البحوث

القواعد الحاكمة لفقه المعاملات

القواعد الحاكمة لفقه المعاملات

 

بقلم:

أ. د. يوسف القرضاوي

 

المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

الدورة التاسعة عشرة


مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتبع هداه… (أما بعد)،،

فقد طلبت إليَّ الأمانة العامة للمجلس الأوربي للافتاء والبحوث، على عادتها في كلِّ سنة، أن أشارك بكتابة بحث في دورته المنعقدة في مدينة استانبول في شهر رجب، وهي عن (المعاملات المالية) التي تُهِم المسلمين في أوربا.

وأن يكون بحثي عن إحدى قواعد المعاملات، ولكني رأيتُ أن أوسِّع البحث، وأجعل موضوعه (القواعد الحاكمة لفقه المعاملات) زيادة في الفائدة. فاستعنتُ بالله تعالى، وكتبتُ هذه الصحائف حول سبع من القواعد الكبيرة التي تندرج تحتها قواعد أخرى فرعية، فضلا عن جزئيَّات وتفصيلات كثيرة.

وقد استفدتُ مما كتبه فقهاؤنا السابقون، الذين يعنون بهذه القواعد، ولا سيما الإمام السيوطي الشافعي (ت911هـ)، وابن نُجَيم الحنفي (ت970هـ) وكلاهما مصرى، وقد اقتبس ابن نُجيم كثيرا من السيوطي بالحرف وإن لم يُشِر إليه.

كما استفدتُ من (مجلة الأحكام) العدلية، التي قنَّنت فقه المعاملات على مذهب أبي حنيفة في صورة مواد، على غرار القوانين الوضعية، وصدَّرتها بالقواعد الكلية التي بلغت (تسعا وتسعين) قاعدة، وقد شرحها كثيرون، من أعظمهم شرح العالم التركي الكبير الأستاذ: على حيدر. الذي أبدع في البيان، وضرب الأمثلة، وإيضاح المقصود بلغة سهلة. فجزاه الله خيرا.

كما استفدتُ مما كتبه العلاَّمة الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا، في كتابه الشهير (المدخل الفقهي العام) رحمه الله، وجزاه عن الفقه والإسلام خيرا.

وها أنذا أقدِّم بحثي لإخواني ليناقشوه، ويصوِّبوه أو يُحسِّنوه، فليس في العلم كبير، وفوق كلِّ ذى علم عليم. آملا أن يكون فيه بعض النفع للمسلمين عامة، وللأقليات الإسلامية خاصة. والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

                                                                    الفقير لله تعالى:

                                                                       يوسف القرضاوي

                                                                 الدوحة: جمادى الآخرة 1430هـ – يونيو (حزيران) 2009م

 


القواعد الحاكمة لفقه المعاملات

 

من المهم للعالم الذي يُعنَى بفقه المعاملات: أن يبحث عن القواعد والمبادئ التي تضبط هذا الفقه، حتي لا يخرج عن إطار الشريعة التي أنزلها الله لتحقِّق مصالح الناس المادية والرُّوحية، الفردية والجماعية، الآنية والمستقبلية. أو كما قال علماؤنا: مصالح العباد في المعاش والمعاد.

وكما أن الفقه يحتاج إلى النصوص الجزئية المعصومة، من القرآن والسنة، يحتاج إلى معرفة (المقاصد الشرعية) المتعلِّقة بالمال، والتي يتوخَّاها الإسلام في تشريعاته القانونية، ووصاياه الأخلاقية، وقد قدَّمتُ فيها بحثا يعدُّ للنشر الآن[1].

ويحتاج أيضا إلى (القواعد الكلية)، التي تندرج تحتها أحكام جزئية شتَّى، تنتظم أبواب الفقه، ويرجع إليها العلماء المجتهدون، فيما يستنبطونه من أحكام المعاملات، أو فيما يرجِّحونه من الفقه الموروث، الذي يتميَّز بكثرة الأقوال والخلاف، وتعدُّد المذاهب والاتجاهات. ولا بد – لكيْ يحدِّد الفقيه موقفه – من الموازنة والترجيح.

فلا ريب أن يجد الباحث هنا عدَّة قواعد مهمَّة قرَّرها علماؤنا، لتكون حاكمة لمعاملات الناس. وينبغي للذين يتعرَّضون للفتوى في معاملات االمسلمين المعاصرة، أن يضعوها نُصب أعينهم، لتعينهم على تبيُّن الحكم الشرعي الصحيح، الذي يقوم على حسن الاستنباط من النصِّ، وحسن تنزيله على الواقع المعيش، وقد لا يوجد نصٌّ جزئي، فيلجأ الفقيه إلى القواعد، فيأخذ منها الحكم، وهو مسلك أصولي معروف عند فقهاء الأمة.

بل هو محتاج إلى القاعدة الكلية مع وجود النصِّ الجزئي. كما هو في حاجة إلى الرجوع للمقاصد. فلا يستغني ذو اجتهاد، كلي أو جزئي، ترجيحي أو إبداعي، من الرجوع إلى منارات ثلاث:

1- النص الثابت من القرآن أو السنة.

2- المقاصد المرعية من وراء النصِّ.

3- القواعد الكلية المستخرجه من استقراء الأحكام ورعاية المقاصد.

وفيها يجري حديثنا في هذا البحث. وبالله التوفيق.


(1)

القاعدة الأولي: الأصل في المعاملات الإباحة

 

القاعدة الأولى: أن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة، إلا ما جاء نصٌّ صحيح الثبوت صريح الدلالة بمنعه وتحريمه، فيُوقف عنده، ولا أقول هنا ما قاله البعض: من ضرورة نصٍّ قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فهذا مطلوب في إثبات العقائد الأصلية، أما في الأحكام الفرعية العملية، فيكفينا النصُّ الصحيح في ثبوته، الصريح في دلالته، وإن لم يكن قطعيا، وهذا أمر لا خلاف عليه.

وهذا بخلاف العبادات التي تَقرَّر: أن الأصل فيها المنع، حتي يجيء نصٌّ من الشارع؛ لئلا يشرع الناس في الدين ما لم ياذن به الله[2]، فإذا كان الأساس الأول للدين: ألا يُعبد إلا الله، فإن الأساس الثاني: ألا يُعبد إلا بما شرع.

ذلك أن الشارع – كما يقول شيخنا الشيخ محمد المدني في بحث له – في العبادات منشئ مؤسِّس، وفي المعاملات مصلح مهذِّب[3].

فلا يجوز للناس أن يخترعوا عبادات من عند أنفسهم، ويتقرَّبوا بها إلى الله؛ لأن هذا ليس إليهم، ولكنه إلى الله، وإلا شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، ولهذا سمَّي الإسلام هذه العبادات المخترعة (بدعة) في الدين، و”كلُّ بدعة ضلالة”، كما جاء في الحديث[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: “مَن أحدث في أمرنا – أي في ديننا – ما ليس منه فهو ردٌّ” أي مردود عليه، وفي رواية: “مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ”[5] فهذا كلُّه في شأن العبادات.

أما المعاملات فهي من شأن الناس، إذا وُجدت جماعة منهم في مكان، فلا بد لهم أن يتعاملوا بعضهم مع بعض بائعين ومشتريين، مؤجِّرين ومستأجرين، ومقرضين ومستقرضين، ومعيرين ومستعيرين، مستقيمين ومتحاورين، وملتزمين وغير ملتزمين، ومعتدلين ومتطرِّفين، وهنا يأتي الشارع ليُصلح ويهذِّب ويقوِّم، فيضع القواعد، ويوضِّح المقاصد، ويبيِّن الشروط، ويجلِّي المنهج، ويُبقي الصحيح الموافق لأهدافه ومنهجه، ويُلغي المخالف.

كما نري ذلك حينما جاء الاسلام إلى المجتمع العربي، الذي يحيا حياة جاهلية، وكان في هذه الحياة معاملات وبيوع وأنكحة وعقود، فألغى منها ما ألغى، وعدِّل منها ما عدِّل، وأبقى ما أبقى، وفقا لفلسفته ومنهجه في تنظيم الحياة وتسييرها: فحرَّم الربا، وكلَّ ما فيه ظلم أو غَبْن فاحش، وحرَّم الميسر (القمار)، ونهى عن الغرر، وهو لون من الميسر والمقامرة، يقل أو يكثر.

وأقرَّ بيع السلم، ووضع له شروطا، وقال: “مَن أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم”[6]. وحرَّم الغشَّ والخداع في السلعة، أو في الثمن، أو في الكيل والميزان، وحرَّم التطفيف، وضبط المعاملات ضبطا مُحكما.

وهذه التفرقة بين العبادات والمعاملات أساسية ومهمَّة، فلا يجوز أن يُقال لعالم: أين الدليل على إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح،؛ لأنه جاء على الأصل، وإنما الدليل على المحرِّم. والدليل المحرِّم يجب أن يكون نصًّا لا شبهة فيه من الكتاب أو السنة، كما هو اتجاه السلف، الذين نقل عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية، أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما عُلم تحريمه جزما.

ولعل مما يشهد لهذا أن بعض الصحابة ظلُّوا يشربون الخمر مع نزول قوله تعالي عن الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، وظلَّ البعض يسألون الله أن يبيِّن لهم في الخمر بيانا شافيا، حتى نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} [المائدة:90، 91]، فدلَّنا هذا أن البيان الشافي الذي لا مجال فيه لاحتمال، هو الذي يفيد التحريم، ويقطع المعاذير.

ومن ثَمَّ كان كثير من أئمة السلف يقولون: أكره هذا الأمر، أو لا أراه، أو لا يعجبني. ونحوه، ولا يصرِّحون بالتحريم إلا فيما لا احتمال فيه.

وكيف لا، وهم يقرءون قول الله تعالي: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].

وهذا ما قرَّره ابن تيمية رحمه الله، في كتابه (القواعد الفقهية النوارانية)، فقد ذكر هنا في بحث مهم له قال فيه: (تصرُّفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبَّها، لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.

وأما العادات، فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن يكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يُحكم عليه بأنه محظور؟ و لهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرَّمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس:59]، ولهذا ذمَّ الله المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، وحرَّموا ما لم يحرِّمه في سورة الأنعام، من قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:136، 137]، فذكر ما ابتدعوه من العبادات ومن التحريمات.

وفي صحيح مسلم، عن عِيَاض بن حِمَار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله تعالى: إني خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا”[7].

وهذه قاعدة عظيمة نافعة وإذا كان كذلك، فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم – كالأكل والشرب واللباس – فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرَّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبَّت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.

وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف شاءوا، ما لم تحرِّم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاءوا، ما لم تحرِّم الشريعة، وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها، وما لم تحد الشريعة في ذلك حدًّا، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي)[8].

الأصل في البيوع الحل:

وقد يتفرَّع عن هذه القاعدة الأصلية قاعدة أخرى تكمِّلها، وهي: الأصل في البيوع الحِل، فإذا كان الأصل في المعاملات عامة هو الحِل والإباحة، كما فصَّلناه من القرآن والسنة، فإن البيع – خاصَّة – جاء في حِلِّه نصٌّ صريح من كتاب الله تعالي، يردُّ على اليهود الذين زعموا أن الربا كالبيع أو البيع كالربا، لا فرق بينهما، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، فهذه الجملة القرآنية: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، تفيد حِلَّ كلِّ نوع من أنواع البيوع، سواء كان عينا بعين (المقايضة)، أم ثمنا بثمن (الصرف)، أو ثمنا بعين (السلم)، أو عينا بثمن (البيع المطلق) وسواء كان حالاًّ أم مؤجَّلا، نافذا أو موقوفا، وسواء كان بيعا بطريق المساومة، أم بطريق الأمانة، وهو يشمل: المرابحة: وهو البيع بزيادة على الثمن الأول، والتولية: وهو البيع بالثمن الأول، والوضيعة: وهو البيع بأنقص من الثمن الأول، أو كان بيعا بطريق المزايدة.

فهذه كلُّها وغيرها حلال، لأنها من البيع الذي أحلَّه الله تعالي، ولا يحرُم من البيع إلا ما حرَّمه الله ورسوله بنصٍّ محكم لا شبهة فيه.

وأنقل هنا كلمة قوية لابن حزم في محلاَّه، برغم تضييقه في العقود والشروط، قال (والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا، لأن التواعد ليس بيعا، وكذلك المساومة أيضا جائزة، تبايعا أو لم يتبايعا، لأنه لم يأتِ نهي عن شيء من ذلك، وكلُّ ما حرِّم علينا فقد فصِّل باسمه، قال تعالي: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119]، فكلُّ ما لم يفصَّل لنا تحريمه فهو حلال بنصِّ القران، إذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال، فالفرض مأمور به في القران والسنة، والحرام مفصَّل باسمه في القران والسنة، وما عدا هذين فليس فرضا ولا حراما، فهو بالضرورة حلال، إذ ليس هناك قسم رابع)[9] اهـ.

وهذا الذي قاله ابن حزم في حِلِّ ما لم يفصَّل لنا تحريمه من البيوع: مقرَّر في جميع المذاهب.

فعند المالكية نجد العلاَّمة ابن رشد الجد في كتابه (المقدمات) يقول: (البيوع الجائزة هي التي لم يحظرها الشرع، ولا ورد فيها نهي، لأن الله تعالي أباح البيع لعباده، وأذن لهم فيه، وفي غيرما آية من كتابه، من ذلك قوله تعالي: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، ولفظ البيع عامٌّ، لأن الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام صار من ألفاظ العموم، واللفظ العامُّ إذا ورد يُحمل على عمومه، إلا أن يأتي ما يخصُّه، فان خُصَّ منه شيء بقي ما بعد المخصوص على عمومه أيضا، فيندرج تحت قوله تعالي: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، كلُّ بيع، إلا ما خُصُّ منه بالدليل، فبقي ما عدا الأصل على الإباحة)[10].

وعند الحنفية نجد صاحب (الهداية) في باب المرابحة والتولية: (نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول، من غير زيادة ربح، قال: والبيعان جائزان، لاستجماع شرائط الجواز، والحاجة ماسَّة إلى هذا النوع من البيع، لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكي المهتدي، وتطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح، فوجب القول بجوازهما، ولهذا كان مبناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها).

وهنا يعلِّق محقِّق الحنفية الكمال بن الهُمام صاحب (الهداية) فيقول: (ولا يخفى أنه لا يحتاج إلى دليل خاصٍّ لجوازهما، بعد الدليل المثبت لجواز البيع مطلقا بما تراضيا عليه، بعد أن لا يُخل بما عُلم شرطا للصحة، بل دليل شرعية البيع مطلقا بشروطه المعلومة هو دليل جوازهما)[11].

وقال الامام الشافعي في كتابه (الأم) تفريعا على قول الله تعالي: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}: (فأصل البيوع كلها مباح، إذا كانت برضا المتبايعين الجائزي الأمر (أي التصرُّف) فيما تبايعا، إلا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وما كان في معنى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، محرَّم بإذنه، داخل في المعني المنهي عنه وما فارق ذلك أبحناه بما وصفنا من إباحة البيع في كتاب الله)[12].

وهذا أظهر الأقوال وأصحُّها في معني الآية – كما ذكر النووي – (فلفظ البيع في الآية لفظ عموم يتناول كلَّ بيع، ويقتضي إباحة جميعها، إلا ما خصَّه الدليل. واستدلَّ لذلك صاحب الحاوي (الماوردي)، بأن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيوع كانوا يعتادونها، ولم يبيِّن الجائز، فدلَّ على أن الآية الكريمة تناولت إباحة جميع البيوع، إلا ما خصَّ منها، وبيَّن صلى الله عليه وسلم المخصوص)[13].

وعند الحنابلة، نجد شيخ الإسلام ابن تيمية يؤكِّد (أن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود الى تحقيق العدل، والنهي عن الظلم, دقَّه وجلَّه، مثل أكل المال بالباطل، وجنسه من الربا والميسر.

ثم يقول: (والأصل في هذا، أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على تحريمه، كما أنه لا يشرع لهم من العبادات التي يتقرَّبون بها إلى الله إلا ما دلَّ الكتاب والسنة على شرعه، إذ أن الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرَّمه الله، بخلاف الذين ذمَّهم الله، حيث حرَّموا من دين الله ما لم يحرِّمه الله، وأشركوا به ما لم ينزِّل به سلطانا، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله)[14].

الأصل في العقود والشروط الإباحة:

ومن هذا الأصل أو هذه القاعدة، تُستخرج قاعدة أخرى، وهي: أن الأصل في العقود والشروط الإباحة أيضا.

على خلاف مَن يقول من الفقهاء: إن العقود والشروط مسمَّاة ومحدودة في الشرع، البيع والإجارة والمشاركة والمضاربة والمساقاة والوكالة… إلخ ولا يجوز الزيادة عليها.

فما يستخدمه الناس في دنياهم من عقود جديدة، بشروط جديدة، وصيغ جديدة، فهو مرفوض شرعا عندهم، معتمدين على حديث: “مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ”[15] أي باطل مردود عليه. وهذا إنما جاء في العبادات، لا في العادات والمعاملات، وكذلك حديث: “كلُّ شرط ليس في كتاب، الله فهو باطل”[16] فإن معناه: ما لا يوافق القرآن، أو مقاصد الإسلام، فهو باطل، وليس المراد ما فهموه.

وهذا ما ذهب إليه الحنابلة، وقرَّره ابن تيمية بوضوح، وأقام الأدلَّة الشرعية عليه، وهو ما رجَّحه الفقهاء المعاصرين، لأنه الذي يعطي الشريعة الغراء السعة والمرونة، والقدرة على استيعاب المعاملات الجديدة.

وهو ما تبناه العلامة مصطفي الزرقا في كتابه (عقد التأمين)، الذي رأى أنه عقد جديد غير العقود المنقولة في كتبنا الفقهية، له خصائصه وأحكامه التي ينفرد بها.

ومما قاله هنا: (في نظري أن نقطة الانطلاق في بحث حكم الشريعة الاسلامية، في عقد التأمين، يجب أن تبدأ من ناحية هي عندي حجر الأساس، وهي: هل أنواع العقود في الشريعة الإسلامية محصورة لا تقبل الزيادة؟

أي هل إن نظام التعاقد في الإسلام يحصر الناس في أنواع معينة من العقود المسمَّاة، وهي العقود المعروفة في صدر الإسلام، من بيع وإجارة وهبة ورهن وشركة وصلح وقسمة وإعارة وإيداع، وسائر العقود الأخرى المسمَّاة، التي ورد لها ذكر وأحكام في مصادر فقه الشريعة من كتاب وسنة وإجماع، ولا يبيح للناس إيجاد أنواع أخرى من العقود غير داخلة في أحد الأنواع السابقة المذكورة؟ أم إن الشريعة تركت الباب مفتوحا للناس في أنواع العقود وموضوعاتها، فيمكنهم أن يتعارفوا على أنواع جديدة، إذا دعتهم حاجتهم الزمنية إلى نوع جديد، ليس فرعا من أحد الأنواع المعروفة قبلا، ويصحُّ منهم كلُّ عقد جديد متى توافرات فيه الأركان والشرائط العامة التي تعتبر من النظام التعاقدي العام في الإسلام، كالشرائط المطلوبة شرعا.

في التراضي والتعبير عن الإرادة، وفي محلِّ العقد، بحيث لا يتضمَّن العقد ما يخالف قواعد الشريعة، التي عبَّر عنها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: “كلُّ شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل”[17].

فكتاب الله في هذا المقام معناه القواعد العامة في الشريعة، وليس معناه القرآن.

فهو مصدر بمعنى المفعول، أي ما كتبه الله على المؤمنين وأوجبه عليهم، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]؟

والجواب على هذا التساؤل أن الشرع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة قبلا من العقود، بل للناس أن يبتكروا أنواعا جديدة تدعوهم حاجتهم الزمنية إليها، بعد أن تستوفي الشرائط العامة المشار إليها.

وهذا ما نراه هو الحقُّ، وهو من مبدأ سلطان الإرادة العقدية في الفقه الإسلامي، وقد استوفيتُ بحثه في كتابي (المدخل الفقهي العام) وهو الجزء الأول من سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد).

وقد خالف في ذلك الظاهرية، فاعتبروا أن الأصل في العقود هو التحريم ما لم يرد في الشرع دليل الإباحة.

ومن الشواهد الواقعية في المذهب الحنفي على أن الأصل في العقود الجديدة هو الإباحة شرعا: عقد (بيع الوفاء) الذي نشأ في القرن الخامس الهجري.

ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره، لا من حيث موضوع العقدين، بل من حيث الملابسات الخارجية والاختلافات التي أحاطت بكلٍّ منهما.

فبيع الوفاء أيضاً عقد جديد ذو خصائص وموضوع وغاية يختلف فيها عن كلِّ عقد آخر من العقود المسمَّاة المعروفة قبله لدى فقهاء الشريعة.

وهو ينطوي على غاية يراها الفقهاء محرَّمة؛ لأنه يخفي وراءه لونا من الربا المستور، وهو الحصول على منفعة من وراء القرض، حيث يدفع فيه الشخص مبلغا من النقود، ويسمِّيه ثمنا لعقار يسلمه صاحبه إلى دافع المبلغ، الذي يسمَّى مشتريا للعقار، لينتفع به بالسكنى أو الإيجار بمقتضى الشراء، بشرط أن صاحب العقار الذي يسمَّى في الظاهر بائعا، متى وفَّى المبلغ المأخوذ على سبيل الثمنية استردَّ العقار.

ونتيجة ذلك أن مَن يسمَّى مشتريا بالوفاء لا يستطيع أن يتصرَّف بالعقار الذي اشتراه، بل عليه الاحتفاظ بعينه كالمرهون، لأنه سوف يكلَّف ردُّه لصاحبه متى أعاد هذا إليه الثمن، ولكلٍّ منهما الرجوع عن هذا العقد، أي فسخه وطلب الترادِّ، ولو حددت له مدَّة.

هذه خلاصة بيع الوفاء الذي تعارفه الناس في بخاري وبلخ في القرن الخامس الهجري، وثارت حوله اختلافات عظيمة بين فقهاء العصر إذ ذاك، حول جوازه ومنعه وتخريجه (أى تكييفه) أعظم مما هو واقع اليوم في عقد التأمين.

  • فمن الفقهاء مَن نظر إلى صورته فاعتبره بيعا، وطبَّق عليه شرائط البيع، فاعتبره بيعا فاسدا، لأن الشرط المقترن به فاسد، وأفتى فيه بذلك.
  • ومنهم مَن اعتبره بيعا صحيحا، وألغى فيه شرط الإعادة، معتبرا أن هذا الشرط من قبيل الشرط اللغو، لا الشرط المفسد، وأفتى بذلك.

وهذا مشكل جدًّا، وفيه ضرر عظيم للبائع؛ لأن الثمن فيه عادة أقل من القيمة الحقيقية للعقار، كالدين المرهون فيه.

  • ج- ومنهم مَن نظر إلى غايته لا إلى صورته، فرآه في معني الرهن الذي اشترط فيه انتفاع المرتهن بالمرهون، فاعتبره رهنا، وألغى فيه شرط الانتفاع وأفتى بذلك.

قال العلاَّمة الشيخ بدر الدين محمود ابن قاضي سماوة في الفصل (18) من كتابه (جامع الفصولين)، نقلا عن فتاوى الإمام نجم الدين عمر بن محمد النسفي ما نصُّه: البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالا للربا، وأسموه بيع الوفاء، هو رهن في الحقيقة، لا يملكه المشترى، ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه، وهو ضامن لما أكل من ثمره، وأتلف من شجره، ويسقط الدين بهلاكه، لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام؛ لأن المتعاقدين وإن سمَّياه بيعا، لكن عُرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذ العاقد (أى البائع) يقول لكلِّ أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانا والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرُّفات للمقاصد والمعاني فهبة المرأة نفسها مع تسمية المهر وحضرة الشهود نكاح، وهكذا.

ثم قال: قال السيد الإمام: قلتُ للإمام الحسن الماتريدي: قد فشا هذا البيع بين الناس، وفتواك أنه رهن، وأنا أيضا على ذلك.

فالصواب أن نجمع الأئمة ونتفق على هذا ونظهره بين الناس، فقال: المعتبر اليوم فتوانا، وقد ظهر ذلك بين الناس، فمَن خالفنا فليبرز نفسه، وليُقِم دليله. انتهى كلام النسفي.

أقول: قد أبرز المخالفون بعد ذلك أنفسهم، واستقرَّت الفتوى في المذهب الحنفى على ما سُمِّى: (القول الجامع)، وهو أن بيع الوفاء ليس بيعا صحيحا، ولا بيعا فاسدا، ولا رهنا، وإنما هو عقد جديد ذو موضوع وخصائص تختلف عما لكلِّ واحد من هذه العقود الثلاثة، ولكن فيه مشابه من كلِّ عقد من هذه الثلاثة لذلك قرَّر له فقهاء المذهب فيما بعد أحكاما مستمدَّة من هذه العقود الثلاثة جميعا، ولم يُلحقوه بأحدها، ويطبِّقوا عليه أحكامه.

والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه من مؤلَّفات المذهب الحنفي.

وبهذا القول الجامع أخذت مجلة الأحكام العدلية، حتى جاء قانوننا المدني سنة 1949م فمنع بيع الوفاء استغناء بأحكام الرهن الحيازي.

والتاريخ اليوم يعيد نفسه، فتتجدَّد لدينا مشكلة نظير مشكلة بيع الوفاء، وهي مشكلة عقد التأمين: فبعض العلماء يراه عقد مقامرة، وبعض آخر يراه عقد رهن يتحدَّى فيه قضاء الله وقدره، وبعض آخر يراه التزام ما لا يلزم، وآخرون يرونه عقد تعاون مشروع؛ لأن غايته التعاون على ترميم المضارِّ، وتفتيت مصائب الأقدار، فهو نظام معاوضة تعاونية، وإن انحرف به ممارسوه، وأحاطوه بشوائب ليست من ضرورة نظامه.

وواضح أني لا أعني تشبيه عقد بيع الوفاء بعقد التأمين من حيث الموضوع، كما أسلفت الإشارة إليه، وإنما أعني أن بيع الوفاء شاهد واقعي في تاريخ الفقه الإسلامي على جواز إنشاء عقود جديدة، وأنه اعتراه في أول نشأته ما اعترى اليوم عقد التأمين من اختلاف في تخريجه وتكييفه وإلحاقه ببعض العقود المعروفة قبلا، وتطبيق شرائطه عليه، أو اعتباره عقدا جديدا مستقلاًّ يقرَّر له من الأحكام الفقهية ما يتناسب مع خصائصه وموضوعه)[18].

تضييق السلف في التحريم في شؤون العادات والمعاملات:

ومن ثمار تقرير هذه القاعدة الكبيرة: التضييق في التحريم في باب العادات والمعاملات، كالتضييق في الإيجاب في باب العبادات: ولهذا كان موقف السلف من الصحابة والتابعين: منع التوسُّع في التحريم، لمجرَّد الرأي أو الاحتياط، وقد سمعوا رسول الله يقول: “ما أحلَّ الله لنا فهو حلال، وما حرَّمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا” ثم تلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:60][19].

إن كلمة (حرام) في دين الله، كلمة كبيرة خطيرة؛ لأن معناها أن الله يعاقب على هذا الفعل بالنار، وهذا لا يجرؤ على الحكم به مسلم يخشى الله تعالي، إلا أن يكون معه مستند لا يقبل الشكَّ، من كتاب الله أو سنة رسوله، وإلا كان قولا على الله بغير علم، وهذا هو اتجاه الحنفية والمالكية، وهو التضييق في الإيجاب والتحريم، فلا يلزمون الناس بما لا يلزمهم الله به، ولا يمنعونهم مما لم يمنعهم الله منه، إلا إذا كان معهم من الله برهان.

 ومن المقرَّر: أن تحريم ما أحل الله لا يقلُّ في الإثم عن إحلال ما حرَّم الله. وهو ما عاب به القرآن عرب الجاهلية، حيث استحلوا الحرام، وحرموا الحلال، فقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} [الأنعام:140].

 ومما ينبغي تأكيده هنا: أن الاتجاه التشريعي في القران والسنة، هو الميل الى تقليل المحرَّمات، بل تقليل التكاليف بصفة عامَّة، وتضييق دائرتها، تخفيفا على المكلَّفين. ولهذا كُره كثرة الأسئلة في زمن الوحي، لما قد يؤدِّي إليه من كثرة التكاليف، والتشديد على المؤمنين، وهو ما يشير إليه قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101].

وهذه الآية الكريمة قد جعلها العلاَّمة رشيد رضا محورا أدار عليه كتابه (يسر الإسلام). وقد ذم القرآن بنى اسرائيل حين أمرهم نبيهم موسى بذبح البقرة، فأكثروا من الأسئلة عنها، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولو سارعوا إلى الامتثال حين أُمروا، وذبحوا أى بقرة لأجزأتهم، ومثل هذا جاء قوله عليه الصلاة والسلام: “ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم”[20] وقوله: “إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، مَن سأل عن شيء لم يحرَّم على المسلمين، فحُرِّم من أجل مسألته”[21].

فلا ينبغي أن نخالف عن هذا الاتجاه القرآني والنبوي بتكثير المحرَّمات، وتوسيع دائرة الممنوعات. وقد عاب بعض الإخوة المتشدِّدين على كتابي (الحلال والحرام في الإسلام)، أنه توسَّع في الحلال، وضيَّق في الحرام، حتي قال بعضهم: إن الأولي أن يسمَّي (الحلال والحلال في الاسلام)! فكان ردِّي عليهم: عليكم أن تؤلِّفوا كتابا تسمُّونه (الحرام والحرام في الإسلام)!! كما قلت لهم: ليس كتاب (الحلال والحرام) هو الذي ضيق في الحرام، بل الإسلام هو الذي ضيق هذه الدائرة، وأفسح للناس في دائرة الحلال، فضلا من الله ونعمة.

 


(2)

القاعدة الثانية: العبرة بالمقاصد والمسميات، لا بالظواهر والتسميات

 

ومن القواعد الحاكمة لفقه المعاملات: قاعدة (العبرة بالمقاصد والمسمَّيات لا بالألفاظ والتسميات)، وهي التي يُعبَّر عنها بقاعدة: (الأمور بمقاصدها) وهي من القواعد الخمس المتَّفق عليها في الفقه، بل جعلوها أولى هذه القواعد، وبعدها قاعدة (اليقين لا يزول بالشكِّ)، وقاعدة (الضرر يُزال)، وقاعدة (العادة مُحكَّمة)، وقاعدة (المشقَّة تجلب التيسير).

وهي في المجلة المادة رقم (2)، وهي رقم (1) في القواعد، وقد تفرَّعت منها قاعدة أخرى تكمِّلها، وهي في المجلة المادة رقم (3)، وهي قاعدة العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

وقد قال العلامة التركى على حيدر في شرح هذه المادة من كتابه (درر الحكام شرح مجلة الأحكام): (يفهم من هذه المادة: أنه عند حصول العقد، لا ينظر للألفاظ التي استعملها العاقدان حين العقد، بل إنما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقية من الكلام، الذي يُلفظ به حين العقد، لأن المقصود الحقيقي هو المعنيّ وليس اللفظ، ولا الصيغة المستعملة، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني.

ومع ذلك فإنه ما لم يتعذَّر التأليف بين الألفاظ والمعاني المقصودة، لا يجوز إلغاء الألفاظ. مثال ذلك: بيع الوفاء، فاستعمال كلمة البيع فيه التي تتضمَّن تمليك المبيع للمشتري أثناء العقد، لا يفيد التمليك؛ لأنه لم يكن مقصودا من الفريقين، بل المقصود به إنما هو تأمين دين المشتري المترتِّب في ذمة البائع، وإبقاء المبيع تحت يد المشتري لحين وفاء الدين، ولذلك لم يخرج العقد عن كونه عقد رهن، فيجري به حكم الرهن، ولا يجري حكم البيع.

فبناء على ما تقدَّم يحقُّ للبائع بيعا وفائيا أن يُعيد الثمن ويستردَّ المبيع، كما أنه يحقُّ للمشتري أن يعيد المبيع ويسترجع الثمن، ولو كان العقد بيعا حقيقيا لما جاز إعادة المبيع واسترداد الثمن، إلا باتفاق من الفريقين على إقالة البيع.

مثال ثان: لو اشترى شخص من (بقَّال) رطل سكَّر، وقال له خُذ هذه الساعة (أمانة) عندك حتى أحضر لك الثمن، فالساعة لا تكون (أمانة) عند البقَّال، بل يكون حكمها حكم (الرهن)، وللبقَّال أن يبقيها عنده حتى يستوفي دينه، فلو كانت أمانة كما ذكر المشتري، لحقَّ له استرجاعها من البائع بصفتها أمانة في أيِّ وقت يجب على الأمين إعادتها.

مثال ثالث: لو قال شخص لآخر (وهبتك) هذه الفرس أو الدار (بمائة جنيه)، فيكون هذا العقد (عقد بيع) لا (عقد هبة)، وتجري فيه أحكام البيع، فإذا كان المبيع عقارا تجري فيه أحكام الشفعة وغيرها من أحكام البيع. (لأن ذكره المائة جنيه مع لفظ الهبة دل على أن المقصود بيع لا هبة).

مثال رابع: لو قال شخص لآخر قد: (أعرتك) هذا الفرس لتركبه إلى (مدينة كذا) بخمسين قرشا، فالعقد يكون (عقد إيجار) لا (عقد إعارة)، رغما من استعمال كلمة الإعارة في العقد، لأن الإعارة هي تمليك منفعة بلا عِوض، وهنا يوجد عِوض.

مثال خامس: لو قال شخص لآخر قد: (أحلتك) بالدين المطلوب مني على فلان، على أن تبقى (ذمتي مشغولة) حتى يدفع المحال عليه لك الدين، فالعقد هذا لا يكون (عقد حَوَالة) لأن الحَوَالة هي نقل ذمة إلى ذمة أخرى، وهنا بقيت ذمة المدين مشغولة، والذي جرى إنما هو ضمُّ ذمة أخرى، فأصبح المحال عليه (كفيلا بالدين) والمدين أصيلا.

مثال سادس: لو أعطى شخص آخر عشر كيلات حنطة أو عشر ليرات، وقال له: قد أعرتُك إياها، فيكون قد أقرضها له، ويصبح للمستعير حقَّ التصرُّف في المال أو الحنطة المعارة له، مع أنه ليس للمستعير التصرُّف في عين المال المعار، بل له حقُّ الانتفاع به بدون استهلاك العين)[22] اهـ.

كما شرح الفقيه الكبير الشيخ مصطفى الزرقا هاتين القاعدتين، شرحا مركَّزا جيِّدا، بضرب الأمثلة لكلٍّ منهما، في كتابه القيم (المدخل الفقهي العام)، فقال في شرح قاعدة (الأمور بمقاصدها):

(أي أن أعمال الشخص وتصرُّفاته من قولية أو فعلية، تختلف نتائجها وأحكامها الشرعية، التي تترتَّب عليها باختلاف مقصود الشخص من تلك الأعمال والتصرُّفات:

فمَن قتل غيره بلا مسوِّغ مشروع، إذا كان عامدا فلفعله حكم، وإذا كان مخطئا فله حكم آخر.

ومَن قال لآخر: خذ هذه الدراهم، فإن نوى التبرُّع كان هبة، وإلا كان قرضا واجب الإعادة.

ومَن التقط اللقطة بقصد أخذها لنفسه كان غاصبا، ولو التقطها بنيَّة حفظها وتعريفها وردِّها لصاحبها متى ظهر كان أمينا؛ فلا يضمنها إذا هلكت بلا تعدٍّ منه عليها، أو تقصير في حفظها، وهلم جرا).

وقال في شرح قاعدة (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني):

(فبيع الوفاء تجري فيه أحكام عقود عديدة، أبرزها أحكام الرهن، لأن هذا هو مقصود العاقدين في بيع الوفاء.

والهبة إذا اشترط فيها دفع عوض، كمَن قال لآخر وهبتك هذا الشيء بكذا أو بشرط أن تعطيني كذا، أخذ العقد أحكام البيع؛ لأنه أصبح في معناه، رغم استعمال العاقد لفظ الهبة: فيردُّ الموهوب بالعيب، وكذا يستردُّ الموهوب له العوض المدفوع إذا استُحقَّ الموهوب من يده، وهكذا سائر أحكام البيع.

والكفالة إذا اشترط فيها عدم مطالبة الدائن للمدين المكفول، انقلبت حوالة وأخذت أحكامها، لأنها تصبح في معناها؛ وكذا الحوالة إذا اشترط فيها للدائن الحقَّ في أن يطالب كلاً من المدين المحيل والشخص المحال عليه معا، انقلبت كفالة)[23].

الدليل الشرعي لهذه القاعدة:

والدليل على هذه القاعدة: الحديث الصحيح المشهور، الذي رواه عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وافتتح به البخاري جامعه الصحيح، وتابعه كثير من المؤلِّفين، وهو قوله: “إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى” وقد رواه مسلم وغيره[24] أيضا.

وهذا الحديث قد نوَّه العلماء بشأنه، وقيمته التشريعية والتوجيهية، وما يدخل فيه من أبواب العلم. قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في كتابه (فتح الباري): (وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث: قال أبو عبد الله (يعني البخاري): ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث.

 واتفق عبد الرحمن بن مهدي، والشافعي – فيما نقله البويطي عنه- وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، وحمزة الكناني، على أنه ثُلُث الإسلام، ومنهم مَن قال: رُبعه، واختلفوا في تعيين الباقي.

 وقال ابن مهدي أيضا: يدخل في ثلاثين بابا من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا. ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة.

 وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يُجعل هذا الحديث رأس كلِّ باب.

 ووجَّه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنيَّة أحد أقسامه الثلاثة وأرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلَّة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثمَّ ورد: “نية المؤمن خير من عمله”[25] فإذا نظرتَ إليها كانت خير الأمرين.

 وكلام الإمام أحمد يدلُّ على أنه يعني بكونه ثلث العلم: أنه أراد أحد القواعد الثلاثة التي تُرَدُّ إليها جميع الأحكام عنده وهي: هذا، و”مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ”[26]، و”الحلال بيِّن، والحرام بيِّن “[27] الحديث.

 ثم إن هذا الحديث متَّفق على صحَّته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطَّأ، ووهم مَن زعم أنه في الموطأ[28]. (كذا قال الحافظ، والحق أنه في الموطأ من رواية محمد بن الحسن).

قال الحافظ: ورد في معناه عدَّة أحاديث صحَّت في مطلق النية، كحديث عائشة[29] وأم سلمة[30] عند مسلم: “يُبعثون على نيَّاتهم”، وحديث ابن عباس: “ولكن جهاد ونيَّة”[31]، وحديث أبي موسى: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”[32] متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: “ربَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته”[33] أخرجه أحمد، وحديث عبادة: “من غزا وهو لا ينوي إلا عقالا فله ما نوى” أخرجه النسائي[34]، إلى غير ذلك مما يتعسَّر حصره)[35].

قاعدة تتفق مع جوهر الإسلام:

 وهذه القاعدة قاعدة عظيمة تتَّفق مع الاتجاه العام لحقيقة الإسلام: أنه يعنيه الجوهر لا الشكل، والمخبر لا المظهر، واللبَّ لا القشر، ولهذا كانت عنايته بأعمال القلوب أهم من عنايته بأعمال الجوارح، وجاء في الحديث الذي رواه مسلم: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم “[36]، وكانت طاعات القلوب أعظم وأهمَّ من طاعات الجوارح، ومعاصي القلوب أخطر من معاصي الجوارح. ولهذا كانت النجاة في الآخرة، ودخول الجنة، مبناها على القلب السليم، والقلب المنيب، كما قال تعالى على لسان إبراهيم: {يَوْم لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88، 89]، وقال في أهل الجنة: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33].

هذه القاعدة تُبطل الحيل الفقهية:

وهذه القاعدة تُبطل (الحِيَل الفقهية)، المعروفة، التي وقف المحقِّقون من الفقهاء ضدَّها، والتي يُفتي بها بعضهم، لإسقاط الواجبات، أو استباحة المحرَّمات؛ أشبه بما فعله اليهود في يوم السبت حين حرَّم الله عليهم فيه الصيد، فصنعوا ما صنعوا من الشباك، يضعونها في يوم الجمعة، لينزل فها السمك يوم السبت، ليستولوا عليه يوم الأحد، وقصَّ القرآن قصَّتهم التي انتهت إلى أن مسخهم الله قرَدة خاسئين. قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163].

الإمام البخاري والحيل:

ومن حسن فقه الإمام البخاري: أنه جعل في كتبه العلمية الكثيرة من صحيحه كتاب (الحِيَل)، يعنى تركها وتأثيم فاعلها، يردُّ بذلك على بعض مَن جوزها من الفقهاء الذين يعبِّر عنهم بلفظ (بعض الناس)، وعادة يقصد بها الحنفية أو بعض رجالهم.

والحيل صورة مقبولة الظاهر فقها، مغشوشة الباطن، تعود على حكمة الشرع ومقاصده بالإبطال، فهو يريد الحظر وهي تبيح، أو يطلب الإيجاب وهي تسقط.

واستدلَّ البخاري لذلك بحديث: “إنما الأعمال بالنيات”، وبأحاديث أخرى جاءت في أبواب مختلفة من صحيحه مثل ما جاء في الزكاة من النهي عن تفريق المجتمع من الغنم، أو جمع المتفرِّق، خشية الصدقة، كما جاء في حديث الزكاة الطويل[37].

قال: وقال بعض الناس: إذا بلغت الإبل عشرين ففيها أربع شياه، فإن وهبها قبل الحَول أو باعها فرارا أو احتيالا لاسقاط الزكاة فلا شيء عليه، وكذلك إذا أتلفها فماتت فلا شيء عليه[38] وهو ما ينكره البخاري وغيره من الأئمة والعلماء.

(قال ابن المنيِّر: اتَّسع البخاري في الاستنباط، والمشهور عند النُّظار حمل الحديث على العبادات، فحمله البخاري عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكا في القول بسدِّ الذرائع، واعتبار المقاصد، فلو فسد اللفظ، وصحَّ القصد، أُلغى اللفظ، وأُعمل القصد، تصحيحا وإبطالا، قال: والاستدلال بهذا الحديث على سدِّ الذرائع وإبطال التحيُّل من أقوى الأدلَّة. ووجه التعميم أن المحذوف المقدَّر الاعتبار، فمعنى الاعتبار في العبادات إجزاؤها وبيان مراتبها، وفي المعاملات، وكذلك الأيمان الردُّ إلى القصد)[39].

موقف العلماء من الحيل:

قال الحافظ الكبير ابن حجر في مقدِّمة شرح (كتاب الحيل) من صحيح البخاري: (الحيل جمع حيلة، وهي ما يُتوصَّل به إلى مقصود بطريق خفيٍّ، وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها:

 فإن توصِّل بها بطريق مباح إلى إبطال حقٍّ أو إثبات باطل، فهي حرام.

 أو إلى إثبات حقٍّ أو دفع باطل، فهي واجبة أو مستحبة.

 وإن توصِّل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه، فهي مستحبَّة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة.

 ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول: هل يصحُّ مطلقا وينفذ ظاهرا وباطنا، أو يبطل مطلقا، أو يصحُّ مع الإثم؟

 ولمَن أجازها مطلقا أو أبطلها مطلقا أدلَّة كثيرة، فمن الأول قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص:44]، وقد عمل به النبي صلى الله عليه وسلم، في حق الضعيف الذي زنى، وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السنن[40]، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء (أي في اليمين، بأن يقول مع يمينه: إن شاء الله)، فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها، فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال: “بع الجمع بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جَنيبا”[41].

 ومن الثاني قصة أصحاب السبت (الذين احتالوا على صيد الحيتان يوم السبت) وحديث: “حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها”[42] وحديث (النهي عن النجش)[43]، وحديث: “لعن المحلِّل والمحلَّل له”[44].

 والأصل في اختلاف العلماء في ذلك، اختلافهم: هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟

 فمَن قال بالأول أجاز الحيل. ثم اختلفوا: فمنهم مَن جعلها تنفذ ظاهرا وباطنا في جميع الصور، أو في بعضها، ومنهم من قال: تنفذ ظاهرا لا باطنا.

 ومن قال بالثاني أبطلها، ولم يُجِز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى، الذي تدلُّ عليه القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية، لكون أبي يوسف صنَّف فيها كتابا[45]، لكن المعروف عنه وعن كثير من أئمتهم تقييد إعمالها بقصد الحقِّ، قال صاحب (المحيط): أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} الآية [ص:44]، وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم، فحسن، وإن كانت لإبطال حقِّ مسلم فلا، بل هي إثم وعدوان)[46].

موقف ابن تيمية وابن القيم من الحيل:

وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقِّق ابن القيم شديدي الوطأة على مَن أجازوا الحيل، واتخذوا منها ذريعة لإبطال أحكام الشرع، وشنَّا الغارة عليها وعلى أهلها، وصنَّف ابن تيمية كتابه (إقامة الدليل على بطلان التحليل) يعني: تحليل المرأة لمَن طلِّقت منه ثلاثا وبانت بينونة كبرى، وأمست لا تحلُّ له حتى تنكح زوجا غيره. وهنا يأتي مَن يتزوَّجها لا ليسكن إليها، وتكون بينهما مودَّة ورحمة، ولا لينجب منها، ولا ليحقِّق هدفا من أهداف الزواج المشروع، بل ليحلِّلها للزوج الأول، ربما نظير أجر أو خدمة للرجل.

فليس هو زوجا حقيقة، وإنما هو مجرَّد (تيس مستعار) – كما سمَّاه الحديث – لليلة أو ساعة، ثم يفارقها!!

وقد سار ابن القيم على درب شيخه، وربما زاد عليه، وأجلب بخيله ورجله في عدد من كتبه، مثل: (أعلام الموقعين)، و(زاد المعاد)، و(إغاثة اللهفان).

العبرة بالمسمَّيات والمضامين لا بالأسماء والعناوين:

بيَّن ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان) هذا المعنى بغاية البيان وأقام الأدلَّة عليه، فقال: (إن باب الحيل المحرَّمة مداره على تسمية الشيء بغير اسمه، وعلى تغيير صورته مع بقاء حقيقته، فمداره على تغيير الاسم مع بقاء المسمَّى، وتغيير الصورة مع بقاء الحقيقة؛ فإن المحلِّل مثلاً غيَّر اسم التحليل إلى اسم النكاح، واسمَ المحلِّل إلى الزوج، وغيَّر مسمَّى التحليل بأن جعل صورته صورة النكاح، والحقيقةُ حقيقةُ التحليل، ومعلوم قطعا أَنَّ لعْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك إنما هو لما فيه من الفساد العظيم الذي اللَّعنةُ من بعض عقوبته، وهذا الفساد لم يزل بتغيير الاسم والصورة مع بقاء الحقيقة، ولا بتقديم الشرط من صلب العقد إلى ما قبله، فإن المفسدة تابعة للحقيقة لا للاسم، ولا لمجرَّد الصورة.

وكذلك المفسدة العظيمة التي اشتمل عليها الربا لا تزول بتغيير اسمه من الربا إلى المعاملة، ولا بتغيير صورته من صورة إلى صورة، والحقيقة معلومة متفق عليها بينهما قبل العقد، يعلمها من قلوبهما عالم السرائر، فقد اتفقا على حقيقة الربا الصريح قبل العقد، ثم غيَّرا اسمه إلى المعاملة، وصورته إلى التبايع الذي لا قصد لهما فيه البتة، وإنما هو حيلة ومكر ومخادعة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وأيُّ فرق بين هذا وبين ما فعلته اليهود من استحلال ما حرَّم الله عليهم من الشحوم بتغيير اسمه وصورته؟ فإنهم أذابوه حتى صار ودَكًا، وباعوه وأكلوا ثمنه، وقالوا: إنما أكلنا الثمن لا المثمن، فلم نأكل شحما.

وكذلك مَن استحلَّ الخمر باسم النبيذ، كما في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ليشربنَّ ناسٌ من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها، يُعزف على رؤسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير”[47] وإنما أُتي هؤلاء من حيث استحلُّوا المحرَّمات بما ظنُّوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرِّم وثبوته، وهذا بعينه هو شبهة اليهود في استحلال بيع الشحم بعد جَمْله (إذابته)، واستحلال أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الحفائر والشباك من فعلهم يوم الجمعة، وقالوا: ليس هذا صيد يوم السبت، ولا استباحة لنفس الشحم. بل الذي يستحلُّ الشراب المسكر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه أن معناه معنى الخمر، ومقصوده مقصودُه، وعملَه عملُه، أَفسدُ تأويلاً، فإن الخمر اسم لكلِّ شراب مسكر، كما دلَّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة. وقد جاء هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى:

منها: ما رواه النسائي، عنه صلى الله عليه وسلم: “يشربُ ناسٌ من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها”[48]، وإسناده صحيح.

 ومنها: ما رواه ابن ماجه، عن عبادة بن الصامت يرفعه: “يشرب ناس من أمَّتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها”[49]، ورواه الإمام أحمد، ولفظه: “ليستحلَّنَّ طائفة من أمتي الخمر”[50].

ومنها: ما رواه ابن ماجه أيضا، من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تذهب الليالي والأيامُ حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، يسمُّونها بغير اسمها”[51] فهؤلاء إنما شربوا الخمر استحلالا لما ظنُّوا أن المحرَّم مجرَّدُ ما وقع عليه اللفظ، وأن ذلك اللفظ لا يتناول ما استحلُّوه.

استحلال الربا باسم البيع:

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته تستحلُّ الربا باسم البيع، كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر فروى ابن بطة بإسناده، عن الأوزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يأتي على الناس زمان يستحلُّون الربا بالبيع”، يعني العينة).

والعينة: أن يبيع السلعة بثمن معيَّن مؤجَّلا (ألف ريال مثلا، ثم يشتريها في الحال بثمن أقل:900ريال مثلا)، وليس المقصود البيع ولا الشراء، إنما المقصود أن يدفع (900) ويأخذ (1000) بسبب الأجل.

قال ابن القيم: (وهذا (الحديث) وإن كان مرسلا، فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة[52]، فإنه من المعلوم أن العِيْنة عند مستحلِّها إنما يسمِّيها بيعا، وفي هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحلَّ أحد منها الربا الصريح، وإنما استُحِل باسم البيع وصورته، فصوَّروه بصورة البيع، وأعاروه لفظه.

ومن المعلوم أن الربا لم يحرَّم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حُرِّم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصودُ قائمة في الحِيَل الرِّبوية، كقيامها في صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما، ويعلمه مَن شاهَدَ حالهما، والله يعلم أن قَصْدهما نفسُ الربا، وإنما توسَّلا إليه بعقدٍ غير مقصود، وسمَّياه باسم مستعار غيرِ اسمه، ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم، ولا يرفع المفسدة التي حُرِّم الربا لأجلها، بل يزيدها قوَّة وتأكيدا من وجوه عديدة)[53].

الحيل تناقض سدَّ الذرائع الذي جاءت به الشريعة:

ومما لا خلاف عليه: أن باب الحيل يناقض مناقضة صريحة باب سدِّ الذرائع، الذي جاءت به الشريعة، ودلَّ عليه القرآن والسنة، وأقام عليه ابن القيم في (اعلام الموقعين) تسعة وتسعين دليلا.

وقال في إغاثة اللهفان: (وإذا تدبَّرتَ الشريعة وجدتَها قد أتت بسدِّ الذرائع إلى المحرَّمات، وذلك عكس باب الحِيَل الموصِّلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرَّمات، وسدُّ الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرَّم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرَّم نفسه؟ فنهى الله تعالى عن سبِّ آلهة المشركين، لكونه ذريعة إلى أن يسبُّوا الله سبحانه وتعالى عدوا وكفرا على وجه المقابلة[54]، وأخبر النبي أن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: “نعم، يسبُّ أبا الرجل، فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه، فيسبُّ أمه”[55].

وقد ذكر ابن القيم عدَّة صور ومسائل في سد الذرائع، لكنها في العبادات، ثم قال:

(ومنع من التفرُّق في الصرف قبل التقابض، وكذلك الربوي إذا بيع بربويٍّ آخر من غير جنسه، سدًّا لذريعة النَّساء الذي هو صُلب الربا ومعظمه، بل منع من بيع الدرهم بالدرهمين نقدا، سدًّا لذريعة ربا النَّساء، كما علَّل صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه[56]، وهذا أحسن العلل في تحريم ربا الفضل.

وحرَّم الجمع بين السلف والبيع؛ لما فيه من الذريعة إلى الربح في السلف بأخذ أكثر مما أعطى، والتوسُّل إلى ذلك بالبيع أو الإجارة، كما هو الواقع.

ومنع البائع أن يشتري السلعة من مشتريها بأقلَّ مما اشتراها به – وهي مسألة العينة – وإن لم يقصد الربا، لكونه وسيلة ظاهرة واقعة إلى بيع خمسة عشر نسيئة بعشرة نقدا، وحرَّم جمع الشرطين في البيع، لكونه وسيلة إلى ذلك، وهو منطبق على مسألة العينة.

ومنع من القرض الذي يجرُّ النفع وجعله ربا، ومنع المقرض من قَبول هدية المقترض ما لم يكن بينهما عادة جارية بذلك قبل القرض، ففي سنن ابن ماجه، عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أقرض أحدكم قرضا، فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبنَّها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك”[57].

وروى البخاري في تاريخه، عن يزيد بن أبي يحيى الهنائي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية”[58].

وفي صحيح البخاري، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: قدمتُ المدينة فلقيتُ عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌّ فأهدى إليك حِمْل تبن، أو حِمل شعير، أو حمل قتٍّ فلا تأخذه، فإنه ربا[59].

وروى سعيد بن منصور في سننه هذا المعنى، عن أبي بن كعب[60] وجاء عن ابن مسعود[61]، وعبد الله بن عباس[62]، وعبد الله بن عمرو ونحوه وكلُّ ذلك سدًّا لذريعة أخذ الزيادة في القرض الذي موجبه ردُّ المثل.

ونهى عن بيع الكالىء بالكالىء[63]، وهو الدين المؤخَّر بالدين المؤخَّر؛ لأنه ذريعة إلى ربا النسيئة، فلو كان الدينان حالَّين لم يمتنع، لأنهما يسقطان جيعا من ذمَّتهما، وفي الصورة المنهي عنها: ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كلِّ واحد منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النَّساء بعينها)[64].

خطر فقه الحيل على البنوك الإسلامية:

وقد كنا نستغرب ما يُحكَى عن بعض الحنفية وغيرهم، من عمل (الحيل الشرعية) أو (الفقهية) ليتخلَّص بها بعض الناس من وجوب الواجبات، أو من تحريم المحرَّمات، وكان منا مَن يرى ذلك مُفترًى عليهم للتشنيع من خصومهم، حتى رأينا بأعيننا في عصرنا من العلماء الشرعيين أو الاقتصاديين الاسلاميين، مَن يبتكر حِيَلا مثل تلك الحيل القديمة، لإجازة بعض صور المعاملات الحديثة، التي تقوم بها المصارف أو البنوك الاسلامية، هي في المعنى والجوهر نفس ما تقوم به البنوك الربوية، روحا وأثرا ونتيجة، وهم يحرِّمون هذه ويحلُّون تلك.

وأصبح هذا – للأسف الشديد – اتجاها معروفا يقرِّره مجموعة معروفة تهدِّد البنوك الإسلامية بالخطر، إذا استمر توجُّهها هذا وتفاقم، ولم يُقاوَم.

والعجيب أن هؤلاء العلماء ينكرون على مذهب الظاهرية، ويقولون بتعليل الأحكام، ويؤمنون بأن للشارع مقاصد وحِكَما في كلِّ ما يشرعه، وخصوصا في المعاملات.

وربما كان لهم كتب أو محاضرات في ذلك، ولكنهم عند التطبيق يتجاهلون ذلك، ويفتون بهذه الحيل الجديدة، التي ضجَّ منها كثير من العلماء، ومن أصحاب البنوك نفسها. فقد شكا إليّ فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني العالم الباكستاني الكبير، نائب رئيس المجمع الفقهي الدولي، ورئيس المجلس الشرعي في هيئة المحاسبة العامة للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، من خطر الاتجاه الذي تبنَّاه بعض إخواننا، الذي يعتمد الصورية والشكلية، ولا يقيم وزنا للمقصد والمعنى، وطلب منِّي أن أدعو العلماء أو عددا منهم للاجتماع لتداول الموقف أو مواجهته، ولم يتيسَّر لي ذلك بعد.

ومنذ سنوات دعا صديقنا الشيخ صالح كامل رئيس مجموعة بنوك البركة، ومؤسِّس ندوة البركة الاقتصادية الإسلامية السنوية، التي استمرَّت ما يقرب من ثلاثين سنة، دعا إلى ندوة في رمضان، لتواجه (التورُّق المصرفي)، الذي تبنَّته بعض لجان الفتوى والرقابة الشرعية، وأجازته وسمَّته (التورُّق المبارك)، وحضر جمٌّ غفير من العلماء، كنت واحدا منهم. وقدَّموا بحوثا ومناقشات قيِّمة للردِّ على هذا التصرُّف، وقدَّم أخونا العلامة الشيخ صالح الحصين بحثا أصيلا، يفنِّد فيه ما تورَّط بعض البنوك الإسلامية فيه من معاملات تسمَّى (إسلامية)، وهي في حقيقتها (ربوية).

ومنذ سنين وأنا أصرخ في إخواني من أعضاء هيئات الرقابة الشرعية: أن يتقوا الله في هذه المصارف الإسلامية، التي أصبحت أمانة في أعناقهم، ووثق بها المسلمون، وأمست تتسع يوما بعد يوم، وأحذِّرهم أن تصبح إسلامية بالاسم والعنوان، لا بالروح والجوهر، فالعبرة في الاسلام وشريعته للمسمَّيات والمضامين لا للأسماء والعناوين، وقد جاء في بعض الآثار: أنه يأتي على الناس زمان يستحلُّون فيه الربا باسم البيع.

كما جاءت أحاديث[65] تذمُّ قوما يشربون الخمر يسمُّونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم القيان والمعازف، يمسخهم الله قردة وخنازير.

وقد اعتبر ابن القيم إدخال الحيل في الشريعة من مكايد الشيطان، التي كاد بها الإسلام وأهله، فهي تتضمَّن تحليل ما حرَّم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه.

وقد ذمَّ القرآن المنافقين الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، فقال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]، وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:148].

قال الإمام أحمد: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حقِّ مسلم.

وسئل ابن عباس وأنس بن مالك كلاهما عن البيع المعروف باسم بيع (العينة) فقال كلاهما: إن الله تعالى لا يُخدَع! هذا مما حرَّم الله تعالى ورسوله.

وقال أيوب السختياني في المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان! فلو أتَوا الأمر عَيانا، كان أهون عليَّ.

وقال حفص بن غياث في كتاب الحيل: هو كتاب الفجور!

وقال شريك بن عبد الله في المحتالين: مَن يخادع الله يخدعه!

والعلماء يسمُّون بيع العينة: بيع الحريرة، يريدون: أن المحتالين يضعون الحريرة في الصفقة ليستحلوا بها الحرام، وهي غير مقصودة للبائع ولا للمشتري، ولذا قال حَبر الأمة ابن عباس: دراهم بدراهم وبينهما حريرة[66].

وقد وردت السنة بلعن (المحلِّل) و(المحلَّل له) في النكاح، والمراد بالمحلِّل: الذي يُستخدم لتحليل المرأة المطلقة ثلاثا، والتي بانت من زوجها بينونة كبرى، فلا تحلُّ له حتى تنكح زوجا غيره، والمقصود هنا نكاح حقيقي طبيعي، أما هذا الذي كلُّ همِّه أن يجامعها ليحلَّها لزوجها، فليس زوجا، ولم ينعقد بينه وبين زوجته سكينة ولا مودَّة ولا رحمة، ولذا كان من الحِيَل المحرَّمة بالنصِّ النبوي.

ومثله بيع العينة، الذي رواه أبو إسحاق السَّبيعي، عن امرأته العالية، أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بست مئة، فنقدته الست مئة، وكتبت عليه ثمان مئة؟ فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريتِ، وبئس والله ما اشتري، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، إلا أن يتوب! فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذتُ رأس مالي ورددتُ عليه الفضل؟ قالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275]، أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية [البقرة:279][67].

يقول الإمام ابن القيم في (الإعلام):

 (النية رُوح العمل ولبُّه وقِوامه، وهو تابع لها، يصحُّ بصحَّتها، ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كَفَتَا وشَفَتَا، وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى”[68]، فبيَّن في الجملة الأولى: أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية ثم بيَّن في الجملة الثانية: أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعمُّ العبادات والمعاملات، والأيمان والنذور، وسائر العقود والأفعال.

 وهذا دليل على أن مَن نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأن مَن نوى بعقد النكاح التحليل كان محلِّلا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى؛ فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنصِّ.

وعلى هذا فإذا نوى بالعصر (عصر العنب) حصول الخمر كان له ما نواه، ولذلك استحقَّ اللعنة، وإذا نوى بالفعل التحيُّل على ما حرَّمه الله ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قصد المحرَّم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيُّل على المحرَّم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جُعل ذريعة له، لا في عقل ولا في شرع.

ولهذا لو نهى الطبيبُ المريضَ عما يؤذيه وحماه منه، فتحيَّل على تناوله عُدَّ متناولا لنفس ما نُهي عنه، ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيَّلوا على فعل ما حرَّمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسَّلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسَّلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرَّم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسُّل إلى ذلك بصورة البيع وأيضا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم (الوَدَك)، فلما تحيَّلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك)[69].

مجلة الاقتصاد الإسلامي تنتقد التورق المصرفي:   

وقد أصدرت مجلة (مجلة الاقتصاد الإسلامي) التي يصدرها بنك دبي الإسلامي – في الأمارات العربية المتحدة – عددا خاصا بمناسبة انعقاد مؤتمر (مجمع الفقه الإسلامي الدولي) في دورته التاسعة عشرة مؤخرا بإمارة الشارقة في دولة الإمارات. هو العدد (339) في جمادي الأخرة 1430هـ – يونيو 2009م.

وكان مما أثارته المجلة عن (التورق المصرفي) قولها: ومن بين الموضوعات المهمة التي ناقشها المؤتمر: موضوع التورق المصرفي، أو التورق المنظم الذي تمارسه بعض المصارف الإسلامية، هذا الموضوع الذي كان مثار اهتمام الفقهاء، خاصة في السنوات الأخيرة، خاصة بعد أن أصدر مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة قرارا بتحريمه في دورتيه الخامسة عشر والتاسعة عشرة.

وقد شهدت هذه الدورة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي مناقشات مطولة حول الموضوع، وقدم فيه نحو 15 بحثا بين مؤكد على تحريمه وبين مجيز له بضوابطه، وقدم كل من الفريقين أسانيده الشرعية حول هذه المعاملة.

ومن أبرز البحوث التي قدمت حول التورق بحث للدكتور وهبة الزحيلي، الذي أكد أن التورق حيلة للربا، حيث إن مقصود المشتري ليس الشراء فعلا، بل مقصوده دراهم لحاجته إليها وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضا أو سلما، فيشتري سلعة ليبيعها ويأخذ ثمنها.

وأكد الدكتور الزحيلي أن هذه حيلة محظورة وهي من الحيل الممنوعة شرعا، فهي تشتمل على الربا الحرام، بل إن التورق تمويل بفائدة أعلى بكثير من عقود الربا لقول ابن تيميه رحمه الله: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدني وتبيح ما هو أعلى منه.

وأشار الدكتور الزحيلي إلى أن التورق المنظم الذي تمارسه بعض المصارف الإسلامية يعد تمويلا بفائدة أعلى بكثير من الفائدة المصرفية في البنوك التقليدية، والمصرف هو الذي يقوم بالدور كاملا؛ من عقد صوري هو البيع والشراء والتسليم والتسلم الصوري، وأما العميل فيقتصر دوره على التوقيع على الأوراق وتوكيل البنك بممارسة الأعمال المطلوبة.

وخلص الدكتور وهبة الزحيلي إلى أن التورق يختلف عن العينة في الاصطلاح؛ فالعينة: هي شراء سلعة بثمن أجل، وبيعها إلى البائع الأصلي بثمن نقدي.

والتورق هو شراء سلعة بثمن آجل مساومة أو مرابحة، ثم بيعها إلى غير من اشتريت منه للحصول على النقد بثمن معجل أو حال.

وكلاهما في الواقع من ذرائع الربا، وذلك يشمل بيع العينة والربا الصريح، وفسخ الدين بالدين أو قلب الدين ونحو ذلك الذي هو تطبيق لقاعدة الجاهلية (إما أن تقضي وإما أن تُربي).

واختلاف الشخص الذي يباع له مرة ثانية دفع جماعة من الفقهاء إلى القول بمشروعية العينة والتورق العادي لا المصرفي، ورجحت القول بجوازه في حال الضرورة القصوى أو النادرة حيث لا يقصد به التحيل على الربا. أ هـ.

المجمع يقرر تحريم التورق المصرفي المنظم:

ومما أحمد الله تعالى عليه: أن مجمع الفقه الإسلامي، قد تبنى الاتجاه الصحيح في مسيرة المصارف الإسلامية، وقاوم الشكلية والصورية، التي يدافع عنها بعض اخواننا غفر الله لهم. وأصدر قراره التاريخي بتحريم، التورق المصرفي المنظم.

وأكد بذلك ما قرره المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي من قبل.

وهذا نص قرار المجمع:

قرار رقم 179(5/19) بشأن: التورق: حقيقته، أنواعه (الفقهي المعروف والمصرفي المنظم) قرر ما يلي:

أولاً: أنواع التورق وأحكامها:

1- التورق في اصطلاح الفقهاء: هو شراء شخص (المستورق) سلعة بثمن مؤجل من أجل أن يبيعها نقدا بثمن أقل غالبا إلى غير من اشتُريت منه بقصد الحصول على النقد. وهذا التورق جائز شرعا، شرط أن يكون مستوفيا لشروط البيع المقررة شرعا.

2- التورق المنظم في الاصطلاح المعاصر: هو شراء المستورق سلعة من الأسواق المحلية أو الدولية أو ما شابهها بثمن مؤجل يتولى البائع (المموّل) ترتيب بيعها، إما بنفسه أو بتوكيل غيره أو بتواطؤ المستورق مع البائع على ذلك، وذلك بثمن حال أقل غالبا.

3- التورق العكسي: هو صورة التورق المنظم نفسها مع كون المستورق هو المؤسسة والممول هو العميل.

ثانياً: لا يجوز التورقان (المنظم والعكسي) وذلك لأن فيهما تواطؤا بين الممول والمستورق، صراحة أو ضمنا أو عرفا، تحايلا لتحصيل النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة وهو ربا.

ويوصي بما يلي:

أ- التأكد على المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية باستخدام صيغ الاستثمار والتمويل المشرعة في جميع أعمالها، وتجنب الصيغ المحرمة والمشبوهة التزاما بالضوابط الشرعية بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء، ويجلي فضيلة الاقتصاد الإسلامي للعالم الذي يعاني من التقلبات والكوارث الاقتصادية المرة تلو الأخرى.

ب- تشجيع القرض الحسن المحتاجين للجوء للتورق. وإنشاء المؤسسات المالية الإسلامية صناديق للقرض الحسن[70].

 


(3)

القاعدة الثالثة: تحريم أكل أموال الناس بالباطل

 

ومن القواعد الحاكمة لفقه المعاملات: تحريم أكل أموال الناس بالباطل، وأساس هذا التحريم آيتان من كتاب الله تعالى، فضلا عن أحاديث مستفيضة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]. فجمعت الآية بين حفظ الأموال، وحفظ النفس، وكلاهما من الضروريات الأساسية الخمس، وإنما قدم حفظ المال لاقتضاء السياق.

وفي عطف قتل النفس على أكل المال بالباطل، دليل على خطر كل منهما على كيان المجتمع المسلم، وحياته الدينية والدنيوية والإجتماعية.

 وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]. قال الإمام ابن العربي في (أحكام القرآن): هذه الآية من قواعد المعاملات، وأساس المعاوضات ينبني عليها، وهي أربعة: هذه الآية.

وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وأحاديث الغرر، واعتبار المقاصد والمصالح[71].

كما عاب القرآن اليهود بقوله عنهم يعدد جرائمهم التي استوجبت عقوبة الله لهم: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161]، وكما ذمَّ كثيرا من الأحبار والرهبان من أهل الكتاب بقوله تعالى: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34].

 والمراد بـ(الأكل): الأخذ والتعاطى والاستيلاء، عبر عنه بالأكل مجازا.

 والمراد الباطل كما قال ابن العربي: (ما لا يحل شرعا، ولا يفيد مقصودا؛ لأن الشرع نهى عنه، ومنع منه، وحرم تعاطيه، كالربا والغرر ونحوهما، والباطل ما لا فائدة فيه، ففي المعقول هو عبارة عن المعدوم. وفي الشرع عبارة عما لا يفيد مقصودا.

ومعنى{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم} [البقرة:188]، أي: لا يأكل بعضكم مال بعض، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضا. {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:10]، أي: لا يلمز بعضكم بعضا. قال ابن العربي: ووجه هذا الامتزاج أن أخا المسلم كنفسه في الحرمة؛ والدليل عليه الأثر والنظر ؛ أما الأثر فقوله عليه السلام: “مثل المسلمين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه، تداعى سائره بالحمى والسهر” متفق عليه[72]، وأما النظر فلأن رقة الجنسية تقتضيه وشفقة الآدمية تستدعيه)[73]اهـ. فنظر إلى المشترك الإنساني.

 وذهب العلامة رشيد رضا في تفسير الآية إلى نفس الرأي. أن المراد: لا يأكل بعضكم مال بعض قال: (واختار لفظ (أموالكم) وهو يصدق بأكل الإنسان مال نفسه، للاشعار بوحدة الأمة وتكافلها، وللتنبيه على أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك، لأن استحلال التعدى وأخذ المال بغير حق يعرض كل مال للضياع والذهاب، ففي هذه الاضافة البليغة تعليل للنهي، وبيان لحكمة الحكم، كأنه قال لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، لأن ذلك جناية على نفس الآكل، من حيث هو جناية على الأمة التي هو أحد أعضائها، لا بد أن يصيبه سهم من كل جناية تقع عليها، فهو باستحلاله مال غيره يجرِّئ غيره على استحلال أكل ماله عند الاستطاعة، فما أبلغ هذا الايجاز! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الاعجاز.

وفي الاضافة معنى آخر قاله بعضهم وهو التنبيه على أنه يجب على الإنسان أن ينفق مال نفسه في سبيل الحق وأن لا يضيعه في سُبُل الباطل المحرمة)[74].

 وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية: (والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير، وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة

ما باع، لأن الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة “النساء”. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهيّ، لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} البقرة:85].

وقال قوم: المراد بالآية {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، أي: في الملاهي والقيان والشرب والبطالة؛ فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.

وقال القرطبي: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل: أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال.

وروى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: “إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار – في رواية – فليحملها أو يذرها”[75].

وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء، وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن)[76].

قال العلامة رشيد رضا في تفسير المنار: (وأما الباطل، فهو ما لم يكن في مقابلة شيء حقيقي، وهو من البطل والبطلان، أى الضياع والخسار، فقد حرمت الشريعة أخذ المال بدون مقابلة حقيقية يعتد بها، ورضاء من يؤخذ منه، وكذلك إنفاقه في غير وجه حقيقي نافع.

قال الأستاذ الإمام: ومن ذلك تحريم الصدقة على القادر على كسب يكفيه، وإن تركه حتى نزل به الفقر اعتمادا على السؤال، ونقول: إنها كما حرمت إعطاءه حرمت عليه الأخذ إذا هو أعطاه معط، فلا يحل لمسلم أن يقبل صدقة وهوغير مضطر إليها، ولا للمضطر إلا إذا كان عاجزا عن إزالة اضطراره بسعيه وكسبه)[77].

فمعنى: (أكلها بالباطل): أن يستولي عليها بلا مقابل من جهد أو مخاطرة أو معاوضة أو تبرع أو إرث، وإنما يأخذها ظلما بالمغالبة، أو السرقة، أو الخيانة، أو الربا، أو الاحتكار، أو الميسر (القمار)، أو الرِّشوة، أو الغَبن الفاحش، أو الغشِّ والخداع، أو التطفيف، أوغيره، من كلِّ ما فيه ظلم أو غَرر، أو بيع ما لا يجوز بيعه، أو إجارة ما لا يجوز إجارته.

ومن ذلك بيع الأغذية والأدوية التي انتهى أمد صلاحيتها، والأغذية الملوثة بالاشعاع، أو المسببة للأضرار بصورة أو بأخرى. وخصوصا للسرطان. من ذلك بيع المسكرات والمخدرات وكل أنواع السموم التي تقتل بسرعة أو ببطء، مثل السجائر وسائر أنواع التبغ الذي يدخل في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].

ويدخل في ذلك الخرزات والتمائم والأحجبة والتعاويذ، التي يروج لها المشعوذون باسم الدين، مستغلين جهل العوام، وسكوت العلماء، وتهاون الحكام.

ويدخل فيه – كما في تفسير المنار –: (سائر ضروب التعدى والغش والاحتيال كما يقع من السماسرة فيما يذهبون فيه من مذاهب التلبيس والتدليس، إذ يزينون للناس السلع الردئية، والبضائع المزجاة، ويسولون لهم فيورطونهم في شرائها[78].

والمنافع داخلة في الأموال، كما يرى الحنفية ومَن وافقهم، فلا يجوز للمسلم أن يستأجر دارا وينتفع بسكناها، ولا يدفع أجرتها لمالكها، أو يركب سيارة وينتفع بركوبها، ولا يدفع الأجرة المستحقة، أو يستعمل الهاتف ولا يدفع الأجر، أو يستخدم العامل أو الموظَّف ولا يعطيه أجره المتَّفق عليه في الموعد المحدَّد، أو يعطيه دون أجره، أو يؤخِّره عن موعده.

فهذا كلُّه من المحرَّمات والمنكرات، وهو أكل للمال بالباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفَّ عرقه”[79] وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة – وذكر منهم – ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”[80].

ومن المؤسف هنا: أن بعض المسلمين في ديار الغرب يستحلُّ المنافع دون أن يدفع أجرتها، بدعوى أنهم كفار، وهي دعوى مرفوضة، فليس كل كافر يباح ماله، بل هذا في الكافر الحربي، الذي يستبيح دماء المسلمين وأموالهم.

وهؤلاء معاهدون، تربطهم معاهدات وعلاقات دبلوماسية بالمسلمين، حتى لو كانوا حربيين، ووصلت دارهم بأمان يجب أن تحترمه، كما لو دخلوا دارنا بأمان يجب علينا أن نصونه، ويجب عليهم أن يحترموه. وواجب على كل فرد مسلم يعيش في بلادهم أن يفى بعهوده معهم؛ لأنه دخل البلاد بأمان وعهد تتضمَّنه تأشيرة الدخول أو الإقامة، فلا بد أن يحترم نظامهم، ويؤدِّي أماناتهم إليهم، ولا يأكل حقوقهم، وإلا كان ناكثا لعهده، خائنا لما ائتُمن عليه.

تحريم أخذ الأجرة بالباطل:

وإذا كان من أكل المال بالباطل أن تستأجر الإنسان، ولا تعطيه الأجر العادل، أو تؤخره عن وقته، أو تنتفع بالشيء ولا تدفع أجرته، فإنه من الأكل بالباطل: أن تأخذ الأجرة على شيء لم تقدم معه منفعة حقيقية للناس، إلا الوهم والجهل، كالذي يضرب الرمل، أو يفتح الكتاب، أو يدعى الكهانة ومعرفة الغيوب، أو يدعي إخراج الجن من جسم الإنسان، أو يفتح عيادة لعلاج المرضى بالقرآن، أو يأخذ على العبادات الشعائرية أجرا وهو غير محتاج إليه، وله كسب منتظم من غيره، إلى غير ذلك مما شاع – للأسف- في مجتمعات المسلمين، ولا سيما في القرى ونحوها، من البلاد التي تنتشر فيها الأمية العلمية والدينية، وتشيع فيها الخرافة، وتروج فيها سوق الكهنة والعرافين والدجالين.

وقد جاء في الحديث: “مَن أتي عرافا أو كاهنا فسأله، فصدقه بما قال، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم”[81].

ومما قاله الأستاذ الإمام محمد عبده، فيما نقل عنه في تفسير المنار: (كل من باع أو اشترى مستعينا بايهام الآخر ما لا حقيقة له ولا صحة، بحيث لو عرف الخفايا وانقلب وهمه علما لما باع أو لما اشترى، فهو آكل لماله بالباطل.

ومن هؤلاء الموهِمين باعة التولات والتناجيس[82] والتمائم، وكذا العزائم وختمات القرآن، والعدد المعلوم من سورة (يس) أو بعض الأذكار، وقد بلغ من هزؤ هؤلاء بالدين أن كان بعض المشهورين منهم يبيع سورة (يس) لقضاء الحاجات أو لرحمة الأموات، يقرؤها مرات كثيرة، ويعقد لكل مرة عقدة في خيط يحمله، حتى إذا جاءه طالب ابتياع القراءة، وأخذ منه الثمن بعد المساومة، يحل له من تلك العقد، بقدر ما يطلب من العدد.

قال الشيخ رشيد: ذكر هذه الواقعة الأستاذ الإمام في الدرس، وقد كنا نسمع عن رؤساء بعض النصاري نحو هذا في بيع العبادة التي يسمونها (القداديس) فنسخر منهم، حتى علمنا أننا قد اتبعنا سننهم شبرا بشبر حتى دخلنا في جحر الضب الذي دخلوه!

قال الأستاذ: إن كل أجر يؤخذ على عبادة فهو أكل لأموال الناس بالباطل، وقد مضى الصدر الأول ولم يكن أخذ الأجر على عبادة ما معروفا، ولا يوجد في كلام أهل القرن الأول والثاني كلمة تشعر بذلك، ثم لا يعقل أن تحقِّق العبادة وتحصل بالأجرة؛ لأن تحققها إنما يكون بالنية وإرادة وجه الله تعالى وابتغاء مرضاته بامتثال أمره، ومتى شاب هذه النية شائبة من حظ الدنيا خرج العمل عن كونه عبادة خالصة لله، والله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا من الحظوظ والشوائب.

قال العلامة رشيد رضا: وقد فرق بعض الفقهاء بين قراءة القرآن وتعليمه، فأجاز أخذ الأجرة على تعليمه كتعليم العلم؛ لأن الاشتغال بالتعليم يصد عن التفرغ للكسب من الوجوه الأخرى، فإذا لم نجز المعلم يتعسر علينا أن نجد من يتصدى لتعليم الأولاد، وليس زمننا كزمان السلف يتفرغ فيه الناس لنشر العلم وإفادته تعبدا لله وتقربا إليه.

قال الأستاذ الإمام: من علم العلم والدين بالأجرة فهو كسائر الصناع والأجراء لا ثواب له على أصل العمل، بل على إتقانه والإخلاص فيه والنصح لمن يعلمهم.

قال صاحب المنار: وأذكر أننى سمعته في وقت آخر يقول: ينبغي للمعلم الذي يعطى راتبا من الأوقاف الخيرية أن يأخذ إذا كان محتاجا لأجل سد الحاجة، لا يقصد الأجرة على التعليم، وبذلك يكون عابدا لله تعالى بالتعليم نفسه، وعلامته أن يستعفف إذا هو استغني، فلا يأخذ من الوقف شيئا، وقالوا في المؤذن مثل ما قالوا في معلم القرآن، ويأتي فيه من القصد والنية ما ذكر في المعلم.

ولا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على جواب السائل عن مسألة دينية تعرض له، إذ الإجابة فريضة على العارفين، وكتمان العلم محرم عليهم. ولبسط هذه الأحكام موضع آخر.

قال: وجملة القول: أن أكل أموال الناس بالباطل يتحقق في كل أخذ للمال بغير رضى من المأخوذ منه، لا شائبة للجهل أو الوهم أو الغش أو الضرر فيه. ومما تعرض فيه هذه الشوائب كلها أو أكثرها: قراءة القرآن بالأجرة لأجل الموتى، أو دفع ضرر الجن، أو غيره عن الأحياء، والذي يعطى الأجرة عليها يجهل ذلك، ويتوهم أنها تكون سببا لنفع الميت أو الحى، أو دفع ضرر العذاب في الآخرة، أو الجن في الدنيا (مثلا).

والجاهل بالشرع في المسألة عرضة لقبول الإيهام والغش من الدجالين والمحتالين، وليس كذلك إقراء القرآن في البيوت لأجل اتعاظ أهلها، وتقوية شعور الإيمان بسماعه، بل هذا كتعليم العلم الذي بسطناه آنفا، وينبغي أن يكون إكرام القراء بغير صفة الأجرة.

ذكر الأكل مجملاً عاماً، ثم بين نوعا منه خصه بالنهى عنه، مع دخوله في العام، لما يقع من الشبهة فيه لبعض الناس، إذ يعتقد بعضهم أن الحاكم الذي هو نائب الشارع في بيان الحق ومنفذ الشرع، إذا حكم لإنسان بشئ ولو بغير حق، فإنه يحل له ولا يكون من الباطل فقال تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّام} [البقرة:188]، أى ولا تلقوا بها إلى الحكام رشوة لهم: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة:188]، إبطالاً لهذا الاعتقاد، ليعلم أن الحق لا يتغير بحكم الحاكم، بل هو ثابت في نفسه وليس على الحاكم إلا بيانه، وإيصاله إلى مستحقه بالعدل، بل قال الأستاذ الإمام: إن الحاكم عبارة عن شخص العدل الناطق بما لكل أحد منه أ هـ.

أى فإذا نطق بغير الحق خطأ أو اتباعا لهواه، فقد خرج عن حقيقته ومعناه، وتعريفه للمحكوم له غير ما يعرفه لا يغنى عنه شيئا، وكذلك إلزام خصمه التنفيذ. نعم، إن كان المحكوم له بالباطل في الواقع يعتقد أنه صاحب الحق عرضت له وحكم له الحاكم يكون معذورا فيما يأكله بحكمه، ولا يعذر إذا كان عالما بأنه غير محق لأن حكم القاضي على الظاهر فقط)[83].

كثرت المخاصمات بين المسلمين واللجوء إلى المحاكم:

ومما علق به الإمام محمد عبده على هذه الآية الكريمة، التي ذمت من يأكلون المال بالباطل ويدلون به إلى الحكام والمحاكم، ليأكلوا بعض أموال الناس بالأثم وهم يعلمون قوله: (ما عليه المسلمون في هذا العصر، ولا سيما في بلاد مصر، من كثرة التقاضي والخصام، والإدلاء إلى الحكام، حتى أن منهم من لا يطالب غريمه بحقه إلا بواسطة المحكمة، ولعله لو طالبه لما احتاج إلى التقاضي، ومنهم من يحاكم الآخر لمحض الانتقام والايذاء وإن أضر بنفسه.

قال الشيخ رشيد: وكم من ثروة نفدت، وبيوت خربت، ونفوس أهينت، وجماعة فرقت، وما كان لذلك من سبب إلا الخصام، والإدلاء بالمال إلى الحكام، ولو تأدب هؤلاء الناس بآداب الكتاب الذي ينتسبون إليه لكان لهم من هدايته ما يحفظ حقوقهم، ويمنع تقاطعهم وعقوقهم، ويحل فيهم التراحم والتلاحم، محل التزاحم والتلاحم، وإنك ترى من أذكيائهم من يزعم أنهم عن هدى الدين أغنياء، وقد عموا عما أصابهم بتركه من الارزاء، فهم بالفسق عنه يتنابذون ويتحاسدون، ويتناقذون ويتناقدون ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون)[84].

تفاوت الإثم في أكل المال بالباطل:

وأكل المال بالباطل كله حرام، ولكن المحرمات في الإسلام تتفاوت في الإثم، ما بين الكبيرة والصغيرة. فبعض ما حرمه الإسلام يدخل في باب الصغائر، مثل بيوع الغرر، والبيوع الفاسدة، التي فقدت بعض شروط الصحة، اللازمة لقبول البيع شرعا. وقد قال تعالى في شأن هذه الصغائر من الذنوب: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، وبعض ما حرمه الإسلام يدخل في باب الكبائر كما قال تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2].

 ومن أعظم ما حرمه الإسلام وشدد في تحريمه، واعتبره من كبائر الإثم والموبقات المهلكة للفرد وللجماعة: الربا. الذي لعن الرسول آكله وموكله وكاتبه وشاهديه[85].

وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]، وفيه إشارة إلى المرابي، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278، 279]، ولم يقل القرآن مثل هذا القول إلا في شأن الربا.

وأساس هذا التغليظ في شأن الربا: أن المال لا يلد المال لذاته، وإنما الذي يلد المال هو العمل، أو مشاركة العامل وتحمُّل مسؤولية المخاطرة معه، فهذا بذل ماله، وهذا بذل جهده. فإذا ربح المشروع ربح الطرفان فيه: العامل بعمله، وربُّ المال بماله، لأن المال في الغالب هو ثمرة عمل مختزن، وإذا خسر المشروع تحمَّل الطرفان الخسارة فيه، فربُّ المال يخسر ماله أو ربحه المتوقَّع، والعامل يخسر عمله وجهده، وبهذا يشتركان في المغنم والمغرم.

وهذا هو العدل المحكم الذي جاءت به الشريعة. أما النظام الرأسمالى، فربُّ االمال رابح دائما، ولا يتحمَّل أيَّة خسارة، لأنه يدفع بربا أو فوائد محددة: (7%) أو (10%) ولا شأن له إن ربح العامل في المال أم خسر فهو ضامن لربحه دائما، فله أبدا الغُنم، وليس عليه يوما غُرم.

ولهذا تقرَّرت هذه القاعدة الفقهية الشهيرة: الغُرم بالغُنم وهي تمثِّل لونا من ألوان العدل الذي أمر الله به عباده وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وليس من العدل أن يكون لأحد الطرفين في التعاقد أو التعامل: الغُنم في كلِّ حين، وعلى كلِّ حال، وعلى الطرف الآخر الغُرم أبد الدهر.

وإنما العدل أن يكون كلٌّ منهما قابلا أن يغنم وأن يغرم، بالتساوي مع صاحبه وأساس هذا، الحديث المعروف: “الخراج بالضمان”[86].

الربا يقضى أن يكون صاحب المال ذا سلطان على من لا مال له، من أهل الفاقة والحاجة، فهو الذي يتحكم فيهم، ورقبتهم في يده، يعطيهم ما شاء، بالزيادة التي يشاء. حكم القوى على الضعيف.

أكل المال بالباطل يدخل في التبرعات:

ولا يقتصر أكل المال الباطل على المعاوضات، بل يدخل في التبرُّعات أيضا، فلا يجوز أن يأخذ من أموال الزكاة إلا إن كان من الأصناف الثمانية المستحقِّين، الذين ذكرهم الله في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]، وإلا أكل المال بالباطل، وهو في هذا يأكل حقَّ الفقراء والمساكين وسائر المستحقِّين، وأكل مال الضعفاء أشدُّ إثما من أكل مال الأقوياء، ولذا اشتدَّ الوعيد في أكلها أكثر من غيرها.

بل حتى صدقة التطوُّع، لا يجوز له أن يأخذ منها إذا لم يكن من أهل الفقر والحاجة، أو الغارمين ونحوهم، وإلا فإنه يأخذ حقَّ غيره، ويحرم مَن يستحقُّ الأخذ من نصيبه، أو تقليل ما كان يمكن أن يأخذه. وفي الحديث: “لا تحلُّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سوي”[87]. أى قوي الجسم، قادر على الكسب.

ولا يجوز أن يأخذ من أموال الأوقاف إلا إذا كان من الأصناف المستحقة التي نص عليها الواقف.

فإذا كان الوقف على طلبة العلم، لا يجوز له أن يأخذ من الوقف إذا كان يتظاهر بطلب العلم، وهو ليس من أهله، أو كان الوقف على المرضى، فلا يحل له أن يتمارض، ليُصرف له من الوقف، وهو صَحِيح معافى.

التشديد في أكل أموال الضعفاء:

وقد شدَّد الإسلام في أكل الأموال بالباطل، وخصوصا أموال الضعفاء، مثل اليتامى الذين لا يستطيعون الدفاع عن أملاكهم وأموالهم، فاعتبر أكلها من كبائر الإثم، ومن الموبقات السبع وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]. وعدّه النبي صلى الله عليه وسلم من (الموبقات السبع)[88].

ومثل ذلك أموال الأوقاف والأموال العامة التي هي ملك الجماعة، فمَن اعتدى عليها، وأخذها بغير حقِّها، فقد اعتدى على الجماعة كلِّها.

ومن هنا جاءت الأحاديث بالوعيد الشديد لمَن غلَّ من الغنيمة قبل أن تُقسم، فعن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثَقَل النبي صلى الله عليه و سلم رجل يقال له: كَرْكَرة، فمات. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “هو في النار” فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلَّها[89].

 وعن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغُلول وعظَّمه، وعظَّم أمره، فقال: “لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، وعلى رقبته فرس له حَمحَمة، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتُك وعلى رقبته صامت، (ذهب أو فضة) فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتُك أو على رقبته رِقاع تَخفِق(ثياب) فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتُك”[90].

وكان يشدِّد في الغُلول جدا، ويقول: “إن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار ونار”[91].

التشديد في توبة أكل المال الحرام:

ولا تقبل توبة آكل المال الحرام، حتى يردَّه إلى صاحبه، أو يتحلَّل منه، أى يطلب مسامحته فيما أخذ منه، فإن قَبِل، وإلا بقي الإثم في عنقه، حتى يردَّه إلى مستحقِّه، أو يعجز عن ذلك، فيعفو الله عنه، إذا علم صدق نيَّته وتوبته، ولو بالاجتهاد والتقريب، وإذا مات صاحب الحقِّ، فعليه الردُّ إلى ورثته.

وإذا كان الذين ظلمهم وأكل مالهم لا يُعرفون ولا يُحصَون، مثل التاجر الذي ظلَّ زمنا يغشُّ في بضاعته، أو يطفِّف في كيله أو ميزانه، أو نحو ذلك، ولا يعرف الناس الذين جار عليهم، فعليه أن يتصدَّق عنهم بمثل ما أخذ منهم، ولهم ثواب الصدقة.

حتى الشهيد الذي قُتل في سبيل الله تكفَّر ذنوبه كلُّها إلا الدين، كما جاء في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يُغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدين”[92].

ولا يغني عن آكل المال بالباطل أن يتصدَّق آكله به كلَّه أو بعضه، أو يبني به مسجدا، أو يكفل يتيما، أو يقيم مشروعا خيريا، فهو لا يُقبل منه، لأنه ليس ماله حتى يتصرَّف فيه هذا التصرُّف، وقد قال عليه الصلاة والسلام: “إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يرفع يده إلى السماء، يقول: يا ربِّ، يا ربِّ ومأكله حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟”[93].

تأصيل شيخ الإسلام ابن تيميه:

ولشيخ الإسلام ابن تيميه كلام قوي في كتابه (القواعد الفقهية النورانية)، فصَّل فيه القول حول أكل المال بالباطل، وأصَّله تأصيلا على عادته، فقال رحمه الله:

(والأصل في ذلك: أن الله حرَّم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل وذمَّ الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذمَّ اليهود على أخذهم الربا وقد نهَوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل وهذا يعمُّ كلَّ ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرُّعات، وما يؤخذ بغير رضا المستحقِّ والاستحقاق.

و أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان، ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر فذكر تحريم الربا، الذي هو ضدُّ الصدقة في آخر سورة البقرة، وسور آل عمران، والروم، والمدثر، وذمَّ اليهود عليه في سورة النساء، وذكر تحريم الميسر في المائدة.

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصَّل ما جمعه الله في كتابه، فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، كما رواه مسلم وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه[94] والغرر: هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار. وذلك: أن الفرس أو البعير إذا شرد، فإن صاحبه إذا باعه فإنما يبيعه مخاطرة، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حصل له قال البائع: قمرتني، وأخذتَ مالي بثمن قليل، وإن لم يحصل قال المشتري: قمرتني، وأخذتَ الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر، التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم، ففي بيع الغرر ظلم وعداوة وبغضاء.

وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، من بيع حَبَل الحبلة[95] والملاقيح والمضامين[96]، ومن بيع السنين[97]، وبيع الثمر قبل بدو صلاحه[98]، وبيع الملامسة والمنابذة[99]، ونحو ذلك: كلُّه من نوع الغرر.

وأما الربا: فتحريمه في القرآن أشد، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278، 279].

 وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، كما خرَّجاه في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه[100] وذكر الله أنه حرَّم على الذين هادوا طيبات أحلت لهم بظلمهم، وصدِّهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل[101]، وأخبر سبحانه أنه يمحق الربا، كما يُربي الصدقات، وكلاهما أمر مجرَّب عند الناس[102].

وذلك: أن الربا أصله إنما يتعامل به المحتاج، وإلا فالموسر لا يأخذ ألفا حالَّة بألف ومائتين مؤجَّلة، إذا لم يكن له حاجة لتلك الألف. وإنما يأخذ المال بمثله وزيادة إلى أجل مَن هو محتاج إليه، فتقع تلك الزيادة ظلما للمحتاج، بخلاف الميسر فإن المظلوم فيه غير معيّن، ولا هو محتاج إلى العقد، وقد تخلو بعض صوره عن الظلم، إذا وجد في المستقبل المبيع على الصفة التي ظنَّاها، والربا فيه ظلم محقَّق لمحتاج. ولهذا كان ضدَّ الصدقة، فإن الله لم يَدَع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإن مصلحة الغني والفقير في الدين والدنيا لا تتمُّ إلا بذلك.

فإذا أربى معه، فهو بمنزلة مَن له على رجل دين فمنعه دينه وظَلَمَه زيادة أخرى، والغريم محتاج إلى دينه، فهذا من أشدِّ أنواع الظلم. ويعظمه: لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكله وهو الأخذ، ومؤكله وهو المحتاج المعطي الزيادة، وشاهديه وكاتبه، لإعانتهم عليهم.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم أشياء مما يخفى فيها الفساد، لإفضائها إلى الفساد المحقَّق، كما حرَّم قليل الخمر: لأنه يدعو إلى كثيرها[103]، مثل ربا الفضل، فإن الحكمة فيه قد تخفى، إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات، مثل كون الدرهم صحيحا، والدرهمين مكسورين، أو كون الدرهم مصوغا، أو من نقد نافق، ونحو ذلك.

 ولذلك خفيت حكمة تحريمه على ابن عباس[104] ومعاوية[105] وغيرهما، فلم يروا به بأسا حتى أخبرهم الصحابة الأكابر – كعبادة بن الصامت وأبي سعيد وغيرهما – بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل.

وأما الغرر: فإنه ثلاثة أنواع: إما المعدوم، كحَبَل الحَبَلَة، وبيع السنين، وإما المعجوز عن تسليمه، كالفرس الشارد، وإما المجهول المطلق، أو المعيَّن المجهول جنسه أو قدره، كقوله: بعتك فرسا، أو بعتك ما في بيتي، أو بعتك عبيدي.

فأما المعيَّن المعلوم جنسه وقدره، المجهول نوعه أو صفته، كقوله: بعتُك الثوب الذي في كُمِّي، أو الفرس الذي أملكه ونحو ذلك: ففيه خلاف مشهور. وتغلب مسألة بيع الأعيان الغائبة، وعن أحمد فيه ثلاث روايات،

إحداهن: لا يصحُّ بيعه بحال، كقول الشافعي الجديد، والثانية: يصحُّ وإن لم يوصف، وللمشتري الخيار إذا رآه، كقول أبي حنيفة، وقد روي عن أحمد: لا خيار له، والثالثة:، وهي المشهور: أنه لا يصحُّ بالصفة، ولا يصحُّ بدون الصفة، كالمطلق الذي في الذمَّة وهو قول مالك.

و مفسدة الغرر أقلُّ من الربا، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه، فإن تحريمه أشدُّ ضررا من ضرر كونه غررا، مثل بيع العقار جملة، وإن لم يعلم دواخل الحيطان والأساس، ومثل بيع الحيوان الحامل أو المرضع، وإن لم يعلم مقدار الحمل أو اللبن، وإن كان قد نهى عن بيع الحمل مفردا، وكذلك اللبن عند الأكثرين، وكذلك بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، فإنه يصح مستحق الإبقاء كما دلَّت عليه السنة[106]، وذهب إليه الجمهور، كمالك والشافعي وأحمد وإن كانت الأجزاء التي يكمل الصلاح بها لم تخلق بعد.

و جوَّز النبي صلى الله عليه وسلم إذا باع نخلا قد أُبِّرت: أن يشترط المبتاع ثمرتها[107]، فيكون قد اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها، لكن على وجه البيع للأصل.

فظهر أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا، ما لا يجوز من غيره)[108].

 


 

(4)

القاعدة الرابعة: لا ضرر ولا ضرار

 

ومن القواعد الحاكمة والمهمَّة هنا: قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وأصلها الحديث النبوي المشهور: “لا ضرر ولا ضرار”، وقد صححه العلماء بمجموع طُرُقه[109]. وهو من أحاديث الأربعين (النوويه) والخمسين (الرجبيه).

ومعناه مقطوع به، لأنه مستنبط من آيات القرآن الكثيرة الناهية عن الضرر والضرار، ولهذا اتفقت كتب القواعد الفقهية، أو الأشباه والنظائر، على أن هذه القاعدة من القواعد الخمس الأساسية. بل ذهب بعضهم إلى أنه يمكن الاكتفاء بها عن كل القواعد. وهي من ركائز الاستدال على المصلحة المرسلة.

وقد بالغ العالم الحنبلي المعروف نجم الدين الطوفي (716هـ) في شرحه للحديث، من (الأربعين النوويه) واستنبط منه نفي الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام، إلا ما خصَّه الدليل، وهذا يقتضى تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلَّة الشرع، وتخصيصها به في نفي الضرر، وتحصيل المصلحة، وأطال في التدليل على هذا، مما فهم منه بعض الناس أنه يقدِّم المصلحة على النصِّ القطعي، وهو فَهم غير صحيح إذا قُرئ كلامه كلُّه[110] ولكن في بعض كلامه إبهامات وتجاوزات.

والضرر هو: الأذى أو الفساد يلحق بالشئ أوالشخص.

قال العلامة ابن رجب: (واختلفوا: هل بين اللفظتين – أعني: الضَّرر والضرار- فرقٌ أم لا؟ فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهورُ أنَّ بينهما فرقًا، (وهذا هو الراجح؛ لأن حمل الكلام على التأسيس أولى من حمله على التأكيد) ثم قيل: إنَّ الضَّرر هو الاسم، والضِّرار: الفعل، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك.

وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة، منهم ابن عبد البر، وابن الصلاح.

وقيل: الضرر: أن يضر بمن لا يضره والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز)[111].

وقد يبدو لى أن المراد بالضرر: إيذاء النفس بأيِّ نوع من الإذى المادي أو المعنوي.

والمراد بالضرار: ايقاع الأذى بالغير، أيًّا كان نوع هذا الأذى أو قدره، وأيًّا كان هذا الغير، قريبا أم بعيدا، مسلما أم غير مسلم، إنسانا أم حيوانا بل قد يدخل الجماد، مثل تلويث الماء أو الهواء أو إفساد التربة، ونحو ذلك مما يدخل في إفساد البيئة، أو الإخلال بالتوازن الكوني، الذي أقام الله عليه هذا العالم.

وبعضهم فسَّر الضرر: بأن يضرَّ أخاه ابتداء، والضرار بأن يضرَّه جزاء، والحديث يمنع ضرره ابتداءً وجزاءً.

وقوله: “لا ضرر ولا ضرار” نكرة في سياق النفي، تعم كل ضرر أو ضرار، خاصا كان أو عاما، فرديا كان أو جماعيا، كليا أو جزئيا، ماديا أو معنويا، آنيا أو مستقبليا، فوريا أو متدرجا. والنفي هنا معناه النهي؛ لأن الضرر والضرار واقعان في الناس لا محالة، ولكن بغير إذن الشرع، فهما محرَّمان، فجاء النهي في صورة النفي، لكونه أبلغ في الزجر.

التركيز على ضرر الغير دون ضرر النفس:

ولم أرَ أحدًا من الفقهاء ممن تعرضوا لشرح هذا الحديث أو شرح هذه القاعدة، ذكر أن نفى الضرر يشمل ضرر النفس، وإنما ركَّزوا على ضرر الغير، ابتداء أو جزاء، مع العلم أن المجمع عليه: أن المسلم منهي أن يؤذي نفسه، أو يجلب عليها الضرر بأي صورة، وقد قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وهذا يشمل القتل الفوري مثل الانتحار الذي يعد في الإسلام من أكبر الكبائر، كما يشمل الانتحار البطيء، ومن هنا حرم على الإنسان أن يتناول ما يضرُّه مختارا، ويدخل فيه التدخين وما شابهه.

كما يحرم على الإنسان أن يرهق نفسه، ويحمِّلها فوق ما تُطيق، ولو بالعبادة، ولهذا شرع الله الرُّخص تخفيفا عن عباده، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال الرسول الكريم لبعض أصحابه الذين بالغوا في تعبُّدهم: “فإن لجسدك عليك حقًّا”[112]، وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال جلَّ شأنه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وفي الحديث: “لا ينبغي لمسلم أن يذلَّ نفسه” قيل: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: “يتعرَّض من البلاء لما لا يطيق”[113].

كلام ابن رجب قارب ولم يصل:

ولكن وجدتُ العلامة ابن رجب في شرح حديث: “لا ضرر ولا ضرار”، قارب هذا المعني حين قال: (ومما يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر” أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة، فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم، لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضا ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]، وأسقط الصيام عن المريض والمسافر، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام، كالحلق ونحوه عمن كان مريضا، أو به أذى من رأسه، وأمر بالفدية وفي (المسند)، عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: “الحنيفية السمحة”[114] ومن حديث عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني أرسلت بحنيفية سمحة”[115].

ومن هذا المعنى ما في الصحيحين عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلا يمشي، قيل: إنه نذر أن يحج ماشيا، فقال: “إن الله لغني عن مشيه، فليركب”، وفي رواية: “إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه”[116].

وفي السنن عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب”[117])[118].

ومعنى كلام ابن رجب: أن الله تعالى لم يشرع قط ما يضرُّ بعباده، وهذا مسلَّم، ولكنه لم يتطرَّق إلى المعنى الآخر، وهو أنه لا يجوز للمكلَّف أن يضرَّ نفسه، ولفظ الحديث يقتضيه.

 وأما الضرار (أو المضارَّة) والمقصود به: مضارَّة الغير، كما ذكرنا سواء أكان ابتداء أم جزاء، فدلائله من القرآن والسنة وفيرة، أحيانا بصيغة الفعل يضارُّ أو تضارُّ أو تضارُّهن، أو اسم الفاعل (مضارّ)، أو المصدر (ضرارا).

مثل قوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233]، وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]، وقال تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6]، وقال تعالى في تقسيم المواريث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:12].

وأحيانا يأتي منع الضرار والإيذاء للغير بصِيَغ أخرى، لا يسهل حصرها، كتحريم عقوق الوالدين، وقتل الأولاد من إملاق، أو خشية إملاق، والإساءة إلى الزوجات، أو الأزواج، وقهر اليتامى، والتعدِّي على أموالهم، أو قربانها بغير التي هي أحسن، وحرمان الفقراء والمساكين من حقوقهم، وإيذاء الناس بيد أو لسان، وترويع الآمنين، واتهام البرآء من الناس، وإنكار الحقوق، وخيانة الأمانات، وشهادة الزور، وإعانة الظالمين، وموالاة الجبَّارين المستكبرين في الأرض، واحتكار الأقوات وكلِّ ما يحتاج إليه الناس، وإغلاء الأسعار على الخلق، والتلاعب في الأسواق، والغشِّ في التجارة، وتطفيف الكيل والميزان، وإيذاء المؤمنين والمؤمنات كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].

ولا يقتصر الضرار المحرَّم على المسلم، بل يشمل غير المسلم، ما دام مسالما للمسلمين، لا يقاتلهم، ولا يخرجهم من ديارهم، ولا يظاهر عليهم عدوًّا، كما في الحديث: “مَن قتل معاهدا لم يَرَح رائحة الجنة”[119].

وقد قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الممتحنة:8].

بل لا يقتصر تحريم الإيذاء أو العدوان على الناس، بل يشمل الحيوان والطير والحشرات وغيرها وفي الحديث: “دخلت امرأة النار في هرَّة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”[120].

الضرر والضرار المنفي هو ما كان بغير حق:

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار إذا كان بغير حق، كما قال ابن رجب.

(فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله، فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا.

 وإنما المراد: إلحاق الضرر بغير حق، وهذا على نوعين:

أحدهما: أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع:

  • منع المضارة في الوصية:

منها في الوصية، قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12].

وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر[121]، ثم تلا هذه الآية.

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث”[122].

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث، فتنقص حقوق الورثة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الثلث والثلث كثير”[123].

ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفذ ما وصى به إلا بإجازة الورثة، وسواء قصد المضارة أم لم يقصد، وأما إن قصد المضارة بالوصية لأجنبي بالثلث، فإنه يأثم بقصده المضارة، وهل ترد وصيته إذا ثبت ذلك بإقراره أو لا؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها ترد، وقيل: إنه قياس مذهب أحمد.

  • منع المضارة في الرّجعة للمطلقة:

ومنها: في الرجعة في النكاح، قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231]، وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة:228]، فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة، فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث: يطلق الرجل امرأته، ثم يتركها حتى تقارب انقضاء عدتها، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدا بغير نهاية، فيدع المرأة لا مطلقة ولا مُمسَكة، فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث مرات.

  • منع المضارة في الإيلاء وترك الجماع بغير عذر:

ومنها في الإيلاء، فإن الله جعل مدة المؤلي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على امتناع وطء زوجته، فإنه يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء، كان ذلك توبته، وإن أصر على الامتناع لم يمكَّن من ذلك، وفيه قولان للسلف والخلف:

 أحدهما: أنها تطلق عليه بمضي هذه المدة.

والثاني: أنه يوقف، فإن فاء، وإلا أمر بالطلاق.

 ولو ترك الوطء لقصد الإضرار بغير يمين مدة أربعة أشهر، فقال كثير من أصحابنا: حكمه حكم المؤلي في ذلك، وقالوا: هو ظاهر كلام أحمد.

وكذا قال جماعة منهم: إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذر، ثم طلبت الفرقة، فرق بينهما بناء على أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب، واختلفوا: هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر؟ ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء من غير عذر، فإنه يفسخ نكاحه، مع اختلافهم في تقدير المدة.

ولو أطال السفر من غير عذر، وطلبت امرأته قدومه، فأبي، فقال مالك وأحمد وإسحاق: يفرق الحاكم بينهما، وقدره أحمد بستة أشهر، وإسحاق بمضي سنتين.

  • منع المضارة في الرضاع:

ومنها: في الرضاع، قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233]، قال مجاهد في قوله: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال: لا يمنع أمه أن ترضعه ليحزنها[124]، وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم: إذا رضيت ما يرضى به غيرها، فهي أحق به وهذا هو المنصوص عن أحمد، ولو كانت الأم في حبال الزوج وقيل: إن كانت في حبال الزوج، فله منعها من إرضاعه، إلا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها، وهو قول الشافعي، وبعض أصحابنا، لكن إنما يجوز ذلك إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع، لا مجرد إدخال الضرر عليها.

وقوله:{وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}، يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت إرضاع ولدها بأجرة مثلها، لزم الأب إجابتها إلى ذلك، وسواء وجد غيرها أو لم يوجد هذا منصوص الإمام أحمد، فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كثيرة، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل، لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت، لأنها تقصد المضارة، وقد نص عليه الإمام أحمد.

  • منع المضارة في البيع:

ومنها: في البيع، وقد ورد النهي عن بيع المضطر.

وقال عبد الله بن معقل: بيع الضرورة ربا (يعنى: استغلال حاجة المضطر ليشتري منه الشيء بثمن بخس) وقال حرب: سئل أحمد عن بيع المضطر، فكرهه، فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح بالعشرة خمسة؟ فكره ذلك وإن كان المشتري مسترسلا لا يحسن أن يماكس، فباعه بغبن كثير، لم يجز أيضا قال أحمد: الخلابة: الخداع، وهو أن يغبنه فيما لا يتغابن الناس في مثله؛ يبيعه ما يساوي درهما بخمسة[125]، ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك.

ولو كان محتاجاً إلى نقد، فلم يجد من يقرضه، فاشترى سلعة بثمن إلى أجل في ذمته، ومقصوده بيع تلك السلعة، ليأخذ ثمنها، فهذا فيه قولان للسلف، ورخص أحمد فيه في رواية، وقال في رواية: أخشى أن يكون مضطرا؛ فإن باع السلعة من بائعها له، فأكثر السلف على تحريم ذلك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم.

قال ابن رجب: ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدا، وإنما ذكرنا هذا على وجه المثال.

أقول (القرضاوي): ومن أنواع المضارة التي نهى عنها القرآن: مضارة الكاتب في الدين، والشاهد فيه وبه، وفي البيع، فقد قال تعالى في آية المداينة: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة:282].

النوع الثاني: من ايقاع الضرر بالغير:

قال ابن رجب: والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرا له، فيتضرر الممنوع بذلك.

فأما الأول وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره فإن كان على غير الوجه المعتاد، مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف، فيحترق ما يليه، فإنه متعد بذلك، وعليه الضمان وإن كان على الوجه المعتاد، ففيه للعلماء قولان مشهوران:

أحدهما: لا يمنع من ذلك، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما.

والثاني: المنع، وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور؛ فمن صور ذلك: أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو يبني بناء عاليا يشرف على جاره ولا يستره، فإنه يلزم بستره، نص عليه أحمد، ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي، قال الروياني منهم في كتاب الحلية: يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعنت، وقصد الفساد، قال: وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.

ومنها أن يحفرَ بئراً بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماؤها، فإنَّها تُطَمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد.

ومنها: أنْ يحدث في ملكه ما يضرُّ بملك جاره، من هزٍّ أو دقٍّ ونحوهما، فإنَّه يُمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحدُ الوجوه للشافعية، وكذا إذا كان يضرُّ بالسُّكَّان، كما له رائحةٌ خبيثة ونحو ذلك. ومنها: أنْ يكونَ له ملكٌ في أرض غيره، ويتضرَّرُ صاحبُ الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنَّه يُجبرُ على إزالته، ليندفعَ به ضررُ الدخول)[126].

قاعدة أساسية في الفقه:

وقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) قاعدة أساسية كبرى في الفقه الإسلامي، وهي إحدي القواعد الخمس، حتى ذهب بعضهم أنها يمكن أن تُغني عن القواعد الأخرى: الأمور بمقاصدها، والمشقة تجلب التيسير، والعادة محكمة، واليقين لا يزال بالشك.

وهذه القاعدة – كما يرى العلامة مصطفي الزرقا – من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، وهي أساس لمنع الفعل الضارِّ، وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي عدَّة الفقهاء وعمدتهم وميزانهم في طريق تقرير الأحكام الشرعية للحوادث.

أ- ونصها ينفي الضرر نفيا، فيوجب منعه مطلقا، ويشمل الضرر الخاص والعام، ويشمل ذلك دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ورفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره وتمنع تكراره.

وتدلُّ أيضا على وجوب اختيار أهون الشرَّين لدفع أعظمهما، لأن في ذلك تخفيفا للضرر عندما لا يمكن منعه بتاتا.

ومن ثم كان إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه القاعدة، وإن ترتَّب عليها ضرر بهم، لأن فيها عدلا ودفعا لضرر أعم وأعظم.

ب- والمقصود بمنع الضرار: نفي فكرة الثأر المحض، الذي يزيد في الضرر، ولا يفيد سوى توسيع دائراته؛ لأن الإضرار – ولو على سبيل المقابلة – لا يجوز أن يكون هدفا مقصودا وطريقا عامة، وإنما يلجأ إليه اضطرارا، عندما لا يكون غيره من طرق التلافي والقمع أفضل منه وأنفع.

فمَن أتلف مال غيره مثلا لا يجوز أن يقابل بإتلاف ماله، لأن ذلك توسيع للضرر بلا منفعة، وأفضل منه تضمين المتِلف قيمة ما أتلف، فإن فيه نفعا بتعويض المضرور، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المعتدي، فإنه سيَّان بالنسبة إليه إتلاف ماله وإعطاؤه للمضرور لترميم الضرر الأول فأصبحت مقابلة الإتلاف بالإتلاف مجرَّد حماقة.

وذلك بخلاف الجناية على النفس والبدن مما شرع فيه القصاص فمَن قتَل يُقتل، ومن قَطَعَ يُقطع، لأن هذه الجنايات لا يقمعها إلا عقوبة من جنسها، كي يعلم الجاني أنه في النهاية كمَن يعتدي على نفسه وكلُّ عقوبة أخرى لا تعيد للمجني عليه ما فقد من نفس أو عضو، فتظلُّ حزازات النفوس كامنة تندفع إلى الثأر، وتجرُّ وراءها ذيول الويلات والفساد فيبقي طريق القصاص في الجنايات على النفوس والأعضاء أنفع، لأنه أعدل وأقمع.

أما إتلاف المال، فإن التضمين فيه هو التدبير السديد المفيد دون مقابلة الإتلاف بالإتلاف.

وعلى هذه القاعدة بنى الفقهاء أحكاما لا تحصي من شتَّى الأبواب، فقرَّروا أنه:

1- لو انتهت مدَّة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع، تبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد، منعا لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أوانه.

2- ولو باع شيئا مما يسرع إليه الفساد كالفواكه مثلا، وغاب المشتري قبل نقد الثمن وقبض المبيع، وخيف فساده، فللبائع أن يفسخ البيع، ويبيع من غيره، دفعا لضرره (ردِّ المختار من متفرقات البيوع).

3- ولو اشتري شيئا وآجره، ثم اطلع على عيب قديم فيه، يعتبر هذا عذرا له يسوغ له فسخ الإجارة، ليتمكَّن من ردِّه على بائعه، إزالة للضرر عن نفسه، والإجارة تفسخ بالأعذار.

4- وجميع صور الاضطرار إلى دفع الدين عن الغير بلا إذنه – حيث لا يعتبر الدافع متبرِّعا، بل يحقُّ له الرجوع على المدين بما دفعه عن ذمته منعا للضرر عن نفسه، كما تقدَّم – هي من فروع هذه القاعدة[127] إلى فروع كثيرة ذكرتها كتب الأشباه والنظائر.

وقد بنى الفقهاء عليها قواعد فرعية أخرى مهمَّة في العبادات والمعاملات، تتفرع عليها أحكام جزئية تطبيقية شتَّى من هذه القواعد:

أ- قاعدة: الضرر يدفع بقدر الإمكان:

وهذه القاعدة هي الأساس الفقهي أو الشرعي لما تقوم به وزارات الصحة والجهات المسؤولة عن عافية الجماهير، وسلامتها من الأمراض المعدية، بإتخاذ الإجراءات الصحية اللازمة بمنع انتشار المرض، وخصوصا في حالات الأوبئة، التي تهدد الملايين، إذا لم تواجه بالأحتياطات الوقائية الكافية.

يؤيِّد ذلك تحذيره صلى الله عليه وسلم من انتشار العدوى، وفق سنة الله في الكون والناس. كما صح في الحديث: “فر من المجذوم فرارك من الأسد”[128]، وفي صحيح مسلم: أن وفد ثقيف حين وفد عليه صلى الله عليه وسلم من الطائف، كان فيهم رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلي الله عليه وسلم: “ارجع فقد بايعناك!”[129].

بل قد شملت التوجيهات النبوية للاحتراز من العدوي الإنسان والحيوان جميعا، فقال عليه الصلاة والسلام: “لَا يُورَد مُمْرض عَلَى مُصِحٍّ “[130]، والممرض: صاحب الابل المريضة، والمصح: صاحب الإبل الصحيحة. ومعنى (يوردها) أى عندما يأتي بها إلى الأحواض لسقيها، لا يخلط المريضة بالصحيحة، فتنقل إليها المرض بالاحتكاك والعدوى، يتأذي الحيوان، ويضيع المال بسبب التفريط والإهمال.

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي خزامة، قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت دواء نتداوى به، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، أترد من قدر الله تبارك وتعالى شيئا؟ قال: “إنها من قدر الله تبارك وتعالى” [131]. فكان جوابه عليه السلام جوابا حاسما، وضع الحقيقة في موضعها.

وبين أن الأسباب من قدر الله، كما أن المسببات من قدر الله. والله قدر المسببات بأسبابها، وجعل من سنته دفع قدر بقدر، فيدفع الإنسان قدر الجوع بقدر الغذاء، وقدر الداء بقدر الدواء. ويدفع قدر الأعداء المتربصيين بقدر إعداد العدة لهم، وكل من الدافع والمدفوع قدر الله.

وحينما ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه عدد من الصحابة، وعلم أن بالشام وباء مُخيفا، هو الطاعون الذي إذا نزل بقوم انتشر فيهم انتشار النار في الهشيم.

فشاور عمر الصحابة والمهاجرين والأنصار، ومشيخة قريش، وانتهى الرأى إلى رجوع عمر بمن معه، بعد أنهم عن مواطن الخطر.

فقال أبو عبيدة بن الجراح: اتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم افر من قدر الله إلى قدر الله.

وقد جاء بعد ذلك عبد الرحمن بن عوف – وكان غائبا – فروى لهم ما سمعه من رسول الله صلي الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال: “إذا سمعتم بالطاعون في أرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه”[132].

وأما ما يتمسك به بعضهم في نفى (سنة العدوى) وهو حديث: “لا عدوى”[133]، فالمراد: أن الأمراض لا تعدى بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.

وسنته في الكون والحياة، فقد ربطها بشبكة من الأسباب والمسببات، وهذا هو الفهم السديد حتى لا نضرب النصوص بعضها ببعض.

وهذا هو الموقف الشرعي السليم من (انفلونزا الخنازير) التي يتحدث العالم عنها اليوم. وهو وجوب الاحتراز وضرورة الوقاية منها، دون أن نعطل الدنيا أو الدين.

وهي القاعدة التي تحدَّدت بالمادة رقم (3) من المجلة، وهذه القاعدة: تعبر عن وجوب دفع الضرر قبل وقوعه، بكل الوسائل الكافية والكافلة، وفقا لقاعدة المصالح المرسلة، والسياسة الشرعية؛ لأن الوقاية خير من العلاج، بل قال بعضهم: درهم وقاية خير من قنطار من العلاج، وفي الحديث الشريف: “ومَن يتوقَّ الشرَّ يوقه”[134].

ومن هذا أخذت قاعدة (الدفع مقدم على الرفع)، أي بدل أن تبذل الجهد والوقت والمال لإزالة الشر، حاول أن تمنعه قبل وقوعه. بدل علاج الإدمان من المسكرات والمخدرات، نمنعها أساسا.

وذلك بقدر الإمكان، لأن التكليف الشرعي على حسب الوسع، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286]، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وحكى القرآن عن سيدنا شعيب قوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88]، وفي الحديث: “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”[135]، ولذلك تطبيقات شتى:

فى ميدان المصالح العامة:

شرع الجهاد والإعداد له لدفع شر الأعداء، كما قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فهذا الإعداد يرهب الأعداء، فيمنعهم من التفكير في العدوان على المسلمين.

ووجبت العقوبات حدودا وتعازير، لقمع الإجرام، وصيانة الأمن الداخلي، ووجب سد ذرائع الفساد وأبوابه من جميع أنواعه، إلى غير ذلك من التدابير اللازمة لدفع الشرور والخيانة والحيلولة دونه وقوعها.

ونضيف هنا في هذا المجال: دفع ضرر (التدخين) قبل وقوعه، يمنع زراعة (التبغ) أو صناعته أو استيراده.

وكذلك منع المسكرات والمخدرات، يمنع صناعتها أو استيرادها أو التجارة فيها، بل وجوب سد الذرائع إليها بدل فتح الأبواب لها، ثم محاربتها بعد ذلك، ومعاقبة مروجيها، ثم معالجة مدمنيها.

وقد دفع الشارع ضرر هذه السموم، فمنع القليل منها حتى لا يفضي إلى الكثير، وحرم الجلوس على موائدها، ولعن في الخمر عشرة، حتى عاصرها، الذي يعصر العنب ليصير خمرا، ومعتصرها طالب ذلك.

ولعن كل من يعين على الربا من كاتب وشاهد؛ لسدِّ الطريق إلى المحرَّمات، التي لم يحرِّمها الله إلا لضررها بالإنسان فردا أو مجتمعا.

وقد نهى الشرع عن بيوع الغرر، لما يمكن أن تؤدِّي إليه من التنازع فوقى من الشرِّ قبل وقوعه.

وكذلك حرَّم بيع السلاح في الفتنة، توقيا من استعماله في غير ما شرع له، وكذلك ترويج كل سلعة، يتوقع أن تستخدم في الشر، من باب الوقاية و سد الذريعة.

ومن ذلك: وضع قواعد السير للسيارات والمارَّة في الطريق، مما يوجبه نظام المرور، من الوقوف عند الإشارات الحمراء، والوقوف عند الخروج من شارع فرعى، وعدم مجاوزة السرعة المحدوده للطريق، والتزام العمل بالأنظمة السائدة، ووضع غرامات متفاوته للمخالفين، كلُّ ذلك دفعا لما يتوقَّع من ضرر اصطدام المركبات بعضها مع بعض، واصطدامها بالمارَّة، وفي ذلك من الخسائر في الأرواح والأموال ما فيه.

ومن ذلك: اشتراط حصول سائق السيارة على (رخصة للقيادة)، لا ينالها في العادة إلا مَن أتقن فنَّ القيادة، ونجح في امتحانها.

ومنه: اشتراط الحصول على ترخيص من البلدية بالبناء، يتضمن توافر أمور لا بد منها، حتى يبنى على أساس معين، لا يضر سكانه ولا جيرانه.

ومنه: اشتراط الرخصة أو الشهادة، في مزاولة أية مهنة متعلقة بحياة الناس أو بصحَّتهم، أو بأموالهم ومصالحهم. كل هذا لحمايتهم ووقايتهم من الضرر والمفسدة قبل أن تقع.

وفي ميدان الحقوق الخاصة:

شُرِعَ حق الشفعة لمقاصد، منها دفع ضرر الإشتراك في الملك وسوء الجوار.

وشُرِعَ الحَجْر على السفيه، لدفع ضرر سوء تصرفاته عن نفسه وأسرته.

ب – قاعدة (الضرر يزال):

 وهي نصُّ المادة (20) من المجلة، قال شارح المجلة في (درر الحكام): (لأن الضرر هو ظلم وغدر، والواجب عدم إيقاعه، وإقرار الظالم على ظلمه حرام وممنوع أيضا، فيجب إزالته)[136].

وقال السيوطي وابن نُجيم: ويُبنى على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه، فمن الأحكام التي بُنيت عليها: الردُّ بالعيب، أى مَن وجد عيبا في السلعة التي اشتراها، يردُّها على صاحبها بسبب هذا العيب.

ومن ذلك الردُّ بجميع أنواع الخيار: (مثل خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار الغَبن الفاحش).

ومن ذلك: الحجر بسائر أنواعه: الحجر على الصغير والمجنون لصالحهما، والحجر على السفيه لصالحه والإبقاء على ماله من سوء تصرُّفه، والحجر على المدين، من أجل حقوق الدائنين.

ومن ذلك: تقرير حقِّ (الشفعة) للشريك وللجار، فإنها للشريك، لدفع ضرر قسمة العقار الواحد، وللجار لدفع ضرر الجار السوء، كما قال الشاعر:

فقلت لهم: كفوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص!

ومن ذلك: شرعية القصاص والحدود، لما فيها من زجر عن ارتكاب المنكرات التي حرَّمها الله، من القتل والزني والقذف والسرقة وقطع الطريق والردَّة والسُّكر، حفاظا على الضروريات التي جاءت الشريعة برعايتها من الدين والنفس والنسل والعقل والمال.

ومن ذلك: شرعية ضمان المتلفات، حتى لا تضيع على الناس أموالهم وحقوقهم، وإن كان المتلف صبيا أو مجنونا، فيجب على وليه أن يمنعه من اضرار الناس، وإلا ضمن ما أتلفه.

ومن ذلك: جبر الشريك على قسمة المال المشترك، وإن كان بعضهم يريد تأخيرها؛ دفعا لضرر الشركاء، كالورثة ونحوهم.

ومن ذلك: نصب الأئمة وولاة الأمر على الناس، حتى لا يصير الأمر فوضى، إذ لا بد للناس من أمراء

لا يصلح الناس فوضى لا سَرَاة لهم ولا سَرَاة إذا جهَّالهم سادوا

ومثله: نصب القضاة، ليحكموا بين الناس بالشرع والعدل، دفعا للتنازع، ومنعا لجور القوى على الضعيف، واستخلاصا للحقوق من جاحديها، أو آخذيها بغير حقٍّ. وهذا والذي قبله يدخل في دفع الضرر كما يدخل في إزالة الضرر.

ومن ذلك: دفع الصائل، الذي يستعمل قوَّته في العدوان على أنفس الناس أو أموالهم أو حرماتهم، فيجب مقاومته بأخفِّ الوسائل إن كفت، فلا يجوز أن يقاتل بالسيف إن أمكن ردعه بالعصا وإلا انتقل إلى الأشدِّ منها فالأشدِّ، حتى يندفع شرَّه، ولو بقتله.

ومن ذلك: قتال المشركين، فقد شُرع لدفع شرِّهم عن المسلمين، لا لإجبارهم على الدخول في الإسلام، كما يزعم الزاعمون، وقد قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90]، وقال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} [البقرة:256].

 وكذلك البُغاة يُقاتَلون لردِّ بغيهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله.

 وقال العلامة الزرقا في شرح هذه القاعدة في (مدخله الفقهي): (هذه القاعدة تعبِّر عن وجوب رفع الضرر وترميم آثاره بعد الوقوع.

ففي ميدان الحقوق العامة، إذا سلَّط الإنسان ميزابه على الطريق، بحيث يضرُّ بالمارِّين؛ يضمن المتلف عوض ما أتلف، للضرر الذي أحدثه.

وإذا طالت أغصان شجرة لشخص، وتدلَّت على دار جاره فأضرَّته، يكلَّف رفعها أو قطعها.

وقد شرع كثير من الخيارات في العقود لإزالة الأضرار الواقعة على أحد المتعاقدين، كخيار العيب، وخيار الغبن بالتغرير، وخيار تفريق الصفة)[137].

ج– الضرر لا يزال بالضرر:

قال السيوطي: (قال ابن السبكي: وهو كعائد يعود على قولهم: (الضرر يزال، ولكن لا بضرر)، فشأنهما شأن الأخص مع الأعم بل هما سواء، لأنه لو أزيل بالضرر، لما صدق (الضرر يُزال). والمقصود أن الضرر لا يزال بمثله ولا بأكبر منه من باب أولى.

ومن فروع هذه القاعدة:

عدم وجوب العمارة على الشريك وإنما يقال لمريدها: أنفق واحبس العين إلى استيفاء قيمة البناء، أو ما أنفقته. فالأول إن كان بغير إذن القاضي، والثاني إن كان بأذنه، وهو المعتمد. وعدم إجبار الجار جاره على وضع الجذوع أى على جدار له.

وألّا يأكل المضطر طعام مضطر آخر، إذ هما في الاضطرار سواء. ويجب على مَن معه بذله له، ولا يحل له قتل ولده، ولا قطع فلذة من فخذه، ولا قطع فلذة من نفسه: إن كان الخوف من القطع، كالخوف من ترك الأكل أو أكثر.

ولو وقع دينار في محبرة، ولم يخرج إلا بكسرها، كُسرت وعلى صاحبه الأرش التعويض فلو كان بفعل صاحب المحبرة فلا شيء.

ولو أدخلت بهيمة رأسها في قِدر، ولم يخرج إلا بكسرها، فإن كان صاحبها معها، فهو مفرِّط بترك الحفظ، فإن كانت غير مأكولة، كُسرت القدر، وعليه أرش النقص، أو مأكولة، ففي ذبحها وجهان وإن لم يكن معها، فإن فرَّط صاحب القدر، كُسرت، ولا أرش، وإلا فله الأرش.

ولو التقت دابتان على شاهق، ولم يمكن تخليص واحدة إلا بإتلاف الأخرى، لم يفت واحد منهما، بل مَن ألقى دابة صاحبه وخلص دابته ضمن.

ولو سقط على جريح، فإن استمر قَتَله، وإن انتقل قتل غيره، فقيل: يستمر؛ لأن الضرر لا يُزال بالضرر، وقيل: يتخيَّر للاستواء، وقال الإمام (أى إمام الحرمين): لا حكم فيه في هذه المسألة.

ولو رهن المفلس المبيع، أو غرس، أو بنى فيه، فليس للبائع الرجوع في صورة صحة الرهن؛ لأن فيه إضرارا بالمرتهن، ولا في صورة الغرس، ويبقى الغرس والبناء للمفلس، لأنه ينقص قيمتها، ويضرُّ بالمفلس والغرماء.

قال ابن السبكي: يُستثنى من ذلك: ما لو كان أحدهما أعظم ضررا.

وعبارة ابن الكتاني: لا بد من النظر لأخفِّهما وأغلظهما.

ولهذا شُرع القصاص والحدود، وقتال البغاة، وقتال قاطع الطريق، ودفع الصائل، والشفعة، والفسخ بعيب المبيع، والنكاح، والإجبار على قضاء الديون، والنفقة الواجبة، وأخذ المضطر طعام غيره، وقتاله عليه، وقطع شجرة الغير إذا حصلت في هواء داره، وشق بطن الميت إذا بلع مالا، أو كان في بطنها ولد تُرجى حياته ورمي الكفار إذا تترسوا بنساء وصبيان، أو بأسرى المسلمين.

ولو كان له عشر دار لا يصلح للسكنى، والباقي لآخر، وطلب صاحب الأكثر القسمة، أجيب في الأصحِّ، وإن كان فيه ضرر شريكه.

ولو أحاط الكفار بالمسلمين، ولا مقاومة بهم، جاز دفع المال إليهم، وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال إذا لم يمكن بغيره؛ لأن مفسدة بقائهم في أيديهم، واصطلامهم (أي إبادتهم) للمسلمين أعظم من بذل المال.

والخلع في الحيض لا يحرم، لأن إنقاذها منه مقدَّم على مفسدة تطويل العدَّة عليها.

ولو وقع في نار تحرقه، ولم يخلص إلا بماء يغرقه؛ ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات النار، فله الانتقال إليه في الأصحِّ.

ومثل لذلك العلامة التركي على حيدر في شرحه لهذه المادة (25) من المجلة بقوله: (لو أن شخصا فتح حانوتا في سوق، وجلب أكثر المشترين لجانبه، بصورة أوجبت الكساد على باقي التجار، فلا يحق للتجار أن يطالبوا بمنع ذلك التاجر عن المتاجرة، بدعوى أنُه يضر بمكاسبهم، لأن منع ذلك التاجر عن التجارة هو ضرر به، بقدر الضرر الحاصل للتجار الآخرين[138].

 كذلك الشركة في الأموال هي ضرر، ولذلك قد جوزت القسمة بين الشركاء إزالة للضرر. والحاكم عند الإيجاب يحكم بالمقاسمة بين الشركاء جبرا. أما إذا كان المال المشترك (طاحونا) وطلب أحد الشركاء تقسيمه، فلأن تقسيم الطاحون يوجب ضرر الشركاء الآخرين الذين يرفضون المقاسمة، فالحاكم لا يجبر الشركاء على المقاسمة حيث يكون قد أزال الضرر بمثله أو بأكثر منه. (وفي القانون اليوم: يزال هذا الشيوع بالبيع وتوزيع الثمن على الشركاء).

كذلك يجوز لمن تحقق الهلاك جوعا أن يأخذ من غيره ما يدفع به الهلاك عن نفسه غصبا، لكن لو كان صاحب المال محتاجا إليه كاحتياجه له وبأخذه منه يصبح معرضا للهلاك أيضا، لا يحق له أن يأخذه منه، إذ أنه بدفع ضرره يجلب ضررا لغيره مساويا لضرره.

 كذلك إذا ظهر في المبيع عيب عند المشتري لا يحق له رد المبيع لوجود عيب قديم فيه، إلا أنه يحق للمشتري أن يرجع على البائع بنقصان الثمن، أي بالفرق بين قيمة المبيع معيبا وقيمته سالما من العيب)[139]. ما لم يرض برد المبيع مع عيبه الحادث.

ومن ذلك: أنه لا تفرض النفقة للفقير على قريبه إذا كان فقيرا مثله.

ومن ذلك أيضا: أن من عليه دين لا يطالب به مع عسرته، بل يجب انظاره وامهاله حتى تواتيه ميسرة، وقد قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]. وهذا ما أمر به القرآن في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وعلى هذا جمهور العلماء، خلافا لما روي عن شريح.

ولا يُكلَّفُ المدينُ أن يقضيَ مما عليه في خروجه من ملكه ضررٌ، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه، وخادمه كذلك، ولا ما يحتاجُ إلى التجارة به لِنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد[140].

د- يُتَحمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام:

ويُستثنى من هذه القاعدة، ما إذا تعارض ضرران أو مفسدتان فإنه يراعى أعظمهما ضررا، بارتكاب أخفِّهما، وكذلك إذا كان أحد الضررين خاصًّا والآخر عامًّا، فهنا قالوا: يُتحمَّل الضرر الخاص، لأجل دفع الضرر العام وهذا مقيِّد لقولهم: الضرر لا يُزال بمثله إلا أن يراد بمثله: أن يكون مثله في القدر والعدد ونحو ذلك، فإن العام ليس مثل الخاص، والأعلى ليس مثل الأدنى، والأشد ليس مثل الأخف.

وعليه فروع كثيرة: منها: جواز الرمي إلى كفار تترَّسوا بنسائهم أو بصبيانهم أو بأسرى المسلمين.

ومنها: وجوب نقض حائط مملوك مَالَ إلى طريق العامة على مالكه؛ دفعا للضرر العام.

ومنها: جواز الحجر على البالغ العاقل الحرِّ – عند أبي حنيفة رحمه الله – في ثلاث: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري (متعهد نقل الأشخاص والأشياء) المفلس؛ دفعا للضرر العام: في المفتي دفعا لضرر الأديان، وفي الطبيب دفعا لضرر الأبدان، وفي المكاري دفعا لضرر الأموال، وكلُّها من الضروريات.

ومنها: جوازه على السفيه عندهما (أى عند أبي يوسف ومحمد) وعليه الفتوى؛ دفعا للضرر العام؛ لأنه وإن كان يتصرَّف في مال نفسه، يضرُّ بمال الجماعة، ولذا أضاف القرآن أموال السفهاء إلى الجماعة حين قال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، فأضاف الأموال إلى المخاطبين لما قلنا.

ومنها: بيع مال المديون المحبوس عندهما لقضاء دينه، دفعا للضرر عن الغرماء، وهو المعتمد.

ومنها: التسعير عند تعدِّي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش، لدفع الضرر عن عموم الناس.

ومنها: بيع طعام المحتكِر جبرا عليه عند الحاجة وامتناعه من البيع؛ دفعا للضرر العام.

ومنها: منع اتخاذ حانوت للطبخ بين البزَّازين (باعة الثياب)، لتضرُّرهم بالدخان المنبعث من المطبخ[141]، وكذا كلِّ ضرر عامٍّ، كذا في الكافي وغيره وتمامه في شرح منظومة ابن وهبان من الدعوى.

ومنها: ما تمنعه القوانين في عصرنا من البناء إلا برخصة من البلدية، وهي لا تمنحها إلا لمَن استوفى شروطا معيَّنة تتنوَّع بنوع المنطقة التي يبني فيها، ففي بعض المناطق يمنع تعلية البنيان إلا بمقدار معيَّن، وفي بعضها يفرض ترك مساحة بين الجيران بعضهم وبعض، وفي بعضها تمنع المخابز، أو المحلات الصناعية وغيرها، دفعا للضرر العام.

وفي شرح هذه المادة (26) من المجلة يقول الشارح: (بما أن الضرر الخاص لا يكون مثل الضرر العام بل دونه، فيدفع الضرر العام به، فمنع الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمُكَاري المفلس، من مزاولة صناعتهم ضرر لهم، إلا أنه خاصٌّ بهم، ولكن لو تُركوا وشأنهم يحصل من مزاولتهم صناعتهم ضرر عام، كإهلاك كثير من الناس بجهل الطبيب، وتضليل العباد مع تشويش كثير في الدين بمجون المفتي، وغشِّ الناس من المكاري.

وكذلك جواز هدم البيت الذي يكون أمام الحريق منعا لسراية النار.

كذلك إذا كانت أبنية آيلة للسقوط والانهدام، يجبر صاحبها على هدمها خوفا من وقوعها على المارَّة.

كما أنه يجوز تحديد أسعار المأكولات عند طمع التجار في زيادة الأرباح، زيادة تضرُّ بمصالح العامة.

وكذلك يمنع إخراج بعض الذخائر (السلع المخزونة) والغلال من بلدة لأخرى، إذا كان في إخراجها ارتفاع الأسعار في البلدة)[142].

هـ ـ يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف:

تقييد القاعدة أيضا، بما لو كان أحدهما أعظم ضررا من الآخر؛ فإن الأشدَّ يزال بالأخفِّ، فمن ذلك الإجبار على قضاء الدين، والنفقات الواجبات.

ومنها: حبس الأب لو امتنع عن الإنفاق على ولده؛ بخلاف الدَّين أي إذا كان مدينا لولده، لا يحبس من أجل سداد الدين، لأن النفقة ضرورية لبقاء الإنسان بخلاف سداد الدين.

ومنها: لو غصب ساجة، أي خشبة، وأدخلها في بنائه؛ فإن كانت قيمة البناء أكثر يملكها صاحبه بالقيمة، وإن كانت قيمتها أكثر من قيمته، لم ينقطع حقُّ المالك عنها.

ومنها: لو غصب أرضا فبنى فيها أو غرس؛ فإن كانت قيمة الأرض أكثر قلعا ورُدَّت، وإلا ضمن له قيمتها.

ومنها: لو ابتلعت دجاجة لؤلؤة؛ ينظر إلى أكثرهما قيمة، فيضمن صاحب الأكثر قيمة الأقل.

وعلى هذا لو أدخل فصيلَ غيره في داره، فكبر فيها، ولم يمكن إخراجه إلا بهدم الجدار، وكذا لو أدخل البقر رأسه في قدر من النحاس فتعذر إخراجه، هكذا ذكر أصحابنا رحمهم الله، كما ذكره الزيلعي في كتاب الغصب.

وفصل الشافعية؛ فقالوا: إن كان صاحب البهيمة معها، فهو مفرِّط بترك الحفظ فإن كانت غير مأكولة كُسرت القدر، وعليه أرش النقص، أو مأكولة ففي ذبحها وجهان وإن لم يكن معها، فإن فرَّط صاحب القدر كُسرت، ولا أرش، وإلا فله الأرش.

وينبغي أن يلحق بمسألة البقرة، ما لو سقط ديناره في محبرة غيره، ولم يخرج إلا بكسرها.

ومنها: جواز دخول بيت غيره إذا سقط متاعه فيه، وخاف صاحبه أنه لو طلبه منه لأخفاه.

ومنها: مسألة الظفر بجنس دينه.

ومنها: جواز شقِّ بطن الميتة؛ لإخراج الولد إذا كانت تُرجى حياته.

وقد أمر به أبو حنيفة رحمه الله، فعاش الولد كما في (الملتقط) قالوا: بخلاف ما إذا ابتلع لؤلؤة فمات، فإنه لا يشق بطنه؛ لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال.

وسوَّى الشافعية بينهما في جواز الشقِّ.

وفي (تهذيب القلانسي) من الحظر والإباحة: وقيمة الدُّرَّة في تركته، وإن لم يترك شيئا لا يجب شيء (انتهى).

ومنها: طلب صاحب الأكثر القسمة، وشريكه يتضرَّر؛ فإن صاحب الكثير يُجاب على أحد الأقوال؛ لأن ضرره في عدم القسمة أعظم من ضرر شريكه بها وفي شرح هذه المادة (27) من المجلة يقول الشارح: (يعني أن الضرر تجوز إزالته بضرر يكون أخف منه، ولا يجوز أن يزال بمثله أو بأشد منه، حسب ما وضحنا بالمواد السابقة.

مثال: إذا أحدث المشتري في العقار المشفوع (يعنى: الذي له جار يستحقُّه بالشفعة) أبنية، فلو أجبر المشتري – والحالة هذه – على قلعها، وتسليم العقار المشفوع للشفيع، يتضرَّر المشتري، كما أنه إذا أُجبر الشفيع على أخذ المشفوع مع دفع قيمة البناء الذي أحدثه المشتري، يتضرَّر أيضا، بإجباره على دفع نقود ثمنا للبناء المحدث، زيادة عن قيمة المشفوع، إلا أن هذا الضرر أخف من ضرر المشتري فيما لو أجبرناه على قلع البناء، إذ يضيع ما أنفقه على البناء بلا مقابل، بخلاف الشفيع فإنه يأخذ مقابل الثمن الذي يدفعه: البناء أو الشجر. إذا فضرر الشفيع أخفُّ من ضرر المشتري، فيختار ويكلف ذلك الشفيع بأخذ الأبنية ودفع القيمة للمشتري.

كذلك إذا أدخل فرس تساوي قيمته ألف جنيه رأسه في إناء شخص تساوي قيمته مائة جنية، ولا يمكن إخراج رأس الفرس من الإناء إلا بكسره، فخوفا من موت الفرس يدفع صاحبه قيمة الإناء لصاحبه ويكسره؛ لأن ذلك أخفُّ ضررا من موت الفرس كما لا يخفى)[143].

و – درء المفاسد أولى من جلب المصالح:

ونظير هذه القاعدة قاعدة أخرى؛ وهي: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قُدِّم دفع المفسدة غالبا؛ لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشدُّ من اعتنائه بالمأمورات، ولذا قال عليه السلام: “إذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”[144].

ومن ثمَّ جاز ترك الواجب دفعا للمشقَّة، ولم يسامح في الإقدام على المنهيَّات خصوصا الكبائر.

ومن أدلَّة ذلك أيضاً: ما ذكره الأصوليون: أن النهي راجح على الأمر، حتى استوعب النهي الأزمان، ولم يقتضِ الأمر التكرار.

وفي عالم الواقع نرى إزالة الأنقاض مقدَّمة على البناء، وتنظيف الأرض من بقايا الزراعة القديمة، مقدَّم على وضع البذور الجديدة، وفي عالم السلوك نرى التخليلة مقدَّمة على التحلية.

ومن فروع ذلك في باب العبادات: المبالغة في المضمضة والاستنشاق مسنونة، وتُكره للصائم؛ لأن دفع مفسدة الفطر للصائم مقدَّمة على مصلحة المضمضة والاستنشاق للمتوضِّئ.

 وقد تراعى المصلحة لغلبتها على المفسدة؛ بأن كانت المصلحة كبيرة، والمفسدة يسيرة. فمن ذلك الصلاة مع اختلال شرط من شروطها، من الطهارة أو الستر أو الاستقبال، فإن في كلِّ ذلك مفسدة لما فيه من الإخلال بجلال الله تعالى، في أن لا يناجى إلا على أكمل الأحوال، ومتى تعذَّر عليه شيء من ذلك جازت الصلاة بدونه، تقديما لمصلحة الصلاة على هذه المفسدة.

ومنه في باب المعاملات: أن الكذب مفسدة محرَّمة، وهو متى تضمَّن جلب مصلحة تربو عليه جاز، كالكذب للإصلاح بين الناس، وعلى الزوجة لإصلاحها، والكذب في الحرب، فإنها خدعة، وهو ما صحَّ به الحديث[145]. وهذا النوع راجع إلى ارتكاب أخفِّ المفسدتين في الحقيقة[146].

(وعلى هذا يجب شرعا منع التجارة في المحرَّمات أو استيرادها من الخارج، من أصنام ومسكرات ومخدِّرات، وأغذية ملوَّثة بالإشعاع أو انتهي أمد صلاحيتها، ولو أن فيها أرباحا ومنافع اقتصادية.

ويُمنع مالك الدار من فتح نافذة تطلُّ على مقرِّ نساء جاره، ولو كان له فيها منفعة.

وكذا يُمنع كلُّ جار من أن يتصرَّف في ملكه تصرُّفا يضرُّ بجيرانه، كاتخاذ معصرة أو فرن يؤذيان الجيران بالرائحة أو الدخان.

 وهو ما ارتقي إليه التطور الفكري في القوانين الحديثة، (منع التعسف في استعمال الحقِّ)، وهو ما سبق به الفقه الإسلامي.

ويحجر على الطبيب الذي لا يحمل شهادة معتمدة من جامعة معترَف بها. ويمنع الاحتكار والتعدِّي في الأسعار كما تقدم في القاعدة السابقة)[147].

هذه القاعدة تحمي البيئة من الإتلاف والإفساد والتلوث:

وقاعدة (لا ضر ولا ضرار) فيها ضمان لحماية (البيئة) من الفساد والتلف والتلوُّث، وكلُّ ما يضرُّ بالبيئة وما فيها من كائنات حيَّة، من الإنسان والحيوان والنبات، بل الأرض والماء والهواء، بل كلُّ ما يخلُّ بالتوازن الكوني من عمل الإنسان، إذا تجاوز فيه، ولم يَرْعَ (الميزان الكوني العام)، الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَان * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَان} [الرحمن:7- 9].

جاء الإسلام بتشريعاته القانونية وقواعده الفقهية، وتوجيهاته الأخلاقية، لرعاية البيئة والمحافظة عليها بكلِّ مكوناتها، من كلِّ ما يضرُّها ويسيء إليها، بل المطلوب الإحسان بها، كما طلب الإحسان بالوالدين وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب وابن السبيل.

وللإسلام في ذلك روائع ضمَّناها كتابنا (رعاية البيئة في شريعة الإسلام)، دلَّ عليها قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:56].

{وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151، 152].

{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].

وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: “إن الله كتب الإحسان على كلِّ شيء”[148].

وقال: “ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”[149].

وقال: “ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقِّها، إلا سأله الله عزَّ و جلَّ عنها” قيل: يا رسول الله، وما حقُّها؟ قال: “يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها يرمى بها”[150].

وهذا إنكار للعبث بهذه المخلوقات الجميلة التي تغرد وتملأ الجو بهجة، فلماذا يذبحها إذا لم يكن لأكلها والانتفاع بها؟

وقال عليه الصلاة والسلام: “مَن قطع سدرة (شجرة سدر وهو النبق) صوَّب الله رأسه في النار”[151]، فهذه الأشجار في غاية المنفعة في البادية، يأوي الناس إلى ظلِّها، ويأكلون من ثمارها، ولها أثرها في تلطيف الجو، وتحسين المناخ.

ولهذا يحرص العالم المتقدِّم في عصرنا على حماية الغابات من الحرائق ومن القطع، لما لها من أهمية بالغة في اعتدال المناخ، وتقليل آثار الحياة الصناعية وما تخلِّفه مما يضرُّ بالبيئة. ولا بأس أن أنقل هنا شيئا مما كتبتُه عن أثر الفقه الإسلامي والتشريع الإسلامي في حفظ البيئة وحمايتها.

(كان الفقه الإسلامي يمدُّ الأمة بالتشريع الحي الذي يضبط مسيرة الحياة، خلال عصور الحضارة الإسلامية، في شتى أنحاء العالم الإسلامي، إذ كان هو المرجع الفذ للقضاة والحكام، وقد رأينا الخلفاء الراشدين مثل العمرين – ابن الخطاب وابن عبد العزيز – ينفِّذون الأحكام الشرعية ويراقبونها في حياة الناس، كما رأينا في مواقفهم الحاسمة من الإحسان والرفق بالحيوان، وكما رأينا كتب الفقه توجب على القضاة أن يتدخَّلوا لرفع الظلم عن المظلوم، وإن لم يستطع رفع مظلمته إليهم، مثل البهائم.

ورأينا مثل الشيخ أبي علي الرحال المالكي المغربي يدافع عن الطيور التي يحبسها الناس ويتلهَّون بها، وقد يغفلون عنها، فتهلك وتضيع إلى آخر ما عرضناه من روائع فقهنا الواقعي المتجاوب مع أحداث الحياة.

تشريعات مقننة في المحافظة على البيئة:

على أننا نستطيع أن نجد (تشريعات مقنَّنة) في المحافظة على البيئة في العصر الأخير للدولة العثمانية التي حكمت الوطن الإسلامي لعدَّة قرون وهذه التشريعات المقنَّنة في مواد، تتمثَّل في (مجلة الأحكام العدلية) الشهيرة، التي قنَّنت القانون المدني على المذهب الحنفي، وفيه كثير من المواد المتعلِّقة بحماية البيئة، في مجالات عدَّة.

وأكتفي هنا بمادة أو مادتين من مواد (المجلة) المذكورة.

دفع الضرر الفاحش بأي وجه كان:

إحداهما: المادة رقم (1200)، والتي يقول نصُّها، كما في (درر الحكام شرح مجلة الأحكام)[152].

(يدفع الضرر الفاحش بأيِّ وجه كان، مثلا لو اتَّخذ في اتصال دار دكان حداد أو طاحونا، وكان يحصل من طرق الحديد، أو دوران الطاحون، وَهَنٌ لبناء تلك الدار، أو أحدث فرنا أو معصرة، بحيث لا يستطيع صاحب الدار السكنى فيها، لتأذِّيه من الدخان أو الرائحة الكريهة، فهذا كلُّه ضرر فاحش، فتُدفع هذه الأضرار بأيِّ وجه كان، وكذا لو كان لرجل عرصة متصلة بدار آخر، وشقَّ فيها قناة، وأجرى فيها الماء منها لطاحونه، فحصل وهن لحائط الدار، أو اتَّخذ أحد في أساس جدار جاره مزبلة، وألقى القمامة عليها فأضرَّ بالجدار، فلصاحب الجدار طلب دفع الضرر.

وكذلك لو أحدث بيدرا في قرب دار آخر، وتأذَّى صاحب الدار من غبار البيدر، بحيث أصبح لا يستطيع السكنى في الدار فيدفع ضرره، كما أنه لو أحدث أحد بناء مرتفعا في قرب بيدر آخر، وسدَّ مهبَّ الريح، فيزال لأنه ضرر فاحش، كذلك لو أحدث أحد مطبخا في سوق البزازين، وكان دخان المطبخ يصيب أقمشة جاره ويضرُّها، فيدفع الضرر، وكذلك لو انشقَّ بالوع دار أحد وجرى إلى دار جاره، وكان في ذلك ضرر فاحش، فيجب تعمير البالوع المذكور، وإصلاحه بناء على دعوى الجار).

هذه مادة واضحة الدلالة على الاهتمام بالبيئة، وقد ذكر شارحها السيد على حيدر عشرين مسألة مهمَّة متفرِّعة عليها، مسندة إلى مصادرها من الفقه الحنفي نختار عددا منها.

  1. مثلا لو اتَّخذ أحد دكان حداد أو نجار أو طاحونا في جوار دار آخر، بعد إنشاء تلك الدار، فحصل من طرق الحديد، أو من شغل النجارة، أو من دوران الطاحون وهن لبناء تلك الدار، أو أحدث بجوار الدار المذكورة فرنا دائميا كفرن السوق، أو أحدث معصرة أو مصبنة، بحيث لا يستطيع صاحب الدار السكنى فيها، لتأذِّيه من الدخان ومن الرائحة الكريهة، أو اتخذ أحد دكان حلاج متصلة بدار آخر، وكان صاحب الدار لا يستطيع السكنى فيها من صوت الحلج، فكلُّ ذلك ضرر فاحش يدفع ويزال بأي وجه كان، لأن بعض هذه الأضرار يوجب وهن البناء، وبعضها يوجب منع الحوائج الأصلية من السكنى في الدار. (الطحطاوي في مسائل شتى من القضاء، والأنقروي في الحيطان).

وقد أشير شرحا بأن المقصود من الفرن هو الفرن الدائمي أو فرن السوق، أما الفرن الذي يتَّخذ خصيصا للدار فهو جائز (رد المحتار على البزازية).

  1. كذلك لو نصب أحد منوالا لاستخراج الحرير، وكان في ذلك ضرر للجيران من الدخان، ومن رائحة الديدان، يمنع (علي أفندي عن القنية).
  2. إذا اتخذ أحد داره حماما، وحصل ضرر فاحش للجيران من دخانه، يمنع ما لم يكن دخان الحمام بقدر دخان الجيران (الهندية).
  3. إذا بنى أحد مطبخا قرب دار أحد القديمة، وكان دخان المطبخ يدخل إلى دار صاحب الدار، فيدفع إذا كان الضرر فاحشا (أبو السعود المصري).
  4. إذا أنشأ أحد مسلخا في قرب أحد المساجد، وتأذَّى المصلون من رائحة الحيوانات المذبوحة، ومن أرواثها الكريهة، فإذا أُعْلِمَ القاضي ذلك يمنعه (علي أفندي).
  5. إذا استمرَّ أحد في إجراء الدباغة في داره، وتأذَّى الجيران يمنع، أما إذا أجرى هذه الصنعة نادرا فلا يمنع (الدر المختار).
  6. إذا زرع أحد رزا في مزرعته، وتجاوزت المياه إلى مزرعة الجار فأفسدتها، يمنع، وكذلك لو اتخذ أحد داره الواقعة في طريق غير نافذ زريبة للأغنام، وتأذَّى الجيران من رائحة الروث، ومن عدم الأمان من الرعاة، يمنع (الخانية).
  7. إذا كان الطابق السفلي من دار مملوكا لأحد، والعلوي منها مملوكا لآخر، فأسكن صاحب العلوي حيوانات في داره، فسالت أبوالها إلى الطابق السفلي، وكان في ذلك ضرر فاحش على صاحب السفلي يمنع (على أفندي).
  8. إذا اتخذ أحد في عرصته المملوكة مزبلة في أساس جدار جاره، وألقى القمامة عليها أو كوم التراب فيها، وتضرَّر الحائط، فلصاحب الحائط أن يطلب دفع ضرره (على أفندي).
  9. إذا اتخذ أحد أصحاب الطريق الغير النافذة مزبلة في أساس حائط جاره، وكان في ذلك ضرر فاحش يمنع (التنقيح).
  10. وكذلك لو أحدث أحد بيدرا قرب دار أحد، وكان غبار البيدر يؤذي صاحب الدار مما يجعله بدرجة لا يستطيع السكنى في الدار، فيدفع ضرره (علي أفندي).
  11. إذا أحدث أحد مطبخا في سوق البزازين، وكان دخان المطبخ يصيب أقمشة جاره، يدفع الضرر (علي أفندي).
  12. وكذلك لو انشقَّ بالوع دار أحد، وسال في دار الجار، فيجب تعمير وإصلاح البالوع، بناء على دعوى الجار لكونه ضررا فاحشا.
  13. إذا خرب البالوع الذي أحدثه عدَّة أشخاص تحت الطريق العام واندفعت منه الأقذار إلى الطريق، وتأذَّى المارَّة، فللمارة أن يكلِّفوا أصحاب البالوع بإصلاحه، أو أن يمتنعوا من إسالة أوساخهم (علي أفندي)[153].

هذه المسائل كلُّها تدلُّنا بجلاء على أن القانون – المستمد من الفقه الإسلامي – قد عُني بمسألة البيئة، وحمايتها، ومنع كلِّ مَن يلوِّثها أو يتعدَّي عليها، وهي مبنية على قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، وأن الضرر إذا كان فاحشا يزال بكلِّ وجه، وإذا كان يسيرا يُتسامح فيه.

والمادة الثانية التي نذكرها هنا هي المادة (1212)، وهي تتعلَّق بالبيئة كذلك، تقول المادة: (إذا أنشأ أحد كنيفا أو بالوعا قرب بئر ماء أحد، وأفسد ماء تلك البئر، فيدفع الضرر، فإذا كان غير ممكن دفع الضرر بوجه ما، فيردم الكنيف أو البالوعة[154]،[155].

قرار المجمع الفقهي الإسلامي الدولي حول البيئة:

وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي الدولي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بالشارقة قرار رقم 185(11/19)، بشأن: البيئة والحفاظ عليها من منظور إسلامي قرر ما يأتي:

1- تحريم إلقاء أي نفايات ضارة على أي بقعة من بقاع العام وإلزام الدول المنتجة لهذه النفايات بالتصرف بها في بلادها وعلى نحو لا يضر بالبيئة، مع التزام الدول افسلامية بالامتناع عن جعل بلادها مكانا لتلقي أو دفن هذه النفايات.

2- تحريم كافة الأفعال والتصرفات التي تحمل أية أضرار بالبيئة أو إساءة إليها، مثل الأفعال والتصرفات التي تئدي إلى اختلال التوازن البيئي، أو تستهدف الموارد أو تستخدمها استخداما جائرا، لا يراعى مصالح الأجيال المستقبلية، عملا بالقواعد الشرعية الخاصة بضرورة إزالة الضرر.

3- وجوب نزع أسلحة الدمار الشامل على مستوى جميع الدول، وحظر كل ما يؤدي إلى تسرب غازات تساعد في توسيع ثقب طبقة الأوزون وتلويث البيئة، استنادا إلى القواعد اليقينية الخاصة بمنع الضرر.

ويوصي بما يلي:

1- تشجيع الوقف على حماية البيئة بمختلف عناصرها الأرضية والمائية والفضائية.

2- إنشاء لجنة لدراسات البيئة من منظور إسلامي بمجمع الفقه الإسلامي الدولي تختص برصد كافة الدراسات والاتفاقيات والمشكلات المتصلة بالبيئة.

3-التعاون مع المجتمع الدولي بمختلف الصور في سبيل حماية البيئة ومنع تلويثها، والانضمام إلى الاتفاقيات والعهود الدولية التي تعقدها الدول لمنع التلوث والإضرار بالبيئة، شريطة ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية أو تحمل أضرارا بالدول الإسلامية.

4- حث الدول الإسلامية على تفعيل المنظمات البيئية التي أوجدتها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات التابعة لها، مع ضرورة التعاون الوثيق مع مجلس التعاون العربي الخاص بالبيئة، وكذلك مجلس التعاون الخليجي المهتم بها.

5-الإكثار من الصناعات (صديقة البيئة) ودعمها بكافة الطرق الممكنة.

6- حث الدول أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي على الاستمرار في إصدار التشريعات والقوانين المنظمة للبيئة والمانعة من تلويثها، مع الاستعانة بسلطة القانون الجنائي بتوقيع العقوبات على الإضرار بالبيئة، وتشديد أجهزة الرقابة على مختلف التصرفات والأفعال التي قد تحمل الإضرار بأي عنصر من عناصر البيئة: المياه أو الهواء أو التربة.

7- مطالبة المؤسسات المعنية بالشؤون الدينية في الدول الإسلامية بتزويد الأئمة والدعاة بالمعلومات البيئية، ونشر الأبحاث والدراسات المتعلقة بالبيئة ووسائل الحفاظ عليها.

8- نشر الثقافة البيئية بمختلف الوسائل التي تؤدي إلى نظافة البيئة وحمايتها من كافة المخاطر عن طريق:

أ- البث المنظم لمخاطر البيئة في وسائل افعلام.

ب- التربية السوية، سواء داخل المنازل أو في مناهج الدراسة بمختلف مراحلها.

ج-الاهتمام بفقه البيئة من دراسات الفقه الإسلامي بكليات الشريعة والدراسات الإسلامية.


(5)

القاعدة الخامسة: التخفيف والتيسير لا التشديد والتعسير

 

وهذه إحدى القواعد الكلية الحاكمة لفقه المعاملات، وهي: مراعاة التخفيف والتيسير، لا التشديد والتعسير.

وهي قاعدة مأخوذة من نصوص كثيرة مستفيضة من القرآن الكريم، ومن سنة الرسول صلي الله عليه وسلم، القولية والفعلية والتقريرية.

كما انها مأخؤذ من استقراء أحكام شتَّى في أبواب الفقه الإسلامي، راعت فيها الشريعة التخفيف عن المكلَّفين، والتيسير عليهم، فشرعت الرخص، والتخفيفات في أمور شتَّى بمناسبات عدَّة كالمرض والسفر، والخوف والمطر، والضعف والإكراه، والخطأ والنسيان، وغيرها.

أما النصوص من القرآن فحسبنا قوله تعالي بعد أن رخَّص في الفطر لمَن كان مريض أو على سفر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

وقوله تعالي بعد أن رخَّص في التيمم في آية الطهارة: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].

وإذا كان هذا في شأن فرائض العبادات، فالتيسير في العادات والمعاملات أولي.

قال تعالي بعد أن ذكر المحرَّمات من النساء، وما أباح بعد ذلك للناس: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].

وقال تعالي بعد أن شرع العفو في القصاص: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178]. وقال سبحانه في شأن الدين كلِّه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

وأما السنة ففي القولية منها عدد من الأحاديث، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا”[156].

وقوله لأبي موسى ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن: “يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا”[157] وقوله: “إنما بعثتم ميسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين”[158]، وقوله: “إن الله يحبُّ أن تُؤتي رخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته”[159]، وقوله: “إن الله يحبُّ أن تؤتي رخصه، كما يحبُّ أن تؤتي عزائمه”[160].

وقوله وقد سئل: يا رسول الله، أي الأديان أحبُّ إلى الله؟ قال: “أحبُّ الأديان إلى الله الحنيفية السمحة”[161] وقوله: “لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وإني بعثتُ بحنيفية سمحة”[162].

وقوله: “إن دين الله يسر”[163] ثلاثا وقوله: “إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره”[164].

وقد عبَّر علماء المذاهب المتبوعة عن هذه الوجهة بالقاعدة المشهورة: المشقَّة تجلب التيسير. وهي إحدى القواعد الخمس الشهيرة، وفرَّعوا عليها قواعد وفروعا كثيرة في العبادات والمعاملات. سنشير إليها، أو نتحدث عنها بعد. وإن كان الذي يهمنا منها في بحثنا هذا هو المعاملات.

ذكر ذلك السيوطي الشافعي، وابن نُجيم الحنفي، وكلاهما مصري، من علماء القرن العاشر، وإن كان السيوطي توفي أوئله (911هـ)، وابن نجيم توفي في أواخره (970هـ).

والحقيقة أن كتاب السيوطي في قسم القواعد[165] هو الأصل، وابن نجيم ينقل عنه بالحرف، وإن لم يُشِر إلى ذلك، ثم يزيد ما تفرَّد به الحنفية.

كما أن السيوطي وإن كان شافعيا في أصوله، فقد ادَّعى الاجتهاد المطلق، وألَّف في ذلك كتابا قيِّما يردُّ على مَن أنكر عليه دعواه[166].

مظاهر التيسير والتخفيف:

وللتيسير مظاهر ودلائل يعرفها أهل الفقه، منها:

قبول الرخص والتخفيفات:

شرعية الرخص، فهذه الرخص رحمة من الله بعباده، وهو يحب من عباده أن يقبلوها، ولا يرفضوها، ولذا قال رسوله: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه”[167].

وسأل عمر رضي الله عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم عن القصر في السفر في حالة الأمن، فقال: “صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته “[168]، وقال في رخصة الفطر في الصيام: “ليس من البر الصيام في السفر”[169].

النزول على حكم الضرورات:

ومن مظاهر التيسير: النزول على حكم الضروره، فإن الضرورات لها أحكامها. والضرورات تعنى المحظورات، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].

ومن رفض حكم الضرورة حتى مات فقد أثم. على أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة، كما قالوا. وقد قالوا هنا: ما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة.

التضييق في الايجاب والتحريم:

ومن مظاهر التيسير: التقليل في التكاليف، كما أشرنا في القاعدة الأولى، ولا سيما في ايجاب الواجبات، وتحريم المحرمات. فلا تلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، وإلالزام من الله لا بد أن يكون بنص ثابت جلى.

أى صحيح صريح. حتى لا نشرع للناس في دينهم ما لم يأذن الله به. أو نحرم عليهم ما أحل الله لهم.

ولهذا أجمع العلماء على أن الحديث الضعيف لا يعمل به في الأحكام، فلا يرتقي إلى أن يحرم حرماً، أو يوجب فرضاً، بل أى حديث أو نص فيه شبهة، لا يصلح حجه في اثبات الفرضية والتحريم.

عدم الضيق بالخلاف:

ومن مظاهر التيسير: وجود متسع للخلاف، وتعدد وجهات النظر في المسألة الواحدة، فهذا يحرم، وهذا يكرّه، وهذا يبيح. وفي المنهيات، هذا يوجب، وهذا يستحب، وهذا لا يوجب ولا يستحب، ويترك الأمر في دائرة (العفو). ولهذا قرر المحققون: أن اختلاف العلماء رحمة واسعة. كما أن اجماعهم حجة قاطعة.

وقد بينا بالأدلة: أن اختلاف العلماء في آرائهم الفقهية والعلمية: ضرورة ورحمة وسعة. وفي هذه السعة التي تتميز بها الشريعة وفقهها، نجد أن مذهبا أو رايا، قد يصلح لبيئة، ولا يصلح لأخرى، ويصلح لفئة ولا يصلح لأخرى، ويصلح لبلد ولا يصلح لآخر.

ومن هنا يلزم كل فقيه معاصر يبحث في معاملات الناس: أن يخرج من قمقم (المذهبية الضيقة) إلى باحة الشريعة الرحبة. بمذاهبها واتجاهاتها المختلفة، فسيجد فيها ثروة يصول فيها ويجول.

 إذا ضاق الأمر اتسع:

ومن فروع التيسير: ما قرره الفقهاء في هذا المقام، وهو بمعنى هذه القاعدة، وهو قول الإمام الشافعي: إذا ضاق الأمر اتسع. قال السيوطي: وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع:

أحدها: فيما إذا فقدت المرأة وليها في سفر فولت أمرها رجلا يجوز، قال يونس بن عبدالأعلى: فقلت له: كيف هذا؟ قال: إذا ضاق الأمر اتسع.

 الثاني: في أواني الخزف المعمولة بالسرجين، أيجوز الوضوء منها؟ فقال: إذا ضاق الأمر اتسع حكاه في البحر.

 الثالث: حكى بعض شراح المختصر أن الشافعي، سئل عن الذباب يجلس على غائط ثم يقع على الثوب، فقال: إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع.

ولهم عكس هذه القاعدة: إذا اتسع الأمر ضاق.

قال ابن أبي هريرة في تعليقه: وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت وإذا اتسعت ضاقت. ألا ترى أن قليل العمل في الصلاة لما اضطر إليه، سومح به، وكثيره لما لم يكن به حاجة لم يسامح به، وكذلك قليل البراغيث وكثيره.

 وجمع الغزالي في الإحياء بين القاعدتين: بقوله كل ما تجاوز عن حده انعكس إلى ضده. ونظير هاتين القاعدتين في التعاكس قولهم: يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وقولهم: يغتفر في الابتداء ما لا يغتفر في الدوام)[170].

تقديم الأيسر على الأحوط:

ومما يدخل في قاعدة التيسير التي نتبنَّاها: ترجيح الرأي الأيسر على الرأي الأحوط.

فهناك كثير من العلماء يرجِّحون الاحتياط في كلِّ الأوقات، ولكلِّ البيئات، ومع كلِّ الناس ويفضِّلون أبدا أخذ الناس بالعزائم لا بالرخص، ويعتبرون الأخذ بالأيسر مدعاة لانفلات الناس من الأحكام شيئا شيئا.

والذي أراه: أن الأوفق بعصرنا وعالمنا – الذي غلبت فيه الماديات على الرُّوحيات والاعتبارات النفعية على الاعتبارات الأخلاقية – هو الأخذ بالأيسر لعدَّة أدلَّة:

أولاً: أن الأيسر أولى بالضعفاء من الناس، لأن الضعف مظنَّة التخفيف دائما كما أشار إلى ذلك القرآن بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].

الثاني: أن الأيسر هو الأليق بالشريعة السمحة، التي قال كتابها بصراحة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

الثالث: أن اختيار الأيسر هو سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد قالت عائشة: ما خيِّر رسول الله صلي الله عليه وسلم، بين أمرين الا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما”[171].

 الرابع: أن النبي صلي الله عليه وسلم، عنَّف أصحابه الذين شدَّدوا على الناس في الصلاة، وفي تلاوة القرآن فقال لمعاذ: “أفتَّان أنت يا معاذ؟! أفتَّان أنت يا معاذ؟! أفتان أنت يا معاذ؟!”[172].

وحين شكا بعض الصحابة القارئ الجليل أُبيّ بن كعب، أنه يطيل بهم في الصلاة، غضب غضبا لم يغضب مثله، كما قال راوى الواقعه من الصحابة وقال: “إن منكم منفِّرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة”[173].

العسر وعموم البلوى:

ومن الفروع المهمَّة المنبثقة عن قاعدة التخفيف والتيسير: فرع أو قاعدة (العسر وعموم البلوى). فجعل السيوطي هذا العذر أو السبب من أسباب التخفيف مركبا من عنصرين: العسر وعموم البلوى. أما العسر فهو مبنى على أصل القاعدة. ويبقى الكلام على عموم البلوى.

فمن المقرَّر أن عموم البلوى من (المخفِّفات) الداعية إلى التيسير في الأحكام.

وكثيراً ما رأينا الفقهاء من مختلف المذاهب يذهبون إلى جواز أمرٍ ما، خروجا على الأصل، لأنه أمر عمَّت به البلوى.

وعموم البلوى بالشيء، دليل حاجة الناس إليه، وأنه يحقِّق لهم مصلحة في حياتهم، هم مفتقرون إليها، وبدونها يصيبهم ضيق وعنت، وإلا ما انتشر بينهم وفشا فيهم.

ونحن نجد العلاَّمة السيوطي الشافعي، والعلامة ابن نُجيم الحنفي كليهما في كتابه (الأشباه والنظائر) يجعل (عموم البلوى) من المخفِّفات السبعة التي أورداها.

يقول الإمام السيوطي – أثناء شرحه وتفصيله لقاعدة (المشقَّة تجلب التيسير): متحدِّثا عن السبب السادس من أسباب التخفيف (بعد السفر، والمرض، والإكراه، والنسيان، والجهل) السادس: (عموم البلوى)، وذكر لها تطبيقات جمَّة في العبادات والمعاملات، ولكن الذي يعنينا في هذا البحث هو المعاملات، ولذا سنقتصر على ما ذكره فيها.

فمن هذا التخفيف – بسبب عموم البلوى – (جواز لبس الحرير (المحرَّم على الرجال) للحكَّة (مرض الجرب) والقتال.

وبيع نحو الرمان والبيض في قشرة، وبيع الموصوف في الذمة وهو السلم، مع النهي عن بيع الغَرَر.

والاكتفاء برؤية ظاهر الصُّبرة، (الكومة من الحبوب ونحوها) وأُنمُوذَج المتماثل (أي العَيِّنة منه)، وبارز الدار عن أُسِّها.

ومشروعية الخيار، لما كان البيع يقع غالبا من غير تروٍّ، ويحصل فيه الندم، فيشقُّ على العاقد، فسهَّل الشارع ذلك عليه، بجواز الفسخ في مجلسه، وشرع له أيضا شرطه ثلاثة أيام)[174].

فهذه مشروعية خيار الشرط للمشتري، دفعا للندم، وخيار نقد الثمن، دفعا للمماطلة، كما قال ان نجيم الحنفي أيضا، وزاد: (ومن هذا القبيل: بيع الأمانة، المسمى بـ(بيع الوفاء) جوزه مشايخ بلخ وبخارى توسعة، ومن ذلك أفتى المتأخرون بالرد لخيار الغَبن الفاحش، إما مطلقا، أو إذا كان فيه غرر، رحمة على المشتري)[175].

(ومشروعية الرد بالعيب، ومشروعية التحالف، والإقالة، والحَوَالة، والرهن، والضمان، والإبراء، والقرض، والشركة، والصلح، والحجر، والوكالة، والإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والقراض، والعارية، والوديعة، للمشقَّة العظيمة في أن كلَّ أحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه، ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه، ولا يأخذه إلا بكماله، ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه، فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير، بطريق الإجارة، أو الإعارة، أو القراض، وبالاستعانة بالغير وكالة، وإيداعا، وشركة، وقراضا، ومساقاة، وبالاستيفاء من غير المديون حَوالة، وبالتوثيق على الدين برهن، وضامن، وكفيل، وحجر، وبإسقاط بعض الدين صلحا، أو كلِّه إبراء.

ومن التخفيف: جواز العقود الجائزة، لأن لزومها يشقُّ، ويكون سببا لعدم تعاطيها، ولزوم اللازم منها، وإلا لم يستقرَّ بيع ولا غيره.

ومنه: إباحة النظر عند الخطبة، وللتعليم، والإشهاد، والمعاملة، والمعالجة.

ومنه: جواز العقد على المنكوحة من غير نظر، لما في اشتراطه من المشقَّة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم: من نظر كلِّ خاطب، فناسب التيسير لعدم اشتراطه، بخلاف المبيع، فإن اشتراط الرؤية فيه لا يفضي إلى عسر ومشقَّة)[176].

وزاد ابن نجيم هنا بناء على المذهب الحنفي قوله: (ومن ثم وسَّع فيه – أي النكاح – أبو حنيفة رحمه الله، فجوَّزه بلا ولي، ومن غير اشتراط عدالة الشهود، ولم يفسده بالشروط المفسدة، ولم يخصه بلفظ النكاح والتزويج، بل قال: ينعقد بما يفيد ملك العين للحال، وصحَّحه بحضور ابني العاقدين، وناعسين، وسكارى يذكرونه بعد الصحو، وبعبارة النساء، وجوَّز شهادتهنَّ فيه، فانعقد بحضرة رجل وامرأتين كلُّ ذلك دفعا لمشقَّة الزنى، وما يترتَّب عليه، ومن هنا قيل: عجبتُ لحنفي يزني!)[177].

(ومنه: إباحة أربع نسوة، فلم يقتصر على واحدة تيسيرا على الرجال، وعلى النساء أيضا لكثرتهنَّ، ولم يزد على أربع لما فيه من المشقَّة على الزوجين في القسم وغيره.

ومنه: مشروعية الطلاق، لما في البقاء على الزوجية من المشقَّة عند التنافر.

وكذا مشروعية الخلع والافتداء، والفسخ بالعيب ونحوه.

والرجعة في العدَّة لما كان الطلاق يقع غالبا بغتة في الخصام والجرح، ويشقُّ على الناس التزامه، فشرعت له الرجعة في تطليقتين، ولم تشرع دائما، لما فيه من المشقَّة على الزوجة إذا قصد إضرارها بالرجعة والطلاق، كما كان ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ.

ومنه: مشروعية الإجبار على الوطء أو الطلاق في المُولي (أي بعد مضي أربعة أشهر).

ومنه: مشروعية الكفارة في الظهار واليمين، تيسيرا على المكلَّفين، لما في التزام موجب ذلك من المشقَّة عند الندم.

وكذا مشروعية التخيير في كفارة اليمين[178] لتكرُّره، بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع لندرة وقوعها؛ ولأن المقصود الزجر عنها.

ومشروعية التخيير في نذر اللجاج: بين ما التزم والكفارة، لما في الالتزام بالنذور لجاجا من المشقة.

ومنه: مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه، وكان في شرع موسى عليه السلام، القصاص متحتِّما ولا دية.

وفي شرع عيسى عليه السلام، الدية ولا قصاص.

ومنه: مشروعية الكتابة، ليتخلَّص العبد من دوام الرقِّ لما فيه من العسر، فيرغب السيد الذي لا يسمح بالعتق مجانا، بما يبذل له من النجوم (أي الأقساط).

ومنه: مشروعية الوصية عند الموت، ليتدارك الإنسان ما فرَّط منه في حال الحياة وفسح له في الثلث دون ما زاد عليه، دفعا لضرر الورثة، فحصل التيسير ودفع المشقَّة في الجانبين)[179].

قال ابن نجيم: (حتى أجزناها بالجميع، عند عدم الوارث، وأوقفناها على إجازة بقية الورثة إذا كانت لوارث.

وأبقينا التركة على ملك الميت حكما حتى تقضى حوائجه منها، رحمة عليه.

ووسعنا الأمر في الوصية فجوزناها بالمعدوم، ولم نبطلها بالشروط الفاسدة)[180].

(ومنه: إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظنِّ، ولو كُلِّفوا الأخذ باليقين لشقَّ وعسر الوصول إليه)[181].

قال ابن نجيم: (ووسَّع أبو حنيفة رحمه الله، في باب القضاء والشهادة تيسيرا: فصحَّح تولية الفاسق وقال: إن فسقه لا يعزله، وإنما يستحقه ولم يوجب تزكية الشهود، حملا لحال المسلمين على الصلاح، ولم يقبل الجرح المجرَّد في الشاهد.

ووسَّع أبو يوسف رحمه الله، في القضاء والوقف والفتوى على قوله فيما يتعلَّق بهما وجوَّز للقاضي تلقين الشاهد، وجوَّز كتاب القاضي إلى القاضي من غير سفر، ولم يشترط فيه شيئا مما شرطه الإمام، وصحَّح الوقف على النفس، وعلى جهة تنقطع، ووقف المشاع، ولم يشترط التسليم إلى المتولِّي ولا حكم القاضي، وجوَّز استبداله عند الحاجة إليه بلا شرط، وجوَّزه مع الشرط ترغيبها في الوقف، وتيسيرا على المسلمين.

فقد بان بهذا: أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الففه)[182].

حاجة الناس في عصرنا إلى التيسير:

ومما يؤكِّد هذا الاتجاه: أن جمهور الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير والرفق، رعاية لظروفهم، وما غلب على أكثرهم من رقَّة الدين، وضعف اليقين، وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم، والمعوقات عن الخير.

ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسِّروا عليهم في مسائل الفروع، على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول.

ومَن كان يعمل بالأحوط، فهذا حسن إذا كان ذلك لنفسه، ولأُولي العزم من المؤمنين أما مَن كان يُفتي الناس عامة، أو يكتب للجماهير كافَّة، فينبغي أن يكون شعاره التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، اتباعا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى، حين بعثهما إلى اليمن فقال: “يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا”[183]، وكما روى عنه أنس أنه قال: “يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا”[184].

وهذا يجعل الفقيه يستحضر الرُّخص، فإن الله يحبُّ أن تؤتى رخصه، ويقدِّر الأعذار والضرورات، ويبحث عن التيسير ورفع الحرج، والتخفيف عن العامة، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28].

ولهذا رأينا علماءنا السابقين إذا نظروا في معاملة عمَّت بها البلوى، يحتمل تكييفها وجهين: أحدهما يميل إلى جهة الإباحة، والآخر إلى جهة الحظر نجدهم يرجِّحون الاتجاه إلى التخفيف والترخيص، معللِّين بهذه العبارة (تصحيحا لمعاملات المسلمين بقدر الإمكان).

وهذا ما اخترتُه لنفسي في إفتاء الجمهور، فإذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أيسر، والآخر أحوط، أُفتي عموم الناس بالأيسر.

التيسير على الأقليات المسلمة:

وإذا كان الناس في عصرنا عامة أحوج إلى التيسير، فإن الأقليات المسلمة في أوربا وغيرها، أشد حاجة إليه، نظرا لأنها تعيش في مجتمع غير مسلم.

والمجتمع المسلم يعين الفرد على الالتزام بأحكام الشرع، والقيام بحقوق الخلق، وعدم تعدِّي الحدود، بخلاف مَن يعيش خارج (دار الإسلام) ومن هنا قال العلماء: يعذر في بعض الأحوال، ما لا يعذر به مَن يعيش في دار الإسلام.

ولهذا كان أولى بالتخفيف والتيسير والرخص من غيره من المسلمين، ولا سيما في باب المعاملات.

المراد بالتيسير:

وليس معنى هذا أن نلوي أعناق النصوص المحكمة، أو نجترئ على القواعد الثابتة، بدعوى التيسير على الناس، فمعاذ الله أن نقصد إلى ذلك، وما أحسب أن شريعتنا تحوجنا يوما إليه، ولكن الذي أعنيه: أن نضع في اعتبارنا حين نجتهد – منشئين أو أو مرجِّحين – مصالح الناس وحاجاتهم، التي لم ينزل الله شرعه إلا لتحقيقها على أكمل وجه.

ولا غرو أن نجد في فقه أئمتنا، وفي كتب المذاهب المعتبرة هذه الجملة المعبِّرة في ترجيح بعض الأقوال على بعض: هذا أرفق بالناس.

ويسرُّني أن أذكر هنا كلمة لإمام كبير انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات: في الفقه، حيث كان له مذهب وأتباع لمدَّة من الزمن، ثم انقرضوا.

وفي الحديث والرواية، حيث كان يسمَّى (أمير المؤمنين في الحديث).

وفي الورع والزهد، حيث عُدَّ من أئمة التقوى، وأعني به الإمام سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله، فقد روى عنه الإمام النووي في مقدِّمات المجموع هذه الكلمة المضيئة: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كلُّ أحد[185]!!

 


(6)

القاعدة السادسة: رعاية الضرورات والحاجات

 

ومن القواعد الكلية الحاكمة لفقه المعاملات: مراعاة أحكام الضرورات التي أباح بها الشرع المحظورات. وكذلك الحاجات التي تنزل أحيانا منزلة الضرورات.

فهذه الشريعة – كما أنزلها الله – شريعة واقعية، لا تعامل الناس كأنما هم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، بل تعاملهم على أنهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، لهم مطالبهم وشهواتهم وغرائزهم، التي ركَّبها الله فيهم، لحكمة لا تخفى على متأمِّل، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8].

وتقدِّر الشريعة ضعف الإنسان بصفة عامة، كما قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وتقدر ضعفه – بصورة خاصة – أمام الضرورات التي يحتاج إليها، حاجة أساسية، وبدونها لا يعيش، فلم تقف جامدة كالصخر أمام هذه الظروف، بل رخَّصت للمكلف في تناول ما حظر عليه في حالة السَّعة والاختيار.

ومن هنا حرَّم الإسلام على المكلَّف أشياء من المطاعم، ولم يُجِز تناولها له، ولكنه استثنى حالة الضرورة، فأباح له ساعة الاضطرار ما حرَّم عليه في حالة الاختيار.

وجاء ذلك في أربع آيات من القرآن، اثنتان مكيتان: في الأنعام والنحل، وأخريان مدنيتان: في البقرة والمائدة.

يقول تعالى في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].

ومعنى: {غَيْرَ بَاغٍ}، أي غير باغ على أحد أو ظالم له، ومعنى: {وَلَا عَادٍ} أي: غير معتد قدر الضرورة.

ومن هنا أخذ العلماء من هذه الآية وأخواتها الثلاث، والآية الخامسة في سورة الأنعام: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، أخذوا منها قاعدتين أساسيتين:

الأولى: أن الضرورات تبيح المحظورات، فلا إثم على متناول هذه المحرَّمات ساعة الضرورة، كما قال القرآن: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

والثانية: أن ما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها كما يفيده قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، وذلك لكيلا يتوسَّع الناس في الضرورة، فالأصل فيها أنها استثناء، والاستثناء لا يجوز أن يصبح هو الأصل.

الاتفاق على هذه القاعدة:

وقد اتَّفق الفقهاء من جميع المذاهب والمدارس على هذه القاعدة، وإن اختلفوا في بعض التطبيقات عليها.

فنجد السيوطي الشافعي يقرِّر في (الأشباه) هذه القاعدة، وإن كان يفرِّعها على قاعدة (الضرر يُزال) ولا حرج في ذلك.

قال: (ومن ثمَّ جاز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر، والتلفُّظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال، وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه، ودفع الصائل، ولو أدَّى إلى قتله. ولو عمَّ الحرام قُطرا، بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة.

قال الإمام: ولا يرتقي إلى التبسُّط، وأكل الملاذِّ، بل يقتصر على قدر الحاجة.

قال ابن عبد السلام: وفرض المسألة: أن يتوقَّع معرفة صاحب المال في المستقبل فأما عند اليأس، فالمال حينئذ للمصالح، لأن من جملة أموال بيت المال: ما جُهل مالكه.

ويجوز اتلاف شجر الكفار وبنائهم لحاجة القتال[186]، والظفر بهم، وكذا الحيوان الذي يقاتلون عليه، ونبش الميت بعد دفنه للضرورة، بأن دُفن بلا غسل، أو لغير القبلة أو في أرض أو ثوب مغصوب وغصب الخيط لخياطة جرح حيوان محترم)[187].

وأقرَّ ابن نُجيم الحنفي ما ذكره السيوطي.

المهم في مثل هذه الأمور: أن تتحقَّق الضرورة بالفعل، وألا توجد سبيل أخرى لسدِّها إلا ما حرَّمه الله، ولا بد من التدقيق في هذه الأمور الثلاثة، للتحقُّق منها.

فقد سألني مرة سائل: إنه مضطر لأن يستلف من البنك الربوي عشرين مليونا من الريالات.

فلما سألتُه: لماذا؟ وما وجه الضرورة إلى هذا المبلغ؟

قال: بنيتُ عمارة – أو بُرجا – من عشرين دورا، ولكن ثروته لم تكفِ لتغطية النفقات.

قلتُ: ولماذا لا تشرك واحدا غنيا مليئا معك، وتتقاسمان الربح أو العائد معا؟

قال: لا أحبُّ الشركة، فإن لها متاعبها.

قلتُ: ولماذا لا تبيع بعض هذه الأصول، وتبني ما تقدر على بنائه وإكماله بما معك من حلال.

وهنا سكت ولم يجد جوابا.

ولهذا لا يفتى بجواز الاستقراض بالربا، إلا لمَن لم يجد سبيلا آخر غيره.

فهي شروط أربعة:

1- أن تكون الضرورة حقيقة، وليست مجرد دعوى.

2- أن يستقرض بقدر الضرورة ولا يزيد عليها.

3- ألا يجد وسيلة أخرى غير الاستقراض بالربا.

4- أن يتخلَّص من ذلك بمجرَّد القدرة عليه.

ضرورات الأفراد وضرورات الأمة:

وأحكام الضرورات تشمل الأفراد، وتشمل كذلك الأمة.

فبعض الناس يركِّز على ضرورات الأفراد من المآكل والمشارب والأدوية والملابس والمساكن ونحوها، ولكنه لا يعير اهتماما لضرورات الأمة، مثل اكتفائها غذائيا، ودوائيا، وكسائيا، بحيث يكون لديها من المنتجات الغذائية والكسائية والدوائية، ما يكفي حاجتها، ويلبِّي طلباتها، ويغنيها عن غيرها.

ومثل ذلك: حاجتها من السلاح البري والبحري والجوي، ومن المراكب العسكرية في هذه الجوانب كلِّها: ما يكفي لحماية حدودها، وردِّ عدوان المعتدين عليها، بحيث نستطيع أن نردَّ على أسلحتها بمثلها أو بأقوى منها.

وبذلك تستجيب الأمة لقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]. والذي يقوم مقام الخيل في عصرنا هو: المصفحات والدبابات والمجنزرات في البر، والغواصات والزوارق والسفن الحربية في البحر، والطائرات في الجو، كما بينا ذلك في كتابنا (فقه الجهاد).

ولهذا اعتبر العلماء المحقِّقون هذا التسلُّح بأنواعه، وبكلِّ مستوياته، وكلِّ ما يلزمه: فرض كفاية على الأمة، إذا أهملته كليًّا أو جزئيا، أثمت الأمة جمعاء.

وعلى الأمة الإسلامية: أن تتكافل وتتضامن في هذا الجانب، بحيث يكمِّل بعضهم بعضا، ويقوِّى بعضهم بعضا، ويذود بعضهم عن بعض.

وهذا مسلَّم في الجانب العسكري، ومنصوص عليه.

ومثله في الجانب الاقتصادي، لا يجوز أن يُترَك بلد أو دولة حتى ينهار تماما، ويسقط من الوهن والجوع، وإخوانه من حوله.

والقرآن يعتبر المؤمنين إخوة، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

ويقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].

ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “ليس بمؤمن مَن بات شبعان، وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم”[188] ويصوِّر الرسول المجتمع المسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا[189]، وكالجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه اشتكى كلُّه[190].

ومن هنا أجاز بعض العلماء للدولة التي لا تملك من المال ما تشتري به السلاح الذي يحميها من أعدائها: أن تستقرض بالفوائد الربوية بمقدار ما يسدُّ حاجتها، بالقدر الضروري، وللمدَّة الضرورية، وعليها أن تسعى في تحسين الأحوال، حتى تستغنى عن الديون الربوية.

ومثله المشروعات الاقتصادية الأساسية، مثل مشروعات الري في البلاد الزراعية.

وكذلك مشروعات (البنية التحتية)، من الماء والكهرباء، والمجاري والتليفونات ونحوها.

فالدولة التي لا تستطيع أن تقيم هذه المشروعات الضرورية لشعبها إلا بالاستقراض من غيرها، فهذا جائز بحكم الضرورة. وعلى المسلمين أن يتعاونوا ويتكافلوا في ذلك، حتى يكونوا (قوة اقتصادية) لها وزنها، فإن الاتحاد قوة، وبذلك يمكن أن يتكاملوا ويكتفوا فيما بينهم، ولا سيما في عالم يتكلم بلغة التكتلات الكبيرة.

الحاجات تنزل منزلة الضرورات:

ومن فروع هذه القاعدة: ما قرَّره العلماء: أن الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة، ومعروف أن الضرورة ما لا يستطيع الإنسان العيش بدونه، وأما الحاجة فهي ما يستطيع العيش بدونها، ولكن مع حرج ومشقَّة وعسر، والدين قد جاء برفع الحرج والعسر، وأراد للناس السَّعة واليسر، فمن هنا قالوا: الحاجة تنزَّل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة.

ومن العلماء من قال: الحاجة العامة تنزَّل منزلة الضرورة الخاصة ولكن السيوطي في أشباهه، وابن نُجيم الحنفي في أشباهه أيضا قرَّرا: أن الحاجة عامة كانت أو خاصة تنزَّل منزلة الضرورة، ولكن في التطبيق نجدهما يقرران ذلك: إن المراد بالحاجة الحاجة العامة.

قال السيوطي: (من الأولى: مشروعية الإجارة والجعالة، والحَوالة ونحوها جُوِّزت على خلاف القياس؛ لما في الأولى (الإجارة) من ورود العقد على منافع معدومة، (يعني أن منافع الإجارة لا تتحقَّق إلا بعد العقد، سواء كانت إجارة (أشياء) أم إجارة (أشخاص).

 وفي الثانية (الجَعالة) من الجهالة وفي الثالثة (الحَوالة) من بيع الدين بالدين، لعموم الحاجة إلى ذلك، والحاجة إذا عمَّت كانت كالضرورة. (وفي هذا تقرير لما قلناه).

ومنها: ضمان الدَّرَك[191]، جُوِّز على خلاف القياس؛ إذ البائع إذا باع ملك نفسه، ليس ما أخذه من الثمن دينا عليه حتى يضمن، ولكنه لاحتياج الناس إلى معاملة مَن لا يعرفونه، ولا يُؤمن خروج المبيع مستحقًّا.

ومنها: مسألة الصلح، وإباحة النظر (إلى المرأة الأجنبية) للمعاملة ونحوها، (مثل التداوي)، وغير ذلك)[192]. بل قرر الإمام النووي جواز النظر للتعليم، وقد أثار ذلك اشكالا عند الشراح والمعلقين.

وقد خالف بعض الشافعية النووي، وقالوا: إنه انفرد بهذا الرأى، وأيده بعضهم. وحال بعضهم التأليف بين القولين بقوله: يجوز النظر فيما يجب تعلمه وتعليمه، دون غيره[193].

والذي يليق بعصرنا هو جواز النظر للمتعلم كله، واجبا كان أو غير واجب، دينيا أو دنيويا، ما دام تعليما نافعا ومشروعا، خصوصا التعليم الجماعى في الصف المدرسي، وفي قاعة الجامعة، حيث لا توجد خلوه.

مع وجوب الالتزام بالآداب الإسلامية بالنسبة لكل من الرجل والمرأة، من حشمة الملبس، ومنع الخلوة، ومنع التجاوز في الكلام والحركة، والمشى والنظر وغيرها. كما قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].

ومن ذلك: جواز بيع السلم، على خلاف القياس لكونه بيع المعدوم[194]، دفعا لحاجة الناس.

قال ابن نُجيم: (ومنها: جواز (الاستصناع) للحاجة، (والمراد به: طلب صناعة شيء معين من صانعه: ثوب أو حذاء أو مكتب أو سيارة، أو مبنى، أو أثاث، ونحو ذلك بمواصفات معينة، بثمن متَّفق عليه، فهو عقد على معدوم، ولكن أجازه فقهاء الحنفية لحاجة الناس، ولجريان التعامل به من غير نكير. وفي عصرنا أصبح الاستصناع يشمل البواخر والطائرات والمنشأت الكبرى، كالمدارس والجامعات والمستشفيات وغيرها.

ومن ذلك كما ذكر ابن نجيم: دخول الحمام، مع جهالة مكثه فيه، وما يستعمله من ماءئه، (وذلك لجريان العرف به، والتسامح فيه، وقد جعلوه من باب الاستحسان).

ومنه: شربة السقَّاء، (وهو الذي يسقي الناس بما يرويهم، بثمن معلوم، مع تفاوتهم في مقدار ما يرويهم، ولكن جرى العرف بالتسامح فيه).

ومنها: الإفتاء بصحة (بيع الوفاء) أقول: وقد مرَّ من قبل شرحه مما نقلنا من كلام الأستاذ مصطفى الزرقا حين كثر الدين على أهل بخارى، وهكذا بمصر، وقد سمَّوه (بيع الأمانة)، والشافعية يسمونه (الرهن المعاد)، وهكذا سماه به في (الملتقط) وفي (القنية) و(البغية): يجوز للمحتاج الاستقراض بالربح)[195] اهـ.

وقد فسر العلامة الزرقا العموم والخصوص في هذه القاعدة، بما ينفي الفهم المتبادر منها، أن المراد بالحاجة الخاصة الفردية فقال: (والمراد بكونها خاصة أن يكون الاحتياج لطائفة منهم كأهل بلد أو حرفة، تظير ما تقدم في معنى العرف العام والخاص. وليس المراد بخصوصها أن تكون فردية.

ومعنى القاعدة: أن التسهيلات التشريعية الاستثنائية لا تقتصر على حالات الضرورات، بل حاجات الجماعة مما دون الضرورة توجب التسهيلات الاستثنائية أيضاً، كما تتضح من التفاريع التالية:

1- فعلى هذا الأساس شُرعت بنصوص الشريعة الأصلية أحكام من قبيل الاستثناء من قواعدها العامة للاحتياج إليها. فقد ورد مثلا في السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام: نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان[196]، ورخص في السَّلمَ[197].

فترخيص الشريعة في السَّلَم، مع أنه بيع المعدوم الذي منعه النص العام، إنما هو نظر لحاجة كثير من الناس إلى بيع منتوجاتهم واستلاف أثمانها قبل إنتاجها للاستعانة على الإنتاج، ولذا اشترط فيه تعجيل الثمن.

2- وعلى هذا الأساس أيضا جوز الفقهاء في الأحكام الاجتهادية بيع الثمار التي تتلاحق في الظهور متى بدا بعضها وأمن العاهة، وإن كان معظمها معدوما لم يبد بعد، نظرا للحاجة.

3- وجوزوا أيضا نزول الحمام بأجر مع جهالة المدة التي سيمكثها الشخص، وجهالة مقدار الماء الذي سيستهلكه، نظرا للحاجة أيضا.

4- وجوزوا بيع الوفاء استثناء من القواعد للحاجة أيضا.

5- وجميع الأحكام التي قرر الفقهاء تبدلها لتغير الزمان أو فساده إنما تُقرر أحكامها الجديدة وتتبدل تبعا للحاجة.

6- واعتبار العرف عاما كان أو خاصا، وتحكيمه في الأحكام، إنما هو استجابة لداعي الحاجة.

افتراق الضرور عن الحاجة من ناحيتين:

 يتضح من ذلك ومن بقية الأمثلة التي يوردها الفقهاء عن الضرورة والحاجة أنهما يفترقان في الحكم من ناحيتين:

أ- أن الضرورة تبيح المحظور، سواء أكان الاضطرار حاصلا للفرد أم للجماعة. بخلاف الحاجة، فإنها لا توجب التدابير الاستثنائية من الأحكام العامة إلا إذا كانت حاجة الجماعة. وذلك لأن لكل فرد حاجات متجددة ومختلفة عن غيره، ولا يمكن أن يقرر لكل فرد تشريع خاص به. بخلاف الضرورة فإنها حالة نادرة وقاسرة.

 ب- أن الحكم الاستثنائي الذي يتوقف على الضرورة هو إباحة موقتة لمحظور ممنوع بنص الشريعة، تنتهي هذه الإباحة بزوال الاضطرار، وتتقيد بالشخص المضطر.

أما الأحكام التي تثبت بناء على الحاجة فهي لا تصادم نصا، ولكنها تخالف القواعد والقياس، وهي تثبت بصورة عامة دائمة يستفيد منها المحتاج وغيره.

فرق آخر بين الضرورة والحاجة:

وأزيد هنا (القرضاوي) فرقا آخر بين الضرورة والحاجة، وهو ما قرره المحققون: أن ما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة.

فما حرم لذاته مقصود بالتحريم أصلا لا تبعا، فلذلك لم يبح إلا لضرورة. بخلاف الآخر، فتحريمه أهون، فكلفت الحاجة لاباحته. مثل ربا النسيئة وربا الفضل.

قال الزرقا: وبذلك تفترق الحاجة عن العرف الخاص أيضا، لأن الحكم الذي يثبت بالعرف الخاص يقتصر على أهل العرف فقط. من شرح والدي رحمه الله على القواعد بتصرف وإيضا.

 اقتراح صياغة جديدة للقاعدة:

قال: ويلاحظ على صياغة هذه القاعدة أن لفظ (الحاجة خاصة) فيها يوهم لأول وهلة بأنها الحاجة الفردية، بينما المقصود كما بينا آنفا هو حاجة طائفة من الناس، هوليس جميع الناس.

يقول الشيخ العلامة العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام) (المصلحة العامة كالضرورة الخاصة…)[198] (وأصلها إمام الحرمين في كتابه غياث الأمم أو الغياثي. القرضاوي). فالأفصل في صياغة هذه القاعدة والحالة هذه أن تصاغ كما يلي:

الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، وتفسر الحاجة العامة حينئذ بأنها ما يشمل جميع الأمة أو طائفة منها، كأهل حرفة أو بلد مثلا.

ومزيَّةُ هذه الصيغة المعدلة أنها تُبرز مبدأ رفع الحرج، وهو من السمات الرئيسية في الشريعة الإسلامية، من حيث هو الأساس في الأحكام الاستثنائية في حالة الضرورة الفردية، وهو نفسه الأساس هنا في باب الحاجة العامة)[199] انتهي.

الاضطرار لا يُبطل حق الغير:

قال الزرقا: (وإنما يعدُّ الاضطرار معذرة تسقط الإثم وتعفي من عقوبة التجاوز على حق الغير، ولا ضرورة لإبطال الحق.

فمن اضطر لدفع الهلاك عن نفسه أن ياكل طعام غيره فإن عليه ضمان قيمته.

أما من أكره بملجئ على إتلاف مال الغير فإن ضمان قيمة المال على من باشر الإكراه، لأنه أولى من الفاعل بتحمل التَّبعة)[200].

ما أُبيح للضرورة يقدَّر بقدرها:

وقد فرَّع العلماء على قاعدة الضرورات: ما نبَّهنا عليه من قبل، وهو قاعدة (ما أُبيح للضرورة يقدَّر بقدرها)، فليس معنى الإباحة للضرورة نسيان أصل الحظر، والتوسُّع في الإباحة، بل يجب أن يكون أصل الحظر مذكورا وغير منسيٍّ، حتى لا يستسلم الناس للضرورة ويعتبروها أصلا، ولا يسعَوا إلى الخروج منها، بل المطلوب من أهل الإيمان الاجتهاد والسعي دائما لتحسين الأحوال.

قال السيوطي رحمه الله بعد ذكر هذه القاعدة: (ومن فروعها: المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سدِّ الرمق.

ومَن استشير في خاطب، اكتفى بالتعريض – كقوله: لا يصلح لك – ولم يعدل إلى التصريح.(أي تجنبا للغيبة المحرمة).

ويجوز أخذ نبات الحرم لعلف البهائم، ولا يجوز أخذه لبيعه لمَن يعلفها.

والطعام في دار الحرب يُؤخذ على سبيل الحاجة، لأنه أُبيح للضرورة، فإذا وصل عمران المسلمين امتنع ومن معه بقايا ردَّها.

ولو فصد أجنبي امرأة: وجب أن تستر جميع ساعدها، ولا يُكشَف إلا ما لا بد منه للاستمساك.

والجبيرة يجب أن لا تستر من الصحيح إلا ما لا بد منه للاستمساك.

والمجنون لا يجوز تزويجه أكثر من واحدة، لاندفاع الحاجة بها.

ومَن جاز له اقتناء الكلب للصيد: لم يجُز له أن يقتني زيادة على القدر الذي يصطاد به)[201].

وقال ابن نجيم: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، ولذا قال في أيمان (الظهيرية): إن اليمين الكاذبة لا تباح للضرورة، وإنما تباح للتعريض، (انتهى). يعني لاندفاعها بالتعريض.

ومن فروعه: المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق، والطعام في دار الحرب يؤخذ على سبيل الحاجة، لأنه إنما أبيح للضرورة. قال في الكنز: وينتفع فيها بعلف وطعام وحطب وسلاح ودهن بلا قسمة وبعد الخروج منها لا، وما فضل رد إلى الغنيمة.

 وأفتوا بالعفو عن بول السنور في الثياب دون الأواني، لأنه لا ضرورة في الأواني لجريان العادة بتخميرها أى بتغطيتها.

 وفرق كثير من المشايخ في البعر بين آبار الفلوات، فيعفى عن قليله للضرورة؛ لأنه ليس لها رؤوس حاجزة، والإبل تبعر حولها، وبين آبار الأمصار لعدم الضرورة، بخلاف الكثير. ولكن المعتمد عدم الفرق بين آبار الفلوات والأمصار، وبين الصحيح والمنكسر، وبين الرطب واليابس.

 ويعفى عن ثياب المتوضىء إذا أصابها من الماء المستعمل، وعلى رواية النجاسة للضرورة، ولا يعفى عما يصيب ثوب غيره لعدمها.

 ودم الشهيد طاهر في حق نفسه، نجس في حق غيره لعدم الضرورة.

 والجبيرة يجب ألا تستر من الصحيح إلا بقدر ما لا بد منه والطبيب إنما ينظر من العورة بقدر الحاجة.

 وفرع الشافعية عليها: أن المجنون لا يجوز تزويجه أكثر من واحدة لاندفاع الحاجة بها (انتهى). ولم أره لمشايخنا رحمهم الله)[202].

 


(7)

القاعدة السابعة: مراعاة العادات والأعراف فيما لا يخالف الشرع

 

ومن القواعد الحاكمة في فقه المعاملات، التي اتفق عليها الفقهاء بمختلف مذاهبهم: الاحتكام إلى أعراف الناس وعاداتهم، فيما لم يخالف الشرع. ولهذا جعلوا من القواعد الفقهية والشرعية الكلية المجمع عليها قاعدة: (العادة محكمة).

والعرف هو عادة الجماعة، وقد قال الناظم في الفقه:

والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار

وقد استدلُّوا على هذه القاعدة بقول ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنا، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح[203].

وقد أورده بعضهم على أنه حديث مرفوع، والصواب أنه موقوف رواه أحمد في مسنده.

ولكن معناه – وإن كان موقوفا – صحيح في ميزان الشرع، الذي يرى رؤية المؤمنين معتبرة عند الله في المدح والقدح، فالله تعالى يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فجعل رؤية المؤمنين معطوفة على رؤية الله و رسوله للعمل، كما قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35]، فجعل مقت المؤمنين معطوفا على مقت الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنتم شهداء الله في الأرض”[204].

وهذه القاعدة (العادة محكمة) يرجع إليها في العبادات والمعاملات جميعا، وليست مقصورة على المعاملات، ولكنها في الواقع أكثر ما يحتاج إليها في العادات والمعاملات، لما للعرف القائم، والعادات السائدة من تأثير على معاملات الناس، وتصرفاتهم الدنيوية إلى حد كبير، بخلاف العبادات، فإن تأثيرها أقل.

ولهذا كان كل من المفتي والقاضي في حاجة إلى معرفة العرف السائد، حتى لا يفتي أو يحكم بما يخالفه، فيقع في الخطأ، وهو لا يدري أو لا يقصد.

ولهذا نص المحققون على أن الفتوى تتغير بتغير العرف، كما تتغير بتغير الزمان والمكان. وكذلك قضاء القاضي، إذ قضاء القاضي هو نوع من ا لفتوى، إلا أنه ملزم للمتقاضيين، والفتوى ليست ملزمة قضاء، وإن كانت ملزمة ديانة.

ومن هنا نبّه العلماء الراسخون على ضرورة مراعاة المفتي للعرف السائد في كل بلد، وفي كل زمن، حتى لا يضل عن الحقيقة. وممن نبّه على ذلك الإمام شهاب الدين القرافي المالكي رحمه الله. كما نبه على ذلك الإمام ابن القيم الحنبلي في الفصل الذي عقده في (إعلام الموقعين) عن موجبات تغير الفتوى، وهي تغير الزمان والمكان والحال والعرف، والعرف أحد هذه الموجبات بلا نزاع.

وكتب علامة المتأخرين من الحنفية فقيه الديار الشامية، ابن عابدين رسالته المعروفة، التي سماها: (نشر العَرْف في أن بعض الأحكام مبناها على العُرْف).

كما سنفصل ذلك فيما يأتي. وقد اهتم علماء العصر في بحوثهم الفقهية بـ (العادة) و (العرف) وأصلوها ورتبوا عليها قواعد وأحكاما لها خطرها وتأثيرها على المستوي النظري، وعلى المستوى العملي، ومن أهم ما قدم في هذا المجال: رسالة شيخنا العلامة الأزهرى، الشيخ الدكتور أحمد فهمي أبو سنة (عن العرف والعادة عند الفقهاء) وكانت رسالة للحصول على شهادة العالمية (من درجة أستاذ) من كلية الشريعة بالأزهر، وبحث الفقيه العلامة الشيخ مصطفي الزرقا عن (نظرية العرف) في كتابه (المدخل الفقهي العام) من جزئه الثاني. وقد كان مبحث العرف من المباحث التي طلبها (المجمع الفقهي الإسلامي الدولي) في إحدى دوراته، وقد قدم له بحوث مستفيضة نشرتها مجلته، ويمكن الرجوع إليها.

انقسام العرف إلى عام وخاص:

ينقسم العرف باعتبارات كثيرة منها: العموم والخصوص، ومنها: القول والفعل أو اللفظ والعمل.

والعموم والخصوص أقسام أيضاً:

فهناك عرف خاص بأهل قطر معين، كأهل مصر أو الشام أو العراق، وهناك أعراف خاصة بكل أقليم أو مدينة من هذا القطر.

فنقول: هذا عرف أهل الصعيد في مصر، وليس عرف أهل الوجه البحري، أو هذا عرف خاص بأهل الأسكندرية، ولا يعرفه أهل القاهرة مثلاً، أو هذا عرف خاص بأهل بغداد ولا يعرفه أهل الموصل. وهذا عرف خاص بأهل دمشق، وليس عرف أهل حماة أو حلب.

ونجد عرفاً خاصاً بأهل حرفة معينة، ولا يشمل غيرهم. فنقول هذا عرف الفلاحين، إما عموما، وإما خصوصا في بلد. فنقول هذا عرف الفلاحين في السودان أو في المغرب. فتكون الخصوصية هنا من ناحيتين: من ناحية الحرفة، ومن ناحية البلد.

وهذا عرف الصاغة أو الجواهرجية عاما، أو خاصا ببلد أيضا. أو هذا عرف النّجارين أو الحدادين أو البنائين أو الخياطين. وغيرهم من أصحاب الحرف المختلفة، عموما، وهذا نادر، أو خصوصا وهو الغالب، فكل أهل صنعة في كل بلد لهم عرفهم.

وكذلك عرف التجار أو موظفي الدولة، عموما وهو نادر، أو خصوصا في بلد معين، وهو الغالب.

العرف العام:

والعرف العام، قد يكون عمومه بين المسلمين، وقد يكون عمومه بين الناس جميعا، مسلمهم وغير مسلمهم.

فمن العرف العام الجارى بين جماهير المسلمين: تقسيهم المهر في الزاوج إلى معجل، وإلى مؤخر. المعجل تقبضه المرأة عادة قبل الدخول. والمؤخر لا يطالب به عادة إلا عند الطلاق أو الموت.

ومن العرف العام بين الناس جميعا: أن المكتوب على السلعة من ثمن محدد، يكفي أن تدفع الثمن، وتأخذ السلعة وتنصرف، دون إيجاب وقبول، بل من باب المعاطاة. وهذا في سائر بلاد العالم.

وأن التنزيل بتخفيض السلعة من سعرها الأصلي المكتوب إلى سعر آخر أخفض منه، يلزم البائع بأن يبيع بالسعر المخفض، ولا يجوز في مدة التنزيل ان يلزم المشتري بالسعر القديم.

ومن المتعارف عليه أن من معه جواز سفر رسمى صحيح ساري المفعول، فأخذ عليه حامله (تأشيرة دخول) من أي دولة، يصبح له الحق في دخولها بهذه التأشيرة.

وهكذا نجد أعرافا كثيرة، اصطلح عليها العالم المعاصر شرقا وغربا، وأمست معلومة عند الناس. وحكم الشريعة الإسلامية أنها تقر هذه الأعراف، ما دامت لا تتعارض مع أصولها ولا أحكامها، تيسيرا للتعامل بين الناس.

العرف قولي وعملي:

وكذلك ينقسم العرف إلى قولي – أو لفظي – وعملي. فالقولي أو اللفظي هو: ما يتعلق بالكلمات والألفاظ والمصطلحات. والعملي هو: ما يتعلق بالأفعال والمعاملات.

والعرف القولي له حكمه، فكل جماعة أو قُطر أو أقليم أو مدينة لهم مصطلحات لفظية أو قولية يعبرون بها عن مقاصدهم، تختلف عن الجماعات والبلدان أو الأقاليم الأخرى.

ويجب رعاية العرف اللفظي أو المصطلح المعترف به أو المعمول به لدى كل قوم أو فئة من الناس وإن خالف الوضع اللغوي أو الشرعي؛ لأن (الحقيقة العرفية) مقدمة على (على الحقيقة اللغوية) و (الحقيقة الشرعية).

فبعض البلاد يعبرون بكلمة (الولد) عن الابن الذكر، وإن كانت كلمة (الولد) معناها اللغوي تشمل الابن كما تشمل البنت، وهو ما جاء في القرآن: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء:11]، فقوله في {أَوْلَادِكُمْ}، يشمل الذكور والإناث وقوله: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ} يقصد: ليس له ابن ذكر ولا بنت.

فيجب أن يراعى في الأيمان، وفي الوصايا، وفي حجج الأوقاف ونحوها، ما هو جارٍ ومعمول به في العرف، وهذا ما جعل الفقهاء يقولون: المعروف عرفا كالمشروط شرطا. التعيين بالعرف كالتعيين بالنص.

ومن القواعد المتفرعة على العرف القولي أو اللفظي قواعد ثلاث: الحقيقة تترك بدلالة العادة. وقاعدة: الكتاب كالخطاب. أى ما يكتب بالقلم مثل ما ينطق باللسان، بل ربما كان المكتوب أحيانا أهم من المنطوق، ولهذا أمر الله بكتابة الدين، وأنزل في ذلك أطول آية في القرآن، المعروفة باسم (آية المداينة).

والقاعدة الثالثة: الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان.

ومثل ذلك في عرفنا: لغة الصُّمّ المصطلح عليها، والتي تعلم للصم، وهي لغة اشارات. وفي بعض نشرات الأخبار في بعض القنوات التليفزيونية هناك من يترجمها للصم بلغتهم المعهودة.

والقواعد الثلاث التي ذكرناها هنا كلها من قواعد (المجلة) المعروفة.

الكلمة الواحدة تتعدد معانيها بتعدد الأعراف:

والكلمة الواحدة، قد يكون لها مدلولات مختلفة بحسب أعراف من يتداولونها. ومن الخطأ الظن بأنها ما دامت واحدة في لفظها فهي واحدة في معناها ومفهومها.

خذ كلمة (عِلّة) فهذه الكلمة مشتركة في أعراف ومصطلحات جماعات مختلفة من العلماء والمتخصصين، كل يقصد منها غير ما يقصد الآخر.

فالعلة عند الأطباء، غير العلة عند الفلاسفة، غير العلة عند المحدثين، غير العلة عند الأصوليين، غير العلة عند النحويين.

فالعلة عند الأطباء هي المرض، ومنه سمى المريض: عليلا. وهذا هو المعنى العام والشائع.

والعلة عند الفلاسفة تنقسم أربعة أقسام: علة فاعلة، وعلة غائية، وعلة باعثة مادية، وعلة صورية.

والعلة عند المحدثين هي: آفة خفية في سند الحديث أو متنه، يترتب على اعتبارها او عدمه، رد الحديث أو قبوله، وهي نوعان: علة قادحة، وغير قادحة.

والعلة عند الأصوليين هي التي يدور عليها الحكم الشرعي، وهو المعلول، والمعلول يدور مع علته وجودا وعدما، فإذا عدمت العلة عدم المعلول.

والعله أيضاً عندهم مدار القياس، والقياس هو إلحاقه فرع بأصل لعلة مشتركة بينهما، وللعلة في القياس شروط يجب رعايتها. وأبحاث العلة من أدق الأبحاث في علم القياس.

والعلة عند النحويين؛ تلحق بالحروف، فهناك حروف العلة الثلاث: الألف، والواو، والياء.

وهناك الفعل المعتل: منه المعتل الآخر ويسمى الناقص، مثل: سعى وربى. أو الأوسط، ويسمى الأجوف، مثل: صام وباع. أو الأول ويسمى المثال، مثل: وعد ووزن.

اختلاف العرف القولى بين بين البلاد بعضها وبعض:

وقد يسبب اختلاف العرف القولى بين البلاد بعضها وبعض أحيانا في ظهور مشكلات في التعامل، لأن كل واحد منهم يتكلم بكلمة حسب عرف بلده، ويفهما الآخر حسب عرف بلده هو. ومن هنا يحدث الارتباك أو الإشتباك.

من ذلك: ما حكى أن مجموعة من الشباب الجزائريين زاروا القاهرة، فدخلوا مطعما، فتقدم إليهم عامل المطعم قائمة بما عنده من الوجبات التي يحضرها لزبائنه، فكان من القائمة: الفراخ، والفراخ في عرف الجزائريين تعني العصافير، فقالوا: هذه أكله مناسبة، وكانوا أربعة، فطلب كل واحد منهم ثلاثة فراخ، أى اثنتى عشرة فرخة، وقد استكثر عامل المطعم ذلك، وناقشهم في ذلك، واكدوا له أنهم مصرون على طلبهم.

وبعد فترة، أحضر العامل صينية عليها اثنتا عشرة فرخة أى دجاجة، ففوجئ الجزائريون بهذا الذي وضع أمامهم. فقالوا: ما هذا؟ قال: هذا ما طلبتموه وأصررتم عليه. قالوا: نحن لم نطلب دجاجا وإنما طلبنا فراخا! قال: هذه الفراخ عندنا. قالوا: إما الفراخ عندنا فهي العصافير!

ومثل هذا يحدث كثيرا، لاختلاف التسميات بين البلاد بعضها والبعض. وقد تكون الكلمة مدحا في أحد الأقطار، وذما وشتما في قطر آخر.

وقد تكون لفظة في بعض البلاد تحمل معنى الذم، وفي بلاد آخرى لا تحمل ذلك. من ذلك أن كلمة (مَرة) بمعنى (امرأة) في بلاد الخليج لا تحمل أى ذم أو اساءة إذا أطلقت. على حين نجدها بهذه الصفة في مصر لا تقال إلا في مقام السب والشتم!

ويجب على المفتى إذا أفتى، والقاضي إذا حكم، أن يراعى هذه الأعراف، ولا يتسرع في ذلك بل يتثبت، حتى لا يثبت ما يجب أن ينفى، أو ينفي ما يجب أن يثبت، ويوجب ما ليس بواجب، ويسقط ما هو واجب، بنتيجة الجهل بالعرف السائد.

اهتمام (مجلة الأحكام) بهذه القاعدة:

وهذه القاعدة من أهم قواعد (المجلة)، وتحمل رقم (36) فيها. وقد عنيت عناية بالغة بتأصيلها، وبتفريعاتها عليها، وعُني شراحها بضرب الأمثلة الموضحة لأحكامها.

وقد أوضحت المجلة هذه المادة بقولها: إن العادة عامة أو خاصة تجعل حَكَما لإثبات حكم شرعي. و قد بين شارح المجلة على حيدر: أن العرف والعادة إنما تجعل حكما لإثبات الحكم الشرعي إذا لم يرد نص في ذلك الحكم المراد إثباته، فإذا ورد النص عمل بموجبه، ولا يجوز ترك النص والعمل بالعادة، لأنه ليس للعباد حق تغيير النصوص، والنص أقوى من العرف؛ لأن العرف قد يكون مستندا، على باطل كما سيأتي في شرح المادة (37). أما نص الشارع فلا يجوز مطلقا أن يكون مبنيا على باطل، فلذلك لا يترك القوي لأجل العمل بالضعيف.

تقسيم العرف:

قال الشارح: والعرف والعادة يكونان على وجهين:

الأول يقسم إلى ثلاثة أقسام:

 1- العرف العام. تعريف العرف العام: هو عرف هيئة غير مخصوص بطبقة من طبقاتها، وواضعه غير متعين. والعرف العام عندنا هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة حتى زماننا، والذي قبله المجتهدون وعملوا به، ولو كان مخالفا للقياس. (ويلاحظ أنه جعل العموم هنا يشمل الزمان والمكان جميعا، مع أن المفهوم أن المراد بالعموم هنا العموم المكاني). مثال ذلك: إذا حلف شخص قائلا: والله لا أضع قدمي في دار فلان، يحنث، سواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا، أما لو وضع قدمه في الدار دون أن يدخلها لا يحنث؛ لأن وضع القدم في العرف العام بمعنى الدخول.

2 – العرف الخاص، تعريفه: هو اصطلاح طائفة مخصوصة على شيء كاستعمال علماء النحو (لفظة الرفع) وعلماء الأدب كلمة (النقد).

3 – العرف الشرعي، هو عبارة عن الاصطلاحات الشرعية، كالصلاة والزكاة والحج، فباستعمالها في المعنى الشرعي أهمل معناها اللغوي.

هذا وفي الحكم بالعرف العام والعرف الخاص فرق. وإليك التفصيل:

يثبت بالعرف العام حكم عام. مثال ذلك: لو حلف شخص فقال: (لا أضع قدمي في دار فلان) فبما أن معنى ذلك في اللغة (لا أضع رجلي) وفي العرف العام (لا أدخل) يثبت ذلك في حق العموم.

أما العرف الخاص، فإنه يثبت به حكم خاص فقط. مثال ذلك: لو تعورف في بلدة وقف المنقول غير المتعارف وقفه في غيرها، يحكم بصحة وقف ذلك المنقول فيها فقط.

والوجه الثاني يقسم أيضا إلى قسمين: (1) العرف العملي (2) والعرف القولي.

العرف العملي: كتعود أهل بلده مثلا أكل لحم الضان أو خبز القمح. فلو وكل شخص من تلك البلدة آخر بأن يشتري له خبزا أو لحما، فليس للوكيل أن يشتري للموكل لحم جمل أو خبز ذرة أو شعير، استنادا على هذا الإطلاق، وهذا العرف عند الحنفية يسمى (عرفا عاما مخصصا) أي عرفا مقيد!

العرف القولي: وهو اصطلاح جماعة على لفظ يستعملونه في معنى مخصوص، حتى يتبادر معناه إلى ذهن أحدهم بمجرد سماعه. وهذا العرف أيضا يسمى عند الحنفية والشافعية (عرفا مخصصا).

من ذلك أن الأشياء التي تدخل في البيع عادة تدخل في البيع بدون ذكر لها. مثال ذلك: يدخل ضمن بيع الفرس رَسَنه ولو لم يذكر للمشتري أخذه.

وكذلك إذا كان العرف في بلدة في البيع المطلق يدفع مقسطا يعتبر ثمن المبيع مقسطا حسب العرف، انظر المادة (576).

 وكذا إذا وضع رجل ولده عند صاحب صنعة بقصد تعلمها ولم يشترط أحدهما على الآخر أجرة. وبعد أن تعلم الولد الصنعة طالب كل منهما الآخر بالأجرة يعمل بعرف البلدة، فإذا كانت الأجرة عادة على المعلِّم يجبر عليها، وإن كانت على الصبي المتعلم يجبر على دفعها للمعلم، وإن كانت العادة لا تقضي على كل منهما يحكم بمقتضاها، انظر المادة (569).

 كذلك يجب على المكاري (المتعهد بنقل الأشياء والأشخاص) وضع الحِمْل داخل الدار أو المخزن، إن كان ذلك متعارفا، انظر مادة (575). كذلك استئجار المرضع جائز عملا بالعرف والعادة، مع أنها في الأصل إجارة فاسدة لجهل المنفعة.

قواعد متفرعة على هذه القاعدة:

وقد رتبت (المجلة) جملة من الأحكام أو القواعد الفرعية على هذه القاعدة الكبيرة، منها:

استعمال الناس حجة يجب العمل بها:

وهي المادة (37). يعني: أن وضع اليد على شيء والتصرف فيه دليل على الملك ظاهرا أو استعمال الناس إن كان عاما يعد حجة في حق العموم، وإن كان خاصا ببلدة مثلا لا يكون حجة، خلافا لمشايخ بلخ، فإنهم يرونه حجة في تلك البلدة، ويكون حينئذ من العرف الخاص الذي بيناه، فيثبت به حكم خاص.

والحاصل أن استعمال الناس غير المخالف للشرع ولنص الفقهاء يعد حجة، كالبيع بالوفاء، وبيع السلم مثلا، فقد اتفق الفقهاء وأجمع الناس على جوازه لما مست الحاجة إليه، مع أنه في الأصل غير جائز.

مثال ذلك: إذا استعان شخص على شراء مال، وبعد وقوع البيع والشراء طلب المستعان به من المستعين أجرة، فينظر إلى تعامل أهل السوق، فإذا كان معتادا في مثل هذه الحال أخذ أجرة فللمستعان به أخذ الأجرة المثلية من المستعين، وإلا فلا.

وكذلك لو أهدى شخص شيئا كالتفاح مثلا في صحن، يجب رد الصحن، لأنه يرد عادة.

 ولو أهدى بلحا أو عنبا في سَلّ لا يرد السل لصاحبه، لجريان العادة بعدم رد السل.

وكذلك لو استأجر شخص عاملا ليعمل له في بستانه يوميا، فتعيين وقت العمل من اليوم عائد إلى العرف والعادة في تلك البلدة.

 وكذلك لو تعورف في بلدة وقف المنقول كوقف الكتب الشرعية والعلمية والمصاحف الشريفة، أو وقف الأسلحة الخفيفة كالسيف والرمح والحربة والبندقية والمدفع، حكم بجوازه، ويكون الوقف صحيحا، مع أن وقف المنقول في الأصل غير صحيح.

إن العرف والعادة يكون حجة إذا لم يكن مخالفا لنص أو شرط لأحد المتعاقدين، كما لو استأجر شخص آخر لأن يعمل له من الظهر إلى العصر فقط بأجرة معينة، فليس للمستأجر أن يلزم الأجير العمل من الصباح إلى المساء بداعي أن عرف البلدة كذلك، بل يتبع المدة المعينة بينهما.

ونذكر هنا أن اجتهاد الإمام أبي يوسف في النص: أنه إذا كان مبنيا على العرف والعادة – كالحديث الوارد[205] في الذهب والفضة أنهما من الموزونات، والملح والشعير والبر من المكيلات – يترك ويصار إلى العرف والعادة، إذا تبدلت بتبدل الأزمان. فالذهب والفضة في زماننا يقربان أن يكونا عدديين، والتمر والملح أصبحا وزنيين، والقمح والشعير كادا أن يصيرا وزنيين.

بل أقول (القرضاوي): كل المكيلات في عهدنا أصبحت تباع وتشترى بالوزن، ولم يعد يستعمل الكيل إلا نادرا في بعض البيئات. فإذا طلبت التساوي بين هذه الأشياء في البيع والشراء فهو التساوي في الوزن عند أبي يوسف، وليس الكيل، كما جاء في النص.

وأما إذا كان النص غير مستند على العرف والعادة، فيعتبر النص، ولا يصار إلى العرف والعادة، خلافا للإمام أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فإنهما يعتبران النص كيفما كان، ولا يتركانه بداعي تغير الأحوال بتغير الأزمان، والمختار للمجلة قول أبي يوسف[206] انتهي.

ومن النصوص المبنية على عرف تغير: نهيه عليه الصلاة والسلام المسافر أن يطرق أهله ليلا، وإنما يدخل عليهم غدوة أو عشية. فقد روى الشيخان عن جابر: “إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتى أهله طروقا”[207]، روى البخاري ومسلم من حديث أنس: “أنه صلى الله عليه و سلم لا يطرق أهله كان لا يدخل إلا غدوة أو عشية”[208].

وقد عللت بعض الأحاديث هذا النهى بأن المرأة لا تكون متهيئة للقاء زوجها، إذا فاجأها قادما، وهو غائب مدة من الزمن، وهذا مبني على ظروف السفر في تلك الأزمنه.

أما اليوم، فإن الزوج يستطيع أن يتصل بزوجته بسهولة، ويخبرها بموعد وصوله، ولا حرج عليه أن يصل ليلا أو نهارا. بل الواقع أن الرجل في زمننا هذا يكون في سفره على صلة دائمة بأهل بيته عن طريق الهاتف النقال، الذي يحمله معه حيثما كان، وتستطيع الزوجة الاتصال به بيسر.

على أن مواعيد السفر والوصول لم تعد في امكان الإنسان، يكيفها حيث يشاء، كما كان يفعل قديما المسافر على ناقته. بل هو مرتبط بمواعيد الطائرات وغيرها من وسائل النقل. فقد يكون موعد وصولها في أي ساعة من ليل أو نهار، وهو لا يملك إلا الخضوع لها.

الممتنع عادة كالممتنع حقيقة:

وهي المادة رقم (38)، ومعناها أن ما استحال عادة لا تسمع فيه الدعوى كالمستحيل عقلا، إذا ادعى من عرف بالفقر على من عرف بالغنى بأنه استدان منه مبلغا لا تجّوز العادة وقوع مثله: لا تسمع فيه الدعوى وكما لو ادعى أن زيدا ابنه ولا يولد مثله لمثله.

لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان:

وهي المادة (39) ذلك كما بين الشارح: أن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناء على هذا التغير يتبدل أيضا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفا، بخلاف الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية، التي لم تبن على العرف والعادة، فإنها لا تتغير.

مثال ذلك: جزاء القاتل العمد القتل، فهذا الحكم الشرعي الذي لم يستند على العرف والعادة لا يتغير بتغير الأزمان. أما الذي يتغير بتغير الأزمان من الأحكام فإنما هي المبنية على العرف والعادة كما قلنا.

وإليك الأمثلة: كان عند الفقهاء المتقدمين أنه إذا اشترى أحد دارا اكتفى برؤية بعض بيوتها، وعند المتأخرين لا بد من رؤية كل بيت منها على حدته. وهذا الاختلاف ليس مستندا إلى دليل، بل هو ناشئ عن اختلاف العرف والعادة في أمر الإنشاء والبناء، وذلك أن العادة قديما في إنشاء الدور وبنائها أن تكون جميع بيوتها متساوية وعلى طراز واحد، فكانت على هذا رؤية بعض البيوت تغني عن رؤية سائرها، وأما في هذا العصر فإذ جرت العادة بأن الدار الواحدة تكون بيوتها مختلفة في الشكل والحجم، لزم عند البيع رؤية كل منها على الانفراد.

وفي الحقيقة اللازم في هذه المسألة وأمثالها حصول علم كاف بالمبيع عند المشتري، ومن ثم لم يكن الاختلاف الواقع في مثل هذه المسألة المذكورة تغييرا للقاعدة الشرعية، وإنما تغير الحكم فيها بتغير أحوال الزمان فقط.

وكذا تزكية الشهود سرا وعلنا، ولزوم الضمان غاصب مال اليتيم ومال الوقف مبنيان على هذه القاعدة. وقد رأى الإمام الأعظم (أي أبو حنيفة) عدم لزوم تزكية الشهود في دعوى المال ما لم يطعن الخصم فيهم. وسبب ذلك صلاح الناس في زمانه، أما الصاحبان وقد شهدا زمنا غير زمنه، تفشت فيه الأخلاق الفاسدة، فرأيا لزوم تزكية الشهود سراً وعلناً، والمجلة قد أخذت بقولهما، وأوجبت تزكية الشهود.

الحقيقة تترك بدلالة العادة:

وهي المادة (40) من المجلة. يعني: لو وكلت إنسانا بشراء طعام وليمة لا يشتري إلا الطعام المعتاد في مثلها لا كل ما يؤكل.

كنا أوضحنا سابقا أن اللفظ إما أن يكون له معنى حقيقي وإما أن يكون له معنى مجازي وقد بين علماء البيان أن للفظ معنى ثالثا وهو المعنى الكنائي.

وقد ذكر الفقهاء أن المفتي عندما يستفتي عن مسألة يجب عليه إذا كان المستفتي من بلدة أخرى أن لا يفتي قبل أن يعلم المعنى المستعمل للفظ المستفتى به في بلدة المستفتي.

إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت:

 وهي المادة (41). يعني لا يلزم أن يكون جهاز العرس إلا على العادة الغالبة فلو جهزت عروس بأكثر من العادة الغالبة لا يعتبر ولا يقاس عليه.

قلنا: أن العادة يجب أن تعتبر، وهذه المادة تشترط في العادة – لكي تكون معتبرة – أن تكون مطردة، أي أن لا تتخلف، أو غالبة أي إن تخلفت أحيانا، فإنها لا تتخلف على الأكثر هذا وقد ذكر صاحب (الأشباه): أن الشيء الذي يحمل على العرف والعادة يجب:

أولاً: أن يكون حمله على العرف الموجود وقت التلفظ لا أن يحمل الشيء الذي وضع قبلا على عرف حدث مؤخراً.

ثانياً: أن يكون العرف سابقا ومقارنا أي ألا يكون متأخرا وطارئا. مثال: لو باع شخص منذ مائة سنة عقارا بمائة جنيه مصري وكان الجنية في ذلك الوقت هو الجنية الذهبي، لا يجوز حمله على الجنية الورقي الحالي لأن هذا عرف حادث في ذلك الوقت.

العبرة للغالب الشائع لا للنادر:

وهي المادة (42)، ومعناها: أن الشائع هو الأمر الذي يصبح معلوما للناس وذائعا بينهم. مثال ذلك: أن يحكم ببلوغ من له من العمر خمس عشرة سنة، لأنه هو السن الشائع للبلوغ وإن كان البعض لا يبلغ إلا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، إلا أنه نادر فلا ينظر إليه.

كذلك الحكم بسبع سنين لمدة حضانة الصبي وتسع لحضانة البنت مبني على الشائع المتعارف من أن الصبي إذا بلغ السابعة من عمره يستغني عن معين له في لباسه وأكله واستنجائه مثلا: والبنت إذا صار عمرها تسع سنوات تصبح مشتهاة في الغالب واختلاف النمو في البعض زيادة ونقصانا بتأثير التربية والإقليم لا عبرة له، بل المعتبر السبع سنوات للصبي والتسع للبنت لأنه الشائع الغالب.

المعروف عرفا كالمشروط شرطاً:

وهي المادة (43). وفي الكتب الفقهية عبارات أخرى بهذا المعنى: (الثابت بالعرف كالثابت بدليل شرعي) و(المعروف عرفا كالمشروط شرعا) و(الثابت بالعرف كالثابت بالنص) و(المعروف بالعرف كالمشروط باللفظ) وقد سبق لنا أن عرفنا العرف والعادة. فإليك الأمثلة على هذه القاعدة: لو اشتغل شخص لآخر شيئا، ولم يتقاولا على الأجرة، ينظر للعامل: إن كان يشتغل بالأجرة عادة يجبر صاحب العمل على دفع أجرة المثل له عملا بالعرف والعادة، وإلا فلا.

 كذلك إذا اشترى شخص من آخر شيئا بعشر ليرات ولم يعين نوع الليرة يرجع إلى النوع المتعارف في تلك البلدة، كان يكون المتعارف الليرة العثمانية مثلا فتعتبر هي التي وقع عليها العقد كما لو ذكرت[209]. وهل هي ليرة ذهبية أو ليرة ورقية؟ وما أعظم الفرق بينهما؟!

أقول (القرضاوي): وفي عصرنا لو اشترى رجل سلعة بألف جنية مثلا، فالجنية في مصر ينصرف إلى الجنية المصري، وفي السودان ينصرف إلى الجنية السوداني، وفي لندن ينصرف إلى الجنية الإنكليزي، كما يوجبه عرف كل بلد. وفي كل زمن سينصرف إلى ما هو المعهود فيه، ففي القرن التاسع عشر كان الجنية إذا ذكر في معاملة ما، ينصرف إلى الجنية الذهبي، إذ لم يكن قد أصبح الورقي عملة معتمدة، فلو رفعت قضية فيها حقوق قديمة بالجنية فلا معنى له إلا الجنية المعروف حينئذ، وهو من الذهب بيقين، أما اليوم فيراد بالجنية إذا ذكر الجنية الورقي.

 كذا لو اشترى شخص بقرة، فتبين له بعد شرائها أنها غير حلوب، وأراد ردها ينظر: إن كان هذا الشخص معروفا أنه ممن يشتري للذبح كأن يكون قصابا، لا يجوز له الرد، وإن كان ممن يشتري لأجل الانتفاع بحليبها ترد.

كذلك لو سكن شخص دارا لآخر معدة للأجرة بدون إذنه، وبدون تأويل ملك، أو تأويل عقد: يلزمه دفع أجرة المثل عرفا، ويكون كأن الساكن شرطها على نفسه حين سكناه للدار.

وكذا الذي ينام في الفندق والمغتسل في الحمام، يجب عليه دفع الأجرة، لأن العرف والعادة توجب دفعها وإن لم تذكر.

المعروف بين التجار كالمشروط بينهم:

وهي المادة (40). وإن هذه المادة هي عين المادة السابقة.

التعيين بالعرف كالتعيين بالنص:

وهي المادة (45). ويتفرع من هذه المادة فروع، منها: الإعارة المطلقة المتقيدة بالعرف والعادة. مثال ذلك: لو أعار شخص آخر دابة إعارة مطلقة، لا يجوز للمستعير أن يُركِبها أو يحمّلها غير المعتاد المتعارف. فلو حملها حديدا أو سلك بها طريقا وعرا، وكان تحميل الحديد وسلوك تلك الطريق غير معتاد، يضمن.

كذلك الوكيل ببيع شيء وكالة مطلقة تعتبر عادة بأن لا يكون تصرفه مضرا بالموكلِّ، فلو وكل شخص آخر ببيع شيء وكالة مطلقة، فله أن يبيع ذلك المال بثمن معجل، أو مؤجل إلى أجل متعارف التأجيل بين التجار ولا يجوز له أن يبيعه لأجل أبعد من المعتاد. كذا لو وكله في بيع شيء كما جاء في مادة (1499) لا يحق له أن يبيع بعضه إن كان في تبعيضه ضرر عادة[210]انتهي.

تغير العرف في عصرنا:

والناظر في العرف وحركته يجد أنه سيال قابل للتغير، وليس من شأنه الثبات والدوام، وإن كان أحيانا يتغير ببطء.

ولكن في عصرنا كل شئ تغير، البيئة تغيرت، ودرجة الحرارة تغيرت، والإنسان تغير، تغيرت معارفه وأفكاره، وتبعا لذلك تغيرت مناهجه وأساليبه، وتغيرت قدراته وإمكاناته، فلا غرو أن تتغير أعرافه وعاداته.

انظر إلى نظام الحياة اليومي في الجيل الذي قبلنا – بل في جيلنا نحن في عصر الصبا – وجيلنا وجيل أولادنا وأحفادنا من بعدنا، تجد تغيرا هائلا، وتطورا ضروريا، هل هو إلى الأحسن أو إلى الأسوا؟

كان جيلنا في عهد الصبا ينام بعد صلاة العشاء، ويبدأ الحياة قبل الفجر، ويستيقظ مبكرا، معتقدا أن البركة في البكور، فيلقى الصباح نقيا طاهرا من يد الله، قبل أن تلوثه أنفاس العصاة الذين لا يستيقظون إلا متأخرين.

وأجيالنا اليوم تسهر طويلا مع التليفزيون ونحوه، وتستيقظ متأخرا، فلا تبدأ اليوم كما كان يبدأ في الجيل الماضي. فلهذا يجب أن يراعى ذلك عند العقود التي تعقد، فإذا لم يتفق على بدء اليوم من الساعة كذا، فلا بد أن يراعى عرف الناس.

العرف والشرع:

وإنما يراعى العرف، لأنه يمثل حاجة من حاجات، وإلا ما تعارفوا عليه.

فرعاية الشرع له، رعاية للحاجات التي هي جزء من مصالحهم التي جاء الشرع ليحفظها وينميها، ويطارد أضدادها من المفاسد والمضار.

فمن المتفق عليه أن الشرع – أو الشريعة – إنما أنزلها الله، لتحقيق مصالح العباد، والمصالح مراتب ثلاث، منها ضرورات، وحاجات، وتحسينات.

ولكن الشرع إنما يراعى هذه الأعراف – الممثلة في الحاجات – ما لم تصادم الشرع، فإن صادمت الشرع كان الشرع أولى بالإتباع؛ لأن الشرع يمثل عدل الله تعالى وحكمته، فما صادمه، فهو لا يمثل إلا الجهل أو الهوى، وقد قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71].

خذ مثلاً: العرف الجاري في الهند وباكستان وبنجلادش، وهو أن المرأة – أو أباها – هي التي تدفع لمن يريد أن يتزوجها. وتدفع له مبالغ أو أشياء كثيرة حسب غنى الأب وفقره، ويسره وعسره. فقد تدفع له سيارة أو تدفع له منزلا أو (فيلّا) أو نحو ذلك.

وهذا مصادم للشرع الذي أوجب على الرجل أن يؤتي المرأة مهرا أو صداقا أو صدقة، نحلة أو عطية أو هدية لهن، لتطييب أنفس النساء، واشعارهن بأنهن مرغوبات ومحبوبات ومصونات، وأن الرجل هو الذي يركض وراء المرأة، وليس العكس، يقول تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4].

فلا يجوز إقرار هذا العرف المخالف للقرآن والسنة، الذي ترتب عليه أن أصبحت البنت عبئا كبيرا على الأسرة، وأصبح من عنده ثلاث بنات أو أربع، يعنى أن عنده أربع بلايا في حياته، يحمل همهن من يوم يولدن حتى يتزوجن. والحق أن هذا عرف مستمد من الجاهلية الهندوسية، ويسمون ما يدفع للزوج (الدوطة).

وكان يجب على المسلمين أن يتمردوا على هذا العرف الجاهلي القديم لا أن يستسلموا له، ويكيّفوا أنفسهم على قبوله، ويحاولوا أن يوجدوا له المخارج.

وأذكر أنى شاركت في اجتماع للعلماء[211] في باكستان، حضره الرئيس الباكستاني الراحل، الرئيس ضياء الحق رحمه الله، وقد عرض فيه لمشكلة (الدوطة) التي تواجه كل أسرة مسلمة لديها بنات، وقلّما توجد أسرة إلا وبها بنات، وقد طالب الرئيس الباكستاني من العلماء المشاركين أن يوجدوا حلا لهذه المشكلة من أموال الزكاة.

وكان ردى: أن الله تعالى قد حدد مصارف الزكاة في أصناف ثمانية، لم يدعها لأحد غيره، ولا للرسول نفسه، ولا يجوز لنا أن نحرف مصارف الزكاة، ونصرف مواردها في مصارف غير مصارفها الشرعية المحدودة. ويجب البحث عن حل آخر لمشكلة البنات.

يجب على المجتمع المسلم في باكستان (وكذلك في بنجلادش والهند) أن يتعاونوا على وقف هذا العرف الغالب الذي أخضع رقاب الجميع له، ولم يملكوا أمامه إلا التسليم، وإن خالف شريعة رب العالمين.

وفي بعض البلاد ساد عرف في الوقف، وهو أن يقف الآباء أملاكهم على الذكور دون الإناث، محرفين أحكام الميراث التي بينها الله في كتابه، وفصلها تفصيلا. وقال في ختام الآية الأولى لهذه الأحكام: {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، وقال في ختام الآية الثانية: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12]، وقال في الآيتين الثالثة والرابعة: {تِِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14].

وقد اعتادت بعض الأسر المسلمة في الزمن الأخير في أعراسها، إذا زوجت أحد أبنائها أو إحدى بناتها: أن تستأجر راقصة (تحيى ليلة العرس) في زعمهم. وهي في الحقيقة إنما تميتها، ولا تحييها، لأن الزمن إنما يحيا بطاعة الله، ويموت بمعصية الله. ولذلك عرف المسلمون (إحياء ليلة القدر) وإنما يحيونها بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله والدعاء والاستغفار والصدقات وفعل الخيرات.

وشر من ذلك أن تُحيا الأعراس بشرب الخمر أم الخبائث، والتي اعتبرها القرآن رجسا من عمل الشيطان.

ما مستنده عرف أو وضع لم يعد قائماً:

ومن الأحكام المنصوص عليها في الفقه ما يستند إلى عرف أو وضع كان قائما في زمن الأئمة المجتهدين أو في زمن مقلديهم من المتقدمين أو المتأخرين، ثم تغير هذا العرف أو الوضع في زمننا، كإسقاط شهادة من يمشي في الطريق مكشوف الرأس، او يأكل في الشارع، أو حليق اللحية، أو من يسمع الغناء ونحو ذلك، مما تغير به العرف، وعمت به البلوى في عصرنا، فهل نجمد على ما نص عليه الأولون، ونسقط شهادة هؤلاء جميعا، ونعطل مصالح الخلق؟ أم نعتبر هذه الأحكام خاصة بزمنها وبيئتها لا تتجاوزهما؟ لا شك أن الثاني هو الصحيح.

إذ لا شك أن نظرة المجتمع تغيرت بتغير الزمان إلى هذه الأمور، فما عاد المجتمع يحكم على مستمع الغناء العادى أو حليق اللحية أنه ساقط العدالة أى: فاسق. ولا عاد يحكم على كاشف رأسه أو الآكل في الشارع على أنه ساقط المروءة، بل نحن في عصر يسمى عصر (السندوتش) أى الأكل بسرعة.

كلام ابن القيم من الحنابلة:

ومن هنا كتب ابن القيم فصله الممتع في (إعلام الموقعين) عن تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والبيئات والعوائد، قال في مطلعه: (هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها)[212]، وضرب عدة أمثلة لتطبيق هذه القاعدة.

كلام القرافي من المالكية:

وعند المالكية نجد الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (الإحكام) يقول في السؤال التاسع والثلاثين: (ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما، المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولا، فهل تَبُطل هذا الفتاوي المسطورة في كتب الفقهاء ويُفتَى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون، وما لنا إحداث شرع، لعدم أهليتنا للاجتهاد، فنفتى بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟.

ثم يجيب عن هذا السؤال الخطير بقوله:

(إن استمرار الأحكام التي مدركها العوائد – مع تغير تلك العوائد – خلاف الإجماع، وجهالةٌ في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين، حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد)[213].

ونلاحظ هنا أن كلام القرافي إنما هو في الأحكام التي مدركها ومستندها العوائد والأعراف، لا تلك التي مستندها ومدركها النصوص المحكمات.

ويعود القرافي إلى هذا الموضوع مرة أخرى في (الفرق الثامن والعشرين) من كتابه الشهير (الفروق) فيؤكد أن القانون الواجب على أهل الفقه والفتوى مراعاته على طول الأيام، هو ملاحظة تغير الأعراف والعادات بتغير الأزمان والبلدان.

ويقول بكل جلاء:

(فمهما تجدد في العرف اعتبْره، ومهما سقط أسِقْطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك. بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، ودون المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين)[214].

تغير العرف واعتباره عند الحنفية:

أما عند الحنفية، فنجد مجموعة كبيرة من الأحكام الاجتهادية التي قال بها المتقدمون أعرض عنها المتأخرون، وأفتوا بما يخالفها، لتغير العرف، نتيجة لفساد الزمن، أو تغير الوضاع أو تطور الحياة، أو غير ذلك، ولا غرابة في هذا، فإن أئمة المذهب أنفسهم – أبا حنيفة وأصحابة – قد فعلوا ذلك. ذكر السرخسى: أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلما لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول.

وذكر كذلك: أن أبا حنيفة كان يجيز القضاء بشهادة مستور الحال في عهده – عهد تابعى التابعين – اكتفاء بالعدالة الظاهرة، وفي عهد صاحبيه – أبي يوسف ومحمد – منعا ذلك، لانتشار الكذب بين الناس[215].

ويقول الحنفية في مثل هذا النوع من الخلاف بين الإمام وصاحبيه: هو اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.

وقد أصبح من القواعد الفقهية الأساسية عند الحنفية كما هي عند الشافعية وغيرهم: قاعدة (العادة محكَّمة)[216].

رسالة ابن عابدين فيما بنى على العرف:

وكتب في ذلك ابن عابدين – كما أشارنا من قبل – رسالته القيمة التي سمَّاها (نشر العَرف فيما بنى من الأحكام على العُرف) بين فيها أن كثيرا من المسائل الفقهية الاجتهادية، كان يبنيها المجتهد على ما كان في عرف زمانه، بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أولاً.

ولذا قالوا في شروط المجتهد: ولا بد فيه من معرفة عادات الناس، قال: (فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، او فساد أهل الزمان، بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه، للزم منه المشقة والضرر بالناس، لخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير، ودفع الضرر والفساد، لبقاء العام على أتم نظام، وأحسن إحكام).

قال: (ولهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد – يعنى: إمام المذهب وأصحابه – في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم أنه لو كان في عهدهم لقال بما قالوا به، أخذا من قواعد مذهبه).

وإليك بعض ما خالف فيه المشايخ المجتهد (أى مؤسس المذهب):

  • جواز الاستئجار على القُرب والطاعات والوظائف الدينية، مثل الآذان والإمامة والخطابة، وتعليم القرآن؛ لانقطاع العطايا التي كانت تعطى لمعلميه وللمؤذنين والأئمة وغيرهم في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم، والأئمة بالإمامة، بلا أجرة، يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة لزم ضياع القرآن والآذان وغيرهما، فأفتوا بجواز أخذ الأجرة على التعليم، وعلى الإمامة، والآذان ونحوها، مع أن ذلك مخالف لقول الإمام وصاحبيه بعدم جواز الاستئجار عليها، كسائر الطاعات.
  • عدم التصريح للوصى بالمضاربة في مال اليتيم في زماننا.
  • تضمين الغاضب ريع عقار اليتيم والوقف. مع أن الأصل عند الحنفية: أن الغاصب لا يضمن منافع المغصوب.
  • عدم إجارة مباني الوقف أكثر من سنة، والمزارعة أكثر من ثلاث سنين. على خلاف أصل المذهب.
  • منع النساء من حضور المساجد للصلاة، وقد كن يحضرنها في زمن النبي صلي الله عليه وسلم.
  • عدم تصديق الزوجة بعد الدخول بها بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة.
  • بيع الوفاء. وقد مر حديثنا عنه من قبل.

ويعقب على ذلك ابن عابدين بقوله:

(اعلم أن المتأخرين الذين خالفوا النصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة، لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه، ولكن لا بد للمفتى والحاكم –أى القاضي- من نظر سديد واشتغال كثير، ومعرفة بالأحكام الشرعية، والشروط المرعية)[217].

يعنى أنه لا يصح قبول الفتوى – في هذا الباب – تغير الأحكام بتغير الأعراف – إلا للراسخين من العلماء – لا لكل من لبس لبوسهم، وإن لم ترسخ قدمه في الفقه.

مجلة الأحكام تؤكد ذلك:

وبناء على هذا جاءت مجلة الأحكام العدلية، التي احتوت القانون المدنى للدولة العثمانية في عصرها الخير، مأخوذا من المذهب الحنفي، والتي كانت لا تزال تطبق في الكويت والأردن إلى سنين قريبة، لتثبت في إحدى موادها هذه العبارة: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان)[218].

ولى على صياغة العبارة بعض الملاحظات:

  • كان ينبغى إضافة تغير الأمكنة والأحوال والعوائد، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم، وكما نبه على ذلك الأستاذ الدكتور صبحى محمصاني في كتابه (فلسفة التشريع الإسلامي).
  • كان ينبغى تقييد الأحكام بالبعضية كما فعل ابن عابدين، حيث جعل عنوان رسالته (نشر العرف في أن بعض الأحكام مبناه على العرف).
  • وقد يغنى عن هذا لو وصفت الأحكام بكلمة (الاجتهادية) فهذا أحوط وأدق، وإن كان ذلك ملحوظا ومفهموما.

بيد أن الاحتياط في الصياغة واجب، خشية أن يفهم بعض الناس إمكان تبدل الأحكام بصفة مطلقة، كما نادى بذلك بعض الذين لا حظ لهم من فقه الشريعة.

وقد خرج ابن القيم من هذا المأزق حين عبر بـ (تغير الفتوى) لا بـ (تغير الأحكام).

وهذا في الحقيقة أدق، وأصح تعبيرا عن المراد هنا؛ لأن الحكم القديم باقٍ إذا وجدت حالة مشابهة للحالة الأولى. وإنما الفتوى هي التي تغيرت بتغير مناط الحكم.

تنبيه العلامة الشيخ على الخفيف:

وهذا ما نبه عليه الفقيه العلامة الشيخ على الخفيف، معقبا على الأشياء التي جوزها متأخرو الحنفية، والتي تذكر عادة كأمثلة على تغير بعض الأحكام وتبدلها بتغير الأعراف وتبدل الأزمان. قال الشيخ رحمه الله:

(الواقع أن مثل هذا لا يعد تغييرا ولا تبديلا إذا ما روعي في كل حادثة ظروفها وملابساتها، وما لتلك الظروف والملابسات من صلة بالحكم الذي جعل لها، إذ الواقع إن الفقيه أو المجتهد إذا ما عرضت عليه مسالة من المسائل راعى ظروفها وملابساتها والوسط التي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا.

فإذا تغير الوسط، وتبدل العرف الذي حدثت فيه الواقعة، تغيرت بذلك المسألة وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكما آخر لها. وهذا لا ينفى أن المسألة السابقة بظروفها لا زالت على حكمها، وأنها لو تجددت بظروفها ووسطها لم يتبدل حكمها.

فأخذ الأجرة على تعليم القرآن في وسط يقوم أهله بتعليمه احتسابا لوجه الله، وطاعة له: غير جائز في كل مكان، وفى كل زمان. وأخذ الأجرة على تعليمه في وسط انصرف أهله عن تعليم القرآن والدين إلا بأجر: أمر جائز في كل زمان ومكان …)[219].

وهذا ما يؤيد ما ذكره ابن القيم من أن الفتوى هي التي تغيرت، وليس الحكم الشرعى، فيجوز أن يعود الحكم السابق – كما قال شيخنا الخفيف رحمه الله – إذا عادت نفس الظروف الأولى أو ظروف تشبهها.

وذلك مثل تبعية الزوجة لزوجها في حالة الاغتراب عن بلده، فقد ألزم بذلك المتقدمون من الفقهاء؛ لانتشار الثقة والطمأنينة بين الناس، فلما تغيرت أحوال الناس وأخلاقهم، وأصبح بعض الرجال يتسلطون على زوجاتهم في الغربة بالإساءة والإيذاء، ولا تجد الزوجة من يدافع عن حقوقها، ويحميها من طغيان زوجها، وهي بعيدة عن أهلها، غيّر المتأخرون فتواهم، ولم يلزموا المرأة باللحاق بزوجها، دفعا للضرر عنها، إذ لا ضرر ولا ضِرار في الإسلام.

فإذا نظرنا إلى طبيعة عصرنا، وجدنا ظروف العمل اليوم كثيرا ما تقتضى الاغتراب من قطر إلى قطر، وفى القطر الواحد من إقليم إلى إقليم، فلو لم ترافق المرأة زوجها لأصابه هو ضرر كبير أيضا، وتضررت الزوجة، وتعرضت الأسرة للتفكك، كما أن الخوف الذي كان يحدث في الماضى من انقطاع المرأة عن أهلها بالغربة لم يعد قائما الآن، لسهولة الاتصالات البريدية والبرقية والفاكسيه والهاتفية، ولا سيما بعد عصر الهاتف المحمول.. فوجب حينئذ تغيير الفتوى مرة أخرى، والعودة إلى الحكم القديم[220].

حكم النص الشرعى إذا بني على عرف تغير:

وينبغى التدقيق في معرفة النصوص الشرعية التي بنيت على أعراف زمنية. فإنه إذا تغيرت هذه الأعراف التي بنيت عليها أحكام النصوص، يجب أن تتغير الأحكام بتغيرها.

فبعض النصوص الشرعية – وخصوصا نصوص السنة النبوية – تصدر أحكاما مبنية على أعراف قائمة رعتها في زمنها، اقتضتها الظروف الموضوعية، لأنها تمثل المصلحة في ذلك الوقت، فإذا تغيرت هذه المصلحة، لتغير ظروفها، وتغير العرف المبني عليها، كان من حقا أن نجتهد في تغيير الحكم؛ لأن علته العرف وقد تغير، وهو يدور مع علته وجودا وعدما.

من ذلك ما أوردناه عن الإمام أبي يوسف الشئ مكيلا أو موزونا حسب الواقع في زمن القصة لا حسب ما جاء في الحديث، لأن الحديث بنى على الواقع، وهو قابل للتغير.

ومن ذلك: ما ذكرناه في كتابنا (فقه الزكاة) وهو ما قرره الفقهاء، وأكدته كتب الفقه المختلفة بإختلاف مذاهبها، وهو اعتبار أن لزكاة (النقود) أو (الأثمان) نصابين:

نصاباً يقدر بالذهب ومقداره عشرون مثقالا أو دينارا، ونصابا يقدر بالفضة مقداره مائتا درهم. وبينهما – في تقديرنا المعاصر – تفاوت واسع، وفرق شاسع. وظن كثير من علماء الفقه: أن بقاء هذين النصابين أمر واجب ودائم، لا يجوز المساس به، وكل كتب الفقه تردده، وقد ناقشنا هذا الأمر من قديم في كتابنا (فقه الزكاة) وبينا أن لا معنى لاستمرار هذا الحكم المبنى على عرف كان قائما في زمن النبوة ثم تغير، ولم يعد له وجود اليوم.

ذلك أن النصاب هو الحد الأدنى الموجب للغنى من أى مال كان، مثل خمس من الأبل، أو أربعين شاة من الغنم أو خمسة أوسق من الحبوب أو نحو ذلك. فمن لم يملك هذا النصاب أو الحد الأدنى اعتبر فقيرا ولم تجب عليه زكاة. ومن ملكه اعتبر غنيا تجب علية الزكاة.

وفي كل أنواع الأموال، من الحيوانات أو الحبوب والثمار وغيرها، حدد النصاب بوضوح، وهو مقدار واحد معلوم، إلا في زكاة النقود أو الأثمان (الذهب والفضة) فجعل فيها نصابان أحدهما للنقود الفضية الدراهم (200 درهم)، والآخر للنقود الذهبية الدنانير (20 دينارا) وكانت العشرون ديناراً من الذهب تصرف ب (200) درهم من الفضة، والعكس بالعكس، فلم يقصد الرسول الكريم أن يجعل نصابين متفاوتين قط. وإنما هو مقدار واحد بعملتين مختلفتين، كان المجتمع يتعامل بهما. لأن المجتمع العربي في عصر النبوة لم يكن له عملة خاصة به، بل كانت النقود الفضية (الدراهم). وهي الأغلب تأتي إليه من فارس، وكانت النقود الذهبية (الدنانير) تأتي إليه من دولة الروم البيزنطية.

وقد بينت في كتابي (فقه الزكاة) شدة تفاوت ما بين نصاب الذهب ونصاب الفضة في عصرنا. حتى إن نصاب الذهب – عند تأليفي الكتاب- يساوى ثلاثة عشر نصابا من الفضة، وهو ما لا يقبل. وقد عقبت عليه قائلاً:

(إن معنى هذا الكلام أن هناك نصابين للزكاة في النقود، وبينهما تفاوت هائل، فهل تقبل عدالة التشريع الإسلامي هذا التفاوت الضخم الذي يبلغ أحد النصابين فيه ضعف الآخر أكثر من ثلاث عشرة مرة؟ وهل يقبل منا أن نترك المسلم في حيرة أمام هذين النصابين المختلفين أشد الاختلاف؟ وهل يسوغ في العقل أو في الشرع أن نقول لمن يملك خمس جنيهات: أنت غنى بحسب نصاب الفضة؛ ونقول لمن يملك خمسين جنيهًا: أنت فقير بحسب نصاب الذهب؟! لا شك أن هذا غير سائغ ولا جائز والأحاديث والآثار التي قدرت النصاب في النقود بمائتي درهم من الفضة، وبعشرين دينارًا من الذهب، لم تقصد أن تجعل من ذلك نصابين متفاوتين، وإنما هو نصاب واحد من ملكه اعتبر غنيًا تجب عليه الزكاة، وقدرت هذا النصاب بمبلغين متعادلين، هما مائتا درهم أو عشرون دينارًا، وكان شيئًا وسعرًا واحدًا، فقد قامت الأدلة الكثيرة القاطعة على أن سعر الدينار في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين كان يصرف بعشرة دراهم عرف ذلك في الزكاة، وفي حد السرقة، وفي الجزية، وفي الديات وغيرها[221]اهـ. على هذا يجب أن يكون تقدير نصاب الزكاة من النقود واحدًا، من الذهب أو من الفضة على حد سواء، القيمة واحدة، وإن اختلفت العملة.

وأود أن أبين هنا: أن الزكاة، وإن كانت معدودة في العبادات الأربع، فإنها –بلا ريب- جزء من نظام الإسلام المالى والاقتصادى الاجتماعى. ومن هنا تدخل معنا في حديثنا عن فقه المعاملات.

بماذا نحدد النصاب في عصرنا… بالذهب أم الفضة؟

لاشك إذن أن عصرنا لم يعد يحتمل أن يكون للنقود الذهبية نصاب، وللفضية نصاب آخر، فقد أصبحت العملة الورقية هي السائدة في التعامل بين الناس، ويكاد الناس لا يرون العملة المعدنية -وبخاصة الذهب منها- فلم نعد إذن بحاجة إلى ما بحثه الفقهاء قديمًا هل يضم أحد النقدين إلى الآخر أم لا؟ فإن الضم أمر ضروري وقائم.

ولكن البحث الذي لابد منه هنا هو -بأي النقدين نحدد النصاب- أي الحد الأدنى للغنى الموجب للزكاة؟ وذلك أن الشارع قد حدد لكل منهما نصابًا يخالف الآخر، هل نحدده بالفضة؟ ربما مال إلى ذلك كثير من العلماء المعاصرين، وذلك لأمرين:

الأول: أن نصاب الفضة مجمع عليه، وثابت بالسُنَّة المشهورة الصحيحة.

الثاني: أن التقدير به أنفع للفقراء، إذ باعتباره تجب الزكاة على أكبر عدد من المسلمين ولهذا شاع تقدير النصاب ببضع وعشرين ريالاً في مصر، وبنحو خمسين ريالاً في المملكة العربية السعودية وإمارات الخليج، وبنحو بضع وخمسين روبية في باكستان والهند أو ستين[222].

ويذهب علماء آخرون إلى أن تقدير النصاب يجب أن يكون بالذهب، وذلك أن الفضة تغيرت قيمتها بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده[223].

وذلك لاختلاف قيمتها باختلاف العصور كسائر الأشياء، أما الذهب فاستمرت قيمته ثابتة إلى حد بعيد، ولم تختلف قيمة النقود الذهبية باختلاف الأزمنة، لأنها وحدة التقدير في كل العصور وهذا ما اختاره الأساتذة: أبو زهرة وخلاف وحسن في بحثهم عن الزكاة[224].

ترجيح التحديد بالذهب:

ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة، قوي الحُجَّة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة كخمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، نجد أن الذي يقاربها في عصرنا هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة.

إن خمس إبل أو أربعين شاة تساوى قيمتها نحو أربعمائة دينار أو جنيه، أو أكثر، فكيف يعد الشارع من يملك أربعًا من الإبل أو تسعًا وثلاثين من الغنم فقيرًا، ثم يوجب الزكاة على من يملك نقدًا لا يشترى به شاة واحدة؟ وكيف يعتبر من يملك هذا القدر الضئيل من المال غنيًا؟

ولقد قال العلامة ولي الله الدهلوي في كتابه القيم (حجة الله البالغة):

(إنما قدر (النصاب) بخمس أواق (من الفضة) لأنها مقدار يكفى أقل أهل بيت سنة كاملة، إذ كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك)[225].

فهل نجد الآن في أي بلد من بلاد الإسلام: أن خمسين أو نحوها من الريالات المصرية أو السعودية أو القطرية أو الروبيات الباكستانية أو الهندية ونحوها -تكفى لمعيشة أسرة- أي أسرة- سنة كاملة، أو شهرًا واحدًا، أو حتى أسبوعًا واحدًا؟ إنها في بعض البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة كبلاد النفط (البترول) لا تكفى بعض الأسر المتوسطة لنفقات يوم واحد فكيف يعد من ملكها غنيًا في نظر الشرع الحكيم؟ هذا بعيد غاية البعد.

لهذا كان الأولى أن نقتصر على تقدير النصاب في عصرنا بالذهب وإذا كان التقدير بالفضة أنفع للفقراء والمستحقين، فهو إجحاف بأرباب الأموال وأرباب الأموال في الزكاة ليسوا هم الرأسماليين وكبار الموسرين، بل هم جمهور الأمة)[226]. لأن من يملك خمسة أوسق من الحبوب، أو خمس أواق من الفضة، أو خمسة من الابل، أو أربعين من الغنم، يعد من الرأسماليين.

 


الفهرس

 

القواعد الحاكمة لفقه المعاملات.. 1

مقدمة. 2

القواعد الحاكمة لفقه المعاملات.. 3

(1) 4

القاعدة الأولي: الأصل في المعاملات الإباحة. 4

الأصل في البيوع الحل: 7

الأصل في العقود والشروط الإباحة: 9

تضييق السلف في التحريم في شؤون العادات والمعاملات: 13

(2) 16

القاعدة الثانية: العبرة بالمقاصد والمسميات، لا بالظواهر والتسميات.. 16

الدليل الشرعي لهذه القاعدة: 18

قاعدة تتفق مع جوهر الإسلام: 20

هذه القاعدة تُبطل الحيل الفقهية: 20

الإمام البخاري والحيل: 20

موقف العلماء من الحيل: 21

موقف ابن تيمية وابن القيم من الحيل: 23

العبرة بالمسمَّيات والمضامين لا بالأسماء والعناوين: 23

استحلال الربا باسم البيع: 25

الحيل تناقض سدَّ الذرائع الذي جاءت به الشريعة: 26

خطر فقه الحيل على البنوك الإسلامية: 28

مجلة الاقتصاد الإسلامي تنتقد التورق المصرفي: 31

المجمع يقرر تحريم التورق المصرفي المنظم: 32

(3) 34

القاعدة الثالثة: تحريم أكل أموال الناس بالباطل. 34

تحريم أخذ الأجرة بالباطل: 38

كثرت المخاصمات بين المسلمين واللجوء إلى المحاكم: 40

تفاوت الإثم في أكل المال بالباطل: 41

أكل المال بالباطل يدخل في التبرعات: 42

التشديد في أكل أموال الضعفاء: 43

التشديد في توبة أكل المال الحرام: 44

تأصيل شيخ الإسلام ابن تيميه: 45

(4) 49

القاعدة الرابعة: لا ضرر ولا ضرار. 49

التركيز على ضرر الغير دون ضرر النفس: 50

كلام ابن رجب قارب ولم يصل: 51

الضرر والضرار المنفي هو ما كان بغير حق: 53

1-                         منع المضارة في الوصية: 53

2-                         منع المضارة في الرّجعة للمطلقة: 54

4-                         منع المضارة في الإيلاء وترك الجماع بغير عذر: 54

5-                         منع المضارة في الرضاع: 55

6-                         منع المضارة في البيع: 55

النوع الثاني: من ايقاع الضرر بالغير: 56

قاعدة أساسية في الفقه: 58

أ- قاعدة: الضرر يدفع بقدر الإمكان. 59

ففى ميدان المصالح العامة: 61

وفي ميدان الحقوق الخاصة: 63

ب – قاعدة (الضرر يزال): 63

ج– الضرر لا يزال بالضرر: 65

ومن فروع هذه القاعدة: 65

د- يُتَحمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: 68

هـ ـ يزال الضرر الأشد بالضرر الأخف: 69

و – درء المفاسد أولى من جلب المصالح: 71

هذه القاعدة تحمي البيئة من الإتلاف والإفساد والتلوث: 73

تشريعات مقننة في المحافظة على البيئة: 75

دفع الضرر الفاحش بأي وجه كان: 76

قرار المجمع الفقهي الإسلامي الدولي حول البيئة: 78

(5) 81

القاعدة الخامسة: التخفيف والتيسير لا التشديد والتعسير. 81

مظاهر التيسير والتخفيف: 82

قبول الرخص والتخفيفات: 83

النزول على حكم الضرورات: 83

التضييق في الايجاب والتحريم: 83

عدم الضيق بالخلاف: 84

إذا ضاق الأمر اتسع: 85

تقديم الأيسر على الأحوط: 85

العسر و عموم البلوى: 86

حاجة الناس في عصرنا إلى التيسير: 90

التيسير على الأقليات المسلمة: 91

المراد بالتيسير: 91

(6) 93

القاعدة السادسة: رعاية الضرورات والحاجات.. 93

الاتفاق على هذه القاعدة: 94

ضرورات الأفراد وضرورات الأمة: 95

الحاجات تنزل منزلة الضرورات: 96

افتراق الضرور عن الحاجة من ناحيتين: 99

فرق آخر بين الضرورة والحاجة: 100

اقتراح صياغة جديدة للقاعدة: 101

الاضطرار لا يُبطل حق الغير: 101

ما أُبيح للضرورة يقدَّر بقدرها: 101

(7) 104

القاعدة السابعة: مراعاة العادات والأعراف فيما لا يخالف الشرع. 104

انقسام العرف إلى عام وخاص: 105

العرف العام: 106

العرف قولي وعملي: 107

والقاعدة الثالثة: الإشارات المعهودة للأخرس كالبيان باللسان. 107

الكلمة الواحدة تتعدد معانيها بتعدد الأعراف: 108

اختلاف العرف القولى بين بين البلاد بعضها وبعض: 108

تقسيم العرف: 110

قواعد متفرعة على هذه القاعدة: 111

استعمال الناس حجة يجب العمل بها: 111

الممتنع عادة كالممتنع حقيقة: 113

لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان: 114

الحقيقة تترك بدلالة العادة 114

إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت: 115

العبرة للغالب الشائع لا للنادر: 115

المعروف عرفا كالمشروط شرطا: 116

المعروف بين التجار كالمشروط بينهم: 116

التعيين بالعرف كالتعيين بالنص: 117

تغير العرف في عصرنا: 117

العرف والشرع: 117

ما مستنده عرف أو وضع لم يعد قائما: 119

كلام ابن القيم من الحنابلة: 120

كلام القرافي من المالكية: 120

تغير العرف واعتباره عند الحنفية: 121

رسالة ابن عابدين فيما بنى على العرف: 122

مجلة الأحكام تؤكد ذلك: 124

تنبيه العلامة الشيخ على الخفيف: 124

حكم النص الشرعى إذا بني على عرف تغير: 126

بماذا نحدد النصاب في عصرنا … بالذهب أم الفضة؟ 128

ترجيح التحديد بالذهب: 129

الفهرس… 131


 

[1]– قدم للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث سنة 2008م، وتنشره دار الشروق بالقاهرة.

[2]– انظر: إعلام الموقعين لابن القيم (1/285)، وسننقله فيما بعد، وكتابنا (الحلال والحرام) قاعدة: (الأصل في الأشياء والتصرفات الإباحة).

[3]– انظر: السلطة التشريعية في الإسلام صـ46، 47.

[4]– رواه مسلم في الجمعة (867)، وأحمد في المسند (14334)، والنسائي في صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه في المقدمة (45)، عن جابر.

[5]– متفق عليه: رواه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718)، كما رواه أحمد في المسند (26033)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة (14)، عن عائشة.

[6]– متفق عليه: رواه البخاري في السلم (2239)، ومسلم في المساقاة (1604)، كما رواه أبو داود في الإجارة (3463)، والترمذي في البيوع (1311)، والنسائي في البيوع (4616)، وابن ماجه في التجارات (2280)، عن ابن عباس.

[7]– رواه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2865)، وأحمد في المسند (17484)، والنسائي في فضائل القرآن (8016).

[8]– انظر: القواعد الفقهية النوارنية لابن تيمية صـ111، 112، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة بيروت، 1399هـ.

[9]– المحلى لابن حزم (8/897) المسألة (1501)، بتصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام، القاهرة.

-[10] ابن رشد في المقدمات صـ539.

[11]– شرح فتح القدير لابن الهمام (252، 254)، طبعة دار صادر، بيروت.

[12]– الأم للشافعي صـ438، اعتنى به حسان عبد المنان، طبعة بيت الأفكار الدولية.

[13]– راجع: المجموع للنووي (9/146 – 148)، طبعة إدارة المطبعة المنيرية، القاهرة، والحاوي للماوردي (5/11)، طبعة دار الفكر، بيروت.

[14]– السياسة الشرعية لابن تيمية صـ211، طبعة دار المعرفة.

[15]– متفق عليه: رواه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718)، كما رواه أحمد في المسند (26033)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة (14)، عن عائشة.

[16]– متفق عليه: رواه البخاري في البيوع (2155)، ومسلم في العتق (1504)، كما رواه أحمد (25504)، وابن ماجه في العتق (2521)، عن عائشة.

[17]– متفق عليه: رواه البخاري في البيوع (2155)، ومسلم في العتق (1504)، كما رواه أحمد (25504)، وابن ماجه في العتق (2521)، عن عائشة.

[18]– عقد التأمين للشيخ مصطفي الزرقا صـ27 – 32.

[19]– رواه البزار (4087)، قال: إسناده صالح، والبيهقي في الكبرى في الضحايا (10/12)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/416)، وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن ورجاله موثقون. والحاكم في التفسير (2/375)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. عن أبي الدرداء.

[20]– متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الفضائل (1337)، كما رواه أحمد في المسند (7367)، والترمذي في العلم (2679)، وابن ماجه في المقدمة (2)، عن أبي هريرة.

[21]– متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام (7289)، ومسلم في الفضائل (2358)، كما رواه أحمد في المسند (1545)، وأبو داود في السنة (4610)، عن سعد بن أبي وقاص.

[22]– درر الحكام (18، 19).

[23]– المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى الزرقا (2/980، 981).

[24]– رواه الجماعة: البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والترمذي في الجهاد (1647)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227)، عن عمر.

[25]– رواه الطبراني (6/185)، والبيهقي في الشعب باب في إخلاص العمل (6860)، وضعفه الحافظ في الفتح (4/219)، والألباني في الجامع الصغير (12744).

[26]– سبق تخريجه.

[27]– رواه الجماعة: البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود (3329)، والترمذي (1205)، والنسائي (4453)، ثلاثتهم في البيوع، وابن ماجه في الفتن (3984)، وأحمد (18368)، عن النعمان بن بشير.

[28]– قال الشيخ نظر محمد الفريابي معلقا: بل هو في الموطأ رواية محمد بن الحسن الشيباني (ص:341-ح983)، فاستثناء ابن حجر رحمه الله الموطأ ليس بصحيح، كما نبه أيضا على هذا الأمر السيوطي في تنوير الحوالك (1/10)، بقوله: (وقد وقفت على الموطَّأ من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغافقي، إحداهما رواية سويد بن سعيد، والأخرى رواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وفيها أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطآت، منها: حديث: “إنما الأعمال بالنيات …” الحديث، وبذلك يتبيَّن صحَّة قول مَن عزا روايته إلى الموطأ، ووهم مَن خطَّأه في ذلك.

[29]– متفق عليه: رواه البخاري في البيوع (2118)، ومسلم في الفتن (2884)، وابن حبان في التاريخ (6755)، عن عائشة.

[30]– رواه مسلم في الفتن (2882)، وأحمد (26475)، وأبو داود في المهدي (4286).

[31]– متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد (2783)، ومسلم في الإمارة (1353)، كما رواه أحمد في المسند (1991)، وأبو داود في الجهاد (2480)، والترمذي في السير (1590)، والنسائي في البيعة (4170).

[32]– رواه الجماعة: البخاري في العلم (123)، ومسلم في الإمارة (1904)، و أبو داود (2517)، والترمذي (1646)، والنسائي (3136)، وابن ماجه (2783)، أربعتهم في الجهاد.

[33]– رواه أحمد (3772)، قال الحافظ في الفتح: رجال سنده موثقون (10/194).

[34]– رواه النسائي في الجهاد (3138)، عن عبادة بن الصامت، وصحَّحه الألباني في مشكاة المصابيح (3850).

[35]-انظر: فتح الباري (1/33)، اعتناء نظر الفريابي، طبعة دار طيبة. وانظر: ما أورده المنذري من أحاديث حول (النية) في كتابه (الترغيب والترهيب) في أول أبوابه (الإخلاص). وانظر: كتابنا (المنتقى من الترغيب والترهيب).

[36]– رواه مسلم في البر والصلة (2564)، واحمد (7827)، وابن ماجه في الزهد (2143)، عن أبي هريرة.

[37]– رواه البخاري (1450)، وأبو داود (1567)، والنسائي (2447)، وابن ماجه (1800)، جميعهم في الزكاة، عن أبي بكر الصديق.

[38]– صحيح البخاري (9/23).

[39]– الفتح (16/238)، دار طيبة.

[40]– رواه أبي داود في الحدود (4472)، والنسائي في آداب القضاة (5412)، وصححه الألباني في الصحيحة (2986).

[41]– متفق عليه: رواه البخاري في البيوع (2201، 2202)، ومسلم في المساقاة (1593).

[42]– رواه الجماعة: البخاري في البيوع (2236)، ومسلم في المساقاة (1581)، وأبو داود في الإجارة (3486)، والترمذي في البيوع (1297)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4256)، وابن ماجه في التجارات (2167)، عن جابر بن عبد الله.

[43]– متفق عليه: رواه البخاري (2142)، ومسلم (1516)، كلاهما في البيوع، كما رواه أحمد (4531)، والنسائي في البيوع (4505)، وابن ماجه في التجارات (2173)، عن ابن عمر.

[44]– رواه الترمذي في النكاح (1120)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الطلاق (3416)، وقال الحافظ في تلخيص الحبير (3/372): وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري.

[45]– يجب التحقق من ذلك، فإن ما ذكره في كتابه (الخراج) يدلُّ على أنه يحرِّم الحيل، ولا يبيحها، وربما كان ذلك اتجاها له في أول الأمر ثم تراجع عنه، وتاب منه، على أن المعروف أن الذي ألَّف كتاب الحيل هو: محمد بن الحسن. ولم يكن يقصد به ما قصده المحتالون من المتأخرين.

[46]– انظر: الفتح (16/237-238)، طبعة دار طيبة.

[47]– رواه أحمد (22900)، وقال مخرجوه: المرفوع منه، صحيح لغيره، وأبو داود في الأشربة (3688)، وابن ماجه في الفتن (4020)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3247)، عن أبي مالك الأشعري.

[48]– النسائي في الأشربة (5658). عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني في الصحيحة (90).

[49]– رواه ابن ماجه في الأشربة (3385)، وصححه اللباني في الصحيحة (90).

[50]– رواه أحمد (22709)، وقال مخرجوه: حديث صحيح.

[51]– ابن ماجه في الأشربة (3385)، وصححه اللباني في صحيح ابن ماجه (2729).

[52]– منها ما أخرجه أحمد (5007)، وأبو داود في الإجارة (3462)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: “لئن تركتم الجهاد، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم..”.

[53]– انظر: إغاثة اللهفان من مصايد االشيطان (1/297-299)، اعتناء ماهر تلاوي، نشر مؤسسة الرسالة ناشرون.

[54]– إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].

[55]– متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (5973)، ومسلم في الإيمان (90)، كما رواه أحمد (6840)، وأبو داود (5141)، والترمذي في البر (1902)، عن عبد الله بن عمرو.

[56]– رواه مسلم في المساقاة (1587)، وأحمد (22683)، وأبو داود (3349)، والترمذي (1240)، والنسائي (4563)، ثلاثتهم في البيوع، عن عبادة بن الصامت.

[57]– رواه ابن ماجه في الصدقات (2432)، والبيهقي في البيوع (5/350)، وضعفه الباني في الضعيفة (1162).

[58]– رواه البخاري في التاريخ الكبير (8/310)، بلفظ: قلت لأنس في الرجل يكون له الدين؟ قال: لا يرتدف خلف دابته.

[59]– رواه البخاري في مناقب الأنصار (3814).

[60]– رواه عبد الرزاق في البيوع (14652)، والبيهقي في البيوع (5/349): عن زر بن حبيش قال قلت لأُبيّ بن كعب: يا أبا المنذر إنى أريد الجهاد فآتى العراق فأقرض؟ قال: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش، فإذا أقرضت رجلا فأهدى إليك هدية، فخذ قرضك واردد إليه هديته.

[61]– رواه عبد الرزاق في البيوع (14658)، وابن أبي شيبة في البيوع والأقضية (21068): عن ابن سيرين، قال: استقرض رجل من ابن مسعود دراهم فقضاه، فقال له: الرجل: إني تجاوزت لك من جيد عطائي، فكره ذلك ابن مسعود وقال: مثل دراهمي.

[62]– رواه عبد الرزاق في البيوع (14650)، وابن أبي شيبة في البيوع (21058): عن ابن عباس قال: إذا أقرضت قرضا فلا تهدين هدية كراعا، ولا ركوب دابة.

[63]– رواه ابن أبي شيبة في البيوع (22566)، والطحاوي في معاني الأثار (5132)، والبيهقي في البيوع (5/290)، قال الحافظ في التلخيص (3/26): قال أحمد بن حنبل: لا تحلّ عندي عنه – موسي بن عبيدة الرَّبَذي – الرواية، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره، وقال أيضًا: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث، وقد جزم الدارقطني في العلل بأن موسى بن عبيدة تفرد به.

[64]– إغاثة اللهفان صـ307، 308.

[65]– سبق تخريجها.

[66]– رواه ابن أبي شيبة في الأقضية (20527).

[67]– رواه عبد الرزاق (14812)، والدارقطني (3/52)، كلاهما في البيوع، وعزاه الزيلعي: إلى مسند أحمد وساق سنده – ولم أقف عليه في المطبوع، ولا في أطراف المسند لابن حجر – وقال: قال في التنقيح، هذا إسناد جيد، وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة، وكذلك الدارقطني، قال في العالية: هي مجهولة، لا يحتج بها، فيه نظر، فقد خالفه غيره، ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد، انتهى. وقال ابن الجوزي: قالوا: العالية امرأة مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. نصبب الراية (4/16).

[68]– سبق تخريجه.

[69]– انظر: إعلام الموقعين (3/123-124)، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبعة السعادة بمصر.

[70] – انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 339، جمادى الآخرة1430هـ، يونيو 2009م صــ 53، 54

[71] – أحكام القرآن (1/56) طبعة دار المعرفة، بيروت.

[72] – رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة (2586) عن النعمان بن بشير.

[73] – أحكام القرآن (1/97).

[74] – تفسير المنار (2/195).

[75] – رواه الجماعة: البخاري في المظالم (2458)، ومسلم في الأقضية (1713)، وأبو داود في الأقضية (3583)، والترمذي في الأحكام (1339)، والنسائي في آداب القضاء (5401)، وابن ماجه في الأحكام (2317).

[76] – انظر: الجامع لأحكام القرآن (2/338).

[77] – تفسير المنار (2/195).

[78] – تفسير المنار (2/196).

[79]– رواه ابن ماجه في الرهن (2443)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1980)، عن ابن عمر.

[80]– رواه البخاري في البيوع (2227)، وابن ماجه في الرهن (2442)، عن أبي هريرة.

[81] – رواه أحمد (9532) وقال مخرجوه: حسن. وأبو داود في الطب (3904)، وصححه الألباني في المشكاة (551).

[82] – التولات: جمع تولة كعنبة ما تحمله المرأة ليحبها زوجها، والسحر، والتناجيس: ما يحمل لنحو ذلك أو للعين من الخرز والعظام التي يعلقنها على الأطفال، أو للحفظ من الجن والشياطين.

[83] – تفسير المنار (2/196- 199).

[84] – تفسير المنار (2/201).

[85] – رواه مسلم في المساقاة (1598)، وأحمد (14263)، عن جابر بن عبد الله.

[86]– رواه أحمد (24224)، وقال مخرجوه: حديث حسن وهذا إسناد ضعيف، وأبو داود في الإجارة (3508، 3509، 3510)، وقال: هذا إسناد ليس بذاك، والترمذي في البيوع (1285)، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي في البيوع (4490)، وابن ماجه في التجارات (4442)، وقال الحافظ في بلوغ المرام صـ135، رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، وابن القطان.

[87]– رواه أحمد (6530)، وقال مخرجوه: إسناده قوى، رجاله رجال الشيخان، وأبو داود (1634)، والترمذي (652)، كلاهما في الزكاة وحسنه الترمذي، وصححه الألباني في المشكاة (1444)، عن عبد الله بن عمرو.

[88] – متفق عليه: رواه البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89)، عن أبي هريرة: “اجتنبوا السبع الموبقات … وأكل مال اليتيم”.

[89]– رواه البخاري في الجهاد والسير (3074)، وأحمد في المسند (6493)، وابن ماجه في الجهاد (2849)، عن عبد الله بن عمرو، والثَّقَل بفتح الثاء والقاف: العيال، وما يثقل حمله من الأمتعة.

[90]– متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3073)، ومسلم في الإمارة (1831)، كما رواه أحمد في المسند (9503)، عن أبي هريرة، والثغاء: صوت الشاة، والحمحمة: صوت الفرس عند العلف وهو دون الصهيل، والصامت: الذهب والفضة، وقوله: “رقاع تخفق” أي: تقعقع وتضطرب، والمراد بها الثياب التي غلَّها.

[91]– رواه ابن ماجه في الجهاد (2850)، عن عبادة بن الصامت، وصحَّحه الألباني في صحيح ابن ماجه (2300).

[92]– رواه مسلم في الإمارة (1886)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[93]– رواه مسلم في الزكاة (1015)، وأحمد (8348)، والترمذي في التفسير (2989)، عن أبي هريرة.

[94]– رواه مسلم في البيوع (1513)، وأحمد (8884)، وأبو داود (3376)، والترمذي (1230)، والنسائي (4518)، ثلاثتهم في البيوع، وابن ماجه في التجارات (2194)، بلفظ: نهي رسول الله عن بيع الحصاة، وبيع الغرر.

[95]– متفق عليه: رواه البخاري (2143)، ومسلم (1514)، كلاهما في البيوع، عن ابن عمر” أن رسول الله نهى عن حبلة الحبلة…”. وحبل الحبلة هو: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت.

[96]– رواه البزار في مسنده (4828)، والطبراني (11/230)، وقال الهيثمي في المجمع (4/188): رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة، عن ابن عباس “أن رسول الله نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة”، المضامين: ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح: ما في ظهور الجمال.

[97]– رواه مسلم في البيوع (1536)، وأحمد (14320)، وأبو داود في البيوع (3375)، عن جابر، وبيع السنين: أن يبيع ثمر

نخيله سنين ثلاثا أو أربعا أو أكثر.

[98]– متفق عليه: رواه البخاري (2194)، ومسلم (1534)، كلاهما في البيوع، عن ابن عمر: “أن رسول الله نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه…”.

[99]– متفق عليه: رواه البخاري في مواقيت الصلاة (584)، ومسلم في البيوع (1511)، عن أبي هريرة: أن رسول الله نهى عن الملامسة، والمنابذة”. المنابذة: وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يُقَلِّبَهُ، أو ينظر إليه، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه.

[100]– متفق عليه: رواه البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89)، عن أبي هريرة: “اجتنبوا السبع الموبقات … وأكل الربا”.

[101]– قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160].

[102]– قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276].

[103]– رواه أحمد (14703)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره وهذا إسناد حسن، وأبو داود (3681)، وقال الألباني: حسن صحيح، والترمذي (1865)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (3393)، ثلاثتهم في الأشربة، عن جابر بن عبد الله: “ما أسكر كثيرة؛ فقليله حرام”.

[104]– متفق عليه: رواه البخاري في البيوع (2178)، ومسلم في المساقاة (1596)، عن أسامة بن زيد: “لا ربا إلا في النسيئة”، وفيه قصة جرت بين أبي موسي وابن عباس.

[105]– رواه مسلم في المساقاة (1587)، وأحمد (22729)، وأبو داود (3349)، والترمذي (1240)، والنسائي (4563)، ثلاثتهم في البيوع، عن عبادة بن الصامت: “إني سمعت رسول الله ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة …” وفيه قصة جرت بين عبادة ومعاوية.

[106]– متفق عليه: رواه البخاري في في الزكاة (1486)، ومسلم في البيوع (1543)، عن ابن عمر: “لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة”، قال: يبدو صلاحه حمرته وصفرته.

[107]– متفق عليه: رواه البخارى (2204)، ومسلم (1543)، كلاهما في البيوع: “مَن باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع”.

[108]– القواعد النورانية صـ139، 140.

[109]– رواه أحمد (2865)، وقال مخرجوه: حسن، و ابن ماجه في الأحكام (2381)، عن ابن عباس، والدارقطني في البيوع (3/77)، عن أبي سعيد الخدري، وقال النووي في الأربعين (الحديث الثاني والثلاثون): حديث حسن، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندا، ورواه مالك في الموطأ مرسلا عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوي بعضها بعضا، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم في شرحه للحديث: وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجوا به، وقول أبي داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم. وقال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/438): وصححه إمامنا (أي الشافعي) في حرملة. وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/210): وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث فقال: قال النبي صلي الله عليه وسلم” لا ضرر ولا ضرار”.

[110]– التعيين في شرح الأربعين للطوفي (234- 280)، نشر مؤسسة الريان، بيروت. ومما قاله في هذا السياق عن النص: وأما النص، فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم، أو محتمل، فهي أربعة أقسام، فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم أو الإطلاق، ونحوه، وحصلت فيه القطيعة من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه.منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمالا في دلالته بوجه، لفوات قطيعته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده) أهـ، فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته: المصلحة. انظر: (كتابنا الدين والسياسة) صـ96.

[111]– جامع العلوم والحكم (2/210).

[112]– متفق عليه: رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، كلاهما في الصوم، كما رواه أحمد (2391)، والنسائي في الصيام (2391)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

[113]– رواه أحمد (23444)، والترمذي (2254)، وقال: حسن غريب، وابن ماجه (4016)، كلاهما في الفتن، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (7797)، عن حذيفة.

[114]– رواه أحمد (2107)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره، والبخاري في الأدب المفرد (287)، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الأدب (220).

[115]– رواه أحمد في المسند (24855)، وقال مخرجوه: حديث قوي، وحسن إسناده الحافظ في التغليق (2/43).

[116]– متفق عليه: رواه البخاري في الأيمان والنذور (6701)، ومسلم في النذر (1642)، كما وراه أحمد (12889)، وأبو داود (3301)، والترمذي (1537)، والنسائي (3852)، ثلاثتهم في الأيمان والنذور.

[117]– رواه أحمد (17291)، وقال مخرجوه: حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف، وأبو داود (3293)، والترمذي (1544)، وقال: حسن، والنسائي (3815)، ثلاثتهم. وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (464).

[118]– جامع العلوم والحكم (2/223-224).

[119]– رواه البخاري في الجزية (3166)، والنسائي في القسامة (4750)، وابن ماجه في الديات (2686)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

[120]– متفق عليه: رواه البخاري بدء الخلق (3318)، ومسلم في السلام (2242)، عن ابن عمر.

[121]– رواه النسائي في الكبري في التفسير (11026)، وقال الحافظ في الفتح (5/359): رجاله ثقات.

[122]– رواه أحمد (22294)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وقال: حسن، وابن ماجه (2713)، ثلاثتهم في الوصايا، والبيهقي في الفرائض (6/212)، وحسن الحافظ إسناده في تلخيص الحبير (3/202)، وصححه الألباني في الجامع الصغير (2670)، عن أبي أمامة الباهلي.

[123]– متفق عليه: رواه البخاري (2742)، ومسلم (1628)، كلاهما في الوصايا، كما رواه أحمد (1440)، والنسائي في الوصايا (3627)، عن سعد بن أبي وقاص.

[124]– رواه الطبري في جامع البيان (4974).

[125]– هذا مبالغ فيه جدًّا في التمثيل للغبن، فعصرنا يعتبر ما دون ذلك بكثير غبنا فاحشا. لأن هذا يحسبونه 500% (خمسمائة في المائة)، وعصرنا يعتبر خمسين في المائة غبنا فاحشا.

[126]– جامع العلوم والحكم (2/212- 218)، بتصرف يسير.

[127]– المدخل للفقهي العام (2/290، 291).

[128] – رواه أحمد (9722) وقال مخرجوه: صحيح، وهذا إسناد ضعيف، والبخاري تعليقا (5707) مجزوما به، والبيهقي في النكاح (7/135)، صححه الألباني في الصحيحه (783)، عن أبي هريرة.

[129] – رواه مسلم (1043)، وأبو داود (1642)، كلاهما في الزكاة، والنسائي في الصلاة (460)، وابن ماجه الجهاد (2867)، عن عوف بن مالك.

[130] – متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5771)، ومسلم في السلام (2220)، عن أبي هريرة.

[131] – رواه أحمد (15472) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، والترمذي (2065) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3437) كلاهما في الطب، وقال الألباني ضعيف، ورواه البيهقي في الاعتقاد صـ 141 وقال: والذي يشهد لهذا الحديث بالصحة قوله صلى الله عليه وسلم: “كل ميسر لما خلق له” . فهو إذا تداوى أو استرقى أو اتقى فبتقدير الله وتيسيره أمكنه ذلك ، ولو لم يقدره لم يتيسر منه فعل ذلك.

[132] – متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5729)، ومسلم في السلام (2219).

[133] – متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5717)، ومسلم في السلام (2220)، عن أبي هريرة.

[134]– رواه ابن أبي الدنيا في الحلم (2)، والخطيب في تاريخ بغداد (9/127)، عن أبي هريرة، والخطيب في تاريخ بغداد (5/201)، عن أبي الدرداء، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2328)، وفي الصحيحة (342).

[135]– متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم في الحج (1337)، كما رواه أحمد في المسند (7367)، والنسائي في مناسك الحج (2619)، عن أبي هريرة.

[136]– درر الأحكام (1/33).

[137]– انظر: المدخل للفقهي العام (2/993).

[138] – أضف إلى ذلك أنه في منعه اعتداء على حرية السوق، وهذا ما لم يبع التاجر البضاعة بأقل من سعرها المعتاد – ولو بخسارة – التجار الآخرين، حتى يتحكم هو في السوق بعد ذلك، كما يفعل اليهود الرأسماليون.

[139] – ددر الحكام (1/36).

[140] – انظر: جامع العلوم والحكم (2/225).

[141]– فإذا كان الطبخ في مواقد كهربائية لا ينبعث منها دخان، فقد يتغيَّر الحكم، تبعا لتغير العلَّة.

[142]– انظر: درر الحكام (1/36).

[143]– ددر الحكام (1/36، 37).

[144]– سبق تخريجه.

[145]– أشار إلى الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة قال: “سمى رسول الله صلي الله عليه وسلم الحرب خدعة” رواه البخاري (3029)، ومسلم (1740)، كلاهما في الجهاد. وكذلك حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: ” ولم أسمعه يرخص في شىء مما يقول الناس إلا في ثلاث، الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها” رواه مسلم في البر والصلة (2605)، وأحمد (27313)، وأبو داود في الأدب (4920).

[146]– الأشباه والنظائر لابن نجيم صــ87-91، وانظر: أشباه السيوطي صـ87- 89.

[147]– المدخل الفقهي العام (2/996). بتصرف.

[148]– رواه مسلم في الصيد والذبائح (1955)، وأحمد (17139)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والترمذي في الديات (1409)، والنسائي في الضحايا (4405)، وابن ماجه في الذبائح (3170)، عن شداد بن أوس.

[149]– متفق عليه: رواه البخاري في الحرث (2320)، ومسلم في المساقاة (1553)، كما رواه أحمد (2195)، والترمذي في الأحكام (1382)، عن أنس.

[150]– رواه أحمد (6551)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، والنسائي في الصيد (4349)، والحاكم في الذبائح (4/233)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال الألباني: حسن لغيره، صحيح الترغيب والترهيب (1092)، عن عبد الله بن عمرو.

[151]– رواه أبو داود في الأدب (5239)، والنسائي في الكبري في السير (8557)، وصححه الألباني في الصحيحة (614)، عن عبد الله بن حبشي.

[152]– درر الحكام (3/274 – 277).

[153]– انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر، تعريب المحامي فهمي الحقبي. منشورات مكتبة النهضة. بيروت ـ بغداد (3/274-277).

[154]– انظر: درر الحكام (3/339،340).

[155]– انظر: رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية صـ252- 255، نشر دار الشروق، القاهرة

[156]– متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، كما رواه أحمد في المسند (13175)، وأبو داود في الأدب (4794)، عن أنس.

[157]– متفق عليه: رواه البخاري (3038)، ومسلم (1733)، كلاهما في الجهاد، كما رواه أحمد في المسند (19742)، عن أبي موسى.

[158]– رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود في الطهارة (380)، والترمذي في الطهارة (147)، والنسائي في الطهارة (56)، عن أبي هريرة.

[159]– رواه أحمد (5866)، وقال مخرجوه: صحيح، وابن خزيمة في الصيام (2027)، وابن حبان في الصلاة (2742)، وقال الأرنؤوط: إسناده قوي، عن ابن عمر.

[160]– رواه ابن حبان حبان في البر والإحسان (354)، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح. والطبراني (11/323).

[161]– رواه أحمد (2107)، وقال مخرجوه: صحيح لغيره، والبخاري في الأدب المفرد (287)، وقال الألباني: حسن لغيره، والطبراني (11/227).

[162]– رواه أحمد في المسند (24855)، وقال مخرجوه: حديث قوي وهذا سند حسن، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (2/43)، عن عائشة.

[163]– رواه أحمد (20669)، وقال مخرجوه: حسن لغيره، وأبو يعلى في مسنده (6863)، والطبراني (17/146)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (1/174)، عن عروة الفقيمي.

[164]– رواه أحمد (15936)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، وصحح إسناده ابن حجر في الفتح (1/174)، عن الأعرابي الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[165] – قسم ابن نجيم كتابه إلى سبعة فنون أولاها القواعد الكلية. ثم الفوائد، والحيل، والألغاز، وغيرها.

[166]– وهو كتاب (الرد على مَن أخلد إلى الأرض وجهل أن الإجتهاد في كل عصر فرض)، وقد نشر في بيروت بتحقيق الشيخ خليل الميس.

[167] – رواه أحمد (5866) وقال مخرجوه: صحيح، وابن خزيمة في الصيام (2027)، وابن حبان في الصلاة (2742) وقال الأوناوط: إسناده قوي، عن ابن عمر.

[168] – رواه مسلم في صلاة المسافرين (686)، وأبو داود في الصلاة (1199)، والترمذي في التفسير (3034)، والنسائي في تقصير الصلاة (1433)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1065).

[169] – متفق عليه: رواه البخاري (1946) ومسلم (1115)، كلاهما في الصوم، كما رواه أحمد (14426)، وأبو داود (2407)، والنسائي (2262) كلاهما في الصوم، عن جابر بن عبد الله.

[170] – الأشباة والنظائر للسيوطي صـ92.

[171]– متفق عليه: رواه البخاري في المناقب (3560)، ومسلم في الفضائل (2327)، كما رواه أحمد (24549)، وأبو داود في الأدب (4785)، عن عائشة.

[172]– متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6106)، ومسلم في الصلاة (465)، كما رواه أحمد (14190)، وأبو داود في الصلاة (600)، والنسائي في الإمامة (835)، عن جابر.

[173]– متفق عليه: رواه البخاري في العلم (90)، ومسلم في الصلاة (466)، كما رواه أحمد (17065)، والنسائي في الكبري في العلم (5860)، عن أبي مسعود.

[174]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ87.

[175]– الشباه والنظائر لابن نجيم صـ79.

[176]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ87.

[177]– الاشباه والنظائر لابن نجيم صـ80.

[178] – وذلك في قوله تعالي: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]، فخير بين ثلاثة أشياء: الإطعام أو الكسوة أو التحرير.

[179]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ88.

[180]– الأشباه والنظائر لابن نجيم صـ81.

[181]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ88.

[182]– الأشباه والنظائر لابن نجيم صـ81.

[183]– متفق عليه، عن أبي موسى، وقد سبق تخريجه.

[184]– متفق عليه، وقد سبق تخريجه.

[185]– المجموع للنووي (1/46).

[186] – انظر: كتابنا (فقه الجهاد) الباب السادس الفصل الأول.

[187]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ93.

[188]– رواه الطبراني (1/259)، وقال الهيثمي في المجمع (8/305): رواه الطبراني والبزار وإسناد البزار حسن، وحسن إسناده ابن حجر في القول المسدد (1/21).

[189]– متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585)، عن أبي موسى.

[190]– متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، و مسلم في البر والصلة (2586)، عن النعمان بن بشير.

[191]– ضمان الدرك: رد الثمن للمشتري عند استحقاق المبيع.

[192]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ97

[193] – انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي صـ98

[194] – لابن تيمية بحث مفصل في: (القياس) بين فيه أن السلم والإجارة وغيرهما، جاءنا على سبيل القياس الصحيح. وليست على خلاف القياس، كما قال جمهور الفقهاء. ودلل على ذلك بما يجب مراجعته.

[195]– الأشباه والنظائر لابن نجيم صـ91، 92.

[196] – رواه أحمد (15311) وقال مخرجوه: صحيح لغيره، وأبو داود في الإجارة (3503)، والترمذي (1232) وقال: العمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، والنسائي (4613) كلاهما في البيوع، وابن ماجه في التجارات (2187)، وصححه الألباني في المشكاة (2867)، عن حكيم بن حزام.

[197] – متفق عليه: رواه البخاري في السلم (2239)، ومسلم في المساقاة (1604)، عن ابن عباس.

[198] – الملكية في الشريعة الإسلامية للدكتور عبد السلام العبادي (2/276). عمان: مكتبة القصى، 1395هـ /1975م.

[199] – المدخل الفقهي العام للزرقا (2/1005- 1008) طبعة دار العلم بدمشق.

[200] – المدخل الفقهي العام للزرقا (2/1005) طبعة دار العلم بدمشق.

[201]– الأشباه والنظائر للسيوطي صـ94.

[202] – الأشباة والنظائر لابن نجيم صــ86.

[203]– رواه أحمد (3600) موقوفا على ابن مسعود، وقال مخرجوه: إسناده حسن، والطبراني في الكبير (9/112)، والأوسط (3602)، وحسن إسناده الألباني في الضعيفة (533).

[204]– متفق عليه: رواه البخاري (1367)، ومسلم (949)، كلاهما في الجنائز، كما رواه أحمد (12837)، والنسائي في الجنائز (1932)، عن أنس.

[205]– يشير إلى الحديث الصحيح الوارد في بيع الربويات بعضها ببعض، ونصه: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”. رواه مسلم في المساقاة (1587)، وأبو داود (3349)، والترمذي (1240)، والنسائي (4563)، ثلاثتهم في البيوع، عن عبادة بن الصامت.

[206] – انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام (1/42).

[207] – متفق عليه: رواه البخاري في العمرة (1801)، ومسلم في الإمارة (715)، كما رواه أحمد (14191)، وأبو داود في الجهاد (2776).

[208] – متفق عليه: رواه البخاري في العمرة (1800)، ومسلم في الإمارة (1928).

[209] – انظر: درر الحكام (1/46).

[210] – انظر: مجلة الأحكام، وشرحها: درر الحكام لعلى حيدر (1/40- 46) مع تصرف وزيادة.

[211] – كان اجتماع الهيئة العليا لعلماء الرقابة الشرعية في اتحاد البنوك الإسلامية، وقد كان رئيسها الشيخ محمد خاطر مفتي مصر الأسبق رحمه الله، وكنت نائبه في ذلك الوقت.

[212] – انظر: إعلام الموقعين (14- 15).

[213] – الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام صــ231، طـبعة حلب، تحقيق الشيخ أبي غدة.

[214] – الفروق (1/176- 177).

[215] – أصول التشريع الإسلامي للأستاذ على حسب الله صــ84- 85.

[216] – انظر: (القاعدة السادسة من الفن الأول) القواعد الكلية، من كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم صـ93- 102، بتحقيق عبد العزيز الوكيل. ط. الحلبى، وكذلك الأشباه والنظائر للسيوطي الشافعي صــ89- 102.

[217] – رسالة نشر العرف” ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين” (2/125).

[218] – المادة (39) من المجلة.

[219] – محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء صــ257.

[220] – انظر كتابنا (الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) صــ97- 103، نشر مكتبة وهبه، ببعض تصرف.

[221] – انظر كتاب (الخراج في الدولة الإسلامية) صـ343، 344.

[222] – قدرها العلامة الفازينوري بما يساوى (60) ستين روبية، وقدرها العلامة اللكنوي في رسائل “الأركان الأربعة” ص 178 بما يساوي (55) روبية، انظر: مراعاة المفاتيح (3/41).

[223] – ومما يدل على ذلك ما ذكره المؤرخون أن الدينار بعد أن كان مساويًا لعشرة دراهم في العهد الأول، صار في النصف الثاني من العهد الأموي يساوى اثنى عشر درهمًا، وفي العصر العباسي وصل إلى أن صار يساوى خمسة عشر أو أكثر (انظر الخراج في الدولة الإسلامية ص 347) ونقل على مبارك عن المقريزي أنه في زمن الفاطميين في عهد الحاكم، كثرت الدراهم كثرة زائدة حتى صار الدينار يبدل بأربعة وثلاثين درهمًا. الخطط التوفيقية (20/43).

كما تعرض الأستاذ عبد الرحمن فهمي في كتابه (صنج السكة في فجر الإسلام) لهذا الموضوع، ووضع جدولا بين فيه قيمة الدينار بالدراهم في مختلف العصور الإسلامية، وفيها: أن الدينار بلغ صرفه أحيانا خمسة وثلاثين درهما صـ35.

[224] – حلقة الدراسات الاجتماعية صـ238.

[225] – انظر: حجة الله البالغة: (2/506).

[226] – انظر: كتابنا فقه الزكاة (1/277- 279)، طبعة الخامسة والعشرون مكتبة وهبه.​

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق