البحوث

مسالك الكشف عن المآلات

 

مسالك الكشف عن المآلات

 

الدكتور/ عبد المجيد النجار

 

بحث مقدّم للدورة 21

للمجلس الوروبي للإفتاء والبحوث

استنبول: 26 ـ 30 جوان 2012

 


تمهيد:

من المتفق عليه أنّ مآلات الأفعال لها اعتبار في تقرير الأحكام؛ ذلك لأنّ الحكم الشرعي إنما يتقرّر في شأن فعل من الأفعال ليؤدّي إلى المقصد منه، فإذا كان ذلك الفعل سيؤول بسبب أو آخر إلى مآل لا يتحقق معه المقصد من الحكم المقرّر له، فإنّ ذلك يكون مبرّرا كافيا لتغيير الحكم في شأنه، فالعبرة من الأحكام إنما هو تحقّق مقاصدها،إلا إذا كانت تلك المقاصد خفية لا يدركها العقل كشأن بعض أحكام العبادات، فحينئذ يجب الالتزام بالحكم دون أن يكون للمآل فيه اعتبار.

وقد أشار الإمام الشاطبي إلى هذا الضرب من الاجتهاد المتعلّق بتكييف الأحكام اعتبارا لمآلات الأفعال، وقال فيه: “هو مجال للمجتهد صعب المورد إلاّ أنّه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة” ، وقال بي بيانه وبيان خطورته: ” إنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل [فقد يكون ذلك الفعل] مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه …. فإذا أُطلق القول في الأوّل بالمشروعية فربّما أدّى استجلاب المصلحة إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية “.

ولكنّ هذا النظر الاجتهادي في المآلات هو نظر دقيق، والقواعد الضابطة فيه عزيزة في دراسات الأصوليين والمقاصديين؛ ولذلك وصفه الشاطبي بأنّه صعب المورد.

ومن أصعب ما يعترض المجتهد في شأن المآلات العلم المسبق بما سيؤول إليه الفعل ليرتّب الحكم على أساس ذلك المآل؛ ذلك لأنّ الأيلولة هي مصير مستقبلي محجوب عن النظر الحالي، فكيف يُرتّب حكم ناجز على مآل مستقبلي محجوب؟ وقد أورد الإمام الشاطبي هذا الإشكال ونبّه إليه، ولكنّه ترك الباب مفتوحاً دون أن يعرض حلولاً لما طرح من إشكال، وفي ذلك يقول:” إنّ اعتبار وجود الحكمة [ أي حصول المقصد ] في محلٍّ عينا لا ينضبط؛ لأنّ تلك الحكمة لا توجد إلاّ ثانيا عن وقوع السبب  [أي عن تطبيق الحكم ]، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها … وإذ لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصحّ توقّف مشروعية السبب على وجود الحكمة” .

ولعلّ الناظر في هذا الشأن قد يتوصّل إلى مبتغاه أو إلى بعض مبتغاه من خلال مسلكين متتالين.

أوّلهما علم نظري بالمؤثّرات التي تؤول بالأفعال إلى غير مآلاتها الطبيعية، وثانيهما علم بالمسالك التي يسلكها الناظر للكشف عن تلك المآلات.

1 ـ  المؤثّرات في أيلولة الأفعال:

   إذا تبيّن أنّ أحكام الشريعة لئن كانت تؤول إلى تحقيق مقاصدها في الأغلب، إلاّ أنّها قد تتخلّف في ذلك فلا يتحقّق المقصد المطلوب منها، فحقّ على الناظر المجتهد بقاعدة اعتبار المآل أن يكون له إلمام بالأسباب التي تجعل الأفعال تؤول عند تطبيق الأحكام عليها إلى مآل لا تتحقق فيه مقاصد تلك الأحكام والمؤثّرات التي تؤثّر عليها في ذلك حتى يكون له تصرّف مسبق بتكييف تلك الأحكام بحسب مآلات الأفعال.، فما هي تلك الأسباب وتلك المؤثّرات؟

أشرنا سابقا إلى أنّ الواقع الذي يجري فيه تطبيق الحكم الشرعي من أجل تحقيق مقصده قد تطرأ عليه ظروف وملابسات تحول دون تحقّق ذلك المقصد المراد.

وتتمثّل تلك الظروف والملابسات غالباً في خصوصية يختصّ بها الوضع الذي يجري فيه تطبيق الحكم الشرعي متمثّلة في طبيعة من يتعلّق بهم هذا التطبيق من الأشخاص، أو في الظرف الزمني الذي يجري فيه، أو في الوضع الاجتماعي الذي هو مسرح وقوعه، فهذه الخصوصية تجعل الواقع الذي يطبّق فيه الحكم الشرعي فلا يتأدّى إلى مقصده حالة مخالفة للحالات التي هي من جنسه، والتي شرع لمعالجتها الحكم الشرعي مفترضاً افتراضاً منطقيا أنّه سيكون لها علاجاً تتحقّق به المصلحة ولكنّ هذه الخصوصية حالت دون ذلك.

ولعلّ من أظهر العناصر الأساسية في هذه الخصوصية كعوامل مؤثّرة في أيلولة الأفعال إلى غير ما ابتغته الأحكام من تحقيق مقاصدها ما يلي:

 أ ـ الخصوصية الذاتية:

 قد يكتسب فعل مّا من الأفعال، أو يكتسب فاعله  لسبب أو لآخر من الأسباب صفات ذاتية يخرج بها عن مماثلة النوع الذي ينتمي إليه، وتكون تلك الصفات منافرة في طبيعتها لطبيعة المقصد الشرعي الذي من المفروض نظرياً أن يتحقّق من ذلك الفعل أو في ذلك الفاعل عندما يُجرى عليه الحكم الموضوع له؛ ولذلك فإنّه عند تطبيق الحكم الشرعي عليه ابتغاء تحقيق مقصده فيه تكون تلك الصفات المكتسبة المنافرة في طبيعتها لطبيعة ذلك المقصد حائلا دون تلك الأيلولة المبتغاة.

ومن أمثلة ذلك في الأشخاص الفاعلة أن يكتسب شخص مّا أو مجموعة من الأشخاص صفات من غلظة النفس، ومن تمكّن الباطل فيها، ما يجعلها إذا ما وُجّه إليها نصحٌ بأمر بمعروف أو نهي عن منكر تعاند ذلك النصح بعكس مقتضاه من الانتصاح شأن النفوس المرسلة على فطرتها السويّة، فإذا هي تأتي من المنكر جرّاء ذلك النصح بما هو أفظع من المنكر المنصوح بالانتهاء عنه، وإذن فإنّ المقصد المبتَغَى من حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشمولة به تلك النفوس وهو حصول المصلحة بإتيان المعروف والانكفاف عن إتيان المنكر لا يكون له تحقّق في هذا النمط من الأفراد الفاعلة بسبب تلك الصفات الذاتية التي اكتسبتها فعطّلت أيلولة المقصد إلى التحقّق، وهذه الخاصّية الذاتية الصارفة عن تحقيق مقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي كانت ملحَظا ذكيّا للإمام ابن تيمية حينما مرّ بقوم من التتار يشربون الخمر، فنهاهم صاحبه الذي كان معه عن هذا المنكر، فأنكر عليه ذلك قائلا:” إنّما حرّم الله الخمر لأنّها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرّية وأخذ الأموال، فدعهم “.

ومن أمثلته في الأفعال ما قد يخالط فعل الزواج من نيّة التوقيت إلى أجل محدّد سواء لتحقيق متعة، أو لتحليل زوجة مطلّقة ثلاثا، فصفة التوقيت التي يكتسبها هذا الفعل في عنصر النيّة منه تجعل الحكم الشرعي المبتَغَى من الزواج في عموم أفراده غير متحقّق فيه، إذ طبيعة صفة التوقيت معاندة في طبيعتها لمقصد الإنجاب والسكينة والتعاون؛ ولذلك يُصرف عنه حكم الجواز أو الطلب، ويُستعاض عنهما بحكم المنع، اعتبارا لهذه الأيلولة التي آل فيها المقصد الشرعي إلى عدم التحقّق بسبب هذه الخصوصية الذاتية.

ب ـ الخصوصية الظرفية:

 قد تكتسب بعض الأفعال خصائص إضافية من تلقاء الظرف الذي يكون مسرحا لحدوثـها، سواء كان ظرفا زمانيا،  أو مكانيا، أو زمانيا ومكانيا معا، وتكون تلك الخصائص المضافة إلى الفعل في أصل طبيعته عائقة دون تحقيق المقصد الذي يبتغيه منه الحكم المشرّع لعموم نوعه، فتعتبر تلك الخصوصية الظرفية إذن هي المؤثّر على أيلولة الحكم الشرعي إلى منتهًى لا يتحقّق فيه المقصد منه.

ومن أمثلة ذلك أنّ الأفعال التي تستحقّ أن تُطبّق عليها أحكام الحدود إذا ما وقعت في زمن تدور فيه الحرب مع العدوّ، أو وقعت في مكان هو بلاد العدوّ، فإنّها تكتسب بهذه الظرفية الزمانية والمكانية خاصّية تجعل من حكم إقامة الحدّ حكما غير مؤدّ إلى مقصده من تطبيقه عليها، بل قد يؤدّي إلى عكس ذلك المقصد؛ فبدلاً من أن يؤدّي تطبيق الحدّ على مقترف الأفعال المستحقّة له إلى ردع الفاعل عن مقارفتها مجدّدا، فإنّه قد يؤدّي إلى إغرائه بإفشاء الأسرار إلى الأعداء أو إلى اللّحاق بهم انتقاما لما فُعل به، وتنكيلا بمقيمي الحدّ عليه، وهو ما يؤدّي إلى مفسدة أعظم من مفسدة ترك إقامة الحدّ .

ج ـ الخصوصية العرفية:

تتخذ  بعض الجماعات أعرافا وعادات تتواضع عليها وتحكّمها في بعض شؤون حياتها، وقد تكتسب بعض أفعالهم بتلك الأعراف خصوصية لا تكون لها في أصلها العامّ، وتلك الخصوصية الـعرفية التي تكتسبها بعض الأفعال قد تجعلها حينما يُطبّق عليها الحكم الشرعي المتعلّق بها غير آيلة إلى تحقيق المقصد الذي يبتغيه ذلك الحكم، فتكون أيلولتها إلى هذا المآل إذن بسبب من تأثير الخصوصية العرفية.

ومن أمثلة ذلك أنّ بعض المجتمعات جعلت من عاداتها تفشّي المصافحة بين الرجال والنساء، وعُدّ عندها الامتناع عن ذلك من علامات التحقير والاستنقاص والسخرية التي تقابل بالنكير الشديد والجفوة البالغة، فإذا ما جاء الداعية المرشد لهؤلاء القوم يطبّق عليهم في فعل هذه المصافحة الحكم الشرعي بالمنع من أوّل أمره دون عهد منهم بمبتغاه، باءت دعوته بفشل ذريع، إذ يُستنكر عليه ذلك استنكارا، وتقابل دعوته وإرشاداته بالرفض، ولذلك قد يكون من اجتهاده الموفّق اعتبار هذه الأيلولة للمقصد المبتغى إلى التخلّف، فيترخّص بالجواز إلى حين تحويل القوم بالدعوة والإرشاد عن هذه العادة، لا سيما أنّ هناك احتمالا بأنّ النهي النبوي في هذا الشأن هو نهي على سبيل المنع التنـزيهي وليس على سبيل المنع التحريمي.

د ـ الخصوصية الواقعية:

أحكام الشريعة جاءت توجّه أفعال العباد بالإباحة والمنع والطلب حتى تحصل في الواقع بحسب ذلك، فهي متّجهة إليها بالتكليف قبل وقوعها، ومقاصدها المبتغاة منها إنّما حدّدت على ذلك الاعتبار، فإذا ما وقع الفعل الذي حكمه الطلب تحقّقت المصلحة من وقوعه، وإذا ما لم يقع الذي حكمه المنع تحقّقت المصلحة من عدم وقوعه؛ ولكن بعض الأفعال حينما يأخذ طريقه إلى الوقوع جاريا على غير ما شُرّع له من الحكم فإنّه قد يكتسب بوقوعه على ذلك النحو خصوصية واقعية تجعل تطبيق حكمه عليه بالمنع مثلا إن كان حكمه المنع يؤول به إلى خلاف مقصد ذلك الحكم منه، وتكون إذن تلك الخصوصية الواقعية مؤثّرة على أيلولة الحكم الشرعي إلى تحقيق مبتغاه.

ومن أمثلة ذلك ما كان من تصرّف نبوي مع ذلك الأعرابي الذي تبوّل في المسجد فهمّ أصحابه بإخراجه، فقد منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك من ذلك وقال لهم: “لا تُزرموه”، فهذا الفعل المتمثّل في التبوّل في المسجد اكتسب بسبب الوقوع خصوصية صار بها لو طُبّق عليه حكم المنع في حال وقوعه آيلا إلى عكس مقصده الذي هو الحفاظ على نظافة المكان، إذ تطبيق المنع في حال الوقوع يفضي إلى المزيد من النجاسة بالانتشار، إضافة إلى ما يحصل من الأذى البدني بذلك المنع، وهذا التصرّف النبوي إنّما كان مبنيا على ما كان من تأثير لخصوصية الوقوع على أيلولة الفعل.

ولعلّ القاعدة الفقهية القائلة بأنّه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء مبنيّة على اعتبار المآل بتأثير خصوصية الوقوع هذه، وكذلك القاعدة التي تصحّ بها بعض التصرّفات في حال وقوعها مع حرمة الإقدام عليها ابتداء.

وقد كان الفقهاء والأصوليون والمجتهدون يقدّرون هذه الأسباب المؤثّرة في أيلولة الأفعال، ويتّخذون منها قواعد في التأصيل والاجتهاد، فقد عقد ابن القيّم في كتابه الإعلام فصلا بيّن فيه ” تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد” وممّا قرّره الشاطبي مندرجاً في ذات السياق أنّه ينبغي على المجتهد: “النظر فيما يصلح بكلّ مكلّف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس  ليست في قبول الأعمال الخاصّة على وزّان واحد… فهو يحمل على كلّ نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أنّ ذلك هو المقصود الشرعي في تلقّي التكاليف”.

  وإنّما أُخذت مآلات الأفعال في هذه البيانات والأقوال من قِبل هؤلاء المجتهدين بالاعتبار بناء على العلم بالمؤثّرات التي تؤثّر في الأيلولة فتخرج بها من سياقها في إنتاج الحكم  لمقصده إلى سياق آخر يكون فيه غير منتج لذلك المقصد، وذلك بواحد من الأسباب التي ذكرناها أو بغيرها، وهو علم مطلوب للمجتهد مندرج ضمن ما سمّيناه بتفعيل المقاصد.

2 ـ مسالك الكشف عن المآلات:

 لا يكفي في الاجتهاد الذي يأخذ بعين الاعتبار مآل الأفعال أن يعلم المجتهد مقاصد الأحكام تعيينا، وأن يعلم المؤثّرات على الأيلولة بحسب ما هي عليه بصفة نظرية، فتلك كلّها إنّما هي مقدّمات لعلم آخر ضروري هو المعقد في التحقيق في المآلات، وهو العلم بالقواعد والمسالك التي بها تُقدّر المآلات، فيعلم من خلالها مسبقا على وجه اليقين أو الظّنّ الغالب أنّ هذا الحكم الشرعيّ إذا ما طُبّق على هذا الفعل المعيّن آل به إلى أيلولة لا يتحقّق بها مقصده، ليكون ذلك العلم هو الأساس الأصلي في العدول بالحكم الأصلي إلى حكم آخر يتحقّق به المقصد المبتَغَى، ويكون تبعا لذلك هو الأساس الأصلي في الاجتهاد باعتبار المآل.

فما هي المسالك التي يمكن أن يستكشف بها المجتهد مآلات الأفعال قبل وقوعها ليبني عليها اجتهاده باعتبار المآل؟

لم نقف بحسب علمنا على مبحث متخصّص في هذا الأمر لا في الدراسات القديمة ولا في الحديثة، وإنّما هي ملاحظات وإشارات ولمحات مبثوثة في مؤلّفات الأصوليين والمقاصديين منهم على وجه الخصوص.

وإنّه لمن الحقّ على المجتهد أن يتبيّن ببعض القواعد والمسالك أيلولة الأفعال قبل حصولها في الواقع ليبني على العلم بتلك الأيلولة الحكم المناسب الذي يتحقق به المقصد الشرعي، وذلك فقه دقيق في هذا الاجتهاد نحسب أنّه لم يأخذ حظّه من الدرس، فماذا يمكن أن يُضبط من المسالك المؤدّية إلى ذلك الغرض؟ ربّما يفيد جمع ملاحظات وإشارات متناثرة في هذا الشأن لنعرض منها المسالك والقواعد التالية:

أ ـ مسلك الاستقراء الواقعي:

 لعلّ هذا المسلك هو من أبين المسالك في استكشاف مآلات الأفعال قبل وقوعها، فحينما يُطبّق حكم مّا من أحكام الشريعة على أفعال عديدة في زمن معيّن أو في فاعلين معيّنين، ويتبيّن بنتائج الواقع أنّ ذلك التطبيق لم يتحقّق به المقصد المبتغَى منه، فإنّ ذلك يكون دليلاً على أنّ تطبيق الحكم على أمثال الحالات التي طُبّق فيها سوف يؤول إلى نفس المآل من عدم تحقيق المقصد، ويكون بذلك استقراء المآلات كما تحقّقت في الواقع منهجا يُعلم منه أحوالها قبل وقوعها.

ومثال ذلك ما بنى عليه ابن تيمية وابن القيّم فتوى اعتبار الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد طلقة واحدة؛ فقد رأيا باستقرائهما لوقائع ومنهما أنّ إمضاء الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد طلاقاً باتّاً كما أفتى به عمر رضي الله عنه ومضى عليه الناس بعده قد أفضى إلى فشوّ التحليل لما غدا عليه الناس من رقّة في الدين، وهي مفسدة أكبر من  مفسدة التهاون بالطلاق والاستهتار به تلك  التي بنى عليها عمر رضي الله عنه فتواه، فعُلم من هذا الاستقراء الواقعي أنّ الحكم ببتّ الطلاق بلفظ الثلاث سيكون مآله نفس المآل، وهو عدم تحقّق مقصد رفع مفسدة الاستهتار بالطلاق .

وفي عصرنا هذا أصبح استقراء الوقائع علما قائما بذاته، يقوم على قوانين وقواعد دقيقة منضبطة في الإحصاء والتصنيف والاستنتاج، وأصبحت تُبنى على نتائجه الخطط والبرامج والمشاريع، استدلالا بما هو كائن على رسم ما ينبغي أن يكون لتفادي مفاسد وتحرّي مصالح، وهو ما ينبغي على الفقيه المجتهد أن يستعمله مسلكاً في التعرّف على مآلات المقاصد كما يجري بها الواقع، حتى إذا ما علم بيقين أو بظنّ غالب أنّ تلك المآلات هي التي ستقع مستقبلاً، بنى أحكامه وفتاواه على اعتبارها  بحيث يتحقّق المقصد الشرعيّ منها، فهذا مسلك يتوفّر عليه فقهاء اليوم بأوضح وأقوم ما كان بين يدي السابقين.

ب ـ مسلك الاستبصار المستقبلي:

أصبح اليوم استشراف المستقبل علما قائم الذات، تقنّن له القوانين وتقعّد له القواعد، ومن خلال تلك القوانين والقواعد تُستطلع الآراء، وتُستبان عزائم الأفعال، وتُحلّل مكنونات النفوس الفردية والجماعية، وتُجمع المؤشّرات من جاري الأحداث والوقائع، ثمّ يُبنى من كلّ ذلك بطرق علمية تصوّر لأيلولة الأوضاع في شتّى مجالات الحياة.

إنّ هذا العلم لئن كانت نتائجه غير قطعية، إلاّ أنّه كثيرا ما ينتهي إلى تلك النتائج بالظّنّ الغالب؛ ولذلك فإنّه تُبنى عليه اليوم المخطّطات المستقبلية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فيمكن إذن استثماره مسلكاً في معرفة مآلات الأفعال، تحرّياً لما هو من قواعده ينتج نتائجه بالظنّ الغالب، لتكون تلك المآلات معتبرة في تطبيق الأحكام الشرعية المفضية إلى مقاصدها.

ونحسب أنّ هذا المسلك كان من حيث الأصل مستخدما من قِبل المجتهدين، فعمر بن عبد العزيز على سبيل المثال لمّا تولّى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمّا استعجله ابنه في ذلك، أجابه بقوله: “أخاف أن أحمل الحقّ على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة”، فما ذلك الاجتهاد من عمر إلاّ لاستقرائه مستقبل أيلولة تطبيق أحكام الشرع جملة على الناس، استدلالا بمؤشّرات من أحوالهم النفسية والاجتماعية والإيمانية، فلمّا أصبح اليوم هذا الاستكشاف المستقبلي علما، فما أحرى الفقهاء أن يستخدموه مسلكا في العلم بمآلات الأفعال.

ج ـ مسلك الاسترشاد بالعادة الطبيعية:

كما  بني الكون كلّه على ترابط علّي بين ظواهره ومكوّناته، بحيث يُستدلّ ببعضها على وقوع بعض، فإنّ الإنسان في مكوّناته وتصرّفاته الفردية والاجتماعية بُني أيضا على قانون طبيعي تترابط فيه المقدّمات والنتائج ترابطاً سببياً، وقد كشف علم النفس الفردي والاجتماعي وعلم الاجتماع على الكثير من تلك القوانين الطبيعية، بما أفسح المجال لأن يُعلم الكثير من التصرّفات المستقبلية للإنسان بناء على العلم بمقدّماتها السببية المفضية إليها.

إنّ هذه العادات الطبيعية في الكيان الإنساني الفردي والاجتماعي يمكن أن تُستخدم أسلوبا في الكشف عن مآلات الأفعال إلى مقاصدها، فيُستدلّ وفق هذه العادات بمقدّمات حاصلة على نتائج لها سوف تحصل بمقتضى الترابط الطبيعي بين المقدّمات والنتائج، ويبني المجتهد على ذلك العلم المسبق بمآلات المقاصد التي بنى عليها الأحكام فيرجّح لها من تلك الأحكام ما يغلب على ظنّه أنّها تحقّق مقاصدها، ويتفادى تلك الأحكام التي يغلب على ظنّه أنّ مقاصدها سوف لا يكون لها تحقّق لسبب من الأسباب التي ذكرناها آنفاً.

ونحسب أنّ هذا المسلك في الكشف عن المآلات قد استعمله المجتهدون قديما من حيث أصله العامّ، فعمر بن الخطّاب رضي الله عنه أوقف العمل  بتطبيق حدّ السرقة في عام المجاعة، وربّما كان ممّا حمله على ذلك استكشافه للمآل الذي سيؤول إليه إمضاء هذا الحكم، وهو مآل لا يتحقّق فيه مقصده، إذ المقصد منه هو الارتداع لاستتباب الأمن بين الناس، ولكن هذا الارتداع لا يحصل في النفوس إذا ما مسّها حرّ الجوع، إذ الجوع بمقتضى العادة الطبيعية في الإنسان عامل غلاّب يطغى على نازعة النفس اللّوّامة إلى الارتداع بالعقوبة، فهذا القانون الطبيعي في النفس البشرية لعلّه كان من المسالك التي استكشف بها عمر بن الخطاب مآل المقصد من حدّ العقوبة عام المجاعة، فرأى أنّ ذلك المقصد سوف لن يتحقّق، وأوقف تطبيق الحدّ. وبين يدي المجتهدين اليوم من القواعد والقوانين في طبائع الإنسان مادّة ثريّة ما أحراهم بأن يستثمروها في الكشف عن مآلات الأفعال لإجراء الأحكام المناسبة المحقّقة للمصالح.

د ـ مسلك الاسترشاد بالعادة العرفية:

قد تكتسب المجتمعات في التعامل بين أفرادها عادات وأعرافا وتقاليد يتواضع عليها الناس، وتصبح بينهم كالقواعد والقوانين التي تجري عليها التصرّفات، وتُحاكم إليها المواقف.

وهذه العادات العرفية قد تكون في بعض الأحيان سببا في أيلولة بعض الأحكام الشرعية عند تطبيقها إلى مآل لا يتحقّق به مقصدها، في حين أنّ ذلك المقصد يتحقّق في حال من ليس من عاداتهم تلك العادة.

وبناء على ذلك فإنّه يمكن للفقيه المجتهد أن يستخدم علمه بالعادات والأعراف ليستبين منها بعض مآلات ما يحكم به من أحكام الشرع، فإذا تبيّن له أنّ عادة مّا من عادات القوم ربّما أدّت بيقين أو بظنّ غالب إلى أيلولة حكم من الأحكام أيلولة لا يتحقّق بها مقصده، اتّخذ من ذلك الانكشاف للمآل بمسلك العادة العرفية طريقا للحكم بحكم آخر يؤول إلى تحقيق المصلحة.

ولعلّ من أصول هذا المسلك في استكشاف المآل ما جاء في قوله تعالى:” ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم” ( الأنعام/108)، فمن الأعراف المتفشّية في المجتمعات أنّ من يُسبّ له من هو أثير عنده من إله معبود أو أب أو أمّ فإنّه يردّ على السّابّ بأن يسبّ له نظير ذلك الأثير، فلعلّ هذه العادة كانت متفشّية عند أهل الجاهلية، كما قد توحي به بعض الروايات في سبب نزول هذه الآية من أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجونّ  إلهك ، فنهى الله تعالى سبّ أوثان الجاهلية لما يترتّب على ذلك بحكم العادة من سبّ الله تعالى. ونظير ذلك في الحديث النبوي ما جاء من نهي عن سبّ الرجل أباه بأن يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه ، فكأنّ ذلك إذن من العادات الفاشية في الأقوام، فهذا الأصل المشار إليه في القرآن والحديث يمكن أن يبنى عليه مسلك في استكشاف مآلات الأفعال في تحقيق مقاصدها من عدمه، هو مسلك الاستكشاف بالعادات العرفية.

هـ ـ مسلك الاسترشاد بقصد الفاعل:

إذا كان نظر الفقيه في المسالك السابقة يتّجه في استكشاف المآلات إلى الظروف الخارجة عن مقاصد الفاعلين فإنّ مقاصد الفاعلين ونواياهم يمكن أن يكون النظر فيها مسلكا من مسالك هذا الاستكشاف.

ووجه ذلك أنّه وإن لم يكن مقصد الفاعل من فعله مرتبطا ارتباطا علّيا بمآل ذلك الفعل، إذ قد يؤول الفعل إلى ما يوافق النيّة وقد يؤول إلى ما يخالفها، إلاّ أنّ نيّة الفاعل من فـعله هي عنصر مهمّ من العناصر المحدّدة لنتائجه وآثاره، فبالنيّة يكون الحزم في إتمام الفعل على وجهه الأكمل، واستجماع الوسائل لذلك، فتسري إذن تلك النيّة سريانا قد يكون   محسوسا وقد يكون غير محسوس في أرجاء الفعل ومفاصله ومقدّماته، فيعطيه من قوّة الدفع ما ينتهي به إلى مآله المطلوب، وبها أيضا يكون التراخي والتهاون ممّا تنحلّ به عرى الفعل فلا يبلغ منتهاه المطلوب.

إنّ مقصد الزوج في إنهاء الزوجية عند توقيت معيّن من شأنه أن يؤثّر في أيلولة الزواج إلى مقصده الشرعي من تحقيق للنسل والسكينة والتعاون، فالزوج بنيّة التوقيت غير حريص في تصرّفاته على بناء العلاقة الزوجية بحيث تفضي إلى ذلك المقصد، إذ لمّا كانت هذه العلاقة ستنتهي عند أجل معيّن فلماذا ذلك البناء الذي سينهدم بعد حين؟ ولعلّ هذا هو أهمّ الأسباب التي حرّم من أجلها زواج المتعة، وحينما يكون هذا الزواج معلنة فيه نيّة التوقيت، فإنّ هذه النيّة قد سيكون لها نفس الأثر في أيلولة الزواج في حال الإضمار، فتكون تلك النيّة إذن أحد أهمّ المؤشّرات الكاشفة عن أيلولة الفعل من حيث تحقّق مقصده أو عدم تحقّقه.

 وقد تعلم نيّة الفاعل بالتصريح، كما قد تُعلم بالقرائن والإشارات كحال ذلك الذي جاء يستفتي أحد الصحابة عن قاتل النفس هل له من توبة، فأفتاه بأن لا توبة له، فلمّا روجع في ذلك قال إنّني قرأت في وجهه نيّة القتل انتقاما فأفتيت بما أفتيت.

ومن هذا الباب ما يُعلم من مآلات الأفعال من خلال ما يُمارسه بعض الفاعلين من الحيل، إذ هي ليست إلاّ مبنية على مقاصد للمتحيّل مخالفة لمقاصد الشارع، فيُحكم عليها إذن بالمنع لما يُعلم من أيلولتها إلى خلاف المقاصد الشرعية بدلالة قصد الفاعل لها .

إنّ هذه المسالك في التعرّف على أيلولة المقاصد الشرعية تحقّقا وتخلّفا لتقرير الأحكام المناسبة ليست مسالك يقينيّة كلّها، وإنّما هي قد تنتج يقيناً، وقد تنتج ظنّا يقوى أويضعف بتفاوت بينها، وبتفاوت في الأحوال المندرجة ضمن الواحد منها، وعلى الناظر فيها أن يُحسن النظر وأن يتحرّى فيه غاية التحرّي، فإذا ما انقدح له يقين أوظنّ غالب من خلال أيّ واحد منها بمآل من مآلات الأفعال المنظور فيها اعتبر ذلك المآل وأمضى الحكم الشرعي المناسب له، فهي إذن مسالك اجتهادية تحتاج إلى أقدار كبيرة من التحقيق والتثبّت، وهي على أيّة حال وسائل مساعدة على استكشاف المآلات .

والله ولي التوفيق،،،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق