البحوث

المعاملات المالية للمسلمين فى أوروبا

المعاملات المالية للمسلمين فى أوروبا

 

إعداد

الدكتور صهيب حسن

بحث مقدم

للدورة الثامنة عشرة للمجلس – دبلن

جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م

الفصل الأول

تعريفات للمال

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعدُ:

فقد وردت كلمة المال فى القرآن المجيد ستةً وثمانين مرّة وهى التى تساعدنا فى تحديد خصائص المال عقدياً وخلقياً وهذا هو موضوع الفصل الثانى، ولنتناول فى هذالفصل تعريفات للمال لغةً واصطلاحاً، يقول صاحب لسان العرب:

“المال معروف، ما ملكته من جميع الأشياء” (1)

وقال ابن الأثير: ” المال فى الأصل ما يملك من الذَّهب والفضَّة ثم اطلق على كل مايقتنى ويملك من الأعيان وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الابل لأنها كانت أكثر أموالهم”(2)

وقد عبر عنه الشاعر بقوله:

رأيت الناس قد مالوا                   إلى مـن عنده مـال

ومن لا عنــده مـــال                   فعنه الناس قد مالوا

ولنأخذ تعريفات المال عند الفقهاء:

المال عند الشامي: “المراد بالمال مايميل اليه الطبع ويمكن ادخّاره لوقت الحاجه والمالية يثبت بتمول الناس كافة أو لبعضهم”(3)

وذكر أيضاً: ” المال موجود يميل اليه الطبع ويجرى فيه البذل والمنع فانه يخرج بالموجود المنفعة” (4)

والقريب منه تعريف ابن نجيم حيث قال: “والمال فى اللغة ماملكته من شئ ٍ والجمع الأموال، كذا فى القاموس وفى الكشف الكبير : المال مايميل اليه الطبعُ  ويمكن ادخاره لوقت الحاجةً (5)

وزاد الكاسانى انه الشئ الذى يمكن الانتفاع به حقيقة وشرعاً فقال عند ايراده دليلاً على جواز بيع الكلب: ولنا ان الكلب مال فكان محلاً لبيع كالصقرو البازى والدليل على انه مال انه منتفع به حقيقةً  مباح الانتفاع به شرعاً على الاطلاق فكان مالا ولاشك انه منتفعٌ به حقيقةً،  والدليل على انه مباح الانتفاع به شرعاً على الإطلاق ان الانتفاع به بجهة الحراسة والاصطياد مطلقاً شرعاً فى الأموال كلها فكان محلاً للبيعً (6)

 ويؤخذ من هذه التعريفات لدى الأحناف المعالم التالية للمال:

  1. مافيه ميلان للطبع
  2. مايجرى فيه البذل والمنع
  3. هوعين حيث يمكن ادّخاره،
  4. لابدّ من وجوده،
  5. يكون قابلا للإتتفاع شرعاً،

وهل المنافع تدخل فى تعريف المال أم لا؟

إضطرب قول الحنفية فى هذا الموضوع فعند “الشامي” لابدّ أن يكون المال عيناً لما ذكر سابقاً.

ولكن اعتبرت المنفعة مالاً عند محمد من أصحاب أبى حنيفة فقد أقرَّ خدمةَ الرجل للمرأة- إذا اشترطت مقابل المهر- وافتىَ بجواز ذالك مهراً، قال صاحب الهداية:

” ثمَّ على قول محمد تجب قيمة الخدمة لأنَّ المسمَّى مالَّ إلا انه عجز عن التسليم لمكان المناقضة ” (7)

وابن نجيم يرى هذا الرأى ايضاً: “لو تزوجها على منافع سائر الأعيان فى سكنى داره وخدمة عبده وركوب دابته والعمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذالك فى منافع الأعيان مدّه معلومة صحّت التسمية لأن هذه المنافع اموالٌ أو ألحقت بالأموال (8)

وبما انه ليس هناك خلافٌ بين الفقهاء حول كون المال عيناً، نكتفى بايراد أقوال فقهاء المذاهب الأخرى بإجتصار وخاصةً حول رأيهم فى المنفعة بالذات:-

فعند المالكية، قال الشاطبي: “المال ما يقع عليه الملك ويستبدّ به المالك” (9)

وجاز عند ابن القاسم كون المنفعة مهراً وان كان مكروهاً عند الآخرين:

قال الجزائرى: إن المنافع من تعليم القرآن ونحوه أوسكنى الدار أو خدمة ففيها خلاف، قال مالك: انها لا تصلح مهراً ابتداءً ان يُسميها مهراً وقال ابن القاسم: تصلح مهراً مع الكراهة وبعض ائمة المالكية يجيزها بلاكراهة……..

ولكن إذا سمّى شخصً منفعةً من هذه المنافع مهراً فإن العقد يصحّ على المعتمد ويثبت للمرأة المنفعة التى سميّت لها وهذا هو المشهور، (10)

أمّا عند الشافعية: قال السيوطي: “قال الامام الشافعى رضى الله عنه لايقع اسم مال الاّ على ماله قيمة يُباع بها ويلزم متلفه وان قلت ومالا يطرحه الناسُ مثل الفلس وما أشبه ذالك” (11)

وقال ابن القاسم الغزى فى تعريف البيع: ” فأحسن ماقيل فى تعريفة انه تمليك عين مالية بمعاوضةٍ بإذن شرعىٍ أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمنٍ مالى” (12)

وقال البيضاوى: “البيع تمليك عين أو منفعة على التأبيد بعوضٍ مالى” (13)

ودَّلنا تعريف السيوطى على شيئ هامّ وهو اعتبار العُرف فى تعريف المال فكم من اشياء اعتبرت تافهةً غير متقومة عند القدامى ولكنها صارت مالاً يباع ويشترى فى الأزمتة الأخرى كالتراب والرَّمُل.

أمّا عند الحنابلة، فقال ابن قدامة: “إن المال ما فيه منفعة مباحة لغير حاجة أو ضرورةٍ كعقار وجمل ودود القزّ وديدان الصَّيد كالحشرات ومافيه نفع محرّم كالخمر وما لا يباحُ إلا لضرورةٍ كالمبتةَ وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجةٍ فليس مالاً” (14)

وقال منصور بن يونس البهوتى الحنبلى: (وهو) أى المال شرعاً مايباح نفعه مطلقاً أى فى كل الأحوال فخرج ما لانفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كخمر وما لا يباح إلا عند الاضطرار كالميتة (كبغل وحمار) لانتفاع الناس بهما وتبيعهما فى كل عصر من غير نكير. (15)

وقد اعتبر ابن تيمية العرف فى كون الشيئ متقوماً حتى يكون صالحاً للبيع وقال فى معرض حديثه عن البيع:

فما عده الناس بيعاً فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وماعدوه هبة فهو هبة وهذا أشبه بالكتاب والسنة واعدل فإن الاسماء منها ماله حد فى اللغة كالشمس والقمر ومنها ماله حد فى الشرع كالصلواة والحج ومنها ماليس له حد لا فى اللغة ولا في الشرع بل يرجع إلى العرف كالقبض ومعلوم أن اسم البيع والإجارة والهبة فى هذا الباب لم يحدها الشارع ولا لها حد في اللغة بل يتنوع ذالك بحسب عادات الناس وعرفهم فما عدوه بيعاً فهو بيعٌ وما عدوّه هبةً فهو هبةٌ وما عدوه اجارةً فهو إجارةً”.(16)

واذاً هناك ثلاثة عناصر مُهِمَّة لكون الشيئ مالاً متقوماً:

  1. يكون مباحاً شرعاً.
  2. يكون قابلاً للانتفاع.
  3. يعتبر مالاً عرفا وعادةً،

وبخصوص العرف لابدّ من قواعد وضوابط وقد ذكر ابن عابدين حولها مايلي:

اذا خالف العرف الدليل الشرعى فان خالفه من كل وجه بان لزم منه ترك النص فلا شك فى رده كتعارف الناس كثيرا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولبس الحرير والذهب وغير ذلك مما ورد تحريمه نصاً وان لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عاماً، والعرف خالفه في بعض أفراده أو كان الدليل قياساً فان العرف معتبر أن كان عاماً فإن العرف العام يصلح مخصصاً كما مر عن التحرير ويترك به القياس كما صرحوا به في مسئلة الاستصناع ودخول الحمام والشرب من السقاء، وإن كان العرف خاصاً فإنه لا يعتبر وهو المذهب.

ثمَّ قال: وتخصيص النص بالتعامل جائز الاترى انا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ماليس عنده وانه منهى عنه وتجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذى ورد فى النهى عن بيع ماليس عند الانسان لاترك النص اصلالانا عملنا بالنص فى غير الاستصناع..وبالتعامل لا يجوز ترك النص اصلا وانما يجوز تخصيصه. (17)

وليس هناك تلازم بين المال وجواز البيع، فقد يكون الشيئ مالاً ولكن لا يصح بيعهُ لعلة فى المبيع نفسه يوضحه قاعدة ما يجوز بيعهُ ومالا يجوز بيعُه كما جاء فى الفرق الخامس والثمانين والمئة من فروق القرآفى.

فقاعدةُ ما يجوزُ بيعهُ، مااجتمعَ فيه شروطٌ خمسةٌ، وقاعدةُ مالا يجوزُ بيعهُ، مافُقد منه أحدُ هذه الشروطِ الخمسةِ، فالشروطُ الخمسةُ هي الفرق بينهما، وهى:

الطهارةُ لقولِه عليه السلام في الصحيحين: ((إنَّ الله ورسوله حرَّم بيع الخمرِ والميتةِ والخنزير والأصنام)) فقيل له: يارسول الله، رأيتَ شحومَ الميتةِ فإنها يطلى بها السُّفُنُ، ويُستصبَحُ بها، فقال: لعن الله اليهودَ حُرَّمَت عليهم الشحومُ، فباعوها، وأكلوا أثمانها)).

الشرط الثاني: أن يكون مُنتفعاً به، ليصحَّ مقابلةُ الثمنٍ له.

الشرطُ الثالث: أن يكون مقدوراً على تسليمة حذراً من الطيرِ في الهواء، والسمكِ فى الماء ونحوهِما لنَهيه عليه السلام عن بيع الغرر.

الشرط الرابع: أن يكون معلوماً للمتعاقدين، لنهيه عليه السلام عن أكل المال بالباطل.

الشرطُ الخامس: أن يكون الثمنُ والمبيعُ مملوكين للعاقدِ والمعقودِ له، أو مَن أقيما مُقامه، فهذه شروطٌ في جوازِ البيع دون الصحَّة، لأنَّ بيعَ الفُضوليَّ وشِراءهُ محرَّمٌ، (18)

ونورد هُنا أخيراً كلامَ ابن عاشُور فى حقيقة المال فهو كلام نفيسٌ يلخَّص ما قاله العلماء القدامى بأسلوب جديد واضحٍ:

والأموال: جمع مال ونُعرَّفه بأنَّه ((ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس فى تناول الضروريات والحاجات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح))، فلا يعد الهواء مالا، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا، ولا التراب مالا، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالا، وبعد الماء المحتفر بالآبار مالا، وتراب المقاطع مالا، والحشيش والحطب مالا، وما ينحته المرء لنفسه فى جبل مالا.

والمال ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيئ وهو الأطمعة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه”

 قال تعالى: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) وقال:(لتركبوا منها ومنها تأكلون) وقدسمت العرب الإبل مالاً قال زهير: * صَحيِحاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخرم*

وقال عمر: (لولا المال الذى أحمل عليه فى سبيل الله ما حميتُ عليهم من بلادهم شبراً)، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأنَّ المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على إصطلاحات المنظمين، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفى وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفى الحديث (يقول ابنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت) فالحضر هنا للكال فى الاعتبار من حديث نفع المادي والنفع العرضي.

النوع الثاني: ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما بتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها والنار للطبخ والإذابة، والماء لسقى الأشجار، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك، وهذالنوع دون النوع الثانى لتوقفه على أشياء ربما كانت فى أيدى الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أوخوف أو وعورة طريق.

النوع الثالث: ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أوبالعملة، وأكثر اصطلاح البشر فى هذالنوع على معدنى الذهب والفضة وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالنحاس والوَدَعَ والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهى أوراق المصارف المالية المعروفة وهى حجج التزام من المصرف دفع مقدار ما بالورقة الصادره منه، وهذا لايتم اعتباره إلا فى أزمنة السلم والأمن وهو مع ذالك متقارب الأفراد، والأوراق التى تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.

وقولى فى التعريف: حاصلا بكدح، أردت به شأنه أن يكون بسعى فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذالك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والا كتساب له ثلاثه طرق.

الطريق الأول: طريق التناول من الأرض قال تعالى (( هوالذى خلق لكم ما فى الأرض جميعاً)) وقال (( هوالذى جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا فى منا كبها وكلوا من رزقه)) وهذاكالحطب والحشيش والصيد البرى والبحرى وثمر شجر البادية والعسل، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيلة بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة.

الطريق الثاني: الاستنتاج وذالك بالولاده والزرع والغرس والحلب، وبالصنعة كصنع الحديد والأوانى واللباس والسلاح.

الطريق الثالث: التناول من يد الغير فيما لا حاجة له إما بتعامل بأن يعطى المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ماقُدَّر بمقداره كدينار ودرهم فى شيئ مقوَّم بهما، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضى وعلى المياه. (19)

الفضل الثاني

الأبعاد العقدية للمال

 

جاء القرآن ليخرج الناس من الظلُمات الى النور ومن الضلال الى الهدُى ومن الجاهلية إلى العلم والتُقى، جاء ليُغيَّرَ المفاهيم السائدة عن الحياة الدنيا وما يتبعها من الحياة الآخرة، كان الناس فى الجاهلية جعلوالحياة الدنيا وزينتها وزُخرفها العناية القصوى لديهم حيث أنكروا البعث والقيام لدى رب العلمين، ” وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ “(الجاثية:24)

فكانوا يظنون أن بقاء الأمم وفناءها انما هو مرتبطٌ بمضّى الدَّهر مثل حياة الأشجار أوالحيوانات فإنَّها تصغف بكرَّ الدهور ومرَّ العُصُور فتؤل آخرَ الأمرإلى هلاك وفناء، بينما جاء القرآن يخبرهم أنَّ ارتقاء الأمم وزوالها مرتبط بأسباب خلقية إيمانية وكلما ابتعدت أُمَّةٌ من رسالة السماء وجوهر التوحيد ووقعت فى أحضان الوثنية والشرك نالها عقاب سماوى لم ينجُ منه إلاَّ المؤمنون المخلصون لدينهم وربهم، هكذا كانت نظرتهم الى الحياة الدنيا ومقوماتها الأساسية وهى المال والأولاد التى قرن ذكر بعضه ببعض فى عديد من آيات الكتاب، وما علينا إلاَّ أن نتصفَّح أوراق القرآن لندرك ما هو تصور القرآن للمال.

  1. المال-ومعه البنون-انما هو زينة الحياة الدنيا ونعمة من نعم الله تعالى ولكنه آئل إلى زوال،

قال تعالى: ” الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ” (الكهف:46)

يقول ابن عاشور فى تفسير الآية:

“اعتراض أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأنَّ مافيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو الازينة الحياة الدنيا التى علمتم أنَّها إلى زوالٍ كقوله تعالى: “لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ” (آل عمران:197) وأنَّ ما اعدّ الله للمؤمنين خيرٌ عندالله وخير أملاً، والاغتباط بالمال والبنين شنشنة معروفة فى العرب، قال طرفة:

فلو شاء ربى كنت قيس بن عاصم                        ولو شاء ربى كنت عمرو بن مرشد

فأصبحت ذا مـال كثير وطـاف بي                          بنـــون كـــرام ســـادة لمســــــــوّد

والباقيات الصالحات صفتان جرتاً على موصوف محذوف أى الأعمال الصالحات الباقيات أى لازوال لها أى لا زوال لخيرها وهو ثوابُها الخالد فهى خيرٌ من زينة الحياة الدنيا التى هى غير باقية” (20)

وكذلك نبّه الله تعالى إلى ان لا يغتروا بهذه النعمة على ظاهرها فإنها منحت لهم لغاية أخرى سيأتى ذكرها، ٌ قال:”أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ 55 نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ ” (المؤمنون: 55-56)

  1. وفى معرض إيراد تصوّر أهل الجاهلية المبنىّ على إنكار البعث والمعاد ذكر مثل رجلين ينكر أحدهما اآخرة بينما يؤمن بها الآخر فنقل مقولة الرجل المشرك الذى فاخر صاحبه بالمال والاولاد حيث قال: “وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ” (الكهف: 34)

وكانو يظنون ان المال هو سبب الخلود فى الأرض فلذلك كانوا يحبونه حباً حمَّاً، قال تعالى: ويل لكل همـز لمـذة، الذى جمع مالاً وعدّده، يحسب أنّ ماله أخلدة” (الهمزة: 1-3)

  1. إنَّ كل شيئ فى الكون لله تعالى، وكذلك المالُ، نسبه الله تعالى الى نفسه حيث قال: “وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ” (سورة النور:33)

فالمال مال الله غير أن الله تعالى جعل الانسان أميناً عليه لفترة قصيرة من عمره، فليكن تصرّفه فى هذا المال تصرف الأمين فى الأمانةِ التى وضعت بيدهِ فلا يخُونها ولا يضيعُها،

وبما أنَّ الله مَلَكَ ابن آدم المال، حضَّه على الإنفاق فى وجوهِ الخير ولكن عبّر عنه بالقرض الحسن يطالب به الله تعالى نفسُه ليُعيد اليه هذا المال أضغافاً مضاعفةً يوم القيامة فقال: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة: 245)

روى انه لما نزلت الآية جاء أبو الدّحداح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم فقال : أو انّ الله يريد منا القرض، قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرنى يدك” فناوله يده فقال: فإنى اقرضتُ الله حائطاً منه ستمائة نخلةٍ” فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم: كم من عذقٍ رداح فى الجنة لأبى الدحداح”(21)

  1. جعل القرآن الكريم غاية خلق الإنسان هى العبادة والحصول على مرضاة الله تعالى وجعل طريقها هو الابتلاء.

قال تعالى: “وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ” (الأنعام:165)

وهذه الآية  عامّة فى الناس، وذكر المؤمنين خاصة فقال: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ” (آل عمران: 186)

قال ابن عاشور: والابتلاء: الإختيار ويُراد به هنا لازمه وهو المصيبة لأن فى المصائب اختباراً لمقدار الثبات، والابتلاء فى الأموال هو نفقات الجهاد وتلا شى أموالهم التى تركوها بمكة” (22)

والابتلاء اصلاً هو الإختبار والذى عبّر عنه بالفتنة أيضاً فى قوله تعالى:  “وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” (سورة الأنفال: 28)

أى يختبر الرجل فى ماله وولده حتى يعرف كيف يتصرف فيهما،  أبمرضاة الله أو بسخطه؟

ويدلّ عليه رواية أبي هريرة عن الرسول “صلى الله عليه وسلم” حول قصة ثلاثة فى بنى إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم وكان ابتلاء كل واحد منهم بالمال الوفير من ثروة حيوانية فلم يؤد حق الله فيه إلاّ الرجل الأعمى، وجاء فى آخر الحديث حيث قال الملك له: أمسك مالك، فإنما أبتليتم فقد رضى عنك وسخط على صاحبيك” (23)

  1. ولحكمةِ الابتلاء خلق الله الشيطان ومكَّنه من إلقاء الوسوسة إلى الانسان فيجعله يشاركه فى الأموال والأموال والأولاد..

قال تعالى: “وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورً”  (الاسراء:64)

وهو بهذه الوسوسة يجعل المرءَ  ينسى ذكرالله تعالى، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ” (المنافقون:9)

وعند ما ينسى الله وذكرَه وآخرِتهَ يدخل حب المال فى قلبه حتى يتعلَّق بشغافه فيبتلى بمرض التكاثر “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُحَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ” (سورة التكاثر: 2-1)

وهذا التكاثر هو فى المال والأولاد لقوله تعالى، “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ” (سورة الحديد: 20)

فأول سورة التكاثر بيانٌ لمرض يصيب كثيراً من الناسِ، وآخرهُ بيانٌ للشفاء من هذا المرض العضال وهو قوله تعالى: “ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ” (التكاثر: 8)

فاذا راقب الرجل نفسه وفكرّ فى الحساب يوم الآخرة، تصرّف فى حياته واولاده رمالهِ بما يُرضى الله ورسوله، وهذا هو الشفاء من مرض التكاثر فان المال والاولاد ليست لهم قيمةٌ إلا بالايمانِ كما قال عزَّوجل: “فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ” (التوبة:55)

6 . المال يتعلق به الحلُّ والحرمة، فمنه ما هو طيّبٌ حلال ومنه ما هو خبيث حرامٌ فاذا كان النَّماء فيه من طريق التجارة والكسب فهو حلال وان كان طريقه الرّبا والقمار وما شابه ذلك من المعاملات الفاسدة فهو حرامٌ،

والإنفاق من هذا المال يترتب عليه جنته ونارُه، كما قال بعض الظرفاء عن كلمة “دينار” إنما هو دينٌ ونارٌ، فإذا انفقه فى مرضاة الله فهو له دينٌ واذا أنفقه فى سخطِ الله فهو له نارٌ.

وقال أحدالشعراء:

“اذا حججت بمال اصلُه سُحتٌ                       فما حجَجتَ ولكن حجَّتِ العير”

وهذا مطابق لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:

“رُبَّ أشعث أغبر يُطيل السَّفر يمدَّ يديه إلى السماء، يقول يا رب استجب، يا ربّ أستجب وأكله حرامٌ وشربهُ حرامٌ وغُذّي بالحرام فأنى يستجاب له” (24)

7 . المال يتعلق به التزكية والتطهير، فإنَّ التزكية مطلوبٌ فى كل شيئ فهو طريق الفلاح للإنسان “قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس: 9-10)

وهى دعوة الرسل لأقوامهم ورُؤساءِهم: فقد أمر الله موسى فقال: “اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى” (النازعات:17-18)

وجعل من مهمَّة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم تزكية أصحابه: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (الجمعة: 2)

وقال بخصوص المال مخاطباً الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا” (التوبة:301)

وقد جمع بين التطهير والتزكية فإن التطهير غالباً يقع على تصفية المال من الرّحس ظاهراً وباطناً، أما التزكية فهو يجمع بين التصفية المذكورة وتنمية الأخلاق والفضائل والسموّ بها إلى اعلى درجات الكمال الإنسانى.

  1. تحدّث الله عزوجلَّ عن صفات المنافقين بإسهابٍ فى سورة التوبة وباختصار فى سورة”المنافقون”

فذكر من صفاتهم البخل الذى يؤدى إلى النفاق فقال: “وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ” (التوبة:75-77)

وذكر فى آخر سورة “المنافقون” علاجاً للنفاق وهو الإنفاق فقال تعالى: “وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ” (المنافقون:10)

وهناك تحريض وتشجيعٌ على الانفاق فى سبيل الله فى سورة الحديد واثبات النور للمؤمنين يوم القيامة وسلبه فى حق المنافقين، وماذالك إلا لأنهم جمعوا بين النفاق وعدم الانفاق فى سبيل الله تعالى،

  1. جعل الله تعالى المال احد اكبر دعائم الجهاد فى سبيل الله تعالى حتى ذكره قيل الجهاد بالنفس فى عدد من الآيات وما ذالك الا لعظيم مكانة المال فى إعداد عُدّة الجهاد، فقال: “انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”  (التوبة:41)

وقال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ” (الحجرات: 15)

ولأن الجهاد بالنفس أشق، بدأ بذكر الجهاد بالمال توطئةً للنفس، على ما هو أسهل، كما أن الجهاد بالمال متيسر فى كل وقت وزمان بينما لا يتوفر الجهاد بالنفس (أى القتال) إلاّ بشروط وضوابط لا تتيسر فى كل وقتٍ وآنٍ ، وهذا وذكر بمقابل المسلمين المجاهدين، طائفةً أخرى من الكفار الذين ينفقون أموالهم ايضاً ولكن معاداةً لله ورسوله فقال:” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ” (الأنفال: 36).

  1. إلانفاق الذى تظهر ثمراته فى الآخرة متقيدٌ بكونه فى سبيل الله كما مرّ سابقاً وأن لا يكون رياءً وألاّ يتبعه منَّ ولا أذىً حتى يكون مقبولاً عند الله تعالى: قال تعالى: “الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ”(البقرة: 262-264)

وتلك عشرة كاملةٌ من جوانب المال المتعلقة بالإيمان والله اعلم وعلمهُ أتمّ وأحكمُ.

الفصل الثالث
مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال

 

  1. حفظ الكليات الخمس صار من المعلوم المشَتَهَر فى علم الأصول، وقيل ان أوَّل من نبَّه عليها هو الغزالى، ومن هذه الكليات الخمس حفظ الأموال،

قال ابن عاشور: وأما حفظ المال فهو حفظ أموال الأمة من الإتلاف ومن الخروج إلى أيدى غير الأمَّةِ بدون عوضٍ وحفظ اجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوضً وقال ابن عاشور: “وقد تنبَّه بعض علماء الأصول إلى أن هذه الضروريات مشار إليها بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ” (الممتحنة: 12). (25)

 وقد ذكرنا فى الفصل الأول تعريفات للمال ولا بأس أن نزيده ايضاحاً بإيراد هذا النصّ عند ابن عاشور:

إن مال الآمة هو ثروتها، والثروة هى ما ينتفع به الناس آحاداً أوجماعات فى جلب نافع أودفع ضار في مختلف الأحوال والأزمان والدواعي انتفاع مباشرة أو وساطة.

فقولنا: فى مختلف الأحوال  والأزمنة والدواعي، إشارة إلى أن الكسب لا يعد ثروة إلاّ إذ صلح للانتفاع مدداً طويلة، ليخرج الانتفاع بالأزهار والفواكه، فإنها لا تعتبر ثروة ولكن التجارة فيها تعد من لواحق الثروة.

وقولنا: مباشرة أو وساطة، لأن الانتفاع يكون باستمعال عين المال فى حاجة صاحبه ويكون بمبادلته لأخذ عوضه المحتاج إليه من يد آخر.

وتتقوم هذه الصفة للمال باجتماع خمسة أمور:

  1. أن يكون ممكناً ادخاره.
  2. وأن يكون مرغوباً في تحصيله.
  3. وأن يكون قابلاً للتداول.
  4. وأن يكون محدود المقدار.
  5. وأن يكون مكتسباً.

فأما إمكان الإدخار فلأن الشيء النافع الذى يسرع إليه الفساد لا يجده صاحبه عند دعاء الحاجة إليه فى غالب الأوقات، بل يكون مرغماً على إسراع الانتفاع به ولو لم تكن به حاجة.

وأما كونه مرغوباً في تحصيله فذلك فرع عن كثرة النفع به، فالأنعام والحب والشجر في القرى ثروة، والذهب والفضة والجواهر ونفائس الآثار في الأمصار ثروة، والأنعام وأوبارها وأصوافها وأحواض المياه والمراعى وآلات الصيد في البوادي ثروة.

وأما قبول التداول أي التعارض به، فذلك فرع عن كثرة الرغبة في تحصيله، وهذا التداول يكون بالفعل أي بنقل ذات الشيئ من حوز أحد إلى حوز آخر، ويكون بالاعتبار مثل عقود الذمم كالسلم والحوالة وبيع البرنامج ومصارفة أوراق المصارف أي البنوك.

وأما كونه محدود المقدار، فلأن الأشياء التى لا تنحصر مقاديرها لا يقصد الاختصاص بمقادير منها فلا تدخر فلا تعد ثروة، وذلك مثل: البحار والرمال والأنهار والغابات. على أن مثل الأخيرين قد يعد وسيلة ثروة باعتبار ما يحصل بهما من خصب وتشغيل.

ولم يقع الاصطلاح على عد البحار ثروة، وإن كانت غير محدودة المقادير إلا أن المستخرج منها يكون محدود المقدار لما يستدعيه استخراجه من النفقات الجمة.

وأما كونه مكتسباً فأن يحصل  لصاحبه أو لمن خلفه بسعيه بأن لا يحصل له عفواً، لأن الشيئ الذى يحصل عفواً لا يكون عظيم النفع، كالحشيش واحتطاب الغابات وأسراب بقر الوحش وحمره بقرب منازل قبائل البلدية.

واعلم أن من جهات توازن الأمم في السلطان على هذا العالم جهة الثروة، فبنسبة ثروة الأمة إلى ثروة معاصريها من الأمم تعدُّ فى درجة مناسبة في قوتها وحفظ كيانها، وتسديد مآربها وغناها عن الضراعة إلى غيرها. (26)

  1. واذا كان المقصد العالم من التشريع هو الاصلاح وازالة الفساد فى تصرَّفات الناس فهو يشمل العقائد والأعمال عموماً والمعاملات المالية خصوصاً.

اُنظر ماحكاه الله تعالى عن نصيحة شعيب عليه السَّلام لأهل مدين: “وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا” (الأعراف:85).

وعبـَّر عن المفسدين فى الأرض فقال: “لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ” (البقرة:205)

  1. وبالمال تقوم أمور الناس حيث قال عزَّوجل: “وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً” (النساء: 5)

وقد مدح الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أبا بكر رضى الله عنه بقوله: “انَّ من أمنّ الناس علىَّ فى صحبته وماله ابا بكر”(27)

وقال أيضاً: ما نفعنى مال كما نفعنى مال ابى بكر”(28) وما ذلك إلاَّ لجهود ابى بكر فى فكّ رقاب المسلمين المضطهدين فى مكّه وفى تجهيز عُدَّة الجهاد بالمدينة بما آتاه الله من مالٍ، وبالمال كان قضاء نوائب الأمَّةِ وعلى رأسها الجهاد فى سبيل الله، فبدأ الله تعالى بذكر الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس فى غير ما آية، فقال: “انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” (التوبة: 41)

وقال: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ” (التوبة:20)

وقال: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون” (الحجرات: 15)

إنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أَحبَّ لنفسه المسكنة والكفاف من العيش غير أنَّه كَره للمسلم ان يئول به الحال الى أن يمدَّ يديهِ الى الناس استجداءً فقال لسَعد بن ابى وقَّاص:” إنَّك أن تذر ورثتك اغنياء خيرٌ من ان تذرهم عالةً يتكففون الناس”(29).

فكان حفظ المال مطلباً من مطالب الشَّرع فلا يكون هناك ضياعٌ له لا بالإسراف ولا بالمخاطرة بوجهٍ من الوجوه، فقد ورد عن حكيم بن حزامٍ رضى الله عنه أنه كان يشترط على الرجل اذا أعطاه مالاً مقارضةً: أن لا تجعل مالى فى كبدٍ رطبةٍ ولا تحمله فى بحرٍ ولا تنـزل به فى بطنِ مسيلٍ فأن فعلت شيئاً من ذالك فقد ضمنت مالى”(30)

  1. جعل لله المال طريقاً للمواساة بين الناس وإدامة الأخوة بين المسلمين وما شرعت الزكاة والصَّدقة إلاَّ لهذا ألغرض، بل جعل لمن يكنـز المال ويبخل به وعيداً شديداً وذالك فى قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” (التوبة: 34-35)
  2. ولا أحد يُنكر أن المال الذى أدّى زكاته لم يعُد كنـزاً ولكنَّ فضيلة الإنفاق من الزائد من المال يبقى على حالها،

قال تعالى:  “وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ” (البقرة: 219)

ويوضحّه قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم:

“عن أبى سعيد الحذرى أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: من كان له فضل من ظهرٍ فليعُد به على من لا ظهر له ومن كان له فضلٌ من زاد فليعد من لا زاد له فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنَّه لا حقَّ لأحدٍ منَّا من فضلٍ”(31)

وجعل لهذه الصدقةِ حدّاً فى قوله: “خير الصدقةِ ما كان عن ظهر غنيٍ” (32)

ويأتى مزيدٌ من الكلام على الإنفاق من العفو من المال فى النقطة التاسعة.

5  . وجعل التنافس فى الإعطاء وليس فى جمع المال، فقد أورد البخاري حديثاً عن مجيئ أبي عبيدة بن الجرّاح بمال الجزية من البحرين فاجتمع الناس فى صلاة الفجر يتطلعون إلى هذا المال فبشّرهم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم اولاً ثم قال:

“فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتلهيكم كما ألهتهم” (33)

وقال أيضاً: “والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى ولكنّى أخاف عليكم أن تنافسوا فيها” (34)

وقال: “إنّ لكل أمة فتنةٌ وفتنة امتى المال”(35)

وروى أبو ذرٍ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيراً، فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً” (36)

وما موقف أزواج النبى صلَّى الله عليه وسلَّم بعد نزول آية التخيير (الأحزاب: 28-29) بخفّىٍ على أحدٍ حيث اخترن الله ورسوله على عيشةِ رفاهيةٍ وتنعُمّ، واشتهرت عدد من أزواج النّبي بالإكثار من الصدَقةِ فقد روت عائشة رضى الله عنها أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مرةً خاطب أزواجه فقال:

“أسرعكن لحاقاً بى أطولكن يداً  فكن يتطاولن أيهن أطول يداً، قالت فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق”(37).

وهكذا ضرب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأزواجُه مثلاً أعلى فى الاقتصاد فى المعيشة والاقتصار على الكفاف من العيش والجود بما فضل لديهم من المال.

  1. إنَّ الله رتَّب الزيادة فى الرزق على الشكر فقال: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” (ابراهيم: 7)

فليس النماءُ فى المال نتيجةً للجهد المادّى فقط بل إنما هو منوط بالأسباب الروحية أيضاً وهذا هو السِرُّ فى محق الربا ومضاعفة الزكاة وإن كان الظاهر هو العكس.

قال تعالى: “وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ” (سورة الروم: 39)

وفى ضمن مبحث حُرمة الربا، أشار ابن القيّم إلى أنه يجرّ إلى الفساد ويمحق البركة فى الرزق فقال: “يمنع من إفساد عقود الناس وتغييرها ويمنع من جعل النقود متجراً فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد مالا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقودٍ روؤسٍ أموالٍ يتجرَّ بها ولا يتجرَّ فيها، وإذا حرَّم السلطان سكةًَ أو نقداًً منع من الاختلاط” (38).

وقبل أن تقتبس العبارة الأخرى لابن القيم نورد هنا كلام الدكتور “رفعت العوضي” تعليقاً عليه فقال:

“المعنى الاقتصادى الذى أبرزه من الفقرة التى نقلتها هو ما يتعلق بجعل النقود روؤس أموال يتجرّبها ولا يتجر فيها، يكمن فى هذا المعنى أحد أسباب تحريم الربا فى الاقتصاد الاسلامي لأن الربا هو اتجار فى النقود وليس اتجاراً بالنقود، ثم قال: ارتبط الاقتصاد الوضعي في بعض مراحله بعباره نقلت عن أرسطو: النقود لا تلد نقوداً، وكانت هذه العبارة سند تحريم الربا عند من ارتبط بذالك فى العصور الوسطى، وتفضيل عبارة “ابن القيم الجوزية” عبارة أرسطو أكثر من وجهٍ، فتعبير “ابن القيم الجوزية” تعبير اقتصادى وتتضمن تحديد وظيفة النقود وهى تسهيل التبادل، بينما نعرف أن أرسطو كان يرى أن التبادل حرفة غير طبيعية أوغير نظيفة”(39).

أما الاقتباس الآخر من كلام ابن القيم فهو بخصوص ربط كل انواع السلوك الإقتصادى بالالتزام بشرع الله فقال:

“لو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين على ما شرعه الله ورسوله وجاءت به الناس وفعله الخلفاء الراشدون لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض وكان الذى يحصل لهم من المغلّ أضعاف ما يحصلونه بالظلم والعدوان ولكن يأبى جهلهم وظلمُهم إلا أن يرتكبوُ الظلم والإثم فيمنعوا البركة وسعة الرزق فيجمع لهم عقوبة الآخرة ونزع البركة فى الدنيا”(40)

  1. اعتبر الله المال أمانةً فى يد الرجل فقال: “وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ”(سورة الحديد: 7).

فإذا ملكه إما بطريق الهبة، أو الوراثة، أو التكسب، أو الحوزة، بسبب شرعي فإنه لاينتزع منه إلا برضاه، كما أنَّ الله حدَّ له حدوداً فى التصرّف، وهذه نبذة من أقوالِ الرسول صلًّى الله عليه وسلَّم فى عمارة الأرض وهى من أكبر موارد المال:

  1. من أحيا أرضاً ميتةً فهى له”(40)
  2. من عمر أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحق بها”(41)
  3. “عادىّ الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعدُ فمن أحيا أرضاً ميتةَ فهى له وليس لمحتجرٍ حق بعد ثلاث سنين”(42)
  4. عنٍ جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: لو بعتَ من أخيكَ ثمراً فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأحذ مال أخيكَ بغير حقٍ”(43)
  5. عن سعد بن زيد رضى الله عنه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوّقة الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين”(44)
  6. وعن أبي بكرة رضى الله عنه ان النبى صلَّى الله عليه وسلَّم قال رجل من اصحاب رسول الله صلّّى الله عليه وسلَّم قال فى خطبته يوم النَّحر بمنىً: ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، فى بلدكم هذا، فى شهركم هذا”(45)
  7. وعن عروة بن الزبـير رضى الله عنه قال: قال رجل من أصحاب رسول الله “صلَّى الله عليه وسلَّم”: انّ رجلين اختصما إلى رسول الله فى أرضٍ غرس أحدُهما فيها نخلاً والأرض للآخر فقضى رسول الله “صلَّى الله عليه وسلَّم” بالأرض لصاحبها وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله، قال: ليس لعرق ظالم حق”(46)

ودلّت هذه الأحاديث بوضوح أن الأرض العادىَّ يمتلكها الرجل بحيازته له إذا كان يريد عمارتها غير أنه يفقد حقه فيها إذا لم يعمّرها خلال ثلاث سنوات، وأنَّه لا يجوز لمسلم أن ياخذ مال أخيه بغير حقٍ أو يغتصب من ماله أو أرضه وكذلك لا يحق له أن يمس نفسه أوعرضه، كما لا يحق أن يتصرف فى ملك الغير.

  1. وبما أن المال هو أداة التعامل بين الناس فلذلك روعى فيه جانب تعزيز العلاقات بعضهم ببعض بحيث لا يؤدى الى قطع العلاقات بينهم أو أحداث شحناء وعداوة فى صفوفهم فأناط الشارع المعاملات المالية بشروط وضوابط، يقول الدكتود “نور الدين العتر”:

“قيدت الشريعة هذه بقيود وشروط تكفل بها تحقيق مصلحة الجماعة كما انها تحقق مصلحة الفرد ومن هنا وجدنا بالاستقراء ان الشرع اشترط في مشروعية الكسب أحد أمرين:

  1. أن يكون الربح مقابل عمل كأجرة الاجير، والعامل، ونحو ذلك.
  2. أن الغنم بالغرم: اعني ان يكون الربح مقابل تحمل الخسارة لو حدث أن وقعت خسارة، كما فى البيوع، وأنواع من الشركات.

ولتحقيق ذلك حرم كل وسيلة من وسائل الكسب لا تستوفي أحد هذين الوصفين، فحرم السرقة، والغصب، وحرم القمار والميسر وحرم الربا بشتى صُوره وأشكاله، مهما كان مقداره ولو قليلاً جداً (وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين)، فضلاً عن أن الربا منافٍ لسائر قواعد اقتصاد الاسلام.

حرم الغش وتوعد عليه كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: من غشنا فليس منا (أخرجه مسلم).

وحرم الاحتكار كما أخرج مسلم عن معمر بن عبدالله عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (لا يحتكر الا خاطئ).

وحرم “بيوع الغرر” وهي التى تشتمل على جهالة في الثمن أو السلعة أو الأجل، لئلا يفضي العقد إلى النزاع بين المتعاقدين، والشرع يريده رباطاً بينهما لا نزاعاً، فنهى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، عن المخاضرة، والمنابذة والملامسة لا شتمالها على الجهالة.

فالمخاضرة: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه، لأنه لايدري ما يبقى منه وما يسقط واذا أصيب بآفة، فبأي شيئ يستحل البائع مال المشتري.

والمنابذة: أن يقول الشخص لصاحبه: ألق اليَّ ما معك، وألقي إليك ما معي ويشتري كل واحد من الآخر، ولا يدري كل وأحدكم مع الآخر.

والملامسة: أن يقول الرجل للآخر أبيعك ثوبي بثوبك أو بشيئ آخر كالدراهم ولا ينظر أحدهما إلى الثوب، ولكن يلمسه فيجب البيع.

وغير ذلك كثير من عقود الغرر كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، حرمها الشرع سداً لذرائع النزاع بين الاخوة المسلمين.(47)

  1. ومن مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال ألاَّ يكون محتكراً بأيد دون أيدٍ بل يكون دائماً فى التداول بين الناس كما يدلّ عليه، قوله تعالى فى سورة الحشر: “مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ” (الحشر: 7)

قال ابن عاشور فى تفسير هذه الآية:

و (كيلا يكون دولة) الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكاً لأصناف كثيرة الأفراد، أى جعلناه مقسوماً على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دُولةً بين الأغنياء من المسلمين، أي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهل الحاجة نصيب منه.

والمقصود من ذلك، إبطال ما كان معتاداً في العرب قبل الإسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوّه دون قتال، والنشيطة، والفضول.

قال عبدالله بن غنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس سيد بنى شيبان وقائدهم فى أيامهم:

لك المرباع منها والصفايا                           وحُكمك والنشيطة والفصول

فالمرباع: ربُع المغانم الذي لا نظير له فتتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش، وأماحكمه فهو ما أعطاه العدوَّ من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.

والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوَّهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.

والفُضول: ما يبقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغُزاة مثل بعيرٍ وفرس.

وقد أبطل الإسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفاً إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسدّ حاجاتهم العامة والخاصة، فإن ما هو لله وللرسول صلَّى الله عليه وسلَّم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.

وقد بدا من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة ان يكون المال دُولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في إنتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءاً معيناً مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التى بين جانبي مال وعمل مثل: القراض. والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التى يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والركاز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذى سميته (مقاصد الشريعة الإسلامية).(48)

ومن المقاصد أيضاً تكثير السيولة المالية بحيث يأخذ طريقاً من أغنياء الناس إلى الفقراء منهم وذلك بواسطتين، حرمة كنز الأموال كما مرّ ذكره استناداًَ إلى آية التوبة (34) والإنفاق من العفو من المال فى ضوء آية البقرة التى أشير إليها سابقاً.

وقد اشتهر أبو ذر الغفارى رضى الله عنه من بين الصحابة بفتواه فى حرمة اكتناز المال وضرورة التصدق بالفوائد من المال حتى أن معاوية رضى الله عنه لجأ إلى الخليفة عثمان رضى الله عنه لمعالجة الموضوع فطلبه إلى المدينة إلى أن استقرّ به المقام فى الربذة خارج المدينة، وقد أخرج البخارى عن زيد بن وهب قال: كنا بالشام فقرأت، “وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ  يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” (التوبة: 34-35)

قال معاوية: “ما هذه فينا، ما هذه إلا فى أهل الكتاب قال: قلت: إنها لفينا وفيهم”

ولكن لماذا لجأ أبو ذر إلى هذه الفتوى ولم يخف عليه أن المال الذى أدّى منه الزكاة ليس بكنز؟

والجواب يحتاج إلى شيئٍ من البيان:

  1. لم تكن الدنيا فتحت على المسلمين فى السنوات الاولى من الحياه المدنية فكان الفقر غالباً على المسلمين حتى انهم كانوا فى بعض غزواتهم لا يجدون من القوت إلاَّ تمرةً لكل شخصٍ سائر يومه وبدأت الأموال تنهال عليهم من بعد فتح خيـبر سنة ست من الهجرة ثم توالت الفتوحات فى عهد ابى بكر وعمر رضى الله عنهما حتى تحقق ما نبّأ به الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من بسط الدنيا عليهم.
  2. وصارت الأموال بهذه الكثرة فى عهد الخليفة عُمر بن الخطّاب أن جعل منحاً مالية لكل طوائف المسلمين، كل حسب قدمه فى الاسلام أوقربه من رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بدءًا بالأزواج المطهرات والمجاهدين الأولين والأنصار إلى من بعدهم من مهاجرة الحبشة وأصحاب غزوة بدرٍ وأولادهم وذويهم إلى مسلمة الفتح وبلغت هذه المنح من الفى درهم إلى اثنى عشر ألف درهم سنوياً وهى دائرة بين الطوائف المذكورة.
  3. وكانت هناك منح أقلَّ من ذالك لعامّة المسلمين فى الدولة الاسلامية ولا شكَّ أنَّ هذا التقسيم للأموال أحدثت نوعاً من الطبقية فى صفوف المسلمين مما جعل عمر فى آخر حياته يقول: “لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء”(49)

وهذا الذى جعل عُمر يمتنع عن تقسيم أراضي السَّواد مع معارضة شديدة لاقاها في هذا الصدد من قبل بعض أصحابه، وكان رأيهُ موفقاً ساعد على حفظ مصالح الأمة عموماً.

وبقى سيَّدنا “عثمان” رضى الله عنه يحذو حذو “عمر” في تقسيم الصدقات وأموال بيت المال مما أدّى إلى تقوية الطبقية بين المسلمين وهذا الذى جعل “أبا ذر” ينادى بفتواه عن تحريم اكتناز الأموال وضرورة التصدق بها، فإذا لم يكن فتواه على إطلاقه بل إنما كان فى وقتٍ بلغت فيه الطبقية ذروتها فأراد أن يقضى عليها قضاءً مبرماً.

ولايخفى على أحدٍ حالة المسلمين فى العصر الحاضر حيث يوجد لديهم فارق واضحٌ فهناك زمرة من الأغنياء يحتكرون تسعين بالمئة من أموال الأمّة بينما تكافح الكثرة الكاثرة من الطبقة الفقيرة والأخرى المتوسطة لأجل الكفاف من العيش بل لأجل سدّ رمقها من الجوع والحرمان، فصار لزاماً فى مثل هذا الحال على كل دولة مسلمة سدّ حاجات الفقراء من المسلمين ولو باقتطاع شيئٍ من الثروات لدى الأغنياء من المسلمين وذالك بطريق فرض الضرائب على أموالٍ زائدة.

وفى الأخير نورد خلاصةً لهذه المقاصد العشرة المتعلقة بالمال:

  1. حفظ المال من الكليات الخمس التى دعت إلى حفظها الشريعة.
  2. جلب المصالح ودرء المفاسد يشمل المال كما يشمل العقائد والأعمال.
  3. يحفظ المال من الضياع عموماً ومن المخاطرة به فى التجارة.
  4. المقصود من المال حصول المواساة بين المسلمين.
  5. التنافس فى المال محبوبٌ ولكن في الإعطاء لا في الجمع.
  6. تنمية المال يحصل بطريق الشكر والزكاة ومحقه يأتى بطريق الرّبا.
  7. النظرة إلى المال هى نظرة أمانةٍ لا نظرة امتلاك محضٍ.
  8. حتى لا يكون المال أداة قطع صلاتٍ بين إخوة الإسلام حرمت جميع أنواع المعاملات المشبوهة.
  9. روعي فى الشريعة تداول المال بين أكبر عدد ممكن من الناس.
  10. روعي فى الأموال الزائدة عن الحاجة جانب التصدّق بها لإزالة الفوارق الطبقية بين الناس.

 

الفصل الرابع

المبادئ الأخلاقية للتعامل المالي

 

نورد فى هذا الباب كلاماً نفيساً ذكره حكيم الأمة الشاه ولى الله الدهلوى فى كتابه العزيز “حجة الله البالغة” ضمن مباحث الارتفاق، يوضحّها قوله:

“اعلم ان الانسان يوافق أبناء جنسه فى الحاجة إلى الأكل والشراب والجماع والاستظلال من الشمس والمطر والاستدفاء فى الشتاء وغيرها وكان من عناية الله تعالى به أن الهمه كيف يرتفق بأداء هذه الحاجات إلهاماً طبيعياً”.

ثم نوّعها الى أربعة ارتفاقات وهى كالآتي: ونذكر فيها الأول والثانى لتعلقهما بالموضوع:

الأول: هو الذى لا يمكن أن ينفك عنه أهل الاجتماعات القاصرة كأهل البدو وسكان شواهق الجبال والنواحى البعيدة من الاقاليم الصالحة وهو الذى نسميه بالارتفاق الأول.

والثاني: ماعليه أهل الحضر والقرى العامرة من الاقاليم الصالحة المستوجبة أن ينشأ فيها أهل الاخلاق الفاضلة والحكماء فإنه كثر هنالك الاجتماعات وازدحمت الحاجات وكثرت التجارب فاستنبطت سنن جزيلة وعضوا عليها بالنواجذ والطرف الأعلى من هذا الحد ما يتعامله الملوك أهل الرفاهية الكاملة الذين يرد عليهم حكماء الامم فينتحلون منهم سننا صالحة وهو الذى نسيمه بالارتفاق الثانى وضمن مباحث الارتفاق الثاني، ذكر فنّ المعاملات وهى المقصود فى هذا الفصل فقال:

وهو الحكمة الباحثة عن كيفية اقامة المبادلات والمعاونات والاكساب على الارتفاق الثانى والاصل فى ذلك أنه لما ازدحمت الحاجات وطلب الاتقان فيها وأن تكون على وجه تقرً به الاعين وتلذ به الانفس تعذر اقامتها من كل واحد وكان بعضهم وجد طعاما فاضلا عن حاجته ولم يجد ماء وبعضهم ماء فاضلا ولم يجد طعاما فرغب كل واحد فيما عند الآخر فلم يجدوا سبيلاً إلا المبادلة فوقعت تلك المبادلة بموقع من حاجتهم فاصطلحوا بالضرورة على أن يقبل كل واحد على اقامة حاجة واحدة واتقانها والسعي في جميع أدواتها ويجعلها ذريعة إلى سائر الحوائج بواسطة المبادلات وصارت تلك سنة مسلمة عندهم، ولما كان كثير من الناس يرغب فى شيء فلا يجد من يعامله فى تلك الحالة اضطروا الى تقدمة وتهيئة واندفعوا الى الاصطلاح على جواهر معدنية تبقى زماناً طويلاً أن تكون المعاملة بها أمراً مسلماً عندهم وكان الأليق من بينها الذهب والفضة لصغر حجمهما وتماثل أفرادهما وعظم نفعهما فى بدن الانسان ولتأتي التجمل بهما فكان نقدين بالطبع وكان غيرهما نقدا بالاصطلاح*

وأصول المكاسب الزرع والرعي والتقاط الأموال المباحة من البر والبحر من المعدن والنبات والحيوان والصناعات من نجارة وحدادة وحياكة وغيرها مما هو من جعل الجواهر الطبيعية بحيث يتأتى منها الارتفاق المطلوب ثم صارت التجارة كسباً ثم صار القيام بمصالح المدينة كسباً ثم صار الإقبال على كل ما يحتاج الناس إليه كسباً وكلما رقت النفوس، وأمعنت فى حب اللذة والرفاهية تفرعت حواشي المكاسب واختص كل رجل بكسب لأحد شيئين مناسبة القوى، فالرجل الشجاع يناسب الغزو، والكيس الحافظ يناسب الحساب، وقوى البطش يناسب حمل الأثقال وشاق الأعمال واتفاقات توجد فولد الحداد وجاره يتيسر له من صناعة الحدادة مالاً يتيسر له من غيرها، ولا لغيره منها وقاطن ساحل البحر يتأتى منه صيد الحيتان دون غيره، وبقيت نفوس أعيت بهم المذاهب الصالحة فانحدروا إلى إكساب ضارة بالمدينة كالسرقة والقمار والتكدي، والمبادلة إما عين بعين وهو البيع أو عين بمنفعة، وهي الإجارة ولما كان انتظام المدينة لا يتم إلا بإنشاء ألفة ومحبة بينهم وكانت الألفة كثيراً ما تفضى إلى بذل المحتاج إليه بلا بدل أو تتوقف عليه انشعبت الهبة والعارية ولا تتم أيضاً إلا بمواساة الفقراء انشعبت الصدقه وأوجبت المعدات أن يكون منهم الأخرق والكافي والمملق والمثرى والمستنكف من الأعمال الخسيسة وغير المستنكف والذى أزدحمت عليه الحاجات والمتفرع فكان معاش كل واحد لا يتم إلا بمعاونة آخر ولا معاونة إلا بعقد وشروط وإصطلاح على سنة، فانشعبت المزارعة والمضاربة والإجارة والشركة والتوكيل ووقعت حاجات تسوق إلى مداينة ووديعة وجربوا الخيانة والجحود والمطل فاضطروا إلى اشهاد وكتابة وثائق ورهن وكفالة وحوالة وكلما ترفهت النفوس انشعبت أنواع المعاونات ولن تجد أمة من الناس الا ويباشرون هذه المعاملات ويعرفون العدل من الظلم والله اعلم* (50)

ونستخلص النقاط الآتية من الكلام المذكور:

  1. حاجة الناس إلى التبادل فى المال والمنفعة.
  2. إقرار الذهب والفضة معدينن صالحين لغرض التبادل.
  3. تفصيل اصول المكاسب وما تفرع منها من مكاسب فرعية بحيث يختص كل شخص بما يناسبه من كسب وعمل.
  4. لايخلو الحال من أشخاص تقصربهم الهمة فيلجئون إلى مكاسب ضارة بالمدينة والأخلاق والقيم.
  5. الهبة والعارية والصدقة مبناها على الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع.
  6. التعاون فيما بين الناس يستلزم توقيع العقود وإشتراط شروط فى البيوع والمعاملات.
  7. الناس فى التعامل بينهم محتاجون إلى مداينة ووديعة.
  8. تجنباً للخيانة والحجود اضطروا إلى كتابة العقود وإشهاد الشهود الى غير ذالك من أمور التوثق.

وذكرالدهلوى فى باب ابتغاء الرزق أموراً قد تكمّل ما ذكره سابقاً فقال:

(إعلم) أن الله تعالى لما خلق الخلق وجعل معايشهم فى الأرض وأباح لهم الانتفاع بما فيها وقعت بينهم المشاحنة والمشاجرة فكان حكم الله عند ذلك تحريم أن يزاحم الانسان صاحبه فيما اختص به لسبق يده اليه أويد مورثه أولوجه من الوجوه المعتبرة عندهم إلا بمبادلة أوتراض معتمد على علم من غير تدليس وركوب  غرر، وأيضاً لما كان الناس مدنيين بالطبع لاتستقيم معايشهم إلا بتعاون بينهم نزل القضاء بايجاب التعاون وأن لايخلو أحد منهم مما له دخل فى التمدن إلا عند حاجة لا يجد منها بداًُ، وأيضاً فأصل التسبب حيازة الأموال المباحة أو استنماء ما اختص به بما يستمد من الأموال المباحة كالتناسل بالرعى، والزراعة باصلاح الأرض وسقى الماء، ويشترط فى ذالك أن لا يضيق بعضهم على بعض يفضى إلى فساد التمدن، ثم الاستنماء فى أموال الناس بمعونة فى المعاش يتعذر أويتعسر استقامة حال المدينة بدونها كالذى يجلب التجارة من بلد ويعتنى بحفظ الجلب إلى أجل معلوم أويسمسر بسعى وعمل ، ويصلح مال الناس بايجاد صفة مرضية فيه وأمثال ذلك، فان كان الاستنماء فيها بما ليس له دخل فى التعاون كالميسر أوبماهو تراض يشبه الاقتضاب كالربا، فان المفلس يضطر إلى التزام مالا يقدر على إيفائه وليس رضاه رضاً فى الحقيقة فليس من العقود المرضية ولا الأسباب الصالحة وإنما هو باطل وسحتٌ (51).

 وهنا نورد هذه النقاط الآتية التي استخلصها صاحب كتاب (النظام الاقتصادي فى الإسلام) من كلام الدهلوى:

  1. مع وجود التفاوت فى المعيشة بين الناس، ان الخلق بعضهم متساوٍ لبعضهم فى حق الاستفادة من مصادر المعيشة حيث جعل الله الأرض ومحاصيلها مباحاً اصلاً للجميع وانما يتعيَّن الملكية بإحراز شرعى للمحروز.
  2. يجوز لكل فرد التصرّف فى الأموال المباحة له بحيث لا يُسبّبُ ضيقاً للآخرين.
  3. لابدّ من التعاون والمشاركة فى العمل.
  4. ينبغى أن يكون هذا التعاون على أسس صالحة صحيحة بحيث لا يؤدى إلى إخلال بالمدنية أى يكون القصد منه مناصرة الآخر لا مضرتّه.
  5. وهذا لايتأتى إلاَّ بإيجاد نظامٍ اقتصادى صالح يهدف الى تحقيق مرضاة الله تعالى وحكمه.
  6. فلذلك يحرم فى مثل هذا النظام جميع تلك المعاملات التى لا تقوم على التعاون بل يؤدى إلى حصول منفعة لشخص على حساب الآخرين سواءً كان بطرق تعدّ بشعةً عادةً مثل القمار أو تعتبر مقبولة فى بعض المجتمعات مثل اليا نصيب والبيوع القائمة على المخاطرة.
  7. ويحرم فيه تلك المعاملات التى يبدو فيها التراضى والتعاون ظاهراً غير أنها تهدف إلى ابتزاز اموال الناس مثل المعاملات الربوية والمعاملات من اجارة أو رهنٍ يتمكّن فيه الآجر من إملاء شروط قاسية غير عادلة على المستأجر الذى يضطرّ إلى قبولها من أجل حاجته وضرورته.
  8. وهذه المعاملات-وإن كانت قائمةً على التراضى ظاهراً-غير أنها باطل غير جائز فى حكم الله، فإنها لا تساعد على تطوير المجتمع وفلاحه بل تؤدى إلى إحداث طبقة محتكرة للأموال مستبدةٍ بها على حساب عامّة الخلق. (52)
المراجع والمصادر

 

  1. ابن المنظور: لسان العرب 6: 4300 ط: دار المعارف.
  2. سـابقاً.
  3. الشامى: رد المحتار 3:4
  4. ايضاً 5: 51 نقلاً عن الدرر شرح الغرر
  5. ابن نجيم: البحر الرائق 5: 277
  6. الكاسانى: بدائع الصنائع 6: 3006
  7. الزيلعى: الهداية 2: 28
  8. ابن نجيم: البحر الرائق 3: 156
  9. الشاطبى: الموافقات 2: 17
  10. الجزائرى: الفقه على المذاهب الأربعة 4: 106
  11. السيوطى: الأشباه والنظائر، ص 258
  12. الباجورى: حاشية على شرح الغزى 2: 340
  13. الغاية القصوى، 1: 455
  14. ابن قدامة: المغنى 5: 439
  15. البهوتى: شرح المنتهي على هامش كشاف القناع عن متن الاقتاع، 2: 4
  16. ابن تيمية: الفتاوى، 20: 346
  17. نشر العرف فى بناء بعض الاحكام على العرف
  18. القرافى: الفروق 3: 371
  19. ابن عاشور 1: 187-189
  20. ابن عاشور 7: 332
  21. ابن كثيـر: التفسيـر 4: 364
  22. ابن عاشور: التحرير والتنوير، 3: 190
  23. مسلم: الصحيح 4: 277، حديث رقم 2964
  24. مسلم:الصحيح: كتاب الزكاة – رقم 1686- باب كسب الصدقة وتربيـتها
  25. ابن عاشور: مقاصد الشريعة الاسلامية، ص 77-78
  26. البخارى: الصحيح، كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين
  27. على المتقى: كنـز العمال 6: 316- الترمذى: السنن، كتاب المناقب، رقم 3594
  28. البخارى مع الفتح 3: 1295، صحيح مسلم 1628
  29. رواه الدارقطنى ورجاله ثقات
  30. مسلم: الصحيح، كتاب اللقطة، باب الضيافة
  31. البخارى: الصحيح، كتاب الوصايا
  32. البخارى: الصحيح، كتاب الرقاق
  33. البخارى: الصحيح، كتاب الجنائز، رقم 1258
  34. الترمذى: الجامع ، كتاب الزهد، رقم 2258
  35. بخارى: الصحيح، كتاب الرقاق
  36. مسلم: الصحيح، كتاب الفضائل
  37. ابن القيم: الطرق الحكمية، ص 350
  38. رفعت العوضى: من التـراث الاقتصاد للمسلين ص 245
  39. ابن القيم: الطرق الحكمية: ص 361
  40. ترمذى، نسائى، ابو داؤد البخارى: كتاب المزارعة-باب من أحيا ارضاً مواتاً.
  41. بخارى: الصحيح، كتاب المزارعة
  42. البيهقى: السنن، وعن ابن عباس موقوفاً وعن طاؤوس مرسلاً
  43. مسلم: الصحيح، كتاب المساقاة، رقم 2905
  44. متفق عليه
  45. متفق عليه
  46. رواه ابو داؤد واسناده حسن
  47. رواه ابو داؤد واسناده حسن
  48. البخارى: كتاب التفسير
  49. سيد قطب: العدالة الاجتماعية فى الاسلام: الطبعة الأردية 478
  50. حجة الله البالغه 1: 38
  51. شاه ولى الله الدهلوى: حجة الله البالغ، ص 103
  52. انظر محمد حفظ الرحمن: النظام الاقتصادى فى الاسلام” بالأردية، 58-89

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق