البحوث

مسلمو أوروبا والعيش المشترك في الواقع الراهن

مسلمو أوروبا والعيش المشترك في الواقع الراهن

 

تقديم

د/صهيب حسن عبدالغفّار

سكرتير مجلس الشريعة الإسلامية

لندن –  بريطانيا

 

الدورة الخامسـة والعشـرون

المجلس الأوروبي للإفتاء والبحـوث

إسطنبول 5 أكتوبر 2015م

 


تمهيــد

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،

فإن الحديث عن المسلمين -المهاجرين منهم والمواطنين- في أوروبا حديث ذو شجون فإن هذه القارة شهدت تواجد المسلمين دُعاة وغزاة، في غربها المتمثل في ديار الأندلس لسبعة قرون كما شهدت آثارهم في شرقها المتمثل في هنغاريا وبلغارية وبولندا وبلاد البلقان وألبانيا من بعد القرن الخامس عشر الميلادي. ولا تزال تشهدها بكثير من الامتياز والوضوح في كوسوفا والبوسنة والهرسك وبقيت شمالها وجنوبها بمنأى من شهود تعاليم الإسلام عن قرب إلى أن تعرضت للحربين العالميتين المدمرتين للبنية المركزية وهلاك للحرث والنسل فاضطرت إلى استقدام الأيدي العاملة من الشرق خاصّة فصار لكل جزء من أوروبا نصيبه من العاملين المهاجرين حسب انتماءاتهم  للدول المستعمرة المسيطرة لبلادهم في غرب إفريقيا والشرق الأوسط  وآسيا الجنوبية، فقد اتجه الأتراك إلى ألمانيا لأنهم كانوا أقرب الناس إليها كحلفاء في الحرب والمغاربة إلى فرنسا والأندونسيون إلى هـولندا والهنود والباكستانيون إلى بريطانيا حيث ارتبطوا بهذه البلاد بصلة الاستعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بوجه أخصّ وبدأت أعداد المهاجرين تزداد سنة بعد أخرى وقد قفزت هذه الأعداد من بضع مئات إلى مئات الآلاف بل إلى الملايين حتى صاروا يشكلون جاليات يُرمى إليها بالأبصار ويهتم بها من ناحية جميع الجوانب ماديّا وخلقياً ودينيا واجتماعيًا واقتصاديًا.

وحسب تحقيق أجراه مركز (Pew)، لا يقل عدد المسلمين عن عشرين مليون شخص في أوروبا كلها (ما عدا بوسنيا وكوسوفا وصربيا وألبانيا) ومن بينهم ثلاثة عشر مليون مسلم هم من المهاجرين إلى أوروبا حسب إحصاءات عام ٢٠١٠م. (١)

وقد أثار هذا العدد الكبير انتباها ملموسا لدى مراكز التحقيق والسياسة والاجتماع وبدأت تتداول في أوساطهم تساؤلات عديدة كالتالي:

١- هل المسلمون يشكلون خطرا على الحضارة الغربية في أوروبا؟

٢- بما أنّ عددهم يتزايد بسرعة هائلة فهل يصبحون الأكثرية في أوروبا يوما ما؟

٣- أوروبا بعلمانيتها ونظامها الاشتراكي التعاوني قد فقدت إنجاب المزيد من البشر وبالتالي ما يمكنها مواجهة المّد البشري المسلم.

٤- المسلمون من أجل تمسكهم بتقاليدهم وتعاليم دينهم لا يمكن أن يندمجوا مع مواطني أوروبا عموما.

٥- إِنَّهُم بدؤوا يفرضون تقاليدهم وأعرافهم المتمثّلة في الشريعة في عدد من أقطار أوروبا.

٦- إنّهم يمارسون عددا من محاكم الشريعة ويطالبون السلطات بتنفيذ الشريعة قانونيا.

٧- ظاهرة الإرهاب هي نتيجة طبيعية للأصولية الإسلامية وكذلك التطرّف.

ونحن في هذا البحث نحاول قدر الاستطاعة الرّد على هذه التساؤلات وخاصّة على موضوع إمكانية التعايش السلمي للمسلمين في أوروبا وهل الاندماج الكامل هو الطريق الوحيد لديهم بهذا الصدد؟

الفصــــــــل الأول

 نستهل هذا الفصل بآية سورة النساء التي تضع أصلا لسلوك مبنيٍ على الإحسان في مجتمع مسلم، قال الله تعالى:

﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ (٣٦:٤)

إنّ هذه الآية -من ناحية السلوك الإنساني- لا تفرق بين المسلم وغيره فتشمل القرابة واليتامى والمساكين والجيران سواءً كانوا من القرابة أو من الأجانب، والأصحاب سواءً كانت لهم صحبة دائمة أو عارضة وأبناء السبيل أي المنقطعين في أسفارهم والعبيد الذين انقطع زمنهم حاليا.

أما آية الممتحنة فهي صريحة في باب الإحسان إلى غير المسلمين، قال تعالى:

﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾. (١-٩ /٦٠)

ظاهر هذه الآية قد يوحي إلى أنّها خاصة بالمسلمين وبيدهم القوة والسلطة ولكنها لا تمنع المسلم – وإن كان مغلوبا على أمره محكوما من قتل غيره- أن يتعامل مع من حوله من غير المسلمين في ضوء هذه التعليمات حسب الدرجات الثلاثة التي وردت في تغيير المنكر باليد واللسان والقلب بالحديث المشهور.

وقد أعجبني ما ذكره السيد أكبر أحمد في مقاله عن الأندلس بعنوان:

“ماذا يمكن أن يعلمنا الأندلس اليوم بخصوص المسلمين وغير المسلمين يعيشون معًا”

قال: “إن أهل إسبانيا اليوم يقرؤون تاريخ الأندلس الزاهر فينادونه بشعار واحد هُو la convivencia ومعناه بالإنجليزي  co-existence أي التعايش معًا”. (٢)

ولندرك مغزى هذا الشعار وصدقه وأصالته علينا أن نرجع فعلا إلى تاريخ الأندلس الزاهر من بداية الفتح الإسلامي عام ٧١١م إلى سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م. وهي ليست حكاية لقرن أو نصف قرن بل لثمانية قرون كلها عبر ودروس. منها ماهي مشرقة كإشراقة الشمس ومنها ماهي مظلمة كليلةِ شتاء في أوروبا البرداء.

استعنت في كتابة مواد هذا الفصل بثلاثة مصادر رئيسية، الأول بأقلام المسلمين وهو العدد الخاص حول الإسلام في الأندلس من مجلة الدراسات الإسلامية الصادرة من مجمع البحوث الإسلامية التابع للجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد (١٩٩١) وكتابين بأقلام أوروبية من غير المسلمين وهما: Ornament of The World (درّة العالم) للسيدة ماريا روزا مينوكل والآخر بعنوان A Vanished World (عالم مفقود) للسيد كريس لوني، ويعتبران من أنفس ما كتبه الغربيون عن عصر المسلمين في الأندلس.

بالوقت الحاضر نبدأ الحديث بوصف المجتمع الإسباني عند الفتح الإسلامي للأندلس، أرض الوندال، الاسم الذي أطلق على إسبانيا قديمًا.

يقول عبد الفتاح قلعة جي في مقال له بعنوان “جماليات إسلامية في التشكيلات الأندلسية”:

“عندما دخل المسلمون العرب والمغاربة البربر الأندلس عام ٩٢هـ/٧١١م  بقيادة موسى ابن نصير وطارق ابن زياد وجدوا مجتمعها المسيحي يتألف من عناصر أيبيريّة IBEROSE هاجرت قديما من الغرب وعناصر سلتية CELTOS  قدمت من شمال أوروبا، وثمة جماعات يهودية ورومانية وقوطية. ونتيجة الاختلاط ظهر عنصر جديد مسلم عرف باسم الموّلدين، أما العناصر المسيحية التي بهرتها لغة العرب وعاداتهم فتمثلوها مع الحفاظ على موروثاتهم اللغوية والحضارية فقد عرفت باسم المستعربين MOZARABES وقد تمتعوا بالحرية الدينية التامّة وكان لهم رئيس يعرف بالقومس GOMES وهناك أيضا من العناصر الأخرى الضفالبة الأوروبيون وهذه الطبقة تقابل طبقة المماليك في الشرق الإسلامي، والنورمانديون (Viking) الذين كانوا يُغِيرون على السواحل فيؤسرون ويسلمون”. (٣)

وقد تمكن القوط من الاستيلاء على روما عام ٤١٠م في عهد الملك هونوريوس ثم امتدت أياديهم إلى اسبانيا فتحا واستيلاء وكانوا على مذهب أريوس الذي رفض من قبل المؤتمرين في مؤتمر نيقية (Nicia) عام ٣٢٥م. (٤)

وقد عاملوا اليهود الذين سبقوا إلى إسبانيا بعد خروجهم من فلسطين إثر غارة القائد الرومي طيطوس عام ٧١م معاملة سيئة فكانوا يمنعونهم من الختان ويجبرونهم على التنصر وكانوا يعتبرونهم كسرطان يجب أن يقضى عليهم. (٥)

وكان قدوم المسلمين إلى الأندلس بمثابة غيث جاء بالرحمة والبركات. “ولا أدل على سياسة المسلمين السمحاء إلا موقفهم من اليهود الذين ذاقوا الذل والهوان في حكم القوط  فآمنوهم على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وسمحوا لهم بحرية الملكية ومزاولة التجارة واشتغل كثير منهم بالعلوم والآداب والطب والفلسفة فنبغوا وكانوا عونا للعرب في حركة الفتح ولعبوا في الأندلس- كما يقول صاعد الأندلسي – دورا بارزا في الثقافة العربية وكان يلقّب عصرهم هناك بالعصر الذهبي فتحسّن حالهم وساهموا بنصيب وافر في الثقافة الأندلسية بل وكان لهم أثر كبير في نقل الثقافة الإسلامية إلى غرب أوروبا”. (٦)

وليس اليهود فحسب، بل تعدّى الأمر إلى النَّصَارَى الذين أولعوا بالثقافة العربية واللغة العربية مما دفع بأسقف قرطبة “ألفارو” إلى هذه الشكوى: “إن إخواني في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة شعر العرب وحكاياتهم ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلاسفة المسلمين، لا ليردوا عليها وينقضوها وإنَّما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوبا عربيا جميلا صحيحا.

وأين تجد الآن واحدا من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينية التي كتبت على الأناجيل المقدّسة؟

ومن سوى – رجال الدين – يعكف على دراسة كتابات الحواريين و آثار الأنبياء و الرسل؟

يا للحسرة! إنّ الموهوبين من شبان النَّصَارَى لا يعرفون إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم، ينفقون أموالا طائلة في جمع كتبها ويصرحون في كل مكان بأنّ هذه الآداب حقيقة بالإعجاب فإذا حدّثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك بازدراء بأنّها غير جديرة بأن يصرفوا إليها انتباههم.

يا للألم! لقد أنسي النصارى حتى لغتهم فلا تكاد تجد بين الألف منهم واحدا يستطيع أن يكتب إلى صاحب له كتابًا سليمًا من الخطأ، فَأَمَّا عن الكتابة في لغة العرب فَإنَّك واجد فيهم عددًا عظيمًا يجدونها في أسلوب منمّق بل هم ينظمون من الشعر العربي ما يفوق شعر العرب أنفسهم  فنًّا وجمالًا”. (٧)

أليس هذا الانبهار بالعربية وثقافة العرب لأنّهم أوجدوا مجالاً يَسودُهُ التسامح والاحترام المتبادل وتحمّل الآخر؟ وهذا ما اعترف به الكاتب الانجليزي “ستانلي لين بول” حيث قال:

“إنّ سرّ هذا الانجذاب والتغيير يكمن في طبيعة العلاقة بين المسلمين وسكان البلاد الأصليين فيجب ألا يخطر ببال أحدٍ أنّ العرب عاشوا في بلاد أو خرّبوها بصنوف الإرهاق والظلم كما فعل قطعان المتوحّشين قبلهم فإنّ الأندلس لم تُحكم في عهدٍ من عهودها بسماحة وعدل وحكمة كما حكمت في عهد العرب الفاتحين”. (٨)

وقد يقال أن تأثر الأهالي بلغة العرب لأنّها كانت لغة الفاتحين ثمّ أصبحت لغة الحكومة والإدارة كاللغة الانجليزية تمامًا في مستعمراتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في مشارق الأرض ومغاربها. حتى أنّها لا تزال تهيمن في هذه الأقطار حتى بعد استقلالها وقطع كل صلاتها الإدارية مع بريطانيا العظمى وهذا القول لا يجانب الصواب إلى قدرٍ ما لأنّ اللغة العربية في حينها بالأندلس واللغة الإنجليزية خلال مدة الاستعمار وبعده اتصفت بالعلم والمبتكرات وجودة ما في جعبتها من المعاني والأفكار والذي يفرِّق بينها أنّ العربية لم تفرض نفسها فرضًا ولم تحاول القضاء على أي لغة محلية، ولكنّ النَّاس أقبلوا عليها إقبال الهيم العطاش على الشرائع فنهلوا منها أيّ منهل واستوعبوها عن رضى وطواعية بينما صاحب انتشار اللغة الإنجليزية طغيان الحُكم والسيطرة واستخفاف للغات المحلية وتضييق دائرتها وتجفيف منابعها فشتّان بين حبيب متوجّع ورقيب محترق وبين ناصحٍ أمين ومستشار حاقد كمين.

* حركة الاستخفاف بالنبي  صلى الله عليه وسلّم:

بعد مرور حوالي مائة وأربعين عاما على دخول المسلمين في الأندلس حدثت هناك حركة تسمّى حركة الشهداء عند المسحيين أو حركة الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسَلَّم لدى المسلمين ولنذكر هذه الحادثة كما وصفه أحد الكتاب المسحيين بالإضافة إلى تعليقاته على هذا الحادث الذي يعتبر وصمة عار على تاريخ الأندلس المجيد القائم على السماح والكرم والتعاطف.

حدث أن قام الأسقف يولوجيوس (Eulogius) أحد مواطني قرطبة بالتوجّه إلى ألمانيا إلا أنّ سفره انقطع من أجل سدّ الطريق المارّ من خلال جبال “البرانس”  (Perenesse)فلجأ إلى “دير لير” (Lyre) بالقرب من بمبلونا حيث عثر على كتاب “مدينة الله” للقديس أوغسطين والذي يتحدث عن مجيء المسيح مرة ثانية إلى العالم كما وجد هنالك وريقات أربعة تتحدث عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بأسلوب ركيك ومعلومات خاطئة وبناءً عليه أقدم على كتابة سيرة النبي صلى الله عليه وسلّم فزاد الطين بلّة وجاء بأفكار ما أنزل الله بها من سلطان قال إنّه (أي النبي) تنبأ بأن يبعث من جديد بعد ثلاثة أيام من موته ولكن بقيت جثته – والعياذ بالله- نهبا للكلاب.

وأخيرا رجع إلى قرطبة وهو يخفي في نفسه هذا الحقد والعداوة للمسلمين ووجد في إسحاق المسيحي بغيته، هذا الرجل الذي كان كاتب ذِمَّة كأنّه همزة وصل بين السكان المسيحيين والحكام المسلمين حيث أجاد اللغة العربية وحظي بالرتبة والمقام لدى الحكم.

وقد تبع سيرة الأسقف يوليوجيوس، فترك وظيفته وانتقل إلى دير بقرية تابانوس (Tabanos) على مشارف قرطبة فقضى فيها ثلاث سنوات ثم رجع إلى قرطبة عام٨٥١م وقام يشتم النبي صلى الله عليه وسلّم وينال من عرضه جهارًا نهارا على ملأ من الناس حتى قبض عليه وعرض أمره على القاضي الذي كان يعرفه تماما، فلقّنه أن يتظاهر بالسُكر أو بالجنون حتى يُبرئ ساحته وينجيه من العقاب المؤلم، عقاب سبّ الرسول صلى الله عليه وسلّم، ولكنّه صمد على موقفه وأصّر على مقالاته فلم يكن هناك بُدٌ إلا أن يلقى الجزاء الأليم فيقتل ثمّ يعلق نعشه على جسر نهر الوادي الكبير.

وإذا بأحد الشرطة من المسيحيين المعروف باسم سينكتبوس يحذو حذوه بعد يومين وستة آخرون خلال الأيام المقبلة وكل واحدٍ يلقى نفس المصير. وأتت إمرأتان، مارية وفلورا بعد ثلاثة أشهر وهما من زواج مختلط فترتكبان نفس الإجرام فتلقيان ما لقي سلفهما وقيل أن خمسين شخصا قدّموا أنفسهم “للشهادة” خلال السنوات العشرة اللاحقة ولم  تخمد هذه الحركة إلا بعد أن شدّد الأمر عليهما في الوظائف وفرض عليهما الإتاوات والضرائب.

وكان الأسقف يولوجيوس يدوّن وقائع تلك الأحداث ثم لم يلبث أن دعته نفسه أن يلحق بسلفه فكان آخر المستبين الذي لقى حتفه  بهذه الطريقة، وإنَّما خمدت هذه الحركة أخيرا لأنّها لم تجد تجاوبًا من الأهالي الذين وجدوا عيشًا كريما وحياة منعمة تحت ظلّ الحكم الإسلامي كما أن هناك أساقفة مثل الأسقف ريكا (Ricca) الذي ندّد بهذه الحركة الاستشهادية بل أودعهم السجون من أجل هذا الإجرام.

ويقول المؤلف (الذي نقلنا عنه ملّخص هذه الحوادث): ما الذي جعل هؤلاء الناس يقومون بهذا الفعل الشنيع؟

قالوا إن المسلمين منعوهم من بناء الكنائس الجديدة و أوقفوا رنين الأجراس التي تدعوهم إلى العبادة وشدّوا عليهم لأنّهم على غير عقيدتهم.

ويرّد عليهم المؤلف فيقول:

هذا غير صحيح، إذ لم تكن هناك الكنائس والأديرة فكيف تسنّى لإسحاق أن يلجأ إلى دير فيقضي فيه ثلاث سنوات وقد رأوا بأم أعينهم كم كنيسة بنيت في عهدهم، وهم بأنفسهم يقولون بأنّ المسلمين لمّا سمعوا رنين الأجراس تعوذوا لأنفسهم ولعنوا الآخرين، ولو كانت الأجراس موقوفة لما تعوذوا ولما لعنوا.

ثم إنّ الشرطي الذي قتل وكذلك السيد أرجى ميروس “Argimiros” الذي تبعه كانوا ممن احتلوا الوظائف في الحكم الإسلامي فالأول من جناح الشرطة والآخر قاضٍ للنصارى حتى أنّ أخًا ليولوجيوس كان موظفا في المحكمة.

أليس من الصحيح أن يقال أنّها كانت حركة عصيان مدني لإشعال العاطفة الدينية لدى نصارى قرطبة حتى يثوروا ضد الحكم الإسلامي.

وهل خلا التاريخ المسيحي من مثل هذه الثورات؟ ومن أشهرها حركة البروتستانت ضد الكاثوليك في انجلترا نفسها”. (٩)

ودعونا نقارن هذه الحركة بحركة الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلّم في صورة الكاريكاتوريات التي رسمها فنّان في الدنمارك ثمّ تبعه أذنابه في النرويج وباريس ونقل عنهم من هم على شاكلتهم في عدد من عواصم أوروبا.

هذه الحركة التي استهدفت المسلمين وليس لهم حولٌ ولا طول في الأمر والحكم، جاءت من قبل طبقة مثقفة ممن يدينون بدين معظم الأهالي أو على الأقل ينتسبون إليهم، فماذا أرادوا من هذه الحركة ؟

أليست هذه عكس الصورة التي حدثت في تاريخ الأندلس؟

أليست هذه محاولة ليغضبوا ويثوروا فتنقلب عليهم الدوائر الحاكمة  بالقمع والطرد؟

فيقال إن المسلمين أعوزهم الاندماج وليسوا إلا أسرى دينهم وثقافتهم فنقول لهم أنّ الاندماج لا يعني ترك ما لديك من ثقافة وتراث بل إنَّما يعني التعايش السلمي بين الشعوب، كل يدلي بدلوه ويشارك بعقله وفكره ويساهم بميراثه وثقافته ليجعل من الدولة وحدة متماسكة متينة راسخة متميزة بالثقافات العديدة بدون عداءٍ لأحد أو عدوان على أحد على غرار المجتمع الأندلسي الذي أقامه المسلمون في عهدهم الزاهر الميمون والذي قضى عليه الملكان فرديناند وإيزابيلا عام ١٤٩٢م عام سقوط غرناطة بأيديهم.

لماذا ازدهر النشاط العلمي في الأندلس ؟

أهو نتيجة الاندماج الكامل أم التعايش السلمي بين الشعوب ؟

وممّا لا شك فيه أنّ الأمم تزدهر وتترقّى وتتقدم علميا واجتماعيا بعد أن يتحقق الأمن داخليا وخارجيا، ولهذا ما يشمل الأهالي أجمعين سواءً كانوا جنسا واحدا أو من أجناس شتّى، سواءً كانوا شعبا وحدهُ أو مجموعة شعوب، سواءً كان هناك أقليات أو لم تكن هناك أقليات، فإن الأمن الداخلي يقتضي ما يتمتّع به جميع المجموعات من حريّة ديانة وممارسة شعائر دينهم بدون جبر أو قسرٍ والاحتفاظ بثقافتهم بدون نظرات من المهانة أو التحقير أمّا الأمن الخارجي فيتمثل في المعيشة الآمنة بدون خوف أو ذعر وسلامة الحدود من هجمات العدّو. والقارئ لتاريخ الأندلس في عهود المسلمين الزاهرة  ليكتشف أنّ أهل الكتاب واليهود الفارديم (١٠) خاصّة، تمتعوا بهذا الآمن فبرعوا في مجالات علميّة وأثبتوا جدارتهم للوظائف العليا وجادت قرائحتُهم بما لم تجُدْ به وهم تحت سيطرة الرومان والمسحيين الذين أذاقوهم ألوانا من العذاب والمهانة فجعلوهم كالنساء العقيمات أو كالأرض الجدباء.

ونورد في ما تحت – أخذا من مصادر كتابات من غير المسلمين- نماذج من مثل هذه العبقريات التي اشتهرت وذاع صيتها في العهود الإسلامية بالأندلس:

١-  حسادى بن شبروت

ولد في عام ٩١٥م وأدرك عهد الخليفة عبد الرحمان الثالث (٩١٢م-٩٦١م) وهو من أبرز علماء اليهود الذين حافظوا على لغتهم العبرية وثقافتهم التي حملها أجدادهم عند خروجهم من فلسطين يوم أجلاهم طيطوس الرومي عام٧١م.

اشتهر أمره حتى أصبح وزيرا للخليفة وله كتب في الطب، مترجمة وغير مترجمة منها (الموسوعة في الطب)، بعثه الخليفة إلى قسطنطين الثالث ملك الإمبراطورية البيزنطية في وفد ضمّ ربيع بن زيد كبير أساقفة النَّصَارَى مع هدية إلى الملك وهي هذا الكتاب في الطّب. (١١)

٢-  صموئيل بن نجديلا

ولد عام٩٩٣م، هاجرت عائلته من قرطبة إلى ملقَا واستقّر به المطاف في مدينة غرناطة ليصبح وزيرا كسلفه وكان رئيسا رسميًّا لطائفة اليهود في غرناطة معروفا بلقبه نجيد (Nagid) وأصبح وزير الأمير “باديس” أمير غرناطة بعد موت أبيه “حبّوس”، وعيّن قائدا لجيشه يناطح أعدائه من الإمارات المسلمة المحيطة بها لعشرين سنة وكان شاعرا مجيدا عبّر عن أحاسيسه في خدمة السلطان  بقوله “السلطان لا يحسن إليك إلا إذا رجا فيك وبما أنّك تتفانى في خدمته، أنت معلّق في ملقطه، بيدٍ واحدةٍ يأتي بك إلى شعلة من نارٍ ولكن يحفظك مِن نار أشعلها بيديه ضدك”. (١٢)

مات في إحدى الغزوات  فخلفه ابنه يوسف وهو ابن ٢١ سنة ولكنّه لم تدم له الوزارة طويلاً إلى أن قُتِل هو الآخر. وقال أحد المؤرخين “إنّ اليهود الأسبان كانوا من أشدّ من لمع في حضارة اليهود منذ عهود الأناجيل”. (١٣)

وذكر المقرّى أنّ المسلمين كلّما فتحوا مدينة تركوها في إدارة اليهود مع عدد قليل من المسلمين ليواصلوا مسيرتهم إلى مزيد من الفتوحات”. (١٤)

٣-  دوناش بن لبرات

جاء مع عائلته من بغداد متوجّهًا إلى مدينة أخرى في العلم والحضارة، ألا وهي قرطبة أتقن فيها اللغة العربية حتى برع فيها مع براعته التّامة في اللغة العبرية وهو الذي يعود إليه الفضل في تحويل اللغة العبرية من لغة الدين إلى لغة الأدب والثقافة وكأنّه أحيا اللغة من سُباتها الطويل فلذلك يقال له رائد ذلك العصر.

مات في قرية نيبلا (Niebla) عام ١٠٦٤ بالقرب من أشبيلية  قيل أنّ أباه مات في السجن لأسباب سياسية. (١٥)

٤-  ملحمتان شعريتان: اتجاهان متغايران

شهد الفولكلور الإسباني ملحمتين شعريتين تنبئان عن اتجاهين مغايرين تماما الأولى منهما هي ملحمة شعرية بعنوان “أغنية رولاند” والتي تضم ٢٩٨ فقرة وتتحدث عن بطولات الملك الفرنسي شارلمين وابن أخيه رولاند عندما عبر جبال البرانس في القرن الثامن ودخل اسبانيا من جهة ولاية قشتالة للإغارة على سرقسطة بدعوة من محافظ “برشلونة” المسلم لقتال محافظ سرقسطة المسلم أيضا وبقى يحاصرها لسبع سنوات إلى أن سقطت بيده فأجبر مائة ألف مسلم على التنصير ولم يكن لديهم خيار إلاّ أن يقتلوا أو يحرقوا إذا لم يستجيبوا له، ثم تعجّل بالانصراف لإخماد ثورة في “سكسوني” وراءه في أوروبا، وكان رولاند بقى في مؤخرته يقاتل ويناضل ولقي وقتا عصيبا من قبل “الباسك” الذين أذاقوه مرارة القتال حتى قاتل بشجاعة إلى أن قتل على أيديهم وتتحدث هذه الملحمة التي حُبكت أشعارها حول عام ١١٠٠م عن بطولات الملك وابن أخيه ويصوره بطلا من أبطال المسيحية جاء لإنقاذ اسبانيا من عبادة الأوثان، أي المسلمين يعبدون مُحَمَّدًا والذين يجسدون الشرّ كل الشرّ بينما تحمل المسيحية معاني الخير كلها وقد نسجت حول “رولاندا” أساطير من الشجاعة والبطولة وقلبت الباسك الذين قتلوه إلى جيش من المسلمين تابعه وهو عائد إلى فرنسا، والملحمة بذلك إشادة بالمسيحية وتنديد بالمسلمين.

أمّا الملحمة الشعرية الأخرى فهي ملحمة السيّد ويقدّر زمن تحريرها وتسويدها بين عام ١٢٠١م إلى ١٢٠٧م وتتحدث عن قائد إسباني قحّ وهو رودريغو دياز “Rodrego Diaz” الملقب بالسّيد “Cid” لدى الأسبان، لهذا الرجل الذي ولد في برغس (Burgos) و تربّى كعسكري مقاتل، وخدم الملك” سانجه “ملك قشتالة وليون وبعد وفاته أبّنه الملك ألفانسو السادس الذي سقطت بيده طليطلة المسلمة عام ١٠٨٥م وهو الذي أجلاه عام ١٠٨٩م بعدما شكّ في ولاءه له، فتحوَّل السيّد كمغامر يوالي الأمراء المسحيين واحدا بعد الآخر واستطاع أن يستولي على “بلنيسية” عام ١٠٩٤م ثم والي أمير “سرقسطة” المسلم.

وهكذا كان ينتقل بولائه من مسيحي إلى مسلم أو بالعكس وكانت له معاملة حسنة لرعاياه المسلمين فإذا غادر المدينة التي فيها لأجل غزو بلد آخر حزن الأهالي -وهم مسلمون-  لمغادرته. كان غزو “بلنيسية” آخر مغامرة له حيث مات بعد ست سنوات من غزوه وعادت “بلنيسية” إلى أيد مسلمة.

إنّ الرجل أشيد به في الملحمة كرجل مغامر أيضًا إلاّ أنّه يظهر كرجل مسالم يحسن إلى المسحيين إذا كان معهم ويحسن إلى المسلمين إذا كان في خدمتهم وهكذا كان وليّه السابق الملك ألفانسو الذي فتح طليطلة ولكن أبقى للمسلمين وجودهم وأراضيهم وقد خرج من مملكته قشتالة المتخلفة ليستفيد من مهارات وإنجازات المسلمين  في طليطلة ولم يمّس جامع طليطلة بسوءٍ إلا أنّ أسقفه من أصل فرنسي استغل غيابه عندما خرج  للغزو والقتال وحوّله إلى كنيسة فغضب عليه الملك لمّا علم بذلك. (١٦)

ولقد أوردنا هذا التفصيل عن الملحمتين لإعطاء فكرة عن العقليّة السائدة في أوروبا في هذه القرون الأربعة، – من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر- فهنالك العقلية السائدة المنكرة للإسلام والمعادية للمسلمين في عصر ملك لم يعايش المسلمين ولم يرهم من قريب ثم أنّهم يقاتلهم في بلاد غير بلاده فلا يهمّه مصيرهم حيث يريد مغادرة هذه البلاد بعد نهب خيراتها وإذلال أهلها.

بينما تعطينا ملحمة السيد فكرة عقليّة مسالمة للإسلام غير بغيضة للمسلمين لأنّ الرجل كان يعايش المسلمين ويستفيد من خيراتهم ولا شكّ أنّ السيّد لا يعرف إلاّ نفسه ولم يخدم إلاّ مصلحته إلاّ أنّ حكاية بطولاته على غير منوال الملحمة الشعرية الأولى، ملحمة رولاند، إلاّ أنّه من الصحيح أن يقال عقلية “أغنية رولاند” هي التي سادت أخيرا في القرون الثلاثة التي أتت بعدها وتحقق حلم “شارليمان” في تثبيت دعائم المسيحية في اسبانيا عندما سقطت “غرناطة” آخر معاقل المسلمين في جنوب الأندلس.

٥-  بطروس ألفونسى

هنالك في مملكة أراغون تمّ تعميد حوالي أربعين يهوديّا على يد الملك ألفانسو الأول بمدينة Huesca عام ١١٠٦م وكان من بينهم عالم يهوديّا باسم موسى والذي أصبح بطروس ألفونسي بعد التعميد. كان طبيبا فلسفيا فلكيا بارعا، عريقا في العبرية والعربية وآثر أن يغادر البلاد -وخاصّة بعد أن عُرف تركه لليهودية- إلى انجلترا في عهد الملك هنري وابن وليام الفاتح وهناك لمع نجمه فكان أوّل معلم للغة العربية في بلاد لم تعرف عن الإسلام والمسلمين شيئا، مدرسًا للفلسفة اليونانية التي وصلت إليه من خلال التراجم باللغة العربية، مرشدا في الفلكيات واضعًا للتقاويم بناءا على الحسابات الفلكية.

ومن أهم ما اشتهر به كتابه الصغير باللاتينية بعنوان “حكايات القساوسة”، وهي كلها أربعة وثلاثون حكايةً على طريق الأمثال تضم في طياتها الحكمة والفلسفة والثقافة التي نقلها من الأندلس العربية ومن تراثه اليهودي، وأصبح كتابه مصدر إيحاء للنسج على منواله للكاتب الإنجليزي الشهير “جاسر” (Chaucer) الذي جاء بعده بمائتي سنة ودوّن كتابه “حكايات كنتربري” الذي يعتبر من أمهات كتب الأدب الإنجليزي كما اقتبس منه الكاتب الإيطالي “بيكاسيو” Biccacio صاحب كتاب “Decameron” أيضا، وتذوّق من خلال كتابه الإنجليز طعما خفيفا ممّا كان في وسع كل أندلسي أن تطعمه رغدا من خلال الأدب العربي المتمثل في “ألف ليلة وليلة” وغيره من الحكايات التي تنّم عن الحكمة والفلسفة.

وكان له كتاب آخر بعنوان “الحوار ضد اليهود” وكأنّه ردّ على عقائده التي تركها خلفه عندما غادر الأندلس، وهو حوار بين موسى الممثل لمذهبه القديم وبطرس الممثل لمذهبه الجديد وقد تطرّق في ردّه على اليهودية العقائد الإسلامية أيضا حيث كان مطلعا عليها مباشرة. (١٧)

٦-  يهودا حليوي

عبقري آخر من عباقرة يهود سفارديم ولد عام ١٠٧٥م في مدينة” تيوديلا” مملكة “نافار” المتآخمة لجبال البرانس وشهد الحكم الإسلامي وهو صغير، ثم راح إلى طليطلة وهو لا يزال في الخامسة عشر من سنّه ثمّ غادرها إلى غرناطة بدعوة من عالم يهودي آخر باسم “موسى بن عزرا”.

وبعد أن دخل المرابطون جنوب الأندلس عام ١٠٩٠م وكانت لهم سياسة غير سياسة أمراء الطوائف غادر الكثير من اليهود إلى الشمال طلبا للراحة والأمان. ولكن خابت ظنون موسى بن عزرا عندما دخل بلاد قشتالة وعايش المسيحيين حيث وصفهم في كتاباته ناسًا قذرين كأنهم وحوش وكلاب.

لم يطب ليهود حليوي المقام في الشمال فخرج يريد القدس ولكن استقر به المقام في الإسكندرية في مصر عام ١١٤٠م وقد بلغ من السن ٦٤سنة وهذا هو نفس العام الذي مات فيه معاصره ورقيبه موسى بن عزرا.

دخل حليوي مصر وهو غير “يهودا حليوي” الذي كان شاعرا أديبًا فلسفيا فقد تغيرت أفكاره تمامًا وكأنه رأى أنّ يهود الأندلس من أجل ذوبانهم في الثقافة العربية وتآلفهم للغة العربيّة أصبحوا مستعربين نابذين للكثير من تقاليدهم  اليهودية ودعا إلى ترك ما هو أندلسي شعرا وأدبا وعقيدة وبقى عند الجالية اليهودية في مصر عدّة سنوات ثمّ غادر مصر ولم يعرف مصيره.

هل وصل إلى القدس التي استولى عليها الصليبيون عام ١٠٩٠م أم مات دون أن يرى البلد الذي كان يحنّ إليه منذ نعومة أظفاره، وقد ضمّن كتابة(الردّ والأدلة) أفكاره التي انتهى إليها وقد تناول فيه موضوع العقيدة وهل يمكن أن تتماشى مع العقل وهو بحث فلسفي تطرق إليه من جاء خلفه مثل موسى بن ميمون (كان ابن خمس سنوات) وابن رشد (كان ابن ١٥سنة آنذاك). وترك حليوي كتابا آخر له صدى كبير في الأوساط العلمية وهو “كتاب الخزر” ويتحدث عن مملكة الخزر على مشارف بحر القزوين والتي اعتنق ملكها مع رعاياه اليهودية بعد أن قارن بين المذاهب الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، فصار هذا الكتاب كمناقشة للأديان الثلاثة.

كان يهودا حليوي آخر عباقرة  اليهود السفارديم. (١٨)

٧-  موسى بن ميمون

ولد في قرطبة عام ١١٣٥م في عهد المرابطين وتلقّى العلم  متقنًا للغتين العبرية والعربية وبرع في الطب والفلسفة وأدرك حكم الموحدّين فخرج أوّلا إلى المغرب  ثمّ استقرّ  أخيرا في مصرعام ١١٦٨م حيث أصبح “نجيدًا” للجالية اليهودية وصارت له حظوة لدى حاكم مصر حتّى أصبح طبيبا خاصًا للعائلة المالكة وتمتّع بنفس المنزلة أيام الأمير صلاح الدين الأيوبي.

تأثّر من أفكار فارابي (٩٥١م) وابن سيناء (١٠٣٧م) وابن رشد (١١٩٨م) وهو الذي ألّف مثناة، الكتاب الذي يقنّن التوراة في ١٤ مجلدا وذكر في الباب العاشر أصول ديانة اليهود وهي ١٣ مادّة وما أكثر ما يشبه عقيدة الإسلام في التوحيد وصفات الرَّبُّ ما عدا قوله أن التوراة لا يحلّ محلها أي كتاب ولا هو قابل للزيادة أو النقص وأنّ المسيح النازل هو مسيح اليهود.

مات عام١٢٠٤م في مصر ونقل رفاته إلى طبرية فدفن هنالك. (١٩)

وقد أشادت به اسبانيا حيث أقامت له تمثيلا في قرطبة. وقد أقام المتحف اليهودي في فرانكفورت معرضا صغيرا عن حياة ابن ميمون وأعماله بمناسبة الذكرى الثمانمائة لوفاته وذلك في معرض الكتاب في فرانكفورت لعام ٢٠٠٤م.

وقد أظهرت فيه يهودية ابن ميمون وطمست استفادته من ذلك العصر الإسلامي الذي كان نقلة عظيمة في تاريخ الحضارة الغربية خصوصا والعالميّة عمومًا. (٢٠)

٨- النهضة العلمية في الأندلس وآثارها على أوروبا

اعتبر دير “كولوني Cluney” بالقرب من “بورغندي” Burgundy القريبة من باريس أكبر دير في أوروبا وقد أنشئ عام ٩١٠ م.

وحديثنا يتعلق بالراهب “بيتر” الموقر، ذلك الراهب الذي يعود إليه الفضل في إعداد أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة اللاتينية.

وقبل أن نتناول هذا الموضوع، نذكر خلفية هذا الراهب الذي كان على غير طريقة الرهبان بعقلية عسكرية من أمثال البابا “أربن الثاني” الذي دعا إلى الحروب الصليبية عام ١٠٩٥م لتحرير القدس من المسلمين.

هؤلاء الرهبان الذين كانوا يتبعون طريقة سلفهم “بينديكت” أصلا وعندما نتحدث عن بيتر لابّد من التطرق إلى العالم المسيحي “بيتر آبي لأرد” الذي كان أستاذا في مدرسة باريس(والتي تحولت إلى جامعة باريس فيما بعد) وكان شهيرا من أجل أفكاره واتجاهه الفلسفي القائم على موازين العقل فانصبّ عليه غضب البابا حيث اتّهمه بالبدعة وكان معرضًا لمحاكمة قاسية إلا أنَ رئيس دير”كولوني” المذكور أعطاه اللجوء في ديره عام ١١٤٠م وشفع له عند البابا بحجّة أن الرجل قد تحوّل إلى طريقة “بينيدكت”، ثم بقى يعالجه لسنتين إلى أن مات عام ١١٤٢م وعندئذ أقدم رئيس الدير على رحلته الشاقة من خلال جبال البرانس إلى طليطلة التي أصبحت آنذاك مركزا للمسيحية الاسبانية، فقد زارها أوّلا لنقل رفات “بيتر آبي لأرد” إلى عشيقته “Heloise” التي كانت تصغره بثمانية وثلاثين سنة والتي سمّت طفلها “بإسطرلاب”، ذاك الجهاز الحسابي المتميز الذي اكتشفه المسلمون لأجل الإطلاع على النهضة العلمية التي شهدتها “طليطلة” من اجتماع طلبة العلم هنالك وهم ينهلون من معارف المسلمين وعلومهم باللغة العربية رأسا ووجد هناك أستاذا إنجليزيا باسم “رابرت كيتون Ketton”.

كان منكبًا على دراسة الجبر والحساب من العلوم التي تنسب إلى رياضي مسلم شهير ألا وهو الخوارزمي من القرن التاسع الذي عرّف الغرب بالأعداد الهندية وخاصّة بإضافة “صفر”، الرقم الذي جهله الغرب آنذاك وطلب رئيس الدير ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، فاستجاب لطلبه ولم ينقل القرآن إلى اللاتينية فحسب بل ترجم الأحاديث وسيرة الخلفاء أيضا.

والرجل وضع كتابا عن الاسطرلاب أيضا وقد جاء به البابا “سلفستر” إلى أوروبا لأول مرّة. كما أصبح رئيس دير “كولوني” في تعريف أوروبا بالقرآن والأحاديث، وحتى لا يُتهم بإحداث بدعة في الدين بعث بهذه الترجمة إلى الراهب “برنارد” مؤسس طريقة الرهبان العسكريين (Knights Templar) لتحرير القدس، وكأنه يخيل إليه أنّه من الواجب أن تعرف ما لدى عدوك من العلم حتّى ترّد عليه.

وكان بيتر رجلاً سالمًا لا يدين بدين القتال، وكان يرى أنّ العلم غير مناقضٍ للمسيحية وكان يتوقع من “بيرنارد” أنّه سوف يتولى الردّ على عقيدة الإسلام بعد قراءة ترجمة القرآن.

وحيث لم يقم بأي عمل من هذا النوع تولّى “بيتر” لكتابة ردّه على عقيدة الإسلام على غرار كتابه السالف ردّا على عقيدة اليهود، علما بأنّه كان يعتبر اليهود والمسلمين “أهل كتاب” ومن أولاد إبراهيم عليه السلام، ولم يكن لديه من العداء السافر للمسلمين كما كان لدى أسلافه من الكنيسة الرومانية ومن الممكن أن يقال أنّه تسبّب في التقريب بين الكنيستين الرومانية والاسبانية.

وجدير بنا أن نذكر هنا الرياضي الإيطالي “ليوناردو فيبوناتشي” “Fibonacci” من “Pisa” الذي جاء بالأعداد العربية من الجزائر وضمّنه كتابه (Libra Abaci) أو كتاب أباكوس (Abacus)، وقد أثمرت هذه الجهود العلمية لكتابة الأرقام والقيام بعملية الحسابات الرياضية التي كانت عويصة جدّا على طريقة كتابة الأرقام بالإيطالية المعروفة آنذاك في سائر أوروبا.

وقد أخذت قرنا من الزمن حتى تكون مقبولة لديهم فشاعت وتعمّمت في القرن الثالث عشر أخيراً. (٢١)

وفي صقلية المسلمة التي سقطت بيد المسيحيين عام ١٠٣٨م نبغ “ميكائيل إسكات” الإسكتلندي الذي استّقر في هذه الجزيرة في عهد الملك فريدريك الثاني، واشتهر بترجمة كتاب ابن سينا (القانون) وبكتابه هو عن الحيوانات وعن اصطياد العقاب، ومن قبله الإدريسي الذي ألّف في الجغرافيا ونسب كتابه إلى الملك “راجر” جد فريدريك فعرف بكتاب “راجر”.

وقد عرف هذا الملك ومن قبل أجداده بملوك العمامة، التقليد الذي ورثوه من الأمراء المسلمين وقيل أنّ الملك فريدريك تمّ تتويجه في القدس عام ١٢٢٩م وقد سمح للآذان أن يرفع حيث كان برفقته عدد من المسلمين الذين أرادوا أن يقيموا صلاة الظهر وكان الملك بنفسه يتقن اللغة العربية تماماً.

ومات هذا العالم الاسكتلندي عام ١٢٤٦م و لم يفت “دانتي” أن يذكره في ملحمته بعنوان Inferno (النار المشتعلة).

ونعود إلى غرناطة ونرى في هذا العالم تحالفا بين أميرها محمد ابن يوسف ابن نصر ابن الأحمر وبين فرديناند الذي سقطت بيده قرطبة ثمّ أشبيلية، وخلفه ابنه ألفانسو العاشر الذي كان مهتما بالتراجم في وقت منعت جامعة باريس أي ترجمة لابن رشد وردّه على أرسطو لتأخذ سبيلها إلى رحاب الجامعة.

ومن المعلوم أنّ أرسطو اليوناني كان في طيّ النسيان إلى أن قام العرب بنقل فلسفته إلى العربية ثمّ صارت لابن رشد فرصة  توجيه سهامه الناقدة إليه فتلقتها بالقبول الأساتذة في باريس.

ومضى الملك ألفانسو بخطى حثيثة لتحويل طليطلة إلى مركز هام للترجمة واستبدل اللاتينية باللغة القشتالية التي حلّت محل سالفتها رويدا رويدا وتحققت في عهده ترجمة ألف ليلة وليلة وكتاب المعراج الذي كان مادة خصبة للشاعر “دانتي” المولود في (١٢٦٥م) لملحمته الشعرية.

ولا يفوتنا أن نذكر هنا ما خلفٌه المسلمين من أثار عظيمة في كل من قرطبة وطليطلة وإشبيلية من جوامع ومنارات وقصور ومحلات وما خلفوه من تراث في جميع جوانب العلم وخاصة في الطبّ والزراعة والحسابات الرياضية وفي الأدب والثقافة والتاريخ وناهيك عن العلوم الدينية التي ورثوها كابرا عن كابر.

وإنما لمحنا في هذه السطور تلك المنتجات التي قام بها غير المسلمين في عصورهم الزاهرة للاستدلال على ذلك الجو من التسامح الديني الذي ساعدهم في إبراز ما لديهم من عبقريات ومكنّهم من نقل علوم العرب إلى اللغات الأوروبية مثل أعمال ابن سيناء والزهراوي وابن رشد وابن الصفار وابن خلدون وابن جبير الرحالة وابن بشكوال.

وما كتاب دانيال ديفو بعنوان روبنسون كروزو إلا ترجمة لما جاء من معاني وأفكار لابن الطفيل في كتابة “حي بن يقظان”.

إنّ النصارى حتى في القرن الرابع عشر لم يكونوا بمنأى من العداء السافر لغيرهم من أصحاب الديانات فلمّا انتشر وباء الطاعون أو الموت الأسود في أوروبا ومات عشرون بالمائة من سكانها من جراء هذا الوباء قالوا إنّ الله يعذبهم لأجل وجود (الكفار) في صفوفهم، وفي عام ١٣٩١م نشبت اضطرابات طائفية في قشتالة المسيحية فقتلوا حوالي مائة ألف من اليهود وهرب من بقى منهم إلى الجنوب الذي لم يزل آنذاك بيد المسلمين.

وسقوط غرناطة -آخر معقل المسلمين في أسبانيا- عام ١٤٩٢م ختم على هذا العهد الزاهر الذي جمع في طياته أصحاب الديانات الثلاث لثمانية قرون في وئام وسلام وتوافق وتجانس ولم تستطع أسبانيا النصرانية تحمل الوجود المسلم أو اليهودي إلا لأيام معدودات وأدى سلوكهم المشين وغدرهم لاتفاقية الصلح التي أبرمها الأمير أبوعبدالله مع الفاتحين الملك فرديناند والملكة إيزابيلا إلى أن تلاشى فيها وجود أي دين آخر مع نهاية عام ١٦١٥م.

وهنا يجب أن نقف ونتدبر لنعرف ماهر السر الذي كان وراء هذا التسامح الديني الذي اتّسم به العهد الإسلامي في الأندلس. قرأنا عن حركة الاستشهاد لدى النصارى في بداية الحكم الإسلامي لأجل استثارة العواطف الدينية لدى أصحاب ملتهم فيقوموا بثورة عارمة ضدّ المسلمين، ورأينا كذلك تحالفا بين عناصر يهودية مع ملوك الشمال المسيحي من وقت لأخر ضدّ المسلمين أيضا، ومع ذلك بقي أصحاب الأديان الثلاث يعيشون  بتلاحم تحت الحكم الإسلامي، الأمر الذي لم يشهده التاريخ قبل مجيء المسلمين إلى برّ الأندلس عام ٧١١م إلى أفول نجمهم عام ١٤٩٢م.

إذًا، أليس السر هو انطلاق المسلمين – بخصوص سلوكهم لغير المسلمين – من تعاليم إسلامية صافية تدعو إلى احترام الرعايا من أصحاب الديانات الأخرى، وخاصة ما تتعلق بحقوق أهل الذمّة.

ولم يكن يتمتع اليهود في ظلّ الحكم الإسلامي بالأمن والأمان لولا هذه الشريعة السمحاء التي حملها المسلمون إلى أرض أوروبا، فتمسكوا بتعليماته بخصوص أهل الذمة حتى في أحلك أزمانهم من ناحية تقصير في الدين، وضعف في السلوك، وتشتّت في الولاء، وتنازع على الحكم وتساب إلى زهرة الحياة الدنيا.

وقد حصل منهم إخلال من وقت لآخر أو تقصير من فئة إلى فئة ولكنه لم يكن لهذا الحجم حتى يُضرب به المثل كالذي قام به فرديناند وإيزابيلا وأخلافهم الذين ملكوا زمام الأمور بعدها.

ولننظر في الفصل القادم إلى تلك المثل العليا التي أرساها نبي الإسلام وخلفاؤه من بعده وأتباعه عبر القرون لتوطيد هذه الدعائم لتكون نبراسا يهتدى به في الأزمان للتعايش السلمي بين الشعوب والتسامح الديني بين أتباع المذاهب والأديان وعلى الله قصد السبيل ومنها جائز.

الفصــــــل الثاني

أسس التسامح الديني في الإسلام

لماذا يقوم قس حاقد على الإسلام بعملية إحراق المصحف في فلوريدا عام ٢٠١٠؟

أليس هذا من قبيل “الناس أعداء لما جهلوا

إنّ هذا القسيس لو قرأ القرآن بتدبّر وإمعان لأشاد بالتعليمات التي جاء بها القرآن ولما أقدم على هذا العمل المشين.

أليس كل ما ينادي به منظمات حقوق الإنسان نادى بها القرآن قبل أربعة عشر قرنا؟

هو القرآن الذي قرّر مبدأ المساواة الإنسانية بقوله: “أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء“. (سورة النساء : الآية ١)

ولم يذكر التكرم للمسلمين فقط بل إنا عمّمه لجميع البشر حيث قال: “ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” (سورة الاسراء : ٧٠)

وإنما دعا إلى توحيد الله عز وجل ونبذ الشرك ومظاهره حتى يتمّ هذا التكريم لبني آدم فلا يذلّون أنفسهم أمام حجر أو شجر أو صنم أو تمثال أو لعبد من العباد من أمثالهم.

و وضع القرآن مبدأ التعامل بين الشعوب والقبائل فقال:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“. (الحجرات : ١٣)

وجعل القسط والعدل هو الميزان الذي يتعاملون بهما ولو كان هناك عداء بين الأطراف فقال:

” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المائدة : ٨)

والقرآن مليء بالآيات التي تحرّم الظلم بشتى أنواعه وقد تهدّد بالعقاب الصارم على الظالمين والمعتدين، كآخر آيات من سورة إبراهيم عليه السلام. وهو إذ يبيح القتال دفاعا عن النفس أو درءا للشرّ لا يأذن بقتال غير المحاربين حيث قال:

“وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ“(سورة البقرة : ١٩٠)

أمّا قتل نفس بشرية بغير حق فلا يجوّزه القرآن بتاتا وقد عبّر بهذه الجريمة النكراء بأحسن عبارة وردت في أيّ كتاب سماوي حتى ضرب به المثل فقال:

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا” (سورة المائدة : ٣٢)

وقد تعامل مع قضية الرقّ التي كانت سائدة في مشارق الأرض ومغاربها عند نزول القرآن بحيث تؤدّي إلى تجفيف منابع الرقّ وتكثير طرق القضاء عليها تدريجيًّا.

وصرّح القرآن بدون غموض أو اشتباه على عدم الإكراه على تقبّل دين دون آخر فقال: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ“. (البقرة : ٢٥٦)

وقال: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ“. (سورة يونس : ٩٩)

ويا ليت هذا القسّ قرأ سورة مريم وغيرها من السور التي تمجّد عيسى عليه السلام وأمّه وتصفهما بأسمى الصفات وأنبل الأخلاق، فلذلك لا يتصوَّر مسلم أن يمسّهما بأذى لا كلاما ولا كتابة.

هذا ما كان من أمر القرآن الكريم وأمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلّم فحدّث عنه ولا حرج.

ويا ليت هذا الرسّام في صحيفة “يولاند بوست” الدنماركية ومن تبعه من أتباعه في باريس اطلعوا على سيرة هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلّم ومعاملته لغير المسلمين وخاصّة أهل الكتاب منهم لَما تجاسروا على ارتكاب هذه الفعلة الشنعاء برسم كاريكاتيرات تستهزئ بهذه الشخصيّة الفذّة الذي هو من أَعزّ الناس لدى مليار و ربع مليار سكّان هذه المعمورة.

يا ليتهم قرؤوا كيف لامَ الرسول أبا ذرّ رضي الله عنه عندما خاطب بلالاً يناديه فيقول:”يا ابن السوداء، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : إنّك امرؤ فيك جاهليّة….(٢٣)

وكيف أنّ الرسول قد أرسى قواعد السّلم والمصالحة في وقعة صلح الحديبيّة فآثر السلم على الحرب والهدنة مع الكفار على المجابهة والقتال. ولمّا زاره وفد من أهل ديانة النصارى من نجران سمح لهم بالصلاة في المسجد فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم. وتضمّنت وثيقة معاهدته مع نصارى نجران هذه النصوص التي تدل على سماحة الإسلام مع دينهم: “ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمّة محمد النبيّ رسول الله على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغيّر أسقُف من أسقُفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته”. (٢٤)

“ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا فيما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليهم غير متقبلين بظالم ولا ظالمين” (٢٥)

وليس أدل على سماحة الإسلام معاملته الحسنى مع النصارى من هذا العهد الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا الملّة النصرانية بأجمعها وقد عُثر عليه في دير الطور بمصر وننقله بكامله لندرته وأهميته وهي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم ٨١٤ وجاءت صورة هذه النسخة الطورية سطرا بسطر وحرفا بحرف كالتالي: (٢٦)

“بسم الله الرحمن الرحيم” وبه العون..

نسخة سجل العهد كتبه محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة النصارى.

هذا كتاب كتبه محمد بن عبد الله إلى كافة الناس أجمعين بشيرا ونذيرا ومؤتمنا على وديعة الله في خلقه لئلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما، كتبه لأهل ملته ولجميع من ينتحل دين النصرانية من مشارق الأرض ومغربها، قريبها و بعيدها، فصيحها وعجمها، معروفها ومجهولها: كتابا جعله لهم عهدا، فمن نكث العهد الذي فيه وخالفه إلى غيره وتعدّى ما أمر كان لعهد الله ناكثا ولميثاقه ناقضا وبدينه مستهزئا وللّعنة مستوجبا، سلطانا كان أم غيره من المسلمين المؤمنين وإن احتمى راهب أو سائح في جبل أو واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل أو ردنة أو بيعة فأنا أكون من ورائهم، ذّاب عنهم من كل عدّة لهم بنفسي وأعواني وأهل ملّتي وأتباعي، كأنهم رعيتي وأهل ذمّتي وأنا أعزل عنهم الأذى في المؤن التي يحمل أهل العهد من القيام بالخراج، إلا ما طابت به نفوسهم وليس عليهم جبر ولا إكراه على شيء من ذلك ولا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سائح من سياحته ولا يهدم بيتا من بيوت كنائسهم وبيعهم ولا يدخل شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المسلمين، فمن فعل شيئا من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله.

ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبّد جزية ولا غرامة وأنا أحفظ ذمّتهم أينما كانوا، من برّ وبحر في المشرق والمغرب والشمال والجنوب.

وهم في ذمّتي وميثاقي وأمانى من كل مكروه وكذلك من ينفرد بالعبادة في الجبال والمواضع المباركة، لا يلزمهم ما يزرعوه، لا خراج ولا عشر، ولا يشاطرونه لكونه برسم أفواههم  ويعانوا عند إدراك الغلّة بإطلاق قدح واحد من كل إردب برسم أفواههم ولا يلزموا بخروج في حرب ولا قيام بجزية ولا من أصحاب الخراج وذوي الأموال والعقارات والتجارات مما أكثر (من) اثني عشر درهم بالحجّة في كل عام ولا يكلف أحدا منهم شططا ولا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم أدب المكروه حيثما كانوا وحيثما حلّوا وإن صارت النصرانية عند المسلمين فعليه برضاها وتمكينها من الصلوات في بيعها ولا يحيل بينها وبين هوى دينها ومن خالف عهد الله واعتمد بالضدّ من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله ويعانوا على مرمة بيعهم ومواضعهم ويكون ذالك معونة لهم على دينهم ومعا (وفقا وفاءا) لهم بالعهد ولا يلزم أحدا منهم بنقل سلاح بل المسلمين يذبّوا عنهم ولا يخالفوا هذا العهد أبدا إلى حين تقوم الساعة وتنقضي الدنيا.

وشهد بهذا العهد الذي كتبه:

محمد بن عبد الله

رسول الله صلى الله عليه وسلم لجميع النصارى والوفاء بجميع ما شرط لهم عليه من اثبت اسمه

وشهادته آخره

علي بن أبي طالب                  أبو بكر بن أبي قحافة

عمر بن الخطاب                   عثمان بن عفان

أبو الدرداء                           أبو هريرة

عبد الله بن مسعود                  العباس بن عبد المطلب

فضيل بن عباس                    الزبير بن العوام

طلحة بن عبد الله                    سعيد بن معاذ

سعد بن عبادة                       ثابت بن نفيس

زيد بن ثابت                        أبو حنيفة بن عبيّة

هاشم بن عبيّة                      عبد العظيم بن حسن

عبد الله بن عمرو بن العاص      عمار بن ياسر

وكتب علي بن أبي طالب هذا العهد بخطه في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم  بتاريخ الثالث من محرم ثاني سني الهجرة وأودعت نسخة في خزانة السلطان وختم بخاتم النبي وهو مكتوب في جلد أديم طائفي فطوبى لمن عمل به وبشروطه ثمّ طوباه وهو عند الله من الراجين عفو ربّه والسّلام. (٢٧)

هذا وما تعهد به النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهود عند قدومه إلى يثرب محفوظ في السطور ولم يكن إجلاءهم، القبيلة  بعد القبيلة إلى خيبر واذرعات إلا بعد غدرهم للعهد ونكوثهم للمواثيق ونزولهم إلى حكم الرسول صلى الله عليه وسلم ثمّ إن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بيان صريح صارخ لعدد من حقوق الإنسان ومنها ما يتعلق بالنفس وبالمال وبالعرض وأما تصريحاته بحقوق أهل الذمة فهي كثيرة نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم:

من ظلم معاهدا أو انتقصت حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة“. (٢٨)

وقوله صلى الله عليه وسلم:”من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإنّ ريحها لتوجد من سبعين عاما” (٢٩)

وقوله صلى الله عليه وسلم: “من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما“(٣٠)

وأما سيرة الخلفاء الراشدين، وأخص بالذكر سيدنا عمر رضي الله عنه, فتتجلّى فيها روائع من أقواله وأفعاله لتبرهن على سماحة الإسلام تجاه أهل الكتاب. سيدنا عمر رضي الله عنه عندما قدم إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة من سفريانوس الأسقف كتب لهم هذا الأمان:

“بسم الله الرحمان الرحيم،

 هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من غيرها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود.

وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتّى  يبلغوا مأمنهم ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ومن أحبّ من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.

ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد وعليه ما على أهل إيليا من الجزية. ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، وإنه لا يأخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية”. (٣١)

هذا وقد بلغ من تعففه أن رفض إقامة الصلاة في كنيسة القيامة وكان في داخلها وسمح له الأسقف بالصلاة أيضا بل خرج منها وصلّى بالخارج وقال له لو صليت داخل الكنيسة لأخذها المسلمون بعدي وقالوا: هنا صلّى عمر. (٣٢)

وروى أبو يوسف في كتاب الخراج: أن عمر مرّ على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له  إنهم أقيموا في الجزية فكره ذلك وقال: هم وما يعتذرون به قالوا: يقولون: لا نجد قال: دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون ثم أمر بهم فخلّى سبيلهم. (٣٣)

وروى يحيى بن آدم في كتاب الخراج أن عمر لما تدانى أجله أوصى من بعده وهو على فراش الموت بقوله:

“أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة وأن يوفّى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم وألاّ يكلّفهم فوق طاقته”.(٣٤)

وللقائد عمرو بن العاص فاتح مصر معاهدة على غرار بيت المقدس أبرمها مع أقباط مصر.

وقد سبق أن تحدثنا بالتفصيل عن معاملة الأمراء المسلمين وخلفائهم في الأندلس لأهل الكتاب في تلك الديار. وبعد سقوط غرناطة عام ١٤٩٢م لم يجد اليهود ملجأ آمنا يلجؤون إليه كما وجدوا في بلاد يحكمها المسلمون في المغرب الأقصى وفي مصر وفي الدولة العثمانية خاصة.

إنّ الكاثوليك لم يضطهدوا اليهود فقط بل اضطهدوا من هم على غير طريقتهم من المسحيين أنفسهم مثل أتباع الكنيسة الشرقية ولكنهم وجدوا كل العناية والإكرام من قبل السلطان محمد الفاتح بعد أن سقطت قسطنطينية عاصمة البيزنطييين في يده عام ١٤٥٣م. فنصب على طريقة “مِلّت” ثلاثة رؤساء لكل الكنائس الثلاثة الكبار، فبطريق لكنيسة الأرثودوكس أو الكنيسة الشرقية، وبطريق لكنيسة الأرمن ويشمل اليعقوبية في الشام والأقباط من مصر والنسطوريين من أناطوكية وبطريق للكاثوليك بعد أن امتدّ سلطان العثمانيين إلى دول في غرب أوروبا”. (٣٥)

وجد اليهود كلّ الرعاية أيضا فكان منهم أطباء للعائلة المالكة وكان منهم من وصل إلى مناصب إدارية حسّاسة في الدولة، وجاء في تقرير نشر في باريس عام ١٨٩٣م بواسطة التحالف الإسرائيلي العالمي ما يلي:

“ولكن لم يكن من بين العدد القليل من البلدان، حتى بين تلك التي تعتبر الأكثر استنارة وحضارة تمتع فيها اليهود بمساواة كاملة سوى تركيا وقد أظهر السلطان عبدالحميد الثاني والحكومة التركية (الباب) تجاه اليهود روحا تتسم بقدر عال من التسامح والليبرالية.(٣٦)

ولمؤلف كتاب (الكنيسة  الأرثوروكس)  “تيموثي وير” هذه الكلمات التي سجلها اعترافا بسماحة الأتراك تجاه المسيحيين بعد أن سقطت القسطنطينية بأيديهم فقال:

It was not an easy transition but it was made less hard by the Turks themselves who treated their Christian subjects with remarkable generosity. The Mohammadans in the fifteenth century were far more tolerant towards Christianity than western Christians were towards one another during the reformation and the seventeenth century. Islam regards the Bible as the holy book and Jesus Christ as a prophet; in Muslim eyes, therefore the Christian religion is incomplete but not entirely false, and Christians, being “People of the Book”, should not be treated as if on a level with mere pagans. According to Mohammadan teachings, Christians are to undergo no persecution, but may continue without interference in the observance of their faith, so long as they submit quietly to the power of Islam. (٣٧)

“إنه لم يكن تحولا سهلا ولكن الأتراك جعلوها أخفّ وطأ حيث عاملوا رعاياهم المسيحيين بسماحة متميزة. إنّ المحمّديين في القرن الخامس عشر كانوا أكثر تحمّلا للمسيحيين الغربيين أنفسهم لبعضهم البعض خلال عصور الإصلاح وفي القرن السابع عشر.

الإسلام يرى الإنجيل كتابا مقدّسا والمسيح نبيا، ومن ثمّ الدين المسيحي في أعين المسلمين دين ناقص ولكن ليس باطلا كلّيا، والمسيحيون لأنّهم أهل كتاب يحب ألاّ يعاملوا معاملة عبدة الأوثان. وحسب تعليمات محمد، يجب ألاّ يضطهد المسيحيون ويجوز لهم أن يستمروا في ممارسة عقائدهم بدون أيّ تدخّل ماداموا يستسلمون لقوّة الإسلام بهدوء”.

غير أنّ الكاتب وهو خريج جامعة أكسفورد، يصعب عليه تفهّم وضع الجزية على أهل الكتاب وبأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهذا موضوع أقض مضاجع كثير من الكتّاب الغربيين وما استطاعوا أن يربطوا بين إعفاءهم من واجبات الجندية والقتال لقاء ضريبة تافهة يدفعونها إلى بيت مال المسلمين بينما يطالب المسلم بإعطاء زكاة على جميع أمواله التي فاضت عن حاجته ومع ذلك مطالب بحمل السلاح دفاعا عن الوطن.

ولا مقارنة بين ما ارتكبته الكاثوليك تجاه اليهود والمسلمين في أعقاب سقوط دولة الأندلس المسلمة من خلال محاكم التفتيش وما ارتكبته الفرق المسيحية بعضهم ضدّ البعض وبين ما حصل بأيدي المسلمين من أذى تجاه المسيحيين أو اليهود في بعض الأوقات لا من أجل اختلاف عقائدي بل من أجل غدر وخيانة منهم أنفسهم كما أشرنا إليه سابقا.

ونشير إلى حادثة واحدة معروفة باسم معركة “سانت بارت لمي” التي هي أكبر دليل على التعصب الديني الممقوت لدى المسيحيين، وهذا ما وقع:

وقعت معركة “سانت بارت لمي” في القرن السادس عشر في عام ١٥٧٢م على التحقيق وفقدت فرنسا بها زهرة رجالها من أهل العقل والفطنة والحرية والعلم والصناعة ويعزى المؤرخون سبب هذه المجزرة إلى الحقد الديني في أقصى أشكاله، وذلك إنّه لمّا ظهر المذهب البروتستانتي في ألمانيا في أوائل القرن السادس عشر وامتدّ منها إلى سائر ممالك أوروبا أصاب فرنسا منه جانبا هامّا فقد انحاز إلى البروتستانتية كل من كان ناقما على سلوك الكنيسة البروتستانتية أنذاك.

وكانت البروتستانية في الواقع ثمرة العلم الإسلامي الذي تدافع إلى أوروبا وأنشأ جوا من حرية الضمير وحرية البحث.

لم يرق في عين الملكة “كاترين دوق سي” أم ملك فرنسا شارل التاسع أن تنتشر البروتستانتية فعزمت على إحداث مقتلة عامة تكون سببا في إفناء البروتستانت الفرنسيين وقطع دابرهم أجمعين وكانت يد الكنيسة الكاثوليكية وراء تدبير هذه المكيدة العظيمة في ٢٤ أغسطس١٥٧١م.

فلما دقت الكنائس أجراسها كان ذلك إشارةً إلى الجنود والمتطوعين بالبدء في الفتك بالبروتستانت فداهموا بيوتهم وفي أيديهم المشاعل تضيء لهم الطريق في الليل الدامس، وأخذوا يفتكون بأولئك الأبرياء مرتكبين من القسوة والوحشية ما يندر مثله في تاريخ البشر حيث بقروا بطون الحوامل وأخرجوا الأجنة ثم ألقوها للكلاب والخنازير وكانوا يسلمون الأطفال الذين في المهد الصغار الذين في سن العشر سنين من أولاد الكاثوليك ويأمرون بقتلهم حزّا من أعناقهم في أسواق باريس ولم يزالوا كذلك حتى سالت شوارع المدينة بالدماء وعجّت الأصوات إلى السماء.

وتكرر حدوث مثل هذا في كثير من مدائن فرنسا. ومن أعجب ما وقع أنّ الكنائس دقت مرّة أخرى في اليوم التالي فظنّ أتباع الحقد الديني بأنّ ذلك أمرا مجردا باستئناف القتال فأنحوا على إخوانهم قتلا ونهبا وتمثيلا بأشدّ مما فعلوا بالأمس واستمرّت المجزرة إلى اليوم الثالث وبعده ثم استحالت إلى مذابح فردية طوال شهري سبتمبر وأكتوبر في باريس وغيرها. (٣٨)

نختم هذا البحث بالفصل الثالث وهو الفصل الأخير لإبراز النقاط الهامة التي نحن في حاجة إليها بغية التعايش السلمي في الوقت الحاضر.

الفصـــــــل الثالث

التعايش السلمي في القرن الحاضر

من كان يعيش في أوروبا قبل أربعين سنة أو حتى قبل ثلاثين سنة، ما كان يدرك مصطلحات مثل الاندماج أو الذوبان في المجتمع المضيف، إنما كان يعيش مهتمّا بعمله، مربيّا لأولاده، عاملاً بمقتضيات دينه إذا كان متدينا أو منسجما مع أقرانه في عاداتهم وتقاليدهم إذا كان متهاونا.

ولكن الأمر اختلف تماما في السنوات الأخيرة فكثر الحديث عن الاندماج وصار الصخب على كثير من المصطلحات الإسلامية مثل الجهاد والشريعة والذبح الحلال والحجاب كما بدأ، في الصحف والإعلام ربط الإسلام بالتطرف والإرهاب.

فكيف آل الأمر إلى هذا الحال؟

ظهرت هناك تحليلات متعددة لهذه الظاهرة ولكنّنا انطلاقا من منظور إسلامي ندرك ما هو جليّ ظاهر وإن كان خفيا مستورا لدى الآخرين.

كان سقوط النظام الشيوعي، ماديا وعسكريا، في جبال أفغانستان الوعرة بمثابة نصر للنظام الرأسمالي وعلامة للهيمنة الأمريكية وسياستها المتفوقة كما أنها ظهرت كقوة وحيدة لا منافس لها في العالم.

ولم يكن الغرب يحلم بأنّ جهوده في تقويض أركان الشيوعية ستسفر عن حكم إسلامي في أفغانستان ينادي بتحقيق شريعة السماء على أنقاض القانون الوضعي وتعزز من مكانة الجهاد في قلوب الشباب والعودة إلى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فقامت رؤوسهم ففكرّوا وقدّروا ثم فكروا وقدّروا فجاءوا بالحادث المفتعل، حادث الحادي عشر من سبتمبر عام٢٠١١م ليكون مبررا لضرب أفغانستان وإلقاء درس قاس لمن يحلم بالكلام عن الشريعة والإسلام وبما أنّ لكل حادث ردّ فعل ولكل سفاهة من هو أشدّ منها سفاهة حسب تعبير لشاعر جاهلي:

ألا لا يجهلن أحد علينا                    فنجهل فوق جهل الجاهلينا

جاءت حركات عدّة إرهابية في عدد من عواصم الغرب والشرق مما حيرت العقول وقد تبرأ منها عقلاء المسلمين وعامتهم غير أن بسط نفوذها إلى داخل العواصم الغربية كان منذر شرٍّ مستطير، وصارت المجتمعات المسلمة الآمنة الوادعة في أوروبا وأمريكا عرضة للاتهام وصارت عقائدهم ومناهجهم موضع نقد وملام وإذا بالغرب يرى إلى وجودهم المتزايد يوما بعد يوم إمّا من أجل التوليد أو من أجل الهجرة، نظرة ارتياب، ولأول مرّة في تاريخ الغرب عرف مصطلح “إسلاموفوبيا” فصار الحديث عن الإسلام والمسلمين – بطريق سلبي ممقوت -من أكثر المواضيع تداولا لدى الصحف والإعلام وفي دوائر السياسيين والقادة ورؤساء الأحزاب.

ثم صارت هناك أبحاث واستنتاجات عن المجتمعات المسلمة في الدول الغربية وتصنيفها من حيث الأصولية والراديكالية والمستنيرة وغير المستنيرة.

كما صار هناك نقاش حول مدى اندماجهم في المجتمعات الغربية ولا يخفى أنّ هناك تراث من الحقد والعداوة منذ الحروب الصليبية في المجتمعات الأوروبية خاصة تجاه الإسلام والمسلمين وهو يرفع رأسه من حين لآخر، إمّا تعاطفا مع كلّ من تصدى بالفتك بأعز مقدسات الإسلام كمناصرتهم لسلمان رشدي عام ١٩٨٨م عندما سطّر هذيانه على صفحات كتابه “الآيات الشيطانية” وإما تشجيعا لكل عمل تنتقص بحرمات الإسلام ونبيّه كعمل الرسّام الدانمركي ثم الرسّامين الفرنسيين وإشادتهم بفيلم “الفتنة” في هولندا ومحاولة القسّ الأمريكي لإحراق المصحف، وصدق من قال – حسب عديد من تقارير رسمية حكومية  في أوروبا وأمريكا- أنّ ظاهرة الإسلاموفوبيا قد انتشرت انتشارا كبيرا فاق انتشار الإساءات العنصرية.

وصارت الحكومات الأوروبية تتنبّه للمظاهر والتقاليد الإسلامية كأنّها خطر على ثقافتها وأقدارها ومن هنا جاءت تخطيطات من قبل الحكومة السويسرية لمنع الأذان من المآذن وحظر الحجاب داخل المكاتب والجامعات من قبل الحكومة الفرنسية واتخاذ تدابير ضد الراديكالية من قبل الحكومة البريطانية.

ولا يسعنا مع هذا إلا أن نعترف بأن هناك دائما أصواتا من قبل عقلاءهم والراشدين منهم تنادي بفضل الإسلام وتنصف النبيّ والقرآن.

قال المفكّر فيلسوف الفرنسي الكبير جاك بيراك، والذي كان أيضا مؤرخا ومختصا بارزا في علم الاجتماع قبل وفاته سنة ١٩٩٥م:

“حان الوقت للفكر الغربي المعاصر ليدمج الإسلام في إطار سياق حق، وذلك لكي لا يظلّ يعتبر كالأخ المهمّش أو ذلك المجهول العظيم، يمكن للفكر الغربي أن يستفيد الكثير من خلال فتح أبوابه لهذا الدين العظيم”. (٣٩)

وما أجمل ما قاله الأمير تشارلز في كلمته التي ألقاها في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية: “لقد أغفلنا أهمية ٨٠٠ سنة سادت خلالها الثقافة الإسلامية في إسبانيا بين القرنين الثامن والخامس عشر، حيث لم تقتصر إسبانيا الإسلامية حينها على تجميع المنظومة الفكرية للحضارتين اليونانية والرومانية وصونها فحسب، بل انكبّت أيضا على تفسير وتعميق هاتين الحضارتين، وساهمت مساهمة محورية في العديد من حقول المعرفة الإنسانية، بما في ذلك علوم الفلك والرياضيات والجبر (وكلمة “جبر” لها جذور عربية) والقانون والتاريخ والطب وعلم الصيدلة وعلم البصريات والزراعة والهندسة المعمارية وعلم اللاهوت والموسيقى.

إنّ ما تفخر به أوروبا اليوم في عدّة مجالات قد نهلته من إسبانيا الإسلامية: فنّ الدبلوماسية والتجارة الحرة والحدود المفتوحة وأساليب البحث الأكاديمي وعلم الإناسة أو ما يعرف بالأنثروبولوجيا والآداب وتصميم الأزياء والطبّ البديل والمستشفيات”. (٤٠)

إن الإسلاموفوبيا تكمن في عدّة شبهات، الأحرى أن تسمى إشاعات وهي التي سارت لها رواج على السنة الغربين وصحافتهم وإعلامهم وقد ذكرها الصحافي دايف ساندرز الأمريكي في كتابه أسطورة صعود الموج المسلم (The Myth of the Muslim Tide) ثم فندها واحدة واحدة ونذكر بعضها حتى تكون ماثلة أمام العيان.

١- لا يأتي القرن الحادي والعشرين إلا وصار المسلمون أكثرية في أوروبا لتصبح يوروبيا.(Eurabia)

٢ –  إن المسلمين يوجد لديهم نسبة عالية من التوليد من جراء عقيدتهم.

٣-   اللاجئون والمغتربون من المهاجرين سوف يكونون أكثر توليدا من غيرهم من السكان قريبا.

٤-   ستصبح الأكثرية من المهاجرين إلى الغرب ممن يدينون بدين الإسلام.

٥-   هؤلاء المسلمون لا يزالون يكنون الولاء لدينهم أو أقطارٍ ولدوا فيها.

٦-   أنهم يعيشون في مجتمعات خاصة بهمم موازية للسكان الأصلين.

٧-   توجد لديهم ظاهرة الغضب على من حولهم من الناس.

٨-   لا تجد حادثا من حوادث الإرهاب إلا ورحبوا وأشادوا بها.

٩-   تراهم ينظمون أمورهم العائلية بطريق محاكم الشريعة الخاصة بهم.

١٠ –  ينادون بتطبيق الشريعة على غيرهم من المواطنين.

١١-   ليس الإرهاب إلا نتيجة طبيعية للأصولية الموجدة لدى المسلمين.

١٢-   ومع تزايد عددهم ينمو التطرف والإرهاب في صفوفهم أيضا.

١٣-  صار المجتمع الغربي العلماني الاشتراكي المعتمد على الرعاية العامّة عاجزا من الإنتاج ومقاومة الإسلام ليحلّ محلّه.

١٤-  المهاجرون المسلمون يستوحون أفكارهم من دين يعتبر عندهم مبدأ أكثر من أن يكون عقيدة روحية. (٤١)

وهناك كتاب آخر بعنوان: “من يتكلّم باسم الإسلام” (Who speaks for Islam) للكاتبين جان. ل. اسبيسيتو John L Esposito وداليا مجاهد يعالج نفس الموضوع ويذكر من هذه الشائعات ما يلي:

١-   المسلمون هم المجرمون.

٢-   مستقبل أوروبا هو يوروبيا.

٣-   إنهم يكرهوننا من أجل حريتنا.

٤-   نحن شهداء على صراع الحضارات.

 ثم يقوم بتفنيدها أيضا. (٤٢)

ويبقى السؤال في محله، ماهو الطريق الصحيح للمسلم من أجل التعايش السلمي في أوروبا؟

من المفكرين من يذكر هذه الاتجاهات الثلاثة:

الانعزال تماما​. (ISOLATION)

التطابق. (ADAPTATION)

الاندماج في المجتمع الغربي تماما. (INTEGRATION)

ونحن عندما نرفض الطرفين من هذه الاتجاهات الثلاث ونرى التطابق هو الطريق القويم مع الحفاظ على ثقافتنا وأقدارنا ومتطلبات ديننا الحنيف نريد أن نؤكد على هذه النقاط العشرة التي تمهّد الطريق إلى تصحيح الأوضاع وتحسين العلاقات بين مختلف الجاليات والحفاظ على مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا:

١-   الحوار بين الأديان: في جو ممتلئ بالمفاهيم الخاطئة عن الإسلام وبالأغاليط التي تعجّ بها الكتب والصحائف والإعلام، ليس هناك سلاح يقود إلى برّ الأمان والسّلام مثل الحوار الهادف النزيه مع المسيحية واليهودية خاصة في أوروبا وأمريكا، ومع الهنادك والسيخ في الهند ومع البوذية في جنوب شرق آسيا.

إنّ الحوار دعا إليه القرآن وعمل به الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة من بعده وعلماء المسلمين على مرّ الدهور وكرّ العصور، ويحتاج الحوار إلى نيّة صادقة وإخلاص وسماحة حتّى يؤتى نتاجه ويثمر ثمره.

إنه على الأقل يقرّب البعيد ويمهّد السّبيل للتعاطف والتراحم، وقد سبق لهذا الكاتب أن يشارك في عدّة حوارات مع القساوسة وعلماء اليهود فرأيت منهم –على الأقل- رغبة في معرفة ما عند الآخر من آراء وأفكار وإبداء لما لديهم من شكوك وشُبهات بخلاف السياسيين الحاقدين على الإسلام الذين لا تتّسع صدورهم للاستماع إلى ما لا يروقهم ولا ينسجم مع خطّتهم. ونرى أنّ الأمم في حاجة إلى “حوار بين الحضارات” لا إلى “صراع بين الحضارات”، فإنّ الأخير فكرة خاطئة وإلاّ كيف تفسّر الاضطرابات الطائفية في أمريكا ضدّ السود (اضطرابات واتس) عام ١٩٦٥م، أليست داخل حضارة وحدها؟

٢-  مقاومة الإعلام الداعي إلى الكراهية ضد الإسلام والمسلمين: الإسلاموفوبيا ظاهرة قديمة شهدتها أوروبا منذ عصور الحروب الصليبية إلاّ أنّها صارت ظاهرة للعيان في العصر الحاضر.

أليس من العجب العجاب أن نقرأ عن “كريستوفر كولومبس” الذي قام برحلاته إلى الأرض الجديدة، أمريكا، بمباركة من ملوك إسبانيا الجدد بعد سقوط غرناطة أنّه كتب في وصيّته أن جميع أرباحه من تجارته يحب أن تبذل في تحرير القدس. (٤٣)

وإنّ الكتب التي ألّفت في القرون المتلاحقة بعده، بما فيها تراجم القرآن الكريم، لم تكن لتنصف الإسلام بل كانت تضفي إليه ما يكدّر الصفو وتخطئ الحقائق وتنمّي الحقد والكراهية، هذه الكتب التي كانت تسمّي الإسلام  “بالمحمدية ” وتنسب إلى نبي الإسلام أساطير وخرافات ما عليها دليل ولا برهان.

قالوا عن اشتباكاتهم مع المهدي وأنصاره في القرن التاسع عشر في أرض السودان إنها كانت ضدّ الكفّار(Infidals)، وقالوا إنّ الإسلام انتشر بالسيف وأهان المرآة وهضم حقوقها إلى غير ذلك من عشرات بل مئات الكذبات التي روّجوها فوجب على علماء المسلمين ومفكريهم دحض هذه الشبهات على جميع المستويات وخاصّة ما يروّجه الإعلام. وقد أصاب من قال إنّ الإعلام هو أكبر روافد حملات الإساءة ضدّ الإسلام.

إنّه أباح لنفسه المساس بكرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند رسم كاريكاتيرات بحجّة حرية التعبير ولكن ناقضوا أنفسهم عندما تجفّ أقلامهم إذا ذكر”الهلوكوست” أو “السامية” أو حتى “المسيح” نفسه.

وما هذه الحرية التي ليس لها قيد؟

ومن المعروف أنّ كل حريّة ترتبط مع مسؤولية، فإذا خلت عنها ولدت الكراهية وهي بدورها تؤدي إلى إثارة موجات الفساد والهلع والاضطراب ولا حول ولا قوة إلا بالله.

٣-  هناك قوانين في كل بلد للمرافعة ضدّ إثارة الكراهية حول شخص معين أو جنس عرقي خاص ولكن لا يتناول الكراهية ضدّ دين من الأديان أو ضدّ الرموز المقدّسة. فلذلك من الضروري إثارة هذه المسألة بالمنظمات الدولية مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والجمعية العامّة للأمم المتحدة واليونسكو ويخبرنا السيد كمال الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي السابق أنهم فعلا رفعوا هذه المسألة لديها ولدى غيرهم من المجالس وتكللت جهودهم بالنجاح عندما وافقت كل من منظمة التعاون الإسلامي والدول الغربية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة على القرار رقم ١٦- ١٨ الصادر في مارس عام ٢٠١١م  لحماية المسلمين ومعتنقي الديانات الأخرى من حملات الإساءة التي تستهدفهم. (٤٤)

٤- لا تزال المناهج المدرسية في الغرب تنقصها الدقّة والصحّة عند الكلام على الإسلام وهذا الذي يجعل الطالب ينشأ في عماية تامة عن إشراقة الإسلام وصورته النبيلة. هي تتحدّث مثلا عن تصوّر الألوهية في الإسلام فتخطئ في صفاته وأسمائه وتتحدث عن القرآن فتجعل اليهودية والمسيحية من مصادره وتتحدث عن نبي الإسلام فتنسب إليه أساطير ما أنزل الله بها من سلطان ثم إنها تهضم الإسلام حقّه من العدل والإنصاف عندما تتحدث عن حقوق المرآة وعن الشريعة والجهاد والقدر وإذا تكلمت عن غزو المسلمين لأوروبا وصفتهم كوحوش كاسرة أمّا إذا تكلمت عن الحروب الصليبية فتكاد تغفل عن ذكر هذه المجازر الوحشية التي قامت بها بعد سقوط القدس بأيديهم عام ١٠٩٩م.

هذا كله يحتاج إلى إصلاح، ومن الحق أن يقال أنّ وضع المناهج الآن عام ٢٠١٥م أحسن بكثير مما كانت هي عليه قبل ثلاثين أو أربعين سنة الماضية.

5- وكم كان جميلا أن تقوم جهة إسلامية فتعقد معرضا عن الإنجازات التي قام بها المسلمون طيلة تاريخهم الطويل في مختلف مجالات العلم، ونشيد بهذا المجال الكتاب القيم الذي أصدره الدكتور سليم الحسيني بعنوان “ألف اكتشاف للمسلمين” تلاه المعرض القائم على محتويات هنا الكتاب في عدّة عواصم الغرب وأشهرها معرض لندن قبل عدة سنوات.

والمطلوب هو إدخال هذه المعلومات إلى المناهج التعليمية في مدارس الشرق والغرب. وقد أورد الباحث الدكتور “علي بن عبد الله الدفاع” أستاذ العلوم الرياضية وتاريخها بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن أهمّ هذه الاكتشافات في بحثه بعنوان: “أثر الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية” وقدّمه إلى مؤتمر الرابطة في فيينا (النمسا) عام ١٩٩٩وهي كالتالي:

١-   علم الجبر وتطوير بعض الطرق الأساسية في حلّ المسائل الحسابية والجبرية والهندسية والمثلثية.

٢-   الدوال المثلثية والجداول الرياضية.

٣-   الصفر ودوره في العمليات الحسابية وقد أدّى إلى اكتشاف الكسر ا لعشري.

٤-   علم البصريات الذي يحتوي على بداية علمى الضوء والصوت وبفضله أمكن إثبات قانون انكسار الضوء والتصوير الضوئي.

٥-    طريقة التقطير والتصعيد والبلورة وفحص المعادن.

٦-    رقاص الساعة.

٧-    ملح البارود وصناعة الورق من القطن والكتان والخرق.

٨-    الجدري والحصبة والتفريق بينهما.

٩-    علاج أمراض القلب.

١٠-   طريقة للعلاج النفسي.

١١-   التخدير.

١٢-   طريقة لتفتيت الحصاة في المثانة.

١٣-   طريقة جراحة القصبة الهوائية.

١٤-   الدورة الدموية الصغرى الدورة الرئوية.

١٥-   رسم خريطة العالم.

١٦-   الثقل النوعي لكثير من العناصر المعدنية وغير المعدنية.

١٧-   علماء الميكانيك والهيدروستاتيك.

١٨-    تغيّر كثافة الماء بتغير درجة حرارته أو بتغير ملوحته.

١٩-    ظاهرة ظهور قوس قزح.

٢٠-   الأسطر لاب

٢١-   قانون ثبات الكتلة. (٤٥)

٦-   ولماذا يوسم الإسلام بالإرهاب وقد مارسته ولا تزال تمارسه كثير من الأحزاب والجماعات في العالم.

ما حدث عام ١٩٩٥م من مجزرة في سيربينيكا (بوسنة) على أيدي الصربيين وراحت ضحيّتها أكثر من ثمانية آلاف مسلم كان من أكبر حوادث الإرهاب في النصف الثاني من القرن الماضي. وما يحدث إلى الآن في اقليم “أراكان” من تطهير عرقي لمسلمي “روهينجا” لأكبر دليل على الإرهاب الشنيع لطائفة دينية ضدّ جماعة دينية أخرى. وما يحدث في غزّة من وقت لآخر على يد إسرائيل المحتلة لفلسطين وفي كشمير على أيادي الجنود الهنادك هو من الأمثلة الحيّة على الإرهاب الدّولي، وغريب جدا أن يتحدث الإعلام عن الإرهاب الفردي ولا يتحدث عن الإرهاب الدولي الذي تسبّب –كردّ فعل- إلى حدوث الإرهاب الفردي.

ويجب أن تدرك الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا أنها في حاجة إلى تصحيح سياستها الخارجية تجاه قضية فلسطين وتجاه تدخلها في شؤون الشرق الأوسط إذا كانت فعلا تريد القضاء على الإرهاب وتحقيق السلام في المنطقة.

٧-  ولا يسعني إلاّ أن أشيد بالدعوة التي وجّهها الأمين العام لمنظمة التعاون الاسلامي السابق لمصالحة بين الإسلام والمسيحيّة، وأورد كلامه بهذا الصدد حيث قال:

“كما نؤمن إيمانا راسخا بأنّ ما يجمع بين الإسلام والمسيحية أقوى ممّا يفرّق بينهما وذلك في ضوء معتقداتنا وماضينا المشترك، من هذا المنطلق إذا جاءت دعواتي المتكررة إلى مصالحة تاريخيّة بين الإسلام والمسيحيّة تماما مثلما صدرت جهود مشابهة خلال القرن الماضي أفضت إلى تلك المصالحة التاريخية بين المسيحية واليهودية، وإنّي لأدعو الله وأرجوه أن تتحقّق هذه الرغبة يوما ما من أجل مصلحة البشريّة جمعاء”. (٤6)

إنّ أوروبا لا تزال تفتخر على أنّ ثقافتها هي منبثقة من اليهودية والمسيحية ومن تراث روماني عتيق وقد آن لها وخاصّة بعد أن عرف من دول البلقان ما عرف على الساحة الأوروبية، أن تضيف إليها التراث الإسلامي كذلك.

٨-   وماذا عن إبراز وجه الإسلام الذي يدعو إلى الوسطية ما بين ضياع لأقداره العليا وبين التطرف الذي ينمي عن حقد وكراهية للآخرين.

إنّ التمسّك بأصول الإسلام (الأصولية كما يعبر عنها البعض) هو من صميم الإسلام نفسه، الأصولية هي المحافظة على أركان الإسلام وشعائره ورموزه ولا يمكن للمسلم أن يعيش بدونه، والذي لا نرتضيه هو أن يتخلّى المسلم عن معتقداته أو يتساهل في التمسّك بأصوله وثوابته إرضاء لغير المسلمين. والذي نقصده بوسطية الإسلام هو أنّ ديننا الحنيف لا يمنعنا من معاملة حسنة للآخرين ومن المشاركة في أفراحهم وأتراحهم ما دامت لا تنقض مبدأ أساسيا من مبادئ الدين، ولا يمنعنا من الإشادة بأقدارهم التي تدعو إلى الخير وإلى رعاية المجتمع وإلى إزالة منكرات من الأخلاق والأعمال.

إنّ ما يدعو إليه الغرب من الاعتراف بنمط الحياة التي يحياها أصحاب الشذوذ الجنسي وبالزواج المثلي وبالعلاقات الجنسية الحرة ما دامت عن رضا وطواعيته، ليس من الأمور التي يستهان بها باسم الوسطية والاعتدال حيث أنّ هناك أصواتا من غير المسلمين مثل الكاثوليك والكنيسة الشرقية واليهود تدعو إلى سحب مثل هذه الإدعاءات ونبذها وإزالتها. ونرجو من دعاة الوسطية أن لا ينجروا إلى التساهل والتغافل في ذوات الدين وأساسياته.

٩-  لا أحد ينكر أنّ عدد المسلمين في ازدياد في أوروبا وذلك من أجل الهجرة المستمرة من آسيا وأفريقيا من جهة، ومن أجل تكثير النسل لدى المسلمين. ولكن لم يكن هذا بمثابة موضع خطر لدى الغربيين، فالهجرة يمكن التغلب عليها إذا ساعد الغرب في تحقيق الأمن والسلام في دول العالم الثالث ولا يمكن هذا ليحدث إلا إذا كفّ الغرب تماما من التدخل في أمور هذه الدول وإلا إذا ساهم مساهمة فعالة مخلصة لرفع الظلم عن الفلسطينيين والحد من معاناتهم.

أمّا شائعة كثرة التوالد لدى المسلمين فإنما كان في الجيل الأول من المهاجرين الذين وفدوا إلى أوروبا، أمّا الأجيال المتلاحقة التي تربّت في الجو الغربي وأنهلت من مناهل العلم في هذه البلاد واتبعت طريقتهم في العمل والحياة بدأت تحاكيهم في الحياة العائلية فهي تكاد تقتصر على حجم عائلات قليلة العدد بحجّة قلّة العتاد ورفع المستوى المعيشي الذي لا يساعد على تكثير النسل.

١٠-  تعددية الثقافة والأديان أصبحت حقيقة لا تنكر ولا يستهان بها، اعترف بها القاصي والداني، وهاهي رئيسة ألمانيا السيدة “أنجيلا ميركل” تقول أنّ الإسلام له صلة بألمانيا.

وهناك من الدول ما تعترف بالإسلام رسميا، وهناك أقطار مثل بريطانيا وفرنسا بدأت الجاليات المسلمة تساهم في منظوماتها السياسية، بل منها ما لم تقف في طريق المسلمين إلى أن يصلوا إلى منصب وزاري أو وظيفة عسكرية راقية.

فالخير لهذه البلاد أن يجعلوا لهذه التعدّدية طريقا إلى إقامة مجتمع تتوحّد ولا تفترق يساعد بعضها بعضا إلى الرفع من شأنه والنمو والازدهار في جميع مرافقه كالطير ذو أجنحة تزيد من الارتفاع في طيرانه وقوة في عضلاته، ونريد أن تكون لهذه التعدّدية انعكاس لا في الثقافة واحترام رموز الديانة فقط بل في قوانينه ولوائحه أيضا.

ومن الجائز أن يستفيدوا في هذا المجال بتجربة الحكم الإسلامي في الأندلس وحكم الدولة العثمانية التي شملت القارات الثلاث في أوج نفوذها وامتدادها.

وبعد، فهذه خواطر يتقدّم بها كاتب هذا البحث المتواضع لإبراز كيفية التعايش السلمي لمختلف الجاليات والقوميات في أوروبا في القرن الواحد والعشرين.

والله يقبض ويبسط وإليه ترجع الأمور..

وصلّى الله تعالى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

الحواشي و المراجع

Pew Research Centre: (See the website)1-   

Akbar Ahmed: What Andalusia can teach us today about Muslims and2–      non-Muslims living together. “See Blog “Akbar Ahmed” dated 17/04/2015

3–    الدراسات الإسلامية عدد خاص حول الإسلام في الأندلس- ص١٤٤

        العددان الأول والثاني، المجلّد ٢٦، عام ١٩٩١م، (اسلام آباد).

Chris Lowney: A Vanished World. (Oxford University Press)4

Ibid. P5

6–    الدراسات الإسلامية: ص ٢٢

7–    أيضا: ص ٢١٤

Stanley Lane- Poole: 8–    العرب في اسبانيا: ص٣٨

        انظر الدراسات الاسلامية ص ١٤٥

A Vanished World: See the Chapter “Martyre Activities” PP 55-629

10–   السفارديم: سفارد هو الأندلس في العبرية وإليه ينتسب يهود الأندلس.

Maria Rosa Menocal: 11

 The Ornament of the World, see the chapter “A Grand Vizier, A Grand City” PP   79-90

V.W (A Vanished World) P 9712

V.W P 9513

V.W P 9614

V.W P 9715

O.W (The Ornament of the World) PP 129-14216

O.W. See chapter “An Andalusian in London. PP 147-…17

O.W See chapter “Sailing Away” PP 158-17318

Wikipedia, under Memonides19

20–      د/ طارق السويدان: الأندلس: التاريخ المصوّر، ص٣

O.W. See chapter “The Abbot and the Quran” PP 174-18821

O.W. See Sicily. PP 189-19822

23–       صحيح مسلم، حديث رقم ١٦٦١

24–      د/ محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ص ١٤١

25–      شمس الذين أبو عبدالله محمد محمد بن قيّم الجوزية، ٣:٤١

26–      الوثائق السياسية، ص ٤١٤-٤١٦

27–      هناك تصحيحات من أحمد زكي باشا، ومن أهمها ما يتعلق بالأسماء، فذكر:

            الفضل بن عباس مكان فضيل بن عبّاس

           طلحة بن عبيد الله مكان طلحة بن عبدالله

           سعد بن معاذ مكان سعيد بن معاذ (لم يذكره أحمد زكي باشا)

           ثابت بن قيس مكان ثابت بن نفيس

           أبو حُذيفة بن عتبة مكان أبو حنيفة بن عُبيّة

           هاشم بن عتبة مكان هاشم بن عُبيّة

           عبدالعظيم غير معروف بين الصحابة(لم يذكره أحمد زكي كذلك)

           عمَّار بن ياسر مكان عار بن يس

           وهناك بيان ينسخ هذه العهدة الخمسة ومكان تواجدها ثم طبعها في باريس ولندن.

28–       الترغيب والترهيب ٤:١١، القرطبي ٨:١١٥

29–       النسائي، مسند أحمد ٢٣٧:٤

30–       البخاري ١٦:٩

31–       الوثائق السياسية:ص ٣٨

32–       محمد الغزالي: التعصُّب والتسامح بين المسيحية والاسلام ص ١٧٧

33–       أيضا، ص ٤٥

34–       أيضا، ص٤٦

35–       مجلّة أردو، عدد ٢، ص٦-٨ الصادرة من كراتشي لعام ١٩٧٨م

36–       أكمل الدين احسان أوغلي؛ الوسطية والمعاصرة، رؤية العالم الاسلامي ص ١٦٩

Timothy Ware: The Orthodox Church. P. 96-97 37

published 1963, Bungay, Suffolk, U.K

38-       أنور الجندي: الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، ص ٣٤٣

39–       الوسطية والمعاصرة، ص ٧٤١

40–       أيضا، ص٥٦٣

Doug Subders: The Myth of the Muslim Tide, PP 36-11041

John L. Esposito & Dalia Mogahed: Who Speaks for Islam. P 13542

V.W P 24943

44–       الوسطية والمعاصرة، ص ٩٧٩

45–      وثائق ندوة صورة الإسلام في الغرب من خلال المناهج الدراسية، ص ٥٥-٥٦ الصادرة من رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة.

46–       الوسطية والمعاصرة، ص ٤٤٤

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق