البحوث

الخلع وأحكامه الشرعية وتطبيقاته للمسلمين في بلاد غير إسلامية

الخلع وأحكامه الشرعية وتطبيقاته
بالنسبة للمسلمين المقيمين في بلاد غير إسلامية
الشيخ فيصل مولوي

 

الحمد الله رب العالمين والصلة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد،

ففي هذه الدراسة سوف أحرص على تلخيص الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلع كما وردت في المذاهب الفقهية المعتمدة، مع ترجيح الرأي الذي أختاره، كما سأطرح بعض كيفيات تطبيق الخلع في البلاد الإسلامية أو في بلاد غير المسلمين.

الفصل الأول
“التعريف”

1- تعريف الخلع في اللغة:

خَلَعَ الشيءَ خَلْعاً: نَزَعَهُ, ومنه خلع النعل والرداء والثوب.

وخَلَعَ امرأته خُلعاً, أو خالعها وخالعته أي طلقها على بذل منها.

2- تعريف الخلع في الإصطلاح الفقهي:

تتفق أراء الفقهاء والمذاهب على معنى واحد للخُلع وهو (التراضي بين الزوجين على وقوع الفرقة بعوض تدفعه الزوجة لزوجها) فهو بالتالي: عقد يتم فيه الفراق بين الزوجين ببدل مالي وبالتراضي بينهما, أما الطلاق فهو تصرف بإرادة منفردة من الزوج وحده يؤدي إلى الفراق.

ويمكن أن نستخلص من آراء أكثر الفقهاء التعريف التالي:

(الخُلع هو تراضي الزوجين على الفراق بعوض)

  • ويشترط بعض الفقهاء أن يكون بلفظ الخُلع (فتح القدير) أو بألفاظ مخصوصة (كشاف القناع) ونفضل أن نبحث المسائل المتعلقة بالألفاظ في صيغة الخلع لا في تعريفه.
  • كما يسميه البعض (طلاقاً بعوض) الشرح الكبير. لكننا اخترنا أن نسميه (فراقاً بعوض) ليشمل التعريف من يعتبر الخلع طلاقاً أو من يعتبره فسخاً. كما أنّ الطلاق تصرّف بإرادة منفردة من الرجل، أما الخلع فهو عقد يقوم على توافق إرادتين.

الفصل الثاني

مشروعية الخلع وحكمه الشرعي وحكمته

1– أما مشروعية الخلع فقد ثبتت:

1- بالقرآن الكريم: قال تعالى: (الطلاق مرتان: فامساك بمعروف أو تسريح باحسان, ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله, فإن خفتم ألا يقيما حدود الله  فلا جناح عليها فيما افتدت به. تلك حدود الله فلا تعتدوها..) سورة البقرة آية 229. وقد قال المفسرون أن هذه الآية الكريمة تتعلق باباحة الخلع ضمن الشروط المذكورة فيها.

2- بالسنة الشريفة: حديث امرأة ثابت بن قيس أنها “أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين, ولكني أكره الكفر في الإسلام – قال البخاري: يعني تبغضه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقبل الحديقة وطلقها تطليقة” هذه رواية البخاري والنسائي, وقد ورد هذا الحديث في روايات أخرى أخرجها أبو داوود والترمذي وابن ماجة وأحمد والموطأ والبيهقي والطبراني وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبزار. وكل هذه الروايات من الصحيح أو الحسن.

وقد ذكر كثير من الفقهاء الإجماع على مشروعية الخلع منهم ابن قدامة (المغني جزء 7) وابن حجر العسقلاني (شرح العسقلاني لصحيح البخاري جزء9) والجصاص (أحكام القرآن للجصاص جزء1)- وقال ابن عبد البر (ولا نعلم أحداً خالف في ذلك إلا بكر بن عبد الله المزني, فإنه زعم أن آية الخلع منسوخة بقوله سبحانه (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج, وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً), وقد رد العلماء على ادعاء النسخ بأنه لا يسمع حتى يثبت تعذر الجمع، وأن الآية الناسخة متأخرة ولم يثبت شيء في ذلك.

2– حكمه الشرعي:

ونتناول في هذا الموضوع ثلاثة مسائل:

الأولى: ما هو الحكم الشرعي في طلب المخالعة من قبل أحد الزوجين؟

  • أما الزوجة، وهي التي تطلب المخالعة للتخلص من الحياة الزوجية، فطلبها مباح إذا لم تعد الحياة الزوجية بالنسبة لها سكناً وراحة, كما إذا كرهت زوجها لأي سبب, وخافت أن تأثم بتقصيرها في حقه. ويكون طلبها مكروهاً إذا كانت العشرة بينهما حسنة, ولا يوجد سبب يدعو إليه.
  • أما الزوج فيباح له أيضاً طلب المخالعة من زوجته، إذا رأى منها نشوزاً يجعل الحياة الزوجية غير سعيدة. ولكن لا يجوز له أن يضيق عليها لتطلب المخالعة وتتنازل عن حقوقها, لقوله تعالى: (وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج, وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً. أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً؟) سورة النساء الآية 20.

الثانية: ما هو الحكم الشرعي في رد الزوج الآخر على طلب المخالعة؟

إذا كان طلب المخالعة من أحد الزوجين مبنياً على سبب محدد, فإن من واجب الزوج الثاني إذا كان يرغب استمرار الحياة الزوجية أن يعالج هذا السبب بالحوار والتفاهم. هذا هو مقتضى الآية الكريمة (وعاشروهن بالمعروف) والعشرة بالمعروف مطلوبة من الزوجين وليست محصورة بالرجل (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف).

فإن تعذر معالجة السبب, يستحب للزوج اجابة طلب المخالعة عند جمهور الفقهاء لحديث النبي صلى الله عليه وسلم لإمرأة ثابت بن قيس “أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم. فأمرها بردها وأمره بمفارقتها” رواه البخاري.

ويرى بعض الفقهاء أن اجابة طلب المخالعة في هذه الحالة واجب (الصنعاني في سبل السلام).

الثالثة: ما هو الحكم الشرعي في عقد المخالعة بين الزوجين؟

الأصل في المخالعة الإباحة للأدلة المذكورة سابقاً من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وما ذكره الفقهاء من تحول الإباحة إلى كراهة أو تحريم, أو إلى ندب أو استحباب, فهي تتعلق بكل من الزوجين، طالب المخالعة ومن قبلها.

أما إذا تم الإتفاق بينهما على المخالعة فإنها تبقى على أصل الإباحة بالنسبة للزوجين، وقد يكون حكمها في حق أحدهما الكراهة أو التحريم، بينما يكون حكمها في حق الآخر الإباحة أو الإستحباب.

3- حكمة الخلع:

قال تعالى: (.. فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله، فلا جناح عليهما فيما افتدت به..) سورة البقرة 229. دلت هذه الآية الكريمة أنّ حكمة الخلع هي إزالة الضرر عن المرأة.

قال ابن قدامة: (والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه) المغني ج7- ص52. قال الدكتور عبد الكريم زيدان في تعليقه على قول ابن قدامة: (إنّ تشريع الخلع كان لإزالة الضرر عن الزوجة بسبب بقاء النكاح بينها وبينه لبغضها له، أو لعدم قيامه بحقوقها. فكان هذ الغرض هو المنظور إليه في تشريع الخلع. أما مصلحة الزوج ودفع الضرر عنه، فهذا وإن كان منظوراً إليه في تشريع الخلع، وأنه من حكمة هذا التشريع، إلاّ أنه في المقام الثاني من هذه الحكمة، لأنّ الزوج يستطيع التخلص من ضرر بقاء الرابطة الزوجية بإرادته المنفردة – أي بالطلاق- دون توقف على رضا وموافقة الزوجة) (المفصل في أحكام المرأة ج8 ص125.)

الفصل الثالث

التكييف الفقهي للخلع”

يرى أبو حنيفة رضي الله عنه أنّ الخلع يمين من جانب الزوج ومعاوضة من جانب الزوجة.

ويرى الصاحبان أنّ الخلع يمين من الجانبين.

بينما يرى المالكية والشافعية والحنابلة أنّ الخلع معاوضة بين الجانبين.

ومعنى معاوضة أنه يدخل في عقود المعاوضات.

وعقود المعاوضات هي التي يلتزم فيها أحد الطرفين بموجب معين، في مقابل عوض يلتزم به الطرف الآخر. ويقابلها عقود التبرعات  وهي التي يقدم فيها أحد الطرفين للآخر أمراً معيناً دون عوض.

وبما أنّ الخلع هو اتفاق بين الزوجين على إنهاء الحياة الزوجية مقابل عوض، فإننا نرجّح أنه عقد معاوضة بالمعنى الكامل، تجري فيه من حيث الأصل أحكام العقود، إلاّ ما استثني منها بسبب خصوصية عقد الزواج وعقد المخالعة.

الفصل الرابع

“أركان الخلع”

وصلنا في التكييف الفقهي للخلع على أنه عقد معاوضة. وبناءً على ذلك فإنّ أركانه هي أركان العقد وهي عند الجمهور أربعة، العاقدان وهم: (الزوج والزوجة) والصيغة والمحلّ. وقد زاد بعضهم ركناً خامساً هو: (العوض) الذي تدفعه الزوجة للحصول على المخالعة، باعتبار أنّ عقد الخلع لا يتحقق عند هؤلاء إلاّ بوجود هذا العوض.

الركن الأول: الزوج المخالع أو الخالع:

وهو أحد طرفي العقد، وقد يكون الموجِب، أي الذي يبدأ بعرض المخالعة، وقد يكون القابل، أي الذي يقبل عرض زوجته بالمخالعة.

وفي الحالتين يجب أن تتوفّر في الزوج شروط معينة تمكّنه من إجراء عقد الخلع، وهي نفس الشروط المطلوبة ليصح طلاقه، ولذلك اتفق الجمهور من الفقهاء على أنّ:

من صحّ طلاقه صحّ خُلعه، وشروط صحّة الطلاق أن يكون الزوج عاقلاً مختاراً، فلا يصحّ طلاق المجنون ولا المكره، كذلك لا يصحّ الخُلع منهم. أما السفيه فطلاقه صحيح، وخلعه أيضاً صحيح من باب أولى. وكذلك المريض مرض الموت طلاقه صحيح وخلعه صحيح، على خلاف بين الفقهاء في مدى حقّ الزوجة المختلعة في الإرث من زوجها إذا مات بعد إجراء المخالعة معها.

الركن الثاني: الزوجة المختلعة:

وهي الطرف الثاني في عقد المخالعة، ويشترط فيها ما يلي:

  • أن تكون زوجة بموجب عقد نكاح صحيح، لأنه إذا كان العقد باطلاً أو فاسداً فلا حاجة أصلاً إلى الخلع، ان الواجب هنا قطع الرابطة الزوجية فوراً. وتعتبر الزوجية قائمة ولو كانت الزوجة معتدة من طلاق رجعي، لأنه لا يرفع الزواج فتصح معه المخالعة، أما إذا كانت الزوجة مطلقة طلاقاً بائناً، فليست محتاجة إلى الخلع، وإن فعلته فهو غير صحيح عند الشافعية والحنابلة، ويصحّ عند الأحناف والمالكية لكن لا يجب فيه بدل الخلع.
  • أن تكون الزوجة المختلعة أهلاً للتبرّع، لأنّ الخلع عقد معاوضة فيه شائبة التبرع. والمرأة الرشيدة لها حقّ التصرف بمالها كلّه بالتبرع والمعاوضة عند الجمهور فتصحّ منها المخالعة، أما غير الراشدة فلا يصحّ منها الخُلع لأنها لا تملك حقّ التصرّف بمالها.
  • ويجوز للزوجة أن تخالع زوجها سواء كانت حائضاً أو طاهراً، وسواء مسّها زوجها في طهرها أو لم يمسسها، لأنّ النصّ المتعلّق بهذا الموضوع محصور بالطلاق، ولأنّ المخالعة تختلف عن الطلاق في أنها تقع باتفاق الزوجين، وليس بإرادة الزوج المنفردة.
  • ولا يجوز للأجنبي الفضولي أن يخالع عن الزوجة، فإن فعل وقبل الزوج كان طلاقاً منه ولم يكن مخالعة بينه وبين زوجته. لأنّ المخالعة تقتضي موافقة من الزوجة نفسها إذا كانت تريد التخلّص من الحياة الزوجية، وليس المقصود منها مجرّد إعطاء مال للزوج حتى يطلّق، والحياة الزوجية ملك للزوجين، ولا يجوز لغيرهما التدخل في إنهائها، هذا هو رأي الإمام أبي ثور والظاهرية والزيدية والجعفرية، وهو الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة ومع خصوصية الحياة الزوجية، ولو كان يخالف الراجح في المذاهب الأربعة لأنّ هؤلاء غلّبوا فكرة المعاوضة في المخالعة على مسألة التراضي بين الزوجين، فأجازوا للفضولي المخالعة عن الزوجة، وهو أمر مستغرب لأنّ الحنابلة والشافعية لا يجيزون بيع الفضولي ولا شراءه، ويعتبرونه باطلاً لا أثر له، وكان الأولى بهم أن يعتبروا خلع الفضولي مثل بيعه وشرائه، كما أنّ الأحناف والمالكية ولو أجازوا بيع الفضولي، وشراءه إلاّ أنهم اعتبروه موقوفاً على إجازة صاحب البضاعة أو المشتراة له، وكان أولى بهم أن يشترطوا هذا الشرط في خلع الفضولي، لأنّ الحياة الزوجية أهمّ بكثير عند أي إنسان من بضاعة يبيعها أو يشتريها، وهي أهم بكثير في نظر الإسلام حتى سماها ميثاقاً غليظاً.
  • الزوجة التي لم تبلغ سنّ الرشد، والمجنونة والسفيهة، لا تصحّ مخالعتها إلاّ إذا أذن لها ولي المال (الأب أو الجدّ)، أو القاضي. وليس للولي أن يخالع عنها بدون إذنها، لأنها أعرف بمصلحتها من غيرها. وإنما اشترط لمخالعتها إذن الولي أو القاضي، لأنها تتنازل عن بعض مالها وليست عندها الأهلية للتصرّف بالمال.
  • الزوجة المريضة مرض الموت إذا خالعت زوجها على عوض معيّن، صحّت المخالعة، فإذا ماتت في مرضها هذا وفي عدتها كان لزوجها الأقلّ من ميراثه منها أو بدل الخلع.

الركن الثالث: الصيغة:

من المعروف أنّ (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني). والخلع عقد على الفرقة بعوض. فأي صيغة يتحقق بها التراضي بين الزوجين على إنهاء الحياة الزوجية مقابل عوض تعتبر خلعاً. وقد ذكر الفقهاء بعض الألفاظ المستعملة في هذا المجال وهي (الخلع، والفدية، والصلح، والمبارأة، والطلاق، والمفارقة، والفسخ) واعتبروا بعضها صريحاً في الدلالة على المخالعة، وبعضها كناية، لكن الراجح أنّ أي لفظ يعبّر عن معنى المخالعة يعتبر صيغة صحيحة.

وإذا كان أحد العاقدين أخرس لا يستطيع التلفظ، تكفي منه الإشارة المفهمة. أما المعاطاة، فهي إذا صحت في عقود البيع والشراء، فإنها لا تصحّ في المخالعة لخطورتها ولأنها قطع للرابطة الزوجية يقتضي الاحتياط لها باشتراط الصيغة اللفظية كما في ابتداء النكاح.

الركن الرابع: المحلّ:

محلّ عقد المخالعة هو العلاقة الزوجية القائمة، فإن كانت الزوجة مطلقة طلاقاً بائناً وقت الخلع، فإنّ الخلع لا يقع لأنه لم يصادف محلاً. أما إذا كانت مطلقة طلاقاً رجعياً، ووقع الخلع أثناء عدتها فإنه يصح عند الجمهور من المذاهب الأربعة.

الركن الخامس: العوض:

  • لا يصحّ عقد الخلع بدون عوض:

العوض هو ما تلتزم الزوجة ببذله إلى الزوج حتى يطلقها، وهو بالتالي ما ينعقد عليه عقد الخلع. وهذا يعني أنّ العقد لا يصحّ بدون ذكر العوض.

ولذلك اعتبروه من أركانه، وهذا هو الصحيح. لكن بعض الفقهاء لا يعتبرونه ركناً ولا شرطاً، منهم الأحناف والمالكية، ويعتبرون المخالعة التي تتمّ بدون ذكر العوض طلاقاً بائناً، وهذا يؤكّد أنّ العوض ركن في المخالعة لأنه إذا لم يوجد تحولت المخالعة إلى طلاق. أما الحنابلة فيعتبرون أنه (…إن خالعها بغير عوض لم يقع خلع ولا طلاق، إلاّ أن يكون بلفظ طلاق أو بنية طلاق… فيقع طلاقاً رجعياً. فإن لم ينو به طلاقاً لم يكن شيئاً). وهذا أيضاً يؤكد أنّ العوض من أركان المخالعة. كشاف القناع ج3 ص130.

  • مشروعية العوض:

بذل العوض من الزوجة وأخذه من قبل الزوج مشروع في حالة واحدة هي: (..أن يخافا ألاّ يقيما حدود الله..) سورة البقرة 229 – أي أن يخاف كلّ من الزوجين ألاّ يقوم بما أوجبه الله عليه لزوجه، مما يؤدي لسوء العشرة والشقاق- وفي هذه الحالة (لا حرج عليها في بذلها له، ولا حرج عليه في قبول ذلك منها) كما يقول ابن كثير في تفسيره (ج1 ص272).

  • متى يكون العوض حراماً في حقّ الزوج؟:
  • إذا عضل الرجل زوجته (أي حبسها أو ضيق عليها أو آذاها وأضرها) حتى اضطرها إلى أن تبذل بعض مالها لتتخلّص منه، فقد وقع فيما نهى الله عنه. قال تعالى: (.. ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ، إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة) سورة النساء الآية 19. فإذا لم تقع الزوجة في فاحشة مبينة (كالزنا أو النشوز أو العصيان أو ..) فإنه لا يجوز لزوجها أن يضطرها للتنازل عن بعض مالها. فإذا فعل جاز لها أن تفتدي نفسها بالمال لأنها تبذله مكرهة، لكنه يأخذه مالاً حراماً. بل إنّ كثيراً من الفقهاء يعتبرون الخلع في هذه الحالة باطلاً. لكنا نرجّح رأي الأحناف (أنّ الخلع صحيح والعوض لازم وهو آثم عاص) كما نرجّح رأي المالكية في حقّ الزوجة المختلعة في استرداد مالها إذا أثبتت بالبينة أنها لم تدفع له المال إلاّ للتخلّص من عضله وإضراره، وأنها يحقّ لها هذا الطلب حتى ولو أسقطت حقّها في ذلك في عقد الخلع.
  • وكذلك الأمر إذا أراد الرجل فراق زوجته دون سبب منها، فلا يجوز له أن يضطرها للتنازل عن بعض مالها من أجل أن تفتدي نفسها عن طريق إيذائها والإضرار بها، فإن فعل ذلك أثم أيضاً، وكان المال الذي أخذه منها مالاً حراماً لقوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهنّ قنطاراً، فلا تأخذوا منه شيئاً، أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) سورة النساء الآية 20.

أما إذا كانت الحالة بين الزوجين جيدة، ولا يوجد بينهما خصام ولا شقاق ولا كراهية، فإنّ بذل العوض من قبل الزوجة وقبوله من قبل الزوج كلاهما مكروه، والمخالعة نفسها مكروهة أيضاً عند الجمهور، ولو كان الخلع صحيحاً. وقال الشافعية بصحة الخلع دون كراهة (المجموع ج16 ص3).

د-  هل يجوز أن يكون العوض أكثر مما أعطاها؟:

يرى كثير من العلماء أنّ العوض الذي تقدمه المرأة لزوجها من أجل المخالعة يجب أن لا يزيد عمّا قدّمه لها بسبب الزواج، لكن الجمهور يجيزون أن يكون العوض أكثر مما أعطاها، وإن كانوا يعتبرون الزيادة غير مستحبة لما رواه ابن ماجة والدارقطني في قصّة زوجة ثابت بن قيس (فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد) (أما الزيادة فلا، ولكن حديقته..).

هـ- ويشترط في العوض أن يكون مالاً متقوماً:

    وهو ما يمكن حيازته، ويجوز الانتفاع به، فلا يصحّ أن يكون عوض الخلع خمراً أو خنزيراً، لأنه مال غير متقوم بالنسبة للمسلم. والمنافع المباحة التي تتقابل بالمال تصلح أن تكون عوضاً (كحضانة الصغير أو إرضاعه). فإذا تمّت المخالعة على عوض ليس مالاً، أو على مال ليس متقوماً، فإنّ الفرقة تقع بين الزوجين عند الجمهور، ولا شيء للزوج على المرأة إلاّ عند الشافعية الذين يوجبون عليه (مهر المثل) عند فساد العوض.

و- أنواع العوض كثيرة منها:

  • المهر المؤجّل فيصحّ أن يكون كلّه أو جزء منه عوضاً في المخالعة.
  • النفقة الماضية الواجبة في ذمّة زوجها بالقضاء أو بالتراضي، ونفقة العدّة. ولا تصحّ المخالعة على حقّ السكن في العدّة لأنه حقّ الله، لكن يمكن أن تكون على مؤونة السكن، كما لو كان السكن في دار مستأجرة فتدفع هي الأجرة بدلاً من الزوج.
  • ويصحّ أن يكون العوض على المخالعة إرضاع المختلعة لولد المخالع سواء كان منها أو من زوجة ثانية. فإن حدّد الطرفان مدّة الإرضاع وجب الالتزام بها، وإن لم يحدداها، فإنّ المدّة تنتهي ببلوغ الولد السنتين، باعتبارها المدّة المعهودة للرضاع شرعاً.
  • ويصحّ أن يكون العوض من المخالعة أن تتحمّل الزوجة المختلعة نفقة الولد الصغير ما دام في سنّ الحضانة، ولا يصحّ أن يكون العوض تنازل الأم عن حقّ حضانتها لولدها. لأنّ حضانة الأم لولدها حقّ الولد أيضاً، وإن جاز لها أن تتنازل عن حقّ لها، فلا يصحّ أن تتنازل عن حقّ الولد. فإن وقع الخلع على هذا العوض صحّ الخلع وسقط العوض، ويكون من حقّها أن تطالب بحضانة الولد عندما تشاء.
الفصل الخامس
“آثار الخلع”

 

إذا تمّ الخلع صحيحاً، وقعت به الفرقة بين الزوجين، لكن هل يعتبر طلاقاً أم فسخا؟

  • ذهب الجمهور من الفقهاء إلى اعتبار الفرقة بالخلع طلاقاً بائناً، وهؤلاء هم الأحناف والمالكية والشافعية في الجديد وأحد قولين عند الحنابلة، وهو مروي أيضاً عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وسعيد بن المسبب والحسن وعطاء وقبيصة وشريح ومجاهد والنخعي والشعبي والزهري ومكحول وابن أبي نجيح والأوزاعي والثوري (المفصل في أحكام المرأة ج 8 ص 218) وحجّتهم:
  • أنّ لفظ الخلع يدلّ على الطلاق لا على الفسخ. فهو مأخوذ من الخلع أي النزع، والنزع هو إخراج الشيء من الشيء. فقول الرجل لزوجته (خالعتك) معناه أخرجتك من قيد النكاح.
  • فسخ العقد لا يجوز إلاّ على العوض الذي وقع عليه العقد، بينما الخلع يجوز على ما وقع عليه عقد الزواج من مهر، وعلى غيره أيضاً. وهذا يدلّ على أنّ الخلع ليس فسخاً.
  • ما روي عن عمر وعلي وابن مسعود موقوفاً عليهم (الخلع تطليقة بائنة) (الموسوعة الفقهية الكويتية ج19 مادة الخلع).
  • وذهب أحمد في إحدى روايتين عنه والشافعي في القديم إلى أنّ الخلع فسخ، وهذا القول مروي أيضاً عن ابن عبّاس وطاووس وعكرمة وأبي ثور وإسحق بن راهويه وابن خزيمة والناصر في أحد قوليه والصادق والباقر والإمام يحي بن حمزة، وهو ما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى ج3 ص32). وابن القيم (زاد المعاد ج3 ص192) والشوكاني (نيل الأوطار ج6 ص281)، وحجّتهم في ذلك:
    • أنّ الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين، ثمّ ذكر بعد ذلك طلقة أخرى، فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً. قال تعالى: (الطلاق مرّتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلاّ أن يخافاً ألاّ يقيما حدود الله، فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون. فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره…) سورة البقرة الآية 229. فقد ذكر الله تعالى الفداء وهو الخلع بين الطلقتين الأوليين والطلقة الثالثة ولم يجعله طلاقاً. هذه الرواية ثابتة عن ابن عباس باتفاق أهل المعرفة بالحديث كما يقول ابن تيمية.
    • أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم جعل عدّة المختلعة حيضة واحدة. فقد روى ابن عبّاس (أنّ امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فأمرها النبي أن تعتدّ بحيضة) أخرجه أبو داود 2/669 والترمذي 3/482 وقال: حديث حسن. وروى الترمذي أيضاً عن الربيع بنت معوذ أنها (اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأمرها النبي أن تعتدّ بحيضة) أخرجه الترمذي 3/482 وإسناده صحيح. هذا وأنّ اعتبار عدّة المختلعة حيضة واحدة هو قول في مذهب الإمام أحمد). وهو مروي عن عثمان بن عفّان وابن عمر وابن عباس وأبان بن عثمان وإسحق وابن المنذر، كما أنّ عثمان رضي الله عنه قضى به (تفسير القرطبي 3/144 والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 9/78).

ووجه الاستدلال بهذين الحديثين أنّ الخلع لو كان طلاقاً لم يقتصر الأمر النبوي على حيضة واحدة، لأنّ عدّة الطلاق كما هو معروف ثلاث حيضات.

وجمهور الفقهاء اعتبر عدّة المختلعة ثلاث حيضات لأنّ الخلع فرقة بين الزوجين في الحياة بعد الدخول، فكانت عدّته كعدّة المطلّقة، وهي ثابتة بالقرآن الكريم والسنن الصحيحة، والأخذ بها أحوط.

ج- وذكر ابن القيم في زاد المعاد (ج5 ص197) في الخلع أنه (لا يصحّ عن صحابي أنه طلاق البتة) وذكر كلام ابن عباس (الخلع تفريق وليس بطلاق) وقال عن هذا الأثر: إسناده صحيح وذكره ابن حزم 10/237. ثمّ ذكر الآثار الواردة عن عثمان وعلي وابن مسعود في اعتبار الخلع طلاقاً فردها جميعاً. ثمّ أوضح رأيه بأنّ الخلع فسخ حتى لو كان بلفظ الطلاق، لأنّ المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها، ولأنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم أمر ثابت بن قيس أن يطلّق امرأته في الخلع تطليقة، ومع هذا أمرها أن تعتدّ بحيضة، وهذا صريح في أنه فسخ ولو وقع بلفظ الطلاق.

د- جميع الروايات المتعلقة بالمخالعة تدور حول قصّة زوجة ثابت بن قيس، وقد ورد في رواية واحدة منها قول النبي الصريح (إقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وهي رواية البخاري والنسائي. أما بقية الروايات فلم يرد فيها لفظ الطلاق بل ورد (خذ منها، فأخذ منها وجلست في بيتها) الموطأ وأبو داود والنسائي. (خذ الذي لها عليك وخلّ سبيلها) النسائي. (خذها وفارقها) أبو داود. (فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد) ابن ماجه. (فأخذها له – أي الحديقة- وخلى سبيلها) الدارقطني.

ومن المعروف أنّ رواية البخاري والنسائي (إقبل الحديقة وطلقها تطليقة) هي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأنّ ابن عباس يعتبر الخلع فسخاً وليس طلاقاً، مما يؤكّد أنه لم يفهم من الطلاق هنا المعنى الفقهي، وإنما فهمه بمعناه اللغوي وهو التفريق، وإلاّ فإنّ ابن عبّاس لا يمكن أن يرى رأياً يخالف ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلّم.

ترجيحنا أنّ الخلع فسخ وليس طلاقاً..

ونحن نرجّح اعتبار الخلع فسخاً وليس طلاقاً للأسباب التالية:

  • أنّ الزواج من حيث الأصل عقد يقوم على التراضي بين الطرفين، وأنه بالتالي تسري عليه أحكام العقود إلاّ ما يتنافى مع خصوصيته باعتبار موضوعه الأساسي العلاقات الزوجية وبناء الأسرة، أو ما يتعارض مع الأحكام الشرعية الواردة بشأنه.
  • أنّ جميع العقود تقوم على التراضي بين الطرفين، وتستمرّ طالما بقي التراضي موجوداً. فإذا فقد عند أحدهما أو كليهما لم يعد ممكناً استمرار العقد، فإما أن يبذل الطرفان جهدهما لاستعادة التراضي، وإما أن يتفقا على فسخ العقد. وإذا لم يكن الإتفاق ممكناً جاز لكلّ منهما أن يطلب ذلك من القاضي. ففسخ العقود لا يتمّ إلاّ بالتراضي أو بحكم القاضي، هذا هو رأي أكثر الفقهاء، وقد نصّت على ذلك أغلب القوانين المعاصرة.

ج-    ومما لا شكّ فيه أنّ الزواج عقد من نوع خاص، لأنّ موضوعه الحياة الزوجية المشتركة والعلاقات الإنسانية ضمن العائلة، ولذلك فقد أحاطه الشرع بأحكام خاصة، وأباح للطرفين أن يشترطا فيه ما لا يتعارض مع أحكامه الأساسية أو مع مقاصد الشريعة. ومن الأحكام الخاصة أنّ الشرع أعطى الرجل – وهو أحد طرفي الزواج- حقوقاً لم يعطها للمرأة، كما فرض عليه واجبات لم يفرضها على المرأة. ولم يكن ذلك بقصد التمييز بين الزوجين، وإنما كان ذلك لضمان التكامل بينهما في بناء الأسرة، وهي الخلية الاجتماعية الأولى، ولذلك أكّد الله تعالى المساواة في الحقوق والواجبات كمبدأ عام (ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف) البقرة 228. ثمّ خصّ الرجل بدرجة واحد هي القوامة على الأسرة (وللرجال عليهنّ درجة)  البقرة 228 وبيّن هذه الدرجة في آية أخرى فقال: (الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) النساء 34. واعتبر الفقهاء أنّ القوامة تعطي الرجل على زوجته حقوقاً منها حقّ الطلاق، وهو موضوعنا في هذا البحث.

د- لكننا نتساءل: إذا كان الشرع قد أعطى الرجل حقّ الطلاق لتمكينه من إنهاء عقد الزواج عندما لا تعود الحياة الزوجية المعتادة ممكنة، فهل يعتبر هذا العطاء حقاً إضافياً يتمتّع به بالإضافة إلى حقوق العقد الأخرى، أم يعتبر هذا العطاء مانعاً للزوجة من ممارسة حقها الطبيعي في فسخ العقد أو إنهائه عندما ترى هي أنّ الحياة الزوجية المعتادة لم تعد ممكنة؟ بمعنى أنّ الزواج عقد يتمّ بالتراضي، والأصل فيه أن ينتهي بالتراضي كسائر العقود. فإذا جعل الشرع إنهاءه بالطلاق عن طريق الرجل، فهل قصد بذلك أن يمنع كلّ إنهاء لهذا العقد إلاّ إذا تمّ عن طريق الرجل؟ وهل أراد أن يمنع المرأة من إنهاء هذا العقد عندما ترى ذلك؟ أم أنه أبقى حقّ الزوجين بإنهاء عقد الزواج بإرادتهما المشتركة أسوة بسائر العقود، كما أبقى حقّ كلّ منهما بالمطالبة بفسخه حين يتعذّر الإتفاق على ذلك بينهما. ولكنه أضاف للرجل حقاً آخر بتمكينه من إنهاء العقد بإرادته المنفردة عن طريق الطلاق.

الظاهر أنّ إعطاء الرجل حقّ الطلاق لا يؤثر على حقّ الزوجة في المطالبة بإنهاء العقد من طرفها، لكن الشرع لم يسمح لها إنهاء عقد الزواج بإرادتها المنفردة، بل سمح لها إنهاءه بالاتفاق مع الزوج، وإن تعذّر ذلك فبحكم القاضي. والعدالة بين الزوجين تقتضي ذلك. يقول ابن رشد: (والفقه أنّ الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع للمرأة إذا فركت الرجل). (بداية المجتهد ج2 ص68).

هـ- وبناءً على ذلك نرى أنّ من حقّ المرأة إذا لم تعد تجد في حياتها الزوجية راحة واستقراراً أن تطلب من زوجها التفريق، فإذا رضي بذلك واستعمل حقّه في الطلاق سواء بعوض عن طريق المخالعة أو بدونه، فقد تحقق لها ما أرادت. وإذا لم يوافق لأنه لا يستطيع أو لا يريد تحمّل تبعات الطلاق فقد أتاح لها الشرع أن تخالعه، أي أن تعرض عليه التنازل عن حقوقها الزوجية أو بعض هذه الحقوق، وقد تعرض عليه إعطاءه أكثر من ذلك، فإذا تمّ التراضي بينهما وقعت المخالعة. ومن هنا يتبين أنّ المخالعة اتفاق بين الزوجين على إنهاء عقد الزواج بإرادة مشتركة، بينما الطلاق تصرّف من الرجل بإرادته المنفردة لإنهاء عقد الزواج.

هناك فرق كبير جداً بين التصرفات الناتجة عن عقد بين طرفين، وبين التصرفات الناتجة عن إرادة منفردة. ولذلك فلا يصحّ أن تعتبر المخالعة طلاقاً، بل هي إنهاء عقد الزواج بإرادة مشتركة بين الزوجين، وهي نوع من أنواع فسخ العقود.

و- لذلك فنحن نضيف هذا التكييف الفقهي الذي يحدد الفرق بين المخالعة والطلاق كدليل إضافي على اعتبار المخالعة فسخاً وليس طلاقاً، وهو يضاف إلى الأدلّة التي ذكرها أصحاب هذ الرأي من العلماء والتي لحظناها في الفقرة السابقة. كما نضيف إليها مناقشة الرأي الآخر فنقول:

إنّ لفظ الخلع لغة لا يدلّ على الطلاق، إنما يدلّ على النزع، وهو إخراج الشيء من الشيء، وهذا معناه التفريق لا أكثر.

أما هل يكون هذا التفريق بإرادة منفردة من الزوج فيكون طلاقاً، أو بإرادة مشتركة من الزوجين فيكون فسخاً، فهذا ما لا يستلزمه لفظ الخلع أصلاً.

– القول أنّ فسخ العقد لا يجوز إلاّ على العوض الذي وقع عليه العقد صحيح في عقود الإقالة، وهي نوع من أنواع الفسخ خاص بعقود البيع وما شابهها، ومع ذلك فإنه إذا وقع الاتفاق في عقد الإقالة في البيع علىأكثر أو أقلّ مما دفع، صحّت الإقالة على الثمن الأول وبطلت الزيادة أو النقصان. فلماذا لا يقال في المخالعة مثل ذلك؟ أي أنّ المخالعة تصحّ على العوض الذي وقع عليه العقد وتبطل الزيادة، وجمهور الفقهاء يوقعون المخالعة ولو تمت على عوض غير متقوم، فيمكن القول أنّ المخالعة إذا وقعت على عوض أكثر مما دفعه الزوج تصحّ المخالعة، ولا تلزم الزوجة بأكثر مما أخذت. وهذا هو رأي كثير من الفقهاء.

الفصل السادس
“دور القاضي في المخالعة”

 

الخلع اتفاق على الفراق بالتراضي بين الزوجين.

هذا ما أجمع عليه الفقهاء واتفقت عليه المذاهب، وإن خالف الأحناف في تكييفه الفقهي فاعتبروه يميناً من قبل الزوج أو من قبل الزوجين، لكن الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم يعتبرونه عقد معاوضة بين الجانبين.

ومعنى هذا الكلام أنّ الخلع يتمّ بمجرّد اتفاق الطرفين، باعتباره عقداً كسائر العقود. لكن هل للقاضي حقّ تجاه هذا النوع من العقود؟ أي هل تتوقّف المخالعة على إذنه؟ أو هل يمكن أن يجبر القاضي الطرفين على القيام بالمخالعة. هذا ما تجيب عليه الفقرات التالية.

  • هل تحتاج المخالعة إلى إذن القاضي؟
  • جمهور الفقهاء والمذاهب يرون أنّ المخالعة لا تحتاج إلى إذن القاضي، لأنها عقد يقوم على التراضي بين طرفيه، وهي نافذة بذاتها بمجرّد الاتفاق إذا تحققت فيه شروطها. يقول ابن قدامة في المغني: (.. يجوز الخلع دون السلطان..) (ج7 ص52). ويقول السرخسي في المبسوط: (والخلع جائز عند السلطان وغيره) (ج6 ص173) ويقول الدردير في الشرح الكبير (جاز الخلع حالة كونه بحاكم أو بلا حاكم) (ج2 ص347). وقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أجازا الخلع دون السلطان (شرح العسقلاني ج9 ص394). واحتجّ الجمهور بما يلي:
  • الطلاق جائز دون إذن الحاكم فكذلك الخلع.
  • الخلع عقد معاوضة، ولذلك فهو لا يحتاج إلى السلطان كالبيع والنكاح. وهو أيضاً قطع عقد بالتراضي فأشبه الإقالة، وهي لا تحتاج لإذن الحاكم.
  • قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به..) يبيح الأخذ من الزوجة بالتراضي من غير سلطان.
  • ويرى الحسن وابن سيرين وأبو عبيد وسعيد بن جبير أنّ الخلع لا يجوز إلاّ عند السلطان. قال سعيد بن جبير: (لا يكون الخلع حتى يعظها.. وإلاّ ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فيرويان ما يسمعان إلى السلطان، فإن رأى بعد ذلك أن يفرّق فرّق، وإن رأى أن يجمع جمع..) (أحكام القرآن للجصاص ج1 ص 395) وذكر ابن حجر (في شرحه لصحيح البخاري) قول الحسن البصري ومحمّد بن سيرين (لا يجوز الخلع دون السلطان) وأن أبا عبيد اختار هذا القول (ج9 ص397). وحجتهم:
  • قوله تعالى: (فإن خفتم ألاّ يقيما حدود الله…) (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله ، وحكماً من أهلها..) فجعل الخوف لغير الزوجين، ولم يقل (فإن خافا). والمراد الولاة.

والذي نراه أنّ المخالعة لا تحتاج إلى إذن القاضي، بمعنى أنه لا يستطيع أن يمنعها إذا اتفق عليها الزوجان. وذلك لأنّ الزواج من حيث الأصل يتمّ بتراضي الطرفين دون حاجة لإذن القاضي، وكذلك الفراق حين يتمّ بتراضي الطرفين لا يحتاج لإذن القاضي.

ج- المخالعة فسخ لعقد الزواج بالتراضي بين الزوجين:

تبين لنا مما سبق أنّ المخالعة هي عقد معاوضة يقوم على التراضي بين الزوجين، فهي إذاً فسخ لعقد الزواج بالتراضي. لكن هذا الفسخ له أحكامه الخاصة، وليس كفسخ باقي العقود. فهو أولاً ليس له أثر رجعي، بل يسري على المستقبل فقط. كما أنّ حرمة المصاهرة التي ثبتت بعقد الزواج لا ترتفع بفسخه، ولا بكلّ أنواع التفريق. لذلك لا يمكن أن يكون فيها إجبار لأي طرف ومن أي جهة ولو كان السلطان أو القاضي، لأنّ الإجبار يتعارض مع الرضا الذي يعتبر أساس العقود كلها. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم..) سورة النساء الآية 29. وقال صلى الله عليه وسلّم: (إنما البيع عن تراض) أخرجه ابن ماجة (2/737) وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح (مصباح الزجاجة 2/10). ولذلك يرى جمهور الفقهاء أنّ جميع العقود المالية وغير المالية لا تنعقد إذا لم يتحقق الرضا. بينما يرى الأحناف أنّ العقود المالية تنعقد بدون الرضا، لكنها تكون فاسدة. (الموسوعة الفقهية الكويتية ج30 ص220 باب عقد).

لكننا نلاحظ أنّ جميع القوانين المعاصرة الشرعية والمدنية تفرض تسجيل الزواج في سجلات رسمية، وتفرض أيضاً تسجيل كل ما ينتج عنه من طلاق أو مخالعة أو أولاد. هذا الالتزام إجراء تنظيمي بحت يحفظ حقوق الجميع، وقد بدأ به قرار حقوق العائلة العثماني، ثمّ تبعته قوانين البلاد العربية والإسلامية بعد حصول مختلف الدول على استقلالها.

وبما أنّ إعلام القاضي بالمخالعة أصبح أمراً واجباً بمقتضى القوانين الشرعية المعاصرة، فإننا نرى وجوب إجراء المخالعة أمامه، حتى يتاح له المجال لمحاولة الصلح بين الزوجين حفاظاً على العائلة، فإذا نجح في محاولته وتراجع الزوجان عن المخالعة فهو خير لهما وللعائلة، وإذا فشل في مسعاه وأصرّ الزوجان على المخالعة فليس له إلاّ أن يستمع إليهما ويقوم بتسجيل المخالعة وتوثيقها.

د- المخالعة خارج البلاد الإسلامية:

وفي البلاد غير الإسلامية يمكن أن يقوم بهذه المهمّة أحد العلماء، أو أحد المسؤولين في المراكز الإسلامية – إذا كان مكلفاً بذلك – وهذا في حالتين فقط:

  • الأولى أن يكون عقد الزواج قد جرى بعيداً عن الإجراءت الرسمية المتبعة في أية دولة، وهذا خطأ بلا شكّ، لكنّه إذا حصل وأراد الزوجان أو أحدهما التخلّص منه بأسلوب شرعي، فتكون المخالعة وسيلة شرعية لذلك إذا أصرّ الزوج على عدم الطلاق.
  • الثانية أن يكون عقد الزواج قد جرى وفق قوانين البلاد غير الإسلامية، هذه القوانين لها إجراءاتها الخاصة في إنهاء عقد الزواج، ويجب اتباع هذه الإجراءات إلتزاماً بالعقد الذي تراضى عليه الزواجان. فإذا رغب الزوجان قبل إتمام هذه الإجراءات أو بعدها القيام بالمخالعة أمام جهة شرعية للإطمئنان إلى أنّ التفريق بينهما استكمل إجراءاته الشرعية فهذا أمر طيب، على أنّه لا يصحّ للزوجة إجراء عقد زواج جديد إلاّ بعد إنهاء الإجراءات القانونية المطلوبة لإنهاء العقد السابق.
  • أما إذا كان عقد الزواج معقوداً وفق قانون إحدى الدول الإسلامية، فلا يصح إجراء المخالعة لإنهائه إلاّ بالكيفية المنصوص عليها في قانون هذه الدولة.
  • هل يجوز للقاضي فسخ عقد الزواج وإن لم يتراض الزوجان على ذلك؟
    • حقّ الزوجة في الشكوى إلى القاضي.

 الأصل في عقد الزواج أن يكون مدى الحياة. لكن الشريعة أعطت للرجل حقّ الطلاق لإنهاء العقد، وأعطت للزوجين حقّ المخالعة بالتراضي لإنهاء العقد.

أما إذا أرادت الزوجة إنهاء العقد لأسباب تراها فليس لها ذلك بإرادتها المنفردة كما يفعل الزوج بالطلاق، وإذا لم يوافق زوجها على المخالعة فليس لها إلاّ أن تشتكي إلى القاضي، وهو الذي يملك حقّ إنهاء عقد الزواج بالتفريق أو بالتطليق أو بالفسخ حسب اختلاف عبارات الفقهاء.

لكنهم جميعاً اشترطوا لقبول شكوى الزوجة أن تكون مبنية على أسباب مشروعة ومحددة منها: عدم الإنفاق عليها، أو غيبة الزوج عنها، أو حبسه مدة معينة، أو وجود علل جنسية فيه، أو ردته أو جنونه، أو بسبب إعساره في دفع الصداق المستحق، أو بسبب الإيلاء أو الملاعنة، أو وقوع النزاع والشقاق بينهما، أو عدم التزامه بشروط اشترطتها عليه في عقد الزواج.

وقد نصّت بعض القوانين الشرعية المعاصرة على حقّ الزوجة في طلب التفريق إذا تزوج عليها امرأة ثانية (مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للإقليمين المصري والسوري في عهد الوحدة م108) (قانون الأسرة اليمني م42 فقرة 8)، كما نصّ قانون الأسرة اليمني على حقّ المرأة بطلب فسخ الزواج لإدمان زوجها الخمر، بل ونصّ على حقّ الزوجة بطلب فسخ الزواج للكراهية (م52).

وقريب من ذلك نصّ المشروع الجديد لمدونة الأسرة في المغرب المعروض الآن على البرلمان المغربي لإقراره، فقد أتاح للزوجة طلب التطليق لمجرّد الضرر اللاحق بها من تصرفات زوجها أو سلوكه المشين إذا أدت إلى إساءة مادية أو معنوية تجعلها غير قادرة على الاستمرار بالحياة الزوجية، وترك للمحكمة إذا حكمت بالتطليق للضرر أن تحدد مبلغ التعويض المستحقّ عن الضرر (م98-99).

  • هل يحقّ للزوجة طلب فسخ الزواج إذا رفض زوجها المخالعة؟

اتفق جمهور الفقهاء والمذاهب كما ذكرنا على حقّ الزوجة من حيث المبدأ أن تشتكي إلى القاضي طالبة فسخ الزواج أو تطليقها من زوجها، أو تفريقها عنه، وحددوا لذلك أسباباً معينة، منهم من يتوسع فيها ومنهم من يضيقها.

لكن القوانين الشرعية المعاصرة تميل إلى التوسّع في الأسباب التي تتيح للمرأة طلب فسخ الزواج.

ونريد هنا أن نفصّل الكلام في سبب واحد هو: نفور المرأة من زوجها وكراهيتها له، وعدم رغبتها في استمرار حياتها الزوجية معه، فتعرض عليه المخالعة لكنه يرفض.

هل يعتبر رفضه للمخالعة سبباً يسمح لها بطلب فسخ الزواج من القاضي؟

جمهور الفقهاء والمذاهب يرى أنه لا يحقّ للمرأة أن تطلب الفسخ من القاضي إذا رفض زوجها المخالعة. لكن قانون الأحوال الشخصية المصري في تعديل جديد سمح للمرأة أن تطلب المخالعة من القاضي إن رفضها زوجها.

وقد أثار هذا التعديل خلافاً حاداً بين مؤيد ومعارض. كما أنّ التعديل الجديد لقانون الأحوال الشخصية الأردني رقم 82 لعام 2001 سمح للزوجة إذا رفض زوجها المخالعة أن تطلب من القاضي فسخ العقد إذا لم يقع دخول أو خلوة مع استعدادها لإعادة المهر والنفقات، أو تطلب منه الخلع إذا كان قد حصل بينهما دخول أو خلوة (مبينة بإقرار صريح منها أنها تبغض الحياة مع زوجها، وأنه لا سبيل لاستمرار الحياة الزوجية بينهما، وأنها تخشى أن لا تقيم حدود الله بسبب هذا البغض، وأنها تفتدي نفسها بالتنازل عن جميع حقوقها الزوجية، وخالعت زوجها وردت عليه الصداق الذي استلمته منه..) وفي هذه الحالة ينصّ التعديل على أن تحكم (المحكمة بتطليقها عليه بائناً).

ج- حقّ القاضي في فسخ الزواج بناءً على شكوى الزوجة أو الإجبار على المخالعة:

       الآية الكريمة التي اعتمدها الفقهاء لإثبات مشروعية المخالعة تقتصر على إباحتها للزوجين إذا اتفقا عليها: (.. فلا جناح عليهما فيما افتدت به..) البقرة 229. أما حديث امرأة ثابت بن قيس الذي يعتمد عليه الفقهاء في هذ المجال فقد وردت فيه روايات كثيرة، يمكننا أن نستنتج منه ما يلي:

  • ما هو السبب الذي دفع امرأة ثابت لرفع شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟
  • أصحّ الروايات وأكثرها ذكرت أنها (لم تكن تشكّ في دينه أو خلقه) لكنها لا تطيقه بغضاً. وهذه رواية البخاري والنسائي. وقد ذكر العسقلاني في الفتح (ج9 ص329) أنها قالت: (والله لولا مخافة الله إذا دخل عليّ لبصقت في وجهه) كما أورد رواية أخرى تقول: (لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبداً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة، فإذا هو أشدّهم سواداً وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً). نستنتج من هذه الروايات أنه لا يشترط على المرأة حين ترفع شكواها إلى القاضي ضدّ زوجها أن يكون منه عيب في دينه أو خلقه، ولكن يكفي أنها لا تحبّه أو لا تطيقه بغضاًَ ولو كان سبب ذلك دمامة وجهه، وهي مسألة خَلْقية ليس مسؤولاً عنها ولا يمكنها تغييرها.
  • صحيح أنه وردت روايات أخرى صحيحة عند النسائي عن الربيع بنت معوذ أن ثابتاً ضرب امرأته (فكسر يدها)، وهذا يعني أنّ سبب شكواها أنه قد ضربها وكسر يدها. لكن على افتراض صحّة ذلك فإنّ هذه الرواية تؤكّد حقّ المرأة في الشكوى إلى القاضي إذا ضربها زوجها، وهذا لا يمنع حقّها في الشكوى لسبب آخر ثبت في رواية ثانية صحيحة، وهو بغضها له.
    • قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم في شكوى امرأة ثابت:

الظاهر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم استمع إلى شكوى امرأة ثابت بصفته قاضياً، فسعى إلى تنفيذ المخالعة التي ثبتت مشروعيتها بالقرآن الكريم: (.. فلا جناح عليهما فيما افتدت به..) وسألها إن كانت مستعدّة لإعادة الحديقة إليه – وهي المهر الذي كان قد دفعه إليها -، فلما أبدت موافقتها على ذلك طلب منه أن يقبل الحديقة ويفارق زوجته. فحديث ثابت من حيث الأصل تصرّف قضائي، وإن استنتج منه العلماء مسائل تشريعية.

ويفهم من بعض روايات الحديث أنّ ثابتاً وافق على إجراء المخالعة (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) البخاري (فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأخذ حديقته ولا يزداد) ابن ماجه.

(خذ الذي لها عليك وخلّ سبيلها) النسائي. كما يفهم من رواية الدارقطني عن أبي الزبير (بإسناد صحيح كما ذكر الشوكاني) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قضى بالمخالعة ونفذها دون موافقة ثابت، ولما وصل الخبر إلى ثابت أعلن قبوله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم (..فقال النبي صلى الله عليه وسلّم – لامرأة ثابت- أتردّين عليه حديقته التي أعطاك؟ فقالت نعم وزيادة.

فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: أما الزيادة فلا، ولكن حديقته. قالت نعم. فأخذها له وخلّى سبيلها. فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال: قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم). هذه الرواية صريحة في عدم وقوع الإيجاب القبول بين الزوجين، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم حكم للزوجة بالتفريق بعد أن أخذ منها الحديقة، وأنّ زوجها لم يكن حاضراً عند صدور الحكم، فلما بلغه الخبر أعلن قبوله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

  • الأمر النبوي للاستحباب أو للإيجاب؟

ظاهر الروايات المختلفة لحديث ثابت بن قيس، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمره بقبول إعادة الصداق وبفراقها: (إقبل الحديقة وطلقها تطليقة) البخاري والنسائي. (خذ منها، فأخذ منها وجلست في بيتها) الموطأ وأبو داود والنسائي. (خذ الذي لها عليك، وخلّ سبيلها) النسائي. (خذها وفارقها) أبو داود. (فأمره رسول الله أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد) ابن ماجه.

لكن قال جمهور الفقهاء أنّ الأمر هنا (أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب)، كما ذكر العسقلاني في فتح الباري (ج التاسع ص 329). ونقل الشوكاني في نيل الأوطار هذا القول وعقّب عليه بقوله: (ولم يذكر ما يدل على صرف الأمر عن حقيقته) (ج 5 ص 279)، مما يعني ترجيحه أنّ الأمر هنا للإيجاب لعدم وجود قرينة تصرفه عن ذلك، ولو وجدت مثل هذه القرينة لذكرها في تعقيبه.

أما الصنعاني في سبل السلام (ج3 ص 165) فقد كان أكثر وضوحاً فقال: (وأما أمره صلى الله عليه وسلّم بتطليقه لها فإنه أمر إرشاد لا إيجاب، كذا قيل، والظاهر بقاؤه على أصله من الإيجاب.

ويدل له قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) – فإنّ المسلم يجب عليه أحد الأمرين، وهنا قد تعذر الإمساك بمعروف لطلبها الفراق، فيتعين عليه التسريح بإحسان).

وقد ذكر الشيخ السايس في تفسيره لآيات الأحكام (ج 1 ص 146): (.. ولكن ورد في ابن رشد ما يشير أنه روى جبر الرجل على قبول الخلع حيث قال: والفقه أنّ الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق، فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع للمرأة إذا فركت الرجل).

كما ذكر السيد سابق في كتابه فقه السنّة (ج 2 ص 299): (والخلع يكون بتراضي الزوج والزوجة، فإذا لم يتم التراضي منهما فللقاضي إلزام الزوج بالخلع. لأنّ ثابتاً وزوجته رفعا أمرهما للنبي صلى الله عليه وسلّم، وألزمه الرسول بأن يقبل الحديقة ويطلق).

  • الأمر هنا للإيجاب، باعتباره من نوع القضاء:

الخلاف المذكور أعلاه محصور فيما لو اعتبرنا فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم من قبيل التشريع، لأنه في هذه الحالة يمكننا أن نتساءل هل أمره لثابت بفراق زوجته هو أمر إرشاد أو استحباب، أم أمر وجوب.

لكننا نرجّح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يتصرف في هذه المسألة كقاضي، وقضاء القاضي واجب التنفيذ، ولا يمكن أن يكون من قبيل الإرشاد أو الاستحباب. وسياق الحديث يؤكد ذلك فجميع رواياته تشير إلى :

  • أنّ امرأة ثابت بن قيس لم تعد تطيق الحياة الزوجية معه سواء بسبب سوء معاملته لها، أو بسبب بغضها له دون إساءة منه، وهي تعلم أنها لا تستطيع أن تطلقه، لأن الطلاق بيده هو، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تشكو أمرها.
  • يبدو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم اقتنع أنّ استمرار الحياة الزوجية بينهما محال، وهو يعلم أيضاً أنّ الطلاق بيد الزوج، فعرض عليها أن ترد عليه حديقته التي قدمها لها مهراً، فوافقت على ذلك.
  • عندها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثابت بن قيس أن يأخذ الحديقة ويطلقها أو يخلي سبيلها.

ومما لا شكّ فيه أنّ هذا الأمر يتضمّن حكماً تشريعياً، وهو عند ذلك يمكن أن يكون أمر إرشاد واستحباب كما يرى جمهور العلماء، أو أمر إيجاب كما يرى غيرهم.

لكن الواضح هنا أنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أيضاً أمر قضائي واجب التنفيذ، ولذلك فإنّ ثابتاً نفذه، وورد في إحدى الروايات صراحة (أنه قبل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم).

وهي رواية الدارقطني بإسناد صحيح والبيهقي بإسناد قوي مع كونه مرسلاً كما قال الشوكاني في نيل الأوطار. والذي يؤيد هذا الترجيح الأمور التالية:

  • أنّ المرأة المسلمة لا تملك حقّ الطلاق وهي حين ترغب بإنهاء حياتها الزوجية ليس لها إلاّ أن ترفع أمرها إلى القاضي. وقد اتفقت جماهير العلماء من جميع المذاهب على ثبوت هذا الحقّ لها، وإن كان بعضهم يتوسع في أسباب ذلك أو يضيقه. وجميع القوانين الشرعية النافذة اليوم في بلاد المسلمين تبيح للمرأة طلب التطليق لعدم الإنفاق، أو لغيبة الزوج، أو لحبسه، أو لوجود علل جنسية  فيه، أو لردته، أو لجنونه. وأكثر هذه القوانين تبيح للزوجة طلب التفريق للنزاع والشقاق. حتى أنّ قرار حقوق العائلة العثماني، وهو ملتزم بالمذهب الحنفي إجمالاً، أخذ بحقّ المرأة في طلب التفريق للنزاع والشقاق من المذهب المالكي. وبعض هذه القوانين يبيح للمرأة طلب التفريق إذا تزوج زوجها امرأة ثانية. ومن الواضح أنّ جميع هذه الأسباب تجمعها علة واحدة هي: تعذُّر استمرار الحياة الزوجية. فإذا ظهرت هذه العلة في حالات أخرى، فإنّ الشريعة لا تمنع إضافة أسباب أخرى تتيح للزوجة طلب التفريق، ولم يكن التفريق للحبس معروفاً في قرار حقوق العائلة العثماني، لكنه أضيف بعد ذلك في القانون السوري مثلاً وفي غيره من القوانين المعاصرة.
  • حين تعرض المرأة على زوجها المخالعة، تكون عادة قد فقدت كلّ أمل في استمرار الحياة الزوجية سكناً للزوجين كما أرادها الله تعالى، فإذا رفض زوجها هذا الطلب، فإنّ من حقها أن تشتكي إلى القاضي. وهذا جزء من حقها في الشكوى لأي سبب تراه. وإذا كانت قوانيننا الشرعية المعاصرة تشترط حصول النزاع أو الشقاق حتى تسمح للمرأة برفع أمرها إلى القضاء، فإنّ هذا الشرط من استحداث القوانين، وليس شرطاً حصرياً في الشريعة، بدليل قصة امرأة ثابت التي رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم تذكر له أي سبب من زوجها يدعوها إلى فراقه – في أصحّ الروايات- وإنما ذكرت له سبباً منها هي وهو أنها (لا تطيقه بغضاً، وأنها تكره الكفر في الإسلام). وهذا يؤكد حقّ المرأة في رفع أمرها للقضاء سواء كانت أسباب تعثر الحياة الزوجية منه أو منها.
  • حقّ القاضي في التقدير: إذا رفعت الزوجة شكواها إلى القاضي، وبيّنت أنها عرضت المخالعة على زوجها فرفض، كان من واجب القاضي تبين أسباب رفضه، ومحاولة إجراء الصلح بينهما، فإن نجح في ذلك فهو خير، وإلاّ فقد يرسل حكمين لمتابعة مساعي الصلح، فإن لم يستطيعا ذلك كان له أن يحكم بالتفريق بناءً لطلب الزوجة، أو يرفض طلبها إذا رأى أنّ الأسباب التي أدلت بها غير كافية. وهذا هو حقّ التقدير المعطى عادةً للقاضي. من الواضح هنا أنّ حقّ التقدير في استمرار الحياة الزوجية أو إنهائها هو أساساً للزوجين معاً، أو لكلّ واحد منهما منفرداً. ومهما أعطي القاضي حقّ التقدير في هذه المسألة فإنه لا يستطيع إلزام أي من الزوجين بالاستمرار في حياة زوجية لم يعد يطيقها. وهذا ما تدلّ عليه الآية الكريمة: (فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفّق الله بينهما) فإذا وقع الشقاق بين الزوجين، فلا يمكن أن ينتهي إلاّ بالإصلاح بينها، أي بقناعة منهما في العودة إلى الحياة الزوجية.

من أجل ذلك نرى أنّ القاضي إذا رفض طلب الزوجة بالتفريق بناءً على حقّه في التقدير، يكون قد أعطى فرصة جديدة للزوجين من أجل الإصلاح بينهما.

لأنه لا يمكن أن نظن أنه يرفض طلب الزوجة ولا مانع عنده أن يبقى الزوجان منفصلين. ولذلك فإننا نرى أنّ حقّ التقدير لا يمكن أن يمارسه القاضي برفض طلب الزوجة أكثر من مرّة واحدة، وأنها إذا كرّرت الطلب بعد ستّة أشهر مثلاً، وجب على القاضي هنا إجابة طلبها بعد استكمال الإجراءات المطلوبة.

ومثل هذا الأمر معروف في أكثر القوانين الشرعية المعاصرة إذا تكرّر طلب الزوجة التفريق للشقاق، وذلك بناءً عى رأي المالكية.

إنّ واجب القاضي من حيث الأصل حلّ المشاكل بين الناس، وحين تشتكي إليه الزوجة من استحالة استمرار الحياة الزوجية، فواجبه أن يعمل على الإصلاح، وإن لم يستطع فليس أمامه إلاّ التفريق، ولا يجوز له أن يترك الزوجة (معلّقة).

(..فلا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة، وإن تصلحوا وتتّقوا فإنّ الله كان غفوراً رحيماً .وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته، وكان الله واسعاً حكيماً).

  • التفريق بالمخالعة الصادر عن القاضي يعتبر فسخاً لا ينقص عدد الطلقات:

ذكرنا سابقاً الخلاف بين الفقهاء حول اعتبار المخالعة فسخاً أو طلاقاً. ورجّحنا أنها فسخ باعتبارها تصرفاً قائماً على اتفاق بين الزوجين، بينما الطلاق تصرّف من الزوج بإرادته المنفردة.

واعتبرنا أنّ فسخ عقد الزواج ممكن بتراضي الطرفين أو بحكم القاضي أسوةً بسائر العقود.

ونكرر هنا: أنه إذا لم يتّفق الزوجان على المخالعة، ورفعت الزوجة شكواها إلى القاضي، وأصدر حكمه بالتفريق بين الزوجين بعد إلزامها بردّ ما أعطاها زوجها إليها، فإنّ هذا الحكم يعتبر فسخاً لعقد الزواج.

وهذا ما ذهب إليه القانون اليمني الذي ينصّ في المادة 52 منه على أنّه (إذا طلبت المرأة الفسخ للكراهية، وجب على الحاكم أن يتحرى السبب، فإن ثبت له بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها للإصلاح بينهما، وإلاّ أمر الزوج بالطلاق، فإذا امتنع حكم بالفسخ وعليها أن تدفع المهر).

فالمخالعة في القانون اليمني إذا تمّت بالتراضي فهي طلاق، وإذا تمّت بقرار القاضي فهي فسخ.

أما القانون الأردني – في مشروع تعديله الجديد- في المادة 126 فهو يعتبر المخالعة قبل الدخول أو الخلوة طلاقاً إذا تمّت بالتراضي، وفسخاً إذا تمّت بحكم القاضي.

أما بعد الدخول أو الخلوة فهي طلاق سواء تمّت بالتراضي أو بحكم القاضي.

وإني أقترح على علمائنا النظر في فكرة اعتبار كل أنواع التفريق الصادر عن القاضي بدون موافقة الزوج فسخاً لعقد الزواج، لا ينقص عدد الطلقات، ولا علاقة له أصلاً بالطلاق.

إنطلاقاً من الفرق الأساسي بين الطلاق كتصرّف بإرادة منفردة من الزوج، جعله الله حقاً له لاعتبارات كثيرة، وبين التفريق الصادر عن القاضي رغماً عن إرادة الزوج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق