البحوث

علاج التضخم في النقود الورقية من منظور الفقه الإِسلامي

علاج التضخم في النقود الورقية

من منظور الفقه الإِسلامي

 

بقلم:

أ. د. علي محيي الدين القره داغي

 

أستاذ بكلية الشريعة  بجامعة قطر

والحائز على جائزة الدولة، والخبير بالمجامع الفقهية الدولية

وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

والمجلس الشرعي لهيئة المعايير، والمجلس الشرعي للوكالة الدولية للتصنيف

 


تـمـهـيـد:

 

أولى مجمع الفقه الإِسلامي الموقر عناية منقطعة النظير بمسألة النقود الورقية، وما يترتب عليها من آثار، حيث أصبحت الشغل الشاغل له منذ أكثر من خمس عشرة سنة خلت؛ حيث عرض الموضوع على دورة المجمع الثالثة، ثم صدر قرار في دورته الخامسة، ثم أعيد الموضوع على مجلس المجمع في دورة مؤتمره التاسع بأبـو ظبي عام 1995، وصدر منها قرار رقم 95/6/د96 بشأن قضايا العملة وهو:

«إن مجلس مجمع الفقه الإِسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبو ظبي بدولة الإِمارات العربية المتحدة من 1 ــ 6 ذي القعدة 1415هـ الموافق 1 ــ 6/4/1995م:

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: «قضايا العملة».

وبعد استماعه إلى المناقشات التي دلت على أن هناك اتجاهات عديدة بشأن معالجة حالات التضخم الجامح الذي يؤدي إلى الانهيار الكبير للقوة الشرائية لبعض العملات منها:

1 ــ أن تكون هذه الحالات الاستثنائية مشمولة أيضًا بتطبيق قرار المجمع الصادر في الدورة الخامسة، ونصه: «العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيًّا كان مصدرها بمستوى الأسعار.

2 ــ أن يطبق في تلك الأحوال الاستثنائية مبدأ الربط بمؤشر تكاليف المعيشة (مراعاة القوة الشرائية للنقود).

3 ــ أن يطبق مبدأ ربط النقود الورقية بالذهب (مراعاة قيمة هذه النقود بالذهب عند نشوء الالتزام).

4 ــ أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب، بعد تقرير إضرار الطرفين (الدائن والمدين).

5 ــ التفرقة بين انخفاض قيمة العملة عن طريق العرض والطلب في السوق، وبين تخفيض الدولة عملتها بإصدار قرار صريح في ذلك بما قد يؤدي إلى تغير اعتبار قيمة العملات الورقية التي أخذت قوتها بالاعتبار والاصطلاح.

6 ــ التفرقة بين انخفاض القوة الشرائية للنقود الذي يكون ناتجًا عن سياسات تتبناها الحكومات وبين الانخفاض الذي يكون بعوامل خارجية.

7 ــ الأخذ في هذه الأحوال الاستثنائية بمبدأ (وضع الجوائح) الذي هو من قبيل مراعاة الظروف الطارئة.

وفي ضوء هذه الاتجاهات المتباينة المحتاجة للبحث والتمحيص قرر ما يلي:

أولاً: أن تعقد الأمانة العامة للمجمع بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية الإِسلامية ــ ندوة متخصصة يشارك فيها عدد من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والفقه، وتضم بعض أعضاء وخبراء المجمع، وذلك للنظر في الطريق الأقوم والأصلح الذي يقع الاتفاق عليه للوفاء بما في الذمة من الديون والالتزامات في الأحوال الاستثنائية المشار إليها أعلاه.

ثانيًا: أن يشتمل جدول الندوة على:

(أ) دراسـة مـاهيـة التضخـم وأنـواعـه وجميـع التصـورات الفنيـة المتعلقة به.

(ب) دراسة آثار التضخم الاقتصادية والاجتماعية وكيفية معالجتها اقتصاديًّا.

(ج) طرح الحلول الفقهية لمعالجة التضخم من مثل ما سبقت الإِشارة إليه في ديباجة القرار.

ثالثًا: ترفع نتائج الندوة مع أوراقها ومناقشاتها إلى مجلس المجمع في الدورة القادمة.

ونحن الان في الحلقة الثالثة التي تقتضي أن نصل فيها إلى قرارات حول هذه الموضوعات المطروحة. وقد انطلقت في بحثي هذا من هذا المنطلق، وجعلنا قرار المجمع الموقر في دورته الخامسة هو الأصل والقاعدة العامة، ثم ناقشنا الحالات الاستثنائية وطرحنا الحلول الفقهية التي لم تقف عند حل واحد، بل عدة حلول، داعيًا الله تعالى أن أكون قد وفقت في علاج هذا الموضوع وأن يجعل أعمالي كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا عن الخطأ والزلل في القول والعقيدة والعمل، وأنه حسبنا فنعم المولى ونعم المعين.

مبدأ الوفاء بالمثل :

أقر مجمع الفقه الإِسلامي المنبثق عن المؤتمر الإِسلامي في دورة مؤتمره الخامس عام 1409/1988م مبدأ المثلية في النقود الورقية ونص على أن:

«العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل، وليس بالقيمة، لأن الديون تُقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة ــ أيًّا كان مصدرها ــ بمستوى الأسعار».

ثم أكد المجمع هذا القرار في الفقرة الخامسة من قرارات الدورة الثامنة عام 1994م.

وعلى ضوء المتغيرات الواقعية للنقود الورقية، وما شاهده الجميع من تقلباتها الكثيرة، وانهياراتها، وما ترتب عليها من آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، وعلى الحقوق والالتزامات، وما تحقق بسبب ذلك من مظالم كبيرة…

لا يمكن تفسير هذا القرار وقبوله إلا باعتباره أصلاً عامًا، ومبدءًا من المبادىء العامة التي يمكن الاستثناء منها عندما تستدعيه الظروف والأحوال والمصالح المرسلة، وسد الذرائع ومبادئ العدل والمساواة وهذا ما اتجه إليه قرار المجمع في دورة مؤتمره التاسع رقم (95/9د8).

والحق أن الوفاء بالمثل كمبدأ هو الحل الأمثل، والاتجاه العام لفقهائنا المسلمين على مر الأزمان والحقب، ومع ذلك لم يمنعهم هذا المبدأ من القول بحلول عادلة لبعض الحالات، أو في بعض الأحيان، تخرج عن إطار هذا المبدأ، وتعتبر استثناء حتى ولو كثرت أفراده وتعددت مجالاته، حيث نرى القول بالرد بالقيمة حتى في باب الذهب والفضة في بعض الحالات كما سيأتي.

وقد نص الفقهاء القدامى في جميع المذاهب الفقهية على أن الرد في الديون، والقروض المثلية بالمثل، ونذكر هنا بعضها للاستدلال على ذلك:

    فقد فصل العلامة ابن عابدين في هذه المسألة وبين بأن إجماع المذهب الحنفي على الرد بالمثل في النقود الذهبية والفضية الخالصة الرائجة، «وإنما الخلاف في الفلوس والدراهم التي غلب غشها»[1].

وكذلك ذكر فقهاء المذهب الحنفي الخلاف في الدنانير والدراهم الخالصة إذا كسدت، أو انقطعت، فذكر ابن عابدين آراءهم فقال: «إذا اشترى شيئًا بدراهم هي نقد البلد، ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج ولكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع… وعن أبـي يوسف أن له أن يفسخ البيع في نقصان أيضًا، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى… وذكر العلامة الغزي التمرتاشي في رسالة سماها «بذل المجهود، في مسألة تغير النقود»: «اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها، أو بالفلوس وكان كل منها نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإِشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشتري للبائع ثم كسدت بطل البيع»[2].

وهذا الكلام الذي قاله التمرتاشي وغيره هو الذي ينطبق على نقودنا الورقية: فهي ليست نقودًا ذاتية كالدينار والدرهم الخالصين، وإنما هي نقود بالاصطلاح على الثمنية والعرف، ولذلك يقول أبو حنيفة بإبطال ذلك البيع لأن الثمنية بالاصطلاح فيبطل بالكساد والانقطاع، فيصبح البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية وقد انعدمت، بخلاف انقطاع الرطب فإنه يعود غالبًا في العام القابل[3].

وبين العلامة ابن عابدين أن الخلاف جارٍ بين أئمة الحنفية في مسألة الفلوس الرائجة، والدراهم التي غلب غشها هل أن الواجب رد المثل، أو القيمة»؟ حيث يذهب أبو يوسف إلى الرد بالقيمة في بعض الحالات، وكذا الخلاف في اعتبار يوم القيمة حيث ذهب أبو يوسف إلى اعتبار يوم البيع، ومحمد إلى اعتبار يوم الكساد أو الانقطاع وأن الفتوى على قول أبـي يوسف، قال ابن عابدين: «قال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبـي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها، قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض… وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها» ثم قال: «ورأيت في حاشية الرملي على البحر»: بقي فالكلام فيما إذا انقضت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها، وكذا المشتري أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبـي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبـي يوسف، ويوم الكساد عند محمد، والمحل محتاج إلى التحرير «ورجح ابن عابدين أن الخلاف بالنسبة للغلاء والرخص خاص بالفلوس فقط»[4].

ونصوص الفقهاء في وجوب الرد بالمثل كقاعدة عامة متظافرة لا تحتاج إلى بيان[5] حتى تجسدت في التقنينات الفقهية المبكرة كمجلة الأحكام العدلية، ومرشد الحيران، ومجلة الأحكام الشرعية الحنبلية[6] حيث نصت المادة 750 من الأخيرة على أنه: «إذا كان القرض فلوسًا، أو دراهم مكسرة، أو أوراقًا نقدية فغلت، أو رخصت، أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة، وعوض خلع، وعتق، ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده».

التعريف بالمصطلحات الخاصة بالموضوع ، مع أحكامها بإيجاز :

استعمل الفقهاء عددًا من المصطلحات السائدة في عصرهم، وذلك:

كالكساد، والانقطاع، والتغير، والغلاء والرخص، لذلك ينبغي التعريف بها وببعض أحكامها لنكون على بينة من الأمر:

1 ــ الكساد والانقطاع:

الكساد لغة: من كسد الشيء ــ بفتح السين ــ كسادًا وكسودًا، ومعناه عدم الرواج لقلة الرغبة فيه، فيقال: نقد كاسد وكسيد، أي غير رائج بين الناس لقلة رغبتها فيه، وكسدت السوق: لم تنفق فهي كاسد، وكاسدة، ويقال: سلعة كاسدة، وقال بعض اللغويين: «إن أصل الكساد الفساد»[7] وهو كلام صحيح موافق لواقع كساد النقود، لأنه لا يأتي إلا من الفساد.

وفي الاصطلاح: قال ابن عابدين: وعند الفقهاء: أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل ــ أي العقد ــ ، لكنه يتعين إذا لم يرج في بلدهم فيتخير البائع إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته»[8].

والانقطاع في اللغة: هو الانتهاء[9].

وأما في الاصطلاح: فقد قال ابن عابدين: «وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في أيدي الصيارفة، وفي البيوت»، وقيل: «إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع والأول أصح»[10].

فالكساد يعني أن العملة قد تركها الناس لأي سبب من الأسباب بحيث لا يتعاملون بها لعدم رواجها، ولقلة رغبتهم في التعامل بها، وأما الانقطاع فهو عدم وجودها في السوق، فالعلاقة بينهما هو العموم والخصوص من وجه حيث يشتركان في عدم التعامل وأن النقد قد يكون سبب ترك التعامل به يعود إلى عدم رواجه، وعدم وجوده في السوق في وقت واحد، ويختلفان في أن النقد قد يكون رائجًا مرغوبًا فيه لكنه لا يوجد في السوق فيكون الانقطاع فقط، وقد يكون موجودًا في السوق لكنه غير رائج أو ممنوع التعامل به بأمر السلطان فيكون الكساد فقط.

وأيًّا ما كان فإن حكمهما واحد كما في كثير من كتب الحنفية:

قال ابن عابدين: «والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع، وهو المختار».

ثم قال: «وبه علم أن في الانقطاع قولين: الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد، والثاني أنه تجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع وهو المختار»[11]، وهذا على قول أبـي حنيفة، وسيأتي تفصيل لرأي أبي يوسف ومحمد.

والخلاصـة: أن النقد الذي جعل ثمنًا لبيع إذا كسد فسد العقد عند أبـي حنيفة وإذا انقطع ففيه قولان: فساد العقد أو القيمة ــ كما سبق ــ وهناك تفصيل في حالتي الكساد قبل قبض الثمن وبعده، حيث جاء في جواهر الفتاوى: أنه إذا باع شيئًا بنقد معلوم، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه وإلا فيجب رد مثله إن كان مثليًّا، وقيمته يوم القبض إن كان قيميًّا.

وإن كان العقد السابق إجارة ــ مكان البيع ــ فإنه تبطل الإِجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل.

وإن كان قرضًا، أو مهرًا يجب رد مثله، هذا كله على قول أبـي حنيفة. وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الاخر يوم التعامل.

وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبـي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبـي حنيفة»[12].

ويستعمل بين المذاهب الفقهية الأخرى مصطلحات الكساد والفساد وقطع السكة والبطلان والانقطاع، وتحريم السلطان للفلوس، أو الدراهم المكسرة، إضافة إلى تغير النقود والرخص والغلاء، وأعتقد أنه لا يمكن إعطاء صورة دقيقة إلا بذكر ما تعرض له الفقهاء في هذا المجال[13].

جاء في المعيار المعرب: «وسئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟

فأجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حـي معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، فأفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدين إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب.

وكان أبـو محمد ابن دحون يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقال: إنما أعطاها على العوض، فله العوض[14].

وقد ذكر الفقهاء صورًا عدة، منها:

أن يصدر السلطان نقدًا جديدًا بسعر جديد، ويمنع التعامل بالنقد السابق، وينتهي فعلاً في الأسواق ولدى الصيارفة، وقد تم التعامل بالقديم ولم يقبض فما الحكم؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة آراء:

الرأي الأول: وجوب النقد الذي تم التعامل بها، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء[15].

الرأي الثاني: وجوب قيمة النقد القديم من الذهب يوم العقد، وهذا رأي بعض علماء المالكية، وأبـي يوسف من الحنفية ووجه للحنابلة وعند محمد ولكن من يوم الانقطاع[16].

الرأي الثالث: وجوب قيمة السلعة في البيع، ونحوه وقيمة النقد في القرض ونحوه، وهذا رأي المازري وشيخه عبد الحميد الصائغ[17].

الرأي الرابع: وجوب النقد الجديد مع قطع النظر عن القيمة، جاء في المعيار المعرب: «وقد نزل هنا ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كان ضربها القيسي وبلغت ستة دنانير لمثقال، ونقلت إلى سكة أخرى كان صرفها ثلاثة دنانير للمثقال فالتزم ابن عبد البر السكة الأخيرة، وكانت حجته في ذلك أن السلطان منع من إجرائها وحرم التعامل بها وهو خطأ في الفتوى[18].

وقد ناقش الرهوني هذا القول وفنده فقال: «ويلزم هذا القائل أن يقول: إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر رد الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول، أو بالميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير وإن كان أصغر، وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا وإن كان أكبر وهذا مما لا خفاء في بطلانه»[19].

ومن هذه الصور:

ما لو ضرب السلطان نقدًا جديدًا ولم يلغ النقد القديم، بل ظل موجودًا يتعامل به :

وهذه الصورة كانت كثيرة فقد ذكر الفقهاء أنواعًا من النقود المستعملة في وقت واحد لا يغلب أحدها على الاخر، وإنما يتعامل بها على قدم المساواة، ولذلك يشترط لصحة العقد، أو لزومه تحديد النقد المطلوب.

قال ابن عابدين موضحًا ذلك: «إذا اشترى بنوع مسمى من الأثمان فالأمر ظاهر، وأما إذا أطلقه كأن قال: بمائة ريال، أو مائة ذهب، فإن لم يكن إلا نوع واحد من هذا الجنس ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه أنواع: فإن كان أحدهما أروج من الآخر وغلب تعاملاً ينصرف إليه، لأنه المتعارف فينصرف المطلق إليه وصار كالمسمى أيضًا.

وإن اتفقت رواجًا، فإن اختلفت مالية فسد البيع ما لم يبين في المجلس ويرض الاخر، قال في البحر: فالحاصل أن المسألة رباعية، لأنها إما أن تستوي في الرواج والمالية معًا، أو تختلف فيهما، أو تستوي في أحدهما دون الاخر، والفساد في صورة واحدة، وهو الاستواء في الرواج والاختلاف في المالية والصحة في ثلاث صور: فيما إذا كانت مختلفة في الرواج والمالية فينصرف إلى الأروج، وفيما إذا كانت مختلفة في الرواج مستوية في المالية فينصرف إلى الأروج أيضًا، وفيما إذا استوت فيهما، وإنما الاختلاف في الاسم كالمصري والدمشقي فيتخير في دفع أيهما شاء…»[20].

ومنها صورة ذكرها ابن عابدين وهي أن يرد الأمر السلطاني بتغير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص، فقد ذكر أن الفتوى على أن يكون الاختيار في ذلك للدافع، لكنه لم يرتض هذه الفتوى، وبين بأن العدل يقتضي وجوب الصلح على الأوسط[21] ــ وسيأتي مزيد من التفصيل ــ .

وقد صرح المالكية بأن مذهب مالك في إبطال الفلوس وانقطاعها هو الرد بالمثل حيث جاء في المدونة: «قلت: أرأيت إن استقرضت فلوسًا ففسدت الفلوس؟ قال: قال مالك: «ترد عليه مثل تلك الفلوس التي استقرضت منه وإن كانت قد فسدت. قلت: فإن بعته سلعة بفلوس ففسدت الفلوس قبل أن أقبضها؟ قال: قال مالك: لك مثل التي بعت بها السلعة…»[22].

وجاء في التلقين: «ومن باع بنقد، أو اقترض، ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، وإلا فقيمته إن فقد»[23].

وذكر ابن الجلاب أن من اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد»[24].

وجاء مثل ذلك في فتاوى ابن رشد[25].

ولكن الرهوني قد رد عليه ردًا مفحمًا[26] ــ كما سبق ــ .

وقد نقلنا عن المعيار أقوال بعض علماء المذهب باعتبار القيمة عند التغيير والانقطاع، منهم ابن عتاب، وأبـو محمد بن دحون، وابن سحنون حيث جاء في كتابه: وإن انقطعت الفلوس قضى قيمتها، ونحوه وقع لأشهب»[27] وذهب بعضهم إلى أن الاعتبار بالسكة الجديدة[28].

وقد لاحظ هؤلاء المحققون من علماء المالكية الظلم الذي قد يحدث لو قيل برعاية المثل؛ حيث قال ابن دحون: «إنما أعطاها على العوض فله العوض»، فالمقرض أو البائع قد أعطى الاخر شيئًا له قيمته يوم العقد في مقابل شيء يساويه في القيمة، وتم التراضي على ذلك، وعلى أن ينتفع بما اقترضه مدة من الزمن، ثم يرد عوض ما اقترضه مساويًا له، بحيث لا يظلم المقرض باسترجاع ما هو أقل مما أعطى، ولا يظلم المقترض بمطالبته بأكثر مما أخذ، وأما المساواة في العدد إذا لم تحقق هذا التماثل لا قيمة لها، لأن العبرة بالمحتوى وليست بالعدد[29].

وهذه النظرة أخذت تظهر بقوة في بلاد الأندلس حيث ذكر الإِمام المازري في شرحه للتلقين في باب الصرف: أن شيخه عبد الحميد الصائغ يعدل عن المذهب المذكور من المدونة، ويعتل بأنه أعطى منتفعًا به ليأخذ منتفعًا به فلا يُظلم بأن يعطى ما لا منفعة فيه، ولا يحصل هذا الغرض إلا بأن يأخذ قيمتها، قال: وإذا لم توجد بعد انقطاعها كان عليه قيمة السلعة، كمن أسلم في فاكهة فانقطع إبانها أن السلم ينفسخ ويرد رأس المال إلى دافعه، وإن كانت قرضًا فانقطعت ولم توجد كانت عليه قيمتها يوم انقطاعها إذا كان الأجل قد حل وإن لم يحل الأجل فإنه قبل الأجل لا يستحق المطالبة به، فلا يقوم له ما لا يستحق المطالبة به[30].

أي وقت يعتبر للقيمة؟

ثـم إن القائليـن برعاية القيمـة اختلفـوا في الزمـن المعتبر للقيمة على أربعة آراء:

1 ــ ذهب بعضهم إلى أن العبرة بالقيمة في يوم العقد سواء كان بيعًا أو قرضًا أو غيرهما، باعتبار أن ذلك هو اليوم الذي انشغلت فيه الذمة.

2 ــ وذهب فريق ثانٍ إلى أن العبرة هو يوم حلول الدين، لأنه قبل حلول الأجل ليس للدائن الحق في مطالبة المدين، وإذا لم يكن له هذا الحق فلا يتصور تقويم ما لاحق له في المطالبة به.

3 ــ وذهب فريق ثالث إلى أن العبرة بيوم انقطاع السكة أو إلغائها وظهور نقد جديد.

4 ــ وذهب بعض آخر إلى أن المعتبر هو يوم التحاكم فيها[31].

ومذهـب الحنابلـة: واضـح بخصوص حالـة الإِلغـاء والانقطاع، قال ابن قدامة: «وإن كان القرض فلوسًا، أو مكسرة فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها، لأنها تعينت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا، قال القاضي: هذا إذا اتفق الناس على تركها، فأما أن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها…»، ثم استدل لمذهب أحمد بأن تحريم السلطان لها منع إنفاقها، وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها، أو تلف أجزائها»[32].

وأما الشافعي فمذهبه على أنه ليس له إلا مثل فلوسه، أو دراهمه التي سلف، أو باع بها وإن أبطلها السلطان[33].

تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص:

اختلف الفقهاء في أثر تغير قيمة النقود بالغلاء والرخص على العقود والالتزامات الاجلة:

* فذهب جمهورهم[34]: إلى أن الرد يكون بالمثل، وأنه لا عبرة بالرخص والغلاء في رد المثليات (ومنها الدراهم والدنانير، والفلوس).

* وذهب جماعة منهم أبو يوسف، ومحمد في بعض الأحوال وبعض فقهاء المالكية، ووجه للشافعية، وبعض الحنابلة[35] إلى اعتبار القيمة وقيدها البعض بحالة تغير القيمة تغيرًا يؤدي إلى الظلم ــ سيأتي لذلك تفصيل ــ .

هل تنزل هذه النقود السابقة على النقود الورقية؟

أعتـقد أن معـظم هذه النقول والنصوص الفقهية على الرغم من أهميتهـا لكنهـا لا يمكن تنزيلها بصـورة كاملـة على نقودنـا الورقيـة، إذ إن النقود السابقة كانت من معادن ذهبية، وفضية، ونحاسية، فتبقى حتى بعد إلغائها قيمتها المعدنية، في حين أن النقود الورقية لا تبقى بعد إلغائها أية قيمة، بل ولا يستفاد منها كورق، فقيمتها في قيمتها المعتبرة في السوق، ولكنه مع ذلك فإن أقرب شيء إليها هو الفلوس لذلك يمكن الاستئناس بما قاله الفقهاء حول الفلوس وأحكامها، حيث أرى أن الفلوس أحسن حالاً من نقودنـا الورقيـة، فـإذا كان بعـض كبار فقهائنـا السابقيـن قـد قالـوا برعايـة القيمة في الفلوس، فإن هذا الحكم لا بد أن يسحب على نقودنا الورقية بطريقة أولى.

تأصيل القضية، وبيان المعايير والحالات الاستثنائية:

إذا سرنا على اعتبار أن الوفاء بالمثل هو الأصل والمبدأ، والقاعدة العامة بحيث لا نخرج عنها إلا عند حالات استثنائية، فحينئذ ينبغي البحث عن هذه الحالات وبيان نوع من المعيارية لهذه الحالات.

ثم إن هذا الخروج عن الأصل إنما يتحقق في الديون والالتزامات الاجلة والعقود التي تؤجل آثارها عنها، وذلك مثل القرض الحساب الجاري في البنوك، والبيع الاجل، والإِجارات المؤجلة والمهور، والرواتب والأجور، وعقود المقاولات والاستصناع التي تؤجل أثمانها أو بعضها إلى مدد آجلة، وكذلك الأمر في الودائع الاستثمارية والمضاربة والمشاركات ونحوها.

فالأصل والمبدأ العام والقاعدة العامة في كل ذلك هي: الرد بالمثل، وأن العبرة في الرد إنما هي بالنقد الذي تم الاتفاق عليه جنسًا وكمًّا وكيفًا إلا إذا حدث تغير بين قيمة النقد وقت نشوء الالتزام والعقد، وقيمته وقت الدفع والأداء.

معيار التغيُّر:

وهنا يثور التساؤل حول معيار التغير:

هل هو مجرد تغير خفيف (غبن يسير) أو هو الغبن الفاحش أو هو الانهيار الكامل، أو تغير العملة بالكامل وإلغاء رسميتها؟

ومن المقرر فقهًا أن الكثرة والقلة والفحش، واليسر، والغلبة والقلة لها آثارها على العقود، حيث يعتد الفقهاء في كثير من الأشياء بالغلبة والكثرة، ففي باب الصرف فالعبرة بالغالب من النقد، أو العرض، وكذلك الحال في أبواب أخرى في الفقه، حتى أصبح ذلك قاعدة فقهية وهي: أن العبرة للغالب الشائع لا النادر[36].

فالكثرة من الناحية اللغوية[37] تتحقق بما زاد على النصف (50 ) ولكن هذا لا يعني أن ما نقص عن هذا المقدار لا يترتب عليه الاثار الشرعية مثل الثلث، ونحن هنا نذكر ما يتعلق بموضوعنا هذا.

من المتفق عليه بين الفقهاء أن الغبن اليسير ليس له تأثير يذكر في العقود العادية (سوى عقود الأمانات وذي الغفلة، والعقود لصالح القصر والوقف)[38]، قال العلامة ابن العربـي: «والفرق بين القليل والكثير أصل في الشريعة معلوم»[39].

وإنمـا الذي يؤثـر في العقود هـو الغبن الكثير، أو مـا يسميـه الفقهـاء (بالغبن الفاحش)، غير أنهم اختلفوا في تحديد معيار الغبن الفاحش والغبن اليسير على اتجاهين: اتجاه يختار معيارًا تحديديًّا جامدًا، واتجاه يختار معيارًا مَرِنًا.

فذهب إلى الاتجاه الأول: محمد بن حسن الشيباني، ونصير بن يحيـى البلخي من الحنفية[40] والمالكية في قول اختاره البغداديون[41] ورأي لبعض أصحاب أحمد[42]، وبعض أئمة الزيدية[43]، ثم إن هؤلاء لم يتفقوا على وضع نسبة محددة واحدة بل اختلفوا فيها :

فذهب محمد والبلخي إلى أن الغبن الفاحش هو ما كان زائدًا على نصف العشر (5 ) والغبن اليسير هو ما بلغ نصف العشر أو أقل منه[44].

غير أن نصيرًا البلخي قد فرق بين أنواع المعقود عليه، وقال: «إن ما يتغابن فيه الناس عادة فهو يسير، وما عداه فهو فاحش»، ثم لم يقف عند هذا الحد، بل حدده حسب نوعية المعقود عليه، فقال: إن ما يتغابن فيه الناس في العروض نصف العشر، وفي الحيوان العشر، وفي العقار الخمس و ما خرج عنه فهو فاحش، ثم بين سبب هذه التفرقة بأنه يعود إلى أن التصرف يكثر وجوده في العروض، ويقل في العقار، ويتوسط في الحيوان، وكثرة الغبن لقلة التصرف[45].

وحدد المالكية في قول اختاره البغداديون[46]، وبعض أصحاب أحمد[47] والمنصور ويحيـى من الزيدية[48]: الغبن الفاحش: بالثلث.

وذهب بعض أصحاب أحمد إلى تقدير الغبن الفاحش بالسدس لكن المرداوي أشار إلى ضعفه في المذهب[49]، كما ذهب بعضهم الاخر إلى تقديره بالربع[50].

وذهب إلى الاتجاه الثاني ــ أي المعيار المرن ــ الحنفية في ظاهر الرواية[51] والمالكية في رأي[52] والحنابلة على الصحيح في المذهب[53] والظاهرية[54] والإِمامية[55]:

فقد قال الحنفية في ظاهر الرواية: «أن الغبن الفاحش هو ما لا يدخل تحت تقويم المقومين[56]، قال ابن عابدين: «وهو الصحيح، وذلك كما لو وقع البيع بعشرة دنانير ــ مثلاً ــ ثم إن بعض المقومين يقول: إنه يساوي خمسة، وبعضهم، سبعة فهذا غبن فاحش، لأنه لم يدخل تحت تقويم أحد بخلاف ما إذا قال بعضهم: ثمانية، وبعضهم: تسعة، وبعضهم: عشرة فهذا غبن يسير»[57]، وعبر بعض الحنفية عن ذلك بقوله: «اليسير: هو ما يتغابن فيه الناس، والفاحش: هو ما لا يتغابن فيه عرفًا»[58].

   وقال الحطاب المالكي: «قد اختلف الأصحاب في تقديره ــ أي الغبن المؤثر ــ فمنهم من حدده بالثلث فأكثر، ومنهم من قال: لا حد له، وإنما المعتبر فيه العادة بين التجار، فما علم أنه من التغابن الذي يكثر وقوعه بينهم ويختلفون فيه فلا مقال للمغبون باتفاق، وما خرج عن المعتاد فالمغبون فيه بالخيار»[59]، وقال المرداوي الحنبلي: «يرجع إلى الغبن إلى العرف والعادة على الصحيح من المذهب نص عليه ــ أي أحمد ــ وعليه جماهير الأصحاب»[60].

والذي يظهر لنا رجحانه:

هو الاتجاه الثاني الذي جعل معيار الغبن مرنًا حيث أعاد التحديد فيه إلى عرف التجار وتقويمهم وذلك لأنه لم يرد في الشرع تحديده فيرجع فيه إلى العرف، ولا سيما أن عرفهم يعتبر مرجعًا لكثير من أمور التعامل مثل اعتبار العين أو عدمه وغير ذلك، وأما الاتجاه الأول فعلى الرغم من أنه لا يخلو عن بعض فوائد مثل سهولة معرفته، لكنه معيار جامد لا يستجيب لجميع متطلبات التعامل وحالاته، فلا تصلح نسبة محددة كالنصف، أو العشر لجميع الحالات والظروف فمثل هذه القاعدة الجامدة المحددة دون النظر إلى الظروف والأحوال لا يؤمن من الوقوع في الإِجحاف والتعسف في بعض تطبيقاتها، أما المعيار المرن فيعطي للقاضي ميدانًا واسعًا للبحث عن العدالة حسب دراسة كل قضية. لذلك فإحالة الأمر إلى عرف التجار في كل الظروف والأعصار أقرب إلى موارد الشريعة وقواعدها العامة في التعامل[61].

تأثير الغبن في العقود:

والذي تقتضيه مبادىء العدالة وعدم الضرر والضرار، ومقاصد الشريعة، هو أن الغبن الفاحش مؤثر في العقد، لأنه من الظلم والضرر المحرمين في هذه الشريعة، قال ابن العربـي والقرطبـي وغيرهما من المفسرين: «استدل علماؤنا بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[62] على أن لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا»[63]، بل علل ابن رشد حرمة الربا بالغبن فقال: «وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي…»[64].

وأما تأثير الغبن الفاحش على العقود بالإِبطال أو بإثبات الخيار فقد اختلف فيه الفقهاء على ثلاثة اتجاهات، اتجاه يعتد به مطلقًا، واتجاه لا يعتد به مطلقًا، واتجاه يعتد به إذا صاحبه تغرير، وقد انتهينا في رسالتنا أن الذي يدعمه الأدلة المعتبرة هو الاتجاه الأول، وهو رأي داخل المذهب الحنفي وقول للمالكية اختاره البغداديون، ورأي داخل المذهب الحنبلي، وهو قول لبعض أئمة الزيدية، والإِمامية والظاهرية إذا كان المغبون جاهلاً بالغبن، حيث يرون أن الغبن وحده يؤثر في لزوم العقد دون الحاجة إلى التغرير، يحيث يكون للمغبون الحق في فسخ العقد، أو مطالبة العاقد الاخر برفع الغبن[65].

وهذا الرأي الراجح هو الذي ينبغي الاعتماد عليه هنا مع رعاية التفصيل الآتي:

1 ــ في العقود القائمة المستمرة (كعقد الإِجارة) يمكن تطبيق هذا المنهج وهو أنه للطرف المغبون الحق في فسخ العقد، أو مطالبة العاقد الاخر برفع العين.

2 ــ في العقود المبرمة الماضية كالقرض والمهر فإن الحل هو المطالبة برفع العين.

حالات الإِلغاء والانهيار للعملة:

لا شك أن النقود الورقية إذا ألغيت بأمر رسمي أو لأي سبب آخر، فإنه لا يبقى أمام العاقدين في الأداء إلا الرجوع إلى القيمة وقت العقد إما حسب الذهب، أو سلة العملات، أو السلع الأساسية.

ولكن إذا انهارت قيمتها مع بقائها عملة بحيث لم تبق لها قيمة تذكر كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية حيث كان رغيف الخبز الواحد يشترى بعشرات الالاف من الماركات، وكذلك الليرة اللبنانية التي كان سعرها في بداية السبعينات حوالي نصف دولار، ثم وصلت قيمتها إلى أن دولارًا واحدًا يساوي ألفًا وخمسمائة، وكذلك الدينار العراقي الذي كان سعره في بغداد قبل احتلال الكويت عام 1990م يساوي الواحد منه أكثر من ثلاثة دولارات ثم أصبحت قيمته بعد الحرب أن الدولار الواحد يساوي أكثر من ثلاثة آلاف دينار عراقي.

فمثل هذه الحالات لا تسمى بالغبن الفاحش، وإنما تسمى بالانهيار الكامل، فأرى أنه لا بد من علاج جذري لمثل هذه الحالات، وأنه لا ينبغي القول حينئذ بالرد بالمثل، وأرى أن معيار الانهيار هو أن يكون الفارق بين قيمة النقد يوم العقد وقيمته يوم الأداء بنسبة 100  ولا يستبعد اعتبار ما زاد على 50  من الانهيار لأنه يعتبر كثيرًا ــ كما سبق ــ وأن معيار الغبن الفاحش يبدأ ــ كما سبق ــ عند الفقهاء الذين حددوه بما زاد عن نصف العشر (5 ) وعند المجلة في مادتها 165 نصت على أن: «الغبن الفاحش غبن على قدر نصف العشر في العروض والعشر في الحيوانات، والخمس في العقارات…» وحدده بعض المالكية بالثلث، وبعض الحنابلة بالسدس وقد رجحنا في السابق الاعتماد على العرف وأنه المرجع في ذلك وأنه حسب عرفنا الحالي أن الزيادة حتى على الخمس، أو على السدس تعتبر من الغبن الفاحش.

تأصيل الاستثناءات في الفقه الإِسلامي:

إن من يتعمق في نصوص الشريعة الغراء ويتدبر في أصولها وأحكامها، وجزئياتها وفروعها ليتبين له بوضوح أن ديدنها هو تحقيق العدالة، وليست الوقوف عند النظريات العامة والمبادىء والقواعد الكلية، على عكس القوانين ــ ذات الصبغة اللاتينية ــ التي تولي عنايتها بالنظريات العامة، ولذلك نرى هذه الشريعة حتى لو أصلت قواعد عامة في موضوع معين لوجدتها تخالف مقتضاها فيما لو أدى ذلك إلى عدم تحقيق العدالة، والمقاصد الشرعية المطلوبة، وهذا نابع من ربانيتها، وأنها شريعة دينية مقصدها الأسمى تحقيق العدالة وليس تنفيذ القواعد.

ومن هذا المنطلق انطلق الأصوليون وقعدوا قاعدة: «ما من عام إلا وقد خص»[66]، فأخذت الاستثناءات سبيلها إلى معظم المسائل حتى صيغ منها في بعض الأحيان قواعد عامة مثل قاعدة: السكوت في معرض الحاجة بيان، وهي أساسًا استثناء من قاعدة: لا ينسب إلى ساكت القول[67].

ولذلك نرى أن الاستثناء وارد في أخطر المسائل وأكثرها حساسية مثل الربا، حيث استثني منه بيع العرايا، فالنصوص الصحيحة تدل بوضوح على وجوب التقابض والتماثل في بيع التمر بالتمر[68]، وعلى عدم جواز بيع الرطب بالتمر لنقصان الرطب إذا جف[69]، ومع ذلك رخص الرسول صلى الله عليه وسلّم استثناء من هذه القاعدة العامة في بيع العرايا أن تباع بخرصها كيلاً»[70].

وبيـع العرايـا هو: أن يخرص الرطب عـلى رأس النخـل تمـرًا ويبـاع بمثلـه مـن التمر[71]، وقال سفيان بـن حسين: العرايـا نخـل كـانت توهـب للمساكين فـلا يستطيعون أن ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بمـا شاؤوا من التمر[72]، وقد روى الشافعي عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبًا»[73].

فقد استثنى الرسول صلى الله عليه وسلّم العرايا لأجل حاجة هؤلاء إلى الرطب تحقيقًا لباب المساواة، وإشباعًا لرغبات هؤلاء حتى لا يحرموا مما هم في رغبة إليه استثناء من القواعد السابقة في باب الربا.

وكتب السنَّة مليئة بمثل هذه الاستثناءات والترخيصات.

واعتبر بعض الفقهاء بيع السلم استثناء من قاعدة بيع المعدوم[74] وهكذا الكثير من المسائل تبنى عند الفقهاء على الاستثناءات.

استثناءات من القاعدة العامة في الذهب والفضة (المثليات):

على الرغم من أن القاعدة العامة في الذهب والفضة الرد بالمثل ــ كما سبق ــ لكن الفقهاء مع ذلك استثنوا منها عدة حالات يكون الرد فيها بالقيمة، منها الذي ذكرناه بخصوص حالات الانقطاع والكساد والتغير على الخلاف.

بل إن الفقهاء لم يقفوا حتى من «المثلي موضوع دراستنا» موقفًا جامدًا، فنراهم يعرفونه بتعريفات مختلفة في أبواب الفقه المختلفة، فالمثلي في باب الحج هو المثل من حيث الحجم والشكل ولذلك اعتبروا الغزال مثل الشاة حيث يجب على من يقتل غزالاً أن يذبح شاة وهكذا[75]، في حين أن الحيوان لا يدخل في المثليات في باب الغصب والقرض، مما يدفعنا إلى القول بأن الدافع وراء هذا المصطلح هو تحقيق العدالة والميزان[76]، ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية في عوض المثل: «وهو أمر لا بد منه في العدل الذي به تتم مصلحة الدنيا والاخرة فهو ركن من أركان الشريعة… ومداره على القياس والاعتبار للشيء بمثله، وهو نفس العدل… وهو معنى القسط الذي أرسل الله له الرسل»[77].

بل إن ابن القيم جعل الوقوف عند التشابه الظاهري، دون الغوص في الحقائق والعلل والمقاصد من الشبه الذي «لم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين… الذين لم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليل، وإنما ألحقوا أحدهما بالاخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع… والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، هو قياس فاسد»[78].

ويؤكد ذلك أن الفقهاء ــ على الرغم من وضع هذه القاعدة ــ قاموا باستثناءات كثيرة، تكاد تكون قاعدة، تنصب على أن كل ما لا يحقق هذه العدالة لا تطبق عليه هذه القاعدة، قال السيوطي: «اعلم أن الأصل في المتلفات ضمان المثل بالمثل، والمتقوم بالقيمة، وخرج عن ذلك صور في باب الغصب»:

إحداها: المثلي، الذي خرج مثله عن أن يكون له قيمة كمن غصب، أو أتلف ماء في مفازة، ثم اجتمعا على شط نهر، أو في بلد، أو أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعا في الشتاء، فليس للمتلف بدل المثل، بل عليه قيمة المثل في تلك المفازة أو في الصيف.

ثانيتها: الحُلى، أصح الأوجه: أنه يضمن مع صنعته بنقد البلد، وإن كان من جنسه، ولا يلزم من ذلك الربا، لأنه يجري في العقود لا في الغرامات.

ثالثتها: الماشية إذا أتلفها المالك كلها، بعد الحول، وقبل إخراج الزكاة، فإن الفقراء شركاؤه، ويلزمه حيوان آخر، لا قيمته ــ مع أن الحيوان من القيميات ــ جزم به الرافعي وغيره، بخلاف ما لو أتلفها أجنبـي.

رابعتها: طم الأرض، كما جزم به الرافعي.

خامستها: إذا هدم الحائط، لزمه إعادته لا قيمته، كما هو مقتضى كلام الرافعي وأجاب به النووي في فتاواه، ونقله عن النص.

سادستها: اللحم، فإنه يضمن بالقيمة، كما صححه الرافعي وغيره في باب الأضحية مع أنه مثلي.

سابعتها: الفاكهة، فإنها مثلية على ما اقتضاه تصحيحهم في الغصب. والأصح: أنها تضمن بالقيمة.

ثم ذكر السيوطي صورًا أخرى في أبواب أخرى.

ففي باب البيع، إذا تحالفا وفسخ العقد، وقد تلف المبيع، أطلق الشيخان وجوب القيمة فيه فشمل المثلي وغيره، وهو وجه صححه الماوردي. وادعى الروياني الاتفاق عليه..

وفي باب القرض، استثنى الماوردي من القاعدة العامة نحو الجوهر، والحنطة المختلطة بالشعير، إن جوزنا قرضهما، فإنهما يضمنان بالقيمة، وصوَّبه السبكي.

وفي باب العارية: أطلق الشيخان وجوب القيمة فيها، فشمل المتقوم والمثلي، وصرح بذلك الشيخ في المهذَّب، والماوردي، وكذلك المستعار للرهن، يضمن في وجه؛ حكاه الرافعي عن أكثر الأصحاب بالقيمة، وفي وجه وصححه جماعة، وصوبه النووي في الروضة بما بيع به وهو ما كان أكثر من القيمة، فيستثنى ذلك من ضمان العارية بالقيمة، وفي باب المصراة، يكون البدل عن لبنها التمر ــ كما ورد في الحديث الصحيح[79] لا مثله، ولا قيمته[80]، كل هذه الاستثناءات وغيرها، لتدل دلالة واضحة على أن محاولات الفقهاء في تحديد المثلي والقيمي ووضع معايير لهما، كل ذلك للوصول إلى تحقيق العدالة، والتوازن بين الحقين.

وإذا كان المطلوب في وضع هذه المعايير هو تحقيق العدالة، فلا أعتقد أن من العدالة اعتبار الليرة اللبنانية اليوم ــ حيث يساوي دولار واحد 374 ليرة في شهر 9/87 ــ مثلاً[81] ــ لليرة اللبنانية عام 1970 ــ حيث كانت تساوي اثنتان منها دولارًا ــ ويدل على ذلك أقوالهم في كثير من الفروع الفقهية التي لها علاقة بالضمان والقيمة، فقد كان رائدهم في ثمن المثل، وأجرة المثل، ومهر المثل، وقيم الأشياء هو تحقيق العدالة بكل الوسائل المتاحة، ولذلك لاحظوا فيها الزمان والمكان والظروف والملابسات المحيطة بالشيء، فعلى سبيل المثال ذكروا ثمن المثل في شراء الماء في التيمم، وشراء الزاد ونحوه في الحج، وفي بيع مال المحجور، وغير ذلك، فقالوا: إنه يختلف باختلاف المواضع، قال السيوطي: «والتحقيق: أنه راجع إلى اختلاف في وقت اعتباره، أو مكانه»[82].

ففي باب التيمم ذكرت ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه أجرة نقل الماء إلى الموضع الذي هذا المشتري فيه، ويختلف ذلك ببعد المسافة وقربها.

الثاني: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في غالب الأوقات، فإن الشربة الواحدة في وقت عزت الماء يرغب فيها بدنانير. فلو كلفناه شراه بقيمة في الحال، لحقته المشقة والحرج.

الثالث: أنه قيمة مثله في ذلك الموضع في تلك الحالة، فإن ثمن المثل يعتبر حالة التقويم. وهذا هو الصحيح عند جمهور الأصحاب، وبه قطع الدارمي وجماعة من العراقيين، ونقله الإِمام عن الأكثرين. والتحقيق: أنه يوجب ذلك على المسافر، ولكن يعتبر الزمان والمكان من غير انتهاء الأمر إلى سد الرمق[83].

وفي باب الحج: جزم الأصحاب، بأن ثمن المثل للزاد والماء هو القدر اللائق به في ذلك المكان والزمان، وكذلك قالوا في الطعام والشراب، حال المخمصة. وفي باب البيع إذا تخالف المتبايعان، وفسخ، وكان المبيع تآلفًا، يرجع إلى قيمته وفي وقت اعتبارها، قالوا أقوالاً أصحها يوم التلف، والثاني: يوم القبض، لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة، أو نقصان فهو في ملكه، وثالثها: أكثر القيم من القبض إلى التلف، لأن يده يد ضمان[84].

وأما اعتبار القيمة في المغصوب المتقوم، فهو أقصى قيمة من الغصب إلى التلف بنقد البلد الذي تلف فيه[85].

وقد ذكر الفقهاء كثيرًا من الأمثلة للمثليات، راعوا فيها القيمة أيضًا، منها:

1 ــ فمثلاً الماء مثلي، ولكنه يستثنى من ضمانه بالمثل، إذا غصبه شخص في المفازة، فإنه يضمن بقيمته[86].

2 ــ إذا أعوز المِثل، رجعنا إلى القيمة.

3 ــ إذ كسر آنية قيمتها عشرون، ووزنها عشرة، قال الغزالي في هذه المسألة: «ففيه وجهان أحدهما: أن الوزن يقابل بمثله، والصفة بقيمتها من غير جنس الانية، وفيه وجه ألاَّ يبالي بالمقابلة بجنسه، فيكون البعض في مقابلة الصفة، كما لو أفرد الصفة بالإِتلاف. وقد رجح الرافعي هذا الوجه الأخير، ومعنى ذلك يجوز أن يأخذ عشرين مثقالاً في مقابلة ما وزنه عشرة، ما دام فيه صنعة[87].

هذا بالنسبة في ضمان المتلفات، وهذا محل اتفاق. أما في البيع فلم يجوزوه، إلا ما نقل عن مالك، وما روي عن معاوية أنه يجوز بيع مضروب بقيمته من جنسه، كحلى وزنه مائة يشتريه بمائة وعشرة، وتكون الزيادة في الصنعة، وهي الصياغة، وقال الأوزاعي كان أهل الشام يجوزون ذلك فنهاهم عمر[88]، وكذلك اعتبر ابن تيمية وابن القيم المصوغ كالحلى يراعى فيه القيمة.

4 ــ يقول الشوكاني: «فإذا تلفت كان المالك مخيرًا بين أخذ مثلها، أو قيمتها يوم الغصب، على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع المثلي من أعلى أنواع الجنس، وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح، أقرب إلى دفع التشاجر، وأقطع لمادة النزاع»[89].

ولم يغفل الفقهاء حتى في الذهب والفضة الوزن، حتى في حالة كونهما نقدين، فقد روى حرب قال: قلت لأحمد: دفعت دينارًا كوفيًّا ودرهمًا وأخذت دينارًا شاميًّا وزنهما سواء لكن الكوفي أوضع؟ قال: لا يجوز، إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة[90] فما يجري فيه الربا، اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزنًا[91]، وقد أخذوا ذلك من الحديث الصحيح الذي رواه مسلم بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الذهب بالذهب وزنًا بوزن»[92].

كما أنهم لم يغفلوا عن القيمة، حتى في بعض صور بيع الدراهم بالدينار، حيث اعتبر بعضهم النقص في القيمة عيبًا يمنع الرد، يقول الفقيه الحنبلي الخَرَقي: «وإذا اشترى ذهبًا بورق عينًا بعين، فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبًا، فله الخيار بين أن يرد، أو يقبل إذا كان بصرف يومه…»، وعلق ابن قدامة على قوله: «إذا كان بصرف يومه» قائلاً: «يعني: الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا، فإن نقصت قيمته كأن أخذ عشرة ــ أي من الدراهم ــ بدينار، فصارت أحد عشر بدينار، فظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا يملك الرد، لأن المبيع تعيَّب في يده، لنقص قيمته»، ثم إن ابن قدامة سلَّم بأن نقص القيمة عيب وإن كان لا يمنع ذلك من الرد، لوجود العيب القديم في نظره، ولكنه يجب عليه في حالة الرد أرش العيب الحادث عنده، وأخذ الثمن[93].

وقد أخذوا ذلك، من حديث ابن عمر، حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: «رويدك أسألك: إني أبيع الإِبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهيم وأخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء»[94].

وذكر ابن نُجيم الحنفي أمثلة كثيرة رُوعيت فيها القيمة في هذا الباب منها: إذا وجب الرجوع بنقصان العيب عند تعذر رده، كيف يرجع به؟ قال قاضيخان: وطريق معرفة النقصان، أن يقوَّم صحيحًا لا عيب فيه، ويقوَّم به العيب».

ومنها: المغصوب المثلي إذا انقطع، قال أبو حنيفة رحمه الله: تعتبر قيمته يوم الخصومة، وقال أبو يوسف رحمه الله: يوم الغصب، وقال محمد رحمه الله: يوم الانقطاع.

ومنها: المتلف بلا غصب، تعتبر قيمته يوم التلف. ولا خلاف فيه، ومنها المقبوض بعقد فاسد، تعتبر قيمته يوم القبض.

ومنها: الرهن إذا هلك بالأقل من قيمته ومن الدين، فالمعتبر قيمته يوم الهلاك.

ومنها قيمة اللقطة إذا تصدق بها، أو انتفع بها بعد التعريف، ولم يجد مالكها، فالمعتبر فيها يوم التصدق)[95].

ويقول ابن القيم: «إن جميع المتلفات تضمن بالجنس بحسب الإِمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رد مثله كما اقترض النبـي صلى الله عليه وسلّم بكرًا ورد خيرًا منه.. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.

وقصة داود وسليمان عليهما السلام من هذا الباب، فإن الماشية كانت قد أتلفت حرث القوم، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث كأنه ضمنهم بالقيمة، وأما سليمان، فحكم بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث، حتى يعود كما كان، فضمنهم إياه بالمثل، وأعطاهم الماشية، يأخذون منفعتها عوضًا عن المنفعة التي فاتت من غلة الحرث إلى أن يعود، وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز، فيمن أتلف له شجر فقال الزهري: يغرسه حتى يعود كما كان، وقال ربيعة وأبو الزناد: عليه القيمة، ثم قال بأن القاعدة في المثلي هي المساواة في الجنس، والصفة، والمالية، والمقصود والانتفاع، ولذلك فما كان أقرب إلى المماثلة، فهو أولى بالصواب[96]، ومن هنا لنا الحق أن نتساءل: هل النقود الورقية هذه السنة تشبه النقود الصادرة قبل عشرين سنة؟! ويقول ابن حجر عند تعليقه على القول برد المثل في القيمي عند من يقول به: «ومن لازم اعتبار المثل الصوري: اعتبار ما فيه من المعاني التي تزيد بها القيمة»[97].

ثانيًا: أن جمهور الفقهاء عرفوا المثلي في أبواب القرض والغصب والإِتلاف، بما هو مكيل أو موزون، وجعلوا الكيل، أو الميزان معيارًا له. فعلى ضوء ذلك، لا يدخل فيه النقود الورقية، فتكون من القيميات التي يلاحظ فيها عند الحقوق والالتزامات قيمتها.

وأما على ضوء تعريف إمام الحرمين والغزالي، الذي جعل تساوي الأجزاء من حيث القيمة والمنفعة معيارًا للمثلي، فلا تدخل فيه النقود الورقية، فالليرة اللبنانية الان هل تساوي الليرة اللبنانية قبل خمس عشرة سنة؟ وكذلك الأمر بالنسبة لتعريف الكاساني الذي أضاف إلى المكيل والموزون: المعدود الذي لا اختلاف بين آحاده، وذلك لأن النقود الورقية يوجد بينها اختلاف بيِّن بين آحاده، وذلك لأن النظر إلى النقد الورقي ليس باعتبار شكله، ورسمه، وإنما باعتبار قيمته الشرائية، فالنقود الورقية ليس فيها نفع ذاتي، فلا تؤكل ولا تشرب، ولا تلبس، وإنما باعتبار ما يشترى بها.

وقد رأينا المحققين رجحوا تعريف المثلي بما هو مكيل أو موزون، وشاهدنا دفاع الإِمام الجليل الرافعي وغيره عنه، ويقول ابن قدامة: «وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن»[98].

ويقول صاحب المطالب: «ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض»[99]، ويقول العلامة البابرتي: «إن الميكلات والموزونات كلها من ذوات الأمثال، دون القيم»[100].

فعلى ضوء هذا التعريف للمثلي لا تدخل النقود الورقية فيه، فتكون من القيميات التي تلاحظ فيها القيمة كقاعدة عامة.

ومن هذا العرض، يمكن القول بأن للفقهاء في باب القروض والغصب معيارين: معيارًا ذاتيًّا، وهو رعاية الكيل، أو الوزن، ومعيارًا موضوعيًّا مرنًا، وهو تساوي الأجزاء مع رعاية القيمة والمنفعة، وهذا ما اختاره إمام الحرمين والغزالي وغيرهما، وهو الذي يظهر رجحانه. إذ أن الوقوف عند الناحية الشكلية، دون رعاية الجوهر والغاية والمقاصد، لا يتفق مع هذه الشريعة التي نزلت لتحقيق العدالة في كل الأمور… ولذلك جعل الماوردي وغيره تساوي القيم بين شيئين معيارًا لتحقيق المثلية فيهما فقال: «فإن التماثل بالقدر، غيـر أن القيمة يعرف بهـا تماثل القدر وتفاضلـه»، وقد ذكر ابن همام أن المماثلة الحقيقية المطلوبة لا تتحقق إلا باعتبار الصورة والمعنى، والمعيار يسوي الذات ــ أي: الصورة ــ والجنسية تسوي المعنى[101].

ثالثًا: إن قضية المثلي والقيمي، واعتبار ما هو مثلي أو قيمي، ليست من الأمور المنصوص عليها في الشرع، بحيث لا يمكن تجاوزها، وإنما كان الغرض منها هو محاولة التقريب والتبسيط والتقعيد الفقهي، والرائد فيها هو تحقيق العدالة، ولذلك قالوا في تعليلهم لوجوب رد المثل في المثلي: أن المثل هو أقرب الأشياء إليه، وقالوا في رد القيمي في القيمي: أنه نظرًا لتفاوت أفراده يمنع رد المثل فيه، ولذلك تجب قيمته، ومن هنا إذا رد المقرض في القيميات شيئًا أحسن مما أخذه يجوز، استنادًا إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث استسلف من رجل جملاً بكرًا فأمر أن يعطيه رباعيًّا وقال: «فإن خياركم أحسنكم قضاء»[102].

وقد أكد الإِمام الشوكاني ذلك، وبين بأن قاعدة المثلي والقيمي قاعدة مرنة جدًا، وأنها ليست منصوصة، فقال: «قوله: وفي تالف المثلي مثله إلخ» أقول: «إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه، أنه مثلي، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي، هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله، والقيمي بقيمته، هو أيضًا مجرد رأي عملوا عليه، وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته»[103].

ولو استقرينا فروع الشريعة وكلياتها ومبادئها ووسائلها، لوجدناها قائمة على العدل قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[104]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[105]، وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً  بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}[106]، إلى غير ذلك من الايات الكثيرة الدالة على ذلك.

يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: «والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل، وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم»[107].

هل النقود الورقية مثل الدراهم والدنانير في كل الأحكام؟

هذا هو السؤال الذي يفرض نفسه علينا، والجواب عنه بالسلب، أو بالإِيجاب، أو بالتفصيل، يكون هو الأساس في أي حل يراد.

فقد ذهب أكثر العلماء الذين عاصروا مولد النقود الورقية إلى أنها ليست مثل النقود الذهبية والفضية على الإِطلاق، بل ذهب بعضهم إلى نفي نقديتها وماليتها، ورتبوا عليها عدم وجوب الزكاة فيها، وعدم جريان الربا فيها. فقد جاء في فتح العلي لمالك: «… ما قولكم في الكاغد، الذي فيه ختم السلطان، ويتعامل به كالدراهم والدنانير… هل يزكى زكاة العين أو العرض أو لا زكاة فيه؟».

فأجبت بما نصه: «… لا زكاة فيه، لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار، والذهب والفضة، ومنهما قيمة عرض المدير وثمن عرض المحتكر، والمذكور ليس داخلاً في شيء منها. ويقرب لك ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك[108].

يقول الأستاذ الدكتور القرضاوي: «لم تُعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكل ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم ير هذه نقودًا، لأن النقود الشرعية إنما هي الذهب والفضة، وإذن لا زكاة فيها… وبهذا أفتى الشيخ عليش وبعض الشافعية…»[109].

وقد أسند كتاب الفقه على المذاهب الأربعة إلى الحنابلة عدم وجوب الزكاة في الورق النقدي، إلا إذا صرف ذهبًا، أو فضة، ووجدت فيه شروط الزكاة السابقـة[110]، وهذا الإِسنـاد غيـر مقبـول، لأن النقـد الورقـي لم يكـن موجـودًا في زمـن أحمـد ولا أصحابه، وحتـى لازم المذهب ليس بمذهب، فكيف تسنى له أن يسند إليهم هذا القول؟!

وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق، بعدم وجوب الزكاة فيها، وعدم أداء الزكاة بها، وعدم جواز شراء الذهب والفضة بها[111].

وبعكس هذا الاتجاه، ذهب علماء معاصرون كثيرون إلى وجوب الزكاة فيها، منهم: العلامة أحمد الساعاتي صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، حيث قال: «فالذي أراه حقًّا، وأدين الله عليه، أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء، لأنه يتعامل به كالنقدين تمامًا»[112].

وأفتى بمثله العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي، حيث قال: «فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة»[113].

وكذلك أفتى بمثله بعض علماء الهند مثل: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي صاحب عطر الهداية. وذكر المفتي سعيد أحمد اللكنوي في كتابه أن الإِمام عبد الحي اللكنوي كان يوافق تلميذه الشيخ فتح محمد في هذه المسألة[114].

والراجـح أن هـذا الخـلاف لفظي، وليـس خلافًا معنـويًّا، ولا خلافًا قائمًا على الحجة والبرهان، وإنما هو خلاف عصر وأوان، فالأوائل بنوا أقوالهم في عدم وجوب الزكاة فيها على أساس أنها كانت سندات لديون، والاخرون نظروا إليها باعتبارها أصبحت أثمانًا بالعرف، وكلا الرأيين صحيح؛ فالأوراق النقدية كانت في بدايتها سندات، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: «إن البنكنوت كان ظهوره قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وأن حقوق هذه الورقة تنتقل إلى آخر عند تسلمها، فحينئذ يكون حاملها دائنًا للبنك بطريقة تلقائية…»[115].

وأما الآن بل ومنذ فترة ليست وجيزة، لم يعد لها هذا التكييف، بل هي تطورت وأصبحت عملة قانونية، ومنعت الحكومات البنوك الشخصية من إصدارها، وحينئذ تختلف حقيقتها عن السندات المالية الأخرى في أمور كثيرة[116].

وكذلك في مسألة الربا، حيث لا ينبغي تكييف مسألة النقود الورقية الان على أنها ما دامت لا تتحقق فيها علة الربا عند بعض العلماء، يجوز فيها الربا قياسًا على قول من أجاز الربا في الفلوس، وذلك لأن هؤلاء لما قالوا في الفلوس، قالوا فيها باعتبار كونها سلعة، ولا سيما أنها لم تكن النقد السائد، بل كانت المساعدة، أما لو شاهدوا غلبتها وأصبحت العملة الوحيدة، فلا أعتقد أن أحدًا منهم يقول بهذا القول، ولذلك نرى مشايخ ما وراء النهر، حرَّموا التفاضل في العدالي والغطارفة ــ نوعان من النقود الفضية التي كانت نسبة النحاس فيهما أكثر من الفضة ــ مع أن علماء المذهب الحنفي القدامى أجازوا التفاضل وزنًا وعددًا في الدراهم والدنانير المغشوشة.

قال المرغيناني: «وإن كـان الغالب عليهمـا الغش فليسـا فـي حكـم الـدراهم والدنـانير، وإن بيعـت بجنسهـا متفاضـلاً جـازا…»، ثـم قـال: «ومشايخنا رحمهم الله لم يفتوا بجواز ذلك في العدالي والغطارفة، لأنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيه ينفتح باب الربا. ثم إن كانت تروج بالوزن فالتبايع والاستقراض فيها بالوزن، وإن كانت تروج بالعد فبالعد…»[117].

ولكن مع رواج النقود المغشوشة وقبولها وكونها من أعز الأموال، لم يعط الحنفية كل أحكام الدراهم والدنانير الخالصة.

يقول المرغيناني: «ثم هي ما دامت تروج تكون أثمانًا، لا تتعين بالتعيين، وإذا كانت لا تروج، فهي سلعة تتعين بالتعيين، وإذا كانت يتقبلها البعض دون البعض، فهي كالزيوف لا يتعلق العقد بعينها، بل بجنسها زيوفًا، إن كان البائع يعلم بحالها، لتحقق الرضا منه، وبجنسها من الجياد، إن كان لا يعلم، لعدم الرضا منه»[118].

ثم قال موضحًا المزيد من الفرق بينها وبين الجياد: «وإذا اشترى بها سلعة، فكسدت، وترك الناس المعاملة بها، بطل البيع عند أبـي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما تعامل الناس بها. لهما أن العقد صح، إلا أنه تعذر التسليم بالكساد، وأنه لا يوجب الفساد… وإذا بقي العقد، وجبت القيمة، لكن عند أبـي يوسف وقت البيع، لأنه مضمون به، وعند محمد يوم الانقطاع، لأنه أوان الانتقال إلى القيمة… ولأبـي حنيفة أن الثمن يهلك بالكساد، لأن الثمنية بالاصطلاح، وما بقي، فيبقى بيعًا بلا ثمن فيبطل، وإذا بطل البيع، يجب رد المبيع، إن كان قائمًا وقيمته، إن كان هالكًا، كما في البيع الفاسد»، ونقل ابن الهمام عن صاحب الذخيرة: أن الفتوى على قول أبـي يوسف[119].

الفروق الجوهرية بين النقود الورقية والمعدنية والذاتية:

 وبعد هذا العرض، يمكننا أن نأتي إلى ذكر الفروق الجوهرية بين النقود الورقية والنقود المعدنية والذاتية بإيجاز.

الفرق الأول: أن الذهب والفضة نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح، اكتسبت قوتها في بدايتهـا مـن غـطائها الذهبـي أو الفضي، والان تكسبهـا مـن قـوة الـدولـة وضمانها لها.

ولذلك فليس بوسع أي أحد ــ فردًا أو دولة ــ أن يلغي قيمة النقود المعدنية، حتى لو ألغيت نقديتها رسميًا ستظل قيمتها باقية كسلعة.

أما النقود الورقية، فتستطيع كل دولة أن تلغيها، أو تنقص من قيمتها. وإذا ألغيت فلا يبقى لها أية قيمة.

ولا شك في أن قيمة النقود الورقية في قوتها الشرائية، وقدرتها على أن يشترى بها الحاجات الأساسية وغيرها، وذلك، لأن النقود الورقية ليست مما تؤكل ولا تلبس، ولا يتحلى بها، على عكس السلع، والنقود الذهبية والفضية.

الفرق الثاني: أن النقود الذاتية لا ينسى مع نقديتهما وزنهما، باعتبار أن زيادة الوزن تدل بلا شك على زيادة القيمة، وقد أشار إلى ذلك الحديث الصحيح: «وزنًا بوزن»[120]، ويترتب على ذلك أمران:

الأمر الأول: عدم جواز الزيادة بين تبر الذهب ونقده، بل وبين الدنانير بعضها ببعض إذا كان في أحدها زيادة على الاخر، يقول الشافعي: «… أرأيت الذهب والفضة مضروبين دنانير، أو دراهم… لا يحل الفضل في واحد منهما على صاحبه لا ذهب بدنانير، ولا فضة بدراهم إلا مثلاً بمثل، وزنًا بوزن، وما ضرب منهما، وما لم يضرب سواء لا يختلف». «الربا في مضروبه وغير مضروبه سواء».

فقد نظر الشافعي إلى النقود من حيث أصلها، فما دام موزونًا فيراعى فيه الوزن، وهكذا، ولذلك فما كان غير موزون أو مكيل ويصبح ثمنًا بالعرف يلاحظ فيه أصله، يقول الشافعي: «وإنما أنظر في التبر إلى أصله، وأصل النحاس لا ربا فيه».

وما دام يلاحظ في النقود الذهبية والفضية أصلها من حيث الوزن، ولذلك يوجد الربا في مضروبه وغير مضروبه، ومن هنا «فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفًا غير مضروبها؟»[121]، وإلى اعتبار الوزنية في الذهب والفضة تبرهما ونقدهما، ذهب الحنفية[122] والمالكية[123]، والحنابلة[124] وغيرهم.

قال ابن رشد: «وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، إلا ما روى عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه، فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه؟ فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألاَّ يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه، وأنكر ابن وهب من أصحابه[125].

قال ابن قدامة: «فإذا باع دينارًا بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصًا، بطل الصرف، لأنهما تبايعا ذهبًا بذهب متفاضلاً»[126].

قال ابن عابدين: «فإذا استقرض مائة دينار من نوع، فلا بد أن يوفي بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن، أو يوفي بدلها وزنًا لا عدادًا»[127].

الأمر الثاني: جواز بيع دينار ذهبـي زائد بدينار ناقص، وزيادة بقدر النقصان، وبالعكس فقد روى الحافظ ابن أبـي شيبة وعبد الرزاق بسندهما، عن الحكم أن في الدينار الشامي بالدينار الكوفي وفضل الشامي فضة قال: لا بأس به، ورويا مثله عن مجاهد، وروى عبد الرزاق بسنده عن مجاهد: في الرجل يبيع الفضة بالفضة بينهما فضل؟ قال: «يأخذ بفضله ذهبًا، وروى مثله ابن أبـي شيبة، عن طاووس والنخعي»[128].

بل إن جماعة من الفقهاء منهم أبو حنيفة ومحمد ذهبوا إلى اعتبار الوزن في الدراهم والدنانير مطلقًا، وذلك لأن النبـي صلى الله عليه وسلّم نص على وزنيتهما حيث قال: «وزنًا بوزن» والنص أقوى من العرف، فهو لا يعارض النص، وذكر ابن عابدين أن الدراهم والدنانير في عصره كانت مختلفة حيث قال: «فإن النوع الواحد من أنواع الذهب والفضة المضروبين قد يختلف في الوزن كالجهادي والعدلي والغازي من ضرب سلطان زماننا، فإذا استقرض مائة دينار من نوع فلا بد أن يوفي بدلها مائة من نوعها الموافق لها في الوزن أو يوفي بدلها وزنًا لا عددًا، أما بدون ذلك، فهو ربًا، لأنه مجازفة»[129].

ولا شك في أن النقود الورقية لا يلاحظ فيها الوزن قاطبة حتى تكون مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ومن هنا قال الشافعي: «الذهب والفضة بائنان من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما»[130].

الفرق الثالث: أن النقود الذاتية كالدراهم والدنانير، حتى لو ألغيت نقديتها، بقيت مثليتها، على عكس النقود الاصطلاحية كالفلوس عند من يقول بها، حيث لو كسدت تصبح سلعة متقومة عند الكثيرين، أما الدراهم والدنانير، حتى لو كسدتا وألغيت نقديتهما، بقيتا مِثليتين.

بل إن الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة أحسن حالاً من النقد الورقي إذ إنها باعتبار أصولها وإمكانية الانتفاع من موادها، كسلعة تحمل قيمة. أما النقود الورقية، فلا تحمل أية قيمة، إذ أنها لم تعد صالحة للانتفاع بها، حتى للكتابة عليها بعدما كتبت عليها من كتابات خاصة بالدولة التي أصدرتها.

ولذلك يقول الاقتصاديون: إن هذه الأوراق جعلتها الدولة أثمانًا عرفية، وألزمت الناس بقبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقًا حتى «النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالاً لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقويمها موقوفًا على إعلان الحكومة، ولا يجعلها أثمانًا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس، أو الحديد مما هي أموال في أنفسها، ولذا لو أبطلت الحكومة ثمنيتها، بقي تقوُّمها من حيث موادها، وأما هذه الأوراق، فليست أموالاً في أنفسها، وإنما جاء فيها التقويم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها[131]، إذن فما المانع إذا قامت الحكومة بخفض قيمتها، أن نلاحظ هذه القيمة بقدرها في الحقوق والالتزامات الاجلة؟

يقول الأستاذ جيوفري: «إن الورق النقدي الان ليس إلا قطعة من الكاغذ، ليس لها قيمة ذاتية، ولو قدمت إلى البنك البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية أخرى، أو ورق نقدي آخر»[132]، وحاصل ذلك: أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر إلا عن ضمان الحكومة لحامله، بأنه مستعد للوفاء بوعده، ولكن ليس بذهب ولا فضة، بل بورق آخر يساويه في القيمة.

وقد أشار ابن عابدين إلى أن العملة الذاتية الخالصة تكتسب قوتها من ذاتيتها، ولذلك لا يتحكم فيها الناس ــ كقاعدة عامة ــ على عكس النقود الاصطلاحية حيث يقول:

«فإنه ــ أي الغلاء والرخص ــ إنما يظهر إذا كانت ــ أي الدراهم والدنانير ــ غالبة الغش تقوَّم بغيرها»[133].

وأشار الشافعي إلى فرق لطيف بين الذهب والفضة من جانب، وبين غيرهما، حتى ولو صار نقدًا مثل الفلوس، حيث ذكر أن الذهب سواء كان مضروبًا كالدينار، أم تبرًا لا يجوز بيعه بالذهب مطلقًا إلا مثلاً بمثل، وكذلك الفضة، «وما ضرب منهما وما لم يضرب سواء لا يختلف… فلا يحل الفضل في مضروبه على غير مضروبه… فكيف يجوز أن يجعل مضروب الفلوس مخالفًا غير مضروبها[134]؟» فالنقود الورقية يجوز أن يشترى بها كميات أكثر من وزنها من الأوراق التي صنعت منها.

الفرق الرابع: أن علماءنا المعاصرين متفقون على أن نقودنا الورقية تقوَّم بالذهب، أو الفضة، أو غيرهما لمعرفة نصاب الزكاة فيها، ولذلك فنقد كل بلد يقوم فإذا بلغ ما لدى الإِنسان مقدارًا يصل إلى قيمة عشرين مثقالاً من الذهب، أو مائتي درهم من الفضة تجب الزكاة إذا حال عليه الحول، بل أكثر من ذلك رجح فضيلة الأستاذ القرضاوي ربط نصاب النقود الورقية بالسلع الأساسية التي نص على نصابها فقال: «وبناءً على هذا البحث، نستطيع أن نضع معيارًا ثابتًا للنصاب النقدي، يلجأ إليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيرًا فاحشًا يجحف بأرباب المال أو بالفقراء، وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإِبل، أو أربعين من الغنم في أوسط البلاد وأعدلها»[135].

الفرق الخامس: أن المعاصرين جميعًا متفقون على أن نقودنا الورقية مختلفة باختلاف الدول التي تصدرها، ولذلك لا يجري الربا بين ريال قطري وبين ريال سعودي، مع أن كلاًّ منهما ريال، وبينهما شبه شكلي، فيجوز بيع ريال سعودي بريال وزيادة كما هو المعهود، ولو رد الدين به بدل الريال القطري تحسب هذه الزيادة فما السبب في ذلك؟

لا جواب على ذلك إلا اعتبار القيمة للريالين، ولذلك فهي ليست ثابتة، فقد يزداد سعر أحدهما دون الاخر وبالعكس، فلا اعتبار للاسم ولا للشكل ولا للوزن والعدد، وإنما للقيمة، في حين لو كانت العملة ذهبية، لما اختلفت باختلاف دولة الإِصدار.

الفرق السادس: أن أكثر العملات ــ إن لم يكن جميعها ــ قد كتب عليها عبارة: «ورقة نقدية مضمونة القيمة بموجب القانون» حتى إذا لم يكتب عليها هذه العبارة، فهذا هو واقعها، فقيمتها في قوتها الشرائية، فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ننكر هذا الواقع لأجل شكل ما أنزل الله به من سلطان؟ ولا أحد يدعي أن الذهب، أو الفضة حينما يضرب يحتاج إلى هذه العبارة، أو هذا الضمان.

الفرق السابع: إن النقود الورقية في واقعها الذي ظهرت فيه كانت عبارة عن صكوك، تعبر عن الرصيد الذي كانت تمثله، ثم وضع لها غطاء ذهبـي، فكانت قيمتها باعتبار هذا الغطاء، ثم لما ألغي هذا الغطاء، أصبحت موارد الدولة وقوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وقوة ضمانها من قبلها هي الغطاء، ولذلك تتقلب هبوطًا وارتفاعًا حسب التقلبات التي تقع على الدولة المصدرة لها والضامنة لها، فهذا يعني بكل بساطة رعاية قيمتها وقدرتها الشرائية، ولذلك تتغير قيمة الليرة اللبنانية الان وهي متقلبة ومتغيرة، وأن النقود نفسها تتأثر بها، فلا بد إذن القول بأن الليرة اللبنانية اليوم التي يُمثلها غطاء ضعيف مهزوز، غير الليرة التي كان يمثلها غطاء قوي من حيث الواقع والغاية والهدف والنتيجة، فهي مرتبطة بأصل، وهذا الأصل قد تغير جوهره، فما يبنى عل الأصل لا بد أن يتغير به.

وهذا بلا شك على عكس النقود الذهبية والفضية، حيث تكتسب قوتها من ذاتها، ولا تحتاج إلى هذه الاعتبارات.

الفرق الثامن: أن الفقهاء حينما أجمعوا على أن الذهب والفضة، والحنطة والشعير ــ مثلاً ــ يجب فيها المثل مطلقًا في حين اختلفوا في النقود المغشوشة والفلوس، حيث لاحظ بعضهم القيمة عند الغلاء والرخص، صرحوا بأن السبب في ذلك أن الذهب والحنطة ونحوهما مما يستفاد بذاتها مع قطع النظر عن قيمتها، فعشرة كيلوات من الحنطة سواء رخص سعرها أم غلا، هو غذاء يحقق الغرض المقصود، وينتفع به صاحبها من حيث الطعم والغذاء دون أن يؤثر فيها القيمة ــ ولكن الفلوس والنقود المغشوشة تكمن قيمتهما في رواجهما وقبول الناس لهما فإذا لم يتحقق فيهما هذه الشروط، فقد فقدتا مثليتهما، وبالتالي يلاحظ فيهما القيمة والقوة الشرائية.

الفرق التاسع: حاجة النقود الورقية إلى التقويم:

لنا أن نتساءل: ما هو المعيار الذي تحدد به قيمة النقود في العالم؟ فمثلاً يكون الريال القطري الان يساوي كذا، وسابقًا كان يساوي كذا، وكذلك بقية العملات، ثم العلاقة بين عملة أخرى، فالدولار يساوي مثلاً 3,65 ريال قطري و 330 قرشًا مصريًا مثلاً.

فكان المعيار عند نشأة النقود الورقية هو الغطاء الذهبـي، إذن كانت مقومة به ومعتبرة به، وتابعة له من حيث الرخص والغلاء، أما بعد أن ألغى هذا الربط فبأي شيء يرتبط؟ لا شك أنها مرتبطة بعدة اعتبارات مختلفة للدولة التي تصدرها.

وأيًا ما كان، فقد روعي من حيث أساسها القيمة، ولا تزال في دول الغرب يلاحظ فيها قوتها الشرائية، حيث يعرف من خلالها نسبة التضخم، ويكون المعيار في ذلك هو السلع الأساسية باعتبار وقتين مختلفين، وقت إصدار النقد، والوقت الذي حصل فيه الغلاء.

بل أكثر من ذلك لا تزال قيمة النقود الورقية يراعى فيها قيمتها في مقابل الذهب على مستوى الصندوق المالي العالمي… يقول الأستاذ محمد تقي العثماني: «وفي سنة 1974م اختار (الصندوق المالي العالمي) فكرة (حقوق السحب الخاصة) كبديل لاحتياطي الذهب، وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول، لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جرامًا من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وأن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلاً لاحتياطي الذهب»[136].

وأما النقود الذهبية، أو الفضية فلم يقل أحد بأنها بحاجة إلى التقويم.

الفرق العاشر: أن مشكلة التضخم التي يعاني منها العالم ولدت في أحضان النقود الورقية، بعد ما حلت محل النقود الذاتية بحيلة قانونية ــ كما ذكرنا ــ ولا سيما بعد ما أصبحت بلا غطاء حقيقي، ولذلك أصبحت أموال الناس مهددة بهذه التقلبات الكبيرة التي نشاهدها ونعايشها، فكم من غني جمع من النقود الورقية بكده وعرق جبينه، ثم ظهر التضخم فأكل أمواله النقدية، وأصبحت كل هذه العملات التي يملكها لا تساوي شيئًا يذكر، فكم من تجار مهرة في لبنان جمعوا أموالهم بالليرة اللبنانية وبلغت الملايين، ولكن بعد ما حصل لليرة اللبنانية ما حصل أصبحت مئات الالاف لا تساوي شيئًا يذكر.

فلو كانت نقودنا ذهبية، أو فضية فهل كان ينجم كل هذه الأضرار؟

إن الحضارة الإِسلامية لم تشهد تضخمًا إلا حينما شاعت الفلوس والنقود المغشوشة، ولم تشهد النقود الذهبية والفضية الخالصة أي تضخم يذكر.

يقول الأستاذ محمد الحريري: «إن هذا الداء ــ أي داء التضخم ــ كان ظاهرة اقتصادية، رافقت الانتقال من النقود السلعية إلى النقود الائتمانية… فالذهب والفضة تمتعا ــ كنقود ــ بثبات نسبـي في قيمتهما.. وذلك، لأن النقود السلعية ــ ومنها الذهب والفضة ــ كانت تتساوى قيمتها الاسمية مع قيمتها التبادلية، بينما تقل كثيرًا قيمة النقد الاصطلاحي، عن قيمته الإِسمية، وباستعرض تاريخي للأزمات الاقتصادية في العالم، نجدها مصاحبة لتداول النقد الورقي»[137].

ويذكر المقريزي وغيره أسباب المشاكل النقدية التي وقعت في بعض العصور الإِسلامية، وأنها تكمن في إصدار الفلوس، يقول المقريزي: «الفلوس لم يجعلها الله تعالى قط نقدًا في قديم الدهر وحديثه، إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة وأرذلهم صريرة ــ الملك الناصر ــ وقد علم كل من رزق فهمًا وعلمًا أنه حدث في رواجها خراب الأقاليم، وذهاب نعمة أهل مصر، والفضة هي النقد الشرعي ــ أي بجانب الذهب ــ لم تزل في العالم، … ومنذ كان المُلك إلى أن حدثت الحوادث والمحن بمصر سنة ست وثمانمائة في جهات الأرض كلها عند كل أمة من الأمم كالروم والفرس وبني إسرائيل، واليونان والقبط، والنبط والتبابعة، ومن أقيال اليمن والعرب العاربة، والعرب المستعربة، ثم في الدول الإِسلامية من حين ظهورها على اختلاف دولها التي قامت بدعوتها كبني أمية بالشام والأندلس، وبني العباس بالعراق، والعلويين بطبرستان وبلاد المغرب، وديار مصر والشام، والحجاز واليمن، ودولة بني بويه، ودولة الترك بني سلجوق، ودولة الأكراد بمصر والشام، ودولة المغول ببلاد المشرق، ودولة الأتراك بمصر والشام..

إن النقود التي كانت أثمانًا وقيمًا، إنما هي الذهب والفضة فقط، ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم، ولا طائفة من الطوائف أنهم اتخذوا أبدًا في قديم الزمان ولا حديثه نقدًا غيرهما.

إلا أنه لما كانت في المبيعات محقرات تقل أن تباع بدرهم أو بجزء منه، أصبح قديمًا وحديثًا إلى شيء سوى النقدين يكون إزاء تلك المحقرات، ولم يسم أبدًا ذلك الشيء الذي جعل للمحقرات نقدًا البتة.. ولا أقيم قط بمنزلة أحد النقدين، ولم تزل ملوك مصر والشام والعراقيون، وفارس والروم في أول الدهر وآخره، يجعلون بإزائها نحاسًا يضربون منه القليل والكثير صغارًا تسمى فلوسًا، وكان للناس بعد الإِسلام وقبله أشياء أخرى يتعاملون بها كالبيض، والودع[138] وغير ذلك[139]، ويقول الشافعي في الأم بعد أن ذكر أن الفلوس لا يمكن أن تكون أثمانًا ونقودًا: «وقد بلغني أن أهل سويقة في بعض البلدان أجازوا بينهم خزفًا مكان الفلوس»[140].

وما قاله المقريزي وغيره في حق الفلوس تحقق منه أكثر في عالم النقود الورقية من مشاكل التضخم، وسرقة أموال الناس من خلالها، والتقلبات الخطيرة التي لم يعد الإِنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزنًا للثروة، ولا قيمًا يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها، فهي بدعة أحدثها الغرب، للتحكم في ثروات العالم رخصًا وغلاءً، وحسب مصالحهم، ولذلك إذا أرادوا أن يضربوا اقتصاد أية دولة خفضوا نقودهم التي ارتبط بها مصير جميع نقود دول العالم.

ومن جانب آخر فإن أهمية الذهب والفضة تكمن في كونهما معدنين نفيسين نادرين ليس من السهل الحصول عليهما إلا عند وجودهما وتحصيلهما، أما النقود الورقية فتستطيع الدولة أن تصدر ما تشاء منها بالمليارات، ومع ذلك لا تصبح بها غنية، يقول (بواجلبرت): «من المحقق أن النقود ليست ثروة في ذاتها، وأن كميتها لا تؤثر في رخاء الأمة»[141]، وقبله قال ابن سينا في رده على المشتغلين بالكيمياء: «وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس، ومتمولاتهم، فلو حصل عليهما بالصفة، لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحـد من اقتنائهما عـلى شيء»[142]، كمـا هـو الحاصل الان حيـث لا يحصل أحـد منا من اقتناء كثيـر مـن نقودنا الورقية على مـا يحقق رغبته ويشتري بهـا ما يريده بسبب كثرتها وتضخمها. وقد هاجم ابن خلدون هؤلاء الكيميائيين الـذين يغشـون الذهب والفضـة ويلبسون الحديـد أو غيـره ثـوب أحـدهما، لما يترتب على ذلك مـن مظالم للناس، ولأن الغـش، أو الصفة لا يزيـد من الثروة للإِنسان، بل هو عجز وكسل، والغِنى إنما يحصل بالأعمال الإِنسانية والصناعات، وزيادة الالات والمكاسب[143].

ويقول د. محمد صالح: «إن قيمة المعادن النفيسة أقل تعرضًا للتغيرات من بقية السلع، وذلك لأن كمية المستخرج سنويًا منها طفيفة بالنسبة للمقادير العظيمة الموجودة منها، ولهذا السبب يصغر شأن التقلبات التي يحدثها هذا المحصول السنوي في قيمة هذه المعادن»[144].

ويقول: «لكن إجماع الناس انعقد منذ القدم على تفضيل الذهب والفضة، ومنذ نصف قرن فضلوا الذهب، وأصبحت الفضة في المقام الثاني، وصار الذهب هو العملة الدولية، ثم ذكر أسباب تفضيلهما على غيرهما بالتفصيل[145]، بالإِضافة إلى العلاقة الوثيقة بين سعر الذهب والفضة والنقود المصنوعة منهما حيث تنخفض، أو ترتفع حسب قيمة أصلها، في حين لا توجد أية علاقة بين سعر النقد الورقي، والورق المصنوع منه.

وقد أشار العلامة جعفر الدمشقي إلى المزايا الخاصة التي جعلت الذهب والفضة مرشحين للنقدية وتفضيل الذهب على الفضة فقال: «وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعة المواتاة في السبك، والطرق، والجمع، والتفرقة، والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وبقائهما على الدفن وقبولهما العلامات التي تصونهما وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمَّنوا بهما الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدرًا في حسن الرونق وتلزز الأجزاء والبقاء على طول الدفن وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة من أجزاء الفضة، وجعلوها ثمنًا لسائر الأشياء»[146].

الحلول والمخارج الفقهية لهذه الحالات الاستثنائية :

  لا شك أن الحل الجذري للتضخم وآثاره يكمن في القضاء على التضخم نفسه من خلال إصلاح السياسة المالية والسياسة النقدية من حيث إصدار النقود والسيطرة عليها، والحرص الشديد عل تحقيق العدل وعدم الإِضرار بالأفراد عن طريق التضخم، ثم التحلي بسياسة رشيدة للحكومات الإِسلامية تأخذ بالوسائل المشروعة للحماية من التضخم، والقضاء على أسبابه وجذوره ثم تقديم الحلول الناجعة للوصول إلى القضاء المبرم على التضخم ومعالجة آثاره، ولا شك أن هذه المهمة يكتنفها الصعوبة من كل الجوانب، لكنها هي الحل الوحيد إذا أردنا الخروج من هذه الأزمة الخانقة، ولكنه مع ذلك لا ينبغي أن تترك الاثار الخطيرة على الأفراد دون حل فقهي، ولا سيما أن هذا الحل الجذري ليس بأيدينا، ولا طاقة لنا به، كما أن الفقه أيضًا هو طرح العلاج للواقع وليس لما ينبغي أن يقع.

ومن هذا المنطلق نذكر كل الحلول الفقهية الممكنة لعلاج آثار التضخم على الأفراد:

الحل الأول: اعتبار النقود في الحالات الاستثنائية قيمية:

وهذا الحل يتفرع منه عدة طروحات:

الطرح الأول: يقوم على مبـدأ مثلية النقود الورقيـة ــ كقاعدة عامة، وأصل عام ــ وقيمية النقود في حالات الانهيار، والغلاء أو الرخص الفاحش في جميع العقود والالتزامات الاجلة من بيع وقرض ومهر وإجارة ونحوها.

وهذا الطرح يقوم على أساس أن جميع العقود والالتزامات الاجلة الواقعة على نقد ورقي ثم تنهار قيمته أو تزيد، أو تنقص (زيادة، أو نقصانًا فاحشًا) في وقت الأداء تكون صحيحة، ولكن الأداء يكون حسب قيمته يوم العقد، ثم إن المعيار للتقدير هل يكون حسب قيمته المساوية للذهب، أو السلع الأساسية، أو للعملات المستقرة موضوع آخر يأتي بعد إقرار الموضوع الأول، ويكون محل بحث ونظر ونقاش.

الثمنية تعذر ردها كما قبض فيجب رد قيمتها[147].

وعلل الفقهاء السابقون في التفرقة بين النقود الذاتية وبين النقود الاصطلاحية بأن الثمنية في الأخيرة مرتبطة برواجها وقيمتها فإذا لم يتحقق ذلك بأن بطل وصف الثمنية تعذر ردها كما قبضها فيجب رد قيمتها، وهذا لأن القرض وإن لم يقتض وصف الثمنية لكنه لا يقتضي سقوط اعتبارها إذا كان المقبوض قرضًا موصوفًا بها، لأن الأوصاف معتبرة في الديون، لأنها تعرف بها[148].

والخلاصـة: إن نصوص الحنفية تدل بوضوح على أنهم ــ وبالأخص الإِمام أبو يوسف ــ قد فرقوا بين النقود الذاتية والنقود الاصطلاحية، حيث إن الأخيرة تتمثل ثمنيتها في قدرتها على الشراء بصورة طبيعية، وأن هذه الثمنية وصف زائد عليها، فإذا لم تبق أو اهتزت فإن العبرة بما ثبت في ذمة المدين من قيمتها يوم العقد، ويوضح ذلك نص عن الإِمام السرخسي حيث يقول: «إن صفة الثمنية في الفلوس كصفة المالية في الأعيان»[149]، والمقصود أن قيمتها في قدرتها الشرائية فحينئذ يجب أن تكون هي الأساس دون غيرها.

عدم تحقق التماثل عند اختلاف القيمة:

نقل صاحب الدرر السنية دليلاً قويًّا لشيخ الإِسلام ابن تيمية فقال: «وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: «إذا أقرضه أو غصبه طعامًا فنقصت قيمته فهو نقص نوع فلا يجبر على أخذه ناقصًا فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل، فعيب الدين إفلاس المدين، وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد»[150].

ويؤخذ من هذا القول عدة أمور منها:

1 ــ إن معيـار التماثـل والمثلية هـو اتفاق القيمـة في الحالتين حالة نشوء الالتزام، وحالة أدائه.

2 ــ إن المعيار في الاختلاف هو العرف والعادة.

3 ــ وإن العـدل هو المرجـع الأساسي في هـذا وفي غيره، فـإذا لم يتحقق فلا قيمة للمسائل الجزئية التي تخالفه وتتناقض معه.

4 ــ النظـر إلى حقائـق الأشيـاء دون صورها المجـردة وأشكالهـا، فالتماثل الحقيقي لا يتحقق بمجرد الشكل والصورة وإنما بالواقع والجوهر.

رأي بعض شراح المجلة: اعتبار البنكوت وقت الرواج مثلية وفي وقت الكساد قيمية:

وقد عبر الشيخ علي حيدر ــ شارح مجلة الأحكام العدلية ــ عن رأيها حول النقود الورقية، حيث بينت أن «النقود النحاسية والأوراق النقدية البنكوت، تعد سلعة ومتاعًا، فهي وقت رواجها تعتبر مثلية وثمنًا، وفي وقت الكساد تعد قيمة وعروضًا»، ثم بينت معيارًا لذلك وهو الذهب والفضة: «قد اعتبر الذهب والفضة هما المقياس الذي تقدر بالنظر إليه أثمان الأشياء وقيمها، ويعدان ثمنًا»[151].

ويؤخذ مما سبق ما يأتي:

1 ــ إن هـذا النص لـم يخرج عـن إطار مـا ذهب إليـه أبـو يوسـف رحمه الله، ولكن ذكر بجانب الفلوس النقود الورقية مما يظهر منه بوضوح أن شارح المجلة قاس النقود الورقية على الفلوس.

2 ــ إن مثلية النقود الاصطلاحية مرتبطة برواجها وقيمتها المتداولة وقدرتها الشرائية، فإذا اهتزت فإن مثليتها وثمنيتها تتغيران فتصبحان سلعًا قيمية ينظر إليها باعتبار القيمة لا باعتبار المثل.

3 ــ الربط القياسي بالذهب والفضة وهذا واضح جدًا من النص السابق.

الطرح الثاني: جعل القروش بيانًا لمقدار الثمن لا لنوعه وجنسه:

وهـو عبارة عـن: نظرية قديمة رائعـة في القروش تجعلها بيـانًا لمقدار الثمن لا لنوعه وجنسه:

هذه النظرية ذكرها بعض المفتين في زمن ابن عابدين عام 1230هـ حيث قالوا: «إن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن، لا لبيان نوعه، ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته»[152].

وهذه النظرية عميقة جدًا حيث تبنى على الرضا، الذي هو الأساس لصحة العقود، امتثالاً لقوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}[153]، فالبائع مثلاً قد رضي أن يبيع سيارته بمائة ألف من القروش أو الريالات بناءً على أنها تساوي ذلك المبلغ وأنها ثمنها، فإذا لم يتحقق له ذلك المقدار على سبيل الحقيقة فلم يتحقق رضاه، فلو أجل ثمنها لمدة ثم رخصت قيمة تلك الريالات فأصبحت تساوي أقل منها لم يتم التعادل ولم يحقق البائع ثمن سيارته، فقد حصل المشتري على سيارة ثمنها كذا، ولكنه لم يؤد الثمن العادل الذي تم الاتفاق عليه أثناء العقد.

ومن جانب آخر إن هذه النظرية لا تجعل للقروش (النقود غير الذهبية والفضية) معيارًا دائمًا للقيم، وإنما تكون معيارًا إذا لم تتغير قيمتها، فإذا تغيرت فلا بد من ربطها بأي مؤشر آخر من ذهب أو سلعة أو سلة من العملات ونحوها.

الحل الثاني: وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين (بالفتوى أو بالصلح الواجب)

ذهب ابن عابدين (الفقيه الحنفي المعروف) وشيخه العلامة سعيد الحلبـي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود (في غير الذهب والفضة) لا بد أن يتحمله الطرفان (البائع والمشتري والدائن والمدين)، فقـد أوضح ابن عابدين أن النقود التي سادت عصره كالريال الإِفرنجي ونحوه كثر صدور الأمر السلطاني بتغيير بعضها بالنقص، فكان الفتوى في وقته 1230هـ التي استقرت على أنه ما أن يدفع النوع الذي وقع عليه العقد إذا كان النقد قد عين كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، وأما إذا لم يعين المتبايعان نوعًا من هذه النقود السائدة فإنه يدفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد على أن يعطي الخيار للدافع (أي المشتري مثلاً).

ولكن هذا الرأي لم يرتضه ابن عابدين، لأنه يؤدي إلى الإِضرار بالطرف الاخر (البائع) حيث يختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الأخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه.

وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأروعهم فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته إما في هذه الصورة فلأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا لا الأقل ولا الأكثر كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.

وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبـي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإِجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه.

وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.

ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته لكن قد يقال لما كان راضيًا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الإِضرار كما قلنا، وفي الحديث: «لا ضرر ولا ضرار»، ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به فينبغي وقع الصلح على الأوسط، والله تعالى أعلم[154].

ويمكن الإِفادة من هذه الفتوى من عدة اعتبارات لها وجاهتها وهي:

1 ــ إن ابن عابدين قال معللاً ترجيح قوله هذا بأن «المسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش»[155].

وعلى ضوء ذلك نقول في موضوعنا الخاص بالنقود الورقية: إنها غير منصوص عليها بعينها، بل هي جديدة ومستحدثة فيجب النظر إليها والاجتهاد فيها على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها العامة من تحقيق العدالة والمساواة بين طرفي العقد، وعدم الإِضرار والضرار.

2 ــ إن نقودنا الورقية هي مثل القروش التي ذكرها ابن عابدين، حيث لا يتعين بالتعيين، حيث قال: «وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص».

ومن هنا يمكن أن يستأنس بالفتوى الشائعة في عصر ابن عابدين عام 1230هـ التي استقرت على: «دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعين المتبايعان نوعًا والخيار فيه للدافع…»، فالذي اعترض عليه ابن عابدين هو أن يكون الخيار فيه للدافع، وأن يختص الضرر بالبائع، ولكن يستفاد منه دفع القيمة يوم العقد من حيث الجملة في النقود الورقية وهذا ينفعنا في القول بأن النقود الورقية ليست مثلية دائمًا.

3 ــ يستفـاد من مجموع مـا ذكره ابـن عابدين نظريـة الأخـذ بسلـة العـملات عند التقويم، والأخذ بالأوسط منها ــ كما سنوضحها فيما بعد ــ .

4 ــ كما يستفاد منها أيضًا نظرية الربط بمؤشر معين للقروش (أي النقود غير الفضية والذهبية…) كما سيأتي.

5 ــ إن العقود لا بد من رعاية الرضا الحقيقي ــ كما قال بعض المفتيين ــ وكذلك التساوي بين العاقدين في الحقوق، وفي توزيع الإِضرار عليها إن تحققت دون تخصيص أحدها بالاثار السلبية بدون الاخر.

الحل الثالث: ربط النقود بأوسط القيم للنقود السائدة عند التعاقد :

ذكر ابن عابدين في موضوع ورود الأمر السلطاني بتغير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص أن الفتوى استقرت على ما ذكرناه في الفقرة السابقة، ثم قال: «فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت، ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل، ولا الأكثر كيلاً يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري»، ثـم رد بعـض المفتين في زمانـه الذي أفتـوا بأن تعطـى بالسعـر الدارج وقت الدفـع، ولم ينظر إلى مـا كان وقـت العقـد أصلاً فقـال: «ولا يخفى أن فيـه تخصيص الضـرر بالمشتري»، وكلام ابـن عابدين هنـا منصب على ما تعارفه الناس من الشراء بالقروش، ودفع غيرها بالقيمة فليس هنا شيء معين حتى تلزمه بله سواء غلا أو رخص[156].

ففكرة الأوسط من قيم النقود السائدة فكرة جديرة بالبحث والدراسة والقبول، وعلى ضوء هذا يمكن أن نقول أنه في حالة تغير قيمة النقود الورقية ننظر إلى معظم النقود السائدة من دولار، وجنيه استرليني، ومارك ونحوها مع نقد البلد فنأخذ بأوسط الأسعار أو بمتوسط القيم، تحقيقًا للعدالة والوسطية وعدم الإِضرار بأحد العاقدين.

الحل الرابع: الأخذ بقيمة السلعة في العقود الواردة على الأعيان مثل البيع ونحوه، وقيمة النقد في القرض :

وهذا رأي المازري وشيخه عبد الحميد الصائغ[157].

وقد ذكر الإِمام المازري أن شيخه عبد الحميد الصائغ يعدل عن المذهب المذكور من المدونة، ويعتل بأنه أعطى منتفعًا به ليأخذ منتفعًا به فلا يظلم بأن يعطى ما لا منفعة له فيه، ولا يحصل هذا الغرض إلا بأن يأخذ قيمتها، قال: وإذا لم توجد بعد انقطاعها كان عليه قيمة السلعة[158]

ويظهر من هذا الرأي أنه عند حالات الانقطاع والكساد وتغير القيمة تعود إلى ما كان يقابل هذا النقد المؤجل المنقطع، أو المتغير بالغلاء والرخص، ففي القرض يعطي قيمة النقد الذي سلمه الدائن إلى المدين وفي غيره يعطي قيمة السلعة التي انتفع بها المشتري فعليه إذن أن لا يرد شيئًا لا نفع فيه يذكر، بل العدالة تقضي أن يرد قيمة تلك السلعة، وهذا يعني أن ثمنها يلغى بسبب إلغاء المقابل فنعود إلى القيمة (قيمة المثل من الذهب أو النقد الرائج)، هذا والله أعلم.

الحل الخامس: الأخذ بمبدأ الجوائح (نظرية الظروف الطارئة) :

والمراد بمبدأ الجوائح أنه إذا وقعت جائحة خارجة عن إرادة العاقدين فإنها تؤثر على العقد وآثاره، وهو مبدأ قائم على استثناء حالة الجائحة من قاعدة ضمان المبيعات بعد قبضها من المشتري، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة، منها: ما رواه الإِمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وأصحاب السنن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟»[159]، وفي رواية أخرى بلفظ: «أن النبـي صلى الله عليه وسلّم أمر بوضع الجوائح»[160]، حيث الحديث ظاهر في رعاية الظروف الطارئة على الرغم من وجود العقد الذي مقتضاه أن البائع بعد تسليمه المبيع إلى المشتري قد خرج من ضمانه إلى ضمان المشتري، في حين أن هذا الحديث يدل على أنه في حالة حدوث جائحة فإن البائع يظل ضامنًا؛ حيث لا يجوز له أخذ الثمن بل عليه رده.

وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:

الرأي الأول: للحنفية والشافعي في الجديد: حيث يرون أن وضع الجوائح ليس من الواجبات وإنما هو مستحب، وأن المشتري هو الضامن بعد تسلمه المبيع[161].

الرأي الثاني: لمالك وأحمد والشافعي في القديم وأكثر أهل المدينة، وجماعة من أهل الحديث، حيث يذهبون إلى أن ما تهلكه الجائحة من الثمار يكون من ضمان البائع.

لكن هؤلاء اختلفوا على رأيين فذهب جماعة منهم ــ أحمد في ظاهر المذهب ــ : إلى عدم التفرقة بين قليل الجائحة وكثيرها، في حين ذهب مالك والشافعي في القديم وأحمد في رواية أخرى إلى أن المعيار في ذلك هو الثلث[162].

ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذه الاراء ولكن الذي يدعمه الحديث السابق، ومقاصد الشريعة هو القول بوضع الجائحة، ثم إن وضع الجائحة نفسها لا بد من وضع معيار لها، فأرى أن تقديرها بالثلث أو بما هو خارج عن العادة والعرف مطلوب ومحقق الغرض المنشود.

وعلى ضوء ذلك فإنه إذا حدث تضخم كبير ــ في حدود الثلث ــ للنقد فإن المدين يتحمله قياسًا على مسألة الجوائح في الثمار اعتبارًا بأن الانخفاض الكبير ــ في حدود الثلث مصيبة نزلت بالدائن دون تسبب منه ولا  من المدين.

وقد تبنى الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقاء هذا الرأي في حالة «هبوط العملة هبوطًا فاحشًا تجاوز ثلثي قيمة النقد وقوته الشرائية عند العقد في البيع، وعند القبض في القرض، وبقي من قيمته أقل من الثلث فإنه حينئذ يعتبر فاحشًا ويوجب توزيع الفرق على الطرفين أخذًا من الأدلة الشرعية والاراء الفقهية التي تحدد حد الكثرة بالثلث»[163].

ويلاحظ على هذا الرأي: أن القول بتوزيع الفرق على الطرفين مخالف لحديث وضع الجوائح، وللأقوال الفقهية، كما أن تحديده للهبوط بتجاوز الثلثين كبير، وأنه لم يسبق برأي سابق من القائلين بوضع الجوائح؛ ولذلك فالتحديد بما قاله المالكية ومن معهم بالثلث معقول جدًا ومناسب لكثير من المسائل الشرعية، قال ابن قدامة: «والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها: الوصية، وعطايا المريض… قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة بدليل قول النبـي صلى الله عليه وسلّم في الوصية: «الثلث والثلث كثير»[164]، فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة فلهذا قدِّر به»[165].

كما أنه يلاحظ أنه قال بتوزيع الفرق على الدائن والمدين بينما الحديث يدل على وضع الجائحة جميعها ودفعها عن المشتري.

هذا وقد صدر من مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإِسلامي في دورته الرابعة المنعقدة بمكة في عام 1402هـ قرار بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية نذكره لأهميته، وهذا نصه:

«ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإِسلامي ما يلي:

1 ــ في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلاً غَيَّر الأوضاعَ والتكاليفَ والأسعارَ تغييرًا كبيرًا بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجـة تقصيـر أو إهمـال مـن الملتزم في تنفيـذ التزاماتـه، فإنـه يحـق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناءً على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين.

كما يجوز أن يفسخ العقد فيما لو لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبًا معقولاً من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعًا رأي أهل الخبرة الثقات.

2 ــ ويحق للقاضي أيضًا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارىء قابل للزوال في وقت قصير ولا يتضرر الملتزم له كثيرًا بهذا الإِمهال.

3 ــ هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمـد من أصـول الشريعـة تحقيـقًا للعـدل الواجب بيـن طرفـي العقـد، ومنـعًا للضرر المرهـق لأحـد العاقـدين بسبب لا يـد لـه فيه، وأن هذا الحق أشبه بالفقه الشرعي الحكيم وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها…».

الحل السادس: الفرق بين حالتي المطل وعدمه :

فقد ذكر بعض الفقهاء منهم الوانوغي والمشذالي وابن غازي ــ من المالكية ــ إلى أنه إذا ماطل المدين دائنه حتى بطل التعامل وجب على المدين القيمة.

حيث ذكر العلامة الزرقاني أن ظاهر المدونة الإِطلاق، أي: التسوية بين حالة المماطلة وعدمها ــ ولكن الوانوغي قيد المدونة بما إذا لم يكن هناك مطل، وأقره المشذالي وابن غازي[166].

وقال العلامة الصاوي: «وقال بعضهم: هذا مقيد بما إذا لم يكن من المدين مطل وإلا كان لربها الأحظ من أخذ القيمة أو بما آل إليه الأمر من السكة الجديدة الزائدة على القديمة، وهذا هو الأظهر لظلم المدين بمطله، قال الأجهوري: كمن عليه طعام امتنع ربه من أخذه حتى غلا فليس لربه إلا قيمته يوم امتناعه»[167].

وقد سجل ذلك ناظم المنهج لميارة الفاسي فقال:

للأول القيمة، والثاني المثل                     وشهد الثاني نعم به العمل

لكنه مقيد بما إذا                                 لم يحصل المطل فقل: يا حبذا

وإن يكن فأوجبن عليه ما                      آل له الأمر لظلم قد سما

قلت: وهذا ظاهر إن كان ما                 آل إليه الأمر رفيعًا فاعلما[168]

الحل السابع: حلول قائمة على التفصيل والتفرقة بين العقود :

1 ــ الفرق بين عقود المضمونات، وعقود الأمانات:

قال الشيخ أحمد الزرقاء رحمه الله بعد أن ذكر أحكام الفلوس: «هذا والذي يظهر أن الورق النقدي المسمى الان بالورق السوري الرائج في بلادنا الان، ونظيره الرائج في البلاد الأخرى هو معتبر من الفلوس النافقة، وما قيل فيها من الأحكام السابقة يقال فيه، لأن الفلوس النافقة هي ما كان متخذًا من غير النقدين ــ الذهب والفضة ــ وجرى الاصطلاح على استعماله استعمال النقدين، والورق المذكور من هذا القبيل، ومن يدعي تخصيص الفلوس النافقة بالمتخذ من المعادن فعليه البيان»[169].

ثم بين الشيخ التفرقة بين عقود المضمونات كالقرض، وعقود الأمانات كالمضاربة فقال: «إن ما نقلناه من أحكام الفلوس النافقة عن «رد المحتار» قد ذكره كما ترى في صورتي البيع والقرض ولا يخفى أن الثمن في البيع والمبلغ المدفوع في القرض يثبتان في ذمة المشتري والمستقرض، وهما من المضمونات والحكم فيها هو ما نقلناه.

أما لو كانت الفلوس النافقة معقودًا عليها ومدفوعة في عقد تعتبر فيه أمانة في يد القابض كالمضاربة فإن يد رب المال إذا أراد استرداد رأس ماله من المضارب فله أن يسترد مثله لا غير، من غير أن ينظر إلى غلاء أو رخص، وله أن يقاسم المضارب مال المضاربة ويأخذ منه بقيمة رأس ماله وتعتبر فيه القيمة يوم القسمة لا يوم الدفع»، فقد نقل في كتاب المضاربة من «رد المحتار» قبيل المتفرقات، عن القنية ما لفظه: أعطاه دنانير مضاربة ثم أراد القسمة، له أن يستوفي دنانير وله أن يأخذ من المال بقيمتها وتعتبر بقيمتها يوم القسمة لا يوم الدفع». انتهى.

وما ذكره من الحكم في الدنانير يجري نظيره في الفلوس النافقة بالأولى، فلا تعتبر قيمتها يوم الدفع إذا غلت أو رخصت، وذلك لأن مال المضاربة أمانة في يد المضارب، ويده عليه كيد رب المال، فهو بمنزلة ما لو كان رأس المال باقيًا بعينه تحت يده، فلا يلزمه إلا رده بذاته من غير نظر إلى غلاء أو رخص، وحيث صار بالصرف المأذون به عروضًا فلا يلزمه إلا رد مثله إن اختار رب المال ذلك، وإن أراد القسمة مع المضارب يأخذ بقيمته يوم القسمة لا يوم الدفع، إذ بالدفع له لم يثبت في ذمته ولم يدخل في ضمانه.

وقد ذكر السرخسي في «المبسوط» في الجزء الثاني والعشرين منه من باب المضاربة بالعروض (ص 34): فيما لو دفع رجل إلى آخر فلوسًا مضاربة بالنصف فاشترى المضارب بها ثوبًا ودفعها وقبض الثوب ثم كسدت، فالمضاربة جائزة على حالها.

واحترز بقوله: «ثم كسدت» عما إذا كسدت قبل الشراء، فقد قدم في «المبسوط» من الباب المذكور أنها لو كسدت قبل الشراء فسدت المضاربة «فإذا باع الثوب بدراهم أو عرض فهو على المضاربة، فإن ربح وأرادوا القسمة أخذ رب المال قيمة فلوسه يوم كسدت، لأنه لا بد من رد رأس المال إليه، ورأس المال كان فلوسًا رائجة، وهي للحال كاسدة فقد تعذر رد مثل رأس المال، وقد تحقق هذا التعذر يوم الكساد فتعتبر قيمتها في ذلك الوقت. انتهى ملخصًا.

وقد نقله في متفرقات المضاربة في الفتاوى الهندية بأخصر من هذا. فقد اعتبر قيمة الفلوس يوم الكساد ولم يعتبر قيمتها يوم العقد ولا يوم الدفع كما في البيع والقرض.

وقول المبسوط: «فقد تعـذر رد مثل رأس لمال»، يفيد أنـه لو أمكـن رد مثلـه بـأن بقيت الفلـوس رائجـة يرد مثلهـا فقط مـن غيـر نظـر إلى غـلاء أو رخص.

وقد صارت هذه القضية حادثة الفتوى وسئلت عنها فأفتيت فيها بذلك مستندًا إلى النقلين المذكورين، وعلمت أن غيري ممن سئلوا أفتوا برد قيمتها يوم العقد في المضاربة بغير تفرقة بين المضمونات والأمانات بينما النقل هو ما ذكرته والله المرشد للصواب»[170].

2 ــ الفرق بين البيع لأجل والقرض:

أجاز المالكية الاتفاق وقت عقد البيع على عملة بسعر الصرف حينئذ، ولكن لم يجوزوا ذلك في القرض[171]، جاء في البيان والتحصيل «وسألته ــ أي مالكًا ــ عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه من صرف عشرين بدينار، أو خمسة دراهم من صرف عشرة دراهم بدينار فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار ما بلغ كان أقل من ذلك أو أكثر إذا كانت تلك العشرة دراهم، أو الخمسة المكتوبة عليه من بيع باعه إياه، فأما إن كانت من سلف أو سلفة فلا يأخذ منه إلا مثل ما أعطاه»[172].

وهذا القول يحل كثيرًا من مشاكل التضخم بالنسبة للمتبايعين حيث يمكنهما ربط نقودهما الورقية عند التعاقد بنقد مستقر نوعًا ما مثل الدولار أو الجنيه الاسترليني، أو الين الياباني، أو بالذهب، ثم عند الأداء يحسبان على هذا الأساس بسعر الصرف.

الحل الثامن: وجوب التعهد عند التعاقد بأن يكون الرد بالعملة الفلانية، أو بالسلع أو بالذهب أو جعل ذلك معيارًا للعملة أثناء العقد أو أن يشترط ذلك في العقد حيث يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الاخر آجلاً أن يشترط أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلاً عشرة آلاف جنيه قرضًا لخالد، أو أن يبيع له أرضًا بها، ثم يقدِّروها بما يساويها من سلع أساسية، ليعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه بدون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد سواء كان قرضًا، أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي 800 وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة بغض النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر[173].

وهذا الشرط ليس فيه ــ حسب نظري ــ أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلـك لأنـه ليس شرطًـا جـر منفعـة للدائـن، بل هـو يحقـق العدالة للطرفين، وليس ممنوعًا في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة ــ إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.

يقول فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي: «… ورأينا بعض فقهاء المالكية يجيزون أن تعتبر القيمة للفلوس إذا ما تغيرت، فإذا جاز عندهم الرجوع إلى القيمة بدون شرط فلأن يجوز بالشرط من باب أولى، ولذا فإن الذي اطمأننت إليه أنه يجوز للمتعاقدين في الالتزامات الاجلة أن يضبطا قيمة الالتزام بمعيار هو المرجع عند الأداء[174].

وهذا الشرط مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه بدون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضمانًا له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسفتجة، وهو جائز عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإِسلام: «والصحيح الجواز، لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم»[175].

والشرط الذي معنا ليس فيـه غـرر، ولا يؤدي إلـى جهالـة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقـت أصبحت التقلبـات الكبيـرة سمـة عصرنـا، فحينئـذ يكـون كـل واحد يعرف ما له وما عليه. بالإِضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإِباحة عند جمهور الفقهاء[176].

التراضي بابٌ مفتوح :

كل ما قلناه إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما إذا تراضيا عند سداد الدين، أو الوفاء بالثمن، أو المهر، أو نحو ذلك تراضيًا بالمعروف على الزيادة، أو النقصان، فإن أحدًا من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإِسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن رجلاً أتى النبـي صلى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيرًا، فقال: «أعطوه»، فقالـوا: لا نجـد إلا سـنًّا أفضل مـن سنـه، فقال: «أعطـوه، فإن خياركم أحسنكم قضاءً»[177].

فعلى هذا حل الأجل وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الان لا يساوي شيئًا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه، وقدرته الشرائية، فطيب خاطر الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلعة أخرى فقد فعل الحسن، وطبق السنة، بل إنني أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد إلا بإرضاء صاحب الحق، لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإِسلام على التراضي وطيب النفس بنص القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً …}[178].

فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من كثير من محتواه؟ صحيح أن مبنى القرض على التطوع والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسبًا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون رد العين المستقرضة إلى المقرض، ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، أما إذا تعيبت فلا يصح ردها[179]، فكذلك الأمر هنا.

وقد ذكر الإِمام ابن السبكي جواز أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال: «لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان، أصحهما عند الوالد رحمه الله: الجواز»، ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي»[180].

فلا شك في أن مسألة التراضي تحل كثيرًا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإِحسان والإِيثار، مثل المجتمع الإِسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو: «أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك»[181].

فهل يرضى الإِنسان أن يعود إليه دَينه، أو يعطي لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة.

فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية، أو السورية، أو التركية الان مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإِسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط، بل يعتني أيضًا بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًّا فقط بل هو في الدنيا والاخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحل والحرمة. والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الاخرة أكثر من العذاب الدنيوي.

اعتراضات ودفعها:

الاعتراض الأول: إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال، وهي ربا، وهو حرام بنص القرآن، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة، فلو قدرنا القيمة يكون يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا؟

الجواب عن ذلك: أن ذلك ليس زيادة ولا ربا لما يأتي:

أولاً: أن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة وإنما المبلغ المذكور أخيرًا هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.

ثانيًا: أن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلاً أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه ــ مثلاً ــ وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.

ثالثًا: أنه يمكن أن نشترط أن يكون الرد بغير العملة التي تم بها العقد في حالة الزيادة وهذا هو الراجح، فمثلاً لو كان محل العقد ليرة لبنانية، فليكن الرد عند الزيادة، أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو بالجنيه وهكذا، فاستيفاء الدراهم بدلاً من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء ــ منهم الحنفية والمالكية والشافعية، والحنابلة ــ واستدلوا على جوازه بأدلة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: «كنت أبيع الإِبل بالبقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو في بيت حفصة، فقلت يا رسول الله: رويدك أسألك: إني أبيع الإِبل بالبقيع فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء»[182].

  قال الخطابـي: «ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبـي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر، ولم يبالوا ذلك بأغلى، أو أرخص من سعر اليوم…»)[183].

قال الحافظ السندي: «والتقيد بسعر اليوم على طريق الاستحباب»[184].

وقد روى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأسًا في قبض الدراهم مكان الدنانير، وبالعكس، في جميع العقود الاجلة بما فيها القرض[185].

قال ابن قدامة معلقًا على حديث ابن عمر: «ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقُيِّد بالمثل كما لو قضاه من الجنس، والتماثل ههنا من حيث القيمة لتعذر التماثل من حيث الصورة»[186].

ثم إن هذه المسألة ليست بدعًا في الأمر، ولا هي في المسائل التي لا نجد فيها نصًا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإِسلامي نذكر بعضها هنا:

يقول الإِمام الرافعي: «وإذا أتلف حُليًّا وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه:

أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها سواء كان ذلك نقد البلد، أو لم يكن، لأنه لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.

وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه»[187].

ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات ــ كما سبق ــ ونجد كذلك في باب العقود عند مالك، حيث أجاز أن يعطي الإِنسان مثقالاً وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن، أو بالدينارين، وروي مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه، يقول ابن رشد: «وأجمع الجمهور على أن مسكوكه، وتبره، ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً، لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلاَّ معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر، والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه، أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألاَّ يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه»[188].

والمقصود بهذا النص أن الزيادة ما دام لها مقابل، لا تعتبر ربًا، لأن الربا هو: «الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شُرط فيه»[189].

الاعتراض الثاني: إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد، وبالتالي تترتب عليه مشاكل لا عدَّ لها ولا حصر؟

الجواب عن ذلك: أننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصورًا بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها، أو لا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الان وسعوا مفهوم النقد، ليشمل أنواعًا كثيرة لا يؤدي بعضها إلاَّ وظيفة واحدة ــ كما سبق ــ مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب، أو الفضة.

ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، ولكنا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود ــ وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف ــ وتربط إما بمعيار الذهب، أو معيار السلعة، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإِضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائمًا، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون الثمن مؤجلاً إلا في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد، كما سبق.

الاعتراض الثالث: لماذا لم نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟

الجواب عن ذلك: أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة، وأما القيمي، فيلاحظ فيه القيمة ــ كما سبق ــ ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، كما أنه لا يصح القول بإلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.

ومن هنا فهي وإن كانت مثلية ــ كقاعدة عامة ــ لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة، كالماء الذي أخذه الإِنسان في الصحراء، فلا يرجع له الماء، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان.

وهذا الحل ليس خاصًا برد القرض، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الإِجارات والرواتب والأجور ونحوها، وهذا ما تلاحظه الدول المتقدمة عندما يكون التضخم كبيرًا، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتًا بألف ليرة لبنانية ــ أو نحوها ــ عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم، فألف في 1970 كان يساوي 500 دولار تقريبًا وألف اليوم يساوي دولارين فقط، وكذلك الرواتب والأجور، والله أعلم.

وفي الختام هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي، ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.

ومع ذلك فما أقوله عرض لوجهة نظري، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل، للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة.

وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك من محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبـي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات ــ كما سبق ــ فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلا بد من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة، حتى تتحقق العدالة «دون وكس ولا شطط».

المعيار المعتمد في التقويم لقيمة النقد :

وبعد هذا العرض لتلك الحلول ينبغي أن يُبَيَّنَ المعيار الذي يرجع إليه عند التقويم لقيمة النقد الذي تم بيع التعاقد سواء كان قرضًا أم بيعًا أم مهرًا أم مضاربة أم مشاركة أم نحو ذلك.

فهل نعتبر قيمة ذلك النقد بحسب الذهب والفضة أم حسب سلة العملات، أو حسب سلة السلع الأساسية، أو يربط بمؤشر تكاليف المعيشة؟ هذه الاحتمالات كلها واردة، وهي كلها قابلة للنقاش، بل نوقش أكثرها في حلقات سابقة.

ومن هنا فأمامنا أربعة معايير وهي:

المعيار الأول: الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوِّم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء إلى القدر الذي يشتري به الان من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولا سيما في الرواتب والأجور، ويمكن الاعتماد على السلعة الغالبة في البلد.

ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلّم جعل دية الإِنسان ــ وهو أغلى ما في الوجود ــ الإِبل مع وجود النقدين ــ الدراهم والدنانير ــ في عصره.

ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإِبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب، فجعلها الرسول صلى الله عليه وسلّم الأصل، وقوَّمها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكـر العلمـاء أن الإِبل قـد عزَّت عندهـم، ومـع ذلـك لـم يجعـل الذهـب أو الفضة أصلاً في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإِبل. فقد روى أبـو داود وغيـره بسندهم عـن عمرو بـن شعيـب عـن أبيـه عـن جـده قـال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم… فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبًا فقال: «ألا إن الإِبل قد غلت»، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا[190].

قال الخطابـي: «وإنما قوَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل القرى، لكون الإِبل قد عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإِبل في زمانه، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفًا»[191].

والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإِبل حتى في زمن النبـي صلى الله عليه وسلّم لم تكن مستقرة استقرارًا تامًا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإِبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم «أن رجلاً من بني عدي قُتل، فجعل النبـي صلى الله عليه وسلّم ديته اثني عشر ألفًا»[192].

كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلّم فرض على أهل الذهب ألف دينار[193].

وروى النسائي: «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقومها على أهل الإِبل، إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورِق»[194]، وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبـي صلى الله عليه وسلّم ناقة جابر قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر: «أخذته بأربعة دنانير». وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم[195].

كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلهـا معيـارًا يرجـع إليها عند التقويم، ومـن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود ــ كما ذكرنا ــ ولذلك نرى الأستـاذ القرضـاوي يثير تسـاؤلاً حـول مـا إذا هبـطت قيمـة الذهب أيـضًا: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: «وهنا قد نجد من يتجه إلى تقديـر نصاب النقـود بالأنصبة الأخـرى الثابتة بالنص»، ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية، مثل الإِبل، والغنم، والزروع والثمار، ثم رجَّح كون الإِبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.

المعيار الثاني: الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقـد كم كـان يشترى بـه من الذهب؟ فعنـد هبـوط سعر النقـد الورقـي الحـاد أو ارتفاعـه الحـاد يلاحـظ في الـرد ــ وفي جميـع الحقـوق والالتزامات ــ قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلاً لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويُشترى به ألفا جرام من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر مـن الذهب؛ وذلك، لأن الـذهب في الغـالب قيمتـه أكثـر ثباتًا واستقـرارًا، وأنـه لم يصبـه التذبـذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة[196].

ولذلك رجح مجمع البحوث الإِسلامية الاقتصار ــ في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية ــ على معيار الذهب فقط، لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات[197].

ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم أن الذهب لم يقوّم بغيره في حين أن الفضة قد قوِّمت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:

«الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه» نص عليه الشافعي في الأم، وقال: «لا أعرف موضعًا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة»[198].

ثم إذا حصل توافق وتراضٍ بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء، أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبينات والقضاء.

الجمع بين المعيارين:

ويمكن لقاضي الموضوع، أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.

المعيار الثالث: الاعتماد على عملة مستقرة نوعًا ما مثل الدولار، أو الجنيه الإِسترليني، أو الين الياباني، وأولى منه الاعتماد، على سلة العملات الدولية، وذلك بأن يعتمد في وقت الأداء على قيمة النقد الذي تم عليه التعاقد في يومه بمقابل الدولار الأمريكي، والجنيه الإِسترليني، والمارك الألماني، والين الياباني، والفرنك الفرنسي، فيؤخذ متوسط الأسعار يوم العقد فيجعل المعيار في قيمة النقد وقت الأداء وقد ذكرنا في الحل الثاني، والحل الثالث تأصيلاً فقهيًّا لهذا.

* * *

 


([1])  تنبيه الرقود، ضمن رسائل ابن عابدين، ط العثمانية 1325هـ (2/61).

([2])  تنبيه الرقود (2/59).

([3])  المصدر السابق نفسه.

([4])  تنبيه الرقود (2/62 ــ 63).

([5])  يراجع: منـح الجليل (2/534)، والحـاوي للسيـوطي (1/97)، وكشاف القناع (3/301).

([6])  د. عبـد الستار أبـو غدة في بحثـه عـن التضخم في نـدوة التضخم، الحلقـة الثانية بكوالامبور يونيو 1996م.

([7])  لسان العرب، والمعجم الوسيط والمصباح المنير مادة (كسد).

([8])  تنبيه الرقود، ضمن رسائل ابن عابدين، ط عثمانية 1325هـ (2/60).

([9])  يراجع: القاموس المحيط والمعجم الوسيط مادة (قطع).

([10])  تنبيه الرقود (2/60).

([11])  تنبيه الرقود (2/60).

([12])  تنبيه الرقود (2/58 ــ 59) بإيجاز.

([13])  يراجـع: د. منـذر: بحثـه عـن الكسـاد المقـدم إلى الدورة التاسعة لمجمـع الفقه الإِسلامي.

([14])  يراجع حاشية الرهوني (5/118).

([15])  يراجع تنبيه الرقود (2/58 ــ 59)، والأم (3/33)، والمغني لابن قدامة (4/360).

([16])  تنبيه الرقود (2/58 ــ 59)، والمعيار (6/163 ــ 164)، وحاشية الرهوني (5/119).

([17])  شرح التلقين للمازري (ص 129) نقلاً عن بحث الشيخ المختار السلامي حول مفهوم كساد النقود الورقية، المقدم إلى دورة المجتمع التاسعة.

([18])  المعيار (6/164).

([19])  حاشية الرهوني (5/119).

([20])  تنبيه الرقود (2/64 ــ 65).

([21])  المصدر السابق (2/66).

([22])  المدونة (3/444).

([23])  التلقين للقاضي عبد الوهاب (ص 112).

([24])  التفريع (2/158) نقلاً عن بحث الشيخ المختار السلامي في الدورة التاسعة للمجمع.

([25])  الفتاوى (1/540 ــ 542).

([26])  حاشية الرهوني (6/120).

([27])  يراجع بحث الشيخ المختار (ص 6).

([28])  المعيار المعرب (6/120).

([29])  يراجع بحث الشيخ المختار (ص 7) ومصادره التي اعتمد عليها في المذهب المالكي.

([30])  شرح التلقين (ص 129) نقلاً عن بحث الشيخ (ص 8).

([31])  المراجع السابقة جميعًا.

([32])  المغني (4/360).

([33])  الأم (3/33) وجاء في تحفة المحتاج (5/44) ويرد المثل في المثلي، ولو نقدًا أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه.

([34])  تنبيه الرقود (2/59 ــ 62)، وشرح الخرشي (5/55)، وبلغة السالك (2/286)، والأم (3/28)، وتحفة المحتاج مع حاشية الشرواني (5/44)، والمغني (4/360).

([35])  تنبيه الرقود (2/59)، والعيار المعرب (6/461 ــ 462)، وقطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي، مخطوطة رقم (1)، والدرر السنية في الأجوبة النجدية، ط الرياض (5/110).

([36])  انظر: شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقاء، ط دار الغرب الإِسلامي (ص 181)، وهي المادة 42 من مواد المجلة.

([37])  يراجع: لسان العرب، والمعجم الوسيط في مادة «كثر» و «قل».

([38])  يراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة للدكتور علي القره داغي، ط دار البشائر الإِسلامية بيروت 1985 (2/730 ــ 754) ومصادره المعتمدة.

([39])  أحكام القرآن لابن العربـي (4/1804)، ويراجع تفسير القرطبـي (18/138).

([40])  حاشية الرملي على جامع الفصولين (2/23).

([41])  التاج والإِكليل (4/468)، ومواهب الجليل (4/471)، وأحكام القرآن لابن العربـي (4/1804).

([42])  الإِنصاف (4/394 ــ 395).

([43])  نيل الأوطار (6/330).

([44])  جامع الفصولين مع حاشية الرملي عليه (2/23) هذا وقد نصت المادة (165) من المجلة على أن الغبن الفاحش غبن على قدر نصف العشر في العروض والعشر في الحيوانات والخمس في العقار…». راجع: درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ط بغداد (1/113).

ولا يخفى أن تقدير المجلة للغبن الفاحش يختلف عن تقدير البلخي الذي اعتمدت عليه في هذه التقدير، فالغبن الفاحش عنده يبدأ بعد تجاوز نصف العشر في العروض، والعشر في الحيوان والخمس في العقار، فنصف العشر يسير في نظر البلخي في حين هو فاحش في تقدير المجلة، وهكذا. انظر: صبحي محمصاني: الموجبات والعقود (2/182).

([45])  جامع الفصولين (2/23) مع حاشية الرملي عليه.

([46])  الدسوقي على الشرح الكبير (3/140)، وأحكام القرآن لابن العربـي (4/1816).

([47])  الإِفصاح للوزير ابن هبيرة (ص 324)، والإِنصاف للمرداوي (4/394).

([48])  نيل الأوطار (6/330).

([49])  الإِنصاف (4/394 ــ 395).

([50])  المصدر السابق نفسه.

([51])  الدر المختار مع رد المحتار (5/143)، ورسالة ابن عابدين في الغبن مع مجموعة رسائله (2/71)، وجامع الفصولين مع حاشية الرملي عليه (2/22 ـــ 23)، والبحر الرائق (6/115 ــ 116).

([52])  مواهب الجليل (4/471 ــ 472)، والشرح الكبير مع الدسوق (3/140)، وشرح تحفة الأحكام (2/39).

([53])  الإِنصاف (4/394)، والروض المربع (2/344) وقال ابن هبيرة: «ولم يقدره ــ أي الغبن الفاحش ــ أحد». راجع الإِفصاح (ص 324).

([54])  المحلَّى لابن حزم (9/452) لكن الظاهرية لم يعترفوا بالتفرقة بين الغبن الفاحش والغبن اليسير بل اعتبروا الزيادة على ما يساويه الشيء غبنًا محرمًا، قال ابن حزم: «ولا يحل بيع شيء أكثر مما يساوي وبأقل مما يساوي…».

([55])  مفتاح الكرامة للعاملي (4/571)، ومنهاج الصالحين للحكيم (2/33)، والمكاسب للأنصاري(ص 334).

([56])  حاشية ابن عابدين (5/143).

([57])حاشية ابن عابدين على الدر المختار (5/143).

([58])جامع الفصولين (2/23).

([59])  مواهب الجليل (4/471 ــ 472) بتصرف قليل، وراجع الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/140) حيث ذكر أيضًا أن الغبن اليسير هو ما جرت به العادة والفاحش هو ما خرج عن معتاد العقلاء.

([60])  الإِنصاف (4/394).

([61])  يراجع لمزيد من التفصيل في أحكام الغبن: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة، ط دار البشائر الإِسلامية ببيروت (2/730 ــ 754).

([62])  سورة التغابن: الاية 9.

([63])  أحكام القرآن لابن العربـي (4/1804)، وتفسير القرطبـي (18/138).

([64])  بداية المجتهد، ط الحلبـي بالقاهرة (2/131).

([65])  يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود لعلي القره داغي ومصادره ومراجعه (2/739 ــ 747).

([66])  أصول الفقه للدكتور مصطفى شلبـي (ص 417).

([67])  الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 154 ــ 156).

([68])يراجع: صحيح البخاري ــ مع الفتح ــ (4/379 ــ 383)، ومسلم (3/1208 ــ 1212)، ومسند الشافعي (ص 48، 51، 62)، وأحمد (3/4 ــ 5/49).

([69])  حديث النهي عن بيع الرطب بالتمر رواه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن وغيرهم. يراجع: مسند الشافعي (ص 51)، وأحمد (3/312)، والترمذي (1/231)، والنسائي (7/269)، وابن ماجه (2/761)، وأبو داود (3/251)، والسنن الكبرى (5/294)، والتلخيص الحبير (3/9 ــ 10).

([70])  حديث ترخيص العرايا في صحيح البخاري ــ مع الفتح ــ (4/390)، ومسلم (3/1168)، والموطأ (2/125)، ومسند الشافعي (ص 50)، ومسند أحمد (5/181، 188)، والترمذي مع تحفة الأحوذي (4/525)، وسنن أبـي داود مع عون المعبود (9/216)، والنسائي (7/235)، وابن ماجه (2/7621).

([71])  الغاية القصوى، بتحقيق د. علي القره داغي، ط دار الإِصلاح (1/468).

([72])  صحيح البخاري ــ مع الفتح ــ (4/390).

([73])  فتح الباري (4/393).

([74])  وهم الحنفية، انظر: فتح القدير (5/335)، وبدائع الصنائع (7/3151)، والبحر الرائق (6/174)، وابن عابدين (5/209).

([75])  انظر: المغني لابن قدامة (3/509).

([76])  يراجع لمزيد من التفصيل والتأصيل كتاب: قاعدة المثلي والقيمي وأثرها على الحقوق والالتزامات، ط دار الاعتصام (ص 20) وما بعدها.

([77])  مجموع الفتاوى (29/520 ــ 521).

([78])  إعلام الموقعين (1/148).

([79])  الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 384 ــ 388).

([80])  المصدر السابق (ص 368).

([81])  في شهر 12/1987م يساوي دولار واحد خمسمائة ليرة لبنانية.

([82])  الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 367، 368).

([83])  الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 369).

([84])  المرجع السابق (ص 371).

([85])  فتح العزيز (7/15)، ومطالب أولي النهي، ط المكتب الإِسلامي (4/54).

([86])  الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 371).

([87])  الوسيط، مخطوطة طلعت ج 2 ورقة 124.

([88])  تكملة المجموع للسبكي (10/83)، بداية المجتهد (2/196).

([89])  السيل الجرار، ط دار الكتب العلمية (3/361).

([90])  المغني (4/40).

([91])  الكافي (2/54).

([92])  صحيح مسلم (3/1209)، ومسند أحمد (2/262).

([93])  المغني (4/47، 49).

([94])  رواه أحمد في مسنده (2/82، 154) وغيره، وسيأتي الكلام عليه.

([95])  الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 362 ــ 364).

([96])إعلام الموقعين (2/45).

([97])  تحفة المحتاج (5/44).

([98])  المغني (4/7).

([99])  مطالب أولي النهى (3/43).

([100])  شرح الهداية (7/10).

([101])  شرح الهداية (7/7).

([102])  رواه البخاري في صحيحه ــ مع فتح الباري ــ (5/56 ــ 59)، ومسلم (3/1224)، والترمذي في سننه مع التحفة (4/524)، والنسائي في سننه (7/256)، وأبو داود في سننه مع العون (9/196)، ومالك في الموطأ (ص 442).

([103])  السيل الجرار بتحقيق إبراهيم زايد، ط دار الكتب العلمية ببيروت (3/360).

([104])  سورة الحديد: الاية 25.

([105])  سورة النحل: الاية 90.

([106])  سورة النساء: الاية 58.

([107])  مجموع الفتاوى (20/510).

([108])  فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك (1/164 ــ 165).

([109])  فقه الزكاة، ط مؤسسة الرسالة (1/271).

([110])  الفقه على المذاهب الأربعة، ط دار إحياء التراث الإِسلامي بقطر (1/515).

([111])  إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي (3/2 ــ 3) نقلاً عن الأستاذ محمد تقي العثماني في بحثه: أحكام أوراق النقود (ص 8).

([112])  الفتح الرباني مع شرحه للشيخ الساعاتي حيث ذكر هذه المسألة في كتاب الزكاة باب زكاة الذهب والفضة (8/251).

([113])  التبيان في زكاة الأثمان (ص 33)، وما بعدها، وفقه الزكاة (1/275).

([114])  يراجع بحث الأستاذ محمد تقي العثماني (ص 11).

([115])  دائرة المعارف البريطانية، ط 1950 (3/44).

([116])  يراجع: بحث محمد تقي العثماني (ص 11).

([117])  الهداية مع فتح القدير وشرح العناية (7/152 ــ 153)، وحاشية ابن عابدين (5/266).

([118])  الهداية مع فتح القدير (7/153).

([119])  الهداية، مع شرحيه: فتح القدير، وشرح العناية (7/154 ــ 155).

([120])  جزء من الحديث الصحيح المتفق عليه.

([121])  الأم (3/98).

([122])  فتح القدير (7/15)، وحاشية ابن عابدين (5/177).

([123])  بداية المجتهد (2/196).

([124])  المغني لابن قدامة (4/10).

([125])  بداية المجتهد (2/196).

([126])  المغني (4/50).

([127])  ابن عابدين (5/177).

([128])  مصنف ابن أبـي شيبة، الحديث رقم (2293، 2297، 2298)، ومصنف عبد الرزاق الحديث رقم (14559، 14560).

([129])  حاشية ابن عابدين (5/177).

([130])  الأم (3/98، 99).

([131])  الأستاذ محمد تقي العثماني: بحثه السابق ومصادره المشار إليها.

([132])  نفس المصدر السابق.

([133])  رسالة النقود (ص 2/62).

([134])  الأم: (3/98).

([135])  فقه الزكاة (1/269).

([136])  في بحثه المقدم إلى المجمع الفقهي الإِسلامي بمكة في 7/2/1406هـ (ص 6).

([137])  مقالته في مجلة النور الاقتصادية العدد 42 والعدد 43.

([138])  الودع: خـرز أبيض تخـرج مـن البحـر، تتفـاوت في الصغـر والكبـر. القاموس. ومختار الصحاح.

([139])  النقـود للمقريزي، ط الكرمـل (ص 65 ــ 66)، والنقـود والمكـاييل للمنـاوي، ط العراق (ص 123 ــ 127).

([140])  الأم (3/98).

([141])  نقله عنه د. محمد صالح: أصول علم الاقتصاد، ط النهضة بمصر سنة 1352هـ (ص 318).

([142])  نقله عنه ابن خلدون في المقدمة (ص 483).

([143])  انظر: المقدمة (ص 479 ــ 485).

([144])  د. محمد صالح: المرجع السابق (ص 310).

([145])  د. محمد صالح: أصول الاقتصاد، ط سنة 1933م (ص 301 ــ 310).

([146])  انظر: الإِشارة للإِمام جعفر بن علي الدمشقي، ط القاهرة 1315هـ (ص 6).

([147])  الهداية مع فتح القدير، ط مصطفى الحلبـي (7/156 ــ 158).

([148])  فتح القدير (7/158).

([149])  المبسوط (11/50).

([150])  الدرر السنية (5/112).

([151])  درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/101).

([152])  تنبيه الرقود (2/67).

([153])  سورة النساء: الاية 29.

([154])  تنبيه الرقود (2/66 ــ 67).

([155])  المرجع السابق (2/66).

([156])  تنبيه الرقود (2/66 ــ 67).

([157])  شرح التلقين للمازري (ص 129) نقلاً عن بحث فضيلة الشيخ المختار السلامي حول مفهوم كساد النقود الورقية المقدم إلى الدورة التاسعة.

([158])  المصدر السابق نفسه.

([159])  صحيح مسلم مع شرحه للنووي، ط دار أبـي حيان (5/481)، ومسند أحمد (3/477، 5/60)، وسنن أبـي داود (3/3470)، والنسائي (7/264)، وابن ماجه (2/2219).

([160])  صحيح مسلم مع شرح النووي (5/482) والمصادر السابقة.

([161])  يراجع: تحفة الفقهاء، ط قطر (2/56)، وبداية المجتهد (2/186)، وشرح صحيح مسلم للنووي (5/483)، والمغني لابن قدامة (4/118 ــ 120)، ومجموع الفتاوى (30/279).

([162])  المصادر السابقة نفسها.

([163])  بحثه المقدم إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإِسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإِسلامي (ص 7).

([164])  الحديث رواه البخاري في صحيحه مع الفتح (5/363، 369)، ومسلم في صحيحه (3/1250)، والترمذي مع تحفة الأحوذي (6/301)، وابن ماجه في سننه (2/904)، والنسائي في سننه (6/201)، ومالك في الموطأ (ص 476).

([165])  المغني لابن قدامة (4/119 ــ 120).

([166])  شرح الزرقاني (5/60).

([167])  بُلغة السالك على الشرح الصغير، ط عيسى الحلبـي القاهرة (2/386 ــ 387).

([168])  شرح تكميل المنهج، لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي (ص 53).

([169])  شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقاء، ط دار الغرب الإِسلامي 1983، (ص 121 ــ 122).

([170])  شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقاء (ص 121 ــ 123).

([171])  يراجع: بحث أ. د. علي السالوس: التضخم والكساد في ميزان الفقه الإِسلامي المقدم إلى دورة مجمع الفقه التاسع (ص 12).

([172])  البيان والتحصيل، ط دار الغرب الإِسلامي (6/487).

([173])  د. شوقي دنيا، في بحثه السابق (ص 70) وما بعدها.

([174])  الشيخ محمد المختار السلامي في بحثه السابق (ص 24).

([175])  مجموع الفتاوى (29/455 ــ 456).

([176])  يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره (2/1186).

([177])  صحيح البخاري ــ مع الفتح ــ (5/56 ــ 59)، ومسلم (3/1224).

([178])  سورة النساء: الاية 29. وراجع: مبدأ الرضا في العقود، وراجع: للأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق (ص 68).

([179])  انظر: الروضة (4/35)، والمغني لابن قدامة (4/360).

([180])  القواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي مخطوطة الإِسكندرية ورقة (80).

([181])  فقد روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه»، ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة، يراجع صحيح البخاري مع الفتح ــ كتاب الإِيمان (1/57)، وأحمد (2/31، 3/473، 4/70)، وسنن ابن ماجه (2/1410).

([182])  رواه أحمد في مسنده (2/82، 154)، وأبو داود في سننه ــ مع العون ــ كتاب البيع (9/203)، وابن ماجه في سننه بدون «سعر يومها» كتاب التجارات (2/760)، والدارمي في سننه (2/174)، والنسائي في سننه، كتاب البيوع (7/282)، وقد ضعف هذا الحديث، لأن سماك بن حرب قد انفرد به، وقد قال فيه سفيان: إنه ضعيف، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث، قال الحافظ في التقريب (1/332): «صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن» ــ وراجع ميزان الاعتدال (2/232).

([183])  عون المعبود (9/204).

([184])  حاشية السندي على النسائي (7/282).

([185])  سنن النسائي (7/282 ــ 283).

([186])  المغني (4/55).

([187])  فتح العزيز (11/279 ــ 280)، والروضة (5/23).

([188])  بداية المجتهد (2/196).

([189])  فتح القدير (7/8).

([190])  سنن أبـي داود ــ مع العون ــ كتاب الديات (12/284)، ورواه مالك بلاغًا في الموطأ (2/530).

([191])  عون المعبود (12/285).

([192])  سنن أبـي داود مع العون ــ كتاب الديات (12/290)، والترمذي ــ مع التحفة ــ كتاب الديات (4/646)، قال الشوكاني في النيل (8/271): وكثرة طرقه تشهد بصحته.

([193])  سنن الدارمي ــ كتاب الديات (2/113)، وراجع نيل الأوطار (8/271).

([194])  سنن النسائي ــ كتاب القسامة (8/43).

([195])  صحيح البخاري مع فتح الباري كتاب الشروط (5/314).

([196])  فقه الزكاة (1/265 ــ 269).

([197])  مقررات مجمع البحوث الإِسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1965م، القرار (2) (ص 402)، ويراجع فقه الزكاة (1/264)، وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء: أبو زهرة، وخلاف، وحسن، رحمهم الله.

([198])  الأشباه والنظائر (ص 398).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق