البحوث

الانخراط السياسي لمسلمي أوروبا والغرب “الفرص والتحديات”

الانخراط السياسي لمسلمي أوروبا والغرب

“الفرص والتحديات”

  

إعداد:

الدكتور عبدالوهاب الأفندي

مركز دراسات الديمقراطية – جامعة وست منستر، لندن

 

 بحث مقدم

للدورة السادسة عشرة للمجلس – اسطنبول

جمادى الآخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م

 

 يواجه الوجود الإسلامي في أوروبا تحديات كبرى، بعضها غير مسبوق في التاريخ الإسلامي، وهو بالتالي يطرح أسئلة جديدة قد لا يسعف التاريخ الإسلامي المعروف بإجابات جاهزة لها. وفي السنوات القليلة الماضية بدأت تبرز تحديات ومصاعب جديدة تتطلب بدورها التفكر في حلول من نوع جديد.

وتعتبر الملامح الأبرز للوجود الإسلامي في الغرب أنه حديث نسبياً، حيث يعود في حجمه الحالي إلى قرابة نصف قرن.

إضافة إلى ذلك فإن هذا الوجود تبلور في ظروف سياسية واجتماعية جديدة نوعاً ما، تتمثل في بروز المجتمعات المتعددة الثقافات وانتشار القيم الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان ومبادئ التعددية الثقافية (multi-culturalism).

ولكن هذه المبادئ أخذت في الآونة الأخيرة تتعرض لهجمات من عدة جهات، في نفس الوقت الذي أخذت فيه الهوية الإسلامية لمسلمي الغرب تتبلور كهوية غالبة عوضاً عن الهويات القومية والعرقية التي كانت تميزهم في السابق.

وفي نفس الوقت فإن ضلوع بعض أفراد الجاليات الإسلامية في العنف أو الصراع السياسي والثقافي صادف بروز نزعات معادية للمهاجرين عموماً والمسلمين خصوصا، وساهم في إذكاء وتقوية هذه النزعات وإعطاء مبررات لسياسات موجهة تحديداً ضد هذا الوجود الإسلاميً.

وفي نفس الوقت فإن بروز أجيال جديدة من المسلمين ولدت في الغرب وتربت فيه وأصبحت ترى نفسها جزءاً لا يتجزأ من مجتمعاتها، وتسعى إلى مشاركة فاعلة في كل جوانب الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية، خلق بدوره واقعاً جديداُ لم يعد من الممكن تجاوزه أو تجاهله.

بداية الوجود الإسلامي في الغرب

     ينقسم الوجود الإسلامي في أوروبا إلى عدة أقسام. فهناك وجود إسلامي قديم وكثيف في بعض مناطق شرق أوروبا (ألبانيا، البوسنة، بلغاريا، بولندا، إلخ) يعود إلى القرن الرابع عشر.

ورغم أهمية هذا الوجود ودلالاته فإنه لن يكون محور حديثنا في هذه الورقة، لأن المشاكل التي يطرحها ويواجهها لا تختلف في جوهرها عن المشاكل التي تواجهها بقية المجتمعات الإسلامية في بقية أنحاء العالم.

وليس هناك أي خلاف على ضرورة وشرعية المشاركة السياسية لمسلمي تلك المناطق الذين يشكلون الأغلبية أحياناً، على الأقل في مناطق إقامتهم المباشرة.

أما الوجود الإسلامي في معظم غرب أوروبا والولايات المتحدة، وهو محور تناولنا هنا، فإنه يعود في مجمله إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وقد كان هنالك قبل ذلك وجود متناثر للمسلمين عبر هجرات البحارة والجنود من إفريقيا واليمن والهند إلى مواقع في بريطانيا وفرنسا وغيرها بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، صاحبها كذلك دخول أعداد قليلة من الأوروبيين في الإسلام. وكنتيجة لذلك بدأت بعض المساجد تنشأ في أماكن مثل ليفربول وكارديف وووكينج في بريطانيا.

ولكن الهجرات المكثفة للمسلمين إلى أوروبا بدأت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لمقابلة الطلب على العمالة غير الماهرة في اقتصاد ما بعد الحرب.

وكان لدى المهاجرين شعور بأن وجودهم مؤقت، ولهذا لم يصطحبوا أسرهم، كما كانت هناك دلائل على أنهم كانوا يحاذرون من الجهر بهويتهم الدينية أو الإقبال على ممارسة شعائرهم علناً.

وقد غلب بين الجاليات المهاجرة التجمع بحسب الهوية القومية أو العرقية، فيعرف المهاجر نفسه بأنه تركي مثلاً، أو بنجابي أو كشميري، أو بنغالي أو مصري أو جزائري.

وقد ساعدت القوانين المحلية على ذلك، حيث كانت تبسط الحماية على المهاجرين بحسب هوية العرقية، ولا تنظر إلى أمر الدين.

لهذا كان المهاجرون ينشؤون جمعياتهم على هذا الأساس. ولم تكن لهم مشاركة سياسية تذكر، بينما انحصر نشاطهم الآخر في الدفاع عن حقوقهم في الأطر المذكورة، أي كل فئة على حدة.

الوضع السياسي كان أيضاً يساعد على خلق هويات جماعية للمهاجرين، مثل هوية “المهاجر”، أو “الملون”، أو “البريطاني الآسيوي” وما إلى ذلك.

وقد كانت مثل هذه الهويات تمنح المهاجرين إطاراً للنضال المشترك ضد التمييز وللمطالبة بالحقوق، وأحياناُ تفرض عليهم هوية معينة.

إلى ذلك فإن بعض المهاجرين المسلمين أخذ يتميز طائفياً ومذهبياً، خاصة في بناء المساجد ورعايتها. وقد خلق هذا بدوره أطراً معينة للمشاركة السياسية والاجتماعية، مثل الانخراط في أحزاب اليسار، أو الدخول في العمل النقابي.

وقد ظل العمل السياسي منحصراً في الغالب في الإطار المحلي (المجالس البلدية وما شابهها) وتحت مظلة هوية المهاجرين أو الملونيين، بدون الإشارة المعلنة إلى الهوية الإسلامية.

كانت هناك استثناءات برزت فيها هوية جامعة للمسلمين، أبرزها قيام جمعيات الطلبة المسلمين في الجامعات في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات.

إضافة إلى ذلك فإن بعض القضايا الإسلامية مثل قضية فلسطين والجزائر وحرب السويس وغيرها أخذت توحد مشاعر المسلمين، وتنال تأييدهم (مع بعض الفئات الأخرى، خاصة اليسار ومواطني العالم الثالث عموماً).

ولكن الطابع الغالب على تجمعات المهاجرين المسلمين ظل هو الطابع العرقي-الإقليمي، خاصة وأن معظم المهاجرين كانوا من العمال غير المهرة، ممن لم ينالوا حظاً كبيراً من التعليم ولم يكونوا يحسنون سوى لغاتهم الأم، مما جعل التواصل محصوراً لديهم داخل نطاق المجموعة اللغوية التي جاءوا منها، وأحياناُ في نطاق القرية أو المحلة التي هاجروا منها.

إضافة إلى ذلك فإنه حتى في المظاهر التي أخذ التضامن الإسلامي يتبلور فيها، مثل الجمعيات الطلابية والتعبئة حول القضايا الإسلامية، فإن بعض أنواع الاستقطاب أخذت تبرز.

على سبيل المثال فإن الطلاب العرب المسلمين كانت لهم جمعيات متميزة عن بقية الجمعيات الإسلامية لغير العرب رغم مشاركتهم في تلك الجمعيات.

وبالمثل فإن مشاركة العرب في الحشد والتعبئة لقضايا مثل كشمير كانت أقل بكثير من مشاركتهم في قضايا فلسطين أو الجزائر.

وقد نشأت في بلدان المهجر في تلك الفترة منظمات إسلامية كانت في معظمها امتداد لحركات وأحزاب قائمة في البلدان الأم، خاصة تلك الأحزاب والمنظمات الممنوعة.

وكان لمعظم حركات التحرير والمعارضة كذلك وجود في العواصم الأوروبية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية وحركات تحرير كشمير وغيرها.

وقامت معظم الحركات الإسلامية، بما في ذلك الجماعة الإسلامية ومعظم فروع حركات الإخوان المسلمين بإنشاء فروع لها في المهجر.

ولكن اهتمام هذه الحركات كان موجهاً إلى بلدانها الأم، ولم تكن تلق كبير اهتمام لمشاكل الوجود الإسلامي في الغرب أو تشارك بفاعلية في السياسية المحلية.

بدء تبلور الهوية الإسلامية

     كانت هناك تطورات متداخلة أدت منذ الثمانينات إلى بداية تبلور هوية إسلامية تميز المسلمين عن غيرهم من المهاجرين وتوحد بين فئاتهم وطوائفهم.

وأول هذه التطورات هي نشوء أجيال جديدة من المسلمين انقطعت أو ضعفت إلى حد ما الوشائج التي كانت تربطها إلى المجتمعات المنغلقة التي جاءت منها، هذه الأجيال تتحدث لغات بلاد المهجر، ومعظمهم لا يجيد لغته الأم.

وهو لهذا يتواصل مع أقرانه من مختلف الطوائف والأصول بأفضل مما يتواصل به مع الأجيال السابقة من أسلافه.

ولكن هذه الأجيال بقي لها شيء من التمسك بالدين، بل إن تمسك الأجيال الجديدة بالدين واعتزازهم بالهوية الدينية قد تفوق في كثير من الأحيان على تمسك الآباء الذين كان علمهم بالدين محدوداُ وتمسكهم به في تفاوت.

وقد أصبحت قطاعات مهمة من هذه الأجيال تتلاقى حول هذه الهوة الدينية الباقية.

     من جهة أخرى فإن سلسلة من الأحداث المتلاحقة فرضت على كثير من المسلمين خيار الهوية الإسلامية تميزاً عن الآخرين وتضامناً فيما بينهم.

كانت هناك أحداث خارجية بدءاً من أزمة السويس ثم الثورة الجزائرية في الخمسينات، والحروب العربية-الإسرائيلية المتتابعة (1967، 1973، 1982)، والحروب العديدة بين الهند وباكستان حول كشمير وبنغلاديش، والثورة الإسلامية في إيران عام 1979، فحرب أفغانستان من عام 979، ثم حروب الخليج المتعاقبة (1980، 1991، 2003)، فالانتفاضة الفلسطينية بدءاً من عام 1987، فحروب البوسنة من عام 1991، وغيرها من الصراعات التي مزقت العالم الإسلامي أو جسدت التصادم بين المسلمين وغيرهم.

وقد كان المسلمون يتفاعلون مع هذه الأحداث بالتضامن مع الآخرين أحياناً، ولكن تفاعلهم معها أخذ يأخذ منحىً فيه بعض التميز.

     ثم جاءت أحداث أخرى، كان من أبرزها الصدام حول رواية الكاتب البريطاني سلمان رشدي “آيات شيطانية” عام 1989، وهي الرواية التي أثارت احتجاج مسلمي بريطانيا ومن ورائهم مسلمي العالم لما تضمنته من إساءات وبذاءات نالت من نبي الإسلام عليه صلوات الله وسلامه وغيره من الأنبياء، وأثارت استياءً واسعاً بين المسلمين.

وقد وصل الخلاف حول القضية مرحلة الأزمة حين قام المسلمون في بريطانيا بالتظاهر وإحراق كتب رشدي، ثم أصدر الزعيم الإيراين آية الله الخميني فتوى باهدار دم رشدي في فبراير عام 1989، ورفض كثير من قادة مسلمي بريطانيا إدانة الفتوى.

وبدورهم قام كثير من الكتاب والمثقفين في الغرب بإظهار تضامنهم مع رشدي بحجة الدفاع عن حرية الرأي والإبداع، مما وسع الهوة بين المسلمين وبقية الأوروبيين، وخلق إشكالاً مع بعض قوى اليسار والقوى الليبرالية التي كانت تتضامن في السابق مع قضايا المسلمين باعتبارهم من المهاجرين المستضعفين.

وقد اضطرد اتساع هذه الهوة بعد صدامات أخرى، وخاصة بعد احداث سبتمبر عام 2001، ثم مدريد عام 2004، ولندن عام 2005.

فقد أصبحت هناك أزمة ثقة بالمسلمين واتجاه إلى تشديد القوانين التي تضيق على المهاجرين عموماً والمسلمين خصوصاً.

وقد تفاقم هذا الاستقطاب مع بروز قوى واتجاهات رأت في استهداف الإسلام وقيمه محاولة لتحصين المجتمعات الغربية من “التطرف” كما حدث في فرنسا وإجراءاتها وقوانينها المناهضة لاعتماد الزي الإسلامي في المدارس وأماكن أخرى.

وأخيراً جاءت أزمة الرسوم الكاريكاتوية الدنماركية المسيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لتنقل الصراع إلى مرحلة جديدة.

     وكانت محصلة كل هذه التطورات هي بروز هوية إسلامية متميزة وجامعة لمسلمي أوروبا، ولكنها هوية برزت في الصراع ومنه، وصاحبها توتر متصاعد في علاقات المسلمين مع جيرانهم.

وهذا بدوره حتم على المسلمين بناء أطر جديدة للمشاركة في الحياة العامة، تمثلت في إنشاء منظمات تعلن الهوية الإسلامية وتنافح عنها، مثل المجلس الإسلامي البريطاني والرابطة الإسلامية في بريطانيا ونظائرهما في الدول الاوروبية الأخرى وفي الولايات المتحدة.

وفي نفس الوقت فإن دولاً مثل فرنسا سعت لخلق أطر تمثيلية للمسلمين المقيمين فيها بغرض احتواء الوجود الإسلامي والسيطرة عليه.

وصادف ذلك نشوء أحزاب ومنظمات إسلامية ذات طابع تصادمي، مثل حزب التحرير والمهاجرون وغيرها.

وفي نفس الوقت نشط المسلمون في المشاركة في الأحزاب السياسية القائمة، ولكن هذه المرة كمسلمين وليس كمهاجرين أو آسيويين، إلخ… كما كان عليه في السابق.

ظاهرة جديدة أم سنة قديمة؟

     كل هذه التطورات تثير قضايا عدة، أولها التساؤل عما إذا كانت ظاهرة الوجود الإسلامي في الغرب تطوراً فريداً من نوعه أم أنه ينسج على منوال سبق؟ ولا شك أن مثل هذا الوجود يعتبر في بعض جوانبه ظاهرة غير غريبة تماماً في التاريخ الإسلامي.

فوجود المسلمين كأقلية تكافح لإثبات وجودها في ظل وضع لا يحكمه الإسلام صاحبت تاريخ الأمة الإسلامية منذ فجر الإسلام، كما كان الحال في هجرة الحبشة.

ويدين انتشار الإسلام في معظم بقاع آسيا وافريقيا لمثل هذا الوجود الذي قام على هجرات متعاقبة لأفراد أو مجموعات صغيرة من التجار والدعاة وطالبي الرزق أو الفارين من الاضطهاد.

وقد أقام هؤلاء في بلاد غالب أهلها من غير المسلمين ثم عكفوا على الدعوة والتواصل مع جيرانهم حتى هدى الله تعالى غالبية سكان تلك البلدان إلى الإسلام، فاتسعت بذلك دار الإسلام وضرب الإسلام بجذوره في ديار جديدة.

     من جهة أخرى فإن الوجود الإسلامي الحالي في الغرب يعتبر ظاهرة جديدة من جهة أنه لم يكن مغامرة غير محسوبة كما كان عليه الحال في هجرات المسلمين الأولى التي أشرنا إليها.

فبالنسبة إلى المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى الصين أو ضربوا في مجاهل افريقيا وأعماق آسيا لم تكن هناك أي ضمانات لتلقيهم المعاملة الكريمة أو حماية حرياتهم الدينية أو حقوقهم المدنية، بل كان المهاجر يتوكل على الله ويقصد وجهته، ويعتمد الأمر في النهاية على المصادفات وعلى حسن ضيافة المجتمعات المضيفة أو على عدل الحكام وإنصافهم.

فلم تكن هناك مواثيق دولية أو معاهدات تضبط حسن المعاملة، وقد يتعرض المهاجر إلى بلاد ليست على ملته لكثير من المخاطر.

ولايزال الأمر كذلك في بعض الأماكن، حيث تعرض المسلمون ويتعرضون إلى محن كثيرة كما هو الحال في ماينمار (بورما) وتايلاند والصين وغيرها، وكما كان عليه حالهم في الدول الشيوعية سابقاً.

ولكن الهجرة إلى الغرب جاءت في ظروف مختلفة، تكتنفها ضمانات النظم الديمقراطية لبلاد المهجر، كما تحميها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية حول الهجرة والعمل.

فالمسلمون إذن لا يواجهون مخاطر أسلافهم، كما أن البيئة التي هاجروا إليها تعتبر أكثر تقبلاً لممارسة حرياتهم الدينية بل ولنشر الدعوة الإسلامية.

     هذه الطبيعة المستجدة للوجود الإسلامي فرضت تعاملاً جديداً، والدخول في تعاقدات تتطلب الالتزام بواجبات المواطنة في مقابل حقوقها.

فمن جهة تتيح الأوضاع الجديدة للمسلمين الاستقرار في بلدان المهجر في أمان وتحقيق التقدم والازهار والمشاركة السياسية.

ولكن بالمقابل فإن المسلمون مطالبون بالتأقلم مع مجتمعات تختلف عنهم ثقافياً ودينياً والتعايش مع نظم علمانية. إضافة إلى ذلك فإن الشباب يواجهون ضغوطاً مكثفة من وسائل الإعلام ومن الشارع لاتباع أنماط حياة لا تتفق مع تعاليم الإسلام.

     المسلمون إذن موجودون في بلدان المهجر المعاصرة في الغرب كمواطنين، وليسوا كضيوف.

وأوضاعهم الحالية لا تتيح المشاركة السياسية فقط، بل تفرضها كواجب وطني ومسؤولية على كل مواطن للدفاع عن حقوقه وأيضاً للمساهمة في صياغة القيم التي تحكم الحياة العامة.

شبهات حول الوجود الإسلامي:

     أثار الوجود الإسلامي في الغرب مقارنات وتحيليلات سعت أحياناً للمقارنة بينه وبين الوجود الإسلامي في مناطق أخرى أو أزمان سابقة.

وأقر مثال يرد على ذهن المحللين في هذا المجال كان كما هو متوقع مثال الأندلس وما حل بأهلها من نكال.

ويرى بعض من ذهب هذا المذهب أن على المسلمين الاجتهاد في هجرة معاكسة هرباً بدينهم من ما يتعرضون له من مخاطر في دول الغرب.

بل إن بعض هؤلاء استند على فتاوى الونشريشي وغيره من فقهاء ما بعد محنة الأندلس في دعوته إلى الهجرة من الغرب.

ويقول قائل هؤلاء إن المسلمين هاجروا إلى الغرب طلباً للدنيا، وإن الأوضاع التي يعيشون فيها لا تساعد على حرية ممارسة دينهم، كما أن الأجيال القادمة مهددة بغسيل الأدمغة والوقوع في إغراءات الحياة الغربية وبالتالي التنكر للدين الإسلامي.

    هناك بنفس القدر من يجادل بأن مشاركة المسلمين في الحياة السياسية في الغرب هي من قبيل المنكر المفضي إلى الكفر، لأن هذه مشاركة في برلمانات وأنظمة علمانية لا تحكم بما أنزل الله.

وهناك حجج وتبريرات أخرى يسوقها هؤلاء لتبرير مقاطعة العمل السياسي في الغرب، أبرزها تنازع الولاء لدى المسلمين بين الانتماء إلى الأمة الإسلامية وواجبات المواطنة في دول قد تتبع سياسات معادية للأمة، بل وقد تشن الحروب ضد دول وشعوب إسلامية. ولكن أنصار هذه الدعوة لا يذهبون مذهب من يدعو إلى الهجرة المعاكسة، بل ينصحون بالتعايش مع الوضع القائم والاستمرار فيه إلى أن يأتي الفرج.

     وبالمقابل فإن هناك فئات متزايدة من المسلمين تدعو إلى الاندماج في الواقع الأوروبي، بل وإلى تطوير “إسلام أوروبي” يكون أكثر مواءمة لمتطلبات العيش في المجتمعات الأوروبية المتسامحة المتعددة الثقافات والأعراق والأديان.

ويذهب أصحاب هذا التوجه إلى القول بأن الإسلام الأوروبي قد أخذ يتبلور فعلاً، وهو إسلام يتسق تماماً مع تعاليم الدين ولكنه منفتح على الواقع الأوروبي (عبدالحكم مراد، 1995)؛  كما أنه إسلام يقوم على خلق واقع ثقافي جديد، خاصة في مجالات الفن والفكر والأدب، ويمارس القطيعة مع النتاج الثقافي العربي، أو الباكستاني أو التركي، إلخ (طارق رمضان، 1998).

ويتبلور هذا الإسلام أيضاً في استقلال مالي وفقهي وسياسي عن دول المركز الإسلامي، وينطلق في توجهاته من واقع ومطالب الوجود الإسلامي في الغرب ومقتضيات التعايش مع غير المسلمين في ظل أنظمة علمانية.

ويرى آخرون أن مثل هذا الإسلام الأوروبي هو ترياق للأصولية والتطرف، وضمانة للانفتاح والاعتدال (بسام طيبي، 2001).

ولا تقتصر المناداة بهذا الإسلام الأوروبي على بعض المفكرين المسلمين، بل تتعداه إلى الحكومة الأوروبية، حيث كان وزير الداخلية الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي من أوائل من دعا إلى نشوء إسلام فرنسي.

ويقارن أنصار هذا التوجه بين الإسلام الأوروبي المنشود و”الإسلام الإفريقي” أو “الإسلام الآسيوي”، وهي عندهم تجليات للعقيدة الإسلامية نشأت في ظروف تاريخية محددة وتفاعلت مع الواقع المعاش مما أدى إلى نشأة تقاليد دينية تعكس عبقرية المكان وطبائع الشعوب.

فالإسلام الافريقي على سبيل المثال تميز بغلبة الطابع الصوفي عليه وهو طابع يتماشى مع المزاج الإفريقي ويعكس أيضاً بعض المعتقدات والممارسات السابقة على الإسلام، مثل المزج بين العبادة والطرب.

وبنفس القدر فإن الإسلام الآسيوي عكس أيضاً طبائع وأمزجة شعوب تلك المناطق وواقعها الاجتماعي. وبنفس القدر فإن الإسلام الأوروبي لا بد أن ينعكس الواقع الديمقراطي العلماني لأوروبا ويتماشى مع العقلانية والنظرة العلمية التي تتميز بها المجتمعات الأوروبية الحديثة.

     من الناحية العملية فإن المسلمين اتجهوا في غالبيتهم إلى الانخراط السياسي والاجتماعي عملياً عبر بناء منظماتهم الخاصة بهم أو المشاركة في المنظمات السياسية والنقابية والمدنية القائمة.

وغالبية هؤلاء يؤكدون صفتهم التمثيلية للمسلمين، وينافحون عن حقوق المسلمين وأحياناً عن قضايا الأمة، مع مراعاة مواقف الأحزاب التي ينتمون إليها.

ولكن هناك قلة عبرت عن عداء سافر للإسلام والمسلمين، كما هو الحال في هولندا. وقد أعطت بعض مواقف هؤلاء حججاً إضافية لمن يرفضون المشاركة والانخراط.

المقاومة الأوروبية:

    السعي إلى توليد إسلام يتعايش مع الواقع الأوروبي ويتلبس الهوية الأوروبية له عدة دوافع، أبرزها كما أسلفنا نشوء أجيال جديدة من المسلمين اكتسبت الهوية الأوروبية (مع الأعداد المتزايدة من المسلمين من أصل أوروبي)، وأصبحت ترى هوية “المسلم الأوروبي” هي المعبر الحق عنها.

وهناك كما هو معروف مساهمات مهمة في الفكر الحديث لمسلمين من أصل أوروبي أمثال محمد أسد ومارمدوك بيكتال ورجاء غارودي وغيرهم ممن أثروا الفكر الإسلامي والإنساني بأفكارهم.

في نفس الوقت فإن التوجه إلى صياغة “إسلام أوروبي” يعتبر ردة فعل على العداء المتزايد للإسلام في المجتمعات الأوروبية من قبل بعض قطاعات المجتمع وحتى من قبل الدول.

وهذا العداء متأصل إلى حد ما في صلب الهوية الأوروبية التي صيغت كما هو معروف على خلفية الحروب الصليبية.

فأوروبا المسيحية كانت قبل دعوة البابا أوربان الثاني إلى الحروب الصليبية في نهاية القرن الحادي عشر عبارة عن قبائل ودويلات متناحرة ليس بينها رابط.

وقد اشتملت دعوة الكنيسة إلى الحروب الصليبية على عظة بأن يحارب الأوروبيون العدو المشترك ويتركوا مقاتلة بعضهم بعضاً.

من هنا فإن العداء للإسلام أصبح هو المكون الأبرز للهوية الأوروبية وتمثلتها آدابها وفلسفتها وكل ثقافتها (أنظر ماستناك، 1994).

ولكن هذا العداء تراجع إلى حد ما مع نمو أشكال جديدة للصراع داخل الغرب، ومع تراجع الكنيسة وهيمنة العلمانية. حتى العداء للأجانب اتخذ طابعاً عنصرياُ، وعانى المسيحيون الملونون ربما أكثر بكثير من المسلمين.

    ولكن التحولات التي أشرنا إليها أعلاه، والتي بدأت مع الصراع العربي-الصهيوني، ثم تفاقمت مع قضية سلمان رشدي ثم بعد تصاعد ما سمي بـ “الإرهاب الإسلامي” مع تفجر أزمة الجزائر ثم أحداث سبتمبر و ما تلاها، حولت المشاعر العنصرية المعهودة باتجاه الإسلام والمسلمين تحديداُ.

هذا مع فارق مهم، وهو أن القوى الليبرالية واليسارية التي كانت في السابق تعادي العنصرية انضمت إلى قوى اليمين في هذه المعركة، بل أصبح بعض اليساريين، بما فيهم بعض من هم من أصول مسلمة، أشد عداوة للدين الإسلامي والوجود الإسلامي في الغرب من بعض متطرفي اليمين. فعلى سبيل المثال نجد حزب العمال البريطاني المشهور بتعاطفه مع المهاجرين كان أشد معارضة لإنشاء المدارس الإسلامية في بريطانيا من حزب المحافظين.

    ولعل أبرز مظاهر تصاعد العداء للإسلام (الظاهرة التي أصبحت تعرف ب “الإسلاموفوبيا”) الهجمة على مبادئ التعددية الثقافية من بعض قوى اليسار، بل المهاجرين أيضاً. وقد عبر عن هذا الاتجاه الجديد السيد تريفور فيليبس، أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، ورئيس لجنة المساواة العرقية (The Commission for Racial Equality)، وهي اللجنة شبه الحكومية المنوط بها مكافحة التمييز العنصري، حين شن هجوماً عنيفاً في عام 2004 ضد سياسة بريطانيا التقليدية في قبول التعددية الثقافية ودعا إلى نهج يشبه النهج الفرنسي في فرض الهوية الثقافية الموحدة على الجميع.

وقد أشار فيليبس وأنصاره تحديداُ إلى ما وصفوه بتنكر الشباب المسلم للقيم البريطانية ودعمهم للإرهاب كمبرر لمحاربة ما سموه بالتخندق الثقافي والدعوة بالمقابل لتدريس “القيم البريطانية” في المدارس وفرض القبول بقيم مشتركة على الجميع.

وأضاف فيليبس (وهو بالمناسبة مهاجر بدوره من جزر الهند الغربية) أن على قوى اليسار أن تنتزع قضية الهوية من اليمين المتطرف، وهي مقولة تلمح إلى ضرورة المزايدة على العنصريين في عنصريتهم.

    النموذج الفرنسي الذي نوه به فيليبس وأنصاره كان بدوره يمر بمرحلة جديدة من السعي إلى فرض “القيم المشتركة” في حملة كان يقودها مهاجر آخر (من شرق أوروبا هذه المرة) وهو نيكولا ساركوزي.

وتمثلت هذه الحملة في سن قانون يحرم على الفتيات المسلمات لبس غطاء الرأس في المدارس الحكومية، وهو قانون واجه مقاومة شرسة من الجالية الإسلامية في فرنسا باعتبارها عدواناً على الحريات الشخصية عموماً وحرية التدين عموماً.

وقد انتقد القرار معلقون كثر، حيث وصفه أحدهم بأن هذه ربما تكون أول مرة في التاريخ تفرض فيها الدولة عرض المفاتن الجنسية على النساء.

ووصفه آخر بأنه قرار خاطئ أخلاقياً وقضائياً ومخالف للمواثيق الأوروبية والدولية لحقوق الإنسان. وقال عنه ثالث إنه قرار إقصائي واستبدادي، وليس قراراً يدعو إلى الحرية والاندماج.

وبالمقابل فإن أنصار القرار دافعوا عنه باعتبارها استمراراً لتراث الثورة الفرنسية في تحرير المواطن من سلطان الدين، وأنه يدفع عن الفتيات الضغوط الأسرية ويساهم في محاربة التطرف والإرهاب.

    كل هذه الأوضاع خلقت واقعاً جديداً أصبح يحتم على المسلمين اسماع صوتهم السياسي، ليس من قبيل الترف والكماليات، بل من أجل الدفاع عن الوجود الإسلامي في ظل ظروف لم تعد تسمح بالسلبية كما كان الحال في السابق حين كانت القوى السياسية القائمة من يسارية وليبرالية تتولى الدفاع عن الحقوق الأدنى للمهاجرين والمسلمون من بينهم.

وفي نفس الوقت فإن التطورات السياسية أتاحت للمسلمين بناء تحالفات سياسية جديدة، مثل التحالف المناهض للحرب في العراق في معظم دول أوروبا الغربية، وهو تحالف ضم قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي تمثل في بعض تنظيمات اليسار والقوى المناهضة للعولمة وأنصار السلام والبيئة وغيرهم.

المشاركة الإسلامية: التحديات والفرص

     يمكن أن نستخلص مما سبق أن الوجود الإسلامي في الغرب يمثل تحدياً جديداً وفريداً للأمة الإسلامية، وأن التطورات التي صحبته تجعل المشاركة السياسية الفاعلة للمسلمين ضرورة لازمة بعد أن كانت حقاً وميزة.

صحيح أن هذا الوجود ليس ظاهرة جديدة تماماً كون المسلمين سبقوا في أجيال سالفة بالانتشار في أصقاع المعمورة شرقاً وغرباً، وكان أن نتج عن ذلك انتشار الإسلام وقيام مجتمعات إسلامية في رقع واسعة من الأرض تمتد من اندونيسيا وجنوب الفلبين إلى القرم والشيشان في روسيا وأوكرانيا، ومن بولندا والبوسنة إلى جنوب إفريقيا.

ولكن الوجود الإسلامي المستحدث في الغرب يختلف في أنه يقوم أولاً في ظل ضمانات محلية ودولية لحرية العبادة والحقوق لم تكن موجودة في السابق، وأيضاً في ظل تحديات ثقافية وسياسية من نوع جديد.

ذلك أن الحضارة الغربية ومنجزاتها مثلت تحدياً فكرياً وثقافياً للمسلمين حتى في عقر دارهم، وتحدياً سياسياً تمثل في الهيمنة والاستعمار والصراع على الموارد.

ويواجه المسلمون أيضاً تنازع الولاء في الدول التي لا تزال تمارس سياسات استعمارية وعدوانية تجاه الأمة الإسلامية، كما حدث للجنود الأمريكيين والبريطانيين المسلمين الذين فرضت عليهم المشاركة في غزو العراق أو أفغانستان.

وبسبب عولمة الاتصالات فإن ما تواجهه الأجيال الصاعدة من المسلمين في الغرب من مغريات وتحديات لا يختلف كثيراً عما تواجهه أجيال المسلمين في دار الإسلام.

    ولعل المستغرب في ظل هذه الضغوط أن ما يتخوف منه الغرب (وحتى الآباء) لم يعد هجران الأجيال الصاعدة لدين الآباء، بل التطرف والغلو في التمسك به.

ولهذا السبب فإن المسلمين في الغرب أصبحوا هدفاً لحملات شرسة من التضييق ومحاولة الصد عن الدين، وهي حملات تشارك فيها للأسف كثير من الدول المسلمة إسماً، بل وتتولى كبرها أحياناً.

فسنة حرمان المسلمات من حرية الاحتشام سبقت بها دول سكانها يكادون يكونون كلهم من المسلمين. وللأسف فإن الوجود الإسلامي في الغرب كان يشبه إلى حد كبير الوجود الأول للمسلمين في الحبشة من حيث أن الغرب كان متنفساً للفارين بدينهم من الكبت والطغيان في ديار الإسلام.

ولكن الأمر تحول إلى غير ذلك بسبب تصرفات غير مسؤولة من قلة استغلت الحريات التي يتمتع بها المسلمون هنا لتحقيق أهداف سياسية قصيرة النظر، فجلبت على المسلمين ما لا قبل لهم به من التضييق والحرمان.

     ولكن الوجود الإسلامي في الغرب يظل على الرغم من ذلك في ازدهار ونمو بسبب استمرار الهجرات وأيضاً بسبب زيادة انتشار الدين الإسلامي بين سكان هذه البلاد.

ولا شك أن المسلمون سيحققون بفضل الله النجاح المنشود في مواجهة التحديات التي تقابلهم. ومن نافلة القول أن الإسلام الذي سينمو ويتطور في أوروبا سيحمل ملامح خاصة به تخدم التأقلم المطلوب مع الظروف المحيطة.

ولكن قد يكون من المبالغة، إن لم يكن من الخطأ، الحديث عن “إسلام أوروبي” يتميز بميزات وعقائد خاصة به.

فالمقارنة مع ما يسمى بالإسلام الإفريقي أو غيره مقارنة غير سليمة، لأن مسلمي افريقيا وآسيا لم يسعوا عمداً إلى صياغة إسلام يختلف عن إسلام بقية الأمة.

ما حدث في إفريقيا وآسيا أن المسلمين واجهوا صعوبات في تعلم الدين الإسلامي بسبب حواجز اللغة والبعد الزماني والمكاني، مما جعل عقائدهم وممارساتهم تختلف نوعاً عما عليه بقية أهل الإسلام.

ولكن هذه الاختلافات كان في معظمها مؤقتة، حيث قام مصلحون من أهل تلك البلاد مثل الشيخ عثمان دان فوديو في نيجيريا وغيره ممن تصدوا لتصحيح العقائد والممارسات، وتبعتهم في ذلك أجيال وأجيال.

وقد شهدت العقود الأخيرة تقارباً كبيراً بين المسلمين في فهمهم للإسلام، وهو تقارب ساهمت فيه زيادة الوعي والتعليم وتقريب المسافات عبر وسائل الإعلام والنشر الحديثة.

وعليه فلا عذر مماثل اليوم لمسلمي أوروبا في اتباع سنة إخوانهم في افريقيا وآسيا في السابق في عصر أصبح فيه العلم متاحاً.

    يبقى أن باب الاجتهاد مفتوح، ومن حق مسلمي أوروبا، بل من واجبهم، أن يجتهدوا في استنباط أحكام تلائم واقعهم على هدي الدين.

ولعل من القضايا التي يجب عليهم التصدي لها قضايا الديمقراطية، والمشاركة في السلطة، وواجبات المواطنة، وتنازع الولاء، والتطرف والغلو في الدين بغير علم، والتعايش الديني وغير ذلك من المسائل والتحديات التي يواجهها الوجود الإسلامي في الغرب، وهو وجود نحسبه مباركاً وواعداً بإذن الله، وقد يترتب عليه من الخير للأمة ما ترتب على انتشار المسلمين في بقاع العالم الأخرى، بل أكثر بسبب الوضع الخاص لأوروبا والغرب في المنظومة العالمية.

خلاصة:

      يطرح الوجود الإسلامي في الغرب تحديات جديدة على الأمة الإسلامية. فمن جانب فإن هذا الوجود يتبع سنة قريبة في ضرب المسلمين في في مشارق الأرض ومغاربها ابتغاء من فضل الله، وما تبع ذلك من نشر للعقيدة الإسلامية في معظم ما أصبح اليوم دارا الإسلام.

ومن جهة أخرى فإن هذا الوجود تنامي في ظل تحديات جديدة وفرص غير مسبوقة. وتتمثل التحديات في الصعود السياسي والثقافي والاقتصادي للحضارة الغربية المعاصرة التي أصبحت تواجه المسلمين بتحديات كبرى في الحفاظ على هويتهم الثقافية واستقلالهم السياسي حتى داخل دار الإسلام.

وقد أثار هذا الوضع شبهات حول شرعية الوجود الإسلامي في الغرب، خاصة حين تتعرض الأجيال الصاعدة للفتنة في الدين، ويفرض على المسلمين المشاركة في نظم سياسية واجتماعية علمانية وأحياناً المشاركة في حروب ضد دول إسلامية.

وبالمقابل فإن المسلمين يجدون في بلدان المهجر مجالاً واسعاً للمشاركة السياسية والاجتماعية وضمانات للحقوق، بل والقدرة على التأثير في عملية صنع القرار في بلدانهم المتبناة.

وهناك جدال محتدم في أوساط الجاليات المهاجرة بين من يدعون إلى الانفصال عن مجتمعات المهجر، بل والهجرة المعاكسة تجنباً للفتنة، وبين يدعون إلى الاندماج والتعايش وتطوير “إسلام أوروبي” يوائم الواقع الجديد، ويساعد على محاربة الغلو والتطرف.

     ولا شك أن هناك أسئلة مهمة وعميقة يطرحها الوجود الإسلامي في الغرب ومجالات المشاركة المتاحة فيه، إضافة إلى التحديات الكثيرة التي تواجه المجتمعات المسلمة في المهجر، خاصة في ظل تصاعد العداء للإسلام في السنوات الأخيرة وتراجع ما عرفت به المجتمعات الغربية من انفتاح واحترام للتعددية والاختلاف.

كل هذه التحديات تتطلب من كل المسلمين، وليس فقط مسلمي المهجر، إعمال الفكر والاجتهاد للبحث عن حلول مناسبة للإشكالات التي تواجه مسلمي المهجر حتى يحقق الوجود الإسلامي في الغرب غاياته وتدفع عن الأمة المخاطر التي يواجهها.

     وقد تطورت تجارب المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا عبر مراحل عدة، بدأت من مشاركة خجولة كان تتم في إطار الهوية العرقية أو القومية المحدودة، أو تتم في إطار الهوية الجامعة للمهاجرين، ثم تطورت عبر أشكال عدة لتصبح مشاركة تعلن طابعها الإسلامي، وتصر على المشاركة في قلب الحياة العامة تحت مظلة هذه الهوية.

وما يزال يكتنف هذه المشاركات الكثير من القصور في الأدوات والرؤى، كما أنها تفتقد للفاعلية وتواجه تحديات كبرى أبرزها تجذر العداء للإسلام في الهوية الغربية والجو المعادي الذي خلفته التطورات الأخيرة.

وكل هذا يستدعي جهوداً مضاعفة لمواجهة التحديات الماثلة والاستغلال الأمثل للفرص المتاحة.

                                                                            عبدالوهاب الأفندي

                                                                          لندن_ مايو 2006

المراجع:

 

Abu Musab (2003) “Euro Islam”, Khilafah.com Journal,
23 April 2003.

Asthana, Anushka and Gaby Hinsliff (2004) “Equality Chief Branded as “Right-Wing”” The Observer, April 7, 2004.

Baldwin, Tom (2004) “I want an integrated society with a difference,” The Times, 3 April 2004.

Baldwin, Tom and Gabriel Rozenberg (2004) “Britain ‘must scrap multiculturalism’” The Times, 3 April 2004.

BBC (2004) “So what exactly is multiculturalism?” BBC News, online, Monday, 5 April, 2004, 11:57 GMT.
Belden, Dave (2004) “Headscarves and freedom”, openDemocracy.net, 31 March 2004.

Buijs, Frank J. and Jan Rath (2002) “Muslims in Europe: The State of Research,” Essay prepared for the Russell Sage Foundation, New York City, Oct. 2002.

Cesari, Jocelyne (2003) “Muslim Minorities In Europe : The Silent Revolution” in John Esposito and François Burgat (ed), Modernizing Islam: Religion in the Public Sphere in the Middle East and in Europe, Rutgers University Press, 2003, pp. 251-269.

______ (2002) Islam in France: The Shaping Of A Religious Minority,” in Yvonne  Y Haddad (ed.) Muslims in the West, from Sojourners to Citizens, 2002, Oxford University Press, p 36-51.

El-Affendi, Abdelwahab (2003) “Hizb al-Tahrir: the paradox of a very British party,” The Daily Star, 2 September 2003.

____ (1995) “The Good Muslim and the Good Citizen: The Future of Muslims in Europe,” Impact International, December 1995.

Gellner, Ernest (1994) Conditions of Liberty, Civil Society and its Rivals (London: Hamish Hamilton).

Herrin, Judith (2001)How did Europe begin?” openDemocracy 4 July 2003, (on the website: www.opendemocracy.net/debates/article-3-56-359.jsp)

Hillenbrand, Barry (1998-1999) “Spirit Level,” in Visions of Europe, a Special Issue of Time magazine, Winter, 1998-1999, pp. 90-93).

Kundnani, Arun (2002) “The death of multiculturalism,” IRR News, 1 April 2002.

Murad, Abdal-Hakim (2003)  “European Islam: the return of Hagar” openDemocracy 3 July 2003 (at www.opendemocracy.net/debates/article-10-96-1327.jsp).

_____ (2004) Tradition or Extradition, IslamOnline (at IslamOnline.net), 5 April 2004.

Pasko, Ariel Natan (2003) “Euro-Muslims and Franco-Islamicization,” FrontPageMagazine.com,  May 20, 2003.

Ramadan, Tariq (1998) “L’islam d’Europe sort de l’isolement,” Le Monde Diplomatique, April 1998, Page 13.

Sciolino, Elaine (2003) “France threatens to expel radical Muslims,” International Herald Tribune, Friday, September 19, 2003.

Siddiqui, Ataullah (1995) “Muslims in Britain: Past And Present,” (posted on www.islamfortoday.com).

Silverstein, Paul (2004) “Headscarves and the French Tricolor,” Middle East Report, January 30, 2004.

Taji-Farouki, Suha  (1996) “Islamic State Theories and Contemporary Realities,” in Abdelsalam Sidahmed and Anoushiravan Ehteshami, eds. Islamic Fundamentalism (Boulder, Co.: 1996).

 Tibi, Bassam (2001) Islam Between Culture and Politics , London: Palgrave.

Toynbee, Polly (2004) “Why Trevor is right” The Guardian, Wednesday April 7, 2004.

Weil, Patrick (2004) “A nation in diversity: France, Muslims and the headscarf” openDemocracy.net, 25 – 3 – 2004.

White, Svend, (2004) “Hijab hysteria: France and its Muslims,” openDemocracy.net, 1 April 2004.

Wihtol de Weden, Catherine (2002) “En Guise de Conclusion: Islam, immigration et intégration en européenne,” Cahier d’étude sur la Méditerranée orientale et le monde turco-iranien, No. 33, January-June, 2002.

Willms, Johannes (2004) “France unveiled: making Muslims into citizens?” openDemocracy.net, 26 February 2004.
Wiktorowicz, Quintan (2002) Islamists, the State and Cooperation in Jordan, Arab Studies Quarterly, volume: 21. Issue: 4.

Youngs, Richard (2002) “The European Union and Democracy In The Arab-Muslim World,” Centre For European Policy Studies, Working Paper No. 2, November 2002

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق