البحوث

الموقف المبدئي للإسلام من الأديان والمذاهب المبادئ وبعض التجارب التأريخية

 

الموقف المبدئي للإسلام من الأديان والمذاهب

المبادئ وبعض التجارب التأريخية

بقلم:

أ.د. علي محيي الدين القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين 

 


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيّبين وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان الي يوم الدين، وبعد…

 فإن الإسلام قد انطلق في تعامله مع غير المسلمين من مجموعة من المنطلقات العظيمة ، والمبادئ الرائدة ، والقيم السامية ، من أهمها مبدأ كرامة الإنسان ، وأنه فد نفخ فيه من روح الله ، حاله في ذلك حال المسلم ، وبالتالي فلا يجوز الاعتداء عليه ، بل تجب كرامته واحترامه في حدود احترامه للآخر .

 ولم يكتف الإسلام في هذا المجال بوضع المبادئ وإقرار الأسس والقواعد الكلية والتشريعات العظيمة ، بل طبقها على أهل الكتاب في مجمتع المدينة وما حولها ، حيث أقر وثيقة عظيمة ( دستوراً ) تعترف بجميع الحقوق المشروعة لهم ، وأقام مجتمع العدل والإحسان مع الجميع .

 وفي عصرنا الحاضر تغيرت معظم قواعد التعامل بين الأمم والأديان ، فأنشئت المنظمات الدولية للحفاظ على السلم الدولي ، والتعامل الدولي ، وشرعت تشريعات أممية ، ودولية تتدخل في بعض الأحيان في شؤون العلاقات في ضوء حقوق الإنسان ، وهذا يقتضي أن يكون الدعاة المسلمون على دقة متناهية في الخطاب والتعامل .

 ومما يزيد هذا الأمر عناية ورعاية أن الإسلام في أوروبا الغربية لا يزال غير ممكن ولا لَهُ قِدَمُهُ الذي يرسخه في الأذهان ـ كما هو الحال بالنسبة للمسيحية ـ ولا يتمتع بالحماية القانونية ـ كما هو الحال بالنسبة لليهود ـ بل إنه لم يتم الاعتراف به في بعض الدول إلى الآن .

 وفي ظل هذا الوضع يجد الاسلام نفسه في ساحة لديانات أخرى فيها رسوخ مهما تكن درجة تأثيرها في توجيه الحياة ، ولمذاهب فلسفية لها الدور الفاعل في التشكيل الحضاري لمختلف المجالات ، وبالنظر إلى التأريخ وملابساته في علاقة الإسلام بالأديان ، وللاختلاف الجذري بينه وبين أغلب المذاهب الفلسفية ، فإن الإسلام لكي يكون وجوده في أوروبا وجوداً مثمراً لما فيه خير المجتمع الأوروبي بجميع مكوناته أن يكون موقفه من الأديان والمذاهب الفلسفية موقفاً حكيماً يقوم على علاقة بها تتأصل على مبادئ الدين نفسه عقيدة وشريعة ، وتتوخى في الواقع الكرق والمناهج التي تضمن له أن يكون مسهماً في تحقيق الخير للمجتمع الأوروبي بأكمله .

ونحن في هذا العجالة نحاول أن نوضح هذه المبادئ والأسس الإسلامية العظيمة والتجارب الإسلامية التأريخية بقدر ما تسمح به طبيعة البحث ، متضرعاً إلى الله تعالى أن يكتب لنا التوفيق والسداد ، وأن يعصمنا من الخطإ والزلل في العقيدة والقول والعمل وأن يتقبّل منا بفضله ومنّه إنه حسبناً ومولانا فنعم المولى ونعم النصير .

                                                                      كتبه الفقير الى ربه:

                                                                       على محيي الدين القره داغي


 

 المبادئ العامة والقواعد الكلية للتعايش السلمي والتعاون الإنساني :

 أولى الإسلام عناية قصوى بترسيخ مجموعة من المبادئ والأسس والقواعد العامة في نفوس المسلمين من خلال مجموعة كبيرة من الآيات والأحاديث الشريفة لتحقيق التعايش السلمي ، والقبول بالآخر ، بل لتحقيق التعاون البناء على الخير والعذاب ، والإحسان ، ومن أهمها :

مبدأ: الاقرار بالاختلافات القومية ، واللونية ، والفكرية والدينية والعقدية :

 إن من سنن الله تعالى أن الناس ( مسلمين أو غيرهم ) مختلفون في الأديان والأفكار والأيدلوجيات والتصورات ، فهناك العشرات بل المئات بل الآلاف من الأفكار والأديان والتصورات والمذاهب الفكرية والتوجهات المختلفة في مختلف جوانب الحياة.

  وهذا الاختلاف هو من إرادة الله تعالى ومن سننه الماضية حيث جعلهم مختلفين فيما سبق ، حيث يقول الله تعالى : (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين….. )[1].

   وفي نطاق الاختلاف في الأديان والمذاهب والآراء يقول الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)[2] وبين الله تعالى أن سننه تقضي وجود هذا الاختلاف حيث يقول  الله تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)[3] ثم كرر ذلك في سورة النحل فقال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتُسئلّن عمّا كنتم تعملون)[4] وفي سورة الشورى : (ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير)[5] ويقول تعالى :  (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[6] حيث تدل هذه الآيات بوضوح على أن هذا هو شأن الإنسان ، كما يفهم منه قبول هذا الاختلاف مع السعي لتقليله .

 ولكن هذه الاختلافات تقل أو تكثر ، تضعف أو تشتد ، تصغر أو تكبر حسب نسب مختلفة وفئات متنوعة بين المسلم وغيره ، ولكن المشتركات الإنسانية بين جميع بني البشر ، ثم المشتركات في أصول الأديان ، والقيم العليا أكثر ، وأكبر وأعظم من المفرّقات والممزقات وبخاصة في مجال قبول الآخر ، والعيش المشترك ، فقال تعالى (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)[7] .

مبدأ : سنة التدافع لله تعالى ، وسنة الدفع بالتي هي أحسن لهذه الأمة :

ولم يستعمل القرآن الكريم لفظ الصراع ، وإنما استعمل لفظ الدفع والدفاع والمدافعة بدل الصراع[8]، فقال تعالى : (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور)[9] وقال تعالى:(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ..)[10] وقال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد)[11] حيث تدل هذه الآيات على سنة التدافع ، وانها من سنن الله تعالى حيث يدفع الظالمين ولكنها لا تدل على تأصيل فكرة الصراع في قلوب المسلمين بأن يتخذوا الصراع منهجاً في تعاملهم ، كما هو الحال بالنسبة لسنة الخلاف والاختلاف فهي سنة ، ومع ذلك لا ينبغي للمسلمين أن يتخذوه منهجاً لهم في التعامل .

 وإنما الذي اكد عليه القرآن لهذه الأمة في كيفية التعامل مع المخالفين في غير حالة الحرب هو منهج الدفع بالتي هي أحسن ما دام ذلك ممكناً فقال تعالى في سورة المؤمنون : (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون)[12] وفي سورة فصلت : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقا الله إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم)[13] .

مقاصد الشريعة في بيان هذه الاختلافات :

يظهر لي أن من مقاصد الشريعة لبيان هذه الفروقات الدينية والعقدية بين المسلم والآخر هو ما يأتي :

  • معرفة هذه الحقائق لقبولها والتعامل معها بشكل صحيح .
  • أن يطبق على كل حالة من الحالات السابقة ميزانها الخاص ، فالميزان الخاص بعلاقة المسلم بالكافر الملحد يختلف عن ميزان التعامل مع أهل الكتاب ، كما أن ميزان الحرب هو غير ميزان السلم ، وأن ميزان الأقلية هو غير ميزان الأكثرية .
  • أن الاختلاف سنة من سنن الله تعالى ، ومفهوم في ظل طبيعة الإنسان ، حيث منحه الله تعالى العقل ، والارادة الحرة والاختيار ، وبالتالي يكون من الطبيعي اختلاف إنسان مع آخر في فكره وعقيدته وتصوراته .
  • التكيّف مع الاختلاف ، والقبول به لأجل العيش المشترك ، والتعايش السلمي ، والتعامل ، بل التعاون على البر والخير ومصالح العباد والبلاد .

مبدأ : الاعتراف بكرامة الإنسان مطلقاً وحقوقه :

اعترف الإسلام بكرامة الإنسان باعتباره إنساناً مع قطع النظر عن فكره وعقيدته ، فقال تعالى : (ولقد كرمنا آدم)[14] .

 كما جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض وزوده بالإرادة والاختيار فقال تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة)[15] وحينما تدخلت الملائكة لبيان الحكمة من ذلك أثبت لهم بان الإنسان اعلم منهم في مجال الاستخلاف والتعمير .

 وقد أكرم الله تعالى الإنسان بالحرية في مجال العقيدة فقال تعالى : (لا إكراه في الدين)[16] وحرره من رق العبودية لغير الله ، وسعى بكل ما في وسعه لإعتاق العبد ومنع المثلة والتعذيب وحتى الترويع وأعطى حرمة عظيمة لحرمات الإنسان وخصوصياته وحقوقه ، وممتلكاته ، وساوى بين جميع البشر إلاّ من خلال العمل الصالح فقال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )[17] .

 وجعل المسؤولية شخصية فقال تعالى : (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)[18] وقال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى)[19] .

 مبدأ : وحدة الأديان السماوية في أصولها ، ومُنْزِلها الواحد :

 يُرجع الإسلام الأديان السماوية كلها إلى أصل واحد وهو الوحي الإلهي ، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد ، ولذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين ، والكتب السماوية ، والكتب المنزلة السابقة ، فقال تعالى : (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)[20] وقال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)[21] .

 ويبين الله تعالى بأنه شرع لهذه الأمة كل الشرائع الأساسية التي شرعها على بقية الأنبياء (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما أوحينا به إلى إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)[22] .

 وقد ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم فقال تعالى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)[23].

 بل إن القرآن الكريم يدعو اتباعه إلى اتباع سنن المرسلين فقال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)[24] .

 وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم جعل لفظ الإسلام اسماً مشتركاً لجميع الأديان السماوية السابقة وعلى ألسنة أكثر الأنبياء فيقول في شأن إبراهيم : (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)[25] وقال في شان يعقوب : (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)[26] ويقول تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام)[27] .

ونتج عن ذلك :

1 ـ الاعتراف بالأديان السماوية الحقة ، وبجميع الرسل والأنبياء الذين ذكرهم القرآن أو الذين لم يذكرهم ، وفسح المجال لأصحاب الأديان أن يعيشوا في ظل الإسلام .

2 ـ التعامل مع غير المسلمين بالتسامح دون الإكراه والاعتداء فقال تعالى (لا إكراه في الدين)[28] وقال تعالى : (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)[29] وقال تعالى محدداً وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم (ما على الرسول إلاّ البلاغ)[30] وقال تعالى :(فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)[31] وقال تعالى : (لكم دينكم ولي دين)[32] وقد أكد الله تعالى هذه المعاني في الآيات التي نزلت بالمدينة مثل قوله تعالى : (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)[33] .

 ومن الناحية العملية كانت وثيقة المدينة التي تعتبر بمثابة دستور يحكم أهل المدينة الذين كانوا مختلفين من حيث الدين (الإسلام والشرك واليهودية) ومن حيث الجنس (القحطانيون والعدنانيون واليهود) حيث سوّت بين الجميع في الحقوق العامة والواجبات من حسن الجوار والتناصر وما يسمى في عصرنا الحاضر بحقوق المواطنة .

وقد ظلت الدولة الإسلامية تحافظ على حقوق الذميين والمعاهدين بالكامل ، فكانت لهم مكانتهم ، وبعض المناصب العليا حتى من الوزارات ونحوها[34]، يقول (لول ديورانت) : (لقد كان أهل الذمة بدرجة من التسامح لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية هذه الأيام ، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية ، واحتفلوا بكنائسهم ومعابدهم)[35] .

 مبدأ : احترام النفس الإنسانية حية أو ميتة ولو كانت غير مسلمة :

 فقد دلت النصوص الشرعية على احترام الإنسان من حيث هو إنسان ، كما دلت النصوص على احترام الإنسان وهو ميت أيضاً حتى ولو كان غير مسلم ، فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : ( كان سهل بن حنيف ، وقيس بن سعد ، قاعدين بالقادسية ، فمروا عليهما بجنازة ، فقاما ، فقيل لهما : إنها من أهل الأرض ـ أي من أهل الذمة ـ فقالاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام ، فقيل له إنها جنازة يهودي ! فقال : ( أليست نفساً )[36].

مبدأ : عدم إكراه أحد على الاسلام ولو كان ولداً لأبيه المسلم :

  فقد ذكر الطبري والسيوطي بسندهما عن ابن عباس : ( أن أبا الحصين الأنصاري كان له ابنان قد تنصرا قبل الهجرة ولحقا بالشام ، ثم عادا إلى المدينة فلزمهما ، وأراد إجبارهما على الإسلام فأبيا ، ثم احتكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكرهمها على الاسلام وكان حجة والدهما قوله : ( يا رسول الله أيدخل بعضي النار ، وأنا أنظر ؟ ) فأنزل الله تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[37] فخلّي سبيلهما)[38].

مبدأ : أن الأصل في الإسلام هو السلام لا الحرب :

 الحرب في الإسلام لا يلجأ إليها إلاّ في حالة الضرورة ، فهي ليست محبوبة من حيث المبدأ بل هي مكروهة في نفوس المؤمنين فقال تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ….)[39] .

 وقد أكد القرآن الكريم ذلك حيث يقول : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم)[40].

وقد منّ الله على رسوله محمد وصحبه بأنه منعهم من الوقوع في الحرب فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)[41] وقال تعالى : (  وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا )[42]

 وتدل هذه الآية بوضوح على أن الإسلام دين سلام وعقيدة ، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله ، وان يقيم فيه منهجه ، وان يجمع الناس تحت لواء الله اخوة متعارفين متحابين ، وهذا الرجاء من الله تعالى معناه القطع بتحققه ، وهذا ما تحقق فعلاً حيث أسلمت قريش ومعظم القبائل المحيطة ، ووقف الجميع تحت لواء واحد ، وطويت الثارات والمواجد.

مبدأ : تقديم الصلح على الحرب حتى ولو كان الصلح فيه بعض الغبْن :

 وقد أطلق الله تعالى الخير على الصلح فقال : (والصلح خير)[43] وقال تعالى : (…أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس…)[44] ولم يقل بين المؤمنين فقط ، بل عمم الصلح والإصلاح بين الناس جميعاً ، فذلك الخير والأنفع ، وقال تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)[45].

 وقد بين الإسلام خطورة الإفساد في الأرض وعدم الإصلاح فجعله من الكبائر المحرمات الموبقات ، فقال تعالى : (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)[46] وقال تعالى في وصف الكفرة المجرمين : (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)[47] .

 والإصلاح هو رسالة الأنبياء فقال تعالى على  لسان شعيب عليه السلام : (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب)[48]  وقد جعل الله التوفيق حليف من يريد الإصلاح دائماً فقال تعالى : (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)[49] .

 وربط الله تعالى بين الهلاك والإفساد ، وبين النجاة والإصلاح فقال تعالى : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)[50] .

 وليس الصلح والإصلاح في الإسلام مجرد شعار ، وإنما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة حيث حينما جاء للعمرة ومعه عدد كبير من صحبه الكرام منعهم قريش على الرغم من ان كل الدلائل كانت تشير إلى أن الهدف الأساس هو أداء العمرة ، ولذلك أتوا محرمين ،وساقوا الهدي حتى وصلوا حديبية ، حيث بركت ناقته القصواء ..ثم قال : (والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها)[51] ثم حاول الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة ، ولكن قريش منعته ، فأرسل رسله تترى لبيان موقفه لهم ، حيث أرسل خراش بن أمية الخزاعي ، فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش ثم أرسل عثمان بن عفان فأبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الهدف هو زيارة الكعبة وتعظيمها ، غيران قريشاً أخرته حتى ظن المسلمون أنها قتلته ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة تحت الشجرة[52] فبايعوه جميعاً على الموت سوى الجد ابن قيس (وكان منافقاً) ثم انتهى الأمر بالصلح الذي في ظاهره تنازل من طرف المسلمين لصالح المشركين ، فمثلاً كتب علي بن أبي طالب عقد الصلح ، وسطر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم  وثيقة الصلح بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ، فاعترض ممثل قريش سهيل بن عمرو فقال : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ باسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم .

 ثم اعترض سهيل على عبارة : (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) حيث قال سهيل : (والله لو كنا نعلم انك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبدالله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبدالله ) فاعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة (رسول الله) فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب ، فمحاها بيده[53] .

 ثم اعترض سهيل على بند : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) حيث قال : (والله لا تحدث العرب انا أخذنا ضغطة)[54] أي فرض علينا ذلك بالقوة .

 ثم اشترط شرطاً تعسفياً غير عادل وهو : (أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلاّ رددته إلينا) في حين أن من عاد من المسلمين إلى قريش فإنها لا ترده[55] .

 ومع ذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الاتفاقية مع تذمر المسلمين منها حيث ضاقوا ذرعاً ببنودها ، وأسلوب الإملاء والصياغة ، حتى قال عمر له : (ألست نبي الله حقاً؟ قال : بلى ، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت فلِم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : ( إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)[56] .

 ومما زاد الطين بلة أنه أثناء الاتفاقية جاء أبو جندل بن سهيل وهو مرسف في قيوده ، وقد خرج من اسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه ان ترده إليَّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً ) ، ففي صحيح البخاري : (وأبا سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ على ذلك ، فكره المؤمنون ذلك وامَّعضوا ، فتكلموا فيه ، فلما أبى سهيل …كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم …ورد أبا جندل إلى أبيه …ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلاّ رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ….)[57].

 وقد غضب المسلمون نفسياً من رد المسلمين الفارين بدينهم حتى قالوا : يا رسول الله تكتب هذا؟ قال :(نعم ، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)[58] .

 هذا الصلح الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الشروط وفي ظل حنق المسلمين وغضبهم إن دل على شيء فإنما يدل على مدى أهمية الصلح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم بل لدى الإسلام حيث نزلت الآيات من فوق سبع سموات سمته بالفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ) ثم قرأ : (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)[59] .

 وحقاً كان هذا الصلح فتحاً عظيماً للقلوب حيث دخل في الإسلام من بعد الصلح عام ست من الهجرة إلى عام فتح مكة في ثمان آلاف مؤلفة ، حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح حديبية ومعه حوالي 1500 ، في حين جاء في فتح مكة ومعه ثمانية آلاف.

 وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أشد المتمسكين بتنفيذ بنود العقود معه ـ كما سبق ـ والمحافظين عليه ، حتى إن بعض شباب قريش الطائشين أرادوا أخذ مسكر المسلمين غرة ، وكان عددهم ثمانين شاباً ، لكنهم أسروا ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم[60] مع أنه كان بالإمكان أن يجعل ذلك سبباً لنقض الاتفاقية ، كما عفا عن سبعين أسيراً أسرهم المسلمون بعد الصلح ، وعن أربعة حاولوا الإيقاع بالرسول فأخذهم سلمة بن الأكوع[61].

 وروى مسلم في صحيحه بسنده عن انس بن مالك : أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسللين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم سَلَماً ـ أي أسرهم ـ مسلماً فاستحياهم ، فانزل الله عز وجل : (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)[62] .

 وفي هذه الآية دلالة أخرى على أهمية الصلح وعدم الوقوع في الحرب حيث إن الله تعالى امتن بذلك على المؤمنين ، مما يدل على انه من النعم الكبرى ، وان الحرب من حيث هي ليست محببة في الإسلام .

 يقول الشيخ محمد عبدالله دراز : (ومن هنا نرى ان الحرب في نظر الإسلام شرّ لا يلجأ إليه إلا المضطر ، فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم ، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء ، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح)[63] .

مبدأ : العدل والقسط للجميع [64]:

 يعتبر هذا المبدأ في الإسلام من اعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة ، بل تقوم عليه السموات والأرض ، ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثمان وعشرون مرة ، كما ذكر رديفه (القسط) في القرآن الكريم ……. تناول القرآن الكريم خلالهما أهمية العدل والقسط ، حيث أمر بالعدل والإحسان ، فقال تعالى : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر )[65] وقال تعالى : (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله)[66] وقال تعالى : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)[67] وقال تعالى : (وأمرت لأعدل بينكم)[68] وشدد في حرمة عدم العدل مع قوم ولو كانوا أعداء فقال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ..)[69] وأمر المسلمين أن يكون حكمهم قائماً على العدل بين الناس جميعاً ،بل جعل العدل أساساً للحكم الإسلامي ، فقال تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)[70] وشدد الإسلام في اتباع الأهواء والرغبات والمصالح الشخصية ليؤدي ذلك إلى ترك العدل فقال تعالى : (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)[71] وأمر بالعدل حتى مع البغاة الخارجين على الدولة المقاتلين فقال تعالى :(فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)[72] .

 بل إن الله تعالى نهى عن التعدد بين النساء إذا أدى إلى الجور وعدم العدل فقال تعالى : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)[73] وجعل العدل شرطاً في قبول الشهادة والحكم ونحوهما ، فقال تعالى : (واشهدوا ذوي عدل منكم)[74] .

 وتكرر لفظ (القسط) ومشتقاته في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة ، حيث أمر الله تعالى فيها بالقسط مطلقاً أي العدل فقال : (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط )[75] وبالقسط في الحكم فقال تعالى : (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)[76] ، وبالقسط في النزاعات حتى مع الخارجين عن القانون فقال تعالى : (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )[77] وجعل الله مصير هؤلاء الذين يقتلون العادلين إلى النار والعذاب الأليم فقال تعالى : (..ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)[78] وأمر ان يكون الوفاء في الكيل والوزن في الماديات والمعنويات بالقسط والعدل فقال تعالى:(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط)[79] وقال تعالى : (وزنوا بالقسطاس المستقيم)[80] .

 ومن الناحية العملية شهدت السيرة النبوية العطرة وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس جميعاً أروع الأمثلة في العدل والقسط ، وكذلك سيرة خلفائه الراشدين .

 فعلى الرغم من أن الإسلام ينشد وحدة الأمة ويريد لهم الخير كله ، لكنه اعترف بالاختلاف في العقائد والأفكار والألوان والأطياف ، حيث يقول القرآن : (كان الناس أمة واحدة) أي بعد ذلك اختلفوا (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه…)[81] وبعد أن ذكر الله تعالى اليهود والنصارى واختلافهم قال : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات….)[82] .

 وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف أحد المقاصد المعتبرة للابتلاء ، فقال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم)[83] .

 وهذه الآيات الكثيرة ومثلها من الأحاديث النبوية تهيئ نفوس المسلمين لقبول الآخرين المختلفين معهم عقدياً وفكرياً وأصولياً وفرعياً ، والتعايش معهم بأمن وأمان ، وهذا ما حدث طوال التأريخ الإسلامي ، حيث عاش غير المسلمين في أكناف الدولة الإسلامية القوية ، وهم يتمتعون بكامل حقوقهم بل تقلدوا مناصب رفيعة في ظلها ، ولم يحدث مثل ذلك في ظل الإمبراطوريات الدينية الأخرى مثل الدولة الرومانية التي كانت تضطهد اليهود ، وغير النصارى ، ثم لا ينسى التأريخ ما فعل الصليبيون بالمسلمين واليهود في الأندلس .

 مبدأ : أن الحوار ـ لا الصراع ـ هو الأصل في حل المشاكل، والتعامل :

يركز القرآن الكريم على تعويد الأمة على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالحوار ، والجدال بالتي هي احسن ، دون القهر والاستبداد والصراع ، حيث يقول القرآن الكريم : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن)[84] .

 ويؤكد القرآن الكريم ذلك مرة أخرى بالنهي عن الجدال مع أهل الكتاب إلاّ بالتي هي احسن فيقول : (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)[85].

ثناء الإسلام على الأديان السماوية وكتبها وأنبيائها ، ثناءً عاطراً :

فقد أولى القران الكريم عناية قصوى بالثناء على سيدنا إبراهيم الذي هو جد جميع أنبياء بني اسرائيل ( اليهودية والنصرانية ) وبأولاده وذرياته ، وبسيدنا موسى حيث ذكره القرآن الكريم قصصه في عدة سوره حتى بلغ تكرارها موجزاً ومختصراً أربع عشرة مرة ، كما أثنى القرآن الكريم ثناءً عاطراً على آل عمران وسمى سورة باسمهم ، وعلى مريم التي أيضاً سمى باسمها سورة ، وعلى السيد المسيح ( عليهم السلام جميعاً ) في عدة آيات وسور ، فمساه القرآن : كلمة الله ، ووصفه بأوصاف عظيمة ، بل إن الله تعالى أثنى ثناءً عاطراً على بني اسرائيل عندما كانوا يحملون الدعوة إلى الله تعالى حتى فضلهم على عالمي زمانهم فقال تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)[86] كما أثنى على النصارى بصورة عامة فقال تعالى : (……..وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)[87] .

  وكذلك ذكر القرآن الكريم التوارة والانجيل بأوصاف جميلة وعظيمة ، فقال تعالى في وصف التوراة : (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[88] ، وقال في حق الانجيل : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)[89].

  بل إن الاسلام يشترط لصحة العقيدة واكتمال أركان الإيمان أن تؤمن بجميع الرسل فقال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[90] كل ذلك حتى يؤدي إلى كسب اليهود والنصارى ، وإبعادهم عن شبه الصراع ، ولكنهم لم يولوا العناية المطلوبة لكل ما جاء في القرآن العظيم حول ما جاء عن الأديان السابقة ، وكتبها ورسلها ، وحول بني اسرائيل ، والنصارى. 

مبدأ : عدم تعميم الحكم في الإسلام على الآخرين :

ومن أعظم الوسائل المقربة لما بين الناس هو أن القرآن الكريم لم يعمم في الحكم على أهل الأديان ، بل ترك مجالاً كثيراً للحوار والتعايش مع الآخرين ، حيث لم يحكم عليهم حكماً عاماً في سوء التعامل أو عدم الصلاح ، وعدم الأمانة ، فمثلاً قال تعالى : (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)[91] وقال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[92] وقال تعالى: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)[93] فهذه الآيات تهيئ الأجواء المناسبة للتعايش والتحاور ، والتعاون .

مبدأ : توسيع دائرة المشاركة بين المسلمين وغيرهم لتشمل الجميع حتى الملحدين  :

  فإذا كان الإسلام أعطى هذه المساحة الكبيرة المشتركة للعلاقة بين المسلمين (نحن) وأصحاب الديانات السماوية (اليهود والنصارى) فإن هذا لا يعني أن الإسلام أعلن الحرب مطلقاً على غيرهم من الملحدين أو المشركين ، والوثنين ، ونحوهم ، بل إنني أستطيع القول : إن سياسة الإسلام هو توسيع دائرة التعايش لتشمل الجميع ـ ما عدا المعتدين ـ .

ومن هذا الباب فإن الله تعالى يدعو جميع المخالفين ـ بمن فيهم الملحدون والوثنيون والدهريون … ، إلى قاعدة مشتركة بين بني  البشر جميعاً ، وهي البحث عن الحقيقة فقال تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ )[94] .

  فهذه الآية الكريمة دعوة صريحة للجميع بدون استثناء للبحث عن معرفة الحقيقة والهداية ، والباطل ، والضلالة ، ولذلك لم يحكم القرآن عند الجدال بأن الإسلام هو الصحيح ( مع أنه كذلك ) ، ولا على باطل المشركين وشركياتهم بأنه ضلالة ( مع أنه كذلك ) بل ترك الباب للحوار والنقاش .

  ومن بديع هذا الأسلوب المعجز أنه دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى وصف ما عندهم من الحق بفرضية وصف الإجرام، ووصف ما عند الكفرة بالفعل العادي  حتى لو كان باطلاً وإجراماً لأنهم هم الذين يتحملون مسؤوليتهم ، في حين لم يستعمل هذا الوصف بالمقابل للمقابل للدلالة على أن المحاور يجب عليه أن يحترم ما لدى الآخر ، فلا يحكم عليه في البداية ، وفي اعتقادي أن هذه الآية تعتبر أعظم قاعدة وأوسعها وأرقها وأعذبها ، وأحكمها وأشملها في باب الحوار والتعايش .

والتحقيق ان الإسلام يعترف بمجموعة من دوائر الارتباط والوشائج وإن كان قد جعل وشيجة العقيدة والاخوة الإيمانية هي الأساس ، حيث يريد من خلال التوسع في هذه الدوائر إيجاد أرضيات مشتركة للتقارب والتعايش والتعاون ، والدعوة ، وتلك الدوائر هي:

أ ـ دائرة الإنسانية حيث الجميع من آدم وحواء ولذلك يجيء الخطاب بـ : يا أيها الناس.

ب ـ دائرة القومية ، حيث عبر القرآن عنها بالاخوة أيضاً ـ كما سبق ـ .

ج ـ دائرة من هم أهل الكتاب

د ـ وأخيراً دائرة الباحثين عن الحق مطلقاً .

مبدأ : أن الجهاد لأجل الحرية الدينية :

ان إعلان الإسلام الجهاد في أول آية تنزل فيه ؛ لأجل الحرية الدينية ، والمعابد مطلقاً لا بدّ أن يأخذ حيزاً كبيراً في التعامل ، حيث يقول الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ )[95] .

 مبدأ : أن القتال هو آخر مراحل الجهاد :

 ان في تركيز الإسلام ـ  على أن الجهاد في سبيل الله ليس القتال فقط ، بل القتال هو آخر المطاف بشروطه وضوابطه ـ إعطاءً لفرص أخرى من الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة ، ونحوها .

 مبدأ : ربط الاختلاف بالتعارف لا القتال :

 فقد ربط القرآن الكريم الاختلاف بالتعارف ، وليس بالصراع ، والتناحر فقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[96] .

والخلاصة:

 أن هذه الأسس الفكرية والعقدية الكثيرة تؤثر بلا شك في نفسية المؤمنين للاندفاع نحو السلم والتعارف والتعايش وقبول الآخر ، والتفاعل الحضاري الايجابي لخير الجميع ، وهذا ما حدث في تأريخنا الإسلامي.

علاقة المسلمين بغيرهم في حالة السلم:

  • ثلاثة مبادئ عظيمة موجزة في العلاقات الدولية في الإسلام  
  • السيرة والتأريخ
  • الوثيقة أول دستور على مرّ التأريخ يعطي حق المواطنة للآخر
  • التطبيقات العملية للعلاقات الدولية في حالة السلم
  • حقوق غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية

 


السيرة والتأريخ:
(نبذة من سيرة الرسول القائد ﷺ) مع الآخر في المدينة

 

نزل الإسلام لتنظيم علاقة الإنسان بربه ، وبأخيه الإنسان مسلماً أو غير مسلم ، وبالكون الذي حوله ، ووضع لذلك منهجاً متكاملاً ، ومبادئ عامة ، وقواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان ، لما لها من قابلية للتطوير والمعاصرة مع الحفاظ على الأصالة والثوابت .

وفي الفترة المكية لم تكن هناك دولة ، وإنما كانت العلاقة فردية ، يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً إلى الدخول في دين الله والاهتداء بصراطه المستقيم ، وإلى التوحيد ، وبناء الإنسان على العقيدة الصحيحة ، والتربية السليمة الشاملة لجوانب الإنسان الروحية والنفسية البدنية والاجتماعية …

 وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الكثير والكثير من الأذى النفسي والبدني في سبيل تبليغ الدعوة الحقة، وكان شعارهم (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)[97] والدعاء لهؤلاء المشركين الذين يؤذونهم:(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).

 وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وتأسست دولة الإسلام الأولى سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقوية المجتمع المدني والجبهة الداخلية من جانبين أساسين :

أ ـ الجانب الخاص بالمسلمين حيث قام بتوحيد أواصر الاخوة الحقيقية فيما بينهم من خلال التآخي بين المهاجرين بعضهم وبعضهم ، ثم بين المهاجرين والأنصار حيث أشرك الأنصار حقاً إخوانهم المهاجرين في أموالهم ، وفي نخيلهم وثمارهم [98].

ب ـ الجانب العام الشامل لكل من يعيش على أرض المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من خلال الوثيقة التي كانت الدستور لتنظيم العلاقة بين أهل المدينة على أساس المساواة في المواطنة في الحقوق والواجبات والدفاع عن المدينة ونحوها [99].

العلاقة مع قريش والدولة المحيطة به :

  1. كانت العلاقة بين الدولة الإسلامية الفتية وقريش ، والقبائل المحيطة بها علاقة هجوم وحرب من قبلهم عليها ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الدفاع عن الإسلام ودولته مع حرصه الشديد على نشر الدعوة أولاً والتصالح معهم ، ولكنهم كانوا لا يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم .
  2. وأما موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الدول المحيطة بالجزيرة فهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا رؤساءها من خلال رسائل إليهم إلى الدخول في الإسلام ، وحينئذٍ يبقون على حكمهم مع إجراء الإصلاحات والعدالة التي يقتضيها الإسلام ن وكانت رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم هي توصيل الدعوة إلى العالم أجمع لتحقيق الرحمة العامة فقال تعالى : ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)[100] .

  الدعوة العالمية ، والاخوة الإنسانية حتى في حال الشدة والمحنة ، أو النصر والقوة …

  لم يغب عن بال الرسول صلى الله عليه وسلم ان دعوته عالمية إنسانية ، وأن رسالته رحمة للعالمين ، وأن البشر جميعاً تجمعهم الاخوة الإنسانية ، والمساواة في الأصل الواحد والكرامة ، وأكد على هذه المبادئ والمعاني في حال الشدة والمحنة، وفي حال النصر والظفر والقوة، فقد قال في خطبة الوداع: (… والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب)[101] ثم قال: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربيّ على أعجمي ، ولا لعجمي على عربيّ ، ولأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى )[102].

  قال ذلك الرسول ﷺ وهو في قمة انتصاراته وفتوحاته التي يتوقع من الإنسان العادي أن تدفعه نشوة النصر إلى التباهي والتفاخر ، والخروج عن التوازن ، فإذا به ﷺ يضمن هذه المبادئ السامية في خطبة الوداع ووصيته الأخيرة ليتبين أن هذه الرسالة من عند الله تعالى نزلت رحمة للعالمين أجمعين ، وأنها تريد الخير والمصالح والمنافع لهم جميعاً حتى يعيشوا في أمن وأمان ورفاهية وسلام ، ويكون لهم حسن ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، وحتى الذي لا يريد الآخرة فالإسلام أعطاه أن يعيش في دنياه في أمن وأمان ما دام لا يظلم ولا يعتدي ، ولا يفسد في الأرض.

الواقع العملي فيما فعله غير المسلمين مع المسلمين على مرّ التأريخ ، بإيجاز شديد :

    إن علاقة المسلمين بغيرهم ليست جديدة ، بل نشأت منذ نشاة الإسلام في مكة المكرمة ، حينما بعث الله رسوله الخاتم محمداً إلى الناس أجمعين ، ولكنه كان وحيداً ثم آمن به أفراد معدودون من كل الفئات ، فأوذوا في سبيل الله فصبروا حتى تمكنوا من الجزيرة ، ثم من معظم الأرض بفضل الله .

  وكانت العلاقة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام من جانب وبين المشركين في مكة المكرمة علاقة اضطهاد وظلم وايذاء بالغ ، ثم حرب ضروس ، ومحاولة للقضاء التام والتصفية من قبل المشركين على الإسلام وأهله ، وطمس معالمه ، فقد قتلوا بالتعذيب عدداً من الصحابة الكرام ، وحاولوا قتل الرسول ﷺ نفسه حتى خرج مهاجراً إلى المدينة المنورة ، ولم يتركوا رسول الله ﷺ فيها أيضاً ، فجهزوا الجيوش للقضاء عليه تماماً ، في بدر الكبرى، ثم في الأحزاب وغيرهما.

  إذن كانت العلاقة بين المشركين وبين الإسلام في مكة وغيرها من الجزيرة كانت علاقة حرب استئصالية ـ بكل ما تعني هذه الكلمة ـ وكان بينهما حرب لا يعترف فيها المشركون بأية مبادئ أو أخلاقيات وقت الحرب ، وكان الرسول ﷺ وصحبه الكرام في موقع الدفاع عن النفس ، وعن الحرية الدينية ، وعن منع الفتنة في الدين .

  ومع كل ذلك التزم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل المدينة المنورة دار سلم وتعايش بين أهلها جميعاً ، فأعطى الحرية الدينية الكاملة ، فقام بوضع أول دستور في العالم يقر حقوق المواطنة لليهود من خلال الوثيقة ـ التي سنتناولها فيما بعد ـ ولكنهم نقضوا العهد ، وحاولوا اغتيال الرسول ﷺ ولم يكتفوا بذلك بل خانوا فاتصلوا بالأعداء المشركين بل شجعوهم على الحرب ، وساهموا معهم بالتأييد والتحريض ، ثم بالفعل في محاولة القضاء المبرم على الرسول ﷺ وصحبه الكرام في غزوة الأحزاب ، وارتكبوا بذلك الجريمة الكبرى التي تستحق أقصى العقوبات .

  ومع هذه الأجواء المتوترة المشحونة بالظلم والقهر وإرادة الإبادة تنزل الآيات القرآنية الآمرة بالعدل والقسط وعدم الاعتداء إلاّ بمثله ، بل الدفع بالتي هي أحسن ، وبيان أن الكافرين ليسوا سواء .

  ثم لما تكونت دولة الخلافة الإسلامية بعد وفاة الرسول ﷺ حافظت على مبدأ الحرية الدينية ، وكرامة الإنسان وحقوقه .

  فلم يسجل التأريخ طوال فترة الحكم الإسلامي حالات الاكراه وإدخال الغير في الإسلام قهراً ، وأكبر دليل على ذلك أن دولة الخلاقة الراشدة ، ثم الأموية ، والعباسية ، والعثمانية حكمت معظم العالم عدة قرون ، ومع ذلك بقيت فيها جميع الأديان ، فلا يزال النصارى في العالم العربي ( مصر والشام والعراق ) ينعمون بحريتهم الدينية وكذلك اليهود إلى أن اختاروا الذهاب إلى فلسطين المحتلة ، فلو كانت الدولة الإسلامية تستعمل العنف والاكراه للدخول في الإسلام لما بقوا فيها أو أسلموا ، أو تركوا البلاد ، كما حدث مثل ذلك عكسياً في الأندلس، حيث حكمها المسلمون ثمانية قرون ، ومع ذلك بقي فيها المسيحيون بكثرة ، ولما حكمها الصليبيون لم يتركوا مسلماً واحداً، أو يهودياً واحداً إلاّ أمام أحد الخيارات الثلاثة: القتل والتحريق، أو التنصير، أو الخروج فوراً ، ولذلك صفيت لهم الأندلس خلال فترة وجيزة ، ولم يبق فيها المسلمون حتى كأقلية، بل ولا أفراد.

وحتى في العصر الحديث فلننظر ماذا فعل الشيوعيون في الاتحاد السوفيتي السابق ، وفي يوغسلافيا بالمسلمين ، وماذا فعل الصربيون بالمسلمين في البوسنة ، والهرسك ، قتلوا منهم مئات الآلاف ، واعتدوا على أعراض نشائهم بالعشرات.

ونحن هنا نذكر بإيجاز اضطهاد أهل الأديان بعضهم لبعض قبل الإسلام ، وحقيقة الجزية  التي أثيرت حولها الشبهات ، ومصطلح الذمة التي هي تدل على أسمى المعاني ، ولكن الإعلام المغرض صنع حولها حساسيات ، واشكاليات ، ثم العروج نحو ذكر بعض العهود التي كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب من اليهود والنصارى .

اضطهاد وحروب إبادة بين الأديان بعضهم لبعض قبل الإسلام (بإيجاز):

وقد ذكر المؤرخون الصراعات الدينية، والاضطهادات التي وقعت بين الأديان السابقة، فقال توماس أرنولد : يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين.

وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة ويضطهدونها تارة أخرى؛ إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مروا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين.

ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي.

وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار.

وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمين إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً.

وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما) وهو أسقف نسطوري قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.

ويقال أن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين قد ذبحوا في هذا الاضطهاد، وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين.

ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس. مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها.”

“ومما يدل على أن تحول المسيحيين إلى الإسلام -في مصر- لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، وما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أعفي الرهبان من دفع الجزية ومنحوا امتيازات معينة )[103] .

ونضيف إليه أن المؤرخين يقولون : إن الرومان هم الذين أكرهوا أهل مصر ( الأقباط ) على النصرانية، حيث يقول غوستاف لويون: ( لقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط، والبؤس والشقاء الذي لم ينتشلها منه سوى الفخ العربي، وكان أهل مصر يقتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات…، ويحقدون على الروم، وينتظرون ساعة تحريرها من براثن القياصرة الظالمين)[104] .

  ولنذكر جزءاً مما ذكره الشيخ الحكيم العلامة أبو الحسن الندوي رحمه الله، في كتابه القيم  (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ).

محارق المسلمين ( هولوكست الأول ) في الأندلس :

 وأما ما فعله الصليبيون بالمسلمين عندما احتلوا الأندلس فيندى له جبين الإنسانية ، فيكفي ما ذكره الأستاذ محمد عبدالله عنان في كتابه القيم : نهاية الأندلس وتأريخ العرب المنصرين ، حيث وثق جرائمهم التي تجاوزت ما يسمى حرب الابادة بالوثائق العلمية[105] وما ذكره الأستاذ في كتاب الأمة ، حيث نقتطف من هذين الكتابين بعض الوقائع البشعة والجرائم الارهابية والوحشية التي ارتكبت بحق المسلمين الذين عاشوا في الأندلس حوالي ثمانية قرون ونشروا العلم والحضارة والأنوار في أوروبا ، وسمحوا للنصارى بالبقاء في الأندلس مع تمتعهم بكامل حريتهم ، فلننظر ماذا فعلوا بالمسلمين عندما انتصروا عليهم .

  فعندما انتصر فريديناند مع زوجته المتعصبة ايسابير على غرناطة (897هـ/1492م) كان القسيسون يطلبون منه بإلحاح أن يعمل على سحق طائفة محمد في اسبانيا ، وأن يخيرهم بين التنصير ، أو التهجير إلى المغرب ، وأنهم برروا له بأن ذلك ليس فيه نقض لعهوده المقطوعة منه لهم ، بل حفاظ لحياتهم ، إذ لا يمكن أن يعيشوا مع النصارى[106] .

  ولكن فرديناند الذي قطع الوعد للمسلمين بمنحهم حريتهم الدينية كان ينظر لتحقيق هذا الهدف القضاء المبرم على الثورات الإسلامية الداخلية ولذلك أعلن سياسته الخاصة بالتنصير عنفاً وإكراهاً مع بداية عام 1500م بدعم كبير من الكنيسة وكرادلتها ، فأغلقت المساجد ، ثم حولت الى كنائس ، وجمعت عشرات الآلاف من الكتب الإسلامية وأضرمت فيها النيران في ميدان باب الرملة ـ أعظم ساحات غرناطة ـ وكذلك فعلوا في أنحاء مملكة غرناطة ، حتى عمها التنصير بالقوة والتحريق، ومع ذك حدثت ثورات من المسلمين لكنها لم تكن متكافئة ، فقام الجنود الصليبيون بقتلهم بوحشية وسبي نسائهم، وتنصير أطفالهم[107] .

  وفي 20/06/1501م أعلن هو وزوجته عن أن الله تعالى اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة ، ولذلك يحظر وجود المسلمين فيها ، ثم لما تنصر المستضعفون بعد قتل معظم الأقوياء وكان عددهم كثيراً خاف عليهم من القيام بثورة في غرناطة ، لذلك أصدر أمراً بمنعهم من الدخول في غرناطة ، ومنعهم من السكنى ، أو ايواء فيها ، ومن فعل ذلك عوقب بالموت والمصادرة[108] .

 وقد وصف صاحب : أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر[109] ، أحوالهم بكلمات مؤثرة مثيرة للشجون فقال : ( ثم بعد ذلك دعاهم ـ أي ملك قشتالة ـ إلى التنصير ، وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة ، فدخلوا في دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، إلاّ من يقولها في قلبه وفي خفية من الناس وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان ، وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرأن ، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً وينطرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب، فيالها من فجيعة ما أمرّها ، ومصيبة ما أعظمها).

ثم بعد ذلك بدأت محاكم التفتيش للقضاء المبرم عليهم ، واستئصال شأفة الإسلام في الأندلس كلها كالآتي :

  • وصول اتهام ببقاء أحد مسلماً من أي شخص إلى القس الذي يحقق في الموضوع فيكتب تقريره القائم على الاعتراف أو الشهود ، أو قناعته الشخصية بثبوت التهمة.

وقد يتم ذلك من خلال التحريات السرية التي تفرض من قبل القسيسيين الحاقدين على الإسلام .

  • بعد وصول التقرير يصدر ديوان التحقيق ( الكنسي المقدس ) الأمر بالقبض على المتهم ، فيزج في سجن الديوان السري الذي يوصف بأنه كان غاية في التعذيب والشناعة ، ويوضع في الاغلال ، وتصادر جميع أملاكه .
  • وفي هذا السجن يوعد السجين بالرأفة إذا اعترف ، وينذر بالشدة والنكال إذا أنكر ، لأن الديوان المقدس معصوم . وهي طريقة غادرة محيرة ، فإذا اعترف قضى عليه بالعقوبة المناسبة إلاّ إذا اعترف بأنه مسلم فحينئذ يحكم عليه بالموت على الرغم من الوعد بالتخفيف ، وإذا لم يعترف يحال إلى التعذيب المهين إلى أن يعترف ، أو يموت به ، وقد وصف لمورتني ـ أحد المؤرخين الغربيين ـ ذلك بقوله : ( بأن هذا التعذيب لا يمكن وصفه ، حيث تلوث كثير من القضايا فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً ، وكانت معظم أنواع التعذيب المرعفوة في العصور الوسطى تستعمل في محاكم التحقيق ، وربط ساقيه وذراعيه إليها مع خفض رأسه إلى أسفل ، ثم توضع في فمه من زلعة جرعات كبيرة ، وهو يكاد يختنق … إضافة إلى استعمال الأسياخ المحمية للقدم والبطن ….[110] .
  • بعد انتهاء التعذيب ـ إن عاش ـ يحمل ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة ليجيب عن التهم التي وجهت إليه ، ثم يقرر مصيره الأحبار والقسس دون تبليغه بالحكم الذي في الغالب هو الاعدام حرقاً في حالة ثبوت الكفر ( أي الإسلام ) ويتم الإعدام حرقاً مع مجموعات كبيرة في ميدان كبير ، وحفلة كبيرة يشهدها الملك فرديناند الكاثوليكي الذي كان من عشاق هذه الاحتفالات الرهيبة .
  • كان قضاء محاكم التفتيش بطيئاً ، وكان أعضاؤها يتمتعون بحصانة خارقة ، ولذلك كانوا يمارسون اغتصاب البنات والزوجات دون أن تمسهم يد أو ينالهم عقاب[111] .

ما حقيقة الجزية ؟

الجزية لغة : هي الجزاء ، والجزاء هو المقابل[112] .

والمقصود بها في عرف الفقهاء : المال الذي يؤخذ من أهل الذمة ..

فقد عرفها الشافعية بأنها : ( المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا ، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم ، أو لكفنا عن قتالهم )[113] .

وبمثله أو قريب منه قال جمهور الفقهاء[114] وهذا المعنى قريب من معناه اللغوي .

وخلاصة التعاريف تدل على أن هذا المال يؤخذ من غير المسلمين الذي يعيشون في بلاد الإسلام في مقابل توفير الأمن والأمان، ويمكن أن نقول: إنه في مقابل حقوق المواطنة، فكما أن الزكاة تؤخذ من أموال المسلمين المواطنين، وصدقة الفطر على رؤوسهم ، فكذلك تؤخذ الجزية على الرأس ، والخراج من الأرض من غيرهم ، ويدل على ذلك أن بعض النصارى (بنو تغلب) لم يقبلوا باسم الجزية، ورضوا بدفع الزكاة أو مضاعفتها، فقبل منهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه[115] .

ومن جانب آخر فإن دفع الجزية كان دليلاً واضحاً على الاعتراف بالدولة الإسلامية وسلطانها السياسي، وكان في ذلك نوع من الاطمئنان من الطرفين.

  وقد اختلف العلماء في بداية تشريع الجزية ، فذهب بعضهم إلى أنها كانت في السنة الثامنة من الهجرة ، وبعضهم في السنة التاسعة[116] ، حيث أخذت من نصارى نجران ، ومجوس هجر ، ثم من أهل أيلة، وأذرح، وبعض القبائل اليهودية في تبوك ، وكانت في حدود: دينار ( أي أربعة غرامات وربع من الذهب ) على كل بالغ ذكر عاقل سنوياً، فهي لا تؤخذ من الأطفال ، ولا من غير العقلاء ، ولامن الرهبان ، ولا النساء، فقد روى أبو عبيدة وغيره أن كتاب الرسول ﷺ إلى أهل اليمن جاء فيه: ( من محمد إلى أهل اليمن …. ، وانه من أسلم من يهودي ، أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته ، أو نصرانيته فإنه لا يفتن عنها ، وعليه الجزية )[117] .

هل هي أتاوة أم ضريبة المواطنة ؟

إن الدولة مهما كانت طبيعتها ( دينية أو مدينة)  فلها حقوق وعليها واجبات من تحقيق حفظ الأمن والأمان ، والتكافل الداخلي ، ونحو ذلك ، كما أن لها حقوقاً على المواطنين بدعمها بالموارد البشرية والمالية لتحقيق أهدافها التي يجني ثمارها الجميع ، وأن الفوضى الأمنية والسياسية والاقتصادية تدمر كل شيء ، ولا تبقي ولا تذر ، وهذه حقيقة تأريخية ، كما أننا نشاهدها في عالمنا الإسلامي في العراق وغيره .

ومن هنا فالدولة الإسلامية شأنها في ذلك شأن جميع الدول القديمة والمعاصرة ، والمتقدمة ـ فرضت حقوقاً مالية ـ لصالح أمن الفرد والجماعة ولصالح تكافل مواطنيها ، غير انها فرقت بين نوعين من الحقوق الواجبة :

أحدهما:  الحقوق المالية التي فيها معنى التعبد ( مثل الزكاة ) فهذه فرضها الإسلام على المسلمين تعبداً وتكافلاً ، حيث تحتاج هذه ـ من حيث المبدأ والقاعدة العامة ـ إلى النية التي لا تصح إلاّ ممن آمن بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة .

فلذلك يكون من الطبيعي أن يكون لهذا النوع خصوصية من حيث التطبيق ومقدار الواجب ، والواجب عليه ، ومع ذلك لو قبل به غير المسلم بدلاً من النوع الثاني الآتي لرحبت الدولة الإسلامية به ، لأنه أكثر من الثاني .

النوع الثاني: الحقوق المالية التي لا ينظر فيها إلى معنى التعبد أصلاً ، ولذلك يختلف من حيث المصرف ، والمقدار ونحو ذلك ، وإنما يراعى فيه اعتباران ، هما :

  • الاعتراف بالدولة الإسلامية اعترافاً تترتب عليه الحقوق والواجبات من الطرفين ( الدولة ومن يعيش على أرضها ) وهذا هو ما فسره كثير من الأئمة منهم الشافعي به قوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[118] أي مستسلمون ، راضون قابلون بما فرضه الله عليهم من دفع جزء من الأموال إلى الدولة الإسلامية .
  • المساهمة في تحمل جزء من أعباء الدولة الإسلامية في تحقيق الأمن والأمان لجميع المواطنين والدفاع ضد المتربصين بها من كل جانب ، أي المساهمة في المجهود الأمني والحربي ، إضافة إلى المساهمة في تحقيق التنمية ، والتكافل والضمان الاجتماعي للمحتاجين ، حيث إن مصرف هذا المال هو بيت المال ( الفيئ ) الذي يصرف في التنمية الشاملة ، والبنية التحتية ، وفي التكافل والضمان الاجتماعي لكل من يعيش داخل الدولة الإسلامية من المواطنين سواء كانوا مسلمين ، أم ذميين .

إذن فالجزية هي من الناحية اللغوية بمعنى الجزاء الذي يشمل ما ذكرناه ، وليست كلمة تحمل في طياتها سوءاً لأحد ، ولكن الهجمات الإعلامية عليها أدت إلى إثارة شيء من الحساسية نحوها ، ولذلك فلا مانع أن يسمى ما يؤخذ من غير المسلم ، ضريبة، أو نحو ذلك بل لو سيمت زكاة لم ترتكب مخالفة شرعية، بل لها سابقة في عصر عمر رضي الله عنه حينما أبى بنو التغلب (العرب النصارى) أن يدفعوا هذا الحق تحت اسم الجزية بل قالوا له : نحن ندفع الضعف على أن تسمى زكاة فوافق على ذلك عمر ـ كما سبق ـ

  إذن فالتسمية ليست مهمة بقدر أن يؤخذ هذا الحق ويصرف في صالح الدولة والوطن والمواطن.

مصطلح الذمة:

وكما أثيرت الحساسية أمام ( الجزية ) فقد أثيرت أمام كلمة جميلة رقيقة تحمل معان عظيمة ودلالات إنسانية كبيرة ، وهي كلمة ( الذمة ) حيث إن المقصود بها  لغة : الرقبة ، والنفس ، أو العهد ، وفسرت في النصوص الشرعية الثابتة ، بذمة الله تعالى ، وذمة رسوله ، وأن الله تعالى ورسوله قد أعطيا لصاحبها العهد والأمان والجوار .

  والحق أن قبول الإسلام ـ ومعه القوة والدولة ـ بدين آخر والتعايش معه دون إكراه ولا عنف بل مع كامل الحقوق لأصحابه يعتبر انقلاباً في مفاهيم العصور السابقة على عصر الرسالة ، حيث لم يسجل التأريخ أن ديناً قبل التعايش مع دين آخر ولو كان من قوم واحد ، فلم يقبل اليهود دين المسيح عليه السلام ، بل اضطهدوه وأصحابه وحوارييه أشد الاضطهاد وقلتوا منهم من قتل ، حتى حاولوا قتل المسيح عليه السلام وصلبه ، لكن الله رفعه ونجاه من بين أيديهم ، وكذلك حينما أصبح للنصارى دولة وقوة قاموا باضطهاد اليهود مرات عديدة قبل الإسلام وبعده ، وقتلهم وتعذيبهم ، وتشريدهم شر تشريد .

ثلاثة مبادئ عظيمة في العلاقات الدولية في آيات الممتحنة  :

 ويمكن تلخيص العلاقة الدولية في حالة السلم ، وفي حالة الحرب في الآيات الثلاث في سورة الممتحنة وهي : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)[119] ، فالآية الأولى تبين أن الإسلام يتطلع إلى إزالة العداوة ، وتحقيق المودة بكل الوسائل المتاحة ، وأما الآية الثانية فتبين العلاقة بين المسلمين وغيرهم في حالة السلم وعدم الاعتداء حيث تقوم على ما يأتي :

1 ـ البر والإحسان                                                     2 ـ والعدل والميزان .

 وأما الآية الثالثة فتبين العلاقة مع غير المسلم في حالة الحرب والعداوة حيث تقوم على أن يتحد المسلمون ويكون ولاؤهم لله تعالى وللمؤمنين بالمحبة والنصرة ، وأن لا تكون نصرتهم لهؤلاء الكفرة المحاربين ومع ذلك فإن هذه العلاقة يجب أن تقوم على العدل والإنصاف حتى في حالة الحرب .

 والعظيم في هذه الآية أنها جاءت في سورة تبدأ بما فعله أعداء الله تعالى مع المسلمين ، وما يريدون أن يفعلوه معهم:(يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)[120] ثم يقول الله تعالى : (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)[121] ومع ذلك أمر الله تعالى فيها بالعدل وعدم الظلم ، كما أكد ذلك قوله تعالى : (لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )[122].

 والأعظم من ذلك أن سورة الممتحنة نزلت بعد سورة البراءة مما يبعد كل البعد مسألة النسخ ونحوه ، حيث برهنت السورة على أن هؤلاء المشركين كانوا لا يرعون عهودهم ، بل إنهم قد خانوا الله وخانوا المؤمنين ، ومع ذلك تؤكد هذه الآيات على أن يتعامل المسلمون مع غيرهم على قواعد العدل في جميع الأحوال ، وعلى قواعد البر والإحسان أيضاً إذا لم يمارسوا ضد المسلمين الظلم والإخراج والقتل والإرهاب ، فالقاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية هي جعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان وفيما عدا ذلك تكون العلاقة هي البر والإحسان ، فالإسلام ليس براغب في الخصومة والمقاطعة ، بل يريد أن تبقى أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي تجتمع فيه النفوس على المحبة والسلام .

 يقول سيد قطب : (وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع ، وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلاّ وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .

 ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها ، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلاّ حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .

 هذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .

 إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله ، فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية ـ أي عصبية ـ من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب ، إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة)[123] .

 فالإسلام لم يحمل السلاح لفَرض عقيدته بالقوة والإكراه فقال تعالى :(لا إكراه في الدين)[124] كما أن فكرة الهيمنة والاستعلاء فكرة مرفوضة في الإسلام ، فقال تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً)[125] فالحرب في الإسلام هو للدفاع عن العدل ورفع الظلم فقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)[126] وأنها للدفاع عن المستضعفين فقال تعالى : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً )[127] .

أول دستور يعطي حق المواطنة للآخر :

 وقد تشكلت أول دولة إسلامية في المدينة المنورة فقامت على قاعدة المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وانهم أمة واحدة من دون الناس ، وأنهم كجسد واحد ، وان يدهم واحدة ضد من عاداهم ، وعلى قاعدة العدل والمواطنة والحقوق والواجبات المتقابلة لغير المسلمين ، حيث كتب الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة ووثيقة يتعلق عدد كبير من بنودها بحقوق اليهود  تضم  حوالي 47 بنداً منها :

1 ـ أن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ،وان المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس .

2 ـ وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .

3 ـ وأن تسلم المسلمين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم .

4 ـ وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضا .

5 ـ وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد .

6 ـ وأن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .

7 ـ وأن على يهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم .

8 ـ وانه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم .

9 ـ وأنه لا تجار حرمة إلاّ بإذن أهلها .

10 ـ وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه .

11 ـ وأن بينهم النصر من دهم يثرب .

12 ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ، ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين .

13 ـ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .

14 ـ وان يهود الأوس مواليهم وانفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة ، وأبرّه .

15 ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وانه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم ، وإن الله جار لمن برّ واتقى…..[128].

 كما أكدت الوثيقة على الحرية الدينية بكل وضوح فنصت على أن للمسلمين دينهم ، ولليهود دينهم ، وحتى حينما حاول بعض الأنصار أن يجبروا بعض أبناء عشيرتهم الذين تهودوا على العودة إلى الإسلام أنزل الله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ)[129] حيث نصت إحدى مواد الصحيفة على ان : (لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم : مواليهم وانفسهم إلاّ من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه…)[130] كما اكدت الوثيقة على المسؤولية الشخصية تأكيداً لقوله تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى )[131] .

 غير أن اليهود لم يحافظوا على هذه الوثيقة ومحتواها ، ونقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم بظلمهم ونقضهم العهود .

 وأما القبائل (وعلى رأسها قريش) وأهل الأديان المحيطة بهذه الدولة فلم تقبل بوجود هذه الدولة ، بل قاومتها بكل وسائل البطش والعدوان ، وبذلت كل جهودها للقضاء عليها قضاءً مبرماً ، ولذلك لم تكن العلاقة فيما بينهم وبين الدولة الإسلامية علاقة ود وتعاون بل كانت علاقة تخاصم وحرب وعداء ، ومع ذلك استطاع الإسلام أن يربي أتباعه على اتباع العدل والقسط ، فكان من الطبيعي أن تدافع هذه الدولة العقدية عن نفسها ، حيث نلاحظ هذه الروح الدفاعية في أول آية نزلت بخصوص تشريع الجهاد : (أذن للذين يقاتلون في بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير)[132] .

 ثم بينت الآية الثانية بأن مبررات الجهاد والقتال هو انهم ظلموا وأنهم أخرجوا من ديارهم ، وبالتالي فهم يدافعون عن أنفسهم ، وعن درء الظلم ، والدفاع عن العقيدة وأماكن العبادة حتى لغير المسلمين فقال تعالى : (الذين اخرجوا من  ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )[133] .

 ولذلك فالحرب في نظر الإسلام ضرورة لا يلجأ إليها إلاّ عندما تضيق السبل ، وتنسد الطرق على الدعوة وقبول الإسلام ، أو الاعتراف بدولته من خلال ما يسمى بالجزية التي هي مشاركة من غير المسلم في تحمل أعباء الأمن والمواطنة ، كما يتحمل المسلمون اكثر من ذلك من الواجبات المالية من الزكاة ونحوها ولذلك لا يبدأ المسلمون بالحرب ضد غيرهم بل بعرض الدعوة عليهم أولاً ، فإن قبلوها فبها ونعمت،وإلاّ فالجزية،أي المسالمة والصلح .

 ويدل على هذه الروح في أسمى معانيها صلح حديبية حيث قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الشروط التي في ظاهرها إجحاف واعتساف ، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها)[134] واعظم من ذلك سمى الله تعالى هذا الصلح بالفتح المبين،نزلت فيه سورة سميت بسورة الفتح.

 وقد أكد القرآن الكريم على هذا المنهج في أكثر من آية فقال تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)[135] .

 حتى من الناحية الفقهية فإن جماهير الفقهاء (الحنفية ، والمالكية في قول ، والشافعية والحنابلة)[136] يقولون : بوجوب الدعوة إلى الإسلام قبل بدء الحرب استدلالاً بقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)[137] وكان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصيته لصحبه الكرام عندما يرسلهم في مهمة حتى مع المشركين (…وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ، أو خلال ، فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام….)[138] .

 بل حسم ابن عباس (ترجمان القرآن وحبر الأمة) هذه المسالة بصيغة الحصر فقال : (ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط حتى يدعوهم إلى الإسلام)[139] .

 وقد أجيب عن إغارة الرسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق بأنهم هم بدؤه بالقتال خلال إعدادهم القوة للإغارة على المدينة المنورة[140] كما أنهم قد بلغتهم الدعوة.

نماذج من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى واليهود :

  وبالاضافة إلى الوثيقة التي أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان العلاقة بينه وبين اليهود ، وهي تمثل حالة السلم ، وأقرت بجميع حقوق المواطنة المشروعة ، ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب بعض العقود والمواثيق بينه وبين اليهود والنصارى ، منها:

 العهد الذي كتبه الرسول ﷺ لنصارى نجران بعد عودته من غزوة تبوك عام 9هـ، الذي يدل على قمة العدل، والسماحة والحرية، حيث أعطاهم الحرية الدينية، والحماية والجوار، ولم يفرض عليهم إلاّ جزية عينية متواضعة[141]، وقد جاء فيه: ( …ولنجران وحاشيتهم جوار الله … ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصّف غير ظالمين ولا مظلومين … ، ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر ، وعلى ما فيه هذه الصحيفة جوار الله ، وذمة النبي صلى الله عليه وسلم أبداً حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم )[142] .

  وقد أعطى الرسول ﷺ العهد والأمان لليهود حتى بعدما حدث منهم في المدنية يوم الأحزاب في ، حيث كتب لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة بعدة غزوة خيبر بفترة ، إذا بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة : ( أما بعد فقد نزل عليّ رسلكم راجعين إلى فريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ، لكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم ..، ولا ظلم عليكم ولا عدي ، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه …. وأن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم …. فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم ، وأن ليس عليكم أمير إلاّ من عند أنفسكم ، أو من أهل رسول الله … )[143] .

 وهكذا فعل مع بني غاديا ، وأهل حرباء ، وأذرح من اليهود[144] ، ( وبذلك تمكن الرسول  من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية ، يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها …… ، وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله معاذ بن جبل: “بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم”، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية وبقوا متمسكين بدين آبائهم )[145] .

 والتحقيق أن الإسلام كان ينطلق من سنة حتمية الخلاف (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[146] إلى قبول الآخر والحفاظ عليه ، وأن الجزية ما هي في حقيتها إلاّ قبول الآخر والاعتراف بحق مواطنته ، وتكليفه بأداء حقوقه المالية ونحوها في مقابل توفير الأمن والأمان له ، يقول السير توماس أرنولد الذي سنعتمد على عدد من شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: “الدعوة إلى الإسلام” The Preaching to Islam” : الذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.

(…لما قدم أهل الحيرة المال اتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة (أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم)، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: (فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا).

 ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين نتيجة لما حدث أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم.

 فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي من الجزية من هذه المدن وكتب إلى الناس يقول: “إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم”، وبذلك ردت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: “ردكم الله علينا ونصركم عليهم- أي على الروم- فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا.” [147].

الدعوة بالحكمة والموعظة تشمل الجميع :

 فهذه الرسالة في نظر افسلام هي رسالة السعادة وحسنتي الدنيا والآخرة ، ورسالة الرحمة للعالمين أجمعين ، فقال تعالى : ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)[148] ولذلك فالمؤمنون مأمورون بتوصيلها إلى الآخرين ليس بالاكراه والعنف إذ (لا إكراه في الدين)[149] وإنما بالتبشير والموعظة الحسنة ، والحكمة ، فقال تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن)[150] ولكن الله تعالى خص أهل الكتاب بأن يكون الجدال معهم حول أمور الدين بالتي هي أحسن : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم …… )[151] .

  بل إنه من الناحية العملية فقد أمر الله تعالى نبيه موسى ، وهارون ، أن يقولا قولاً ليناً هيناً حكيماً لفرعون الطاغية فقال تعالى : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[152]  وقال لنبيه محمد صلى الله عليهم وسلم : (لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)[153] وخاطبه بأن تكون دعوته بالحكمة والموظعة الحسنة.  

التطبيقات العملية للعلاقات الدولية في حالة السلم :

 يحرص الإسلام كل الحرص على الحفاظ على الأمن والامان ، والسلام ، وعلى العهود والمواثيق التي تمت بين دولة الإسلام، أو المسلمين، وبين غيرهم دولاً وأفراداً، فجاءت مجموعة من النصوص الصريحة تأمر بالوفاء بالعهود والعقود والمواثيق ، فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )[154] وقال تعالى : (وأوفوا بالعهد إن العهد كان عنه مسؤولاً )[155] وجعل الوفاء بالعهود والمواثيق من صفات المؤمنين ،  ونقضها من صفات الكفرة والمنافقين فقال تعالى في وصف المؤمنين المصلحين : (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)[156] ، بل إن القرآن الكريم لا يجيز للدولة المسلمة نقض العهد مع دولة غير إسلامية بينها عهود ومواثيق ما دامت لم تنقض عهدها .

 وقد تضمنت الآيات العشرون (55 – 75) من سورة الأنفال التي هي من أواخر السور التي نزلت على الرسول الكريم صورة واضحة للعلاقات الخارجية بين الدولة المسلمة وما حولها من الدول والطوائف والمعسكرات ، حيث تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقة[157] وذلك من خلال المفاهيم الآتية:

1 ـ وجوب الحفاظ على العقود ، فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )[158]  وضرورة صون العهود والمواثيق من النقض والنكوث حيث سمى الله تعالى الناكثين بشر الدواب ، فقال تعالى : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ )[159]  .

2 ـ وأن الدولة المسلمة التي لها عهد مع أناس آخرين إذا خافت من خيانتهم فإنها تنبذ إليهم عهدهم ، وتخبرهم بذلك ، ولا تخونهم ، لأن الله تعالى لا يحب الخائنين ، فالإسلام يريد من العهد الصيانة ، ومن العقد الحفاظ عليه ، ومن المواثيق الالتزام بها ، فإذا وجد المقابل لا يحافظ على عهد ، ولا يفي بعقده بل من طبعه الخيانة والمكر ، فإن المسلمين لا يجوز لهم أن يقابلوا خيانتهم بخيانة ، وغدرهم بغدر ، بل يصارحونهم ، وينبذون إليهم عهدهم ، او يعطونهم فرضة أخرى ، ولذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة ، ويرتقي بهم إلى آفاق الأمن والطمأنينة والاستقرار ، وعدم الخوف من الإغارة والخيانة .

3 ـ ضرورة إعداد القوة حتى لا يطمع الأعداء في الدولة الإسلامية ، وهذه تسمى في الوقت الحاضر نظرية القوة الرادعة لقوله تعالى : (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )[160].

 4 ـ وأنهم إذا جنحوا للسلم فعلى الدولة الإسلامية أن تختار خيار السلام مع التوكل على الله : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )[161] .

5 ـ أن لا يكون التعامل على أساس الشك والريبة ، ولذلك  شدد القرآن الكريم في ضرورة الأخذ بالسلام العادل والجنوح له حتى ولو مع الخوف من الخيانة ما دامت الأمة قوية قادرة على ردع العدوان ، قال تعالى : (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)[162] .

6 – ضرورة توفير الهيبة لهذا الدين ، والإرادة القوية ، والاستعداد الدائم المستمر لحماية الأمة ، وليست للاعتداء لأن الله لا يحب المعتدين .

7 ـ ضرورة التأكيد على مبدأ الموالاة بين المؤمنين بالمحبة والنصرة في مقابل موالاة الكافرين بعضهم لبعض ، فلا ينبغي للأمة المسلمة أن تبقى متفرقة ممزقة ، وعدوها متحد يرميها من قوس واحدة ، وأن الفتنة كل الفتنة هي أن لا يستوعب المسلمون قضية الولاء (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)[163] .

8 ـ هؤلاء الذين لا يستطيع أحد ان يطمئن إلى عهدهم وجوارهم وشرورهم ، جزاؤهم تخويفهم ، والضرب على أيديهم بشدة حتى يتركوا هذا الصنيع الفاحش .

9 ـ وجوب قيام العلاقات على الصراحة وحماية العهود والمواثيق ، ونبذ الخيانة ، والميكافيلية ، يقول سيد قطب : ( إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ، ويريد للبشرية أن تعف ، فلا تبيح الغدر في سبيل الغلب ، وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ، ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة ، إن الإسلام يكره الخيانة ، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ، ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة ، إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة ، وليس مسلماً كاملاً من يبرر الوسيلة بالغاية ، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية)[164] .

10 ـ من دلائل حفاظ المسلمين على عهودهم مع غيرهم أن بعض المسلمين الذين لم ينضموا إلى الدولة الإسلامية لو استنصروا بها في الدين فعليها النصرة على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع المعسكر الآخر حتى ولو كان هذا المعسكر معتدياً على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم فقال تعالى : (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق)[165] .

حقوق غير المسلمين في ظل الدولة الإسلامية :

  على ضوء المنهج الذي اخترته ، وهو منهج ” فقه الميزان ” فإن غير المسلمين في ظل ميزان الحرب تختلف حالهم وحقوقهم فيما لو كان الميزان المطبق هو ميزان السلم ، فعلى ضوء ذلك نقول :

أولاً : إن غير المسلمين اليوم الذين يعيشون في بلاد الإسلام والمسلمين منذ القدم هم مواطنون لهم حقوق المواطنة ، وعليهم الواجبات ، ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما نص على استثنائه نص صحيح صريح قطعي الدلالة ، أو ما يتعلق بالحقوق الخاصة الناشئة من دين الأكثرية ، أو الأقلية .

  إن هذا الاستثناء معقول حتى في ظل النظم المعاصرة التي يشترط بعضها ، أو أكثرها في أوروبا والغرب أن يكون رئيس الدولة ممن يدينون بالمسيحية مثلاً ، ولذلك فاشتراط أن يكون الرئيس من دين الأكثرية أمر مقبول ومعقول ومطبق حتى في عالمنا الذي يدعي الديمقراطية ، وذلك لأن مثل هذه الشروط لن تؤثر في جوهر المساواة في الحقوق والواجبات ، ولن تتغير حقوق المواطنة في أركانها وجوهرها .

ويدل على ذلك ما يأتي :

  • أن الوثيقة ، أو الصحيفة ، ـ أو ما يسمى بدستور المدينة الأول ـ أعطت حقوق المواطنة والحرية الدينية ، وحق التحالف إلاّ مع الأعداء[166] كما سبق .
  • إن القاعدة العامة في حقوق أهل الذمة هي : ( أن لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ) حيث قال علي رضي الله عنه : (إنما قبلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا )[167] .

وهناك نصوص كثيرة في الحفاظ على حقوقهم وحمايتهم ـ كما سيأتي ـ .

  • إن ما فرضه الإسلام على أهل الذمة من الجزية ، والخراج هو من حقوق المواطنة ايضاً ـ كما سبق ـ .

ومن الجدير بالتنبيه عليه أن مصطلح ” أهل الذمة ” يعني أنهم أهل عهد وذمة الله ورسوله .

ثانياً: إن تفاصيل هذه الحقوق قد ذكرها علماؤنا قديماً وحديثاًَ ، وفصلتها كتب الفقه في المذاهب المعتبرة ، وممن ذكرها بالتفصيل والتأصيل من المعاصرين الأستاذ الدكتور عبدالكريم زيدان ، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي[168] معتمدين على نصوص كثيرة من الكتاب والسنة نذكرها بإيجاز :

  • وجوب حماية الدولة لهم من الاعتداء الخارجي ، والدفاع عنهم ، ووجوب انقاذ أسراهم ، بل نقل الاجماع على أنه وجب الخروج لقتال من يحاربهم حتى ولو كانوا في بلاد منفردين[169] ، يقول القرافي : ( إن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم ، لأنهم في جوارنا ، وخفارتنا ، وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام ، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم ، أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الاسلام ، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الاجماع له : أن من كان في الذمة ، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا ان نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم )[170] .

وقد حدث كثيراً أن الدولة الإسلامية لم تقبل بإطلاق الأسرى المسلمين إلاّ مع إطلاق الأسرى الذميين[171] .

  • حماية ضرورياتهم الست ، وحاجياتهم ، حالهم في ذلك حال المسلمين ، حيث اتفق الفقهاء على ذلك ، وعللوا ذلك بأنهم أصبحوا بعقد الذمة من أهل دار الإسلام ، وعلى ذلك يجب توفير الحماية لنفوسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم ، بل أكثر من ذلك ، فإن الدولة يجب عليها حماية ما يعتبرونه مالاً ـ مثل خمورهم ، وخنازيرهم ـ مع أن ذلك لا يعتبر مالاً لو كان لدى المسلم بل يجب اتلافه ، بل لو قام مسلم بإتلاف خمورهم وخنازيرهم وجب عليه التعويض عند الحنفية[172] .

فعلى الدولة أن تحمي حريتهم الدينية ، وتحافظ على أموالهم ، وأعراضهم وشأنهم في ذلك شأن المسلمين ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من قتل معاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً )[173] .

ولذلك ذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية إلى : أن المسلم يقتل إذا قتل ذمياً ، وهذا رأي : الشعبي ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، وعثمان البتي ، وهو مروي عن الخليفة عليّ ابن أبي  طالب ، وعمربن عبدالعزيز “رضي الله عنهم” ، وهو الذي كان عليه العمل في معظم عصور الخلافة العباسية، وفي الدولة العثمانية ، وذهب المالكية إلى : أنه يقتل به في حالة الغيلة ( أي الخديعة )[174] .

  • التعامل معهم بالعدل ، وحمايتهم من الظلم بجميع أنواعه وأشكاله ، حيث يدل على ذلك جميع النصوص العامة الدالة على وجوب الحكم والتعامل على أساس العدل ، وحرمة الظلم ، وبعض النصوص الخاصة بأهل الذمة ، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا من ظلم معاهداً ، أو انتقصه حقه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه ، فأنا حجيجه يوم القيامة )[175] .

ولذلك اشتدت عناية الخلفاء الراشدين ومن بعدهم بدفع الظلم عنهم ، حتى ان الخليفة عمر رضي الله عنه كان يسأل القادمين من البلاد الإسلامية عن أهل الذمة ، فكان جوابهم : (ما نعلم إلاّ وفاءً)[176] وقد روى البخاري في صحيحه عن جويرية بن قدمة التميمي قال : ( سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قلنا : أوصنا يا أمير المؤمنين ، قال : ( أوصيكم بذمة الله ، فإنه ذمة نبيكم … )[177] وفي رواية عمرو بن ميمون بلفظ ( وأوصيه بذمة الله ، وذمة رسوله : أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، وأن لا يكلفوا إلاّ طاقتهم)[178] .

  • تحقيق التكافل الاجتماعي لهم في حالات الفقر ، والعجز والشيخوخة ، فإذا أصبح المواطن ( غير المسلم ) فقيراً ، أو عاجزاً أو شيخاً مسناً فإن الدولة لا تتركه يتعرض للاهانة والضياع ، بل تنصفه ، وتحميه ، وتقرر له العيش الكريم ، وليس هذا الحكم جديداً ومعاصراً ، بل حدث ذلك في عصر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حيث كتب خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق وكانوا نصارى ما نصه : ( وجعلت لهم : أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنياً فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام )[179] .

وروى أبو يوسف وغيره أن عمر رضي الله عنه مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل ، شيخ كبير ضرير البصر ، فضرب عضده من خلفه ، فقال : من أيّ أهل الكتاب أنت ؟ قال : يهودي ، قال : فما ألجأك إلى ما أرى ؟ ، قال : أسأل الجزية ، والحاجة والسن ، فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله بشيء ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال ، فقال : انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفناه ، إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم … )[180] .

وقد تكرر ذلك في عصر عمر بن عبدالعزيز ، مما يمكن تسميته بالاجماع على أن الضمان الاجتماعي مبدأ عام يشمل أبناء المجتمع جميعاً : مسلمين ، وغير مسلمين ، فلا يجوز أن يبقى فيه إنسان محروم من ضروريات الحياة وحاجياتها[181] فقد نص فقهاء الشافعية على أن دفع الضرر عن المسلمين من فروض الكفاية ، وأن ذلك يشمل أهل الذمة ، حيث إن دفع الضرر عنهم واجب ، وأن المراد بدفع الضرر هنا هو : تحقيق الكفاية من المعيشة والمسكن والدواء والغذاء ، وليس ما يسد الرمق على أصح القولين عندهم[182] .

  • احترام عهودهم وعقودهم مع المسلمين :

فقد ذكر أبو يوسف (ت182هـ) أن أبا عبيدة رضي الله عنه صالحهم بالشام على شروط في مقابل أن يوفر لهم الأمن والحماية من الأعداء ، وحدث أن الروم قد جمعوا جمعاً كبيراً خاف أبو عبيدة أن لا يكون قادراً على حمايتهم ، فكتب إلى ولاته على المدن يأمرهم : أن يردوا على أهل المنطقةما جبي منهم من الجزية والخراج ، وأن يقولوا لهم : إنما رددنا عليكم أموالكم ؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع ، وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك .. ونحن لكم على الشرط ووما كتب بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم ، فلما قالوا لهم ذلك ، وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم ، قالوا : ردكم الله إلينا ، ونصركم عليهم ، قالوا : فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئاً ، وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئاً )[183] .

يقول أبو يوسف رحمه الله : ( فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم ، وحسن السيرة فيهم صاروا أشدّ على عدو المسلمين من المسلمين على أعدائهم ، فبعث أهل كل مدينة ، ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجالاً من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريد أن يصنع …. )[184] .

  • حماية حريتهم الدينية :

فقد أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة على الحرية الدينية وعلى عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام فقال تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)[185] ويقول : (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[186] ويقول : (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ)[187] .

وقد سبق مزيد من التفصيل حول هذه المسألة ، ولكن الذي نريد بيانه هنا هو : أن العهود والمواثيق التي تمت بين المسلمين وغيرهم عند عقود الصلح والجزية ومافيها من شروط ما هي إلا لأجل أن يراعي غير المسلمين مشاعر المسلمين ، وحرمة دينهم[188] وعدم إثارتهم ، وعدم إثارة الفتنة .

وقد شهد المنصفون من المستشرقين والمفكرين الغربيين بهذه الحرية الدينية التي لم يشهد لها التأريخ مثلها ، يقول غوستاف لوبون : ( رأينا من آيي القرآن التي ذكرناها آنفاً : أن مسامحة محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية ، وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والنصرانية على وجه الخصوص ، وسنرى كيف سار خلفاؤه على سننه ، وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا… )[189] .

  • حرية العمل والمعاملات والعقود والأنكحة حسب معتقدهم :

إن القاعدة العامة أن أهل الذمة في المعاملات ، وحرية العمل والاكتساب مثل المسلمين إلاّ أن لهم التعامل في بعض المحرمات في ديننا، يقول الجصاص الحنفي: (إن الذميين في المعاملات والتجارات كالبيوع وسائر التصرفات كالمسلمين )[190] وصرح الكاساني بذلك بقوله : ( كلما جاز من بيوع المسلمين جاز منه بيوع أهل الذمة ، وما يبطل ، أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد من بيوعهم إلاّ الخمر والخنزير)[191] ، واستثناء الخمر والخنزير عند الحنفية مقيد بما إذا تم التعاقد عليها فيما بينهم ، أما إذا تم التعاقد بينهم وبين المسلمين فإن العقد باطل أو فاسد[192] وأما جمهور الفقهاء[193] فلم يستثنوا ذلك ، قال الشافعي : ( تبطل بينهم البيوع التي تبطل بين المسلمين كلها ، فإذا مضت واستهلكت لم تبطلها ، فإن جاء منهم رجلان  تبايعا خمراً ولم يتقابضاها أبطلنا البيع ، وإن تقابضاها لم نرده ، لأنه قد مضى )[194] .

غير أن الفقهاء ـ حتى غير الحنفية ـ صرحوا بأن الدولة الإسلامية  لا تتعرض إلى عقودهم الواردة على الخمور والخنزير ما دامت فيما بينهم ، لأن مقتضى عقد الجزية لغير المسلمين تركهم وما يعتقدون جوازه[195] ، وإنما الخلاف بين الجمهور والحنفية في أن الخمر والخنزير مال متقوم في حقهم وبالتالي يجب على متلفهما المسلم التعويض والضمان مستدلين بما كتبه عمر إلى عماله بالشام ، حيث منعهم من أخذ الميتةة والخنزير والخمر ، فقال عمر : ( لا تفعلوا ، ولكن ولّوا أربابها بيعها ، ثم خذوا الثمن منهم )[196] .

وهم يقرون على أنكحتهم فيما بينهم حسب معتقداتهم ، إضافة إلى جواز أن يتزوج المسلم من كتابية بنص القرآن الكريم : (.. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ … )[197]  .

  • تولي وظائف الدولة :

لأهل الذمة الحق في تولي وظائف الدولة إلاّ ما تغلب عليه الصبغة الدينية ، أو ما يقتضيه دين الأغلبية ـ كما سبق ـ وقد أجاز الفقهاء أن يتقلدوا ( وزاة التنفيذ )[198] وهو مصطلح في مقابل ( وزارة التفويض ) التي تعني أن يفوض الإمام أمر الحكم إلى الوزير ليديره حسب رأيه ، وهذه سلطة شبه مطلقة ، أما وزارة التنفيذ فيعنى بها تنفيذ أوامر الإمام ، فهي على ضوء ذلك تشمل جميع الوزارات السائدة في وقتنا الحاضر ، بل تشمل رئاسة الوزراء ، وذلك لأنها اليوم مقيدة بالقوانين واللوائح المعتمدة من مؤسسات الدولة وان مرجعها إلى رئاسة الدولة .

يقول الماوردي: (وأما وزارة التنفيذ فحكمها أضعف ، وشروطها أقل ، لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره ، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر وينفذ عنه ما ذكر ، ويمضي ما حكم ، ويخبر بتقليد الولاة ، وتجهيز الجيوش ، ويعرض عليه ما ورد من مهم ، وتجدد من حدث ملم……) ثم قال: (ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة)[199].

وقد شهد التأريخ الإسلامي أمثلة كثيرة من تولي الوزارة والمناصب العامة لغير المسلمين ، فقد تولى الوزارة في عصر العباسيين عدد غير قليل من النصارى ، مثل نصر بن هارون (ت369هـ) وعيسى بن قسطورس (ت380هـ)[200] يقول المؤرخ الشهير آدم مينز : ( من الأمور التي تعجب لها كثرة عدد العمال ” الولاة وكبار الموظفين والمتصرفين” غير المسلمين في الدولة الإسلامية ، فكان النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام ، والشكوى من تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين شكوى قديمة …. )[201] .

يقول السيوطي : (وكان أبو سعد التستري اليهودي يدير الدولة ( أي العبيدية ) فقال بعض الشعراء :

يهود هذا الزمان قد بلغـــــوا                غاية آمالهم وقد ملكوا

المجد فيهم والما ل عندهُــــمُ              ومنهم المستشار والملكُ

يا أهل مصر إني نصحــت لكم               تهودوا ، قد تهود الفلك[202]

 وقد ذكر السيوطي عدداً من الوزراء وهم باقون على ديانتهم اليهودية ، أو النصرانية  مثل : بهرام الأرمني النصراني ، فتمكن من البلاد ( أي مصر ونحوها في الدولة العبيدية ) وأساء السيرة[203] .

واجبات غير المسلمين الذين يعيشون في بلاد الاسلام :

  فقد ذكرنا في السابق واجبات الدولة والمسلمين تجاه غير المسلمين ( أهل الذمة ) فما هي واجبات غير المسلمين أمام حقوقهم السابقة ؟

إن واجباتهم تكمن فيما يأتي :

أولاً: أداء الواجبات المالية ( الجزية على الرأس ، والخراج على الأرض ، والعشور على التجارة ) ، ويمكن تسميتها بالضرائب ، أو حتى بالزكاة ـ كما سبق ـ[204] .

سقوط الجزية :

وهذه الجزية يمكن أن تسقط في الحالات الآتية :

  • عدم قدرة الدولة على حمايتهم ـ كما سبق ـ
  • مشاركتهم الفعلية في القتال والدفاع عن الوطن ، يقول فضيلة العلامة القرضاوي : (وتسقط الجزية أيضاً باشتراك أهل الذمة مع المسلمين في القتال والدفاع عن دار الإسلام ضد اعداء الإسلام ، وقد نص على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أبرمت بين المسلمين وأهل الذمة في عهد عمر رضي الله عنه[205] حيث ذكر أن رسول أبي عبيدة صالح جماعة ” الجراجمة ” المسيحين أن يكونواً أعواناً للمسلمين ، وعيوناً على عدوهم في مقابل أن لا تؤخذ منهم الجزية )[206] .

واليوم يشارك المسيحيون في بلادنا بواجب الدفاع عن وطنهم، وحينئذ تسقط عنهم الجزية على رأس هؤلاء

ثانياً : الالتزام بالقوانين الإسلامية الصادرة في البلاد الإسلامية إلاّ ما استثنى منها لهم فيما يتعلق بأحكام الأسرة ، والخمر والخنزير ـ كما سبق ـ .

  وهذا المبدأ يسمى: اقليمية القانون ، وهو مطبق في جميع العالم اليوم ، بل تعتبره الدولة الحديثة القوية من أركان السيادة والقوة ، لذلك لا تسمح بتطبيق قانون غير قانونها الوطني ، حتى في نطاق الأحوال الشخصية والأسرة ، ولذلك تعاني الأقليات المسلمة في معظم البلاد غير الإسلامية معاناة شديدة في مجال أحكام الأسرة ، حيث تطبق عليها قوانين البلد وهي ليست قوانين الشريعة .

  لكن الشريعة الإسلامية سمحت لغير المسلمين (أهل الذمة) باستثناء ما يتعلق بأمور الحلال والحرام ، والعبادات ، والأحوال الشخصية ، بل إن جماعة من الفقهاء أجازوا لهم تطبيق جميع قوانينهم إن أردوا ذلك[207] اعتماداً على قوله تعالى : ( …… فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ )[208] فحمل الشافعي آية التخيير على الموادعين أي مثل يهود المدينة الذين وادعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على غير جزية ، ولم يقروا بأن يجري عليهم الحكم كما تدل الآية 43 من السورة نفسها : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ …..)[209]  وكما تدل على ذلك أسباب نزولها ، واما الآية 49 فهي في أهل الذمة قال الشافعي : ( وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذي يجري الحكم إذا جاءوه في حد الله عزوجل بل عليه أن يقيمه وكذلك إذا أبى بعضهم على بعض ما له حق عليه فأتى طالب الحق إلى الإمام يطلب حقه ، فحق لازم للإمام أن يحكم له على من كان عليه حق منهم وإن لم يأته المطلوب راضياً بحكمه ، وكذلك إن أظهر السخط لحكمه …. ولا يجوز أن تكون دار الإسلام دار مقام لمن يمتنع من الحكم في حال…. فكان ظاهر (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)[210] أن يحكم بينهم ) ثمّ فرع الشافعي على هذه الآية أحكاماً فقال : ( فإن جاءت امرأة تدّعي بأنه طلقها … حكمت عليه حكمي على المسلمين … وتبطل بينهم البيوع التي تبطل بين المسلمين…)[211] .

 وقال ابن العربي : ( إن أهل الكتاب… إن رفعوا أمرهم إلينا فلا يخلو إما أن يكون ما رفعوه ظلماً لا يجوز في شريعة كالغصب والقتل ونحوهما لم يمكن بعضهم من بعض فيه ، وإن كان مما تختلف فيه الشرائع فإن الإمام مخيّر )[212] .

   والخلاصة أن الفقهاء قد اختلقوا في هذه المسألة فذهب جمهورهم ( الحنفية ـ ما عدا أبا حنيفة ـ والشافعية وأحمد في رواية والظاهرية) إلى : أن الشريعة الإسلامية تطبق في حقهم ، وأن القاضي ينفذ الحكم عليهم وهذا الرأي مروي عن ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة وذهب أبو حنيفة والمالكية وأحمد في رواية إلى: أن الإمام بالخيار، غير أن المالكية خصّ التخيير بشيء لم يكن متفقاً عليه تحريمه بين الأديان ، أما المتفق عليه كحرمة الزنا مثلاً فإن الإمام ينفذ حكم الله على مرتكبه، والراجح هو القول الأول ؛ لأن أهل الذمة ما أعطي لهم الذمة إلاّ بعد رضائهم بأن يحكمهم الإسلام ، ولا تعارض بين الآيتين حيث آية التخيير في الموادعين المتصالحين معنا من غير عقد الذمة كاليهود الذين وادعهم الرسول ﷺ حينما نزل بالمدينة ، وآية الحكم فيها عامة للمعاهدين الذين رضوا أن يدفعوا الجزية إلينا ، ولذلك إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرماً يوجب عقوبة ينفذ عليه العقوبة ، وكذلك بخصوص أحكام التعامل غير أنهم ترك لهم مسائل أنكحتهم وبعض المعاملات التي هي حلال في دينهم وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين في المدينة ثبت عليهما الزنا[213] .

 قال ابن حزم الأندلسي (ت456هـ ) : ( فمن ترك أهل الذمة وأحكامهم فقد اتبع أهواءهم وخالف أمر الله تعالى )[214] .

ثالثاً: احترام شعور المسلمين وهيبة الدولة الإسلامية ، حيث يمنعون من سبّ الإسلام ورسوله ، وكتابه وثوابته جهرة ، وترويج العقائد والأفكار وشرب الخمر وأكل الخنزير ، والأخلاق المتناقضة مع الإسلام بين المسلمين[215] .

آداب راقية غرسها الإسلام للتعامل مع الغير:

    إن الإسلام لا يعتمد على التشريعات الملزمة والقوانين الصارمة في تنفيذ لحقوق والواجبات بين المسلم وغيره فحسب  ، وإنما يعتمد في الأصل على الجانب الأخلاقي والعقدي ، حيث يغرس في قلب المسلم حسن الخلق ، وطيب الكلام ، وطلاقة الوجه ، وروح التسامح ، والرحمة والرفق والحلم والشفقة ، والمحبة للخير والبر والإحسان إلى الجميع والعفو والإعراض عن الجاهلين ، واحتمال الأذى ، بل الدفع بالتي هي أحسن ، ومقابلة الاساءة بالإحسان مع القدرة والعزة ، فقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ  وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )[216] ، ويحث على ذلك من خلال الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى لهؤلاء الرحماء المحسنين (…… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[217] ناهيك عن وجوب العدل في كل شيء[218] .

 علماً بأن هذه الأخلاقيات ، والعدالة ليست خاصة بالمسلمين ، بل هي عامة لجميع الناس ، بل للحيوانات والبيئة ، فقد دلت النصوص الشرعية الصحيحة على أن أرملة دخلت النار بسبب حبسها لهرة حتى ماتت[219]، وأن امرأة فاجرة دخلت الجنة بسبب سقيها كلباً عطشان[220].

وسائل مساعدة للتسامح والتراحم :

  • من أهم الوسائل المساعدة للتسامح والتراحم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج من نساء اهل الكتاب ، وبالتالي تصبح الكتابية زوجته ، وأم أولاده ، وإخوانها نسائبه ، وأخوال أولاده ، وأمها بمثابة والدته وهي جدة لأولاده ، وأبوها جد لهم ، وهكذا ، فيصبح بين المسلمين وأهل الكتاب مصاهرة وقرابة لها حقوق ونفقات وتكافل، وقد أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين حتى ولو جاهدا على إضلال أولادهما فقال تعالى : (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[221].
  • وكذلك فرض الإسلام حقوقاً حتى للجار غير المسلم ، وبالتالي فإن جميع النصوص الواردة في حقوق الجوار المطلق تشمل الجار غير المسلم[222] .
  • الالتزام بالآداب الراقية عند الجدال حيث خصّ الله تعالى الجدال مع أهل الكتاب بأن يكون بالأحسن صورة وشكلاً وأسلوباً ولغة ومنطقاً ، فقال تعالى : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[223] .
  • تطبيق الأخلاقيات الراقية في التعامل ، فقد طبق الرسول ﷺ ذلك في حواراته معهم ، وفي تعامله معهم ، حيث كان يزورهم ويحسن إليهم ويعود مرضاهم ، بل يسمح لهم أن يصلوا صلاتهم في مسجده عرضاً، فقد روى علماء السيرة بسندهم: أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله ﷺ دخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر ، فحانت صلاتهم ، فقاموا يصلون في مسجده ، فأراد الناس منعهم ، فقال رسول الله ﷺ ( دعوهم ) فاستقبلوا المشرق ، فصلوا صلاتهم )[224] .

وقد علق على ذلك ابن القيم فقال : ( ففيها : جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين ، وفيها تمكينهم من صلاتهم بحضرة المسلمين ، وفي مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً …)[225] .

ثم قال : ( والمقصود أن رسول الله ﷺ لم يزل في جدال الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم إلى أن توفي ، وكذلك أصحابه من بعده ، وقد أمر الله سبحانه بجدالهم بالتي هي أحسن في السورة المكية والمدنية… وبهذا قام الدين، وإنما جعل السيف ناصراً للحجة …)[226].

بل أكثر من ذلك فإن الرسول ﷺ قد قبل هدايا أهل الكتاب واحترمهم حتى كان يقف عندما تمر جنازة أحدهم ، وعندما سئل عن ذلك قال : ( أليست نفساً ) فقد روى البخاري ومسلم بسندهما عن جابر بن عبدالله ، قال : ( مرّ بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا به ، فقلنا : يا رسول الله : إنها جنازة يهودي ، قال : (إذا رأيتم الجنازة فقوموا )[227] ورويا كذلك عن سهل بن حنيف ، وقيس بن سعد : أن النبي ﷺ مرت به جنازة فقال ، فقيل له : إنها جنازة يهودي ، فقال : ( أليست نفساً ؟)[228]، قال الحافظ ابن حجر : ( ومقتضى التعليل بقوله ” أليست نفساً ” أن ذلك يستحب لكل جنازة )[229] وذهب جماعة من الفقهاء إلى وجوب ذلك ، لورود الأمر بها في عدة أحاديث في الصحيحين[230]، والراجح هو الاستحباب لحديث علي رضي الله عنه : ( أن رسول الله ﷺ قام، ثم قعد)[231] حيث حمل قعوده لبيان الجواز فقط[232].

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ،،

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،،،

                                                     

                                                                          كتبه الفقير إلى ربه:

 

                                                                       علي محيي الدين القره داغي

 


([1]) سورة الروم / الآية  22

([2]) سورة البقرة / الآية 213

([3]) سورة هود / الآية 118 ـ 119

([4]) سورة النحل / الآية 93

([5]) سورة الشورى / الآية 8

([6]) سورة المائدة / الآية 48

([7])  سورة الرحمن / الآية 10

[8])) لم يرد في القرآن الكريم لفظ : صرع ، ولا الصراع ، ولا مشتقاته إلاّ لفظ :صرعى في سورة الحاقة الآية 7 : (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)

[9])) سورة الحج/ الآية (38)

[10])) سورة البقرة/ الآية (251)

[11])) سورة الحج/ الآية (40)

[12])) سورة  المؤمنون / الآية (96)

[13])) سورة فصلت / الآية (34 – 35 )

[14])) سورة الإسراء / الآية (70)

[15])) سورة البقرة / الآية (30)

[16])) سورة البقرة / الآية (256)

[17])) سورة الأنعام / الآية (164)

[18])) سورة النجم / الآية (39)

[19])) سورة الأنعام / الآية (164)

[20])) سورة البقرة /  الآية 285)

[21])) سورة البقرة / الآية (136)

[22])) سورة الشورى / الآية (13)

[23])) سورة الأنعام / الآية (159)

[24])) سورة الأنعام/ الآية (90)

[25])) سورة البقرة / الآية (131)

[26])) سورة البقرة / الآية (133)

[27])) سورة آل عمران / الآية (19)

[28])) سورة البقرة / الآية (256)

[29])) سورة الغاشية / الآية (21)

[30])) سورة المائدة / الآية (99)

[31])) سورة الشورى / الآية (15)

[32])) سورة الكافرون/ الآية (6)

[33])) سورة آل عمران / الآية (20)

([34]) د.يوسف أبو هلالة : تعامل المسلمين مع غيرهم ط. دار الضياء 2002 ص 55

([35]) لول ديورانت : قصة الحضارة (13/131)

([36])  صحيح البخاري ، الحديث 1250 ، ومسلم الحديث 961

([37]) سورة البقرة / الآية 256

([38])  تفسير الطبري ط.بيروت  ، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر _3/20- 22 ) وفي بعض الروايات : اسم الوالد هو ” الحصين ”  والدر المنثور ط. دار الكتب العلمية / بيروت 2004م ( 1/582- 585 )  

[39])) سورة البقرة / الآية (216)

[40])) سورة الممتحنة / الآية (7)

([41]) سورة الفتح / الآية 24

([42])  سورة الأحزاب / الآية 25

[43])) سورة النساء/ الآية (128)

[44])) سورة البقرة / الآية (224)

[45])) سورة البقرة/ الآية (220)

[46])) سورة البقرة/ الآية (205)

[47])) سورة الشعراء/ الآية (152)

[48])) سورة  هود  الآية (88)

[49])) سورة النساء / الآية  (35)

[50])) سورة هود (117)

[51])) رواه البخاري مع فتح الباري (5/329)

[52])) يراجع : فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/439) وصحيح مسلم كتاب الإمارة (3/1409) ويراجع للمزيد : أ.د. أكرم ضياء العمري : السيرة النبوية الصحيحة ،ط.قطر (2/434 – 453)

[53])) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1410 – 1411)

[54])) مصنف عبدالرزاق (5/343)

[55])) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ المغازي (7/453)

[56])) صحيح مسلم (3/1412)

[57])) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي (7/453)

[58])) صحيح مسلم (3/1412)

[59])) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي (7/452)

[60])) صحيح مسلم ، الجهاد (3/1442)

[61])) انظر : تفصيل بنود الصلح في صحيح مسلم (3/1433 – 1441) الحديث 1807 ، والسيرة الصحيحة (2/000446)

[62])) صحيح مسلم (3/1442) الحديث 1808 ، والآية من سورة الفتح 24

[63])) دراسات إسلامية للدكتور محمد عبدالله دراز ، ط. دار القلم بالكويت عام 1979 ص 142

[64])) يقول أبو البقاء العكبري  في الكليات ، ط.مؤسسة الرسالة ص 150 : (الاعتدال هو توسط حال بين حالين في كم وكيف) ويقول في ص 639 : (العدل ضد الجور ..؛ والعدالة لغة الاستقامة ،وفي الشريعة عبارة عن الاستقامة على  الطريق الحق بالاختيار) وذلك بالاجتناب عن الهواء ،ويقول في ص 733 : القسط بالكسر العدل ، وبالضم الجور ) والقسطاس هو الميزان الدقيق للاحتراز عن الزيادة والنقصان ، وجاء في معجم الوسيط ،ط. قطر ص 588 : (العدل : الانصاف ، وهو إعطاء المرء ماله ، وأخذ ما عليه )وفي ص  734 : (القسط : العدل ،وهو من المصادر الموصوف بها ، يوصف به الواحد ، والجمع ، يقال : (ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط …والقسطاس : أضبط الموازين وأقومها)

[65])) سورة النحل/ الآية (90)

[66])) سورة المائدة/ الآية (8)

[67])) سورة الأنعام/ الآية (152)

[68])) سورة الشورى/ الآية (15)

[69])) سورة المائدة / الآية (8)

[70])) سورة النساء/ الآية (58)

[71])) سورة النساء/ الآية (135)

[72])) سورة الحجرات / الآية (9)

[73])) سورة النساء/ الآية (3)

[74])) سورة الطلاق / الآية (2)

[75])) سورة النساء/ الآية (135)

[76])) سورة المائدة/ الآية (42)

[77])) سورة الحجرات/ الآية (9)

[78])) سورة آل عمران/ الآية (21)

[79])) سورة الأنعام/ الآية (152)

[80])) سورة آل عمران/ الآية (35)

[81])) سورة البقرة / الآية (213)

[82])) سورة  المائدة/ الآية (48)

[83])) سورة هود / الآية (118 – 119 )

[84])) سورة النحل/ الآية (125)

[85])) سورة العنكبوت/ الآية (46)

([86]) سورة البقرة / الآية 47

([87])  سورة المائدة / الآية 82

([88])  سورة المائدة / الآية 44

([89]) سورة المائدة / الآية 46

([90]) سورة البقرة / الآية 285

([91]) سورة آل عمران / الآية 113 – 114

([92])  سورة آل عمران / الآية 75

([93]) سورة آل عمران / الآية 110

([94])  سورة سبأ / الآية 24 – 25

([95]) سورة الحج / الآية 39 – 41

([96])  سورة الحجرات / الآية 13

[97])) سورة النساء / الآية (77)

[98])) يراجع : أ.د. أكرم ضياء العمري ، السيرة النبوية الصحيحة ط.قطر (1/240)

[99])) المرجع السابق (1/272 – 289)

([100]) سورة الأنبياء / الآية 107

([101])  رواه الترمذي  في سننه في تفسير سورة الحجرات (9/155 -156 ) وأحمد ( 2/361 – 524 )

([102]) رواه أحمد  ( 5/411)

([103])  أرنولد توماس : الدعوة إلى الإسلام ، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم ورفاقه ط3 القاهرة مكتبة النهضة 1971م ص 79 ، ويراجع الدكتور عماد الدين خليل ، بحثه الموسوم : المسلم والآخر : رؤية تأريخية ، والمنشور في مجلة إسلامية المعرفة ، السنة التاسعة العدد 33-34 2003

([104])  لويون غوستاف : حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ط. دار احياء الكتب العلمية بالقاهرة 1956 ص 336

([105])  طبع القاهرة عام 1958

([106])  د. عنان : المرجع السابق ص 297 – 300

([107])   المرجع السابق ص 301- وما بعدها

([108])  المرجع السابق نفسه

([109])  بتحقيق ميللر غوتتغن ص 54 – 56 المشار إليه في : د. عماد الدين خليل : الدكتور عماد الدين خليل ، بحثه  : المسلم والآخر : رؤية تأريخية ، والمنشور في مجلة إسلامية المعرفة ، السنة التاسعة العدد 33-34 2003

([110])  د. عنان : المرجع السابق ص 304 – 322

([111])  د. عنان : المرجع السابق

([112])  القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمصابح المنير مادة ” جزى “

([113]) حاشية القليوبي على شرح المحلى (4/228 )

([114]) الفتاوى الهندية (2/244 ) وجواهر الاكليل (1/266) والمغني (8/495)

([115])  يراجع : الأموال لأبي عبيد ص 541 ، والخراج لأبي يوسف ص 143 ، ويراجع : فقه الزكاة للشيخ القرضاوي (1/118 ) ط. وهبة 2006م

([116])  زاد المعاد لابن القيم (2/88) وتفسير ابن كثير (2/347)

([117])  الأموال ص 37 ط. قطر

([118]) سورة التوبة / الآية 29

[119])) سورة الممتحنة / الآية (9،8،7) ويراجع التفسير الكبير للرازي ط.إحياء التراث العربي (29/303)

([120]) سورة الممتحنة / الآية (1)

([121]) سورة الممتحنة / الآية (2)

[122])) سورة المائدة / الآية (2)

[123])) في ظلال القرآن / سيد قطب ،ط.دار الشروق بالقاهرة 1406هـ  ( 6/3544 – 3545)

[124])) سورة البقرة / الآية (256)

[125])) سورة  القصص/ الآية (83)

[126])) سورة الحج/ الآية (39)

[127])) سورة النساء / الآية (75)

[128])) يراجع نص الوثيقة في : الأستاذ محمد حميد الله في مجموعة الوثائق السياسية ،ط.دار الإرشاد ببيروت 1389هـ ، ص 41 – 47 ، وأستاذنا الدكتور أكرم العمري : السيرة النبوية الصحيحة ، ط.مركز بحوث السنة والسيرة بقطر 1411هـ ص 282 ـ 285 حيث خرج بنودها من المصادر المعتمدة ، وتسمى في كتب السنة والسيرة والتأريخ : الصحيفة

[129])) سورة البقرة / الآية (256)

[130])) المراجع السابقة

[131])) سورة الأنعام / الآية (164)

[132])) سورة الحج / الآية (39)

[133])) سورة الحج / الآية (40)

[134])) رواه البخاري مع فتح الباري (5/329)

[135])) سورة الأنفال / الآية (61)

[136])) يراجع : مجمع الأنهر (1/635) والشرح الكبير مع الدسوقي (2/176) وروضة الطالبين (10/239) والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (10/379)

[137])) سورة الإسراء  / الآية (15) 

[138])) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1357)

[139])) مسند أحمد (1/231) والسنن  الكبرى (9/107)

[140])) يراجع : صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1356 ) وسيرة ابن هشام (3/228)

([141])أ.د. عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ط.دار النفائس بيروت 1997

([142])  الطبقات الكبرى لابن سعد ، تحقيق إدوار سخاو ، وآخرين (2/1/36 ، 84 – 85 ) وفتوح البلدان للبلاذري ، تحقيق صلاح الدين المنجد ، ط. مكتبة النهضة بالقهرة 1957 (1*76 – 78 ) وتأريخ اليعقوبي ، تحقيق محمد صالح بحر العلوم ط. المكتبة الحيدرية بالنجف 1964 (2/71- 72 ) الدكتور عماد الدين خليل ، بحثه الموسوم : المسلم والآخر : رؤية تأريخية ، والمنشور في مجلة إسلامية المعرفة ، السنة التاسعة العدد 33-34 ، سنة 2003

([143]) طبقات ابن سعد (1/2/28- 30 )

([144]) المصدر السابق ، ويراجع الدكتور عماد الدين خليل ، بحثه السابق الاسشارة إليه

([145])  الدكتور عماد الدين خليل ، بحثه الموسوم : المسلم والآخر : رؤية تأريخية ، والمنشور في مجلة إسلامية المعرفة ، السنة التاسعة العدد 33-34 سنة 2003 ، وكتابه دراسة السيرة ص 358 ومصادره المعتمدة

([146]) سورة هود / الآية 119

([147])

([148]) سورة الأنبياء / الآية 107

[149])) سورة البقرة / الآية (256)

[150])) سورة النحل/ الآية (125)

[151])) سورة العنكبوت/ الآية (46)

([152]) سورة طه / الآية 43 -44

([153]) سورة الغاشية / الاية 22

[154])) سورة المائدة/ الآية (1)

[155])) سورة الإسراء/ الآية (34)

[156])) سورة المؤمنون/ الآية (8)

[157])) سيد قطب : في ظلال القرآن ،ط.دار الشروق (3/1539)

[158])) سورة المائدة/ الآية (1)

([159])  سورة الأنفال / الآية 55 – 56

([160])  سورة الأنفال / الآية 60

[161])) سورة الأنفال / الآية (61)

[162])) سورة الأنفال/ الآية (62)

[163])) سورة الأنفال/ الآية (73)

[164])) سيد قطب : في ظلال القرآن (3/1542)

[165])) سورة  الأنفال/ الآية (72)

([166])  وقد عبر الأستاذ عبدالقادر عودة عن أن أهل الذمة من حاملي ” الجنسية الإسلامية ” في كتابه : التشريع الجنائي الإسلامي (1/307) ويراجع : أ.د.عبدالكريم زيدان : أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 63 – 66 ، وأ.د.جعفر عبدالسلام : علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى ، بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته 17 ص 5

([167])  بدائع الصنائع (6/111) والقوانين الفقهية ص 105 والمذهب للشيرازي (2/256) والاحكام السلطانية للماوردي ص 247 والمغني (8/445)

([168])  أ.د. عبدالكريم زيدان : المرجع السابق ، والعلامة القرضاوي : غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ط. مؤسسة الرسالة ص 9 وما بعدها

([169])  مطالب أولى النهى (2/ 602 – 603 )

([170])  الفروق ط. دار المعرفة / بيروت (3/ 14 – 15 )

([171]) د. القرضاوي : المرجع السابق ص 10

([172])  يراجع : بدائع الصنائع ( 5 /143 ) وجواهر الاكليل (1/ 470 ) وحاشية الجمل (3/ 481 ) والاحكام السلطانية للماوردي ص 145 والاحكام السلطانية لأبي يعلى ص 143 والمغني ( 5/ 223 )

([173]) رواه أحمد والبخاري في صحيحه ، كتاب الجزية ، مع فتح الباري (6/269) وأحمد (5/ 46 ، 277 ، 283 ) ورواه غيرهما

([174])  يراجع : حاشية ابن عابدين ( 3/ 249 ) والبدائع ( 7/ 236 ) والمهذب ( 2/185 ) والخرشي (8/ 3 – 6 ) والمغني ( 7/ 652 )

([175])  رواه أبو داود في سننه ( 3 / 437 ) الحديث رقم  3052 قال العراقي : إسناده جيد ، كما في تنزيه الشريعة ( 2 /182 ) ط. مكتبة القاهرة ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (5/205)

([176])  تأريخ الطبري (4/218)

([177])  صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ (6/267 )

([178])  فتح الباري (6/267)

([179]) الخراج لأبي يوسف ، بتحقيق الدكتور محمد ابراهيم البنا ط. دار الاصلاح ص 290

([180])  الخراج لأبي يوسف ص 259

([181])  د. يوسف القرضاوي : المرجع السابق ص 17

([182])  نهاية المحتاج شره المنهاج ( 8 / 46 )

([183])  الخراج لأبي يوسف ص 282  – 283

([184])  المصدر السابق  282

([185]) سورة البقرة / الآية 256

([186]) سورة الكهف / الآية 29

([187]) سورة يونس / الآية 99

([188])  يراجع : العهود والمواثيق في كتاب الخراج لأبي يوسف ص 281 وما بعدها ، والدكتور القرضاوي : المرجع السابق ص 20

([189])  حضارة الغرب ، ترجمة عادل ، هامش ص 128

([190]) الاحكام للجصاص ( 2 / 346 ) وحاشية ابن عابدين (3/ 276 )

([191])  البدائع ( 4/ 174 )

([192])  المبسوط ( 10 / 84 )

([193])  جواهر الاكليل (2/52 ، 181 ) و (1/ 470 ) وحاشية الجمل ( 3/ 481 ) والاحكام السلطانية للماوري ص 145 والمغني 5/ 223 )

([194])  الأم ( 4/ 211 )

([195])  المصادر السابقة ، ويراجع : الموسوعة الفقهية الكويتية ( 7 / 132 )

([196])  الخراج لأبي يوسف ص 260 ، وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 61  -62   ط. قطر

([197]) سورة المائدة / الآية 5

([198]) الاحكام السلطانية للماوردي ص 27

([199])  الاحكام السلطانية للماوردي ص 27 – 28

([200]) حسن المحاضرة ط . عيسى الحلبي 1387هـ ( 2/201 )

([201])  آدم مينز : الحضارة الإسلامية ( 1/ 118 )

([202])  حسن المحاضرة ( 2 /201 )

([203])  المصدر السابق ( 2/ 205 )

([204])  يراجع الدكتور عبدالكريم زيدان : المرجع السابق ص 155

([205])  الشيخ القرضاوي : المرجع السابق ص 35

([206])  فتوح البلدان للبلاذري ط. بيروت ص 317

([207])  يراجع لمزيد من الفتصيل : د. علي محيى الدين القره داغي : مبدأ الرضا في العقود ( 1/ 52 – 53 ) ومصادره المعتمدة

([208])  سورة المائدة / الاية 42

([209]) سورة المائدة / الآية 43

([210]) سورة المائدة / الآية 49

([211])  أحكام القرآن للشافعي (2/78 )

([212]) أحكام القرآن لابن العربي (2/617 )

([213]) يراجع : أحكام القرآن للشافعي ( 2/78 )  وأحكام القرآن لابن العربي (2/617 ) وأحكام القرآن للجصاص (434 – 437 ) وتفسير الطبري (6/177) والأم للشافعي (4/130 ) وفتح القدير (2/502) وبداية المجتهد (2/435) والغاية القصوى (2/927 ) والمغني لابن قدامة (8/214)

([214]) المحلي لابن حزم (13/69 – 72 )

([215])  يراجع لهذه الواجبات التي ذكرها الفقهاء والتي تعتبر معظمها من الاجتهادات ، مع ملاحظة ما لعصرهم من خصوصية وظروف : البناية على الهداية ( 4/ 840 ) والبدائع ( 7/ 113 ) وجواهر الاكليل ( 1/ 268 ) ومغني المحتاج ( 4/256 ) وكشاف القناع ( 3/ 126 ) والاحكام السلطانية للماوردي ص 140 والاحكام السلطانية لأبي يعلى ص 144 ، والموسوعة الفقهية الكويتية (7/ 135 ) والدكتور القرضاوي : المرجع السابق ص 41 – 42

([216]) سورة فصلت / الآية 34 – 35

([217]) سورة آل عمران / الآية 134

([218]) يراجع لذلك : رياض الصالحين الذي أورد الآيات والأحاديث في هذه الأبواب الكثير والكثير

([219]) رواه البخاري في صحيحه مع الفتح (6/356) ومسلم (4/2110) ومسلم الحديث رقم 2619

([220]) رواه مسلم في صحيحه الحديث رقم 2245 ، ورواه البخاري في صحيحه مع الفتح ـ كتاب المظالم (5/113) وكتاب الآداب باب رحمة الناس والبهائم (10/438) ومسلم (3/1761) الحديث رقم 2244 وفي بعض الروايات الصحيحة أيضاً أنه كان : رجلاً وختمها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( في كل كبد رطبة اجر )

([221]) سورة لقمان / الآية 15

([222])  يراجع لهذه النصوص : رياض الصالحين ص 126

([223])  سورة العنكبوت / الآية 46

([224]) انظر : ابن هشام (1/573 ، 584 ) والسيرة لابن كثير ( 4/ 100  ، 108 ) وتفسير ابن كثير ( 1/ 367 ، 371 ) وطبقات ابن سعد ( 1/ 357 ) وزاد المعاد بتحقيق سعيب ، وعبدالقادر الأرنؤط ط. الرسالة / بيروت ( 3 /629 )

([225])  زاد المعاد (3/638)

([226]) المصدر السابق (3/642)

([227]) صحيح البخاري ـ مع الفتح – (3/179) ومسلم ، كتاب الجنازة (2/659 ) الحديث رقم 960

([228]) صحيح البخاري ـ مع الفتح – (3/179 – 180 ) ومسلم (2/661 ) الحديث رقم 961

([229]) فتح الباري ( 3/181)

([230])  يراجع : المصدران السابقان ، وفتح الباري (3/181)

([231]) صحيح مسلم (2/662) الحديث رقم 962

([232])  فتح الباري (3/181)