – فصَبْغُ الشَّيْبِ، تقدَّمَ أنَّه مندوبٌ.

2 – ولُبْسُ الأزُرِ والسَّراويلِ فكذلكَ، وليسَ المقصودُ الجَمْعَ بينَهُما، إنَّما حينَ كانَ أهْلُ الكِتابِ لا يلبَسونَ الأزُرَ ويقتَصِرونَ على لُبْسِ السَّراويلِ، أُمِرَ بأن يُفْعَلَ هذا وهذا خِلافاً لَهُمْ، فالمُخالَفَةُ لَهُم بتَنويعِ اللُّبْسِ، فتارةً يكونُ السَّراويلَ وتارةً الإزارَ.

ولا يقولُ أحَدٌ: إنَّ لُبْسَ الإزارِ واجِبٌ ولوْ مرَّةً في العُمُرِ لتَحْقيقِ المُخالَفَةِ، بل لو تَرَكَ إنْسانٌ لُبْسَ الإزارِ حياتَهُ لم يكُن عليهِ مِن بأسٍ، خُصوصاً إذا لم يكُن مِن عادَةِ قوْمِهِ، وإنَّما كانَ الإزارُ غالِبَ لِباسِ رجالِ العَرَبِ قَبْلَ الإسْلامِ وبعْدَهُ، وكانَتِ السَّراويلُ قليلةً لا تَكادُ تُذْكَرُ في الأخبارِ إلاَّ نادِرةً؛ لأنَّها لم تكُن مِن زِيِّ العَرَبِ، وقدْ أَذِنَت فيها الشَّريعَةُ في عِدَّةِ نُصوصٍ، وهِيَ أسْتَرُ للعَوْرَةِ مِنَ الأزُرِ؛ لذلكَ استَحبَّها بعْضُ أهْلِ العِلْمِ، كما ذكَرْتُ بعْضَ ذلكَ في كتابي في “العوراتِ”.

وإن صحَّ لنوْعٍ مِن اللِّباسِ ادِّعاءُ فَضيلةٍ مَنصوصَةٍ، فإنَّها جاءَتْ في القَميصِ والحِبَرَة، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنْها، قالَتْ: كانَ أحَبُّ الثِّيابِ إلى رَسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم القَميصَ([23]).

وعَنْ أَنَسِ بنِ مالكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قالَ: كانَ أحَبُّ الثِّيابِ إلى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يَلْبَسَها الحِبَرَةَ([24]).

3 – والتَّخفُّفُ والانْتِعالُ، فجميعُهُ سائِغٌ، وكُلُّ ذلكَ تواتَرَ فِعْلُهُ عنْدَ أصْحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زمَنَ التَّشريعِ، لَبِسوا الخُفَّ كما لَبِسوا النِّعالَ، والمعنى فيهِ: تخفَّفوا تارةً وانْتَعِلوا تارةً لتحقيقِ مُخالَفَةِ أهْلِ الكِتابِ الَّذينَ لا ينتَعِلونَ.

وهذا كسابِقِهِ في أن يخْتارَ المُسْلِمُ مِنْهُ ما تيسَّرَ لَهُ، وإن قَصَدَ أن يَفْعَلَ الشَّيْءَ من ذلكَ ليُخالِفَ أهْلَ الكِتابِ فَحَسَنٌ.

4 – وأمَّا رابِعُها وهو توفير اللحية وقص الشارب، فإنَّه مِن نَفْسِ بابِ ما جاءَ في سِياقِهِ نَدْباً واسْتِحْباباً، فيَفْعَلُ المسلِمُ خِلافَ ما يفْعَلُهُ أهْلُ الكِتابِ: يقصُّ شارِبَهُ، ويُوفِّرُ لِحْيَتَهُ، يَقْصِدُ بذلكَ مُخالَفَتَهُم.

هذه الأوامِرُ جَميعاً خرَجَتْ مخرَجاً واحِداً لِعِلَّةٍ واحِدَةٍ، فلا يجوزُ التَّفريقُ بينَ دلائِلِها، فلا يَصحُّ مَثَلاً أن يُقالُ: الأمْرُ بالمُخالَفَةِ في صَبْغِ الشَّيْبِ ولُبْسِ الأزُرِ والانْتِعالِ مندوبٌ، وفي قَصِّ الشَّارِبِ وإِعْفاءِ اللِّحْيَةِ واجِبٌ، أو في جميعِها مندوبٌ إلاَّ في اللِّحْيَة فواجِبٌ، إلاَّ أن يَرِدَ في دَليلٍ آخَرَ ما يُفرِّقُ بينَها.

ويَتَّجِهُ لقائِلٍ هُنا أن يقولَ: صَبْغُ الشَّيْبِ في هذا الحديثِ جاءَ الأمْرُ النَّبويُّ فيه ابتِداءً دونَ سؤالٍ، وهذا يدلُّ على أنَّه آكَدٌ مِنْ غيرِهِ مِمَّا ذُكِرَ في الحَديثِ.

ولَهُ أن يقولَ: توفيرُ اللِّحيَةِ جاءَ فيهِ حَديثانِ آخَرانِ صَحيحانِ، هُما حديثا ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَة يأمُرانِ به مُخالَفَةً لغيرِ المسلمينَ، يَزيدانِ في تأكيدِ حُكْمِهِ.

وأقولُ: هذا أيضاً متَّجهٌ.

لكن لا يتَّجِهُ لهُ القوْلُ: الحديثانِ الآخَرانِ نَقَلا النَّدْبَ في حديثِ أبي أُمامَةَ إلى الوُجوبِ؛ وذلكَ لأنَّ غايَةَ ما فيهما تكرارُ الأمْرِ بتوفيرِ اللِّحيَةِ الوارِدِ في حَديثِ أبي أُمامَةَ مُعلَّقاً بعِلَّتِهِ.

نَعَم، زيادَةُ التَّوكيدِ في الحديثَينِ حاصِلَةٌ من أجْلِ أنَّ الأمْرَ بتوفيرِ اللِّحيَةِ في حَديثِ أبي أُمامَةَ لم يقَعِ ابتداءً مِن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيكونَ المقصودَ أصالَةً، وَوَقَعَ ابتِداءً في حديثَي ابنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ على ما يدلُّ عليهِ ظاهِرُ سِياقِ الخَبَرِ.

هذا مِن حيثُ الحُكْمُ لقَضيَّةِ المُخالَفَةِ في الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ لغيرِ المسلمينَ، لكن أينَ موقِعُ ذلكَ مِن حيثُ التَّطبيقُ في الواقِعِ؟ وهَل للظَّرْفِ تأثيرٌ على إلْغاءِ إظْهارِ المُخالَفَةِ؟

المُسْلِمُ في أيِّ بيئةٍ يجبُ عليهِ التزامُ المُخالَفَةِ لغيرِ المسلمينَ، وهُوَ حاصِلٌ منْهُ بالإسْلامِ والإيمانِ، فإنَّه قدْ فارَقَهُم في العَقائِدِ والعِباداتِ والحَلالِ والحَرامِ وغيرِ ذلكَ.

هذا الجانِبُ مِنَ المُخالَفَةِ لا يتوقَّفُ على بيئةٍ وظَرْفٍ، فهُوَ يَلْزَمُ المُسْلِمَ في دارِ الإسْلامِ والعَدْلِ، كَما يلْزَمُهُ في دارِ الكُفْرِ والظُلْمِ.

لكن ما كانَ مِنْ قَبيلِ المُخالَفَةِ في الشَّكْلِ والصُّورَةِ؛ فذلكَ يُراعَى فيهِ الظَّرْفُ والبيئةُ، فيُنْظَرُ فيما هُوَ راجِحُ المصْلَحَةِ للفَرْدِ والجَماعَةِ فيُمْتَثَلُ، وما هُوَ راجِحُ المفْسَدَةِ فيُتْرَكُ.

والمقاييسُ في ذلكَ عنْدَ العامَّةِ لا تنضَبِطُ، وإنَّما يجبُ على أهْلِ العِلْمِ والذِّكْرِ ملاحَظَتُها فيُفْتونَ العامَّةَ بِما يُناسِبُ الظَّرْفَ والبيئَةَ، ولا يجوزُ لعالمٍ أن يكونَ قوْلُهُ للعامَّةِ في كُلِّ مسألةٍ يستفتونَهُ فيها قولاً واحِداً لا ينظُرُ فيهِ أحوالَهُم ولا يتحققُ ظروفَهُمْ ولا يَدْري بيئاتِهِمْ.

فجَميعُ ما تقدم من الأمثلةِ وسِواهُ فيما هو من مَعْناهُ مِمَّا لا قَصْدَ أرادَهُ الشَّرْعُ بهِ غيرُ المُخالَفَةِ، تُراعَى فيهِ البيئاتُ والظُّروفُ والأزْمِنَةُ، ويَتْبَعُ الحُكْمُ فيهِ جوازاً ومَنْعاً القُدْرَةَ على التَّميُّزِ وعَدَمَها، فإن كانَ المسلِمُ في حالٍ تُمكِّنُهُ من إبرازِ ذلكَ نُدِبَ واسْتُحِبَّ لهُ أن يُظْهِرَ المُخالَفَةَ في ذلكَ لغيرِ المسلمينَ إبانَةً عن شَخصيَّتِهِ الإسلاميَّةِ، وإِنْ كانَ في حالٍ لا تُمَكِّنُهُ لم يكُن مأموراً بذلكَ، بل كانَتِ السُّنَّةُ في حَقِّهِ إظْهارَ الموافَقَةِ، إِذْ قاعِدَةُ الشَّرعِ في ذلكَ: (لا ضَرَرَ وَلا ضِرارَ)، والمسْلِمُ لا يَضْمَنُ السَّلامَةَ منَ الأذى في غيرِ حالِ التَّمكُّنِ والقُدْرَةِ، وإن سَلِمَ في نَفْسِهِ فلا يَضْمَنُها لإخْوانِهِ ومَن مَعَهُ من أهْلِ مِلَّتِهِ.

وهذا بابٌ قدْ تتعدَّى الموازَنَةُ فيهِ فِعْلَ المندوباتِ، إلى عَدَمِ الإتْيانِ ببعْضِ الواجِباتِ الَّتي يتَّصلُ وُجوبُها بالأمْنِ والتَّمكُّنِ، كصَلاةِ الجُمُعَةِ.

وهذا يطولُ شَرْحُهُ واسْتِقْصاؤهُ، لكن حَسْبُكَ منْهُ الهَدْيُ النَّبويُّ جُملَةً حينَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكَّةَ، ولم يكُن لأصحابِهِ مَنَعةٌ، كيفَ كانَ يحثُّ الرَّجُلَ مِنهُم على مُراعاةِ ظَرْفِهِ، كما قالَ لأبي ذَرٍّ الغِفاريِّ حينَ أسْلَمَ: “يا أبا ذَرٍّ، اكْتُمْ هذا الأمْرَ، وارْجِعْ إلى بَلَدِكَ، فإذا بَلَغَكَ ظُهورُنا فَأَقْبِلْ”([25])، ثُمَّ لَمَّا صارَ إلى المدينَةِ فكانَ في أوَّلِ مَقْدَمِهِ وساقُ الأمَّةِ الإسْلاميَّةِ طَريٌّ، يُجاري مَن بِها من غَيرِ المسلمينَ، فيُوافِقُ اليَهودَ في بَعْضِ شأنِهم فيما لم يُنْهَ عنْهُ، مِن أجْلِ المصلَحَةِ الرَّاجِحَة: تأليفاً للقُلوبِ، وحِرْصاً على وَحْدَةِ المجتَمَعِ الجَديدِ، وإبعاداً للأذَى عن نَفسِهِ وأصْحابِهِ مِمَّن لا يُؤمَنُ منهُ الاعتِداءُ لمَنَعتَهِ وقوَّتِهِ، كالَّذي تَقدَّمَ قَريباً مِنْ حَديثِ فَرْقِ الشَّعْرِ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهُما، قالَ:

كانَ أهْلُ الكِتابِ يَسْدِلونَ أشْعارَهُم، وكانَ المُشْرِكونَ يَفْرُقونَ رءوسَهُمْ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوافَقَةَ أهْلِ الكِتابِ فيما لم يُؤمَر بهِ، فَسَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ناصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ.

والمقصودُ هُنا: أنَّ إظْهارَ مُخالَفَةِ غيرِ المسلمينَ في الصُّورَةِ والتَّميُّزَ عنْهُم بها يخْضَعُ للتَّمكُّنِ وعَدَمِهِ.

والمسْلِمُونَ اليومَ يوجَدُونَ في كُلِّ الأرْضِ، ويَغْلِبُ أو يعمُّ حالَهُم عَدَمُ التَّمكُّنِ، وتُسْتَعْمَلُ الصُّورَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ كثيرٍ منْهُمْ كعلامَةٍ يُميِّزُهُم بها مَن يتربَّصُ بهِمْ، لا يَتميَّزونَ هُمْ بها بِما يعودُ على منفعَتِهِمْ ومَنْفَعَةِ إخْوانِهِمْ، وإنَّما يضَعُونَ على وُجوهِهم وفي أزيائِهِم العَلاماتِ الفارِقَةَ يقولونَ للنَّاسِ: ها نَحْنُ هُنا! وهُمْ لا يُطيقُونَ أن يدْفَعُوا عَنْ أنْفُسِهِم أو إخْوانِهمْ لو ابتَلاهُم اللَّهُ بالأذَى بسَبَبِ ذلكَ، فهذا في التَّحقيقِ جَهْلٌ بمقاصِدِ الشَّرْعِ في أحْكامِهِ وشَرائِعِهِ، ومُخالَفَةٌ للسُّنَّةِ الَّتي جاءَت بمُراعاةِ أحْوالِ المكلَّفينَ.

فكَيْفَ إذا انْضَمَّ إلى ذلكَ أنْ يكونَ غايَةُ حُكْمِ ما يجتَهدونَ في إظْهارِهِ الاسْتِحْبابَ لا الوُجوبَ، فلو تركوهُ في بلادِ الإسلامِ ومعَ التَّمكُّنِ والمَنَعَةِ فغايَةُ ما يكونُ من أمْرِهِمْ أنَّهُم تركَوا مُسْتَحبًّا وسُنَّةً، أو فَعَلوا مكروهاً، لا يبلُغُ بهِمْ إلى مأثَمٍ؟

وفي هذا المقامِ كَلِمَةٌ تأصيليَّةٌ تُكْتَبُ بِماءِ الذَّهَبِ مِن كَلامِ شَيْخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةِ، حيثُ قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ:

“إِنَّ المُخالَفَةَ لَهُم لا تكونُ إلاَّ مَعَ ظُهُورِ الدِّينِ وعُلوِّهِ . . . فلمَّا كانَ المسلِمونَ في أوَّلِ الأمْرِ ضُعَفاءَ لم تُشْرَعِ المُخالَفَةُ لَهُم، فلمَّا كَمُلَ الدِّينُ وظَهَرَ وَعَلا شُرِعَ ذلكَ، ومِثْلُ ذلكَ اليومَ؛ لو أنَّ المُسْلِمَ بدارِ حَرْبٍ، أو دارِ كُفْرٍ غيرِ حَرْبٍ؛ لم يكُن مأموراً بالمُخالَفَةِ لهُم في الهَدْيِ الظَّاهِرِ؛ لِما عليهِ في ذلكَ مِنَ الضَّرَرِ، بَل قَدْ يُسْتَحبُّ للرَّجُلِ أو يَجِبُ عليهِ أن يُشارِكَهُم أحْياناً في هَدْيِهِم الظَّاهِرِ، إذا كانَ في ذلكَ مَصْلَحَةٌ دينيَّةٌ: مِن دعْوَتِهِم إلى الدِّينِ، والاطِّلاعِ على باطِنِ أمورِهِمْ لإخْبارِ المُسلمينَ بذلكَ، أو دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنِ المُسْلمينَ، ونَحْوِ ذلكَ مِنَ المقاصِدِ الصَّالحَةِ، فأمَّا دارُ الإسْلامِ والهِجْرَةِ الَّتي أعَزَّ اللَّهُ فيها دينَهُ، وجَعَلَ على الكافِرينَ بِها الصَّغارَ والجِزْيَةَ ففيها شُرِعَتِ المُخالَفَةُ، وإذا ظَهَرَ أنَّ الْمُوافَقَةَ والْمُخالَفَةَ لَهُم تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الزَّمانِ وَالمَكانِ ظَهَرَتْ حَقيقَةُ الأحاديثِ في هذا”([26]).

والتَّميُّزُ في المظاهِرِ حينَ يَكونُ خَصائصَ دينيَّةً لأصْحابِ مِلَّةٍ أو دينٍ، فذلكَ مِمَّا يَجْعَلُ بَيْنَ أصحابِ تلكَ الملَّةِ وبينَ سائرِ النَّاسِ في كَثيرٍ من الأحوالِ حاجِزاً يَحولُ دونَ الصِّلَةِ بينَهم، كَما هُوَ الحالُ المشاهَدُ من كَثيرٍ من المسلمينَ، وَرأيْناهُ بَيِّناً في المجتَمعاتِ الَّتي يقلُّ فيها المسلمونَ، فيَحولُ دونَ مُعايَشَةٍ طبيعيَّةٍ في مُجتَمَعٍ واحدٍ معَ سائرِ النَّاسِ، كَما يَحولُ دونَ تَبليغِ رِسالَةِ هذا الدِّينِ، فصورَةُ الإسلامِ عنْدَ كَثيرٍ من غيرِ أهْلِه: هُوَ غيرُ مُرادٍ بهذا الدِّينِ، إنَّما له أتباعُهُ الَّذينَ يَلتَزِمونَهُ وَفْقَ طُقوسٍ مَخصوصَةٍ، وأحوالٍ مَخصوصَةٍ، ويُعْرَفُونَ بعلاماتٍ مَخصوصَةٍ، فليسَ الإسلامُ في نَظَرِهِ إلاَّ كسائرِ الدِّياناتِ الأرضيَّةِ الَّتي يُقْصَرُ دينُها على مَن وَرِثَهُ من أجيالِها دونَ سائرِ النَّاسِ، خُصوصاً مَعَ ما يُقارِنُ ذلكَ من انْقِباضِ أكثَرِ المسلمينَ عن خِلطَةِ غيرِهم كدُعاةٍ لدينِهم.

هذا التَّصوُّرُ الَّذي رأيناهُ من كثيرٍ من غيرِ المسلمينَ سَبَبُهُ إصرارُ مَن رآهُم هؤلاء من المسلمينَ على التَّمايُزِ في الهَيئاتِ الظَّاهرَةِ، وإبرازِ تلكَ الهَيْئاتِ على أنَّها علامَةٌ دينيَّةٌ خاصَّةٌ، والواقِعُ الَّذي نَعْلَمُهُ عن بَعْضِ المسلمينَ أنَّهم يَحكونَ بلِسانِ الحالِ أنَّ الشَّخْصَ لا يَكونُ مُسلماً صَحيحَ الإسلامِ إلاَّ بمقدارِ ما أتى بهِ من تلكَ الصُّوَرِ في شَكلهِ وهيئَتِهِ وزِيِّهِ!!

وما هكَذا – وَاللَّهِ – دينُ الإسلامِ الَّذي أرادَهُ اللَّهُ للأمَمِ كافَّةً، فكَم يَجني كَثيرٌ من أهْلِ هذا الدِّين على دينِهم حينَ يَحْتَكِرونَهُ بعاداتِهم وأعرافهم، أو يَختَزِلونَ شَرائِعَهُ وتَعاليمَه في قُشورٍ وَمَظاهِرَ؟!

مسألتان في التشبه تتصلان بالمرأة

المسألة الأولى

أن لا يشْبهَ لِباسُ المسلمةِ لِباسَ الكافراتِ

أمَرَ الله النِّساءَ في آيةِ الجلابيبِ الَّتي نزَلَتْ موطِّئةً لأحكامِ السَّتْرِ بأنْ يُدنينَ عليهِنَّ من جَلابِيبِهِنَّ، وعلَّةُ ذلكَ كما قالَ تعالى: {ذلكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ}، والمأمورُ بهِ في الآيةِ لحُصولِ التَّميُّزِ به للمرأةِ المسلمةِ هو إدناءُ الجلابيبِ، وذلك أمْرٌ للمُسلمةِ الحُرَّةِ بزِيادةٍ في التَّستُّرِ لتُعْرَفَ أنَّها مسلمةٌ حُرَّةٌ فلا يتعرَّضُ لها أحَدٌ بأذى يحسَبُها أمَةً أو كافرةً، وهذا التَّميُّزُ باللِّباسِ ليْسَ بلَوْنِ الثَّوْبِ ولا صفةِ تفصيلِهِ وخِياطَتِهِ، ولا بسَعَتِهِ أو ضِيقِهِ، وإنَّما هو بسَتْرٍ زائِدٍ على ما كانت النِّساءُ تَشْتِركُ فيهِ قبْلَ نُزولٍ أحكامٍ في سَتْرِ ما يَبْدُو من أبدانِهِنَّ، وهذه الصِّفةُ المميِّزةُ للمسلمةِ الحُرَّةِ قدْ فُصِّلَتْ أحكامُها في آيةِ النُّورِ من بعْدُ، فصارَ ما أوجَبَ الله على المؤمنةِ الحُرَّةِ من التَّستُّرِ في آيةِ النُّورِ محقِّقاً للصِّفةِ المميِّزةِ لها عن الكافراتِ والإماءِ.

وهذه الصِّفةُ المميِّزةُ ليْسَتْ غَيْرَ سَتْرِ ما أُمِرَت المؤمنةُ بسَتْرِهِ من بدَنِها، فإنَّها إذا فعَلَتْ ذلكَ فقدْ حقَّقَتْ المفارَقَةَ للكافرةِ.

ولوْ وقعَ من غيرِ المسلماتِ التَّستُّرُ كالمسلماتِ فلا يُغيِّرُ ذلكَ من الحُكْمِ في حقِّ المسلماتِ؛ لأنَّ المشابهَةَ وقعَتْ في شيءٍ معْتَبَرٍ في الشَّرْعِ لذاتِهِ، ذلكَ أنَّ أحكامَ السَّتْرِ للمُسلمةِ لم تُعلَّقْ بعلَّةِ المفارقةِ لغيرِها، إنَّما المفارقةُ بعْضُ علَّةٍ، فلا تؤثِّرُ على الأصْلِ.

على أنَّه لو تصوَّرنا بَلداً من بلادِ المسلمينَ فيهِ من نِساءِ أهْلِ الذِّمَّةِ مثلاً من قَصَدْنَ إلى التَّشبُّهِ بالمسلماتِ في لباسِهِنَّ، فليسَ الحُكْمُ ههُنا بإدخالِ حَرَجٍ زائِدٍ على المسلماتِ في لباسِهِنَّ، وليْسَ من العَدْلِ كذلكَ أن تؤمَرَ الذِّمِّيَّةُ بالتَّكشُّفِ إذا قَصَدَت إلى التَّستُّرِ، وليسَ يُعْرَفُ في تاريخِ الإسلامِ أنَّ المسلمينَ قَصَدوا إلى تعريةِ غيرِ أهْلِ ملَّتِهِمْ من صِفاتٍ أو أخلاقٍ أو أحوالٍ وجِدَتْ فيهِمْ هي من الحَقِّ شابَهوا فيها المسلمينَ، فإنَّ شريعَةَ الإسلامِ جاءَتْ بأحسَنِ الصِّفاتِ والأحوالِ، فإنْ وجِدَت في غيرِ المسلمينَ فذلكَ من الحَقِّ الَّذي وافقوا فيهِ أهْلَ الإسلامِ، فلا يحلُّ أن يُؤْمَروا بمفارقتِهِ لِما وَقَعَ بينَهُمْ وبينَ المسلمينَ فيهِ من المشاركةِ.

فحاصِلُ هذا: أنَّ المسلمةَ متميِّزةٌ عن الكافرةِ بسَتْرِها ما أُمِرَتْ بسَتْرِهِ من عَوْرَتِها، فإن كشَفَتْ من بدَنِها ما وجَبَ عليها ستْرُهُ فقدْ تَبَرَّجَتْ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأولى وشابَهَتْ غيرَ المسلماتِ، كما هو الشَّأنُ اليومَ من حالِ كثيرٍ من المسلماتِ من لُبْسِهِنَّ قصيرَ الثِّيابِ الَّتي تَبْدو منها السُّوقُ أو ما فوقَها، ويُبدِينَ الشُّعورَ والصُّدورَ وغيرَ ذلكَ مِمَّا هُنَّ مأموراتٌ بسَتْرِهِ، فهؤلاءِ متشبِّهاتٌ بغيرِ المسلماتِ تشبُّهاً محرَّماً مذموماً، وليسَ ذلكَ بلُبْسِهِنَّ ضيِّقاً أو واسعاً أو ملوَّناً برَّاقاً أو أسوَدَ قاتماً.

المسألة الثَّانية

أن لا تَشْبَهَ لِبْسَةُ المرأة لِبْسَةَ الرَّجُلِ ولا العَكْس

عَن أبي هُريرةَ، رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ المرأةِ، والمرأةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ([27]).

قلتُ: واللِّبْسَةُ: الهَيئةُ والحالةُ وصفةُ اللُّبْس.

ولقَدْ سَوَّتْ شريعَةُ الإسلامِ بينَ جِنْسِ الرِّجالِ والنِّساءِ في التَّكاليفِ من حيثُ الجُملةُ، فهم شُركاءُ في أحكامِ الواجِبِ والمندوبِ والمحرَّمِ والمكروهِ والمُباحِ، لكنَّها اختصَّتْ كلاًّ من الجِنْسَيْنِ دونَ الآخرِ ببعْضِ الشَّرائِعِ لمقاصِدَ شرعيَّةٍ نَبيلةٍ جاريةٍ على مقتضى العَدْلِ والحِكْمةِ والرَّحمةِ.

وتلكَ الصُّورُ من الاختصاصِ شرعيَّةٌ لا يُصارُ إليها إلاَّ ببرهانٍ من الله ورسولِهِ صلى الله عليه وسلم، والَّذي يعنينا من ذلكَ هُنا ما يتَّصِلُ باللِّباسِ وسَتْرِ العَوْرةِ، ففي بابِ اللِّباسِ مثلاً حرَّمت الشَّريعَةُ لِباسَ الذَّهَبِ والحريرِ على الرِّجالِ وأباحتْ ذلكَ للنِّساءِ، وفرَّقَتْ بينَ عَورَتَيْهِما فضيَّقَتْ حَدَّها للرَّجُلِ ووسَّعَتْهُ للمرأةِ، فلَوْ جاوَزَ الرَّجُلُ ما مُنِعَ منه فشارَكَ المرأةَ فيهِ كأنْ يلبَسَ الحَريرَ أو الذَّهَبَ فقدْ تَشبَّهَ بالنِّساءِ، ولوْ قَصَّرَتِ المرأةُ فيما وجَبَ عليها من سَتْرِ العَورةِ فكَشَفَتْ ما وجَبَ عليها سترُهُ مِما أُبيحَ للرَّجُلِ خاصَّةً فقدْ تَشبَّهَتْ بالرِّجالِ.

وهذا إذا تأمَّلتَهُ أيضاً وجدْتَ جميعَه عائداً إلى تقديرِ الشَّارِعِ في اعتبارِ الخُصوصيَّةِ لجِنْسٍ دونَ الآخَر.

ومنه تعلَمُ أنَّ اشتراطَ أن لا تشبَهَ لِبْسَةُ المرأةِ لِبْسَةَ الرَّجُلِ ولا العَكْسُ إنَّما يعودُ إلى تقديرِ الشَّارِعِ ما هو من خصائصِ كُلٍّ من الجِنْسَيْن.

والمنعُ من التَّشبُّهِ لكُلٍّ منهما بالآخَرِ لا بُدَّ أن يُفسَّرَ بأدلَّةِ الشَّرْعِ، وهذا في جملتِهِ يعودُ إلى ما ما تقدم في (قاعدةِ التَّشبُّه).

والحمد لله رب العالمين.

([1])    مقاييس اللُّغة (3/243).

([2])    كما في حديثِ أبي عُمَير بن أنَسٍ، عن عُمومةٍ له من الأنصارِ، قالَ: اهتمَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للصَّلاةِ كيفَ يجمعُ النَّاسَ لها، فقيلَ له: انصُبْ رايةً عندَ حُضورِ الصَّلاةِ، فإذا رأوْها آذَنَ بعضُهُمْ بعْضاً، فلمْ يُعْجِبْهُ ذلكَ، قالَ: فذُكِرَ له القُنْعُ – يعني الشَّبُّور – (وفي روايةٍ: شَبُّورَ اليهود)، فلمْ يُعجِبْهُ ذلكَ، وقالَ: “هو من أمْرِ اليهودِ”، قالَ: فذُكِرَ له النَّاقوسُ، فقالَ: “هو من أمْرِ النَّصارى”، فانصرَفَ عبدُالله بنُ زيدِ بن عبدِرَبِّهِ وهو مُهتَمٌّ لهَمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأُرِيَ الأذانَ في منامِهِ، . . . وذكَرَ سائِرَ الحديثِ. أخرجه بتمامه أبو داود (رقم: 498) وإسنادُهُ صحيحٌ.

([3])    حديث حسن. أخرجه أحمد (رقم: 5114، 5115، 5667) وأبو داود (رقم: 4031).

([4]) أيْ بقيَّةُ نَخْلَةٍ أو قِطْعَةٍ منها، وجِذْمُ الشَّيءِ: أصْلُهُ.

([5]) أيْ: غُرفَة.

([6]) يُسَبِّحُ: يُصلِّي السُّبْحَةَ، وهِيَ النَّافلَة.

([7]) أخرَجَهُ أحمَدُ (3/300) وأبو داوُدَ (رقم: 602)، وإسْنادُهُ صحيحٌ. ورواهُ أبو الزُّبيرِ عَنْ جابِرٍ بمَعْناهُ عِنْدَ مسلِمٍ (رقم: 413) وغيرِهِ.

([8]) حَديثٌ حَسَنٌ. أخْرَجَهُ أحمَدُ وأبو داوُدَ وغيرُهُما مِن حَديثِ ابنِ عُمَرَ، فصَّلْتُ الكلامَ عليهِ في كتابي “أحكام العورات في ضَوْءِ الكِتابِ والسُّنَّة”.

([9]) اقتضاء الصِّراطِ المستقيمِ مُخالفَةَ أصحابِ الجَحيم، لشيخ الإسلامِ ابن تيميَّة (1/238).

([10])      اقتِضاء الصِّراط المستَقيم (1/238).

([11])      أخرَجَهُ أحمَدُ (رقم: 7274، 7542، 8083، 9209) والبُخاريُّ (رقم: 3275، 5559) ومسلم (رقم: 2103) وأبو داود (رقم: 4203) والنَّسائيُّ (رقم: 5069، 5071، 5072، 5241) وابنُ ماجَةَ (رقم: 3621).

([12])      أخرَجَهُ أحمَدُ (رقم: 7545، 10472) وابنُ سعْدٍ في “الطَّبقات” (1/439) وأبو يعلى (رقم: 5977) وابنُ حِبَّانَ (رقم: 5473)، وإسْنادهُ حَسَنٌ. وأخرَجَهُ أحمَدُ (رقم: 8672) والتِّرمذيُّ (رقم: 1752) وأبو يعلى (رقم: 6021)، من طَريق أخرى، وإسْنادُهُ حَسَنٌ. وقالَ التِّرمذيُّ: “حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ”.

([13])      انظُر النَّقلَ عنهُم مُفرَّقاً في: المصنَّف، لابن أبي شيبة (8/431-436، 440-446)، والمصنَّف، لعبدالرَّزَّاق الصَّنعانيِّ (11/154-156)، وشرح المشكل، للطَّحاويِّ (9/306-307)، وانظُر للمسألةِ: شرح صحيح مسلم، للنَّوويِّ (14/80)، وفتح الباري، لابن حجَر (10/355).

([14])      أخرَجَهُ أحمَدُ (رقم: 2209، 2364، 2605، 2942) والبُخاريُّ (رقم: 3365، 3728، 5573) ومسلمٌ (رقم: 2336) وأبو داود (رقم: 4188) والتِّرمذيُّ في “الشَّمائل” (رقم: 29) والنَّسائيُّ (رقم: 5238) وابنُ ماجَةَ (رقم: 3632).

([15])      فتح الباري (10/362).

([16])      انظُر: شرح صحيح مسلم، للنَّووي (15/90)، وفتح الباري، لابن حجَر (10/362).

([17])      أخرَجَهُ أبو داود (رقم: 652) وابنُ حِبَّانَ (رقم: 2186) والحاكِمُ (رقم: 956)، وزاد ابنُ حِبَّانَ: “والنَّصارى”. قالَ الحاكِمُ: “صحيحُ الإسْنادِ”، وهُوَ كما قالَ.

([18])      أخرَجَهُ أبو داوُدَ (رقم: 655) وابنُ حِبَّانَ (رقم: 2182) والحاكِمُ (رقم: 957)، وإسْنادُهُ صحيحٌ.

([19])      أخرَجَهُ أحمَدُ (4/197، 202) ومُسلمٌ (رقم: 1096) وأبو داود (رقم: 2343) والتِّرمذيُّ (رقم: 709) والنَّسائيُّ (رقم: 2166) والدَّارميُّ (رقم: 1649) مِن طُرُقٍ عَن موسى بنِ عليٍّ، عَنْ أبيهِ، عَنْ أبي قَيْسٍ مولى عَمْرِو بنِ العاصِ، عَنْ عَمْرٍو، به. وقالَ التِّرمذيُّ: “حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ”.

([20]) حديث حسَن. تقدَّمَ تحقيقُهُ في الفَصْلِ الثَّاني من الباب الأوَّلِ (رقم: 3).

([21]) قالَ في “القاموس المحيط” (مادَّة: عثن): “العُثْنونُ: اللِّحْيَةُ، أو ما فَضَلَ منها بَعْدَ العارِضَيْنِ، أو ما نَبَتَ على الذَّقَنِ وتَحْتَهُ سِفْلاً، أو هُوَ طولُها”.

([22]) أكْثَرُ ما تَقولُ العَرَبُ: (السَبَلَة) للِّحْيَةِ، ورُبَّما أرادوا مُقدَّمَها، وقَد يُطْلِقونَ على الشَّارب (السَّبَلَة)، وبالنَّظَرَ إلى جانِبَيْهِ على الشَّفَةِ العُلْيا: (السَّبَلتانِ)، لكنَّه قَليلٌ، على هذا نَبَّه أهْلُ اللُغَةِ. فانْظُر: خَلق الإنسان، لابنِ أبي ثابتٍ (ص: 158، 197)، المخصَّص، لابن سيده (1/79، 123)، القامُوس المحيط (مادَّة: سبل)، النِّهاية، لابنِ الأثير (2/339).

وبكُلٍّ مِنَ الاستِعمالَيْنِ جاءَ اللَّفْظُ في الحديثِ، والقَرينَةُ تُحدِّدُ المقصودَ.

([23])      أخرَجَهُ أحمَدُ (6/317) وأبو داوُدَ (رقم: 4025) والتِّرمذيُّ (رقم: 1762، 1763، 1764) وابنُ ماجَةَ (رقم: 3575). قالَ التِّرمذيُّ: “حَديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ”. وهُوَ كما قالَ.

([24])      أخرَجَهُ أحمَدُ (3/134، 184، 251، 291) والبُخاريُّ (رقم: 5475، 5476) ومسلمٌ (رقم: 2079) وأبو داوُدَ (رقم: 4060) والتِّرمذيُّ (رقم: 1788) والنَّسائيُّ (رقم: 5315). والحِبَرَة: ثِيابٌ مِن كَتَّانٍ أو قُطْنٍ مُحبَّرَةٌ، أي: مُزَيَّنَة.

([25])      هوَ جُزءٌ مِن قِصَّةِ إسلامِ أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ، أخرَجَهَا البُخاريُّ (رقم: 3328) مِن حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ.

([26]) اقْتِضاءُ الصِّراطِ المستقيمِ (1/418-419).

([27])  أخرجه أحمد (2/325) وأبو داود (رقم: 4098) والنَّسائي في “عِشرة النِّساء” (رقم: 371) وابن حِبَّان (رقم: 5722) والحاكم (4/194). إسنادُهُ صحيحٌ. وقالَ الحاكم: “صحيحٌ على شرط مُسلمٍ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق