البحوث

تحديات تواجه الأسرة المسلمة في الغرب

تحديات تواجه الأسرة المسلمة في الغرب

الدكتور طاهر مهدي البلّيلي

 

عضو المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث

أستاذ الفقه المقارن و الأصول و المقاصد أكاديمية العلوم الإسلامية بروكسل

 


لن نستطيع رفع التحدي الذي يواجه أسرنا المسلمة في أوطانها الجديدة إلا بإقرار استراتيجيات عمل ثقافي تربوي إسلامي في الغرب، و ضرورة تخطيط و ترشيد مناهج العمل الإسلامي في جميع مجالات الحياة لتستجيب لخصوصية الواقع الذي يعيش فيه المواطنون المسلمون الأوربيون في الدول الغربية وتفاعلاته، وما يحيط به من تحديات.

إن استقراء واقع المواطنين الأوربيين المسلمين يبين لنا أن حركة الهجرة العالمية، باعتبارها إحدى أهم الظواهر المرتبطة بدينامكية الحياة في هذا القرن، قد حولت دول الاستقبال إلى مجتمعات متعددة الثقافات والأديان، وهو ما جعل المسئولين في الغرب يضعون مخططات اجتماعية وثقافية وتربوية، لدمج المواطنين الجدد و بخاصة المسلمين في النظام القائم باختياراته العلمانية ومبادئه الوضعية.

و نظرا لشدة جهل المسلمين لحقيقة أهداف ذلك الدمج و لمبادئ دينهم و ثقافتهم التي تقوم أساسا على مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة المطلقة بين بني البشر، تلقى تلك الخطط مقاومة هائلة، وبخاصة من طرف المواطنين المسلمين.

ويعود مبعث تلك المقاومة إلى خوف المواطنين المسلمين من الذوبان داخل مجتمعاتهم الجديدة و حرصهم على التمسك بذاتيتهم الثقافية و خصوصيتها الإسلامية.

غير أن هذا الحرص من طرف المسلمين في الغرب، و مع أنه لا يعني انغلاقا على الذّات أو انعزالاً، فهو يفهم من طرف المسئولين وحتى المواطنين من أصحاب الديانات الأخرى أنه تعصب وانعزال عن المشاركة في الحياة الاجتماعية.

والمطلوب منا كمسلمين هو التفاعل مع مواطنينا الأوربيين كي تنمحي كل الأحكام السالبة المسبقة و كل كليشي ملصق بنا كمواطنين من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة.

فينبغي أن نبرهن على قدرتنا على الاندماج الاقتصادي و أن نشارك بفعالية في الإنتاج المحلي، و أن نندمج سياسيا بحضور مكثف في المواقع السياسية حتى البعيدة منها على السلطة لنتمكن من التعايش مع مواطنينا الأصليين في جو من الوئام والتعاون.

إن الانفتاح على الحضارة الإنسانية والتفاعل معها هو أحد المبادئ التي بإمكانها أن تخرجنا من عزلتنا الفعلية في هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة بسبب العولمة التي تكتسح كل شيء، وهذا مع المحافظة على التمّيز الروحي والأخلاقي لدينا.

إن التحوّلات التي يعرفها العالم في هذه المرحلة الحاسمة و منذ عقود، و بخاصة منها التحولات الاقتصادية التي تطمح لفرض نموذجاً ثقافياً واحداً على المستوى العالمي؛ و لأن المبادئ الثقافية هي نتاج العلاقات الدولية الاقتصادية فقد ترتب على الاتصال الثقافي من التأثير و التأثر بين شعوب المعمورة ما يفوق عدداً وحجماً ما ترتب على التبادل الاقتصادي والاجتماعي غير المتكافئ.

و منذ القدم، و من خلال استقراء التاريخ القديم و الحديث يظهر بما لا مجال للشك فيه بأن العلاقات و الصّراعات الدولية كانت تتركز أساسا على الهويات الثقافية للشعوب.

ونحن نعتقد من خلال تنزيل التاريخ على الواقع، بأنه إذا نشأت نفس الظروف فإن التاريخ يتكرر و لو في سياقات مختلفة مع أن الهدف يظل واحدا. أن المستقبل القريب و البعيد، سيجعل من القضية الثقافية هي معترك العولمة الأول.

ومن ثم فإن هيمنة النموذج الثقافي الغربي، ستصطدم بحرص الشعوب الأخرى على هوياتها الثقافية و منها الشعوب الإسلامية.

إن خطر «الكونية الثقافية» الذي يتهدّد الشعوب الإسلامية في عقر دارها بفعل كونية الاتصالات، جعل المواطنين المسلمين في بلاد الغرب يخافون هذه الكونية الثقافية المفروضة والتي جاءت من عفوية التواصل العالمي الذي لم يعد البشر قادرين على تضييقه و السيطرة عليه.

وبتصاعد هذا الخوف في البيئات غير الإسلامية، حيث تنشأ الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين في مؤسسات لم تأخذ بعين الاعتبار مبادئ ثقافية معينة بله مبادئ الأديان السماوية، تصاعد الانغلاق والتقوقع حيث ظهرت جماعات تطالب بالعودة إلى التراث كمرجع وحيد للنجاة من الدمج الثقافي الكوني.

وفي نظرنا فإن كون الجيل الثاني والثالث لا يحسن لغة ثقافته ودينه، كما يجهل مبادئ العقيدة والشريعة الإسلامية، ليس سببه هو العولمة وكونية التواصل الثقافي و غيره لأن هذا الوضع كان موجوداً حتى قبل ثورة المعلوماتية و الاتصالات الحديثة وإنما سببه أن المجموعة المسلمة في الغرب تعاني نقصاً وفي أغلب الأحيان انعداماً لمناهج وتقنيات التنشئة التربوية والرعاية الاجتماعية والتثقيف الإسلامي.

فالمسلمون كمواطنين أوربيين هم حريصون على الاندماج الإيجابي في المجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعاتهم، نجد أن أغلبهم يرفضون التخلي عن هويتهم والذوبان لأن ذلك في نظرهم هو انتحال لشخصية الآخر وهو ما لا تقبله العقوق السليمة حتى عند مواطنيهم الغربيين.

إذن فالدمج الذي يحبذونه ويدعون له هو ذلك الدمج الذي يحترم خصوصياتهم بكل اتجاهاتها الثقافية والدينية والاجتماعية وحتى التقليدية منها.

ولكن صيانة تلك الثقافة وتلك الخصوصيات والمحافظة عليها تحتاج لتنشئة تربوية إسلامية مؤسساتية، ولبرامج معدة ومنهجية تأخذ بعين الاعتبار تلك الخصوصيات مع مراعاة المجالات التي يمكن أن تقبل فيها ثقافة المواطنين غير المسلمين وبخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية من وجهة نظر إسلامية.

إن تزايد الضغوط الإيديولوجية وتحدياتها الساعية إلى فرض هيمنتها الثقافية والفكرية والحضارية، قلب الاحتياجات التربوية والثقافية للمسلمين في الغرب إلى حاجة واقعية و ضرورة دينية يتعين على المؤسسات الإسلامية المعنية تلبيتها.

 استراتيجية تربوية للأسرة المسلمة في الغرب:

الأسرة: قال تعالى : «وجعلنا بينكم مودة و رحمة لتسكنوا إليها»

الأسرة في التعريف البسيط هي الأب و الأم و الأطفال. و من مقوماتها: الاجتماع: بين أفرادها الذي هو طبع إنساني. و الأخلاق: التي هي تبادل الحب والتضامن و التعاون لأداء الواجبات.

ومن مهام الأسرة القيام بما يلي :

ـ الإبقاء على النوع البشري الذي لا يمكن إلا بإكثار عدد الأمة الإسلامية وفق ما سنَّه الشارع الحكيم ضمن علاقات الزواج الشرعي «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

ـ تربية الأجيال التي هي أساس المجتمعات البشرية، و بدون هذا الدور المنوط بالأسرة فلا تنشئة و لا تربية و لا صلاح في المجتمعات قال “صلى الله عليه وسلم”: «كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته» (البخاري جمعة 844).

ـ المحافظة على التراث الاجتماعي، و قيمه، و أعرافه الصالحة، والحرص على نقلها للأجيال المتوالية.

إننا نؤكد على أن الحاجة لأن تلعب الأسرة الأدوار التي ذكرناها تزداد أهمية في المجتمع الغربي حيث تغيب المعاني الإسلامية ورموز وقيم الدين من الحياة الاجتماعية (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة)، ويصبح جو الأسرة المجال الرئيسي للتعويض عن ذلك الغياب.

إن تحول الهجرة الإسلامية إلى أوروبا من هجرة فردية إلى هجرة عائلية، ومن وضع مؤقت إلى استقرار دائم، كانت له نتائجه الواضحة على مستويات متعددة، فخضعت الأسرة المسلمة المهاجرة مع ما تحمله من موروث اجتماعي وثقافي لعملية تغير مستمر، كما أنه من الطبيعي أن تتأثر في هذا السياق بالمحيط الجديد الذي انتقلت إليه ـ والذي يشهد هو نفسه تغيراً وتطوراً ـ ويتجلى ذلك في مظاهر كثيرة كالعلاقات داخل الأسرة، والعلاقات بين الأجيال والسلوك الإنجابي وطرق التربية وغير ذلك من أنواع التأثر.

ولاشك أنه من الطبيعي أن ينتج عن استقرار الأسر الإسلامية في أوروبا في بيئات لم تكن بنيانها مستعدة لاستيعاب هذه الواقعة الاجتماعية بكل أبعادها، مشاكل كثيرة تتفاوت حدتها وخطورتها وتختلف حسب نمط الأسرة وحجمها ومستواها المادي والثقافي، كمشكل قانون الأحوال الشخصية، ومشكل العلاقات بين أفراد الأسرة، ومشكل الفشل الدراسي، ومشكل الانحراف، ومشكل التواصل بين الأجيال، فضلاً عن ارتباط هذه المشاكل وتداخلها.

وبناء عليه، فإن واقع الأسرة الإسلامية في بلاد المهجر بأحواله ومشاكله ينبغي أن يكون محور اهتمام كبير في إطار هذه الاستراتيجية، وذلك لأسباب ثلاثة، وهي :

* لأن الأسرة المهاجرة مرآة تعكس صورة حية و واقعية عن حقيقةِ المسلمين في أوروبا.

* إن التحولات التي طرأت على بنية الأسرة المهاجرة وخصائصها ومميزاتها، جعلتها في حاجة إلى مزيد من الرعاية و الاهتمام من قبل القائمين بالعمل الاجتماعي، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار تفكك نظام الأسرة في بلاد الغرب.

* إن أية محاولة لإصلاح الأحوال الاجتماعية للمسلمين، إنما يمر عبر الأسرة باعتبارها النواة الأولى والخلية الأساسية في المجتمع.

ولا شك أن استقرار الأسرة وسلامتها وتوازنها هو عامل مشجع على تجنب الكثير من المشاكل الاجتماعية، خاصة في بعض المناطق الأوربية، حيث لازالت الجالية المسلمة حديثة العهد.

وعلى الجملة يمكن تمييز صنفين من المشاكل :

ـ الأول: طارئ و يمكن معالجته عن طريق الحلول المناسبة لكل ما هو طارئ.

ـ الثاني: هو ما يمكن تلافيه بتوقعه والتحسب له، و بالتالي معالجته بالوقاية.

ولعلّ استعمال طريقتي العلاج هاتين يجعل من الأسرة الإسلامية نموذجاً ناجحاً للأسرة المترابطة الفاعلة التي يمكن أن يغتني بها المجتمع الأوربي.

المـرأة:

ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار حال المرأة، لئلا تبقى الجهود المبذولة لإصلاح أوضاع الأسرة الإسلامية صرخة في واد و نفخة في رماد.

إن المرأة يجب أن ينال حظاً وافراً من التفكير الاجتماعي لما يوجد من الروابط بين مشاكل الأسرة ومشاكل المرأة التي ينعكس بعضها على بعضها الآخر كون المرأة عماد الأسرة.

إن مشكلة المرأة هي مشكلة عالمية، وإذا كانت الإنسانية لم تفلح في المحافظة على الأسرة المثالية، فلأنها أهملت المرأة وتجاهلت مكانتها وبالتالي هضمت حقوقها التي تقرها الفطرة الإنسانية المستقيمة ومواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان.

إن قضية المرأة لا يمكن طرحها بشكل معزول، بل كعنصر في الإصلاح العام الذي يعتبر تحريرها جزءاً منه.

وإذا كان هذا الأمر يتطلب أن يتحرر الرجال أولاً من روح الجمود الذي تكبلوا به عبر التاريخ مما جعلهم يُؤْثِرُون التقاليدَ على الدين نفسه، فإنه يدعو كذلك المرأة أن تستثمر بالشكل الصحيح اتجاه الأحداث وروح العصر المتطورة للدفاع عن حقوقها الأساسية والجوهرية بدل الاكتفاء بالشكليات التي تظل إطاراً أجوف لا طائل من ورائه.

لقد كرّم الإسلام المرأة وجعلها مخاطبة بالشريعة «ولقد كرمنا بني آدم»، فهي قادرة أن ترتفع إلى أعلى درجات السمو والتقرب من الله، كما احتفظ لها الإسلام بشخصيتها وهويتها اللتين لا تفقدهما بالزواج، كما أجاز لها تولي الوظائف والشؤون العامة كالاجتهاد والإفتاء والقضاء و الحكم في مشاكل الأمة والبلاد عموماً، وساوى الإسلام بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات وفق ما قال الرسول “صلى الله عليه وسلم” :”النساء شقائق الرجال”(الترمذي طهارة 105).

ويجدر بالعاملين على إصلاح أوضاع المرأة المسلمة في البلاد الأوربية استلهام تعاليم الإسلام للنهوض بالمرأة ومساعدتها على تحقيق وجودها.

إنه يجب أن تقوم المرأة المسلمة بدور ملموس في الحياة الاجتماعية، وذلك على أوجه عدة؛ و حتى يكون للنساء أثر في اندماج المسلمين بعضهم  مع بعض حيث ينشئ التجمع الأسري علاقات الجوار بين أفراد الجاليات، كما يجب أن تندمج المرأة في النسيج الاجتماعي فتتعلم و تكسب خبرة الحياة و تشارك بالعمل سواء في قطاع الخدمات أو المشاريع التجارية أو المهن الحرة.

كما أن تعليم المرأة سيؤدي إلى مزيد من فرص ارتقائها مما سيؤثر بشكل ملموس على توزيع الأدوار داخل الأسرة بالنظر إلى ارتباط مكانتها الاجتماعية بالعلاقة مع وضعها الاقتصادي.

إن هذه الإرهاصات ينبغي تعزيزها من قبل القائمين على العمل الاجتماعي و ذلك بالاعتناء بتعليم المرأة وتثقيفها وإكسابها مهارات عملية وحياتية للنهوض بوضعها الاجتماعي، كما ينبغي مساواتها بالرجل في الأحكام وفق ما سَنَّهُ الشرع الإسلامي وتمتيعها بالحقوق التي ضمنها لها الدين الحنيف، وهي حقوق روحية ومدنية واجتماعية واقتصادية وقانونية.

الطّفولة و الشباب:

من المشاكل الكبرى التي يعانيها الأطفال والشباب من أبناء المسلمين في الغرب، مشاكل تربوية تتعلق بعدم التكيف المدرسي كالفشل و غيره.

وإزاء هذه المشاكل، لابد من إعادة التأكيد على الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في مسار التطبيع الاجتماعي؛ فالأسرة هي المهد الأول للمعرفة حيث يتسلح الطفل برصيد معرفي وثقافي يكون رافداً له في الحياة، وإذا لم يتلق المسلم الناشئ هذا الرصيد المكون للهوية ومهارات الحياة ومعارف عامة داخل الأسرة، فمن أين له به وهو ينشأ في بلاد الغرب؟

إن غياب هذه المبادئ يشكل عائقاً ثقافياً يضاف إلى غياب استراتيجية تربوية في مجال الاستثمار الاجتماعي وتعليم الأبناء وبناء مستقبلهم بالاستفادة من فرص التعليم المتاحة في المدارس الأوربية. و لا شك أن هذين العاملين، فضلاً عن عوامل أخرى خارجية، يعرضان الأطفال إلى أنواع من الإحباط والفشل سواء على المستوى التربوي أو الاجتماعي.

إن الإخفاق المدرسي الذي ينتهي عادة بالطرد والتهميش سيضاف إلى تراكمات أخرى من الفشل سواء داخل الأسرة أو في مجال العمل، إضافة إلى ظروف البطالة والفقر والحرمان ليزيد من تفاقم أزمة وضعية الشباب المنحدرين من الهجرة والذين يعيشون وضعية قلقة ومضطربة يبرز فيها تعارض المرجعيات وازدواجيتها في القدوة والتربية والتعليم.

ولاشك أن ظروف التهميش الثقافي والاجتماعي هذه ستترتب عليها نتائج جد سلبية تتجلى في ميل الشباب إلى العنف والانحراف  كمظاهر للاختلال الاجتماعي الذي يعانيه الشباب الأوربي عموماً والذي يصدر عنه كنوع من الاحتجاج أو محاولة لإثبات الذات أو رد الاعتبار.

وإذا كانت ظاهرة الانحراف موجودة بالفعل في صفوف الشباب المسلم، فإنه يجب معالجتها بواقعية وعدم إهمالها، غير أنه يجب التحسب هنا لمحذورين وهما ربطها بالدين أو بالهجرة، بما أنها نتيجة خلل عام، كما ينبغي النظـر إليها في حجمها الفعلي دون تهويل أو مبالغة .

سبقت الإشارة إلى أن من وظائف الأسرة ربط حلقات المجتمع ببعضها بنقل قيم وثقافة المجتمع للأجيال المتوالية عن طريق التربية مما يجعل المرء يتساءل؛ أية علاقة تربط الأجيال المسلمة في بلاد أوربا، هل هي علاقة صراع أم تواصل؟

الواقع أن الأسرة الإسلامية حملت معها إلى المهجر تراثاً اجتماعياً يؤسس الأوضاع والأدوار والعلاقات على قاعدة ترتيب عمودي تكون للأجيال الكبيرة فيه “هيمنة” على الأجيال الناشئة، غير أن هذا النظام وجد نفسه في مواجهة نظام آخر للأوضاع والعلاقات قائم على المساواة بحكم ترتيب أفقي تبرز فيه مكانة الفرد، الشيئ الذي نتج عنه اضطراب وصراع في المواقف والسلوكيات واختلال في الروابط التي يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة، ولعل هذا ما يبرز بشكل أساسٍ في العلاقات بين الأجيال، وإذا كان صراع الأجيال ظاهرة عادية وعامة وكونية، فإنها تتخذ هنا طابعاً خاصاً بحكم التفاوت الكبير في المستوى الثقافي والفكري بين جيل الآباء والأبناء، فالآباء الذين هم في الغالب أميون قد تربوا ونشأوا في بيئة اجتماعية وثقافية معينة ويمثلون نموذجاً معيناً للتفكير، وليسوا مهيئين نفسياً وعقلياً واجتماعياً للاندماج في الوسط الجديد.

أما الأبناء فهم على غير هذا الحال، إذ هم قد ولدوا  في أوربا، وتشبعوا في نشأتهم بعاداتها وقيمها وأصبحوا منسجمين فيها أكثر من انسجامهم في ثقافة الآباء التي غالباً لا يستوعبونها و لا يؤمنون بصلاحيتها وجدواها في البيئة الأوربية.

ومن هنا يأتي مصدر الصعوبات التي تتمثل في اختلاف التصوّرات ووجهات النظر للأشياء وتقييم الأفكار والمواقف، وكثيراً ما تزداد هذه الصعوبات حدة خصوصاً في مرحلة المراهقة عند الأبناء فتصل إلى نوع من التنافر والقطيعة ينتفي معها الانفتاح والحوار وبالتالي يغيب التواصل.

ولاشك أن غياب السلطة التربوية للآباء أو تقلص فاعليتها على الأقل، إضافة إلى الموقف الغامض من الهوية عند الأبناء وازدواجية النماذج والمرجعيات المطروحة عليهم يجعلهم يعيشون صراعاً نفسياً يميلون إلى حسمه سواء بالقطيعة النهائية مع مرجعية الآباء أو بالحفاظ على الصلة، ولكن ثمن ذلك سيكون ازدواجية في الشخصية.

التوعية بضرورة الاستقرار و توطين المسلمين في الغرب:

معلوم لدى المختصّين من علماء الاجتماع أن العامل السكاني مؤثر تأثيرا مهمّاً فيما يتعلق بالأنشطة النوعية للناس في مكان ما. و كون تمركز المواطنين المسلمين في مناطق وأمكنة متقاربة، قد جعل منهم تجمعات سكانية ذات خصائص متجانسة نوعاً ما.

فمعدّلات الولادات لديهم تفوق في بعض المناطق الأسر الغربية، و عليه  فإنهم أصبحوا عبارة عن أقليات لها خصائصها السكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

والخلاصة هي أن الإسلام أصبح إحدى الديانات السماوية الحاضرة في الغرب بفضلهم، ويكاد يكون هو الديانة الثانية في بعض تلك الدول.

ويشير التقرير الختامي لاجتماع الخبراء لوضع استراتيجية العمل الثقافي في الغرب لهذه الوضعية الجديدة والمتمثلة في استقرار الإسلام والمسلمين في الدول الغربية حينما يقول :

ـ إن الوجود الإسلامي في أوربا غدا واقعاً حياً مستقراً يضرب بجذوره في أجزاء من أوربا، التي عاشت ردحاً من الزمان في ظل الإسلام، وأسهمت من خلال تعاليمه المضيئة وحضارته الزاهرة، في الحضارة الإنسانية «وتلك الأيام نداولها بين الناس».

ـ إن الوجود الإسلامي بواقعه وقضاياه بات يمثل ثقلاً بشرياً وحضارياً يستأثر باهتمام المخططين والاستراتيجيين على مستوى العالم الإسلامي، وعلى مستوى قادة الرأي و المسئولين في المجتمعات الأوربية.

ـ إن المسلمين بفعاليتهم المختلفة أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الأوربي الكبير، لديهم القدرات والكفاءات الذاتية التي تخولهم امتلاك زمام أمورهم، والتخطيط لحاضرهم ومستقبلهم والقيام بدورهم الإيجابي.

وتأسيساً على كل ذلك، لا يمكن أن نترك الأجيال المغتربة اليوم في حالة العزلة، كما لا يمكن تركها في حالة التشتت والانقسام إلى طوائف وتيارات، بل إن ضرورة العمل الإسلامي تفرض علينا إيجاد استراتيجية لحماية الهوية الثقافية للمسلمين من الاستلاب الفكري الذي يهدد معتقداتها الإسلامية، وذلك بالاعتماد على المرجعية الثقافية الإسلامية الأصيلة.


مراجع
  • القرآن الكريم
  • الحديث الشريف Cd شركة صخر للمعلوماتية
  • التفسير Cd صخر القرآن مع التفسير
  • د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، تقديم الاستراتيجية الثقافية  للعالم الإسلامي، منشورات الإيسيسكو.
  • إعلان سنة 1997 كسنة أوروبية لمحاربة العنصرية.
  • عبد الصمد بنكيران، ملاحظات حول واقع الأسرة المسلمة في أوروبا، أعمال جامعة الصحوة الإسلامية حول الإسلام والمسلمين بأوروبا، الدار البيضاء، المغرب،1997 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق