البحوث

السياسة والدين بين المبادئ و التاريخ

بحث

السياسة والدين بين المبادئ والتاريخ

 د. سعيد عبدالله حارب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

“ندوة الفقه السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا”

إسطنبول: 4– 6 يوليو2006م

شهدت العقود المتأخرة نقاشاً واسعاً حول علاقة الدين بالسياسة، ومدى تأثر كل منها بالآخر، وإذا كان هذا النقاش تجدد ما بعد سقوط الخلافة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، إلا أن قرب العهد بنظام حمل اسم “الخلافة الإسلامية” حصر الحوار في صورة هذا النظام الإسلامي وهل هو خلافة أم صورة أخرى، بل إن سقوط الخلافة العثمانية دفع بكثير من المفكرين المسلمين إلى إعادة صياغة رؤيتهم للنظام السياسي الإسلامي في محاولة لاستدراك ما أدى إليه سقوط الخلافة.

ونشأت من أثر ذلك اتجاهات فكرية كما نشأت جماعات وحركات تعمل لإعادة النظام السياسي الإسلامي إلى الصدارة مرة أخرى، لكن مع طغيان المد القومي منذ ثلاثينات القرن الماضي وسيطرة الدولة الوطنية التي حملت شعارات مختلفة ترددت بين القومية والاشتراكية والإسلامية.

ومع تراجع الفكر الإسلامي خلال ذلك المرحلة ـ كل ذلك ـ دفع بالحديث عن النظام السياسي الإسلامي إلى المقاعد الخلفية من الاهتمام ليعود مرة أخرى بعد عودة الروح إلى النشاط الإسلامي بصفة عامة، حيث أصبحت التيارات الإسلامية والاتجاهات الفكرية الإسلامية حاضرة على الساحة المحلية والدولية، مما أدى للإهتمام بها وإعادة طرح الأفكار التي حملتها خلال مسيرتها التاريخية.

لكن إعادة الطرح جاءت بصورة تختلف عما كانت عليه عند بداية القرن الماضي إذ لم تعد المرحلة التاريخية تفرض نفسها على الساحة السياسية والفكرية، بل برزت قضايا جديدة حول النظام السياسي الإسلامي، وحتى الحضور الإسلامي الذي أصبح واضحاً ومؤثراً في الحياة العامة، و يتم طرحه كبديل لكثير من الأوضاع القائمة ولكن بأساليب تتناسب مع معطيات العصر وآلياته .

وإذا كان الحضور الإسلامي بكافة صوره الرسمية والشعبية والفكرية يمثل حالة أخذت في الاتساع والزيادة، فإن المواجهة التي يتلقاها هذا الحضور تزداد حدّة ـ خاصة ـ في ظل الأحداث التي مر بها العالم خلال السنوات الأخيرة، ووضعت “الفعل” الإسلامي في مقدمة الاهتمام.

منذ ذلك الحين  خضعت الاتجاهات والحركات والأفكار الإسلامية بل والإسلام ذاته إلى مزيد من النقد والتحليل والهجوم والقبول والرفض بل والعدوانية العملية والفكرية، إلا أن ذلك لم يخل من فائدة دفعت بأصحاب الفكر الإسلامي إلى دراسة أفكارهم وإعادة صياغتها وفقاً للأصول الإسلامية والمتغيرات والمستجدات الحديثة التي يمرون بها، ولعل من أكثر القضايا نقاشاً وتجاذباً هي قضية النظام السياسي الإسلامي، إذ تعتبر هذه القضية محوراً أساسياً في العلاقة بين الطرفين، إذ تجاوز الخلاف الدور الديني أو الأخلاقي أو الاجتماعي بل والاقتصادي، ليقف عند الجانب السياسي، فالمعارضون للاتجاه الإسلامي لم يلقوا بالاً لكل تلك الجوانب  فقد يقبلون بها ويعملون مع غيرهم من أجل الاهتمام بها بل قد يستفيدون منها!!

مثلما وجدنا في ظاهرة الاقتصاد الإسلامي، إذا خرجت هذه المسألة من يد “الإسلاميين” الملتزمين عند نشأتها لتكون حالة يتسارع الجميع من أجل مساندتها والاستفادة منها!! وذلك أقصى ما يتمناه “الإسلاميون” حين تنتقل أفكارهم ورؤاهم لتصبح حالة مجتمعية وطنية عامة بل حالة عالمية كما وجدنا في الاقتصاد الإسلامي.

أما النظام السياسي الإسلامي فإنه مازال عصياً على كثير من أصحاب الرأي والقرار والفكر سواء كانوا داخل بنية المجتمعات الإسلامية أم خارجها، بل عمل هؤلاء على عزل هذا الجانب من الظاهرة الإسلامية المتجددة عن بقية الجوانب فيما سمى بـ”الإسلام السياسي” في محاولة للتفريق بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي في الحياة الإسلامية، منطلقين من مواقف فكرية وسياسية أو تاريخية باعتبار أنه لا وجود لنظام سياسي إسلامي، أو أنه في أحسن الأحوال كان هذا النظام صالحاً لمرحلة تاريخية معينة .

وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلت أو تبذل في عزل هذا الجانب إلا أن الحضور الإسلامي على المستوى السياسي سواء كان في الجانب الفكري أو المشاركات السياسية في البلدان الإسلامية، جعل النظام السياسي الإسلامي ميداناً واسعاً للدراسة و البحث ، لذا اجتاحت الندوات والمؤتمرات والدراسات ومراكز الأبحاث في كثير من أرجاء العالم “حمى” البحث في القضية السياسية الإسلامية.

وإذا كانت حالة” الممانعة” أو الرفض في التعامل مع الجانب السياسي  في الإسلام متصورة عند من لا يأخذ بفكرة الإسلام الشامل، أي الإسلام باعتباره منهج حياة، فإن من غير المتصور أن يأتي الرفض من داخل بنية الفكر الإسلامي ذاته،لكن ذلك حدث فقد جاءت “ممانعة” أخرى من بعض العاملين في الحقل الإسلامي ،أي من بعض الفقهاء والباحثين وعلماء الدين ألإسلامي ، إذ يرفض هؤلاء الأخذ بفكرة النظام السياسي الإسلامي تارة بدعوى عدم وجود نظام سياسي إسلامي كما ذهب إلى ذلك الشيخ “علي عبد الرازق” – رحمه الله- في كتابه “الإسلام وأصول الحكم” الذي كان بداية لانطلاق الفكرة والتي استمرت لدى بعض الفقهاء وعلماء الدين الذين غلب على كثير منهم رفض الفكرة لا لطبيعتها بل للآثار المترتبة على طرحها فآثروا السلامية وانشغلوا بقضايا فقهية أخرى.

ويشير العلاّمة الشيخ “يوسف القرضاوي” إلى أن هذه الحالة ليست وليدة العصور المتأخرة فقط بل “شكا الإمام “ابن القيم” في عصره (القرن الثامن الهجري) من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا (قوانين سياسية) بمعزل عن الشرع، وحمل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة.

وربما يعتبر هذا أول تسلسل للقوانين الوضعية لتحل محل أحكام الشريعة الإسلامية.

ما زال لهؤلاء الجامدين من أهل الفقه أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري ولكنهم يفكرون بعقول علماء ماتوا من قرون، وقد تغير كل شيء تقريبا في الحياة عما كان عليه الحال في عهود أولئك العملاء.

ونسي هؤلاء أن الإمام الشافعي غير مذهبه في مدة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم.

وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم عن عصره، وقالوا: لو رأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر… والإمام أحمد تُروَى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعاً، أو أكثر وما ذلك إلا لاختلاف الأحوال والملابسات، وتغير الظروف والأوضاع في غالب الأحيان”(1).

وجاء الرفض ـ الثاني ـ من تيار آخر من المسلمين لا يرى إمكانية العمل بالنظام الإسلامي في ظل الأوضاع القائمة لأنها – كما يراها – غير إسلامية ومخالفة “بجملتها” للإسلام، ولا يمكن بهذه الحالة طرح جانب من الإسلام (أي النظام السياسي) للتطبيق في بيئة غير صالحة له، ولذا فهو يعمل على تغيير الواقع ـ بجملته ـ ليكون مهيئاً لتطبيق النظام السياسي الإسلامي، وأخذ هؤلاء طريقاً أخر اتسم بالقوة والعنف والتشدد في تعاملهم مع الواقع الذي يعيشونه في بلاد الإسلام، ولم يهتموا ببحث أي جانب جزئي من الإسلام قبل تغيير الواقع كما يرون.

ولذا فإن كلاً من الطرفين لا يعطيان أهمية للعمل السياسي الإسلامي، بل يدعوا إلى نبذ ذلك والابتعاد عنه سواء كان ذلك زهداً أم انتظاراً للتغيير.

وبين الطرفين يبرز تيار إسلامي واسع تزداد مساحة تأثيره يوماً بعد يوم يدعوا لولوج الشأن العام والعمل في الجانب السياسي وطرح البديل الإسلامي بالطرق السليمة ومن خلال التعامل مع الواقع لا بقبوله أو رفضه، ولكن بإصلاحه وتطويره وصولاً إلى الرؤية الإسلامية في كافة جوانب الحياة ومن بينها الجانب السياسي.

إن البحث في النظام السياسي الإسلامي لم يأخذ مكاناً واضحً متميزاً في كتب التراث وخاصة كتب الفقه، حيث توزعت أحكامه في أبواب كثيرة من كتب الحديث والفقه ، و لم يحظ إلا بالقليل من الكتابات المتخصصة ، مثلما وجدنا في كتابي “الأحكام السلطانية” للماوردي ، ولأبي يعلى الفراء، والغياثي لإمام الحرمين، والإمامة والسياسة المعروف بـ “تاريخ الخلفاء”  لابن قتيبه الدينوري وكتاب مآثر الأنافة، في معالم الخلافة، للقلقشندي، وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرهم من الفقهاء والكتاب.

إلا أن ذلك لا يقارن بما كتب في أبواب الفقه الأخرى كما لا يقارن بما كتب في العصور المتأخرة حول النظام السياسي في الإسلام،حيث شهد ـ هذا ـ الميدان من الدراسات ألإسلامية إهتماماً واضحا من الفقهاء والباحثين والدارسين ، ومع هذا فلم تتبلور تلك الكتابات في مشروع فكري يحدد معالم هذا النظام برؤية معاصرة وقابلة للتطبيق، فالخلاف حول المشاركة السياسية بين رافض وموافق ومشترط ، وحكم دخول البرلمانات والمجالس النيابية، ومشروعية دخول المرأة للحقل السياسي، والعلاقة مع الآخر، سواء كان الآخر القريب داخل في المجتمع الإسلامي أم الآخر البعيد عنه.

كل ذلك وغيره من المسائل ، مازالت مثار خلاف وجدال وحوار بين الباحثين والمجتهدين ورجال الفكر والسياسة داخل المجتمعات الإسلامية، وإذا كانت بعض القوى والتيارات الإسلامية قد حسمت أمرها في مثل هذه القضايا إلا أن غيرها مازال مشتبكاً معها دون حسم مما يتطلب دراسة وبحث واجتهاد جديد.

وإذا كانت هذه المشكلات تعيق الرؤية نحو النظام السياسي الإسلامي المعاصر، فإن هذا النظام مازال مثقلاً بإرث تاريخي يمنعه من التحرك والانطلاق ويجد من مسيرته نحو التطبيق المعاصر، فقد ارتبط النظام السياسي في حياة البشرية ، بالتاريخ أكثر مما ارتبط بالنصوص، وليس ذلك حكراً على دين دون آخر، أو ملة دون غيرها، أو شعب دون سواء، بل هو نسق عام شمل مختلف الأزمنة والدول والبيئات.

والنظام السياسي الإسلامي واحد من هذه الأنظمة التي ارتبط بالتاريخ كثير إلا أنه يختلف عن غيره من الأنظمة بمرجعيته الشرعية أو (الدينية) الثابتة والمستقر – مما يحفظ له ديمومته واستمراره كما يحفظ له ملائمته للأزمنة والأمكنة والبيئات بقدرته على المحافظة على ثوابته والتطور في متغيراته.

ومع هذا فإن الباحث في النظام السياسي الإسلامي يجد غلبة “التأريخية” عليه أكثر من غلبة “الشرعية” أو “الدينية” مما يتطلب معالجة جوانب هذه “الغلبة” والعودة بهذا النظام إلى نسقه الطبيعي الذي يجمع بين أصوله وفروعه.

* الإسلام والسياسة :

إذا كان الفقهاء المعاصرون للشيخ “علي عبد الرازق”، أمثال الشيخ “محمد الخضر حسنين”، شيخ الأزهر، والشيخ “محمد بخيت المطيعني” مفتي الديار المصرية، وغيرهم قد ردوا على الشيخ “علي عبد الرزاق” في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، فإن الواقع المعاصر قد تجاوز الخلاف حول الدين أو الإسلام والسياسة، إذا أصبح الأمر أوسع من أن يحصر أو يتجاهل فعلاقة الإسلام والسياسة علاقة واضحة ، ولا ينكر ذلك إلا غائب عن الوعي الفكري أو الثقافي، أو غير دارس لواقع المجتمعات والشعوب الإسلامية، ، حتى تلك المقولة التي كان يرددها البعض حول ” لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين” أصبحت شيئاً من الماضي الذي يجب أن لا يلتفت إليه للآن البحث في علاقة الإسلام بالسياسة من حيث المنشأ، أي هل في الإسلام سياسة؟! بحث سبقته الأحداث والوقائع.

بيإن الممانعة أو الرفض لفكرة علاقة الإسلام بالسياسة لا تأتي إلا من غير مدرك لحقيقة الإسلام ودوره ورسالته في الحياة، وأنه لم يطلع على الإسلام بشموليته ـ وهذا في أحسن الأحوال ـ أو تأتي الممانعة من “غير راغب” في أن يجد للإسلام موضعاً في سياسة الأمة وإدارة شؤونها إما حفظاً لمصالح ذاتية أو استجابة لرغبة خارجية، أو صاحب موقف معاد الإسلام، وقد عاب الله سبحانه وتعالى على اليهود حين أخذوا شيئاً من الدين وتركوا شيئاً أخر، فقال تعالى “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ(2).

ولسنا بحاجة إلى إثبات علاقة الإسلام بالسياسة، فقد اجتهد علماء الأمة وفقهائها في العصر المتأخر، وبينوا ذلك بصورة جلية .(3)

ولعل مما يمكن الاستشهاد به هنا للتأكيد على توافق السلف والخلف على أهمية النظام السياسي في الإسلام قول الإمام الغزالي: “إنه لا يتمارى عاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأحوال ، ما لم يكن لهم رئيس مطاع  يجمع شتاتهم لهلكوا جميعاً، فإن السلطان ضروري لنظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب الإمام من ضروريات الشرع قطعاً (4).

ويقول “الماوردي”: “إن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزاً في العقل ألا يرد التعبد بها؛ ولذلك فوض الشرع الأمور إلى وليه في الدين”(5).السياسة والدين بين المبادئ والتاريخ  د. سعيد عبدالله حارب السياسة السياسة والدين بين المبادئ و التاريخ thumb

وقال “ابن تيميه”: “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عن الاجتماع من رأي، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم” رواه أبو داوود.”(6).

ويقول “القلعي”: “أجمعت الأمة قاطبة إلا من لا يتعد بخلافه على وجوب نصب الإمام على الإطلاق وإن اختلفوا في أوصافه وشرائطه”(7).

ويقول “ابن خلدون”: “إن الشارع أعلم بمصالح الكافة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع البشري، ولذلك أجراه على منهاج الدين ليكون محوطاً بنظره”(8).

وهكذا نجد أن التأصيل التاريخي يشير إلى أن الفقهاء الأوائل قد أكدوا على وجوب وجود نظام إسلامي سياسي، بل إن بعضهم كان يبحث في تفاصيل هذا النظام، ومدى وجوب نصب الإمام (الحاكم) من عدمه، وكذلك شروطه واختصاصه وعزله، وغيرها من الأحكام المتعلقة بـ (شخص) الحاكم، بل إن بعضهم قد تجاوز البحث عن فكرة هل في الإسلام نظام سياسي لأنه اعتبر ذلك من القضايا المسلمة التي لا خلاف عليها، وإنما الخلاف في التفاصيل التي تلي ذلك، ولذا وجدنا أن ابن تيميه –مثلاً – يضع فصل (وجوب اتخاذ الإمارة) في آخر كتابه (السياسة الشرعية) بعد أن بحث في تفاصيل هذه (الإمارة) نظام الحكم ، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذه القضية لا يجب أن تتصدر البحث لأنها قضية مسلمه !!.

بل إن بعض الفقهاء انشغل بتفاصيل النظام ذاته كالبحث في الشورى وأحكام الولاية والوزارة والقضاء، وهي ما يطلق عليه اليوم السلطات الثلاث (السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية).

لكن في العصور المتأخرة أُعيد طرح الأمر، أي هل هناك سياسة في الإسلام، وكأن الأمر حادث مستجد، لا راسخ مستمد، ولذا ثار جدل واسع بين الباحثين والفقهاء، خاصة مع الحملة التي يشنها لمعارضون للقول بوجود نظام إسلامي سياسي حيث طرحت على أرض الواقع نماذج مختلفة من أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، شط بعضها عن الاقتراب من الإسلام فتبنى الفكر الشيوعي أو المادي الملحد الذي لا يرى للدين دور في الحياة عدا أن يكون في السياسة، وتراوحت نماذج أخرى إلى تبني صورة العلمانية كنظام للحياة بما فيها الجانب السياسي، فأعلنها صراحة، بينما مارسها لبعض ممارسة مخفية، وفي كلا الأمرين لم يرفض الإسلام كدين لكنه رفض كنظام حاكم للسياسة والشأن العام في تلك الدول.

وقد قام الرفض لفكرة السياسة في الإسلام على أساس عدم وجود نصوص محددة لذلك الأمر أو على أساس عدم ملائمة النظام السياسي للإسلام للواقع، بينما ذهب البعض إلى طرح تفصيلات داخل فكرة النظام باعتبارها معوق لتطبيقه أو غير قابلة للتطبيق فأثيرت مشكلات عدة يرجع معظمها إلى التاريخ أكثر مما يرجع للفقه أو للأحكام المرتبطة بالنظام السياسي الإسلامي، ولعل من أبرز هذه الحالات :

أولاً :موقع السياسة في الفقه الإسلامي :

كما أشرنا فإن مسألة وجود فكرة السياسة في الإسلام أصبحت أمراً واقعاً إلا أن التساؤل الذي يطرحه البعض هو : أين موقع ذلك “الوجود” من التراث الإسلامي الكبير الذي تركه لنا الفقهاء؟ فهذا التراث لا يتناسب مع العصر، كما أنه لا يناسب القوالب المطبقة حالياً من أنظمة ومؤسسات وقوانين تجاوزت ما كان عليه المسلمون في العهود السابقة؟!

إن من الخطأ التعامل مع النظام السياسي الإسلامي في أحكامه أو تطبيقاته كما يتم التعامل مع الأحكام الفقهية الأخرى التي تمتلئ بها أبواب الفقه الإسلامي، فمن حيث التأصيل، فإن أحكام السياسة في الإسلام هي من الأحكام العامة التي لا تعتمد على الأحكام التفصيلية وإنما تعتمد على القواعد العامة، أو ما يسمى في لغة القانون بـ (القانون العام).

يقول الدكتور “السنهوري” في رسالته حول “فقه الخلافة”: “تدخل أحكام الخلافة (نظام الحكومة) بطبيعتها في نطاق علم الفروع – وعلى وجه التحديد في شق المتعلق بالقانون العام (والقانون الدستوري) رغم أن الفقهاء يعتبرونها من مباحث علم الكلام .

ونحن لا نشك في وجود (قانون عام) في الفقه الإسلامي، وإن كان فقهاؤنا لم يستعملوا هذه المصطلحات ولم يقروا بوضوح التفرقة الموجودة في القوانين الحديثة بين القانون العام والقانون الخاص، بل ساروا على بحث المسائل المتعلقة بهذين الفرعين معاً دون تمييز كل منهما عن الآخر فنجدهم يدرسون العقود مع الحدود إلى جانب الإدارة ونظام القضاء والولايات (ومن بينها ولاية الحكم ونظام الحكومة)، لذلك فإن تحديد نطاق (القانون العام) في الفقه الإسلامي واستنباط قواعد التنظيم الدستوري أو الإداري، أو الدولي، على أسس مستقلة ومتميزة عن القانون الخاص، مهمة شاقة وعسيرة لأنها محاولة جديدة على الفقه الإسلامي.

وهناك عامل آخر يزيد من صعوبة هذه المهمة هو أن مسائل القانون العام لم تحظ من الفقهاء المسلمين في العصور السابقة بنفس العناية التي بذلوها لمسائل القانون الخاص”(9).

ومن هنا فإن من الخطأ البحث في الفقه الإسلامي عن جوانب السياسة بصورتها التفصيلية القديمة منها والمعاصرة، وهذا ما وقع فيه كثير من الباحثين المسلمين وغيرهم، المقتنعين بفكرة النظام السياسي الإسلامي والرافض لها حين استخدموا قوالب وأدوات محددة للبحث في هذا الشأن فغلب عليهم التاريخ أكثر من غلبة الفقه، إذ أن معظم ما تم استخلاصه من النظام السياسي الإسلامي هو وقائع تاريخية يمكن موافقتها للقاعدة الشرعية العامة (التي هي الأصل في أحكام السياسة) ويمكن مخالفتها، وهذا ما ذهب إليه بعض الباحثين المسلمين حين اعتمد على التاريخ وجعل أفعال الخلفاء والحكام والسلاطين بمنزلة الحكم الشرعي أو الأصل في المسألة على الرغم من مخالفة ذلك للقواعد الإسلامية العامة، ويبدوا الحرج الأكبر عند محاولة إنزال هذه الوقائع (الأحكام) التاريخية منزلة التطبيق العملي المعاصر، إذ لا يأتي الرفض من خارج هذه الوقائع باعتبارها إسلامية فقط (لدى الرافضين) بل يأتي الرفض من داخل بنية الواقع ذاتها التي لم تعد صالحة للتطبيق، وكمثال على ذلك نجد في أحكام أهل الذمة نصوص لم تعد صالحة لهذا العصر كقول بعض الفقهاء (أن أهل الذمة يمنعون من ركوب الحمر النفيسة)!!.

ومقابل هذا فإن استخدام أدوات وقوالب معاصرة ونفي وجودها في الإسلام كدليل على نفي وجود نظام سياسي، يحقق للرافضين غرضهم من الرفض هو خطأ كذلك ، في المقدمات والنتائج إذ يعتمد هؤلاء أما على مقارنة خاطئة لتطبيقات مشابهة كالزعم بأن الشورى مناقضة للديمقراطية – مثلاً – لعدم وجود نظام انتخابي في الإسلام، أو لأن الشورى في الإسلام هي ملهمة وليست ملزمه كما هي في النظم السياسية المعاصرة، أو القول بأن الإسلام لم يعرف النظام السياسي لأنه لم يعرف الدستور المتفق عليه، وأن القول بدستورية القرآن الكريم هو قول لا يمكن تطبيقه في الوقت المعاصر لوجود دساتير مكتوبة ومتفق عليها، ولذلك نجد عند هؤلاء الباحثين اهتمام واضح في القضايا (المشكلة) في النظام السياسي الإسلامي وليس في القواعد العامة التي يمكن أن تخرج المسألة من (المشكلة) إلى (الحل) – إن محاولة كهذه هي دفع للنظام الإسلامي السياسي للتحول إلى صورة من الأنظمة الأخرى وتفريغه من مضمونه الديني (الشرعي) الذي يميزه عن غيره، أو فصل هذه الجانب من الإسلام فيما يسمى (بالإسلام السياسي) عن بقية الجوانب والتعامل معه معاملة أخرى تختلف عن بقية الجوانب كالجانب العقدي أو العبادي أو الأخلاقي التي لا تجد مثل هذا الرفض بل نجد الاهتمام والعناية بها  وفي كلا الحالتين يتحقق الهدف المطلوب وهو القول بعدم وجود نظام سياسي إسلامي.

إن فهم هذا النظام لا يمكن أن يتم إلا بفهم شمولي للإسلام ، فالأحكام السياسية الإسلامية وإن كانت قائمة على القواعد العامة دون تفصيلاتها إلا أنها مرتبطة بالجوانب الأخرى ارتباطاً مباشرة إذ أن ذات النصوص والأحكام والقواعد العامة التي تحكم جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق، هي ذاتها التي تحكم المعاملات والسياسة لأن مرجعيتها واحدة وهي الكتاب والسنة النبوية، وإذا كانت جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق قد شملتها الأحكام التفصيلية أكثر من المعاملات والسياسة فلأن الأولى أكثر استقراراً وثباتاً من الأخرى (وخاصة السياسة) التي من طبيعتها التغير والتبدل داخل الإطار الأوسع وهو القواعد العامة.

وإذا تبين موقع السياسة في النظام الإسلامي الشامل نجد أن من الصعوبة مقارنته بأنظمة أخرى يمكن اجتزائها وفصلها عن سياق المجتمع، إذ لا يمنع النظام العلماني – مثلا – أن تكون السياسة ملتزمة بالديمقراطية في مجتمع لا ديني أو مجتمع لا تأثير للدين فيه، بل يمكن الفصل بين السياسة والحياة بمجملها بحيث تحكم السياسة ضوابط ومبادئ ليست هي الضوابط والمبادئ ذاتها التي تضبط المجتمع، فعلاقة السياسة – مثلا – بالأخلاق في المجتمعات غير الإسلامية هي علاقة واهية إذ تغلب المصلحة على السياسة أكثر من غلبة الأخلاق بينما يكون للأخلاق شأن أوسع في معاملات الناس وعلاقتهم ببعضهم البعض،أما في الإسلام فإن السياسة و ألأخلاق ترتبطان إرتباطاً عضويا ، ومن هنا فإن هذه “التجرئة” غير ممكنة في النظام السياسي الإسلامي لأنه جزء من كل يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع بقية مكونات الإسلام.

إن الأنظمة السياسية هي جزء من فلسفة المجتمع التي يسير عليها، وحيث أن فلسفة المجتمع الإسلامي قائمة على الإسلام فمن غير المتصور فصل الجانب السياسي في المجتمع الإسلامي وجعله وفقاً لفلسفة مجتمعات أخرى، وليست هذه دعوة لرفض الاستفادة من الآليات والقوالب والأدوات و النماذج المتبعة في النظم السياسة الأخرى ولكن محاولة لفهم الجذور التي يقوم عليها المجتمع بحيث يستمد النظام السياسي فلسفته منها حتى لا يقع تعارض بين السياسة والمجتمع أو بين السياسة و الدين  .

إن محاولة وضع النظام السياسي الإسلامي في نسق معرفي قائمة على مرجعية وفلسفة مختلفة هو محاولة لتفريغ هذا النظام من مضمونه، وفي هذه الحالة تصبح الحاجة إليه ضئيلة، إذ يمكن استبداله بغيره من الأنظمة، خاصة مع دعوى عدم التأصيل (كما فعل الشيخ على عبد الرازق) أو عدم الملائمة كما يفعل (الليبراليون والعلمانيون).

لذا فإن فهم النظام السياسي الإسلامي لايمكن أن يتم إلا من خلال نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على النصوص الشرعية سواء كانت تفصيلية (كما هي في العقيدة والعبادة والأخلاق) أو من خلال الأدلة والقواعد العامة كما هي في السياسة.

فقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية ، بأحكام عامة  تحتاج إلى أحكام تفصيلية التفصيلية ومن ذلك قوله تعالى ” أمرهم شورى بينهم(10).

وقوله تعالى: “وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(11).

فهي من الأحكام العامة التي لم تفصل طريقة الشورى ولا كيفيتها ولا أحكامها، وإنما أوجبت الشورى كحكم عام وتركت بيان ذلك إلى الأحكام التفصيلية الأخرى، ومثال ذلك ـ أيضا ـ قوله تعالى : “وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ(12) .

وقوله تعالى : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ(13).

كما جاءت آيات أخرى لتعطي أحكاماً عامة في غير الشأن السياسي كقوله تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ(14) .

فلم تشر الآية إلى تفصيل هذا التعاون وإنما أشارت إلى قاعدة عامة في ذلك أي أن يقوم على البر والتقوى ويتجنب الإثم والعدوان.

ومثل تلك الآيات تتكرر كثيرا في القرآن الكريم، لتعطي المسلمين حرية الاجتهاد والبحث فيها وإنزالها إلى الواقع وفقاً للظروف والبيئات بما لا يخرجها عن نسقها العام.

ولعل من رحمة الله بالمسلمين أن الجانب السياسي يدخل ضمن هذا النوع من الأحكام لأنه أكثر الأحكام حاجة للتغيير والتطوير وفقاً لحاجات الناس ومصالحهم وأمكنتهم وبيئاتهم.

ثم جاءت القواعد الكلية في الفقه الإسلامي لتضع إطاراً للعمل السياسي يستطيع السياسي والفقيه التحرك من خلال ذلك الإطار اجتهاداً وبحثاً وإعمالاً للنصوص وتقديراً للمصلحة وفقاً لتلك القواعد ، فهي كما يعرفها بن نجيم بأنها “حكم كلي ينطبق على جميع جزيئاته أو أكثرها لتعرف أحكامها منه” وذكر عدداً من القواعد التي تسع العمل السياسي كقاعدة الأمور بمقاصدها، وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وقاعدة العادة محكمة ، وقاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وغيرها من القواعد التي تؤصل للأحكام التفصيلية في النظام السياسي (15).

يقول الأستاذ “مصطفى الزرقا” ـ رحمه الله ـ “القواعد الفقهية هي من قبيل المبادئ العامة في الفقه الإسلامي التي تتضمن أحكاماً شرعية عامة تنطبق على الوقائع والحوادث التي تدخل تحت موضوعاتها”.(16)

إن البحث في النظام السياسي الإسلامي يجب أن لا يقف عند النصوص وحدها بل لابد له من استدلال الحكم الشرعي ـ للفعل السياسي ـ من خلال القاعدة العامة  وإنزالها منزلة التطبيق التفصيلي، بما يحقق المصلحة، إذ المصلحة مقدرة في الشريعة الإسلامية ما لم تعارض حكماً صريحاً، ولا شك أن ذلك البحث يتأتى إلا من خلال فتح باب الاجتهاد أو توسيعه في الشأن السياسي إذ أن إغلاق هذا الباب أو تضييقه حرم الأمة الإسلامية من تطوير نظامها السياسي بما يوافق الشرع ويتلائم مع الواقع ويحقق المصلحة الشرعية، وقد وقع المسلمون بسبب ذلك في حرج جعلهم يبحثون عن حاجاتهم السياسية أما من خلال وقائع تاريخية أو من خلال مقارنة ذلك بما عند الآخرين فمازال المسلمون يتساءلون إلى اليوم أيهما أولى في طريقة اختيار الإمام (الحاكم) هل هي الاستخلاف كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه باستخلافه لعمر بن الخطاب رضى الله عنه ؟ ، أم عن طريق الاختيار كما فعل عمر رضى الله عنه باختيار ستة من الصحابة يتم الاختيار من بينهم بل إن الخلاف ليضيق حول كم عدد الذين يمكن أن يتم الاختيار بينهم هل هم كما حددهم عمر رضي الله عنه أم أكثر من ذلك!!.

ونسي هؤلاء أن هذه من الوقائع التاريخية إذ أن كِلا الأمرين كان صالحاً في وقته فاستخلاف أبي بكر لعمر رضى الله عنهما جاء بسبب الظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية عند تولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة ، وما تبع ذلك من “حروب الردة” التي كادت تؤدي بالدولة و بالنظام السياسي فيها ، بينما جاء فعل عمر رضى الله عنه موافقاً للمرحلة التاريخية التي كان المسلمون يعيشونها عبر استقرار الدولة واتساعها وتعدد مصادر المشاركة فيها.

ولذا فإن الوقوف عند هذه الوقائع التاريخية أو غيرها وعدم الاجتهاد جعل الفقه السياسي يجمد عند تلك الوقائع التاريخية أو غيرها ، ولم يبدأ تحركه إلا مع المواجهة التي شهدها بعد سقوط الخلافة العثمانية.

لذلك فليس من المناسب أن نعيد الوقائع التاريخية أو أن نجعلها قياساً ثابتاً أو حتى حكماً شرعياً لا يمكن مخالفته، وفي هذا إجابة لكثير من التساؤلات مثل هل في الإسلام انتخابات، وما شكلها، وما شروط الناخب والمنتخب، ومدة المجلس وفترة رئاسة الحاكم، وغيرها من التساؤلات التي لن نجد لها إجابة تفصيلية في الفقه السياسي الإسلامي.

وهنا تبرز أهمية الاجتهاد في الفقه السياسي الإسلامي، ولعل الاجتهاد في هذا الباب من الأوليات المعاصرة في حياة المسلمين، حتى يتم ملء الفراغ (الفقهي) الذي مروا به خلال العصور المتأخرة إذ أن الفقه السياسي الإسلامي، ليس قائماً على الأدلة القطعية ـ كما بينا ـ بل هو متردد بين النفي والإثبات كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله “مجال الاجتهاد المعتبر هو ما تردد بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف آليته ـ إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات”.(17)

ويقول الإمام “الغزالي” رحمه الله (المجتَهَد فيه: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، وفيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف، فليس ذلك محل اجتهاد”.(18)

بل إن عالماً كشيخ الإسلام “ابن تيمية” جعل الاجتهاد جزء مما اشتمل علم الشرع فيقول:

لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:

  • أحدهما الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك فليس لأحد من الأولين، والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
  • والثاني الشرع المؤل وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة.
  • والثالث: الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل، والحق حكماً بغير ما أنزل الله.(19)

ويشرح “ابن القيم” رحمه الله الحكم المؤول بقوله: “وأما الحكم المؤول، فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب إتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها، فإن أصحابها لم يقولوا: هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا: اجتهدنا برأينا، فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزموا به الأمة”.(20)

ولهذا يقرر إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ أن الإمامة أي السياسة هي موطن اجتهاد فيقول:

“لا ينبغي أن تُطلب مسائل الإمامة من أدلة العقل، بل تعرض على القواطع السمعية. ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة. والخبر المتواتر معوز أيضاً، فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع، فكل مقتضى ألفيناه معتضداً بإجماع السابقين، فهو مقطوع به، فكل ما لم يصادف فيه إجماعاً اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع، وعرضناه على مسالك الظنون عرضنا سائرَ الوقائع، وليست الإمامة من قواعد العقائد، بل هي ولاية تامة، وعبارة معظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة في محل التأَخِّي والتحري، ومن وفقه الله تعالى وتقدس، للوقوف على هذه الأسطر، واتخذها في المعوصات مآبه ومثابة، لم يعتض عليه معضل، ولم يخف عليه مشكل،وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه، وضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه”.(21)

ومن هنا يتبين أن قول القائلين بأن النظام السياسي الإسلامي لا حقيقة له لعدم وجود نصوص محددة تصف مكوناته قول مردود، مثله مثل الذين يضعون صورة واحدة لهذا النظام كأن يشترطوا لإسلامية النظام السياسي أن يكون نظام خلافة!!.

إن النظام السياسي الإسلامي قائم على الإجتهاد من خلال الأحكام والقواعد العامة.

ثانياً: طبيعة النظام السياسي الإسلامي:

من القضايا التي تداخل التاريخ فيها بالدين طبيعة النظام السياسي الإسلامي، أو بتعبير أدق شكل الدولة الإسلامية، هل هو نظام خلافة أم إمارة، أم سلطة، أو مُلك، أم غير ذلك من المصطلحات التي استخدمت عبر التاريخ الإسلامي ؟.

واليوم يعاد السؤال ولكن بطريقة أكثر دقة، أي ما هي صورة النظام السياسي الإسلامي هل هو ديمقراطي، أم ديكتاتوري، فردي أم جماعي (شعبي) ؟، إلى غير ذلك من التساؤلات التي تعاد صياغتها بما يتناسب من الواقع الذي تعيشه تلك المرحلة، وهنا يعود الأشكال ـ مرة أخرى ـ  وهو أن أدوات القياس والتقويم لأي شيء وليدة فلسفة وفكر،وهذه المقاييس التي يراد بها قياس النظام السياسي الإسلامي تصلح لقياس الأشكال لا المحتوى، إذ لا يقال هل في النظام السياسي الإسلامي مشاركة سياسية أم لا؟ وهل في النظام الإسلامي مؤسسات دستورية أم لا، وهل في النظام السياسي الإسلامي فصل للسلطات أم؟.

وما هي  قواعد النظام السياسي الإسلامي، إن الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد طبيعة النظام السياسي ثم يحكم عليه بعد ذلك إن كان يتوافق مع الديمقراطية أم الدكتاتورية، وإن كان فردياً أم جماعياً (شعبياً)، وهذا إذا تجاوزنا القول بأن النظام السياسي الإسلامي له صفة خاصة به يمكن أن تقاربه بغيرها لكن لا يمكن مطابقتها مع هذا الغير!!.

إن محاولة صب الأنظمة السياسية في قوال موحدة هو مخالف لطبيعة الأشياء والحياة، القائمة على التنوع والتمايز والتغير بل المدافعة والتطوير التي وصفها (تويني) في نطريته حول (التحدي والاستجابة) والتي نتعامل معها إسلامياً من خلال نظرية المدافعة انطلاقاً من قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس).

ولذا فإن عملية المقارنة ليست ضرورة بحد ذاتها لتحديد طبيعة النظام الإسلامي بل ـ أعتقد ـ أن من المهم إبراز طبيعة النظام الإسلامي وتميزه عن الآخرين باعتباره نموذجاً قابلاً للتطبيق مثله مثل الأنظمة الأخرى التي تستمد أصولها من الإسلام مثل النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والنظام المالي، وليس بالضرورة أن يكون هذا النظام ديمقراطياً أم دكتاتورياً فردياً أم جماعياً، جمهورياً أم ملكياً!!، بل المهم أن تتحقق فيه المقاصد العامة للإسلام باعتباره نظاماً سياسياً إسلامياً.

لقد ارتبطت صورة النظام السياسي الإسلامي في أذهان المسلمين عبر نظام الخلافة، وترسخ في مفهومهم أن أي مسمى لهذا النظام غير الخلافة هو نظام مخالف للإسلام،وترتب على ذلك أحكاماً عدة كالقول بتكفير بعض الأنظمة في بلاد المسلمين لأنها ليست نظام خلافة!، أوالسعي لإقامة هذه الخلافة من خلال التجمعات والحركات والجماعات والأحزاب التي نشأت في البلاد الإسلامية.

والواقع أن صورة النظام السياسي الإسلامي لا يمكن حصرها في مسمى الخلافة فقط على الرغم من شيوع هذا المسمى وارتباطه بالممارسات والوقائع التاريخية التي عاشها المسلمون عبر التاريخ كما ارتبطت به عواطفهم ومشاعرهم لأنه نظام تميز عن بقية الأنظمة الكسروية والبيزنطية التي كانت قائمة آنذاك، كما أنه يعبر عن مرحلة تاريخية اتسمت بالتفوق والعزة والمجد، على الرغم مما حوته في بعض صفحات التاريخ فيها من نكسات أو حتى مخالفات للأسس التي جب أن يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي، كتحولها من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، أو سيادة الجور والطغيان عند بعض خلفائها أو حكامها، إلا أن ذلك لا ينفي عنها ارتباطها في أذهان المسلمين بالخلافة الإسلامية.

لكن هذه الصورة للنظام السياسي الإسلامي لا يمكن الجزم بأنها الصورة الوحيدة المعبرة عن نظام الإسلام في الساسة و الحكم ، لأنها ارتبطت بالتاريخ أكثر من ارتباطها بالنصوص القطعية، يقول الأستاذ السنهوري ـ رحمه الله ـ “إن حكومة الخلافة تتميز عن الحكومات الأخرى بالخصائص الثلاث الآتية:

1 – إن اختصاصات الحكومة (الخليفة) عامة أي أن تقوم على التكامل بين الشؤون الدنيوية والدينية.

2 – إن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية.

إن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي.

ومتى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحقت أن توصف بأنها حكومة (الخلافة).(22)

وإذا كان الأستاذ “السنهوري” يقرر ذلك في مرحلة متأخرة من تاريخ المسلمين ـ عند سقوط “الخلافة العثمانية”ـ فإن الواقع اليوم يشير إلى أن أهمية أن يطرح النظام السياسي الإسلامي نظاماً قابلاً للتطبيق سواء حمل مسمى الخلافة أم غيرها، بل أنه ـ السنهوري ـ سعى من خلال رسالته المتميزة (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية) إلى تطوير فكرة “الخلافة الإسلامية” بروح جديدة تحافظ على الأصول وتوافق العصر، وهو عين ما ذهب إليه الأستاذ “مالك بن نبي” ـ رحمه الله ـ في كتابه (نحو كومنولث إسلامي).(23)

ويقول الأستاذ “محمد أسد” ـ رحمه الله ـ “إن الشريعة الإسلامية لا تضع نموذجاً محدداً يجب على الدولة الإسلامية أن تتشكل على أمثاله، ولا هي تضع لنا خطة مفصلة لنظرية دستورية هذا على الرغم من أن النظام السياسي الذي ينبثق عن القرآن والسنة، ليس وهماً ولا خيالاً، بل إنه واضح المعالم، وهو يرسم لنا صوراً جلية لمنهاج سياسي صالح للنفاذ والتطبيق في كل الأزمنة والظروف”.(24)

ويقول الدكتور “محمد ضياء الدين الريس”: “إذا كان دور الخلافة قد انتهى، فإن من واجب المسلمين أن يعملوا لبدء الدور الجديد لها، وليس المهم الاحتفاظ بلفظ خليفة أو خلافة، فالإسلام لا تهمه الأسماء ولا الألقاب، وإنما تهمه الحقيقة والجوهر، وإذا بحثنا عن حقيقة الخلافة فإنها، قيادة عامة للأمة تمثل وحدتها وتحفظ كيانها وتحقق مصالحها، ومن الممكن بل من الواجب أن يطور النظام السياسي للإسلام في العصر الحديث، وهذا التطور تجيزه مبادئ الإسلام أيضاً”.(25)

ويقول الدكتور “محمد سليم العوا”: “لا يعترض بمسألة نظام الخلافة، لأن هذا اللفظ الذي أصبح منذ تدوير العلوم الإسلامية، لا يعني في مدلوله السياسي  أو الدستوري أكثر من تنظيم رئاسة الدولة الإسلامية تنظيماً يشمل اختيار رئيسها وتحديد حقوقه وواجباتها، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة الذين ابتكروا لفظ الخلافة، السعي إلى محاولة إتباع المثل الأعلى الذي كان قائماً في بداية نشوء الدولة الإسلامية التي تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رئاستها، ولذلك لم تستقر التسمية نفسها، فلقب أبو بكر بالخلافة (خليفة رسول الله) ثم لقب عمر بإمرة المؤمنين (أمير المؤمنين) ثم استعمل الفقهاء لفظ الإمام في بحوثهم المتعلقة بالتولية والعزل والخروج على الحاكم (البغي) وما إليها”.(26)

ومن هنا يتبين أن حصرالنظام السياسي الإسلامي في صورة أو (شكل) واحد وهو الخلافة، إنما هو جمود عند الأشكال دون المحتوى وتضييق لهذا النظام الذي يتسع ليشمل أشكالاً وصوراً متعددة تتوافق مع العصر والبيئة لكنها تلتزم بالمضمون والمنهاج، بل الواقع يشير إلى أن الفقهاء قد استخدموا في دراساتهم حول النظام السياسي الإسلامي ألفاظاً عدة كالخلافة (الخليفة) والإمامة (الإمام) والإمارة (أمير المؤمنين) .. بل والسلطنة والمُلك، وغيرها من الألفاظ.

إن أهمية الأمر تبدو عند الانشغال (بشكل) النظام دون طبيعته وهذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامي، إذ تم الاحتفاظ بـ(شكل) الخلافة، وأفرغت من كثير من مضامينها وغاياتها وأصولها وقواعدها الشرعية.

“فمن خلال النظر في مصطلح “الخلافة” ـ نرى ـ كيف يخلط العقل الإسلامي المعاصر بين “المحتوى الموضوعي” للخلافة الذي يعني في الإسلام وجوب أن تنشا حكومة تمارس الحكم بمنهاج الإسلام، وبين “نسق شكلي” بعينه يمكن أن تتمثل فيه تلك الحكومة.

إذ الخلافة “كمحتوى موضوعي” وبغض النظر عن إلزامية الاسم، هي فريضة لازمة بنصوص الإسلام. أما الخلافة “كنسق شكلي” ف الإسلام. كما أن الذي أفرزه التاريخ في الحقيقة لم يكن “نسقاً شكلياً” واحداً ومضطرداًن بل “أنساقاً” متعددة ومختلفة في .(27)

والناظر في النصوص الشرعية يجدها تؤكد ذلك ، فقد وردت مشتقات كلمة (خَلَفَ) في  مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، إلا أن لفظ ( خلافة ) لم يرد في أي منها .

قال تعالى :

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ“.(28)

قال “ابن كثير” في تفسير الآية : “هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله و سلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس و الولاة عليهم و بهم تصلح البلاد  و تخضع لهم العباد و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً و حكماً فيهم و قد فعله تبارك و تعالى وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة و خيبر و البحرين و سائر جزيرة العرب و أرض اليمن بكمالها و أخذ الجزية من مجوس هجر و من بعض أطراف الشام و هاداه هرقل ملك الروم و صاحب مصر و إلإسكندرية و هو المقوقس و ملوك عمان و النجاشي ملك الحبشة الذي تملّك بعد أصحمة رحمه الله و أكرمه ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و اختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبوبكر الصّدّيق فلمّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه و سلم و أخذ جزيرة العرب و مهّدها ، و توفّاه الله عز و جل و اختار له ما عنده من الكرامة ، و منّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصدّيق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يُدر الفُلك بعد الأنبي مثله في قوة سيرته و كمال عدله” .(29)

وقال “الطبري” في تفسيرها : “نزلت هذه الآية ، و أظهر الله نبيّه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح و أمنوا . قال النحاس: فكان في هذه الآية دلالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ لأن الله عز و جل أنجز ذلك الوعد .

قال “الضحّاك” في كتاب النقاش : هذه تتضمن خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و علي ؛ لأنهم أهل الإيمان و عملوا الصالحات . و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (الخلافة ثلاثون) .

وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه ، واختاره، قال : قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم ، و كانوا على الدين الذي ارتضى لهم ، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فاستقرّ الأمر لهم ، وقاموا بسياسة المسلمين وذبّوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم ، و إذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز و فيهم نفذ ، وعليهم ورد ، ففيمن يكون إذن ، و ليس بعهم مثلهم إلى يومنا هذا ، و لا يكون فيما بعده رضي الله عنهم .

وحكى هذا القول “القشيري” عن “ابن عباس” واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً).(30)

و الواضح من الأدلة أن مفردات الخلافة أو الاستخلاف التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية لا تشير إلى المعنى السياسي للكلمة ، و إنما تعطي معاني عامة يمكن الاستدلال منها على ذلك المعنى ، و هذا ما فعله المفسرون ، و يستفاد من ذلك أن النصوص لا تسعفنا لتحديد اسم النظام السياسي في الإسلام لكنها تضع لنا الأطر و القواعد العامة التي يمكن من خلالها تحديد طبيعة هذا النظام .

وربما كانت الأدلة من السنة أكثر تحديداً في استخدام كلمة “الخلافة” إذ وردت هذه الكلمة في بعض الأحاديث النبوية الشريفة .

فقد روى الإمام “أحمد” في مسنده قال : “حدّثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال كنا قعوداً في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان بشير رجلاً يكفّ حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت”

وروى الإمام “أحمد” في مسنده قال: “قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكاً بعد ذلك”. (31)

وروى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكاً بعد ذلك” (32)

قال “أبوداود” في شرحه للحديث ‏قال “المناوي”: أي بعد انقضاء زمان خلافة النبوة يكون ملكا لأن اسم الخلافة إنما هو لمن صدق عليه هذا الاسم بعمله للسنة والمخالفون ملوك لا خلفاء , وإنما تسموا بالخلفاء لخلفهم الماضي “.(33)

والواقع أن هذين الحديثين هما أوضح ما ورد في السنة من الإشارة إلى كلمة الخلافة و قد تكررا في سنن أبي داود و مسند الإمام أحمد بن حنبل ، لكن كلا الحديثين لم يشيرا الى أن هذه الكلمة هي المعبر الوحيد عن النظام السياسي الإسلامي ، فقد أشار كلا الحديثين إلى أن مرحلة ما بعد الخلافة يكون الأمر(ملكاً عاضاً) أو (ملكاً جبرياً) وفي كلا الحالتين لم ينف عنهما صفة (الإسلامية) وإن لم يقر أياً منهما، لا باعتبارهما (مصطلحهما) أو إسمهما ولكن باعتبار محتواهما ، وحتى عندما تحول النظام السياسي الإسلامي ـ عبر مراحله التاريخية ـ من خلافة راشدة إلى ملك (عضوض) أو (جبري) بقي يحمل أسم النظام السياسي الإسلامي.

 ولعل في كلا الحديثين دلالة أخرى على أن المقصود بكلمة ( الخلافة ) هو المحتوى و المنهاج وليس المصطلح ، إذ حُددت مدة الخلافة بثلاثين سنة ، ولم يقل أحد من الفقهاء أن المرحلة التاريخية بعد تلك ( الثلاثين سنه) ، والتي غاب فيه منهاج الخلافة وطبيعتها ، وإن لم يغب اسمها ـ لم يقل أحد ـ أنها لم تكن إسلامية ، بل إن الحديث الذي رواه أحمد ، والذي بشر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة ، أشار إلى أنها ستكون ( على منهاج النبوة ) .

إن ذلك لا يعني رفض فكرة النظام الإسلامي ، من خلال رفض فكرة الخلافة ـ كما فعل البعض ـ ولكن تأكيدا على وجود هذا النظام ومرونته وقدرته على تلبية حاجة المسلمين في نظام سياسي قائم على قواعد الإسلام دون اشتراط أن يحمل أسم الخلافة ، إذ الوقوف عند الاسم قد دفع بالرافظين لفكرة النظام السياسي الإسلامي ، إلى رفض الفكرة انطلاقا من رفضهم لصورتها التاريخية المتمثلة بـ (الخلافة ) ، خاصة حين يعمد هؤلاء إلى انتقاء مراحل تاريخية معينة ، غابت فيها روح النظام السياسي الإسلامي (الخلافة ) وأهدافه وغاياته ليظهروها على أنها النموذج التطبيقي للخلافة !!

ثالثاً : دولة دينية أم مدنية.. ؟

هذه المسألة من المسائل التي اختلط فيها الفقه بالتاريخ، بل طغى الجانب التاريخي كثير على الجانب الفقهي، وعلى الرغم من المحاولات التي بذلها الفقهاء والباحثون المسلمون في العصور الأخيرة لبيان الأمر إلا أنه مازال شائكاً ومختلطاً، ولعل مرجع ذلك عائد إلى أمرين: –

الأول :  قياس النظام السياسي في الإسلام بما كانت عليه أوروبا خلال القرون الوسطى وما تلى ذلك من سيطرة الدولة الدينية أو الدولة “الثيوقراطية” أو دولة الحكم الإلهي  التي استمرت إلى عهود قريبة، وسيطر فيها رجال الدين المسيحي سيطرة تامة على شؤون الدولة، وساسوها بما يخالف القواعد العامة لأي نظام حكم من إقامة العدل والمساواة والحرية وغيرها من المبادئ السياسية، فأعطوا صورة سيئة عن هذا النظام في الدول الغربية، ولذا قامت الثورات على الكنيسة لا بسبب دورها الديني بل بسبب دورها التاريخي حتى تراجعت المسيحية داخل أسوار الكنائس ولم يعد لها شأن في الحياة عدا أن يكون لها شأن في السياسة.

أما في النظام السياسي الإسلامي فلا توجد سيطرة لرجال الدين لأن هذه الفئة (رجال الدين) غير موجودة في الإسلام حتى تتحكم بشؤون الدين أو الدولة، هناك من يتفقه في الدين من الفقهاء والعلماء والمختصين، ولكن هؤلاء لا يسيطرون على الدولة أو على شؤون الحياة، فدورهم مثل دور أي فئة أخرى من المختصين كالمعلمين والأطباء والمهندسين وغيرهم، ولا توجد وصاية –في الإسلام- على أي شأن من شؤون الحياة ، بل المرجع في ذلك إلى نصوص الشريعة، وما جاءت به من أحكام، ولذا فإن النظام السياسي الإسلامي لا يستمد مشروعيته من أشخاص محدودين، وإنما يستمد ذلك من قواعد عامة في الفقه الإسلامي، وكما يستمدها من اجتهادات الفقهاء والعلماء على مر التاريخ، ولذا فإن قياس النظام السياسي في الإسلامي على الدولة (الثيوقراطية) قياس باطل.

الثاني : أن العقل البحثي عند بعض الباحثين المسلمين تأثر بالمنهج البحث الغربي الذي نشأ وفق الرؤية السابقة، فلم يتصور دول العالم إلا نموذجين، نموذج الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي يكون الحاكم فيها (مفوضاً) من الله بإدارة شؤون الدولة!! ونموذج الدولة المدنية (بصورتها الغربية العلمانية) التي لا شأن للدين في سياستها بل في نظم الحياة كافة، وبتطبيق هذين المنهجين جنح هؤلاء الباحثون إلى القول بأن الدولة الإسلامية دولة دينية!! وبنوا أحكامهم ورؤيتهم حول هذه الدولة من خلال تلك الرؤية.

ولقد كان للتاريخ أثر واضح في هذه المسألة، إذ أن الرافضين لفكرة الدولة الإسلامية أو النظام السياسي الإسلامي، استندوا في دعواتهم إلى التاريخ الإسلامي الذي لم يخلو من بعض الممارسات والنصوص التي تشير إلى أن الدولة الإسلامية دولة دينية!! ومن ذلك استشهادهم بما رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه، أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله”(34)

وما رواه “البيهقي” – كذلك- في شعب الإيمان: “السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر، وكان على الرعية الشكر، وإن جار أو خاف أو ظلم، كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظهر الفقر والمسكنة، وإذا أضفرت الذمة، أُديل الكفار” .

قال في مجمع الزوائد فيه: سعيد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك (35)، أي لا يؤخذ بروايته وقد ورد لفظ (السلطان ظل الله أو الرحمة في الأرض) في بعض الروايات، إلا أنه يلاحظ عليها أن أياً منها لم يرد في كتب الصحاح المعتمدة، وأمر كهذا الأمر العظيم، لا نعتقد أن كتب الصحاح ستغفل عنه، لذا فإن الروايات الواردة في ذلك لا ترقى إلى الصحة مما يشكك في يضعف الاستدلال بها.

وحتى لو صحت فإنها لا تدل على مفهوم الدولة الدينية، فالقول أن السلطان ظل الله في الأرض لا يعني أن السلطان أو الحاكم يحكم نيابة عن الله سبحانه وتعالى (كما هي في النظام الثيوقراطي)، بل إن الحديث يشير إلى غير ذلك إذ يحدد دور الحاكم (السلطان) بالعدل (فإن عدل كان له الأجر)، بل حمله وزر الظلم (فإن خان أو ظلم، كان عليه الوزر). وهذا مناف لنظرية الحكم الإلهي إذ لو كان الحاكم (السلطان) نائباً أو مفوضاً من الله لما أمكن محاسبته على الظلم أو الجور أو الخيانة، فإنه –وفقاً لهذه النظرية- معصوم عن الخطأ ولا تجب مسائلته!!

وهنا يمكننا القول إن الباحثين عن النصوص الشرعية من مصادرها الأصلية (الكتاب والسنة) لن يجدوا ما يسعفهم للقول بأن الدولة الإسلامية دولة دينية ولذا عمدوا إلى التاريخ يبحثون عن ما يحقق مبتغاهم، فتجاوزوا أوائل الصحابة والتابعين التي تشير إلى أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية إسلامية. فقد تجاوزوا حادثة اختيار الخليفة الأول أبو بكر الصديق عندما ناداه الصحابة ساعة مبايعته بقولهم (يا خليفة الله) فقال (بل أنا خليفة رسول الله) فقطع بذلك فكرة النظام السياسي الديني في الإسلام، فهو خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم –في حياته- بدورين: دور الرسالة ودور القيادة ،وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام انقطع دور الرسالة، بكل ما تضمنته من الوحي والتصويب من الله للرسول صلى الله عليه وسلم، وعصمته عليه الصلاة والسلام، وبقي دور القيادة (الحكم)  التي ليس لها من تلك (الضمانات) شيء فهي قابلة للصواب، والخطأ والمحاسبة والإحسان، والشورى والمشاركة، وغيرها من ضوابط القيادة السياسية التي تشترك فيها مع أي قيادة بشرية.

إن مثل هذه الروايات ـ التي تثبت مدنية الدولة ـ كثيرة في تاريخ المسلمين، إلا أنه الرافضين لفكرة النظام السياسي الإسلامي بحثوا في النصوص التاريخية التي تخدم مطلبهم مثل أقوال بعض المسلمين في مرحلة تاريخية معينة، كقال بعض فقهاء الشام في عهد الأمويين” إن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إماماً تقبل منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات”. وقولهم “إن طاعة الخلفاء جائزة في معصية الله”.(36)

على الرغم من أن ذلك مخالف لنص شرعي بقوله عليه الصلاة والسلام “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.(37)

بل تجاوز الأمر إلى حد تعظيم الخلفاء والملوك وإنزالهم منزلة القدسية، قال الإمام مالك (دخلت على المنصور العباسي والهاشميون يقبلون يده ورجله، فعصمني الله من ذلك”. (38)

وقول المنصور ذاته بمكة حين دخلها “أيه الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده ، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني”.(39)

وهذه الرواية التي رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد ـ إن صحت ـ لا يمكن بناء حكم شرعي عليها، فليست هي من اجتهاد الفقهاء، أو أحكامهم عدا أن تكون من النصوص الشرعية بل هي مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية ولذلك لا يعتد بها، لكن القائلين بـ “دينية” الدولة الإسلامية يعتمدون على مثل هذه الأقوال وغيرها من الأقوال والتصرفات لبعض الولاة والخلفاء والسلاطين والحكام المسلمين ليؤكدوا مقولتهم أن الدولة الإسلامية دولة دينية، وأن لدعوة لها في هذا العصر إنما هي دعوة للعودة إلى سيطرة رجال الدين وتحكمهم في شئون الأمة.

والدارس للتاريخ الإسلامي يجد أن “رجال” علماء الدين المسلمين، كانوا هم الذين يقفون أمام استبداد الحكام وتسلطهم وإعطاء أنفسهم مكانة غير التي وضعهم الإسلام فيها، والتاريخ ملئ بالأحداث والروايات التي تشير إلى ذلك.

ومن هنا يمكننا التقرير أن النظام السياسي الإسلامي لم يشهد فكرة الدولة الدينية في أي مرحلة من مراحله بل جاءت الأدلة لتؤكد على أن الطاعة المطلقة هي لما أمر الله سبحانه وتعالى به ثم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أما طاعة للنظام السياسي (الحاكم ) أو (ولي الأمر ) فهي موقوفة على طاعة الله ورسوله ، أي أنها ليست مطلقة ، ولو كانت سلطة النظام ” دينية ” مطلقة لما جاز تقييدها ولأصبحت كطاعة الله ورسوله و هذا ما لم يقل به أحد من السلف أو الخلف إلإ من شذ ، ممن لا يعتدّ برأيه .

  قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(40)

قال “القرطبي” في تفسير هذه الآية: “وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية.

ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة وإقامة ذلك على وجه الشريعة.

وإن صلوا بنا وكانوا فَسَقَه من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يُخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة.

قلت: روي عن “علي بن أبي طالب” رضي عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته، وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: وأولي الأمر أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك رحمه الله ، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين ” (41) .

وقال “الطبري”: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان الله طاعة،وللمسلمين مصلحة، حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة:” أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل مكان ما وافق الحق، وصلوا وراءهم. فإن أحسنوا فلكم ولهم،وإن أساؤوا فلكم وعليهم “.

حدثنا “ابن المثنى” قال، حدثنا “يحيى” ، عن “عبيد الله” قال، أخبرني “نافع”، عن “عبد الله”، عن النبي “صلى الله عليه وسلم” قال: “على المرء المسلم، الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فمن أمر بمعصية فلا طاعة”.

حدثنا “ابن المثنى” قال، حدثني “خالد”، عن “عبيد الله”، عن “نافع”، عن “ابن عمر”، عن النبي “صلى الله عليه وسلم” نحوه.

فإذ كان معلوماً أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوماً أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولوه المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضاً القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه ، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فان على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. ” ( 42 )

وقال صاحب “فتح القدير”: “لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه.

وأولي الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر: هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك. وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي “. ( 43 )

كما أن الباحث في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى أنه كان يمارس الدور السياسي المدني بكافة صوره وأشكاله وهو النبي الذي يوحى إليه من ربه، ومع ذلك كان يشاور الصحابة رضوان الله عليه جميعاً وكان يقول لصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما “لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما فيه”(44).

وينزل في موقعة بدر فيقول له أحد صحابته وهو الحباب بن المنذر، رضي الله عنه : “أهو منزل أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة ؟ فيقول بل هو الرأي والحرب والمكيدة” ثم ينزل على ما رآه الصحابي”.(45).

ويقبل برأي الصحابة في حفر الخندق، بل كان يقول “أنتم أدرى بشؤون دنياكم”(46).

ولو كان الأمر منصوص عليه في لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والتزم بما يراه، لكنه كان يُعَلِم أمته أن الشأن الدنيوي هو شأن عام يديره الناس وفقاً للقواعد العامة في الإسلام، ولما فيه تحقيق المصلحة العليا للمسلمين.

وإذا كان هذا فعله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من جاء بعده لا يملك سلطة “دينية” يمارسها على المسلمين، بل هو فعل بشري أو “مدني” قابل للخطأ والصواب، وهو اجتهاد بشري يحتاج إلى من يراقبه ويوجهه حتى يحقق الغرض منه.

وقد كان هذا الأمر واضحاً جلياً لدى الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم إذا كانوا يؤكدون على أن طاعتهم إنما هي فيما وافق شرع الله، ولذا كانت أو خطبة في الخلافة الراشدة محددة لهذا المعنى حين قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حطبته المشهورة “أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”.

بل إن أول حادثة وقعت في الخلافة الراشدة والتي حددت مسار النظام السياسي الإسلامي بينت ذلك حين أطلق بعض الصحابة على الخليفة الأول، لقب “خليفة الله” فاستنكر أبو بكر ذلك وقال “بل خليفة رسول الله” للدلالة على أنه لا يملك سلطة “إلهية” بل هي خلافة من رسول الله في جانب إدارة شؤون الأمة.

واليوم حين يزعم الزاعمون أن النظام السياسي الإسلامي نظام “إلهي” “ثيوقراطي” أو “ديني” فإنما يجهلون حقائق الإسلام ودلالات النصوص .

وإذا كانت النصوص تؤكد فكرة عدم “دينية” الدولة بالمفهوم الغربي، فإن ممارسة الدولة كنظام سياسي تؤكد ذلك، فقد شهدت الدولة الإسلامية منذ عصر النبوة تعاملات وعلاقات داخل الدولة مع مواطنيها من غير المسلمين، بل إن أول نظام (دستوري) تم في الإسلام كان مع بداية الدولة الإسلامية عند قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بعقد ما عرف بـ”وثيقة المدنية” التي تنظم الشأن الداخلي للدولة، وكان اليهود طرفاً رئيسياً في هذه الاتفاقية، فقد أعطتهم حق المواطنة ما التزموا بالأنظمة والقوانين (المدنية)، حيث أن الوثيقة لم تتعرض لهم “دينياً” ولم تتدخل في شأنهم الديني “اليهودية” بل حمت حقهم في ذلك وتركته لهم يتعاملون معه وفق معتقدهم، وإنما بحثت الشأن المشترك بينهم وبين المسلمين، فقد جاء في الفقرة (25) من الوثيقة “أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتع إلا نفسه وأهل بيته”(47).

بل أصبح اليهود –بهذه الوثيقة- جزء من المجتمع الإسلامي في المدينة فقد جاء في الفقرة (37) منها ” وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”(48).

ولو كانت الدولة “دينية” خالصة للمسلمين، لما جاز إشراك غيرهم في شؤونها من المشاركة المالية والدفاع عنها، بل والتناصح والبر مع مواطنيهم “اليهود”، وحين تم إخراج اليهود من المدينة لم يكن بسبب دينهم “اليهودية” إذ لو كان هذا سبباً لتم إخراجهم من اليوم الأول، بل كان سبب إخراجهم هو نقضهم لوثيقة المدينة وخيانتهم لوطنهم (المدينة) وتآمرهم مع أعداء الدولة الذين كانوا يحشدون القوات لمهاجمتها، أي لـ(خيانتهم العظمى) كما يعبر عنه بالمصطلح السياسي والقانوني المعاصر.

والقول بـ “دينية” الدولة الإسلامية، يفترض أن الخروج عليها هو خروج على الدين، ولم يقل ذلك أحد ممن سبق من الفقهاء والعلماء والمسلمين، بل كانوا يعتبرون مواطنين خرجوا لأسباب سياسية وليست دينية، وهذا ما عبر عنه علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه- بشأن الخوارج الذين خرجوا عليه وحاربوه: فقال: ” إخواننا بغوا علينا”، فلم ينظر إلى خروجهم باعتباره فعلاً دينياً وإنما باعتباره فعلاً سياسياً، تتم معالجته، بعيداً عن ميدان الإيمان والكفر.

لذا لم تكن مشكلة الدولة (دينية أم مدنية) مطروحة خلال التاريخ الإسلامي، ولا نجد لها موقعاً في كتب التراث، فالفقهاء لم يفرقوا بين ما هو ديني وما هو مدني بالمنظور العلماني المعاصر، فحتى الأفكار “الدهرية” التي تقترب من الفكر العلماني المعاصر، لم تطرح (دينية الدولة) بصورة واضحة لعدم وجود المشكلة ذاتها ولأن النظام في ذلك الوقت كان يأخذ صبغة (الإسلامية) في كافة جوانب الحياة.

لكن هذه الفكرة ارتفعت عقيرتها في السنوات الأخيرة بسبب تصاعد موجة العودة للإسلام وبروز الاتجاهات والقيادات الإسلامية على الساحة السياسية والاجتماعية، ودخولها في مفاصل مهمة من المجتمع، كالمجالس النيابية والوزارات ومؤسسات الدولة، فارتفعت الصيحات محذرة من الدولة الدينية، على الرغم من أن الباحثين والفقهاء، والعلماء المسلمين المتأخرين قد بينوا بصورة جلية موقف الإسلام من الدولة الدينية أو المدنية.

فهذا الشيخ “محمد عبده” -رحمه الله- يقول : “ليس في الإسلام ما يُسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الأفرنج “ثيوكراتيك” فإن عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة في التشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة ، لا بالتبعية وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة ، بل بمقتضى حق الإيمان (49).

وهذا الشيخ “رشيد رضا” –رحمه الله- يقول: “الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء، فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاءت تامة أصلاً وفرعاً، وفرضاً ونفلاً إذا كان مدارها على نصوص الوحي، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالقول والفعل، وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها وشرع للأمة الرأي والاجتهاد فيها، لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية، والمنافع المادية، وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع”(50).

ويقول العلامة الشيخ/ “يوسف القرضاوي”: “إنها دولة مدنية تحكم بالإسلام، وتقوم على البيعة والشورى ويختار رجالها من كل قوى أمين، حفيظ عليم، فمن فقد شرط القوة والعلم، أو شرط الأمانة والحفظ فلا يصح أن يكون من أهلها، إلا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات”(51).

لكن القول بمدنية الدولة الإسلامية، لا يعني مفهوم المدنية العلمانية التي سادت في الغرب ومعظم بلاد الشرق، والقائم على فصل الدين عن الدولة، أو عن نظام الحياة، بل مفهومه المدنية الإسلامية قائم على أن نظام الحكم في الإسلام نظام بشري يستمد مرجعيته الأساسية من القواعد العامة التي جاءت بها النصوص الشرعية، ولذا فإن كافة أعمالها ومؤسساتها تخضع لمبادئ النظم السياسية البشرية، كالمشاركة فيها والرقابة على أعمالها ومحاسبة القائمين عليها وتغييرها وفق الأسس المتفق عليها ضمن القوانين والأنظمة المقررة من أفراد الشعب وبما لايخالف القواعد العام في الإسلام.

رابعاً: السيادة:

يعتبر مصطلح “السيادة” من المصطلحات التي برزت في العصور المتأخرة حين تم وضع الدساتير والقوانين الحديثة على الرغم من مفهوم السيادة قد بحث وإن كان بمسميات مختلفة ، وقد كان التاريخ سبباً مباشراً في نشوء الصراع حول مفهوم السيادة مما أدى إلى بروز هذا المصطلح، فقد ظهرت الفكرة ـ تاريخياً ـ مع الرومان في بداية عهدهم، لإعطاء الإمبراطور سلطة واسعة بل مطلقة في إدارة شئون الإمبراطورية، وإضفاء قدسية دينية على هذه السلطة، وقد ترسخ هذا المفهوم مع الفكر المسيحي ، فبرزت فكرة الحق الإلهي، أو التفويض الإلهي في الحكم، التي جعلت “القيصر” أو الإمبراطور يستعين برجال الدين لغرض هذه الفكرة وتوسيع سيطرته على الإمبراطورية وقد استمر هذا المفهوم لمصطلح السيادة حتى بدايات عصر النهضة الأوروبية.

وقد ساند ذلك فكر سياسي واسع كان من أبرز رجاله “ميكافيللي” في إيطاليا الذي نادى عام 1513م في كتابه “الأمير” بنطريته في أهمية السيادة بالقوة للأمير حتى يستطيع أن يسيطر على الدولة ويحافظ على وحدتها، وفي فرنسا، كان “جيهان بودان عام 1576م الذي دافع عن سيادة الدولة، حيث جعلها “تسمو على القانون” بل جعل الديمقراطية أسوأ نظم الحكم والنظام الملكي المطلق أكثر صلاحا !!ً.

ثم ظهر الفيلسوف الإنجليزي “هوبز” حيث أسس لفكرة العقد الاجتماعي، ثم جاء بعده “لوك” وختمت هذه المرحلة بظهور نظرية العقد الاجتماعي على يد الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، وهكذا انتشرت فكرة السيادة للأمة من خلال تلك النظريات وما أسفرت عنه من ثورات في عدد من الدولة الأوربية كان في مقدمتها ثورة عام 1688م في إنجلترا، التي نقلت السيادة المطلقة من يد الملك لتكون سلطة مشتركة بينه وبين الشعب ثم جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 وأنهت السيادة المطلقة للملك وجعلتها بيد الأمة، وقد أكدت وثيقة الاستقلال الأميركية على أن السيادة للشعب.(52)

إن هذه الخلفية التاريخية ـ الموجزة ـ تبين أن فكرة السيادة نشأت ـ في الغرب ـ بسبب موروث تاريخي من الصراع بين السلطة الحاكمة والشعب أو الأمة وتنازعهما فيمن له حق السيادة أو التشريع، وقد استعان أحد الأطراف ـ السلطة ـ بقوة مساندة خلال مرحلة تاريخية معينة مكنته من بسط سيادته ونفوذه وسلطانه على الأمة باسم الدين، وقد انتهت هذه المرحلة بانتصار الأمة على ـ السلطة ـ وانتزعت منها السيادة، وألغت سلطة (الدين) الذي كان مسانداً بل متسلطاً على الأمة.

لكن ـ مثل ـ هذا الصراع لم ينشأ في التاريخ الإسلامي إلا في العصور المتأخرة حين حاول بعض الباحثين وأساتذة الفكر في البلاد الإسلامية تطبيق مفهوم السيادة ـ بصورته الغربية ـ مع البلاد الإسلامية متأثراً بمدارس القانون الدستوري لديهم، ومحاولاً اصطناع صراع على السيادة بين الدين والأمة، وهو منهج يشبه ـ إلى حد ما ـ الصراع الذي نشأ في البلاد الإسلامية عبر التاريخ من خلال حول مفهوم “الحاكمية” الذي يمكن أن يشبه مفهوم السيادة في الفكر الغربي، حيث بدأ الخلاف منذ عصر الفتنة حين انتقلت الفكرة من جانبها السياسي لتصبح جزءاً من العقيدة كما هي عند الخوارج، فقالوا قولتهم المشهورة “لا حكم إلا لله”، وقد أدرك ألإمام علي رضي الله  عنه ، ومن معه دلالة الفكرة وأثرها على حياة المسلمين ومستقبلهم، إذ لم يكن الخلاف بينه وبين الخوارج أو مع غير ه ممن خالفه خلافاً عقدياً بل خلاف سياسي، لذلك رد عليهم بكلمته المشهورة “كلمة حق يراد بها باطل” فقد قرر مبدأ “الحاكمية” أي المرجعية العليا في كل شأن من شئون الحياة سواء كان من جانب العقيدة أو العبادة أو الأخلاق أو المعاملات أو السياسة أو غيرها، فإن مرجعيته إلى الله، لا كما فهمها الخوارج بأن كل أمر “تفصيلي”  مرجعه إلى الله.

ولم تكن مسألة الحاكمية هي المسألة السياسية الوحيدة التي انتقلت إلى العقيدة أن في تلك المرحلة، بل كانت هناك مسائل أخرى مثل “الأمامة” عند الشيعة إذ عدّوها من قضايا العقيدة، وألزموا بوجوب الإيمان بها، وعلى الرغم من هذه الخلافات إلا أن مفهوم “الحاكمية” أو “السيادة” كمفهوم سياسي لم تكن تدور حوله خلافات كثيرة، إذ كانت الشريعة الإسلامية هي السائدة بصفة عامة في حياة المسلمين وخاصة في أحكامهم وأقضيتهم وشئون حياتهم، ولم ينازعها في ذلك قانون أو نظام آخر، ولذلك كان ينظر إلى مفهوم السيادة أو ” الحاكمية” نظرة واحدة باعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الذي تشْتق منه الأحكام فمصادر الشريعة الأصلية وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والمصادر الفرعية أو المختلف منها كالإجماع و القياس و المصالح المرسلة أو غيرها من المصادر الفرعية ، كانت هي السائدة في التشريعات والأحكام، إذا لا يوجد مصدر آخر تؤخذ منه الأحكام، وما وقع من خلاف بين الفقهاء، إنما كان داخل هذه الدائرة

ولهذا كان مصطلح “الحاكمية” ومفهومها ـ كمرجعية عليا ـ واضح الدلالة لدى الفقهاء قال الإمام ألآمدي ـ رحمه الله ـ “أعلم أنه لا حاكم سوى الله ولا حكم إلا ما حكم الله به”.(53)

 وقال الإمام الغزالي “لا حكم ولا أمر إلا الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان لكل مخلوق أوجب على غيره شيئاً كان للموجب عليه أن يقلب عليه ألإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من ألآخر ، فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله طاعته.(54)

وإذ كانت هذه الرؤية واضحة عند الفقهاء قديماً، فإن ـالصراع ـ حول مفهوم السيادة أو الحاكمية تجدد في العصور المتأخرة، لأسباب تاريخية يرجع بعضها إلى غياب المؤسسة الإسلامية الحاكمة المعبرة عن الشريعة الإسلامية (الخلافة ـ الإمارة ـ الدولة ـ الجمهورية) ونشوء حركات ودعوات تسعى لعودة السياة للشريعة من خلال نظام إسلامي يجعل الحاكمية أو السيادة للشرع، لكن الخلاف وقع أيضاً في دلالة و مفهوم مصطلح ” الحاكمية ” فقد تشدد بعض المفكرين، والباحثين، كأبي الأعلى المودودي وسيد قطب رحمهما الله، في مفهوم الحاكمية وفاضت كتاباتهما بدلالات هذا الفهم للحاكمية، بل طوّر سيد قطب ـ رحمه الله ـ “مفهوم الحاكمية إلى درجة عالية في فكرة السياسي حتى أصبحت كلمة لا إله إلا الله تعني أن الحاكم الوحيد هو الله جل شأنه وأن السلطة له، وهو رحمه الله لم يميز في هذا بين معنى حاكمية الله في الحكم السياسي، وبين حاكميته جل شأنه للحكم الكوني، أو القضائي، بل فعل كما فعل المودودي حين جعل حاكمية الله في مواجهة حاكمية البشر المتناقضة والمتضاربة والمتعارضة مع عبودية الله جل شأنه وألوهية الله  للبشرية، فألغى المودودي أي دور للفرد أو الجماعة في الحاكمية، غير دور التلقي والتطبيق باعتبار أن الله وحده هو الحاكم.(55)

وعلى الرغم من الدراسات والردود والإيضاحات التي بينت الرؤية من الحاكمية، إلا أن هذا المفهوم مازال سائداً عند طائفتين إحداهما تجعل من الحاكمية منهجاً لعملها السياسي إذ بنت فكرها وسلوكها وتصرفاتها على فكرة الحاكمية حتى وصلت عند البعض حد التكفير للمجتمع بل ومحاربته ومقاومته لأنه استولى على” الحاكمية ” وصرفها عن مدلولها الحقيقي ـ كما يفهمونه ـ ولذا وجبت محاربتهم ومواجهتهم ولو بالقوة، وقد رأينا آثار هذا الفكر ظاهرةً في بعض الأقطار الإسلامية وفي حركات العنف التي اجتاحت أرجاء واسعة من تلك الأقطار.

وعلى الطرف الآخر يقف الرافضون لفكرة النظام السياسي الإسلامي بزعم أن هذا النظام لا يجعل للأمة د ور في صياغة شؤنها وأنه نظام أحادي لا وجود للرأي الآخر فيه و يحمل الناس على غير ما يشتهون، وإنه سيفرض العقوبات والحدود على أفراد الشعب حتى ولو كان بينهم مواطنون من غير المسلمين!!، ويستند هؤلاء على دعواهم تلك بالقول إنه لا توجد فكرة لسيادة الأمة في النظام السياسي الإسلامي، وإن ” الحاكمية ” هي الفكرة المسيطرة على هذا النظام وهي فكرة تقوم على التفويض الإلهي.

ومن هنا فإن هذا الخلل في الفهم للسيادة في النظام الإسلامي والخلط بين سيادة الأمة والحاكمية قد أدى إلى غياب الرؤية الإسلامية الواضحة  لطرح النظام السياسي الإسلامي كنظام قابل للتطبيق في البلاد الإسلامية ، و لعل في مقدمة ما يجب تحريره هو مفهوم ” الحاكمية ” كمشروعية عليا في النظام السياسي الإسلامي ،(56) حتى يحسم الخلاف حولها ، ثم تحديد دور الأمة في التشريع و مدى سيادتها على التشريعات الحاكمة للشأن العام ، فقد اتجه الفقهاء المسلمون في العصر المتأخرة في رؤيتهم للسيادة إلى ثلاثة آراء :

الأول : أن السيادة لله عز و جل دون أن يكون لأحد غيره من الشعب أو الأمة أي صورة من السيادة ، و هذا ما رأيناه عند القائلين بأن الحاكمية لله .

الثاني : السيادة المزدوجة: و يقوم هذا الرأي على أن السيادة لله فيما ورد فيه نص قطعي من الكتاب و السنة، وما لم يرد فيه نص ، أو نص يحتمل التأويل ، فإن السيادة تكون لجماعة المسلمين (الأمة).

والواقع أن هذا الرأي ـ مع وجاهته ـ تشوبه بعض العيوب ، و منها فكرة أن التقسيم التي ربما أدت إلى إشكالية المساواة بين الطرفين ، و هذا يوقع في خلاف عقدي أكثر منه خلاف سياسي ، أما الأمر الثاني فإن الأحكام القطعية من الكتاب والسنة لا خلاف عليها ، و على وجوب العمل بها ، و ليس هناك حاجة للاجتهاد فيها ، أما الخلاف محل الاجتهاد فهو في دلالات النصوص وفي الحوادث و القضايا المتجددة ـ و كما أشرنا سابقاً ـ فإن معظم أحكام النظام السياسي الإسلامي ليست نصوصاً قطعية، بل هي مستنبطة من القواعد العامة التي جاءت بها النصوص و الإعمال فيها يكون من خلال الاجتهاد الذي يتولاه أهل الاختصاص، والذي يكون معبّراً عنه بأهل الحل و العقد ، والتعبير المعاصر من خلال ممثلي الأمة الذين يتم اختيارهم أو انتخابهم لتولي هذه المسألة نيابة عن الأمة و يمارسون السيادة للأمة في ظل الشريعة الإسلامية الحاكمة للجميع.

الثالث : يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن السيادة للأمة ، فهي صاحبة السيادة و منبع السلطات في الدولة الإسلامية، وأصحاب هذا الرأي لا يقولون بإطلاق السيادة للأمة فهي مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية ، فإذا خالفت السيادة هذه الأحكام فقدت أساس مشروعيتها، ويتبين من هذا الرأي أن السلطة لا تستند إلى تفويض إلهي، كما أن تصرفات الحاكم و المؤسسات الدستورية الأخرى مقيدة بأحكام الشريعة، وهذا الرأي أقرب إلى النظام الديمقراطي، إلا أنه يختلف عنه بالإطار العام للسلطة و القواعد العامة التي تتيح الاجتهاد ضمنها ، أما في النظام الديمقراطي فإنها غير مقيدة بأي إطار ، فللأمة مطلق الحق في أن تقر ما تشاء ، حتى و لو خالف القواعد الإنسانية القائمة على الفطرة البشرية مثل التشريعات المنظمة للعلاقة بين المحارم أو غيرها من القوانين التي تخالف الفطرة البشرية عدا عن مخالفتها للشرائع الدينية .

إن هذا الخلاف هو الفارق الأساس بين السيادة في الشريعة الإسلامية و النظم الأخرى ، و لا نجد خلافاً ـ غير ذلك ـ يعتدّ به و يمكن أن يكون فارقاً بين النظام السياسي الإسلامي و النظم السياسية القائمة على المشاركة و حرية الرأي و حقوق الإنسان و تحقيق المساواة و العدالة ، و كلها مبادئ يقوم النظام الإسلامي على أساسها .

ولا شك أن وجود مرجعية عليا حاكمة لتصرفات الأفراد و المؤسسات و الجماعات داخل الدولة له تأثيرات كثيرة من أبرزها:

  1. استقرار القواعد العامة للأنظمة و التشريعات و القوانين التي تسن لتحقيق المصلحة العليا للدولة ، فهذه المرجعية تحمي هذه النظم من التغيير و التبديل في أهدافها و غاياتها ، و تسمح لها بالتطور و التغيير في تفصيلاتها ، و هذا ما يتحقق من خلال استقرار المرجعية و التعامل مع المتغيرات وفقاً لتغير البيئات و الظروف و الأزمنة .
  2. تحقيق مبدأ العدالة و المساواة بين كافة فئات الأمة لوجود أعراق و انتماءات قومية و مذهبية مختلفة ، بل في حال وجود أديان أخرى داخل المجتمع الإسلامي ، إذ أن الجميع يرجع لمرجعية واحدة تحقق الأهداف العامة لأي نظام سياسي ، كما تحدّ من طغيان الأكثرية على الأقلية في النظام البرلماني ، إذ أن كل القرارات و التصرفات و القوانين و الأنظمة التي يتم إصدارها تتحقق فيها المبادئ العامة لنظم الحكم من الشورى أو المشاركة كما تتحقق فيها الحرية و العدالة و المساواة .
  3. الملائمة لكافة النظم السياسية ، سواء كانت قائمة على ( التأريخية الإسلامية ) كالخلافة أو الإمامة ، أو كانت معاصرة كالأنظمة الجمهورية البرلمانية أو الرئاسية ، أو كانت أنظمة ملكية دستورية ، و سواء كانت صورة الدولة ذات نظام اتحادي أم شبه اتحادي أو نظام الدولة الموحدة أو الكيانات المتعددة ضمن نظام عام (الكومنولث) فإن النظام الإسلامي يحقق لها الملائمة ، لأنه في ظل النظام الاتحادي مثلا فإن أقاليم (وحدات) الاتحاد تستقل بجزء من التشريعات خاصة ما يتعلق بشأنها الداخلي ، بينما تترك للإدارة الإتحادية تولي الشأن العام ، و في مثل هذه الحالة يحدث بعض التنازع على الصلاحيات القانونية لكل طرف ، لكن في ظل مرجعية عليا يقل أو ينعدم مثل هذا التنازع لأن كلا الطرفين يرجع إلى مرجعية واحدة .
  4. الرقابة الدائمة على أعمال الدولة إذ يعطي النظام السياسي الإسلامي للأمة مجتمعة أو ممثلة بنوابها بل بأفرادها حق الرقابة على تصرفات الدولة بمؤسساتها و أشخاصها ، فمن خلال هذه الرقابة يمكن تصحيح مسيرة الدولة و تجاوز العقبات التي تواجهها ، و نظراً لأهمية هذا الأمر فإنه لا بد له من أدوات و آليات تعبر عن هذه الرقابة التي يجب أن تكون محكومة بأنظمة و تشريعات تحقق لها أهدافا و تحافظ عليها من الزيغ أو الزلل أو الاستغلال ، و في ظل المشروعية أو السيادة العليا للشريعة فإن الجميع ـ المراقِب و المراقََب ـ يلتزم بقواعد هذه المشروعية العليا و لا يكون هناك مجال للصراع على الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كل طرف .

لقد كانت فكرة السيادة للأمة واضحاً عند كثير من فقهاء الأمة المتأخرين و المعاصرين حيث أكدوا على ذلك ،  فهذا الشيخ “عبدالوهاب خلاّف” يشير إلى أن ” التشريع يراد به أحد معنيين : أحدهما إيجاد شرع مبتدأً ، وثانيهما بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ، فالتشريع بالمعنى الأول في الإسلام ليس إلا لله ، فهو سبحانه ابتدأ شرعا بما أنزله في قرآنه ، وما أقر عليه رسوله ، وما نصبه من دلائل ، وبهذا المعنى لا تشريع إلا لله .

أما التشريع بالمعنى الثاني ، وهو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ، فهذا هو الذي تولاه بعد رسول الله خلفاؤه من علماء الصحابة ، ثم خلفائهم من فقهاء التابعين وتابعيهم من ألأمة المجتهدين ، فهؤلاء لم يشرعوا أحكاما مبتدأة ، وإنما استمدوا ألأحكام من نصوص الكتاب و السنة ، وما نصبه الشارع من الأدلة وما قدره من القواعد العامة “. (57)

ويقول الدكتور “السنهوري”: ” ان الله الذي هو الرحمن الرحيم القوي القادر لم يتركنا بغير مرشد بعد وفاة الرسول ، بل استخلفنا في ألأرض ، ومنحنا شرف خلافته ، بأن اعتبر إرادة ألأمة مستمدة من إرادة الله وجعل إجماع الأمة شريعة ملزمة ، فكأن السيادة ألإلهية والحق في التشريع أصبح بعد انقطاع الوحي وديعة في يد مجموع ألأمة ، لا في يد الطغاة من الحكام أو الملوك ، كما كان الشأن في الدول المسيحية التي ادعى ملوكها حقاً إلهياً.

وبذلك يمكن القول بأن السيادة في ألإسلام لا يملكها فرد مهما تكن مكانته ، سواء كان خليفة أو أميرا أو ملكا أو حاكما ، أو هيئة من أي نوع ، وإنما هي لله القدير الذي فوضها للأمة في مجموعها “.(58)

ويبين الإمام “محمد عبده” أن ” أهل الحل والعقد من المؤمنين إذا اجتمعوا على أمر من مصالح ألأمة ليس فيه نص عن الشارع مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة ، ويصح أن يقال هم معصومون في هذا ألإجماع ولذلك أطلق ألأمر بطاعتهم بلا شرط “. (59)

ويقول العلامة الشيخ “يوسف القرضاوي”: ” وإلإجماع الذي يصدر عن هذه الأمة الكبيرة (أو ممثليها من المجتهدين و لعلماء) هو وحده الذي يعتبر مصدرا للأحكام الشرعية ، ويجب على الشعوب التي تتكون منه هذه ألأمة و على من يتكلمون باسمها أن يحترموا هذا ألإجماع ، لأنه يمثل سيادة الأمة “.(60)

وبهذا يتبين أن فكرة السيادة للأمة ليست فكرة غريبة على النظام السياسي الإسلامي ، إذا فهمت وفقاً للرؤية الإسلامية الصحيحة و تمّ قياسها وفق مقاييس مناسبة للبيئة التي نشأت فيها و المجتمع الذي تطبق عليه ، لا بالمقاييس الأخرى ، و لذا فإننا لا نجد مبرراً للنزاع ، فالسيادة للأمة في إطار الشريعة.

خامسا: تقسيم العالم :

لعل قضية تقسيم العالم إلى دارين ( دار الإسلام ودار الحرب ) من أبرز القضايا التي سيطر فيها التاريخ على الفقه فقد استخدم الفقهاء قديماً مصطلح دار الحرب ودار الإسلام للتفريق بين بلاد المسلمين والبلاد الأخرى حيث كان المسلمون بصفة عامة يعيشون داخل منطقة جغرافية محددة لها صفاتها ومكنوناتها القائمة على العقيدة الإسلامية، وقد استخدم هذا المصطلح في سياق السياسة الشرعية ، وقد اختلف الفقهاء في تعريف المصطلحين إلى:

أولاً : “دار الإسلام” قال الجمهور دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها.(61)

وقد عرفها الكاساني بقوله “تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها. (62)

وعلى هذا فدار الإسلام هي الدار التي تسود فيها أحكام الإسلام ويمارس فيها المسلمون شعائرهم الإسلامية دون خوف أو فتنة. وهذه الدار يجب أن يحافظ عليها المسلمون ويدافعوا عنها.

واشترط الفقهاء أن تكون الدار محكومة بالإسلام ولم يشترطوا أن يكون جميع سكانها من المسلمين.

بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن الدار قد تكون دار إسلام “حتى لو لم يكن فيها مواطن مسلم ما دام حاكمها مسلماً ويطبق أحكام الإسلام، وفي هذا المعنى يقول بعض الشافعية “وليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه”(63).

“وتعتبر الدار دار إسلام حتى ولو كان أهلها فاسقين، فما دامت شعائر الإسلام ظاهرة بها، فإنه لا يسلبها هذه الصفة أن يفسق أهلها”(64).

وبهذا يتبين رأي الجمهور بأن الدار لا تعد دار إسلام إلا بظهور أحكام الإسلام عليها.

وذهب أبو حنيفة ومن معه إلى أنها تعتبر دار إسلام إذ كان فيها مسلمون يأمنون على أنفسهم وأعراضهم وكانت هذه الدار متاخمة لدار الإسلام.

أما إذا انتفى الأمان ولم تكن الدار ملاصقة لدار الإسلام فتعتبر دار حرب(65)

والواقع المعاصر يشير إلى أنه لا أهمية للمجاورة والملاصقة فقد تغيرت سبل الاتصال إذ يستطيع الإنسان أن يصل إلى أبعد نقطة في العالم في أقرب وقت كما أن هيبة الأمم والدول لم تعد بمظاهر القوة التي يراها الناس، بل أصبحت القوة العسكرية أحد عناصر القوة ، وليست جميعها، فقوة الدول تقاس بقوة اقتصادها ودورها السياسي، وعلاقاتها بالدول الأخرى، وقوتها العلمية وتقدمها التقني وغير ذلك من أسباب القوة.

ثانياً: “دار الحرب“. وهي الدار التي لا تسودها أحكام الإسلام الدينية والسياسية ولا يكون فيها السلطان للحاكم المسلم، بل يكون فيها السلطان والمنعة للكفار وظهرت فيها أحكام الكفر. و ذهب المتأخرون إلى اشتراط أن لا يكون بينها وبين الدولة الإسلامية عهد أو علاقات سلمية، وقد اختلف الفقهاء في تعريف دار الحرب إلى رأيين:

الرأي الأول: يرى أن دار الحرب هي التي تظهر فيها أحكام الكفر ولا يكون السلطان والمنعة فيها للمسلمين ولا تطبق فيها أحكام الإسلام وليس بينها وبين دار الإسلام عهد، وهذا رأي الجمهور(66)

يقول “الكاساني”: “تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها” (67).

ويقول “ابن القيم”: “وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها”(68).

وعلى هذا الرأي فإن الاختلاف بين دار الإسلام ودار الحرب يكون بظهور المنعة والسلطان فأيما دولة ظهرت للإسلام فيها منعة وسلطان فهي (دار الإسلام) وإن لم تظهر للإسلام قوة أو سلطان فهي (دار الحرب).

الرأي الثاني: وقد ذهب إلى هذا الرأي أبو حنيفة والزيدية ومذهبهم من ذلك أن الدار لا تصير دار حرب إذا كانت المنعة والسلطان لغير المسلمين، بل لا بد أن تتوافر فيها ثلاثة شروط:

  • أن تظهر فيها أحكام الكفر.
  • أن تكون متصلة بدار الحرب.
  • أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول (أي بالأمان الإسلامي الأول)(69) .

ولم ينظر أصحاب هذا الرأي إلى المنعة والقوة والسلطان وإنما نظروا إلى الأمان بالنسبة للمسلم وللذمي، ويترتب على هذا الرأي أن هناك نوعاً من الديار لا ينطبق عليهم حكم دار الإسلام ولا دار الحرب وهي:

  • الدار التي لا يتحقق للمسلمين فيها سلطان أو منعة.
  • الدار التي تتاخم المسلمين.

ثالثاً: “دار العهد“، ظهرت فكرة دار العهد بعد استقرار الدولة الإسلامية وتنظيم أمورها، وتطورت هذه الفكرة مع طور علاقاتها وبظهور أحكام وظروف جديدة للدولة الإسلامية .. فبعد أن كانت الحروب قائمة ولم يكن للدولة الإسلامية علاقات (غير حربية) مع الدول الأخرى نشأت ظروف جديدة كان من بينها استقرار الدولة الإسلامية واتساع رقعتها واتصالها بدول وشعوب مختلفة،ولذا فقد توجه الفقهاء لبحث هذه الحالة، فهذه “الدار” لم يحكمها المسلمون حتى تطبق فيها شريعتهم، ولكن أهلها دخلوا في عهد المسلمين على شرائط اشترطت وقواعد عينت فتحتفظ بما فيها من شريعة أحكام، وتكون شبيهة بالدول التي لم تتمتع بكامل استقلالها لوجود معاهدة معها.

وترتبط “دار العهد” -أو دور العهود- بالدولة الإسلامية بمواثيق وعهود ، كما تنصرف تسمية دار العهد إلى البلاد التي لم تحارب المسلمين أو تعاديهم بحيث تشمل دور العهد جميع البلاد التي ترتبط بمواثيق تنظم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها إلى جانب أنها تشمل البلاد الأخرى التي لا توجد بينها وبين المسلمين عهود أو مواثيق إلا أنها لم تحاربهم أو تساعد محاربيهم(70).

وإذا كان هذا رأي الفقهاء قديماً، فما هي الرؤية نحو تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب؟ نجد من المهم طرح بعض التساؤلات للإجابة عليها حتى تلامس واقع المسلمين بعيداً عن الفهم المحدد للمصطلح دار الحرب ودار الإسلام، ومن ذلك مدى ضرورة الإلتزام بهذا التقسيم أي هل إن تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام يدخل في أبواب الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تجوز مخالفتها؟!

فقد ذهب عدد من الفقهاء إلى أن هذا التقسيم لا دليل عليه من الكتاب والسنة وإنما استمد قوته من الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون الأوائل حيث فرضت عليهم الظروف التي مر بها المسلمون ودولتهم الناشئة وما واجهته من حروب وكذلك سيادة الحرب بصفة عامة بين الدول في تلك الحقيقة التاريخية إلى أن يقسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب (71).

“إن هذا التقسيم مبني على أساس الواقع، لا على أساس الشرع ومن محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري، وأنه من أجل ترتيب بعض الأحكام الشرعية في المعاملات ونحوها، وأن الحرب هي السبب في هذا التقسيم، فيمكننا أن نقول: إن دار الحرب هي مجرد منطقة حرب ومسرح معركة بالنسبة لدار الإسلام التي فرضت عليها الأوضاع في الماضي أن تتكتل، وأن تعتبر البلاد غير الإسلامية في مركز العدو الذي برهنت الأحداث على نظراته العدائية للمسلمين، فهو تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها، فهو ينتهي بانتهاء الأسباب التي دعت إليه. والحقيقة أن الدنيا بحسب الأصل هي دار واحدة كما هو رأي الشافعي.

فليس المراد من التقسيم أن يجعل العالم تحت حكم دولتين، أو كتلتين سياسيتين: إحداهما: تشمل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة، والأخرى: تشمل البلاد الأجنبية في ظل حكم دولة واحدة، وإنما هو تقسيم بحسب توافر الأمن والسلام للمسلمين في دارهم، ووجود الخوف والعداء”(72) .

ويدل على ذلك أن الفقهاء عدلوا عن التقسيم “الثنائي” للعالم إلى تقسيم “ثلاثي” وهو دار الإسلام ودار الحرب ودار العهد، ولو كان الأمر حكماً لازماً لما تجاوزه الفقهاء، وهنا يأتي السؤال الأخر هل يجب الوقوف عند هذا التقسيم؟ أم يمكن الاجتهاد فيه وإعادة بحث دلالته، إذ طرح بعض الفقهاء المتأخرين تقسيمات جدية مثل أمة الدعوة وأمة الإجابة، ونظر إلى العلاقة بين المسلمين وغيرهم باعتبارها علاقة دعوة قائمة على تبليغ الرسالة الإسلامية فالسلام والحرب ليسا هما العلاقة الطبيعية بين المسلمين وغيرهم وإنما هما منهجان في العلاقات الدولية قديماً وحديثاً يأخذ بهم المسلمون وفقاً للحاجة في ضوء الضوابط الشرعية الحاكمة لهما.

كما طرح آخرون مصطلح “دار الإسلام” حكماً وحقيقة ودار الإسلام حكماً لا حقيقة، ودار الحرب(73) باعتبارها تقسيماً جديداً في زمن حدثت فيه تحولات كثيرة في العلاقات الدولية المعاصرة تأثر بها المسلمون سواء كانوا في بلدانهم أم في البلدان الأخرى مثل البلاد التي يعيش فيها المسلمون باعتبارهم أقلية فيها على الرغم من كثافتهم وعددهم الذي يتجاوز عدد المسلمين في مجموعة من الدول الإسلامية مثل المسلمين في الهند والصين وروسيا وغيرها من بلدان العالم كما أن هناك حالة من الهجرة والتنقل لأسباب شتى، يصبح فيها المسلمون مواطنون في بلدان غير إسلامية، ويقوم هذا التقسيم على المزج بين الرؤية القديمة للعالم والرؤية المعاصرة، إذ نظر إلى العالم بفئات ثلاث، وهي البلاد الإسلامية التي يعيش فيه المسلمون ويتعاملون فيما بينهم معاملات إسلامية وتطبيق أحكاماً إسلامية في معظم أو بعض جوانب الحياة كالاقتصاد والقانون والأسرة وغيرها، فأطلقوا عليها مصطلح (دار الإسلام حقيقة وحكماً) أي أنها دار إسلامية في حقيقتها وحكمها، أما الدار الأخرى، وهي الدار التي لا يكون غالبية سكانها من المسلمين، ولا تطبق فيها أحكام الإسلام السياسية أو الاقتصادية أو القانونية أو الاجتماعية.

لكن المسلمين الذين يقيمون فيها يتمتعون بحقوق تمنحهم ممارسة عقائدهم وعباداتهم، ومعاملاتهم الشخصية، كما أن القوانين والأنظمة السائدة في تلك الدار لا تجبرهم على مخالفة دينهم، فنظر الفقهاء إلى هذه الدار باعتبارها (دار إسلام حكماً لا حقيقة) أي أنها ليست دار إسلام حقيقة لكننا نعاملها حكماً معاملة دار الإسلام للوصف السابق لها، وهذا النوع من الدور يمكن أن يطبق على البلدان التي تقيم فيها الأقليات الإسلامية، مثل الدول الغربية التي يعيش فيها مجموعات من المسلمين لا يشكلون أغلبية.

وفي هذه الحالة فإن تطبيق هذا التقسيم يلزمهم بالتعامل مع هذه الدول معاملة إسلامية من حيث الالتزام بالقوانين والأنظمة وعدم مخالفتها مع احتفاظهم بشخصيتهم الدينية، إن هذا التقسيم يخرج المسلمين في الغرب والدول الأخرى التي يشكلون فيها أقلية من العزلة التي فرضت عليهم بسبب تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، إذ أنهم بسبب ذلك يعيشون حالة من الاضطراب فهم يعيشون في دول ومجتمعات توصف بأنها مجتمعات غير إسلامية ، كما أنها لا تمنعهم من ممارسة حقوقهم سواء كانوا من مواطنيها أو من المهاجرين المقيمين فيها، إن هذا التقسيم دفع ببعض المسلمين إلى استغلال حالة الاضطراب، واختاروا وصف (دار الحرب) على البلدان التي تقيم فيها الأقليات الإسلامية مما يعني ممارسة أحكام دار الحرب، من استخدام للعنف والقتل والتدمير، وهذا ما حدث في بعض البلدان الغربية ودفع بالمسلمين –هناك- إلى ساحة المواجهة مع مجتمعاتهم أو العزلة عنها بل –هذا الفعل- أساء للإسلام والمسلمين بصفة عامة، إن دراسة وافية لهذه المصطلح الجديد (دار الإسلام حكماً لا حقيقة) تشكل بداية لمشروعية الوجود الإسلامي في الغرب، وحل لمشكلة الانتماء والهوية لدى المسلمين الغربيين الذين تتنازعهم هوية الانتماء الجغرافي لأوطانهم وهوية الانتماء الديني لإسلامهم.

وإلى جانب الأقليات يمكن تطبيق هذا التقسيم على البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة القوى الاستعمارية أو الاحتلال المباشر وتكون السيادة فيها لغير المسلمين وهي الأراضي التي يطلق عليها الفقهاء مصطلح (دار الاسترداد) أي أنها تفقد صفة دار الإسلام بصفة مؤقتة ويعمل المسلمون على استردادها فمثل هذه الديار يمكن أن تطبق عليها أحكام (دار الإسلام حكماً لا حقيقة) ومثل ذلك أيضاً المناطق التي تسيطر عليها القوى الخارجة على النظام السياسي أو ما يسميه الفقهاء بـ (البغاة) وما يصطلح عليه حالياً بالقوى الانفصالية التي تفرض سيطرتها على تلك المناطق وتطبق فيها أنظمتها وقوانينها في محاولة للانفصال غير المشروع عن الدولة الأم، إن مثل هذه الحالات يمكن أن يطبق عليها أحكام (دار الإسلام حكماً لا حقيقة).

ولعل سائل يسأل: ما أهمية هذا التقسيم ونحن نعيش في عالم تداخلت فيه الأنظمة والقوى ولم يعد هناك فرق كبير بين أقسام العالم؟

والإجابة على ذلك تعيدنا إلى القول بأن هذا التقسيم تترتب عليه أحكام لدى المسلمين فهمها بعضهم فهماً خاطئاً يتطلب تحديها ووصفها الوصف الشرعي الصحيح حتى لا ينحرف فيها الفهم وتختل الموازين ويبرز من يبرر تطبيق أحكام لم تشرع أصلاً لمثل تلك الحالات، فيطبق أحكام خاصة بوقت الحرب على المجتمعات الإسلامية أو المجتمعات الأخرى التي ليست بدار حرب وليس بينها وبين المسلمين حرب بل يجد فيها المسلمون أمنهم وأمانهم ومثل هذه الدعوات برزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين تم تقسيم العالم إلى (فسطاطين) فسطاط الحق وفسطاط الباطل، وأن على المسلمين أن يختاروا بين الفريقين، وترتب ذلك أحكاماً أباحت دماء الغربيين كافة بزعم أنهم جميعاً (صليبيين) أعداء للإسلام!! وأن قتلهم واجب سواء من حارب منهم أم لم يحارب!! بل تم توجيه المسلمين في الغرب إلى (التمايز) عن (الكفار) في السكن والعمل والعلاقة حتى لا يصيبهم ما يصيب (الكفار) من القتل والجرح والأذى.

مثل هذه الدعوات لقيت صدى عند بعض المسلمين الذين ساءهم ما يلقون من ظلم واضطهاد في أماكن كثيرة، مثل فلسطين وغيرها من البلاد الإسلامية، واستجاب لدعوات العنف والقتل والتدمير.

إن الموقف ناشئ عن فهم خاطيء للأحكام الشرعية، ولا بد من الرجوع إلى مصادر هذه الأحكام والتيقن منها والحرص الشديد على عدم الاستجابة لدعوات تعطي جانباً من الحكم وتغفل جوانب كثيرة.

إن هذا الالتزام نابع من حرص المسلم على أن يعمل بالإسلام وأحكامه كما شرعها الله سبحانه وتعالى وأن لا يتبع هواه أو أهواء الأخرين، كما أن التزامه ليس ردة فعل، لعمل الأخرين فهو لا ينظر إلى تقسيم العالم إلى (محور الشر) و(محور الخير) ولا يكون موقفه من الأخر قائم على أن (من ليس معنا فهو ضدنا)، بل ينطلق موقفه من الحكم الشرعي القائم على الدليل.

إن مثل هذه الآراء وغيرها تدفع بالمسلمين إلى الاجتهاد مرة أخرى في رؤيتهم للعالم وما قام عليه التقسيم القديم (دار الإسلام) و(دار الحرب)، بل تعيد النظر في التقسيم ذاته ومدى ملائمته للواقع المعاصر للمسلمين ولغيرهم من الشعوب.

“إن فاعلية هذا التقسيم (دار الإسلام ودار الحرب) حتى هذا الزمن غير مانعة من مراجعته وإعادة النظر فيه، من غير أن يحسب البعض أن ذلك انتهاكاً لحكم شرعي، فتغير البيئة الدولية وبروز متغيرات في النظام الدولي تتطلب جملة من العناصر الدافعة إلى المراجعة المنهجية، وتشير إلى مبررات حاسمة قد تدفع إلى ضرورة البحث في عناصر قسمة جديدة تستلهم عناصر “الواقع” وأصول الشريعة. لا شك أن بروز الدول القومية والمسألة الشرقية وانيهار الدولة العثمانية والخلافة التي ارتبطت بها، وتبدل عناصر ومفاصل حاسمة تفرض (قسمة جديدة) والتفكير بها تفكيراً منهاجياً عميقاً.

“إن التقسيم الدولي للمعمورة ليس كما يتصور تقسيم حدود ولكنه أعمق من ذلك وأوسع، فربما تكون فكرة الحدود أحد عناصره، ولكن تظل النقطة الجوهرية فيه هو أنه يشير إلى تصورات (أوصاف) وحالات (علاقات) وممألآ (تغيرات)، ومن ثم يجب إعادة النظر في هذه الرؤية ضمن رؤى خاصة بالنظام الاقتصادي الدولي، وعمليات الاعتماد المتبادل، ورؤى التبعية ومسالك الاستعمار الجديد، والمنظمات الدولية غير الحكومية وتغير مفهوم الحدود والدولة القومية والسيادة، وبزوغ مفاهيم مساندة لفكرة الكونية والعالمية، من المواطنة العالمية، والتعليم من أجل السلام، ومؤتمرات دولية النشاط والرؤى : السكان –التنمية الاجتماعية- المدن، والمجتمع المدني–والتدخل الدولي لحقوق الإنسان، وثورة المعلومات وسلطة المعرفة”(74).

إن الفهم الصحيح لمصطلحي دار الإسلام ودار الحرب، وإنزالها منزلتها الحقيقية في الواقع يحقق للمسلمين حضورهم المعاصر ويجنبهم كثيراً من المشكلات.

وبغير هذا سيتم توظيف مصطلحا دار الإسلام ودار الحرب لتطبيق أحكام خاصة بظروف وحالات معينة على جميع الحالات، إذ أن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب يترتب عليه بعض الأحكام التي ذكر الفقهاء كثيراً منها ، مثل العقود التي يعقدها المسلمون مع غيرهم في دار الحرب وهي يجب على المسلم الوفاء بها أم لا؟ أو العقود الفاسدة التي يعقدها (الحربيين) في دار الإسلام كالتعامل بالربا وغيره..

وكذلك إقامة المسلم في دار الحرب وإقامة غير المسلم في دار الإسلام ، ومدى التزام كل طرف بالحقوق الواجبة عليه نحو الأخر كالدين والوكالة والكفالة وغيرها، والعقوبات التي يجب تطبيقها على غير المسلم (الحربي) في دار الإسلام وكذا العقوبات التي يلتزم بها المسلم في دار الحرب وهل يجب على المسلم التقاضي في دار الحرب والموقف من أحكام القاضي الذي يوليه غير المسلمين في حالة ضعفهم وخضوعهم لغير المسلمين، وغير ذلك من الأحكام التي بنى عليها بعض المسلمين اليوم رؤيتهم للآخرين فأفتوا بحل دماء وأموال غير المسلمين واستباحوا سرقة أموالهم وهتك أعراضهم وقتلهم على الرغم من أنهم مواطنون في بلاد المسلمين وهم “أهل ذمة” كما يطلق عليهم في الشريعة الإسلامية.

وامتد الأمر إلى البلاد غير الإسلامية التي يعيش فيها مسلمون ويمارسون حياتهم وعقائدهم وعباداتهم دون تدخل من تلك الدول أو قمع فأباحوا التهرب من دفع الضرائب باعتبارها “مكوساً” في دار الحرب، والامتناع عن كل التزام مالي تجاه الدولة أو الخدمات التي توفرها لهم برسوم مالية، كما أباحوا الاستفادة من العقود المحرمة مثل التعامل بالربا وبيع الخمور ولحم الخنزير وغيرها من المعاملات بحجة أنهم في دار حرب، وامتد هذا الفهم إلى طريقة التعامل مع مواطنين تلك الدول فأفتوا لأنفسهم بحل دمائهم لأن حكوماتهم ليست حكومات إسلامية وأن بعضها يحتل بعض بلاد المسلمين أو أن تلك الحكومات تعين “إسرائيل” أو غير ذلك من الأسباب فأفتوا بإباحة دماء سكان تلك البلاد بزعم أنهم شركاء مع حكوماتهم في تلك الجرائم على الرغم من أن كثيراً من مواطني تلك الدول لا يقبل بسياسة حكومته ويعارض مواقفها ضد المسلمين وكثيراً ما خرج مواطنوا تلك الدول في مظاهرات ومسيرات وكتبوا وتحدثوا عن معارضتهم لما تقوم به حكوماتهم .. ومع ذلك فقد اعتبرهم بعض المسلمين (حربيين) تنطبق عليهم أحكام الحربيين .

إن اجتهاداً جديداً لطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم سيعيد هذه العلاقة إلى أصولها الشرعية وسيحقق رسالة الإسلام في الوصول إلى الناس ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجعل للمسلمين حضوراً إنسانيا وعالمياً واضحاً في العلاقات الإنسانية الدولية، إن ذلك لا يعني أن يذوب المسلمون في غيرهم أو يكونوا تبعاً لهم أو يغيروا من معتقداتهم وعباداتهم وأخلاقهم بل يعني أن ينقل المسلمون رسالتهم إلى الناس كافة تنفيذاً لقوله تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(75).

سادساً: الأمة والدولة:

إذ إن فكرة تقسيم العالم إلى دارين أو ثلاث فكرة يصعب اعتمادها طريقة وحيدة للتعامل مع العالم، فإن تطبيقها يخالف واقع المسلمين، إذ أن هذا التقسيم قام على وحدة الأمة ووحدة الدولة، أي أن المسلمين كانوا يعيشون في دولة واحدة تمثل أمة واحدة تعبر هذه الأمة أو الدولة عن حالة واحدة يعيشها المسلمون في كافة أرجائها ، فحتى في فترات ضعف الدولة (الأمة) وقيام كيانات شبه مستقلة داخل هذه الدولة، لم تكن هذه الكيانات تعبر عن حالة جديدة، أو دولة أو أمة جديدة، بل كانت تعبر عن موقف يتخذه حاكم أو حكام هذه الأقاليم التي اصطلح عليها تاريخياً بالدول لكنها في واقع الحال كانت تعتبر نفسها جزءً من الدولة (الأمة) وكان يعبر عنها بمواقف عدة أبرزها الدعاء (لخليفة المسلين) الحاكم العام في تلك المرحلة باعتباره ممثلاً للدولة (الأمة) ولم تكن هذه الأقاليم أو الدول شبه المستقلة داخل الدولة الإسلامية الواحدة تمارس دوراً سيادياً أو تعبر عن حالة منفصلة لدولة ذات شخصية قانونية مستقلة.

ولعل مما يشير إلى هذا المفهوم (الدولة-الأمة) أن الانتماء إلى الدين (الإسلامي) كان يمثل جنسية الأشخاص المنتسبين لهذه الدولة، فلم يكن هناك جنسية مرتبطة بالإقليم وإنما كانت الجنسية مرتبطة بدين الدولة حتى عند غير المسلمين من رعايا الدولة الإسلامية فإن تسميتهم بـ(أهل الذمة) وهو مصطلح ديني إسلامي كان يعبر عن جنسيتهم أو انتمائهم إلى الدولة الإسلامية لأن غيرهم كانوا يحملون صفة أخرى مثل المستأمنين أو المحاربين أو المعاهدين وكانوا ينسبون إلى أقاليمهم.

لكن نظرة إلى الواقع تشير إلى غياب مفهوم (الدولة-الأمة) إذ انفصل المصطلحين ليغطيا دلالات متعددة فمفهوم الأمة الإسلامية المعاصر لا يدل على وحدة الدولة وإنما هو رباط يقوم على أساس الدين ويجمع دولاً مختلفة ذات سيادة تلتقي في مصالحها أحياناً مع غيرها من الدول الإسلامية وتختلف في مواضع أخرى بل يصل الخلاف أحياناً إلى الحرب والاقتتال مثلما حدث بين إيران والعراق ما بين 1980 – 1988م، والحرب التي دارت بين باكستان وبنغلاديش (والتي كانت تسمى باكستان الشرقية قديماً) وذلك عام 1971م، وغيرها من الحروب والصراعات التي نشبت بين الدول الإسلامية، ولعل الصورة التي تعبر عن تجمع المسلمين ودولهم تمثلت في قيام منظمة هي منظمة المؤتمر الإسلامي التي تجمع معظم الدول الإسلامية، لكن المنظمة لا تمثل (الأمة) بمفهومها السياسي والسيادي، بل تمثل نقطة التقاء بين المسلمين شأنها شأن المنظمات الدولية الأخرى.

والواقع أن الخلاف بين مفهوم وحدة الأمة والدولة أو افتراقها يرتبط بالتاريخ والسيرورة العملية لحياة المسلمين أكثر من ارتباطه بالنصوص القطعية، إذ أن ورود النصوص الشرعية بوحدة الأمة كقوله تعالى: “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(76).

يمكن أن يستدل به كلا المعنيين، أي أن الأمة والدولة هما شيء واحد، وأن الأمة بمعناها الواسع الذي يفيد الانتماء إلى الدين وليس الإقليم، والفيصل في كلا الأمرين هو التطبيق العملي لهذا المفهوم والإسلامي لا يمنع أو ينفي قيام الدولة على أساس مفهوم الأمة الواحدة وإن اختلفت مكوناتها الجغرافية والبشرية ، بل يطلب ذلك ويعمل له، و التاريخ المعاصر شاهد على قيام الأمة ـ الدولة ـ فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا والهند والصين وروسيا، وكلها أرضا شاسعة مترامية الأطراف متعددة الأجناس والديانات ومختلفة الأقاليم، و مع ذلك فيه دولة واحدة ، وإن اختلف تكوينها السياسي بين الدولة الموحدة ( الصين ـ مثلاً) ، والدولة الإتحادية ( الولايات المتحدة الأمريكية ـ مثلاً )، أي أن القول بالدولة الأمة، أو الدولة الواسعة أمر واقعي، لكن ذلك أيضاً لا يمنع من قيام الدول المتعددة ذات الانتماء إلى الأمة الواحدة ( الاتحاد الأوروبي ـ نموذجاً) وكما هو الحال بالنسبة للدول الإسلامية اليوم والقول ، إن القول بوجوب وحدة الأمة الإسلامية في دولة واحدة يعني عدم مشروعية الدول الإسلامية القائمة حالياً، وهذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء المعاصرين لأن القول بعدم المشروعية يترتب عليه أحكام كثيرة، وهذا ما وقع فيه بعض أبناء الإسلام حين اعتمدوا أساليب العنف والتشدد والتطرف انطلاقاً من عدم مشروعية الواقع القائم البلدان المسلين وقد أدى هذا الخلل إلى شيوع مصطلحات كثيرة كالتكفير ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام أو جماعة المسلمين التي يسعى هؤلاء لإقامتها، أو إلى التجمعات التي أقاموها وأعطوها حكم دار الإسلام ووصفوا غيرها بدار الكفر أو الحرب أو الردة.

ولقد بحث عدد من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين حالة تعدد الدول الإسلامية مع انتمائها إلى أمة الإسلام، فهذا إمام الحرمين “الجويني” يقول: (.. والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقيع واحد متضايق الخطط والمخالف (أي متقارب المسافات والحدود) غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى (أي تباعدت المسافات بين البلدان) فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع)(77) .

يقول الشيخ “محمد أبو زهرة”: “لا يمكن في هذا العصر أن تتكون حكومة إسلامية واحدة، بل لكل إقليم دولته، وتلتقي جميعها على كلمة من الله تعالى: تنشر التعاون بين الناس، وتربط العلاقات على أسس من الوحدة الإنسانية العامة، ويكون المسلمون فيها دعاة حق يتحد اقتصادهم وتتحد سياستهم وتتحد أو تتقارب جيوشهم، وكل إقليم له رئيسه المختار اختياراً حراً من شعبه من غير أن تكون له موالاة لغير المسلمين(78) .

ويقول الدكتور. “محمد طلعت الغنيمي”: “إن الدولة الإسلامية الواحدة من قبيل المندوب في الإسلام وليس من قبيل الواجبات، إن الذي يأمر به الإسلام هو الأخوة بين المسلمين، والأخوة لا تستدعي حتماً ولزاماً الوحدة، ومن ثم فإن نوعاً من الرابطة التي تقوم على التآخي والود والمحبة هو الذي يربط بين الدول الإسلامية وذلك هو الفرض على الدول الإسلامية، أما ما يتجاوز ذلك إلى رابطة أقوى فهو من الأمور التي ندب إليها المسلمون”(79) .

ويقول الأستاذ “عبد القادر عوده” ـ رحمه الله ـ : “قد يظن البعض أن هذا يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة، والبلاد الأجنبية كلها تحت حكم دولة واحدة وهو ظن لا أساس له من الواقع، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أسس أن تكون البلاد الإسلامية محكومة بحكومة واحدة، وإنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام، والإسلام يقتضي أن يكون المسلمون في كل بقاع الأرض يد واحدة، يتجهون اتجاهاً واحدة وتسوسهم سياسة واحدة وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي تحقق الإسلام، لأن هذه الأهداف يمكن أن تحقق مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت هذه الدول تتجه اتجاهاً واحداً، وتسير على سياسة واحدة، ولا يتنافى هذا مع النظام القائم الآن في البلاد العربية بعد قيام جامعة الدول العربية التي تعمل على توحيد الاتجاهات والسياسات في الدول العربية المختلفة.

ولا يتنافى مع قيام جامعة إسلامية تتكون من كل الدول الإسلامية وتشرف عليها وتعمل على توحيد أغراضها واتجاهاتها، وعلى حل ما يثور فيها من نزاع داخلي، ولا يتنافى الإسلام مع أي نظام آخر ما دام هذا النظام يحقق الأهداف الإسلامية، وأن هذه الأهداف هي أن يكون المسلمون يداً واحدة على من عاداهم، وأن يكون اتجاههم واحد وسياستهم واحدة”(80) .

ولعل النموذج الأوروبي في التوحد من خلال الاتحاد الأوروبي يمثل صورة يمكن القياس عليها حيث احتفظت الدول بسيادتها وشخصيتها القانونية في ظل سياسة عامة متقاربة أحياناً ومتطابقة أحياناً في القضايا الداخلية والخارجية مع احتفاظ كل دولة بهامش من الحرية في اتخاذ القرارات والأنظمة والقوانين الخاصة بها، ويمكن أن تكون للعرب أو المسلمين تجربتهم الخاصة بهم لتحقيق صورة من صور التوحد في السياسات والمواقف مع احتفاظ كل إقليم بسيادته وشخصيته القانونية، وهنا يأتي دور المؤسسات المشتركة التي تصبح محور رسم السياسة العامة لهذه الصورة من العلاقة بين الدول والمجتمعات الإسلامية، أما أن يتم القفز على الواقع أو تجاهله أو إطلاق الأحكام العامة بعدم مشروعية الواقع باعتباره يخالف ما سار عليه المسلمون خلال مرحلة تاريخية حين كانت ألأمة والدولة متحدتان ، فإن ذلك لن يعالج واقع المسلمين ولن يحل مشكلاتهم بل يمكن أن نقول أنه يخالف ما قام عليه الإسلام من التعددية والتنوع في ظل الوحدة الدينية والفكرية.

الخاتمة و التوصيات :

  1. إن النظام السياسي الإسلامي لم يحظ بالبحث والدراسة كبقية جوانب الفقه الإسلامي ، و لذا لا بد من الاهتمام بدراسة هذا النظام و بيان الجوانب المختلفة فيه ، خاصة تلك القضايا المرتبطة بتغيرات العصر و التي تحتاج إلى بحث و اجتهاد جديدين .
  2. لقد ارتبط النظام السياسي الإسلامي في دراسته و البحث فيه بالتاريخ أكثر من ارتباطه بالقواعد و النصوص الشرعية ، فمن ألأهمية أن يعاد النظر في كثير من القضايا التاريخية و دراستها في ضوء تلك القواعد و النصوص ، حتى لا يتم بناء أحكام فقهية استناداً إلى وقائع تاريخية محددة.
  3. ليست هناك صورة محددة للنظام الإسلامي يجب الالتزام بها و العمل على تطبيقها ، و لذا فإن البحث يجب أن يتجه إلى مقاصد النظام السياسي و ليس إلى صورته ، و لا بد من تجاوز الخلاف حول وجوب إقامة الخلافة إلى وجوب إقامة النظام السياسي الإسلامي .
  4. هناك من القضايا المهمة في السياسة الشرعية أو النظام السياسي الإسلامي تحتاج إلى إعادة بحث و دراسة ، و من ذلك فكرة تقسيم العالم إلى دارين ، و كذلك وجوب وحدة الأمة و الدولة الإسلامية ، فمثل هاتين القضيتين لا بد لهما من اجتهاد جديد .
  5. مقارنة النظام السياسي الإسلامي بالأنظمة الأخرى يجب أن لا تكون من خلال المقاييس و القوالب و الأدوات وفق المناهج القائمة على الفكر الغربي ، بل لا بد من وجود مقاييس جديدة تقوم على مقارنة الأهداف و الغايات لا الصور و الأشكال ، حتى يمكن إعطاء حكم صحيح على مقارنة النظام السياسي الإسلامي بغيره .
  6. النظام السياسي الإسلامي له مواصفات خاصة قائمة على الأصول الشرعية و مستمدة من المفاهيم و القيم الإسلامية ، و لذلك لابد من إبراز هذا النظام بصيغته المستقلة و ليس باعتباره صورة للنظم الأخرى .
  7. ليس هناك ما يمنع ـ شرعاً ـ من الأخذ بالأساليب الحديثة في أنظمة الحكم كوجود الدساتير المكتوبة و المؤسسات الدستورية و الإجراءات التطبيقية كالترشيح و الانتخاب و غيرها من الصور الحديثة ، ما دامت موافقة للقواعد العامة في الإسلام .
  8. إن اختلاط المصطلحات و المفاهيم قد أوجد حرجاً و مشكلات كثيرة في المجتمعات الإسلامية ، فلابد من دراسة هذه المصطلحات مثل “الحاكمية” و “السيادة” و “سلطة الأمة” و غيرها من المصطلحات في ضوء النصوص الشرعية و التطبيق العلمي لها حتى لا يساء استخدامها .
  9. لقد تعددت الجهود الإسلامية في العصور المتأخرة لإبراز الجانب السياسي في الإسلام ، لكن هذه الجهود و الدراسات موزعة في مراكز البحث و و الجامعات و غيرها ، و لذا فإن تضافر الجهود من أجل التعاون بينها يعتبر خطوة مهمة تستدعي إقامة مركز يعنى بدراسات النظام السياسي الإسلامي ، أو تكليف أحد المراكز القائمة حالياً بتولي مهمة التنسيق و جمع الأعمال المتعلقة بذلك بحيث يصبح مرجعا للباحثين و الدارسين لهذا النظام.
  10. إن تعدد الدراسات و البحوث و الكتابات في الشأن السياسي الإسلامي ـ خلال العقود المتأخرة ـ قد أبرز هذا الجانب ، إلا أن ذلك لم يتبلور في مشروع متكامل ، و لذا فإن من المهم وجود مشروع للنظام السياسي الإسلامي يدرس كافة التفاصيل المتعلقة به ، دراسة شرعية تأصيلية ، كما يدرسها على ضوء الواقع المعاصر ، مع الاهتمام بالجوانب التطبيقية منها حتى يكون ـ المشروع ـ شاملاً و قابلاً للتطبيق .

و الله الموفق،،،

 الهوامش:

  1. من فقه الدولة في الإسلام – د. يوسف القرضاوي ص 7.
  2. سورة البقرة ـ الاية 85 .
  3. انظر: 1- من فقه الدولة – د. يوسف القرضاوي.

                    2- في الفقه السياسي ـ فريد عبدالخالق .

                    3- الإسلام و الدولة  ـ القطب محمد طبليه .

                    4- دراسة في منهج الإسلام السياسي ـ سعدي أبوجيب

                    5- الدولة القانونية و النظام السياسي ألإسلامي ـ منير حميد البياتي .

                   6-  رياسة الدولة في الإسلام ـ د. محمد رأفت عثمان .

                  7-   النظام السياسي للدولة الإسلامية ـ د.محمد سليم العوا .

وغيرهم من الباحثين …..

  1. الاقتصاد في معرفة الأعتقاد ـ أبو حامد الغزالي ص113 .
  2. الأحكام السلطانية ـ الماوردي ص171 .
  3. السياسة الشرعية ـ ابن تيمية ص169 .
  4. تهذيب الرياسة وترتيب السياسة ـ أبي علي القلعي ص74 .
  5. مقدمة أبن خلدون ـ الفصل الخامس .
  6. فقه الخلافة وتطورها ـ دز عبدالرزاق السنهوري ص46 .
  7. سورة الشورى ـ الآية 38 .
  8. سورة آل عمران ـ الآية 159 .
  9. سورة النساء ـ الآية 58 .
  10. سورة المائدة ـ الآية 1 .
  11. سورة المائدة ـ الاية 2 .
  12. انظر: ألأشباه و النظائر ـ أبن نجيم .
  13. المدخل الفقهي العام . د . مصطفى الزرقا ص633 .
  14. الموافقات ـ للشاطبي ج4 ص 155.
  15. المستصفى ـ ألأمام الغزالي ج2 ص354 .
  16. مجموعة فتاوى ابن تيمية ـ ج 35 ص395
  17. الروح ـ ابن القيم ص 276 .
  18. الغياثي ـ أمام الحرمين الجوبني ـ ص61 .
  19. فقه الخلافة ـ السنهوري ص66 .
  20. المرجع السابق ص16 .
  21. منهاج ألإسلام ـ محمد أسد ص54
  22. النظريات السياسية في ألإسلام ـ محمد ضياء الدين الريس ض210 .
  23. النظام السياسي في ألإسلام – د. محمد سليم العوا ص106.
  24. السلطة في الإسلام ـ عبدالجواد ياسين ص20 .
  25. سورة النور ـ الآية 55 .
  26. تفسير ابن كثير .
  27. تفسير الطبري .
  28. مسند الإمام أحمد بن حنبل .
  29. سنن أبي داود .
  30. عون المعبود شرح سنن أبي داود .
  31. كنز العمال ج6 ص4 .
  32. المرجع السابق .
  33. منهاج السنة النبوية ـ ابن تيمية ج1 ص232 .
  34. مسند الإمام أحمد .
  35. سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ج8 ص67 .
  36. العقد الفريد ـ ابن عبدربه ج2 ص179
  37. سورة النساء ـ الآية 59 .
  38. تفسير القرطبي .
  39. تفسير الطبري .
  40. فتح القدير .
  41. مسند الإمام أحمد بن حنبل .
  42. غزوة بدر الكبرى ـ محمد أحمد باشميل ص145.
  43. سنن ابن ماجة.
  44. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة ـ محمد حميدالله ص44.
  45. المصدر السابق ص 45.
  46. الإسلام و النصرانية ـ الشيخ محمد عبده ص71 .
  47. الخلافة ـ الشيخ محمد رشيد رضا ص9.
  48. من فقه الدولة في ألإسلام ـ د. يوسف القرضاوي ص30 .
  49. انظر النظم السياسية ـ د. ثروت بدوي ص139 ، والقانون الدستوري و ألأنظمة السياسية ـ د. عبدالحميد متولي ص163 .
  50. الإحكام في أصول الأحكام ـ الآمدي ج1 ص113 .
  51. المستصفى ـ الإمام الغزالي 83 .
  52. الأبعاد السياية لمفهوم الحاكمية ـ هشام أحمد عوض جعفر ( المقدمة ـ د. طه جابر العلواني ) ص29 .
  53. لمزيد من التفصيل : انظر المرجع السابق.
  54. السلطات الثلاث في الإسلام ـ الشيخ عبدالوهاب خلاّف ـ نقلاً عن: نظام الدولة والقضاء و العرف في الإسلام ـ سمير عالية ص48 .
  55. فقه الخلافة وتطورها ـ السنهوري ص56 .
  56. تفسير المنار ـ الشيخ رشيد رضا ج5 ص 181 .
  57. من فقه الدولة في ألإسلام ـ د. يوسف القرضاوي ص 38 .
  58. أحكام أهل الذمة- ابن القيم الجوزية- ص366.
  59. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع- للكاساني- ج7- ص130.
  60. فتح العزيز- شرح الوجيز- للدافعي- ج8- ص14.
  61. مصنفه النظم الإسلامية- مصطفى كمال وصفي- ص286.
  62. انظر: حاشية ابن عابدين- ج4- ص175- وبدائع الصنائع للكاساني- ج7- ص130- وآثار الحرب للزحيلي ص170- والعلاقات الدولية في الإسلام- محمد أبو زهرة- ص53.
  63. انظر: المقنع- لابن قدامه ج1- ص415، والفتاوي الكبرى- ج4- ص331.
  64. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – للكاساني- ج7 – ص130.
  65. أحكام أهل الذمة- ابن قيم الجوزية – ج2- ص366.
  66. انظر: بدائع الصنائع- للكاساني- ج7- ص131، وحاشية ابن عابدين- ج2- ص175، والفتاوى الهندية- ج2- ص232
  67. انظر: موسوعة الفقه الإسلامي- د. فؤاد النادي- ص154.
  68. انظر: آثار الحرب- وهبة الزحيلي- ص167- والعلاقات الدولية في الإسلام- محمد أبو زهرة: ص51.
  69. آثار الحرب في افقه الإسلامي- وهبة الزحيلي ص196.
  70. انظر : العلاقات الدولية في الإسلام – مدخل القيم- ج2- د. سيف عبد الفتاح- ص 372.
  71. المرجع السابق ص364 .
  72. سورة سبأ- الآية 28.
  73. سورة الأنبياء- الآية (92).
  74. كتاب الإرشاد في قواطع الاعتقاد- إمام الحرمين الجويني- ص425.
  75. المجتمع الإنساني في ظل الإسلام- الشيخ محمد أبو زهرة- ص120.
  76. الأحكام العامة في قانون الأمم- محمد طلعت الغيمي- ص51.
  77. التشريع الجنائي الإسلامي- عبد القادر عوده- ج1- ص290.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق