البحوث

من قضايا الأسرة المسلمة في الغرب “الولاية في النكاح – الإجبار – مجالس التحكيم”

من قضايا الأسرة المسلمة في الغرب

“الولاية في النكاح ـ الإجبار ـ مجالس التحكيم”
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

تواجه الأسرة المسلمة في الغرب تحدياً حَرِجاً في وجوه شتى من جوانب الحياة ، ومن أهم هذه التحديات ما تعانيه من التناقض بين ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه وثوابت الدين في مسائل الزواج ، التي تبدأ بالولاية على المرأة في النكاح ، وتنتهي بالمرجعية والتحاكم للفصل في الخصومة وفض النزاعات عند فشل الزواج واستحكام الشقاق ، فالشاب والفتاة المسلمة يُلقنان في معاهد العلم وفي الإعلام وفي محيط مجتمعهما ثقافة ومفاهيم غربية، لا تقيم للولاية وزناً، وترى الإجبار اعتداءً على حرية الفرد وتدخلاً في الحياة الخاصة، وأن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية عند اختلاف الدين غير مقبول، وعلى ذلك ينام كل منهما ويستيقظ ويسمع وينظر، وتنصبغ حياته وتتطبع .

وعلى الجانب الآخر رب الأسرة لا يقبل المساس بالموروث من ثقافته الإسلامية التي تلقاها في بلاده، ومنها ما هو من الثوابت الذي لا بد للمسلم من التمسك به، ومنه ما هو من المتغير الذي يجري فيه الخلاف بين أهل العلم، وبعضه من تقاليد البلد التي لا صلة لها بالدين، ولكن رب الأسرة يحكم عليها جميعا بحكم واحد متشدد لا مناص منه، رضيه من رضيه وكرهه من كرهه، لأن التقاليد عنده أيضا من الثوابث في الدين ، فيُقابَل تشدده هذا بزيادة تشدد وغلو من الطرف المقابل في الأسرة لا يقبل معه حتى ما هو من الحق والدين ، لا شك أن صلاح حال الأسرة ورب الأسرة إنما هو في الأخذ به.

وسأتناول في هذه الورقة مناقشة ثلاث مسائل حساسة ، أرى على المراكز الإسلامية والمجالس العلمية في بلاد الغرب اعتمادها والعمل على تحقيقها، وقد توخيت في تناولها الأخذ بالدليل الشرعي، والاستفادة من اختلاف الفقهاء في هذه القضايا، في ضوء الظروف التي تعاني منها الجالية المسلمة في الغرب، بما يُحَصِّل المصلحة الحقيقية للأسرة في نطاق الدليل، والله وحده المستعان .

الولاية

 

ورد في الولاية على المرأة في النكاح ، وأنها لا تزوج نفسها ـ الذي هو قول الجمهور ـ نصوص كثيرة في القرآن والسنة ، منها صريحٌ ومنها ظواهر ، من ذلك قوله تعالى : (ولا تعضلوهن) ، وقوله تعالى : (وأنكحوا الأيامى منكم) ، وقوله تعالى : (ولا تنكحوا المشركين) ، وقول النبي ﷺ: “لا نِكَاحَ إِلا بِوَلِيٍّ”، وقولهﷺ: “أيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيرِ إِذْنِ وَلِيّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ”، وقوله ﷺ: “الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا”، وقوله ﷺ: “البِكْرُ تُسْتَأذن”، وما ورد في المرأة التي زوجها أبوها وهي كارهة ، إلى غير ذلك .

فهذه النصوص تدل تصريحا أو دلالة على أن المرأة لا تزوج نفسها ، وأن الولاية هي الأمر المعروف المعهود الذي درج عليه الناس من عهد النبوة ، ونزول القرآن ، وهو ما تشير إليه خطابات القرآن السابقة ، وتشير إليه دلالات صحيح السنة ، كما في قول النبي ﷺ: “البِكْرُ تُسْتَأذن”، ولو كان المعهود عندهم تزويج المرأة نفسها ، ما كان لخطاب الأولياء وإرشادهم إلى الاستئذان محل .

قال الحاكم: صحت الرواية في النهي عن النكاح من غير ولي عن أزواج النبي ﷺ، وعن جمع كثير من أصحاب النبي ﷺ.

وهذه الأحاديث فيها الصحيح والحسن وما دونه ، فالعمل بها متحتم ، ولا يعارض هذه الدلالة ما جاء من أن الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأذن ونحوه ، مثل حديث: “والثيب تستأمر”، وحديث “ليس للولي مع الثيب أمر”، لأن المراد أحق بنفسها في تعيين من يريد نكاحها ، لأن البكر يمنعها حياؤها من تعيين من تريد ، وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها.

ويترجح لمن يعيش من المسلمين في البلاد الغربية قبل غيرهم الأخذ بقول الجمهور ؛ لسببين :

1ـ لأنه القول الصحيح الذي يرجحه الدليل والفقه ، وهم كغيرهم من المسلمين في وجوب العمل بالراجح ، وعلى الأخص فيما إذا كان وضوح المصلحة لهم في هذا الراجح بَيِّن كما يأتي في السبب الثاني .

2ـ لأنه الأخذ به يحفظ التماسك الذي تميزت به الأسرة المسلمة في ظل الإسلام ، ولا يزال ينظر إليه من غير المسلمين بانبهار وإعجاب شديدين، وأنه مكمن قوة في دين الإسلام ، يبعث على اعتناقه كما تدل عليه إحصائيات المعتنقين للإسلام في بلاد الغرب ، ولو تساهل المسلمون في مسألة الولاية وتركوا الأمر فيها إلى المرأة ، لأسهموا في إضعاف الأسرة المسلمة وتفككها في مجتمع طابعه التحلل وانفلات المرأة من كفالة وليها بقوة القانون ، ولضيعوا بذلك من تشريعهم ميزة طالما كان يغبطهم عليها أعداؤهم .

3 ـ الولاية على المرأة في النكاح جزء من الثقافة الإسلامية والتقاليد الموروثة المعمول بها لدى كافة المجتمعات الإسلامية منذ فجر الإسلام وهلم جرا ، حتى عند من يخالف من المدراس الفقهية ويعطي من الناحية النظرية للمرأة حق تزويج نفسها ، وهي تقاليد مبنية على أصل شرعي مطبق عبر القرون الإسلامية ، منبثقة من الدلالات الشرعية لنصوص الوحي ، فيجب المحافظة عليها وعدم التفريط ، كما دلت نصوص الوحي المشار إليها آنفا .

مسألة الإجبار:

من المصلحة المتعينة في مسألة الإجبار الأخذ فيها بقول وسط ، لما فيه من إعمال النصوص جميعها ، والحفاظ على مصلحة المرأة وأسرتها في مجتمع مهدد بالتمزق والتفكك ، وذلك بتقييد إطلاق ولاية الإجبار في البكر البالغة التي يقول بها الجمهور ، بأن تجعل إجبار منع لا إجبار إلزام ، وذلك بجعل الحق للأب في منع البكر من الزواج من غير كفء الدين ، دون إجبارها على الزواج ممن لا ترغبه ، لأن النصوص التي تأمر باستئذانها ومنحها الحق في فسخ النكاح إذا أكرهت ، وإن دلت على منع إكراهها على من لا تريد لكنها لا تدل على أن لها الحق في تجاوز أبيها وإجباره على أن يُنكحها غير كفء يُلحق به شينا وذما في ذاته ، ويُلام عليه ديانة لتفريطه في النظر في مصلحة ابنته حيث مكنها من غير كفء ، وبعبارة أخرى فإن نصوص الاستئذان وإن عارضت جبر الإلزام فلا تعارض جبر المنع ، إذ ليس في منع زواجها من غير الكفء مخالفة للأمر باستئذانها ، فإن الأب يستأذنها إذا أراد تزويجها ممن اختاره ، ويعطها الحق في الامتناع ، ويبقى له الحق في منعها إذا أرادت الارتباط بغير كفء ، حماية لها من ضرر التغرير ، وحماية للأسرة والولي من ضرر ما يشين ، وحفظا لحق الله بعدم مخالطة الفاسق وقليل الدين.

وهذا يُبقي ـ للإجبار الذي يقول به الجمهور ـ معنى ، وهو أيضا موافق للرواية عن أبي حنيفة المختارة للفتوى من أن البالغة العاقلة إذا عقدت على نفسها دون ولي من غير كفء لا يصح نكاحها.

ويُقتصر في الكفاءة التي يُعطِي تخلفها للولي الحقَّ في منع ابنته من النكاح على الكفاءة في الدين ، على ما عليه المذهب المالكي، دون الالتفات إلى الحسب والمال والحرية والمهر، حتى لا يتخذ الولي التذرع بعدم الكفاءة إذا أطلقت بما يشمل غير الدين، سبيلاً إلى الوصول إلى إجبار المنع الذي جُعل بيده، فيمنعها من كل من لا يريده، بحجة عدم الكفاءة في حسب أو مال أو غيره ذلك .

والاقتصارُ على التدين في الكفاءة الذي يعطي للأب حق المنع عند فقدها ، ليس فيه تعنت على ابنته، لأن التدين، في مقدور من يتقدم للزواج تحصيله، فعليه الاتصاف به ليكون كفئاً، فليس في اشتراطه على الخاطب تعجيز، بخلاف الحسب أو المال أو الجمال أو الحرفة فليست في مقدوره، كما أن خطورة نقص المال والحسب في النكاح ليست كخطورة نقص الدين .

مجالس التحكيم:

الرفع لجماعة المسلمين للنظر في النزاع والخصومات عند عدم وجود القاضي أو كونه غير عدل واجب متعين ديانة ، لما في تركه من إقرار الظلم وإضاعة الحقوق ، قال الشيخ خليل المالكي في مختصره : “ولزوجة المفقود الرفع للقاضي والوالي ، … وإلا فلجماعة المسلمين ، فتؤجل أربع سنين”.

ونقل الحطاب في مواهب الجليل عن ابن مغيث قوله: جماعة العدول تقوم مقام السلطان، ولو كان هناك سلطان، في المرأة يغيب عنها زوجها أنها تثبت عند العدول ما ثبت عند القاضي فتطلق نفسها، وكذلك في خروج أحد غريمين لاقتضاء دين لهما، وأعذر إليه في الخروج، وأشهد العدول على ذلك، فالعدول يقومون مقام السلطان في هذا الإثبات .

ونقل عن أبي عمران : أن جماعة العدول تقوم مقام الإمام في المحارب، وفي القصاص والديات، وفسخ البيع الفاسد، وفيما إذا ترك الميت بنتا وعصبة فاختلفا، ولا إمام .

ونقل البرزلي عن السيوري أنه : “إذا تحرج الناس لعدم القضاة أو لكونهم غير عدول فجماعتهم كافية في الحكم في جميع ما وصفته وفي جميع الأشياء ، فيجتمع أهل الدين والفضل فيقومون مقام القاضي في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك” ، وقال ابن يونس: “إن جماعة العدول تقوم مقام الإمام”، ومن قواعد المالكية: “من فعل فعلا لو رفع إلى الحاكم لم يفعل سواه ، يكون فعله بمنزلة الحكم”.

وعليه فـأرى أن من مهام هذا المجلس أن يضع تصورا لإنشاء مجالس هؤلاء العدول الذين يقومون مقام القضاة ، وكيفية اختيارهم ، وتعميمهم في كل المدن المكتظة بالجاليات المسلمة ، ووضع برنامج لحث الجالية المسلمة في البلاد الغربية على تنظيم وتنشيط هذه المجالس، بأن توضع لها اللوائح الإجرائية فيما تنظر فيه ويُعرض عليها، بحيث تأخذ القضايا المعروضة عليها الصبغة القضائية، من التفحص في الأدلة ، والنظر في البينات، دون الاقتصار على مجرد الفتوى، ويوفر لها الدعم المالي من طرق مختلفة، كالرسوم والأوقاف وصناديق التبرعات وغير ذلك.

وعلى الجاليات المسلمة المتمثلة في رابطاتها الإسلامية ومجالسها العلمية ومراكزها الإسلامية، وذوي النفوذ لدى السلطات ومجالس النواب والبرلمانات، الدخول في حوار مع السلطات المحلية للضغط عليها للاعتراف بالأحكام الصادرة من مجالس التحكيم الخاصة بالمسلمين ، وإضفاء الصفة التنفيذية على أحكامها بقوة القانون، دون طلب التزامات مالية على تلك السلطات ولو بداية ، ولهذا الضغط على السلطات المحلية ومحاورتها مبررات، منها تخفيف العبء عن محاكم الدولة، وتسريع الفصل في حل قضايا المسلمين، وعلى الأخص المتعلقة منها بالزواج التي يتطلب الفصل فيها في الوقت الحاضر من محاكم الدولة أعواما وسنين .

وفي التجربة التي بدأ بها الشيخ سالم الشيخي في مانشستر مثال يُحتذى، وهذه المجالس وإن كانت فائدتها في الوقت الحاضر محدودة قاصرة على الخصوم الراغبين في الالتزام بأحكامها ، لأنها لا تملك التنفيذ بقوة القانون ، فالواجب الاستفادة من القدر المتاح المحدودة في الوقت الحاضر .

والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم…

 

                                                                          الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

                                                                  تاجوراء 20 ـ جمادى الأولى ـ 1425 هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق