البحوث

حكم مشاركة المسلمين في مجتمعات الأقليات اجتماعياً وسياسياً

 

حكم مشاركة المسلمين

 في مجتمعات الأقليات اجتماعياً وسياسياً

إعداد:

أ. د. حمزة بن حسين الفعر الشريف
 

مقدم إلى الندوة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

الدورة السابعة عشرة المنعقدة في سراييفو

 

من 28 ربيع الثاني إلى 3 جمادى الأولى لعام 1428 هـ

الموافق  15 إلى 20 مايو لعام 2007 م


   الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف النبيين ، وخاتم المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :

فإنَّ الوجود الإسلامي في الغرب الآن تجاوز مسألة وجود عدد محدود من الأفراد يأتون للدراسة أو العمل ، ثم يعودون من قريب ؛ إلى مسألة أكبر وأعمق من ذلك ، حيث أصبحت أعدادهم بالملايين ، فيهم من قدم للدراسة أو العمل ، وفيهم من أقام إقامة دائمة وأصبحت له صفة المواطنة ، وربما تزوج من أهل تلك البلاد ، وأنجب فيها ، وهناك فئة ثالثة عددها غير قليل ممن أسلموا من أهل البلاد الأصليين قديماً أو حديثاً ، وهذا كله يوجب أن ينظر إلى الوجود الإسلامي  بما يستحقه من الاعتبار والنظر الشرعي المؤصَّل ، لأن المسلمين أصبحوا جزءاً من نسيج تلك المجتمعات ، لهم حقوق في العمل والتعليم والصحة والتملك وسائر حقوق المواطنة ، كما أن عليهم ما على المواطنين من واجبات ومسؤوليات .

إنه وضعٌ جديدٌ يختلف اختلافاً بيِّناً عن الأوضاع السابقة ، وجدت فيه للمسلمين مؤسسات عديدة ، ثقافية وتعليمية واجتماعية ، وصناعية وتجارية وغيرها ، ووجدت الآلاف المؤلفة من المساجد والمراكز الإسلامية التي هي في حقيقتها مؤسسات ذات أثر كبير في المسلمين وغير المسلمين لأنها لا تقتصر على توفير المناخ التعبدي للمسلمين فحسب ، بل إنها تهتم  بالجانب الاجتماعي ، وجانب الدعوة إلى الله ، وتتبنى الدفاع عن مصالح المسلمين بشكلٍ أو بآخر ، فهي ليست مجرد دور عبادة بالمفهوم الضيق .

كما أنه وجدت العديد من الاتحادات والروابط الخاصة بالمسلمين ، وهذا الأمر كله تحت سمع الدول القائمة وبصرها ، ويسير وفق أنظمتها وقوانينها ، التي تتيح في أكثر الأحيان لكل فئات المجتمع حرية التصرف من غير تمييز بينهم .

وإذا تجاوزنا بعض التصرفات التي تصدر من بعض المسئولين أو الحكومات أو الجهات([1]) ، مما فيه شيءٌ من التضييق على المسلمين ، أو إساءة لهم ، والنظر إليهم على أنهم جسمٌ غريب في كيان المجتمعات الغربية ، يأبى الاندماج والانخراط في كل الهياكل والثقافات المجتمعية ؛ أقول ، إذا تجاوزنا هذا نجد أن الجوانب الإيجابية التي حظي بها الوجود الإسلامي هناك أكثر من هذه السلبيات الجزئية ، فهناك تسهيلات كثيرة ، وهناك دعمٌ لبعض مؤسسات المسلمين التعليمية ، والاجتماعية وغيرها .

وقد تمكن الكثير من المسلمين من العمل الوظيفي أو العمل التجاري ، ودخل كثيرٌ منهم إلى قطاعات ذات تأثير كبير ، مثل التدريس في الجامعات ، أو العمل في المجال الطبي بأعداد كبيرة .

ومن هنا فإنه لابدَّ من تحرير وتحديد النظر الشرعي إلى هذه المجتمعات ، حتى يتسنى الحكم على المشاركة فيها ، اجتماعياً وسياسياً .

حكم إقامة المسلم في ديار الغرب في هذا الزمان:

 

إن الأصل في إقامة المسلمين أن تكون في ديار الإسلام ، لأن المسلم لا بدَّ له من بلدٍ يأمن فيه على نفسه ودينه ، ويستطيع أن يقيم فيه شعائره العبادية ، ولهذا فإنه يجب عليه إن لم يتمكن من ذلك أن يهاجر إلى ديار الإسلام ،  إن كان مستطيعاً، قال تعالى: ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً﴾ [النساء : 97-99] .

ووصفُهم بظلم أنفسهم وسؤال الملائكة لهم ، (فيم كنتم) من باب التوبيخ لهم على فعلهم ؛ لأنهم بإقامتهم في دار الحرب بين ظهراني المشركين يكثرون سوادهم، ويصيبهم الأذى فلا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، وهذه الآية وإن كانت واردة على سبب خاص في المسلمين الذين بقوا في مكة ولم يهاجروا مع النبي عليه الصلاة و  السلام إلى المدينة إلا أن الحكم عام في حق كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، ولا يأمن على دينه، وهذه الهجرة باقية إلى قيام الساعة، أما الهجرة إلى النبي عليه الصلاة و السلام في المدينة فقد انقطعت بفتح مكة ، ولذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام : «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية»([2]).

وقد ذكر ابن العربي رحمه الله أن العلماء قسموا الذهاب في الأرض قسمين : هرباً، وطلباً.

والقسم الأول ينقسم إلى ستة أقسام ، الثلاثة الأولى منها هي المفروضة على المسلم القادر :

القسم الأول: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام .

القسم الثاني: الخروج من أرض البدعة ، وقد نقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال : « ليس لأحدٍ المقام بأرضٍ يسب فيها السلف ، ويعمل فيها بغير الحق »([3]) .

القسم الثالث: الخروج من أرض غلب عليها الحرام([4])  .

ولدى التأمل فيما ذكره الإمام ابن العربي رحمه الله نجد أن مسألة الهجرة وإن كانت توجد بعض مسبباتها في الغرب إلا أن الأعمّ الأغلب الآن تمكن المسلم في ديار الغرب من إقامة شعائر دينه ، مع وجود بعض المفاسد المتعلقة بالأمور

الشخصية في قضايا التربية والأسرة والأبناء ، والتي تحتاج إلى جهد وتعاون كبيرين ، أما فيما يخص القسم الثاني والثالث ، فإنه منطبق على ديار الغرب ، ولكن الشأن في هذا أصبح عاماً مطبقاً في الدنيا كلها ، حتى في بلاد المسلمين إلا ما رحم ربي، ومع ذلك فإمكان الرد والبيان والمعارضة متاحٌ بشكلٍ كبير في ديار الغرب إلى حدٍّ قد لا يقاس به الوضع في كثيرٍ من بلدان المسلمين ، إضافة إلى أن هذه البلدان الغربية أصبحت تمثل الملاذ الآمن لكثيرٍ من المسلمين الذين يعانون من المطاردات والمضايقات في بلدانهم الأصلية، مع ما يكتنف مسألة الهجرة من أمورٍ قانونية وتنظيمية لا تسمح بها الدول الإسلامية في مجملها .

الفرق بين ديار الكفر قديماً وحديثاً :

إن مناط النظر إلى ديار الكفر قديما كان قائماً على أساس أنها ديار حرب لا يأمن المسلم فيها على نفسه ، ولا على دينه ، أو ماله ، أما اليوم فلم يعد هذا المناط متحققاً في أغلب الأحوال ، حيث حلَّت المعاهدات والمواثيق الدولية، والتمثيل الدبلوماسي ، والقوانين والدساتير المستقرة محل ذلك ، ونشأت علاقات بينية بين شعوب العالم ، ومنها شعوب ودول العالم الإسلامي، أصبح – بمقتضاها- الأصل المستقر في العلاقة ، العهد والسلم ، إلا في حالات قليلة أو نادرة.

والانطلاق من هذه النظرة الجديدة يؤطر للعلاقة القائمة بين المسلمين وغير المسلمين عموماً ، وبين الأقليات والمجتمعات  التي تحتضنها في الغرب أو الشرق ، ومن هنا فإنه لا يسوغ العمل والاستناد إلى بعض المقولات الفقهية المنقولة عن بعض علماء المسلمين السابقين ، والتي تبيح صوراً من التعامل المحرم في الشريعة الإسلامية في بلاد الكفار ، (كالتعامل بالربا) ،  لأن تلك المقولات انطلقت من تصور معيَّن للعلاقة مع غير المسلمين من حيث كونهم أهل حرب تستباح دمائهم وأموالهم ، فهي أقوال صدرت في سياق تاريخي وتصور منهجي ، يختلف الحال الآن عما هو عليه فيما مضى ، حيث حلَّت المعاهدات

والمصالح المشتركة – كما تقدم- محل الحروب والاعتداءات ، واستوطن المسلمون  في هذه البلدان ، إضافة إلى أن الأخذ بتلك الاجتهادات يصادم الأصل الشرعي اليقيني في التحريم الذي يدل على أن الربا كبيرة من كبائر الإثم التي حرَّمها الله في كتابه ، قال تعالى : ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ [البقرة : 275]،  وأعلن الحرب على فاعله، ﴿فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ [البقرة : 279] ، وقال عليه الصلاة والسلام :  « اجتنبوا السبع الموبقات ،  قيل :  يا رسول الله  و ما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»([5])، ولم تفصل النصوص الشرعية المحرمة له فيمن يُتعامل معه بالربا، وقد قرر عددٌ من المحققين في علم أصول الفقه أن ذلك يقتضي عموم الحكم في كل من يتعلق به ، والعبارة المشهورة عنهم في ذلك قولهم: «ترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في المقال»([6]).

وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله، ومذهب كثيرٍ من علماء الأصول بعده([7])، فالقول بإباحته في دار الكفر معارضة ومناقضة لما ثبت تحريمه في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولو سلَّمنا جدلاً بصحة هذا القول فإنه يؤدي إلى مفسدة عظيمة وهي جواز فعل المحرمات الأخرى في ديار الكفار ، كالزنا وشرب الخمر وأكل الميتة ، والسرقة ….وغيرها .

فلا بدَّ إذن من تعاملٍ صحيح رشيد ينطلق من ثوابت الشرع الحنيف، ومسلماته، ويجعل المسلم داعياً إلى الله بقوله وفعله ، لأن الرب واحد، والدين واحد، لا مناص للمسلم من الالتزام به في كل أحواله حيثما حلَّ: ﴿قل إن صلاتي ونكسي ومحياي ومماتي لله رب العالمين﴾ [الأنعام : 162].

وفى ذلك أيضا دعوة عملية إلى  أحكام الإسلام وآدابه قد يكون أثرها في نفوس غير المسلمين أبلغ من الكتب والمحاضرات.

إذا تقرر هذا فإنه يمكن أن نتناول بالحديث أمر المشاركة الاجتماعية والسياسية، في المباحث اللاحقة.

أولاً : المشاركة الاجتماعية:

 المقصود بها انخراط المسلم في العمل الاجتماعي الذي لا تقتصر الفائدة منه على المسلمين وحدهم ، بل يكون موجَّهاً للجميع بحسب نوع العمل .

ومن أمثلة ذلك الجمعيَّات  الخيرية التي تقدم خدماتها لفئة محددة، أو لعدد من الفئات مثل جمعيات رعاية المرضى أو المسنين، أو المساجين، أو الفقراء… وكذلك جمعيات النفع العام مثل جمعيات الحفاظ على البيئة، ونحوها .

ومن العمل الاجتماعي السعي في تحسين أحوال الناس المعيشية وتوفير الخدمات وإصلاح بعض الأمور التي يؤدي الخلل فيها إلى مضرة الناس، وتعريضهم للحرج والعسر ومطالبة الجهات المسئولة بذلك، وغيرها من الأعمال التي كان يقوم بها في التاريخ الإسلامي من يسمون برجال العامَّة، الذين يقفون جهدهم وعملهم لقضاء مصالح الناس وحل مشكلاتهم وتخفيف معاناتهم….

إن القيام بمثل هذه الأعمال أمرٌ مشروع في دين الله ، تدل عليه أدلة كثيرة منها :

1 – أن الإسلام دين صلاح وإصلاح ، بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هداية للخلق ، ورحمة لهم ، كما قال جل ذكره : ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾[الأنبياء : 107] ، فليست هذه الرحمة قاصرة على المسلمين ، بل هي أيضاً تشمل الكفار الذين هم من أمة الدعوة البشرية ، للنبي عليه السلام ، وكثيرٌ من نصوص الشرع الآمرة والناهية،والمذكرة موجهة للناس ، ﴿ يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلك تتقون ﴾[البقرة :21] ، ﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾[الحجرات : 13] ، ﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون﴾[الأعراف : 27] .

وقال عليه الصلاة والسلام : « فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطبَةٍ أَجْرٌ » ، وهذا يشمل الكفار أيضاً ، بل إنه يتناول البهائم العجماوات ، يدل لذلك سبب ورود هذا الحديث في قصة المرأة البغي من بني إسرائيل التي اشتدَّ عطشها فوجدت في طريقها بئراً فنزلت فشربت ثم خرجت ، فإذا كلبٌ يتلوى يدلك فمه بالثرى من شدة العطش ، فرقت لحاله وقالت : قد بلغ به من العطش مثل ما بلغ بي ، فلم تجد إناءً تحضر له فيه ماء يشرب منه ، فنزعت موقها ونزلت إلى البئر فملأته وخرجت فسقت الكلب فشكر الله لها صنيعها ، وغفر لها ، وقد قال الصحابة بعد سماعهم القصة متعجبين : وإنَّ لنا في البهائم لأجرٌ يا رسول الله ؟فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : « فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطبَةٍ أَجْرٌ »([8]) . وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : « دخلت امرأة النار في هرة حبستها ، فلا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض »([9]) ، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وسم البهائم في وجوهها([10]) ، ونهى عن البول والبراز في الظل أو في طريق الناس([11])   وأمر بإعطاء الطريق حقه([12]) .

ونهت الشريعة عن الفساد والإفساد كما جاء في قصة قارون ومحاورة قومه له : ﴿ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ﴾[القصص : 77]، وقوله عزَّ وجل : ﴿ولا تفسدوا في  الأرض بعد إصلاحها ﴾[الأعراف : 56].

وسير الصحابة والأخيار من الأمة عبر حقب التاريخ  تؤكد هذا المعنى وتجليه، فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان أن أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه، مرَّ عند مقدمه الجابية من أرض دمشق على قومٍ مجذََّمين من النصارى ، فأمر أن يعطوا من الصدقة (الزكاة) وأن يجرى عليهم القوت([13]) .

وذكر الإمام أبو يوسف في كتابه الخراج ، عقد الذمة بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأهل الحيرة وجاء فيه : « وجعلت لهم أيما شيخٍ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفةٌ من الآفات ، وكان غنياً فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين ، وعياله »([14]).

وهذا يؤكد أن الدولة الإسلامية تبنت حق الرعاية الاجتماعية أو الصحبة لبني الإنسان الداخلين تحت ولايتها دون تمييز بينهم .

وقد يقول قائل: إن هذا في الدولة الإسلامية ، فأين هي في ديار الغرب؟

والجواب أن القصد من ذلك بيان عناية الإسلام بهذا الأمر ورحمته بأصحاب الحاجات عموماً ، والمسلمون هم حملة هذا الدين ، يحب عليهم القيام به ، وتبليغه إلى الناس قولاً وعملاً .

2 –  عناية الإسلام بشأن الخلق القويم ، الذي هو عماد صلاح الدين ، المعاملة بين الناس ، واستقامة العلاقات بينهم ، وهذا له أدلة وشواهد كثيرة ، منها :

أ – تزكية الحق تبارك وتعالى لنبيه ، وثنائه على خلقه ، قال جل ذكره :

﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾[القلم : 4] ،وقوله تعالى: ﴿ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾[آل عمران : 159] .

ب – ثناؤه عليه الصلاة والسلام على أصحاب الخلق الحسن ، وبيان علو درجاتهم في الجنة ، ومن ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : « إِنَّ مِن أَحبِّكُم إِلي وَأَقرَبكم مِني مَجلِسَاً يَومَ القِيَامَة أَحَاسِنُكُم أَخلاقاً »([15]) .

وقوله عليه الصلاة والسلام : « أنا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كان مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كان مَازِحًا وَبِبَيْتٍ في أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ»([16]).

وهذه الأدلة وأمثالها لا ينحصر مجالها بين المسلمين ، بل إنها تتسع لتشمل جانب المعاملة مع غير المسلم ، وإن من أعظم الأخلاق التي أمرت بها الشريعة وعظَّمت شأنها خلق الإحسان ، قال تعالى : ﴿وأحسنوا إن الله يحب المحسنين﴾[البقرة : 195] ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث شداد بن أوس : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء »([17]) .

وهو يشمل الإحسان إلى الخلق جميعاً القريب والبعيد ، الجار وغير الجار ، والفقراء والمرضى ، والدواب ، والبهائم ، والبيئة وما فيها ، فلا يعتدي أحد عليها ، ولا يسرف في تناول المباحات التي منها ، ولفظة (الإحسان) هذه تشعر بمعنى جميل محبب يتضمن الجودة والإتقان ، والرفق والحنو في المعاملة مع أصحاب الحاجات ، ومع الناس ، ومع الكائنات جميعاً ، ويشمل بوجه خاص حسن اللفظ ومناسبة الخطاب مع من يدعون أو يحاورون ، أو يناصحون ، حتى من غير المسلمين ، قال تعالى: ﴿وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن﴾ [الإسراء : 53] ، وقال تعالى ﴿وقولوا للناس حسنا ﴾[البقرة : 83] ، وقال سبحانه أيضا : ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾[العنكبوت : 46] .

كل هذا مما يوسع دائرة المراد بهذا اللفظ بحيث يصبح شعاراً لحركة المسلم وسعيه في عبادته لربه إذا صلَّى أو زكى أو صام أو حج ، وفي سائر أموره في خاصة نفسه ، أو فيما يتعلق بمن يعامله أو يتصل به ، قال الإمام القرطبي رحمه الله في شرحه لقوله تعالى﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾[النحل : 90] ، إن الله يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض حتى إن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر في تعهده بإحسانك([18]) .

ويقول الدكتور كمال المصري : إن الإحسان ليس إحسان صلاة أو صيام فقط ، بل هو منهج حياة ، وأسلوب معيشة ، هو عبادة ومعاملة ، هو صلاة وحسن خلق ، هو طاعة وأداء الحقوق لأهلها([19]) .

إن الثناء على خلق الإحسان والأمر به من أجلى الأدلة على مشروعية مشاركة المسلمين الاجتماعية في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها، وهو دليلٌ أيضاً على أهمية مراعاته وإلزام النفس به حتى يكون صفة لازمة لها، وقوة داخلية دافعة إلى الإتقان والمهارة في العمل والمعاملة ، تحقيقاً لما أمر الله به وتوصلاً إلى المصالح الكثيرة التي تترتب عليه، ودرءاً للمفاسد الناجمة عن التقصير والتهاون في مراعاته.

وإنَّ من الإحسان: العدل في المعاملة في البيع والشراء ، والأخذ والعطاء  ، والحب والبغض ، وسائر الأمور ، لأن الله سبحانه أمر بالعدل مع كل أحد   وأوجبه حتى للمخالفين قال تعالى : ﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾[المائدة : 8] .

    إن التسلح بكل هذه المعاني الكريمة والأخلاق القويمة ، والمشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية ؛ كما أنه وفاء بالحقوق التي أوجبها الله، والتزام بالسمت الذي لا يسع المسلم غيره، هو عملٌ رساليّ يسهم في الدعوة إلى الله بالحسنى، ويعرِّف الناس بدين الإسلام، وما فيه من الأحكام التي فيها صلاح للناس، وما فيه من الآداب والمكارم التي تأسر مشاعرهم، وتستحوذ على قلوبهم وعقولهم، وهو بهذا شهادة على الناس بالتعريف بهذا الدين، والتاريخ الإسلامي حافلٌ بذكرياتٍ عطرة كان سببها مراعاة الخلق القويم والعدل مع الخلق، فهذا جيش المسلمين بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي حينما فتح سمرقند المدينة العظيمة  بشيءٍ من الغدر –كما قيل-  فشكا أهل البلد إلى عمر بن عبد العزيز أن الجيش غدر بهم  وظلمهم  فكتب عمر إلى واليه سليمان بن أبي السرح يقول له أن أهل سمرقند قد شكوا إليَ ظلم قتيبة لهم  فإذا أتاك كتابي فاجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم فان قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا فاجلس لهم سليمان  القاضي  جميع بن حاضر الكندي وأحضر المدعي والمدعى عليه وسمع أقوالهما ثم أصدر حكماً يستطيع القضاء الإسلامي أن يفخر به على كل قضاء في الدنيا ، حيث حكم ببطلان الفتح لأنه كان غدراً ، ولأنه خالف قواعد الإسلام في الحروب ، وبخروج الجيش من البلد ، وإعطائه مهلة للاستعداد ، ثم إعلان الحرب من جديد ، ونفذ هذا الحكم الغريب ، وشرع الجيش بالانسحاب ، وعندها قال أهل البلد  بل نرضى بما كان ولا نجدد حرباً وكان ذلك سبباً في دخولهم الإسلام مختارين ([20]) .

وهذه بلادٌ كثيرة في أفريقيا وشرق آسيا دخل أهلها طواعية في هذا الدين ، ولم يكلفوا المسلمين حرباً ولا قتالاً بسبب معاملة تجار المسلمين والتزامهم بإسلامهم.

ثانياً : المشاركة السياسية :

السياسة لها تعريفات عديدة ولكنها في أقرب مفاهيمها قيادة ورعاية لشؤون الدولة في الداخل والخارج .

والاشتغال بها في دساتير الدول الحديثة حق لكل مواطن ، متأهل لذلك ، وهناك نظريات عديدة ، ورؤى مختلفة تنطلق منها ممارسات المشتغلين بهذا الشأن ، وجل اهتمامهم الوصول إلى موقع التأثير والقرار ليتمكنوا من تحقيق ما يرونه في إدارة الدولة من خلال تكوين الأحزاب والجمعيَّات والهيئات ، والدخول في الانتخابات توصلاً إلى البرلمانات  والمجالس ، ورئاسة الدولة ، والحكومة وغيرها ، وهذا كله يحتاج إلى تربية وإعداد للمواطنين حتى يعرفوا حقوقهم فيطالبوا بها ، وواجباتهم فيؤدوها .

والمسلمون في بلاد الأقليات لهم حقوق عديدة تخصهم في الجانب التعليمي وفي جانب الرعاية الاجتماعية ، وفي الجوانب الدينية المتعلقة بأداء شعائرهم ، وكذلك في جانب الأحوال الشخصية الخاصة بهم ، وهم لذلك محتاجون إلى السعي إلى تحصيل هذه المصالح والعمل على المحافظة عليها ، وهذا يحتاج إلى أن تكون للمسلمين قوة سياسية أو مشاركة أو تعاون مع غيرهم لتأمين هذه الحقوق ، وكلما ترسخت هذه المشاركة وقوي أمرها كانت الفائدة فيها أعظم .

والسياسة الآن في العالم أجمع وفي الغرب على وجه الخصوص تقوم على المبدأ النفعي(البراجماتي) الذي لا توجد فيه قيم ومبادئ  ثابتة ، بل هو متحرر ومتحرك مع المصلحة الآنيَّة ، وقد يرتكب أصحابه مرتكباً صعباً في سبيل تحصيل مآربهم في الوصول إلى مواقع الإدارة والقرار ، وإذا وصلوا قد ينكثون بما وعدوا به ، ومن هنا قد يرى البعض – نظراً لهذا- عدم جواز المشاركة السياسية إضافة إلى أنه يلزم منها القبول بالتعددية التي قد تكون بعض أنواعها مناقضة للإسلام

وأحكامه ، فالدخول في شراكة مع أصحابها يعني القبول بالباطل،والإعانة عليه.

والله سبحانه وتعالى يقول :﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾[المائدة : 2] .

والذي يترجح في هذا الشأن هو أن مشاركة المسلمين السياسية في مجتمعات الأقليات أمرٌ مشروع يصل إلى مرحلة فروض الكفايات لعدة أمور :

أ – إن هذه المجتمعات ليست مجتمعات إسلامية تحكمها شريعة الله ، بل هي مجتمعات مدنية علمانية لا ترى للدين أي سلطان على الحياة ولذلك فالتعامل معها ومع من فيها ينطلق من الموازنة بين المصالح والمفاسد ، والعمل على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها ، وتحصيل أعظم الخيرين ، ودفع أعظم الشرين ، وهذا مبدأ شرعي مؤصل لا محيص عن القبول به خاصة في مثل هذه الأحوال([21]) .

ب – المشاركة السياسية وسيلة لتعزيز وجود المسلمين والمطالبة بحقوقهم ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهو أمر تدعو إليه الحاجة في الحياة المدنية المعاصرة ، ويترتب عليه مصالح كثيرة .

  ج – إن الهيئات والمجامع والمجالس الشرعية قد قررت أهمية مشاركة المسلمين الإيجابية في مجتمعات الأقليات .

ولما كانت المشاركة السياسية معلماً رئيساً من معالم المجتمعات  الحديثة ، التي تأثرت بجو العمل والتقدم الصناعي والتقني والحرية الثقافية والفكرية ، وأصبحت علاقاتها مبنية على هذا ، ولما كانت المواطنة هي العقد الاجتماعي الجديد الذي  يربط كل المنتمين إلى وطن واحد برباطه ، فإن المشاركة السياسية هي التعبير الفعلي عن القبول بهذا العقد الاجتماعي ، وما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات تنتج عن التعامل والتكامل بين مختلف الفئات الاجتماعية ، وتعبِّر عن

الرغبة في الإسهام في التنمية الشاملة من قبل الفرقاء المتعددين ، فهي بذلك مؤشر جيِّد على سلامة وصحة العلاقة بين المنتمين إلى وطن واحد .

د  – مما يدل لذلك أيضاً مشاركة الرسول عليه الصلاة والسلام ، مع أعمامه في حلف الفضول الذي عقد في دار عبدالله بن جدعان في الجاهلية ، وتعاقدوا فيه على نصرة المظلوم وإعانة الضعيف ، وإغاثة الملهوف ، وقد قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم  : « لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو دعيت إليه في الإسلام لقبلت»([22]) .

وهذا يدل على أن التعاون لما فيه مصلحة راجحة جائز حتى ولو كان مع الكفار ، والمشاركة السياسية من هذا القبيل .

هـ – ذكر العلماء جواز العمل مع أئمة الجور ، والصلاة خلفهم لترجح مصلحة ذلك خشية من الوقوع في الفتنة ، وشيوع الاضطراب والإحتراب ، مما يؤدي إلى الفساد وخلخلة بنيان المجتمع .

و – المشاركة السياسية من قبل المسلمين في هذه المجتمعات ، إذا ترجحت مصلحتها ، سعي في الإصلاح العام  وتقليل للمفاسد ، وهو أمر مطلوبٌ وبخاصة في هذه البلاد ، التي لا يحكمها دين ولا يردعها خلق ، والمسلمون أولى الناس بهذا الإصلاح .

ز – أما القول بأن المشاركة السياسية تؤدي إلى القبول بالتعددية التي قد تكون بعض أنواعها مناقضة للإسلام ، فالدخول فيها من القبول بالباطل ، والإعانة عليه ، فالجواب عنه : أن العمل السياسي من خلال منظومة التعددية في ظل هذه الأنظمة ضرورة من أجل الحفاظ على الحقوق والحريات والأموال ، ووسيلة إلى تحقيق التوازن بين جميع الفرقـاء ، بل إنه مزية في مثل هذه البلدان لتمكين المسلميـن من الاسـتفـادة من القوانين والدسـاتيـر التي ترعى ذلك وتبيحـه، لعمل شيءٍ نافع ، يخصهم ويحصل مصالحهم .

والخلاصة :  أن المشاركة الاجتماعية والسياسية بالاعتبارات المتقدمة نوعٌ من الجهاد المشروع ، وسعيٌ للإصلاح الاجتماعي ، والمطالبة بحقوق المسلمين والتمكين لهم .

والحـمد لله رب العالمين،،،

 


([1])     مثل مسألة الحجاب في فرنسا وبعض الدول الغربية ، ومثل ما حدث في الدنمارك من إساءة لشخص المصطفى عليه الصلاة والسلام .

([2])    صحيح البخاري3/1025 ، باب فضل الجهاد والسير ؛ واحمد في مسنده 1/355 .

([3])    هذا الأمر الآن منتشرٌ مألوفٌ في عدد من ديار المسلمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

([4])    تفسير القرطبي ، 5/345 -351 .

([5])     صحيح مسلم/باب أكبر الكبائر الشرك بالله ، 1/ 64 .

([6])      (المستصفى ، 1/235 ؛ البرهان في أصول الفقه1/237 ؛ إرشاد الفحول1/229) .

([7])      القواعد والفوائد الأصولية ، 1/234 . المختصر في أصول الفقه ، 1/116 .

([8])   أخرجه مسلم في السلام باب : فضل ساقي البهائم المحترمة رقم(2245) ، قال الشيخ الألباني في صحيح      الجامع(2876) : صحيح .

([9])   أخرجه البخاري في صحيحه (3/1205) ، ومسلم في صحيحه4/(2023)  .

([10])  سنن أبي داود 3/26 ، مسند احمد3/323(14499) .

([11])   صحيح مسلم ، باب النهي عن التخلي في الطريق والظلال ،1/156 .

([12])    صحيح البخاري2/870  .

([13])   فتوح البلدان 1/135

([14])  155،156

([15])  سنن الترمذي4/370 .

([16])       سنن أبي داود ، 4/253 ، السنن الكبري للبيهقي ، 10/249 .

([17])       سنن النسائي7/229 (4412)  ، وابن ماجه ، 2/1058(3170) .

([18])       أحكام القرآن ، 10/166 .

([19])   موقع إسلام أون لاين .

([20])      فتوح البلدان للبلاذري  .

([21])قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ، 1/136 .

([22])      السنن الكبرى للبيهقي6/367 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق