البحوث

العرف الأوربي وأثره فى قضايا المرأة

العرف الأوربي وأثره فى قضايا المرأة

 

د. خالد حنفي

عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

مقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام حضارة المسلمين، سيدنا محمد النبي الأمي المصطفى الهادي الأمين، عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وبعد..

فما فتئ المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث يتحفنا بالموضوعات والقضايا الجديدة التى تهم مسلمي أوربا بوجه خاص والمسلمين فى كل مكان بشكل عام، وموضوع هذه الدورة هو المستجدات الفقهية للمسلمة الأوربية، وهو موضوع على قدر كبير من الأهمية؛ لمركزية قضية المرأة فى العقلية الأوربية، ولاستدعائها بشكل دائم فى المحافل والمؤتمرات لتثبيت أفكار سلبية عن الإسلام وموقفه من المرأة، ولما أحدثته الممارسات الخاطئة تجاه المرأة فى بعض البلدان العربية والإسلامية ورغم كونها أعرافا وتقاليد، إلا أنه تم إلصاقها بالدين، بل راجت وانتشرت الأحاديث النبوية الضعيفة والموضوعة التى تكرس المفاهيم السلبية تجاه المرأة، على حساب الأحاديث الصحيحة التى تؤكد على مكانتها وكرامتها ومساواتها للرجل فى المنزلة والمقام، بخلاف تمييزها عن الرجل فى بعض الأعمال والمهام؛ لتناسب طبيعتها وفطرتها، وحاجة المجتمع إلى عطائها، كما شُوهت الصورة المثالية الرائعة التى رسمها الإسلام للمرأة، بفعل تأثر اجتهادات الفقهاء قديما بأعراف وبيئات زمانهم التى عزلت المرأة عن الحياة والمجتمع باسم الدين فى فترة من الفترات.

وقد قام باحث جاد بعمل استقراء لأكثر الموضوع والكلمات بحثا وتداولا على محرك البحث الشهير فى الشبكة العنكبويتة (جوجل) فوجد (المرأة فى الإسلام)؛ الأمر الذي دفعه إلى انتاج فيلم وثائقي سماه (الإسلام فى المرأة)، وهذا يعني أن الحضور الإسلامي فى الغرب بوسعه أن يغير صورة الإسلام فى العقلية الغربية إذا نجح فى تصحيح المفاهيم المغلوطة فى ملف المرأة فى الإسلام فى الإطارين النظري والعملي، ولا شك أن هذه الدورة تعد إضافة نوعية مهمة فى هذا الاتجاه.

 ونأمل أن تكون هذه الدورة ببحوثها وقراراتها علامة مهمة تضيف إلى الدراسات الفقهية المتصلة بالمرأة الجديد والمفيد، لندرة وقلة الدراسات الفقهية فى هذا الباب، وللتغير الكبير الذي طرأ على العالم وتبعه مستجدات فى كل ميدان.

والمرأة المسلمة فى الغرب توجه تحديات كبرى فى عيشها بدينها والتزامها بتعاليمه، واندماجها ومشاركتها الإيجابية فى المجتمع الغربي، وأسئلتها ومستجداتها فى كل ميدان كثيرة متعددة، والأولى فيها تقديم الاجتهاد الجماعى على الاجتهاد الفردي.

 والأعراف والتقاليد الأوربية لها صلة وأثر كبير فى فهم كثير من التوجهات وطريقة الحكم على الأشياء فى الغرب، وتجاهل هذه الأعراف والتقاليد فى الفتوى والاجتهاد بل والخطاب الدعوى يجعلنا أمام اجتهادات غير منضبطة، ويوقع المسلمين فى الحرج، ويجعل الغربيين عاجزين عن فهم فلسفة الإسلام فى الإيجاب أو الحظر، وكما أن تجاهل هذه الأعراف يوقعنا فى إشكالات، كذلك فإن الخضوع لها  وتطويع الفتاوى والأحكام القطعية لتتواءم مع تلك الأعراف يوقعنا فى إشكال أكبر، وهو جعل العرف هو الحاكم على النص والمهيمن عليه، وينتهى بمن يسير فى هذا الاتجاه إلى القول بتاريخية الأحكام، وهو عكس ما ينبغي أن يصل المسلمون فى الغرب إليه وهو الشهادة على الناس والتأكيد على عالمية رسالة الإسلام وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

لهذا استخرت الله تعالى أن اكتب فى موضوع ( العرف الأوربي وأثره فى قضايا المرأة) وهو موضوع شديد التعقيد يحتاج إلى دراسة عميقة من زوايا عديدة، ولضيق الوقت اقتصرت فيه على التأصيل لموضوع العرف والتطبيق على بعض مسائل وقضايا المرأة فى الغرب.

فجعلته فى فصلين: الأول العرف تأصيلاً، والثاني العرف تنزيلاً.

والله تعالى أسال أن يجرى الحق والحكمة على قلمي ولساني، وأن يغفر لى وأن يتجاوز عنى إنه سميع مجيب. 

الفصل الأول:

العرف تأصيلاً

تمهيد: فى تعريف العرف والفرق بينه وبين العادة

المبحث الأول: أقسام العرف

المبحث الثاني: حجية العرف

المبحث الثالث: شروط العمل بالعرف

تمهيد

تعريف العرف والعادة والفرق بينهما

ذهب بعض الأصوليين من المتقدمين والمتأخرين إلى أنه لا فرق بين العرف والعادة، كأبي الحسين البصري، والغزالى والآمدى، وابن عابدين، وابن نجيم، فالعرف، والعادة عندهم لفظان مترادفان بمعنى واحد وهما: ما استقر فى النفوس من قول، أو فعل، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.

وذهب البزدوى، والكمال ابن الهمام إلى أن العرف أعم من العادة؛ فالعرف ما استقر فى النفوس وألفته الطباع قولا كان أو فعلا، بينما تختص العادة بالعرف العملي فقط.([1])

ولعل أشهر تعريف للعرف والعادة هو تعريف عبدالله بن أحمد النسفي بقوله: “ما استقر فى النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول”([2])

وشرح الدكتور أحمد أبو سنة هذا التعريف بقوله: ” هو الأمر الذي اطمأنت إليه النفوس وعرفته، وتحقق فى قرارتها وألفته، مستندة فى ذلك إلى استحسان العقل، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم فى الجماعة. وإنما يحصل استقرار الشيء فى النفوس وقبول الطباع له بالاستعمال الشائع المتكرر الصادر عن الميل والرغبة”([3])

وعرفه الدكتور السيد صالح عوض بقوله: ” العرف هو ما استقر فى النفوس، واستحسنته العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمر الناس عليه، مما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه”([4])

ومن التعريفات الدقيقة المعاصرة ما قرره مجمع الفقه الإسلامي فى مؤتمره الخامس بالكويت ديسمبر 1988م أن المراد بالعرف: ما اعتاده الناس، وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وقد يكون معتبرا شرعا أو غير معتبر. ([5])

المبحث الأول: أقسام العرف

وينقسم العرف إلى أقسام متعددة باعتبارات مختلفة.

التقسيم الأول: باعتبار موضوعه إلى عرف قولي، وعرف عملي

الأول: العرف القولي

وهو أن يتعارف قوم على إطلاق لفظ على معنى غير المعنى الذي وضع له أصلا، بحيث يتبادر ذلك المعنى المتعارف عليه عند سماعه دون قرينة. ([6])

وقد مثلوا له بتعارف إطلاق الناس لفظ الولد على الذكر دون الأنثى مع أنه موضوع لكليهما كما فى قوله تعالى ( يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) ([7][8])

الثاني: العرف العملي

وهو ما جرى عليه عمل الناس وتعارفوه فى معاملاتهم، كتعارف الناس على البيع بالتعاطي دون صيغة لفظية محددة([9])

التقسيم الثاني: باعتبار الشيوع

ينقسم العرف بحسب شيوعه وانتشاره إلى قسمين: الأول: العرف العام عرفه ابن عابدين بقوله: “ما تعامله عامة أهل البلاد، سواء كان قديما أو حديثا”([10]) وقيل هو الذي يكون فاشيا منتشرا فى جميع البلاد وبين مختلف الشعوب، ومنه ما يكون على مستوى العالم بأسره مثل التعارف على تسمية أيام الأسبوع، أو اعتبار بعض الأيام إجازة رسمية فى مختلف أنحاء العالم مثل يوم العمال. ([11])

الثاني: العرف الخاص:

وهو الذي يكون مخصوصا ببلد أو مكان دون آخر، أو بقوم من الأقوام، أو فئة معينة من الناس، وهذا القسم كثير متنوع ومتجدد لأنه يرتبط بحياة الناس ومصالحهم، كأعراف التجار فيما يعد عيبا ينقص الثمن فى البضاعة المبيعة أو لا يعد.

التقسيم الثالث: من حيث اعتبار الشارع له

وينقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيح، وفاسد، ومرسل.

الأول: العرف الصحيح (المعتبر)

وهو الذي أقره الشارع بأن يأتي الحكم على وفقه ومقتضاه، سواء يأمر به أمر إيجاب، أو ندب، أو سكوت عنه على سبيل التقرير وأمثلته كثيرة، كالأعراف التى كانت موجودة قبل الإسلام، فلما جاء لم يلغها مثل فرض الدية على العاقلة، وبيع السلم وغيره. ([12])

الثاني: العرف الفاسد (غير المعتبر)

وهو العرف الذي ألغاه الشارع بأن بنى الأحكام والتشريعات على خلافه أو نهى عنه صراحة بالتحريم أو بالكراهة ومن أمثلة ذلك العادات التى كانت منتشرة فى الجاهلية، وأتى الإسلام على خلافها، ومن ذلك الأنكحة الفاسدة فى الجاهلية كالشغار والبدال ونحوها. ([13])

ومن الأعراف الفاسدة المعاصرة التى خالفت أدلة الشرع وقواعده الأساسية، تعارف بعض البلدان الإسلامية على إحضار راقصة ترقص فى الأعراس أمام الرجال، ولبس خاتم الذهب عند الرجال وغيرها. ([14])

الثالث: العرف المرسل (المسكوت عنه)

وهو الذي لم يرد نص شرعي بإلغائه أو اعتباره، فإما أن يدخل فى دائرة المعتبر إن شهد لفحواه نص من الشارع، أو حقق مصلحة شهد الشارع لها بالاعتبار، أو أن يصادم مصلحة اعتبرها الشارع أو شهد لها نص فيحكم بإلغائه. ولم يتعرض لهذا القسم ممن كتب فى العرف سوى د/ حسنين محمود حسنين ود رقية طه جابر العلواني

فيقول د حسنين محمود حسنين عن هذا القسم: ” العرف المسكوت عنه هو العرف الذي لم يرد باعتباره أو إلغائه دليل من الشرع وهو نوعان: عرف صحيح وهو ما اعتاد عليه الناس من أقوال وأفعال مما لم يصطدم بنص من النصوص الشرعية أو قاعدة من قواعد الشرع، وعرف فاسد وهو ما اعتاد عليه بعض الناس من أقوال وأفعال، مما يصطدم بالقواعد العامة للشريعة الإسلامية، وذلك كألعاب العنف من مصارعة حرة وملاكمة”([15])

وفى تقديري أن هذا القسم من أقسام العرف هو أهمها وأجدرها بالدراسة؛ لوجود أعراف جديدة كثيرة تدخل تحت هذا القسم، وتحتاج إلى ضبط فى إلحاقها بالصحيح فيؤخذ بها، أو إلى الفاسد فترد. 

المبحث الثاني: حجية العرف

اتفق العلماء على اختلاف مذاهبهم على أهمية اعتبار الشارع للعرف ومراعاته له فى كثير من الأحكام والفروع الفقهية، ولم يختلفوا فى حجية العرف وإنما اختلفوا فى اعتباره دليلا مستقلا من أدلة الشرع أم أصلا من أصول الاستنباط تجب رعايتها عند استنباط الأحكام الشرعية؟

وغالب من كتب فى الأصول يضعه ضمن الأدلة الشرعية المختلف فيها، كالسرخسي الذي يقول: الثابت بالعرف كالثابت بالنص ، وأبي زهرة الذي يعتبر العرف الصحيح أصلا من أصول الشرع([16])

 بينما يرى الشيخ عبدالوهاب خلاف والشيخ عدالله الجديع والشيخ أحمد أبو سنه أن العرف عند التحقيق ليس دليلا شرعيا مستقلا، وهو فى الغالب من مراعاة المصلحة المرسلة، وهو كما يراعي فى تشريع الأحكام، يراعى فى تفسير النصوص، فيخصص به العام، ويقيد به المطلق، وقد يترك القياس بالعرف؛ ولهذا صح عقد الاستصناع، لجريان العرف به وإن كان قياسا لا يصح لأنه عقد على معدوم. ([17])

ويقول أبو سنه: جعله-العرف-دليلا على مشروعية الأحكام ظاهرا، وهو فى الواقع ليس بدليل، بل الدليل أصل من أصول الفقه، لكنه اكتسب اسم العرف؛ لأنه هو العامل على وجوده ، كالإجماع العملي وبعض المصالح المرسلة، أو لأن التعامل جرى على ما أفاده الدليل. ([18])

ويقول الشيخ الجديع: العرف ليس دليلا من أدلة الأحكام فى طريقة عامة العلماء، ولكنه عندهم أصل من أصول الاستنباط تجب مراعاته فى تطبيق الأحكام، وإن سماه بعضهم دليلا فإنما أراد هذا المعنى. ([19])

وهذا الذي أراه راجحا، وهو عدم اعتبار العرف دليلا مستقلا من أدلة الأحكام.

وقد بوب الإمام البخاري فى صحيحه فى كتاب البيوع للعرف الصحيح الذي لا يصادم الشريعة فقال: “باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن، وسننهم على نياتهم ومذاهبهم المشهورة وأورد تحت هذا الباب قول شريح للغزالين- بالمعجمة وتشديد الزاي-:  (سنتكم بينكم)  وقال عبد الوهاب عن أيوب عن محمد لا بأس العشرة بأحد عشر ويأخذ للنفقة ربحا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف،  وقال تعالى (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) .

يقول ابن حجر فى شرحه لترجمة الباب: ( قال ابن المنير وغيره : مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف ، وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ . ولو أن رجلا وكل رجلا في بيع سلعة فباعها بغير النقد الذي عرف الناس لم يجز ، وكذا لو باع موزونا أو مكيلا بغير الكيل أو الوزن المعتاد ، وذكر القاضي الحسين من الشافعية أن الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس التي يبنى عليها الفقه) ([20])

أدلة اعتبار العرف:

  1. قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } [الطلاق: 7] يقول ابن العربي: الإنفاق ليس له تقدير شرعي، وإنما أحاله الله تعالى على العادة، وهى دليل أصولى بنى الله عليه الأحكام، وربط به الحلال والحرام) ([21])
  2. قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] فقد جعل الله سبحانه وتعالى تقدير النفقة والكسوة ونوعيتها تابع للعرف. يقول ابن تيمية: ( فقد ذكر الله  أن التراضي بالمعروف والإمساك بالمعروف ; والتسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال تعالى:( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين ; فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف ; وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة، وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار ; والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم . وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف . ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله) ([22])
  3. وكذا قوله تعالى  {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فالآية أحالت على العرف فى تقدير الحقوق والواجبات، فكل آية أحال الشارع فيها الناس على العرف، أو راعى فيها ما تعارفوا عليه، تصلح أن تكون دليلا على اعتبار الشارع للعرف، وصحة الاحتجاج به فيما لا نص فيه.
  4. والمتتبع لفروع الشريعة يجد أن النصوص الشرعية قد أقرت بعض الأعراف التى كانت سائدة قبل الإسلام، كبيع العرايا، والسلم، والمضاربة. فأبقت الشريعة ما كان صالحا، وألغت ما كان منافيا لأصولها كالربا ونحوه.

والخلاصة أن العرف معتبر فى الشرع، بمعنى أن الشريعة الإسلامية لم تهمل عادات الناس وأعرافهم الصحيحة، إذا كانت لا تصطدم بنصوص الشريعة ومقاصدها، وكانت وليدة حاجاتهم ومتطلباتهم العامة، خاصة وأن فى النزع عن أمثال هذه العادات حرج، وهو مرفوع فى الشريعة. ([23])

 المبحث الثالث: شروط اعتبار العرف

الشرط الأول: ألا يعارض العرفَ نص شرعي أو أصل قطعي فى الشريعة، بحيث يكون العمل بالعرف تعطيلاً له.

والعرف الذي لا يعد مخالفا لأدلة الشرع له حالتان :

الأولى: أن يكون مما لا يعارض الشرع أصلا كتعارف الناس كثيرا من العوائد التجارية، والخطط السياسية، والإجراءات القضائية، والأنظمة الاجتماعية، مما هو ملائم لطبيعة الشرع، وتقتضيه حوائج الناس، وتدفع إليه ضرورة التدبير والاستصلاح .

الثانية: أن يكون بين العرف وأدلة الشرع ظاهر تعارض، يمكن معه التوفيق بينهما بوجه من أوجه التوفيق المعتبرة عند أهل العلم، أو يمكن تنزيل النص الشرعي على العرف،  بأن كان النص نفسه معللا بالعرف فالعرف حينئذ مجال لتأمله، والبحث في اعتباره والاعتداد به. ([24])

يقول أبوسنة: (أما ان كانت بينهما معارضة فلا يعتبر العرف إلا إذا توفر فيه أمران: أن يكون عاما، أو خاصا قد قررته السنة، فلا عبرة بالخاص الذي لم تقرره إلا على قول البلخيين ومن وافقهم، وأن يمكن رده إلى دليل من الأدلة.

وإنما يعتبر في هذه الحالة، لأن حاصل الأمر تعارض دليلين من أدلة الشرع فيتخلص من هذا التعارض بالتخصيص إن كان النص عاما، والتقييد إن كان مطلقا، والمصير إلى الاستحسان إن كان قياسا. وليس في هذا التخلص إيطال للنص بالعرف، ولا قضاء عليه، بل هو إعمال الدليلين بقدر الامكان، لأنه حمل للنص على حالة خاصة وعمل بالعرف فيما عداها. نعم فيه إبطال للقياس، ولا مانع منه، لأن العرف أقوى حجة،ـ ورعايته أقرب إلى الحكمة، إذ التعامل أمارة الحاجة).

ثم مَثل الشيخ أبو سنة لذلك بالحديث الذي رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام: ( لا تبع ما ليس عندك) . فهذا الحديث عام ترك في الاستصناع بالتعامل.

وكذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه  أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بيع الحصاة، وعن بيع الغرر)  فإن هذا الحديث يستفاد منه فساد كل بيع جهل منه قدر المبيع، وقد ترك في شربة السقاء، فإن البيع صحيح مع جهالة قدرها للعرف، وهو في الفرعيين راجع إالى الإجماع ). ([25])

فالحقيقة أن العرف ليس هو المخصص والمقيد ، بل المخصص والمقيد الإجماع الذي استند عليه العرف .

 الشرط الثاني: أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.

أي أن يكون العمل به_ لدى متعارفيه_ مستمرا في جميع الحوادث لا يتخلف في واحدة منها، وهذا هو معنى الاطراد . أو أن يكون العمل به جاريا في أكثر الحوادث إذا لم يكن في جميعها، وهذا هو معنى الغلبة . ([26])

ولا يقدح في اعتبار العرف إذا ترك العمل به في بعض الحوادث القليلة, لأنه لا يزال يعتبر غالبا .. ويؤكد هذا المعنى الإمام الشاطبي بقوله:

(وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا فلا يقدح في اعتبارها انخراقها، ما بقيت عادة على الجملة ) ([27]).وإلى هذا المعنى أيضا تشير القاعدة الفقهية: ( العبرة بالغالب، والنادر لا حكم له ) .

الشرط الثالث: أن يكون العرف عاماً في جميع البلاد ، لاخاصاً:

إن عموم العرف غير اطراده، لأن العرف قد يكون عاما ، ولكن العمل به لا يكون مستمرا في جميع الحوادث، فلا يكون مطردا، وكذلك العرف قد يكون خاصا بطائفة أو مهنة أو أهل بلد خاص، وقد يكون غير مطرد بالمعنى المذكور، فالعام قد يكون غير مطرد، والمطرد قد يكون غير عام . وهذا الشرط ليس متفقا عليه .

وللعلماء في اشتراط أن يكون العرف عاما مع اطراده رأيان:

الأول: ذهب بعض الحنفية وبعض الشافعية إلى اشتراط أن يكون العرف عاما، ومعنى ذلك: أن العرف الخاص في نظرهم غير معتبر .

الثاني: ذهب جمهور أهل العلم من المالكية وبعض الحنفية والشافعية إلى عدم اشتراط أن يكون  العرف عاما، وأنه يعتبر العرف الخاص كالعرف العام .

والواقع أن الخلاف فى هذا الشرط لفظي؛ لأننا عندما ننظر إلى الفروع الفقهية في كتب الفقهاء نجدهم كلهم يقولون بالعرف الخاص، ويعتبرونه ويبنون الأحكام عليه، وإذا كان الأمر كذلك فالذي حملهم على الاختلاف أن بعضهم ذهب إلى أن العرف يخصص العام، ويقيد المطلق، فلما جاءوا إلى الشروط، اشترطوا : ان يكون العرف عاما في جميع البلاد الإسلامية، حتى يتسنى لهم القول بتخصيص العام، وتقييد المطلق بالعرف، لأنه والحالة هذه أشبه الإجماع العملي، وعلى هذا صرحوا بأن العرف الخاص غير معتبر.

أما الذين لم يشترطوا  العموم فقد نظروا للواقع العملي، حيث والعرف الخاص محكم في كثير من المسائل. ([28])

الشرط الرابع: أن يكون العرف المراد تحكيمه والعمل به في التصرفات قائماً وموجوداً عند إنشائها

أي أن يكون العرف المراد تحكيمه، والذي يحمل عليه التصرف، موجودا ومعمولا به وقت إنشاء هذا التصرف، وذلك بأن يكون حدوث العرف سابقا على حدوث التصرف، ثم يستمر إلى زمانه فيقارن حدوثه، لأن العرف إنما يؤثر فيما يوجد بعده، لا فيما مضى قبله، ويستوي في ذلك العرف القولي والعملي.

وفي ذلك يقول السيوطي في أشباهه: ( العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر). ([29])

الشرط الخامس: ألا يعارض العرف تصريح بخلافه:

أي لا يوجد قول يصرح بخلاف العرف أو عمل يفيد عكس مضمونه. إذ أن تحكيم العرف يعود إلى أن سكوت المتعاقدين عن الأمر المتعارف وعدم اشتراطهما إياه صراحة يعتبر إقراراً منهما له، فإثبات الحكم العرفي في هذه الحالة هو من قبيل الدلالة، فإذا وقع تصريح بخلافه أصبحت هذه الدلالة باطلة، لكون العرف أضعف من دلالة اللفظ، فيترجح جانبه عند المعارضة . إذ لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح .

الشرط السادس: أن يكون العرف ملزماً:

يقول الشيخ أبو سنه: ذكر الكاتبون في أصول القوانين هذا الشرط من شروط اعتبار العرف، ومعنى كونه ملزما أن يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس . ولم أظفر في كتب الفقه بنص يصرح به، ولكن قواعده المحكمة لا تأبى اشتراطه، وفيه من النصوص ما يشير إليه .

وخرج بهذا الشرط العرف الذي ليس بملزم، فإنه لا يعتبر في المعاملات، ولا يصلح مستندا لإثبات الحقوق، كالتهادي في مناسبات معينة_كالأعياد_ وما يبذله التجار عادة لعملائهم من التسهيلات والهدايا على سبيل الاستمالة والترغيب، وما تعارفه الجيران فيما بينهم من الحقوق على سبيل التسامح والمجاملة. فإنه لو ادعى أحدى شيئا من هذا أمام القضاء لا يحكم به. ([30])

الفصل الثاني:
العرف تنزيلاً

الكلام الذي ذكرناه فى الفصل التأصيلي السابق أورده الفقهاء عن العرف فى البلدان الإسلامية، فهل ينطبق على أوربا كبلد غير مسلم أم لا؟

الواقع أن تطبيق الشروط التى وضعها الفقهاء للعمل بالعرف يجعل المجتهد فى رعايته للعرف عند الاجتهاد فى أمان من الخروج على النص أو تجاوزه، على أنه يتعين علينا التفريق بين ما هو عرف أو تقاليد للأوربيين، وبين ما هو دين صبغ بالصبغة العرفية والاجتماعية.

وكثير من الأمور الدينية فى أوربا اليوم خرجت عن صفتها الدينية إلى العرفية والتقليدية.

كذلك علينا أن نفرق بين العرف الثابت والمتغير، وأن نلاحظ هذه الأعراف والتقاليد فى خطابنا الدعوى كما نلاحظها فى دائرة الاجتهاد والفتوى.

وقد ينزل الإلزام القانوني منزلة العرف، ذلك أنه عادة لا يتم التقنين إلا بعد الإقرار العرفي، وفى بعض الصور قد يكون الأمر ممنوعا قانونا، ثم ينظم إباحة بالإقرار والقبول العرفي له، كالشذوذ الجنسي مثلاً، الذي منع أولا قانونا ثم أبيح بعد انتشاره وقبوله عرفيا فى أوربا ثم تم تقنينه فى بعض الأقطار الأوربية.

وحديثنا عن العرف الأوربي وأثره فى الأحكام والفتاوى للمسلمين فى الغرب لا يعنى تفصيل الأحكام وتغييرها وفق الأعراف الأوربية وإن خالفنا النصوص القطعية، كلا بل المقصود حماية النص من التأثر بالأعراف مع تتابع الأجيال، وكذلك تحقيق مقصد النص بالنظر فى الواقع الأوربي ومتغيراته.

ومن الأمثلة التى تجسد تأثر الفقيه بالعرف الأوربي إباحة ما سمي ب(زواج فريند) أى زواج الأصدقاء وقد طرحت بالمصطلح الغربي، وتهدف إلى حماية الشباب من الوقوع فى الفاحشة بإقرار نكاح مكتمل الأركان والشروط يتم بين الطلاب والطالبات مع تنازل الزوجة عن النفقة والسكني؛ وهدفه تقنين وشرعنة صورة العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة كما فى المفهوم والعرف الغربي، لكن مقاصد الشارع فى الأسرة لا تتحقق مع هذا الزواج، كما أننا به سنقضي على الصورة الطبيعية للأسرة وسنقترب أو ننتهى إلى الحال الأوربي الذي كادت الأسرة فيه أن تتلاشى وتختفي، كما أننا بهذا نخل بمقصد من مقاصد الوجود الإسلامي فى الغرب وهو التطلع إلى التعريف بالإسلام، ومن أهم الملفات التى نحقق فيها هذا المقصد ملف الأسرة.

وهذه أمثلة تطبيقية لأثر العرف فى قضايا المرأة فى الغرب

المبحث الأول: ميراث المرأة

تأثرت قضية ميراث المرأة فى الإسلام ونقصان نصيبها عن الرجل بالأعراف قديما وحديثا، فقديما ما المرأة ترث شيئا بالنظر إلى الأعراف السائدة التى ترى الرجل يقاتل ويتاجر فهو أولى بالحق المالى كاملاً، ومن هنا كان هناك استغراب ودهش لنظام الميراث فى الإسلام فى باديء الأمر بالنظر إلى هذه الأعراف.

وحديثاً ذهب عدد من المستشرقين ومن المفكرين العلمانيين، وبعض من ينسبون أنفسهم إلى تيار التجديد فى فهم النص وتأويله، ذهبوا إلى القول بعدم مناسبة تشريع الميراث لزماننا وأن المرأة اليوم تعمل اليوم مثل الرجل بل ربما كانت هى من تنفق عليه فكيف تأخذ من الميراث نصفه؟!

وإذا كان هذا الحال فى البلدان الإسلامية فكيف يكون حجم الضغط الثقافي فى هذه المسالة وعدم قبولها أو استساغتها، وقد ذهب البعض فى الغرب إلى القول بأن الشارع الحكيم ربط مسألة الميراث بالنفقة فإذا تبدل الحال فى الغرب وكانت المرأة هى التى تنفق أليس الأولى تعديل نظام التوريث فى الإسلام والقول بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة؟! وكل هذا، الباعث عليه الأعراف والتقاليد الأوربية والمرتبة قانونا كذلك.

وقد استعرضتْ “د. رقيه طه” في بحثها القيم (العرف وأثره فى فهم النصوص تطبيقا على قضايا المرأة) ([31]) المسألة تاريخياً وكيف أثر العرف على تأويلات المجتهدين لنصوص الميراث عبر الأزمنة المختلفة، وسألخصه هنا ليتضح لنا كيف أثر العرف عبر التاريخ فى تناول وفهم القضية، وخطر تحكيم العرف وهيمنته على النصوص قطعية الثبوت والدلالة.

تأثر الميراث عند العرب قبل الاسلام بعوامل عديدة منها طبيعة الحياة التي اتسمت بالتنقل والترحال، وكثرة الحروب الطاحنة، والاعتداءات بين القبائل، وغياب السلطة المركزية التي يمكن أن تقوم بهذه المهام في سبيل إشاعة الأمن والاستقرار.

وعلى هذا فقد حَرمَ العرب في الجاهلية الأطفال والنساء من الميراث لعدم قدرتهم على تحمل مسئولية الذب والدفاع عن القبيلة. فالميراث عندهم نظام مرتبط بالحماية والدفاع عن الأسرة الكبيرة _القبيلة_ أكثر من تعلقه بالقرابة والنسب ونحوها من علاقات اجتماعية.

وتدرج الاسلام في أحكام المواريث  نظراَ لظهوره في بيئة جاهلية تمكنت منها قوانين بالية مجحفة تقوم على هضم حقوق الضعفاء والأطفال والنساء.

ومن هنا بدأ الاسلام أول ما بدأ تقرير حق توريث تلك الفئات المستضعفة ، وإثبات أحقيتها في الميراث سواء أكان كثيرا أو قليلاً.

وبذلك أتى على ركن نظام الميراث في الجاهلية، قال تعالى: ( للرجال نصيب مما ترك الوالدين الأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدين والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) النساء

ولم يلق ذلك التغيير في بادئ الأمر استحسانا أو قبولا من قِبل العامة من الناس، الذين درجوا على حرمان النساء من الميراث. فقد روي عن ابن عباس رضي  الله عنهما أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس _ أو بعضهم_ .

فالإسلام حين منح المرأة الحق في الميراث، أبطل عادات الجاهلية وما حملته من الأمم السابقة وتعسفها إزاء المرأة . كما أتى على كل الأعراف المناقضة لمقاصد تعاليمه وشريعته القائمة على العدالة. وبهذا باتت نصوص الميراث قاضية على الأعراف الفاسدة والعادات الجائرة.

ثم تسللت العديد من الأعراف المناقضة لتعاليم الشرع إلى المجتمعات المسلمة المختلفة شيئا فشيئا، حتى تمكنت من إطلاق القول بالدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة فى مختلف المجالات، وظهرت آثار تلك الأعراف واضحة جلية فى فكر عدد من الكتاب المعاصرين.

ويظهر ذلك بوضوح من خلال محاولاتهم في التأويل البعيد، فذهبوا أولاً إلى أن النصوص المتعلقة بميراث المرأة قد نزلت في بيئة جاهلية هضمت حق المرأة في الميراث، ولم تعرف لها نصيبا مطلقاً.

فكان لا بد من التدرج في شرع ميراث المرأة وفرضه على تلك البيئة الجاهلية، فنزلت الآية القرآنية مقررة حق التنصيف كمرحلة أولية لها ما بعدها، وعلى المجتمعات المتلاحقة مراعاة ذلك أي القيام بتشريع يتوافق مع المجتمعات وتطورها.

وانتشر هذا الرأي في بداية الأمر بين عدد من المستشرقين الغربيين الذين رأوا في الشريعة الاسلامية مجرد حالة متطورة للقانون الجاهلي السائد بين العرب آنذاك .

ومن مشاهير المستشرقين الذين تبنوا هذا الاتجاه الأستاذ جولد تسهير، ولفرد كانتويل سميث الذي ذهب إلى أن الإسلام مر بمراحل عديدة من التطور العقائدي والتشريعي، وعلى هذا فأحكام الإسلام لا بد من تغييرها وفق تغير الزمان والظروف.

ولم يميز هؤلاء بين الشريعة الصادرة  عن دين صحيح سماوي مصدره الوحي الإلهي، التي لا يمكن أن تخضع في أساسياتها وأصولها للتطور والتبدل والتغيير، بحكم مرجعيتها الإلهية المعصومة وبين الفروع والجزئيات التابعة لحياة الناس في المجتمعات المختلفة القابلة بطبيعتها للتغيير والتعديل والتطور، وفق احتياجات الناس وأحوالهم.

والقول بإمكانية وقوع التطوير في أساسيات الشريعة وأبجديتها، يستلزم وجود نقص أو خلل فيها في هذا الوقت مثلا، وهذا بطبيعة الحال ينافي ذاتيتها وحقيقتها.

فالشريعة لم يكن مصدرها البشر الذين يصدق عليهم القول بالنسيان، أو الجهل والإغفال لجانب دون آخر.

وهذه حقيقة معروفة عن الشريعة الإسلامية المغايرة في جوهرها لكل القوانين الوضعية لم ينكرها منصف.

فالشريعة الإسلامية تختلف عن الأنظمة القانونية في الغرب فهى لا تقف عند تحديد علاقات الإنسان مع أقاربه وجيرانه والدولة فحسب، بل تمتد لتشمل تحديد علاقته مع خالقه كذلك.

والذين تبنوا الدعوة إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة فى الميراث لم ينتبهوا إلى أن أحكام الميراث وتحديد الأنصبة من القضايا الثابتة بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة التي لا يمكن أن تخضع بحال لتقلبات الظروف والزمان والمكان.

بل هي من المسائل التي نادرا ما تناولتها الشريعة بالتفصيل، حسماً لمادة الخلاف المتوقع في مثل تلك الحالات، وحفاظاً على البنية الاجتماعية والأسرية، وتأكيداً على عدم إخضاعها لتقلبات الزمان والمكان والظروف.

وعليه فلم يكن لاجتهادات العلماء السابقين فيها نصيب، فتأويل السابقين رحمهم الله لا يُنسب إلى أحكام وردت بها نصوص القرآن الكريم والسنة، بل يُنسب الى فقههم واجتهاداتهم رحمهم الله.

لقد تأثرت الأعراف السائدة الدائرة حول فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في كثير من المجتمعات المسلمة، وظهر ذلك الأثر واضحاً في طريقة فهم وتأويل عدد من الكتّاب للنصوص القطعية الواردة في الميراث.

فلم تعد النصوص تمثل المرجعية المعصومة التي ينبغي أن تُستفتى في الأحكام والوقائع، بقدر ما باتت الأعراف البعيدة عن مقاصد الشرع هي السائدة متصدرة الحكم على هذا الرأي أو ذاك.

ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن التغيرات الحاصلة خلال خمسة عشر قرناً من الزمن كفيلة بإحداث التغيير في حكم تنصيف الميراث، فهذا الحكم مرتهناً بالشروط الاجتماعية والتاريخية، وعليه فمن السهل تقرير أن للمرأة مثل نصيب الذكر، دون الوقوع في خطيئة مخالفة المبادئ الأساسية للشريعة التي على رأسها المساواة.

إن القول بتاريخية النصوص القرآنية الكريمة يسوق إلى القول بإلغاء الشرائع والأحكام الثابتة التي جاءت تلك التعاليم والنصوص بها. كما أن القول بأن أحكام القرآن الكريم جاءت لمجتمع له أسسه وروابطه، قولٌ يحكم على الإسلام بإقليميته، ويقوض عالمية رسالته وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

ويعتبر أحكامه الثابتة بالنصوص صدىً لقيم ومُثل عليا مرتبطة بظروف تاريخية تجاوزها الزمن.

لقد ساهمت تلك الآراء في جعل الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة بالمفهوم الغربي عُرفاً سائغاً مبرراً بتطور حالة المرأة وتغير أوضاعها الاجتماعية والتعليمية.

وهكذا تمّ النظر إلى الآيات القرآنية المتعلقة بالمرأة على أنها لا تصلح إلا لعصر عربي مضى، أما الآن وبعد التغير والاختلاف والثورة الفكرية الحديثة، فلابدّ من تغيير القوانين القرآنية مثل فكرة قطع يد السارق والإرث والشهادة وغيرها، فالمرأة قبل الإسلام لم يكن لها حق من الحقوق المذكورة، ولكن بعد الإسلام أصبح لها هذا الحق، وإن كان غير كامل، والأكرم لها ألا تحصل على أي شيء بدلاً من حصولها على إنسانيتها وحقوقها مبتورة وناقصة، وليس بها أدنى عدالة بينها وبين الرجل.

ولا أمل في إنقاذ المرأة المسلمة -في نظرهم- لأنها نصوص قرآنية صريحة وقاطعة ومقدسة.

وعلى هذا كانت عملية إعادة تأويل تلك النصوص، لا بُدّ منها في ظلّ أجواء وأعراف المساواة والحرية والدعوة إليهما.

فلعبت تلك الأعراف دورها في تغييب الرؤى المتبادرة إلى الأذهان عند قراءة النصوص، وقدمت تأويلات أبعد ما تكون عن روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها.

ولا تخفى خطورة تلك التأويلات في لَيّ أعناق النصوص لمراميها وأطرها، والانصياع لدعوى تاريخية النصوص ومن ثَمّ إبطالها وإلغاءها، بناء على انتهاء سياقها التاريخي الذي ظهرت فيه.

وهكذا يصبح العرف في نظر هؤلاء حاكماً على النصوص المطلقة وقاضياً عليها، وكلما تغير العرف تغير معه تأويل النصوص وطريقة فهمها، فالأحكام في نظرهم تُستنبط من المجتمع وتقاليده، وليس من النصوص المطلقة المفارقة لكل الظروف والتقلبات.

ومما ساهم في انتشار تلك الدعاوي والأعراف البعيدة عن مقاصد الشرع في المجتمعات المسلمة حالة الضعف الذي منيت به تلك المجتمعات.

فمن المُسلّم به في علم الاجتماع أن المجتمعات في فترات ضعفها وانحلالها، تتسرب إليها عادات وتقاليد العناصر الغالبة فيها، والمغلوب مولع بتقليد الغالب.

وإذا كانت الأعراف والتقاليد الأوربية قد أنتجت طرح المستشرقين الداعين للمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة فى الميراث، ثم لقى هذا الطرح قبولا وتأييدا وتبريرا من عدد من المفكرين الليبراليين والعلمانيين المسلمين، فصاروا يدعون إليع ويبررونه فى كل ميدان، وقد نشأ بسببه معراك فكرية كبرى بعد أحداث الربيع العربي فى عدد من البلدان عند إعادة كتابة دساتير تلك الدول.

والمسلمون فى الغرب يواجهون سؤالا متكررا حول مسألة ميراث المرأة، وقد انتشر فى أوساط الأجيال الجديدة من ابناء المسلمين فى الغرب فكرة المساواة وعدم مناسبة فكرة التنصيف القرآني لحق المرأة فى الإرث، وسبب تنامى هذا الفكر هو: الأعراف والتقاليد والقوانين الأوربية التى تنكر بشدة تمييز الرجل عن المرأة فى أى شيء فضلاً عن الميراث، واجتزاء مسألة الميراث بأحكامها فى الإسلام من سياقها وارتباطها بالإنفاق والقوامة ومنظومة الأسرة فى الإسلام، وغياب الطرح الفلسفي المقاصدي للمسألة فى خطابنا الدعوى فى الغرب.

وقد سقت هذا المثال التنزيلي لأبين كيف أثر العرف قديما فى عدم قبول استساغة حق المرأة فى الميراث، وكيف أثر حديثا، وما يتعين علينا تجاه هذا العرف، من عدم قبوله ورفضه والتأكيد على قطعية أحكامه وثباتها وعدم خضوعها لأعراف الأمم عبر التاريخ.

وإنما نتجاوز الإشكال بالطرح المقاصدي التعليلي للمسألة وفتح الباب فيها لدراسات استقرائية أوسع، بغية الوصول إلى ما غاب عنا من حكم تشريعية وفلسفية فى هذه المسألة وغيرها.

وتنصيف حق المرأة فى الميراث ليس قاعدة عامة فى الميراث، لأن الله تعالى ما قال: يوصيكم الله فى الوارثين والوارثات. إنما قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]

“والتفاوت بين أنصبة الوارثين والوارثات-في فلسفة الميراث الإسلامي إنما تحكمه ثلاثة معايير:

  • درجة القرابة بين الوارث ذكراً أو أنثى وبين المورَّث المتوفى، فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث، وكلما ابتعدت الصلة قل النصيب في الميراث دونما اعتبار لجنس الوارثين.
  • موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال؛ فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحمل أعبائها عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها، وبل وتصبح أعباؤها عادة مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثين والوارثات.
  • العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتاً بين الذكر والأنثى، لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح.” ([32])

وقد استقرأ الدكتور “صلاح سلطان” في دراسة قيمة له الحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجل، وخرج بحقائق مذهلة، وهي باختصار:

  • هناك أربع حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل.
  • وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما.
  • وهناك حالات عشر أو تزيد ترث فيها المرأة أكثر من الرجل.
  • وهناك حالات ترث فيها المرأة ولا يرث نظيرها من الرجال.

أي أن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل، أو أكثر منه، أو ترث هي ولا يرث نظيرها من الرجال، في مقابل أربع حالات محددة ترث فيها المرأة نصف الرجل. ([33])

المبحث الثاني: مسألة المصافحة

مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية من المسائل المعاصرة التى يكثر السؤال عنها، والتى لعبت الأعراف والتقاليد عبر العصور دورا كبيرا فيها، فالأعراف العربية تأباها وتراها أحد العلامات الدالة على التزام الرجل أو المرأة بدينه، بينما يراها المجتمع الغربي ويضعها فى إطار الذوقيات واحترام الآخرين، بل قد تكون أحياناً جزءاً من مراسم وظيفة من الوظائف كالطبيب فى أوربا مثلا عند توديع مرضاه، ورفض المسلم او المسلمة للمصافحة يضع حجبا وحواجز بين المسلمين وغير المسلمين، وتنتهز وسائل الإعلام الغربية عادة مواقف امتناع بعض المسلمين عن مصافحة النساء دليلا على تشددهم ورفضهم الاندماج فى المجتمع.

وقصد الشارع من منع المصافحة – إن صح دليل المنع- منع الإثارة وتجنب الفتنة للرجل أو المرأة وسدا لذريعة ما بعد المصافحة من المحرمات والممنوعات، وهذا المقصد يتصور وجوده فى المجتمعات الإسلامية المحافظة التى تضع الحواجب والحجز بين الرجل والمرأة، أما فى المجتمعات الغربية فيبعد وجوده حيث الانفتاح والتكشف، الذي يصرف الرجل عن التأثر بما دونه، بل يصبح الحديث عن منع الفتنة تبريرا للامتناع عن المصافحة من قبل المسلمين فى الغرب، أمرا مستغربا من قبل الأوربيين، ذلك أن الإباحية والتعري، تميت الغرائز وتقلل من درجة الجاذبية بين الجنسين، ومع هذا الحال لا يتصور الأوربيون وقوع الفتنة من مجرد الملامسة أثناء المصافحة.

وللدكتور “عبدالمجيد النجار” كلام قيم فى هذه الجزئية يقول: تتخذ بعض الجماعات أعرافا وعادات تتواضع عليها وتحكّمها فى بعض شؤون حياتها، وقد تكتسب بعض أفعالهم بتلك الأعراف خصوصية لا تكون لها فى أصلها العام، وتلك الخصوصية العرفية التى تكتسبها بعض الأفعال قد تجعلها حينما يطبق عليها الحكم الشرعي المتعلق بها غير آيلة إلى تحقيق المقصد الذي يبتغيه ذلك الحكم، فتكون أيلولتها إلى هذا المآل إذن بسبب من تأثير الخصوصية العرفية.

ومن أمثلة ذلك أن بعض المجتمعات جعلت من عادتها تفشي المصافحة بين الرجال والنساء وعُدّ عندها الامتناع عن ذلك من علامات التحقير والاستنقاص والسخرية التى تقابل بالنكير الشديد والجفوة البالغة، فإذا ما جاء الداعية المرشد لهؤلاء القوم يطبق عليهم فى فعل هذه المصافحة الحكم الشرعي بالمنع، باءت دعوته بفشل ذريع، إذ يستنكر عليه ذلك استنكارا، وتقابل دعوته وإرشاداته بالرفض، فربما كان من اجتهاده الموفق اعتبار هذه الأيلولة لحكم المنع إلى غير مقصده، فترخص بالجواز إلى حين تحويل القوم بالدعوة والإرشاد عن هذه العادة. ([34])

ولا أريد بهذا الحديث أن أعطى مسوغا أو تبريرا لإباحة المصاحة نزولا على الأعراف الأوربية، لأن ذلك من شأنه أن يفتح أبوابا وشبها لا يمكن ضبطها، ما دام العرف الأوربي لا يري بأسا بها،

وإنما قصدت أن يكون العرف الأوربي عامل ترجيح وعنصرا مهما فى الاختيار الفقهي فى الغرب، فنختار الرأى الفقهي فى المسائل الخلافية وإن كان مرجوحا الذي يتوافق مع الأعراف والتقاليد الأوربية، ما دام هذا الرأى المرجوح يستند إلى دليل شرعي معتبر، والقاعدة الفقهية أن من ابتلي بشيء من الخلاف فليلقد من أجاز.

وقد كان شيخنا الغزالى رحمه الله يقول دائما: لماذا ألزم الأوربيين بآراء الشافعي وأحمد إذا كان فى رأى أبي حنيفة ومالك سعة، وذلك فى معرض نقده لبعض الآراء الفقهية فى مسائل المرأة كتنصيف ديتها، وفى القضايا العامة الأخرى كمنع قتل المسلم بالكافر، وما ينبنى على تبني هذه الآراء من إشكالات واتهامات للإسلام من قبل الأوربيين.

وقد اختلف الفقهاء فى مسألة المصافحة فذهب جمهورهم إلى تحريمها، وذهب الشيخ القرضاوي إلى إباحتها بضوابط، وذهب الشيخ الجديع إلى القول بكراهتها.

ملخص رأى الشيخ القرضاوي فى المصافحة:

  1. لا دليل لمن قال بتحريم المصافحة سوى سد الذريعة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها، ولكن عند الأمن من ذلك وهذا يتحقق في أحيان كثيرة ما وجه التحريم ؟
  2. ومن العلماء من استدل بترك النبي ((صلى الله عليه وسلم)) مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعة النساء المشهورة على ما جاء فى سورة الممتحنة.

ولكن من المقرر أن ترك النبي((صلى الله عليه وسلم)) لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه، فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه، كتركه أكل الضب مع أنه مباح، وإذن يكون مجرد ترك النبي((صلى الله عليه وسلم)) للمصافحة لا يحمل دليلاً على حرمتها، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها.

  1. على أن ترك مصافحة النبي ((صلى الله عليه وسلم)) للنساء في المبايعة ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضى الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه.

روى البخاري في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية يقول الله تعالى:}يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{[الممتحنة:12]، قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) :”قَدْ بَايَعْتُكِ” كلامًا ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله :”قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكَ”.

قال الحافظ ابن حجر في “الفتح” في شرح قول عائشة :”ولا والله” الخ : فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية، فعند ابن حبان، والبزار والطبري، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت:فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: “اللّهُمَّ اشْهَدْ”.

وكذا الحديث الذي بعده يعني بعد الحديث المذكور في البخاري حيث قالت فيه:”فقبضت امرأة يدها” فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن.

قال الحافظ : ويمكن الجواب عن الأول : بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني بان المراد بقبض اليد: التأخر عن القبول؛ إذ كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال:”لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ” وفي مغازي ابن إسحاق: أنه كان ((صلى الله عليه وسلم)) يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه.

قال الحافظ: ويحتمل التعدد، يعني أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس يد امرأة فقط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة، ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.

ومنها : الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة.

ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث، ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك).

والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي ((صلى الله عليه وسلم)) لها في بيعة النساء، ليس موضع اتفاق، كما قد يظن الذين لا يرجعون إلى المصادر الأصلية، بل فيه الخلاف الذي ذكرناه.

  • وقد استدل بعض العلماء المعاصرين على تحريم مصافحة المرأة بما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي((صلى الله عليه وسلم)) قال : “لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يِمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ”(6) قال المنذري في الترغيب : ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح. والمخيط: آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوها.

    ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي:

    أ- أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول : رجاله ثقات أو رجال الصحيح، وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه.

    ب- أن فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية قالوا: إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة، فأما ما كان في ثبوته شبهة، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة، فكيف بما يشك في صحته؟

    ج- على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله، أجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة، فكلمة “يِمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ” لا تعنى مجرد لمس البشرة للبشرة بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية..بل كلمة “المَسّ” حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين :

    الأول: أنها كناية عن الصلة الجنسية “الجماع” كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: }أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء{[النساء:43] أنه قال: اللمس الملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع..واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعالى على لسان مريم: }أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ{[آل عمران:47]، }وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ{[البقرة:237] وفي الحديث أن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) كان يدنوا من نسائه من غير مسيس. (7)

    الثاني: أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة:قال الحاكم في كتاب الطهارة من “المستدرك على الصحيحين”: (قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع .

    5- على أننا لو نظرنا في صحيح المنقول عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) لوجدنا ما يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل قد فعله النبي ((صلى الله عليه وسلم)) والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{[الأحزاب:21]. فقد روى البخاري في كتاب “الأدب” من صحيحه عن أنس بن مالك ((رضي الله عنه)) قال: “إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة ؛ لتأخذ بيد رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) فتنطلق به حيث شاءت، وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال: “إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجئ، فتأخذ بيد رسول الله((صلى الله عليه وسلم))، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت” وأخرجه ابن ماجة أيضًا.

    6- والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا..فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي ((صلى الله عليه وسلم)) وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، من غير محارمه، كابنة الخال، أو ابنة الخالة، أو ابنة العم، أو ابنة العمة، أو امرأة العم، أو امرأة الخال أو نحو ذلك، وخصوصًا إذا كان اللقاء بعد طول غياب.

    7- والذي أحب أن أؤكده في ختام هذا البحث أمران :

    الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة، وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين: أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك، بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع، أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا.

    بل لو فقد الشرطان بين الرجل وصبي أمرد، حرمت مصافحته أيضًا، وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى.

    الثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة،كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا يحسن التوسع في ذلك، سدًا للذريعة وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي ((صلى الله عليه وسلم)) الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط، وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة ولكن إذا صوفح صافح.

    وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرط في دينه ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد..والله اعلم. ([35])

 قلت: وهذا كلام جيد محقق لشيخنا العلامة القرضاوي، ترى فيه أنه لا دليل على تحريم المصافحة فاعتبار العرف الأوربي ليس فيه مخالفة للنص، كما نرى وجاهة هذا القول واعتباره وقوة دليله

والواقع الأوربي متحقق فيه ما أكد عليه الشيخ من ضوابط، من أمن الفتنة، ووجود الحاجة، بل يضاف جلب المصالح ودرء المفاسد، سواء مصالح الناس الخاصة والعامة، أو المصالح والمقاصد الدعوية والاجتماعية.

رأى الشيخ “عبدالله الجديع”:

يمثل الشيخ للترك النبوي الذي قصد به التشريع فيقول: تركه صلى الله عليه وسلم مصافحة النساء فى البيعة، قالت عائشة رضي الله عنها: ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام.

وقال صلى الله عليه وسلم فى حديث أميمة بنت رقيقة: ” إنى لا أصافح النساء، إنما قولى لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة”

فهذا ترك مقصود للمصافحة، مع أنها كانت من سنة البيعة، وما كان صلى الله عليه وسلم ليدع مستحبا، ولا مباحا يستوى فيه الفعل والترك والمرأة تمد إليه يدها وهو يكف يده كما جاء فى بعض روايات القصة.

والترك المجرد لا يرقى بنفسه إلى أن يكون المتروك حراما، إلا أن يدل على التحريم دليل مستقل غير مجرد الترك، ولم يأت فى هذه المسألة ما يدل على تحريم مجرد المصافحة للنساء إلا أن تكون بشهوة، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ” واليد زناها اللمس” ، والزنا لا يقع بغير شهوة والمصافحة تقع بشهوة وبغير شهوة، فمجردها مكروه، وبالشهوة حرام. ([36])

وقول الشيخ الجديع بكراهة المصافحة، يؤكد أن المسألة خلافية، وأن الخلاف فيها معتبر، وأن رعاية الأعراف الأوربية بالمصافحة عند الحاجة وأمن الفتنة قوله متجه.

المبحث الثالث: ضرب الزوجة الناشز

وتلك قضية من أهم وأشهر قضايا المرأة فى الغرب، والتى شغب بسببها كثيرا على الإسلام والمسلمين فى أوربا، والعرف العربي قديما وحديثا، وكذا العرف والقانون الأوربي لهما فيها بالغ الأثر فى الفهم والتطبيق.

أولاً: الضرب فى العرف والقانون الأوربي:

سأصف فى نقاط سريعة النظرة الغربية لقضية الضرب عند المسلمين:

  1. يصور الغرب المسألة دائما فى إطار عام ضد المرأة سواء كانت زوجة أم بنتا أو أختا، ومن الأخطاء التى نقع فيها كثيرا التعبير عن المسألة بالتعميم كذلك فنقول: ضرب المرأة فى الإسلام، والأصح تقييد الأمر وتوجيهه نحو صنف خاص ومحدد من الزوجات وهو الزوجة الناشز، فالصواب أن نقول: ضرب الزوجة الناشز.
  2. فى المفهوم الغربي أن المرأة الأوربية جاهدت لتصل إلى حريتها ومساواتها الكاملة بالرجل، وأشد ما ينتقص من هذه الحرية والكرامة عند هذه المرأة مسألة الضرب، خاصة إذا أصل لها دينيا، ولا يمكن تفسير الضرب فى الغرب فى غير إطار الإهانة والامتهان للكرامة، فضلا عن أن يكون وسيلة للتأديب والإصلاح ومنع النشوز.
  3. من الخطأ عند الرد على الأوربيين عند الحديث عن ضرب الزوجة الناشز فى الإسلام التأكيد على أنهم يضربون، ونذهب إلى جمع الإحصاءات العددية بعدد من يدخلن العناية المركزة من النساء فى الغرب بسبب ضرب الأزواج، لنبرز سماحة الإسلام الذي أباح الضرب وقيده بأن لا يكون مبرحا مؤذيا للمرأة. لأنهم يقولون: هو ممنوع عندنا ومن يضرب من الرجال يتجاوز العرف والقانون، أما فى الإسلام فالمسألة مقررة وثابتة فى الشرع والدين، فمجرد إقرار وجود الضرب فى الإسلام هو إشكال عند الأوربيين أيا ما كانت منطقية تعليله، وسلامة وحسن مقصده.
  4. يمنع القانون الألماني واتفاقيات أوربية ضرب الزوجة أو الاعتداء عليها مهما كانت صورة ودرجة الإيذاء، وهو قانون معروف بحماية المرأة ضد العنف الزوجي، وبموجب هذا القانون إذا وقع اعتداء من الزوج على زوجته بالضرب فمن حقها استصدار حكم عاجل من المحكمة بطرده من البيت، ومنعه من الاقتراب منه مسافة 100 متر تقريبا، حتى لو كان هو من استأجر البيت ودفع ثمن كرائه.
  5. هناك واقعة شهيرة فى ألمانيا، وهى أن زوجة ألمانية مسلمة من أصول عربية ضُربت من زوجها فرفعت أمرها للمحكمة وأصدرت المحكمة قرارا عاجلا بطرده من البيت، ويحق لهذه الزوجة قانونا أن تطلب مصروفات محاميها من الدولة إذا كانت على حق فى دعواها القضائية، ولما طالبت بهذه المساعدة المستحقة لها، رفضت القاضية الألمانية بحجة أن ما قام به الزوج من ضرب لها فى القرآن الكريم، ورفضت منحها الحق فى هذه المساعدة المالية، ثم التقطت وسائل الإعلام الحدث وسوقته فى صورة أن القاضية حكمت بالقرآن-رغم أنها احتجت بالقرآن لمنع المرأة المسلمة من حقها- وكيف يُحكم بالقرآن فى ألمانيا وهو يدعو إلى العنف ضد النساء، ومآلات وتبعات الحدث السلبية لا تخفى.
  6. أضيف إلى ذلك واقعة أخرى حدثت فى ألمانيا وهى أن إماما اعتدى بالضرب على زوجته، فتصدر الخبر الصفحات الأولى للجرائد الألمانية وكانت العناوين: الإمام يطبق الآية 34 من سورة النساء!!
  7. هناك أئمة فى بعض الأقطار الأوربية تم ترحيلهم من تلك البلدان، بسبب تصريحات لهم عن مسألة الضرب وبيانها فى خطبهم أو فى تصريحات إعلامية منسوبة إليهم.
  8. دخلت عدة مراكز إسلامية فى الغرب فى مشاكل قضائية وتشويه إعلامي، وهٌددت بالإغلاق بسبب وجود كتب بلغة البلد تبيح ضرب الزوجة وتقره.
  9. لا يذكر اسم العلامة القرضاوي فى وسائل الإعلام الألمانية إلا ويذكر معه موقفه ورأيه فى جملة من القضايا فى مقدمتها إباحته لضرب الزوجة فى كتابه الحلال والحرام، باعتبار أن هذه المسألة ومثيلاتها من قضايا الاتفاق المجتمعى المرفوضة والمنفرة وغير المقبولة، فإذا أريد تشويه صورة شخص أو مؤسسة أو كتاب لدى الرأى العام الألمانى تم استدعاء هذه القضايا بمناسبة ودون مناسبة ومنها قضية الضرب.
  10. إقرار ضرب الزوجة فى الإسلام وتبريره يخل بصورة مباشرة واضحة بمقصد التطلع إلى التعريف بالإسلام فى الغرب، ليس فقط عند غير المسلمين، ولكن كذلك عند الأجيال الجديدة من ابناء المسلمين الذين ازدادوا فى الغرب وشربوا لغته وثقافته منذ الصغر.

لا أريد بما ذكرت من وصف لنظرة الغرب وفهمه لقضية ضرب الزوجة الناشز فى الإسلام أن أحمل المجلس أو أهيئ السادة العلماء لموقف بعينه، ولكن أبين الصورة كاملة وأدعو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث أن يتخذ قرارا واضحا فى هذه القضية تتبناه المراكز الإسلامية فى الغرب، ويضمنه الأئمة والدعاة فى خطابهم، وذلك بعد الدراسة والمناقشة الموضوعية الهادئة للمسألة فى ضوء الأعراف والقوانين الأوربية.

وأنا هنا لن أعرض رأى الجمهور مفصلا بأدلته والذي ينتهي إلى تفسير الضرب، بالضرب المعروف ويقيده بأن لا يكون مبرحا، ولكن سأركز على الاجتهادت التى يمكن ان تشكل اجتهادا وتفسيرا مقبولاً، يحل الإشكال ويرفع الحرج عن الناس، ويحقق مقاصد الوجود الإسلامي فى الغرب.

ثانياً: آية الضرب مبنية على العرف:

إذا أردنا الوقوف بدقة على حكم ما من الأحكام الشرعية فلابد لنا من معرفة عادات العرب حالة نزول الوحي كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: لابد لمن أراد الخوض فى علم القرآن والسنة من معرفة عادات العرب فى أقوالها وأفعالها ومجارى عاداتها حالة التنزيل من عند الله والبيان من رسوله، لأن الجهل بها موقع فى الإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة.

وبين الشاطبي رحمه الله ذلك بأمثلة منها: قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} البقرة: 196 يحتمل أنه أمر بالإتمام، كما يحتمل أنه أمر بأصل الحج، فإذا علم أن العرب قبل الإسلام كانوا آخذين به، لكن على تغيير بعض الشعائر، ونقص جملة منها؛ كالوقوف بعرفة وأشباه ذلك من وثنياتهم، عُلم أن الأمر بالإتمام وإزالة النقص الذي أحدثته وثنيتهم، وإنما جاء إيجاب الحج نصًّا في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} آل عمران: 97  ([37])

وذكر الشيخ أحمد أبو سنة مثالاً أوضح على ما قرره الشاطبي فقال: قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) ظاهر الآية يوهم تخصيص الربا المحرم بما إذا كان أضعافا مضاعفة، لكن إذا عُلم أن من عاداتهم التعامل بالربا المضاعف، وأن الرجل منهم كان يربي إلى أجل، فإذا حل قال للمدين: زدنى المال حتى أزيدك فى الأجل، فيفعل .. وهكذا عند محل كل أجل، حتى يستأصل ماله بالدين الطفيف… أقول –أبو سنه- إذا علم هذا، علم أن الآية جاءت مراعاة لعاداتهم، وتنديدا بشنيع معاملاتهم، فليس الربا مخصوصا، بل هو حرام قليله وكثيره. ([38])

وعليه فلابد من معرفة عادات العرب ونظرتهم لضرب المرأة زمان نزول التشريع، وهذه المعرفة ستجعلنا نقف على الحكم الشرعي من الآية، وعلى مراد الله عز وجل منها، كما هو القصد من دراسة علم الأصول، وقد ذهب الشيخ العلامة المجدد الطاهر بن عاشور إلى ربط الإذن بالضرب بالعرف فقال رحمه الله تعالى: قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: النُّشُوزُ عِصْيَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِ وَإِظْهَارُ كَرَاهِيَتِهِ، أَيْ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةٍ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً مِنْهَا، أَيْ بَعْدَ أَنْ عَاشَرَتْهُ، كَقَوْلِهِ: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا» . وَجَعَلُوا الْإِذْنَ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْهَجْرِ وَالضَّرْبِ مُرَتَّبًا عَلَى هَذَا الْعِصْيَانِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنَ الْإِذْنِ لِلزَّوْجِ فِي ضَرْبِ زَوْجَتِهِ النَّاشِزِ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي غَيْرِ ظُهُورِ الْفَاحِشَةِ. وَعِنْدِي أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ وَالْأَخْبَارَ مَحْمَلُ الْإِبَاحَةِ فِيهَا أَنَّهَا قَدْ رُوعِيَ فِيهَا عُرْفُ بَعْضِ الطَّبَقَاتِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْبَدْوِ مِنْهُمْ لَا يَعُدُّونَ ضَرْبَ الْمَرْأَةِ اعْتِدَاءً، وَلَا تَعُدُّهُ النِّسَاءُ أَيْضًا اعْتِدَاءً، قَالَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمِرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ.

عَمَدْتُ لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ        وَلَلْكَيْـسُ أَمْضَى فِي الْأُمُورِ وَأَنْجَحُ

خُـــذَا حَــذَرًا يَا خُلَّتَيَّ فِإِنَّنِي      رَأَيْتُ جِـرَانَ الْعَـوْدِ قَـدْ كَـادَ يَصْلُـــحُ

والتحيت: قَشَرْتُ، أَيْ قَدَدْتُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ أَخَذَ جِلْدًا مِنْ بَاطِنِ عُنُقِ بَعِيرٍ وَعَمِلَهُ سَوْطًا لِيَضْرِبَ بِهِ امْرَأَتَيْهِ، يُهَدِّدُهُمَا بِأَنَّ السَّوْطَ قَدْ جَفَّ وَصَلُحَ لِأَنْ يُضْرَبَ بِهِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: (كُنَّا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ قَوْمًا نَغْلِبُ نِسَاءَنَا فَإِذَا الْأَنْصَارُ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَأَخَذَ نِسَاؤُنَا يَتَأَدَّبْنَ بِأَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ) . فَإِذَا كَانَ الضَّرْبُ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْأَزْوَاجِ دُونَ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَكَانَ سَبَبُهُ مُجَرَّدَ الْعِصْيَانِ وَالْكَرَاهِيَةِ دُونَ الْفَاحِشَةِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ أُذِنَ فِيهِ لِقَوْمٍ لَا يَعُدُّونَ صُدُورَهُ مِنَ الْأَزْوَاجِ إِضْرَارًا وَلَا عَارًا وَلَا بِدْعًا مِنَ الْمُعَامَلَةِ فِي الْعَائِلَةِ، وَلَا تَشْعُرُ نِسَاؤُهُمْ بِمِقْدَارِ غَضَبِهِمْ إِلَّا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. ([39])

فالبيئة التي نزلت فيها آية النشوز لم تكن تنكر الضرب أو تتأفف منه أو تعتبره إهانة للمرأة وانتقاصا من شأنها، فنساء مكة كن يضربن ولا شك، ولا يشتكين من ذلك ولا يعتبرنه مسا بكرامتهن، ولا خارجا عن العرف وعن الوضع الطبيعي للمرأة. فكيف يستنكر ضرب الزوجة في بيئة كان وأد البنات فيها مألوفا؟!

وابن عاشور مع هذا يقرر أن الأخذ برأى الجمهور بمنع النشوز من قبل الزوجة بالضرب، مقيد بالقبول العرفي والمجتمعي لهذا الفعل، وعدم عده إهانة أو نيلاً من كرامة الزوجة، فإذا وقع التعسف والإساءة من الأزواج، جاز لولاة الأمر أن يمنعوهم فقال: “وأما الضرب فهو خطير وتحديده عسير، بَيْدَ أَنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْإِضْرَارِ، وَبِصُدُورِهِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ الضَّرْبُ بَيْنَهُمْ إِهَانَةً وَإِضْرَارًا.

فَنَقُولُ: يَجُوزُ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يُحْسِنُونَ وَضْعَ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَوَاضِعَهَا، وَلَا الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِهَا أَنْ يَضْرِبُوا عَلَى أَيْدِيهِمُ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، وَيُعْلِنُوا لَهُمْ أَنَّ مَنْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ عُوقِبَ، كَيْلَا يَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْإِضْرَارِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ ضعف الْوَازِع”.([40])

ويرى ابن العربي أن الضرب مكروه مستشهدا بقول عَطَاء :” لَا يَضْرِبُهَا وَإِنْ أَمَرَهَا وَنَهَاهَا فَلَمْ تُطِعْهُ ، وَلَكِنْ يَغْضَبُ عَلَيْهَا”.

قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ : (إنِّي لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ يَضْرِبُ أَمَتَهُ عِنْدَ غَضَبِهِ ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُضَاجِعَهَا مِنْ يَوْمِهِ) ([41])

 ويخرج ابن عاشور رأى عطاء بالنظر إلى العرف لا إلى النص كما قال ابن العربي فيقول: ” وَأَنَا أَرَى لِعَطَاءٍ نَظَرًا أَوْسَعَ مِمَّا رَآهُ لَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ وَضَعَ هَاتِهِ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، قَالَ ابْنُ الْفُرْسِ: وَأَنْكَرُوا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ بِالضَّرْبِ. وَأَقُولُ: أَوْ تَأَوَّلُوهَا”([42]).

ويرى الشيخ محمد رشيد رضا المتوفى  1354هـ كذلك أن الأمر يرجع إلى البيئة والعرف، ثم يربط الوسيلة بمقصدها من الإصلاح ومنع النشوز، فلا يباح الضرب إلا إذا رأى الرجل أن نشوزها يرجع يتوقف عليه، وهذا المقصد منعكس فى الغرب، فالضرب يؤدي إلى القضاء على الأسرة ومنع الزوج من العودة إلى البيت، وتشويه صورة الأسرة فى دائرة من أهم دوائر التعريف بالإسلام، فمنعه وتركه فى الغرب من باب أولى إن رمنا الحفاظ على الأسرة وصيانتها.

يقول الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ ضَرْبِ النِّسَاءِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَنْكَرِ فِي الْعَقْلِ أَوِ الْفِطْرَةِ ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ ، فَهُوَ أَمْرٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي حَالِ فَسَادِ الْبِيئَةِ وَغَلَبَةِ الْأَخْلَاقِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا رَأَى الرَّجُلُ أَنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا صَلَحَتِ الْبِيئَةُ ، وَصَارَ النِّسَاءُ يَعْقِلْنَ النَّصِيحَةَ ، وَيَسْتَجِبْنَ لِلْوَعْظِ ، أَوْ يَزْدَجِرْنَ بِالْهَجْرِ ، فَيَجِبُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الضَّرْبِ ، فَلِكُلِّ حَالٍ حُكْمٌ يُنَاسِبُهَا فِي الشَّرْعِ ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِالرِّفْقِ بِالنِّسَاءِ ، وَاجْتِنَابِ ظُلْمِهِنَّ ، وَإِمْسَاكِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، أَوْ تَسْرِيحِهِنَّ بِإِحْسَانٍ ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالنِّسَاءِ كَثِيرَةٌ جِدًّا .

أَقُولُ : وَمِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَا هُوَ فِي تَقْبِيحِ الضَّرْبِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ ، وَمِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : أَيَضْرِبُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ كَمَا يَضْرِبُ الْعَبْدَ يَضْرِبُهَا أَوَّلَ النَّهَارِ ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا آخِرَهُ ؟ يُذَكِّرُ الرَّجُلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الِاجْتِمَاعِ وَالِاتِّصَالِ الْخَاصِّ بِامْرَأَتِهِ ، وَهُوَ أَقْوَى وَأَحْكَمُ اجْتِمَاعٍ يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الْبَشَرِ يَتَّحِدُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادًا تَامًّا ، فَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَنَّ صِلَتَهُ بِالْآخَرِ أَقْوَى مِنْ صِلَةِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِبَعْضٍ ـ إِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْوِحْدَةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَنَفْسِهِ ، مَهِينَةً كَمَهَانَةِ عَبْدِهِ ، بِحَيْثُ يَضْرِبُهَا بِسَوْطِهِ أَوْ يَدِهِ ؟ حَقًّا إِنَّ الرَّجُلَ الْحَيِيَّ الْكَرِيمَ لَيَتَجَافَى طَبْعُهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْجَفَاءِ ، وَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ مُنْتَهَى الِاتِّحَادِ بِمَنْ أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ الْإِمَاءِ ، فَالْحَدِيثُ أَبْلَغُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي تَشْنِيعِ ضَرْبِ النِّسَاءِ. ([43])

هل اعتبار العرف الأوربي وغيره فى مسألة الضرب يخالف النص؟

إذا كان الإذن بضرب الزوجة مأذونا فيه لمنع نشوزها، مرتبطا بالأعراف والبيئات وكانت أعراف زماننا تأبي الضرب وترفضه، فهل فى القول بمنع الضرب مخالفة للنص؟

إذا كان العرف المعارض للنصوص حادثا بعدها، وطارئا عليها، كما هو الحال فى ضرب الزوجة الناشز، فإما أن لا يمكن رده على أصل من أصول الشرع، أو يمكن.

فإن كان الأول، فلا يقضي على النصوص، سواء أكان قوليا أو عملياً؛ لأن من شرط اعتبار العرف الذي تحمل عليه الألفاظ أن يكون موجودا حال صدورها، ولأن العرف العملي قد يكون على باطل.

وإن أمكن رد العرف إلى أصل من أصول الشريعة-وهو الحال فى ضرب الزوجة الناشز للنصوص الكثيرة المعروفة فى النهى عن الضرب وعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم-صح التخصيص والتقييد به إن كان عاما، وذلك كالاستصناع وبيع الوفاء، بخلاف ما إذا كان العرف خاصا، فإنه لا يقضي على النص إلا على قول ضعيف. ([44])

والسؤال: هل منع ضرب الزوجة يعتبر من العرف العام أم الخاص، الذي يبدو ظاهرا أنه من العرف العام، أو شبه العام، ولا يمكن اعتباره عرفا خاصا بالأوربيين وحدهم بعد أن أصبح العالم قرية صغري، وأصبحت هناك اتفاقيات دولية تمنع العنف ضد المرأة، وارتفع صوت الجمعيات النسوية الرافضة لهذا الأمر فى العالم، وعليه فينطبق عليه ما ينطبق على العرف العام من التخصيص والتقييد به.

وقد فصل ابن عابدين فى (نشر العَرف) فى حكم تعارض العرف والنص فقال:”إذا خالف العرف الدليل الشرعي، فإن خالفه من كل وجه بأن لزم منه ترك النص، فلا شك فى رده، كتعارف الناس كثيرا من المحرمات من الربا وشرب الخمر ولُبس الحرير والذهب … وغير ذلك مما ورد تحريمه نصا.

وإن لم يخالفه من كل وجه بأن ورد الدليل عاما والعرف خالفه فى بعض أفراده، أو كان الدليل قياسا فإن العرف معتبر إن كان عاما، فإن العرف العام يصلح مخصصا”

قال أبو سنة معقبا: ويظهر مما تقدم أنه ليس مدار الرد وعدمه على المخالفة من كل وجه –المصورة بأنه يلزم منه ترك النص-، وعلى المخالفة من وجه دون وجه…

بل هما مبنيان على كون العرف له أصل يرجع إليه أو لا؟

فإن كان الأول؛ اعتبر العرف ولو خالف النص من كل وجه، ولزم منه تركه، بأن كان ما يرجع إليه العرف نصا أو إجماعا، فإن النص ينسخ ما قبله، وكذا الإجماع ناسخ باعتبار مستنده.([45])

قلت: فالعرف المعاصر والذي يقضي بمنع ضرب الزوجة الناشز وعدم استساغته له أصل يرجع إليه، وهو النص بل النصوص الكثيرة السابقة فى النهى عن الضرب، فترك الضرب ومنعه هنا بالعرف المؤيد بالنصوص النبوية والسنة العملية فى منع الضرب.

يقول الشيخ أحمد أبو سنة فى بحثه القيم عن العرف والعادة فى رأى الفقهاء: قد يلوح فى بادئ الرأى أن هناك تعارضا بين العرف والنص فى بعض المواضع.. والواقع عدمه.

ذلك أنه قد يكون النص منوطا بعلة مفردة، ثم يُظهر العرف انتهاء هذه العلة فى بعض أفراد النص أو كله.. فإذا نظرنا إليه من حيث لفظهُ وحرفيتهُ، ظهر أنه متعارض مع العرف.

وإذا نظرنا إليه من حيث مقصودهُ، وأنه معلول بعلة أظهر العرف انتهاءها فى بعض أفراده؛ ظهر أنه لا تعارض. وهذا كما قال صاحبا العناية والمنح ( وتبعهما ابن عابدين) فى نهيه –صلى الله عليه وسلم- عن بيع وشرط..

فإن علة النهى وقوع النزاع بين البائع والمشترى، لأن من كان الشرط فى مصلحته يريد حصوله، والآخر يريد الفرار منه؛ فلم يتم مقصود الشارع من نظام المعاملات، وهو رفع المنازعة. لكن إذا تعارف الناس شرطا من الشروط؛ أصبح مسلما به من العاقدين، فترتفع المنازعة وبهذا تنتهى العلة فى هذا الشرط المتعارف، فينتهى النهى.([46])

فالظاهر أن منع الضرب فيه معارضة للنص ( واضربوهن) لكن القصد من إباحة الضرب هو إصلاح نشوز الزوجة، وقد كان صحيحا واردا فى عرف سابق، ثم أظره العرف الجديد انتهاءها، فلا تعارض بين النص والعرف لأننا حققنا المقصد بالعرف إباحة أولاً، ومنعا ثانياً.

 فالنص المبني على العرف يكون مغيًا بانتهائه،إذا تغير العرف تغير النص كذلك. فليس في هذا مخالفة للنص بل هو تأويل له.([47])

 إن النص قد يكون معللاً بالعرف أو بعلة مرجعها إليه، ثم تتغير العلة بتغير العرف، فيظهر تغيُر الحكم الذي تضمنه النص.

فمثال الأول: ما روي عن أبي يوسف من أن النص على أن المعيار للأشياء الأربعة (البر والشعير والتمر والملح) هو الكيل، فإنه إنما نص الشارع على ذلك رعاية للعرف الذي كان جارياً فى زمانه.

فإذا تغيرت هذه العادة، فأصبح البر والتمر موزونين، تغير المعيار إلى الوزن، وصحت المساواة بهذا المعيار. ([48])

ومثال الثاني: قضاؤه صلى الله عليه وسلم بالدية على عصبة القاتلة ، فإنه معلل بالنُصرة التي يُرجع في معرفتها الى العرف (وقد كانت في عهده صلى الله عليه وسلم بالعَصبة. ولما كانت في عهد عمر بالديوان _لتغير العرف_ جعلها عمر على أهله” ([49])

ثالثاً: تفسير الضرب بمعنى الهجر والمفارقة:

كتب الدكتور عبدالحميد أبو سليمان بحثا بعنوان: ضرب المرأة هل هو الفهم الصواب لحل الخلافات الزوجية؟ رؤية اجتهادية قرآنية معاصرة.

وتتلخص دراسة أبو سليمان فى أنه نظر نظرة شاملة لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة ومقاصد الشريعة فى بناء الأسرة وطرق إصلاحها، فقال: لا يمكن أن يكون القهر والضرب وسيلة مقصودة لإرغام المرأة على غير إرادتها ورغبتها على المعاشرة، كما أن الضرب على أى حال من الأحوال ليس وسيلة مناسبة لإشاعة روح المودة بين الزوجين، وليس وسيلة مناسبة لكسب ولاء أطراف العلاقة الحميمة وثقتها.

وقد نظر أبو سليمان فى معانى كلمة الضرب ومشتقاتها فى القرآن الكريم، فالأولى أن يفسر القرآن بالقرآن، وخير تفسير القرآن ما كان تفسيره بالقرآن، وضبطته مقاصد الشريعة ومبادئها العامة.

وقد أحصى وجوه المعانى التى جاء فيها لفظ الضرب ومشتقاته فى القرآن الكريم فوجدتها على سبعة عشر وجها كما يلي:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا} [النحل: 76]، {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101]، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11]، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5]، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد: 17]، {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31]، {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ } [طه: 77]، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61]، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [محمد: 4]، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد: 13]، {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27]، {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60]، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]

فإذا أمعنا النظر فى كافة الآيات السابقة نجد جملة معانى فعل (ضرب) بصيغته المتعدية المباشرة وغير المتعدية هى استخدامات مجازية فيها معنى العزل والمفارقة والإبعاد والترك، فالشيء يضرب مثلا أى يستخلص ويميز حتى يصبح جلياً واضحاً، والضرب فى الأرض هو السفر والمفارقة، والضرب على الأذن هو منعها من السماع، وضرب الصفح عن الذكر هو الإبعاد والإهمال والترك، وضرب الحق والباطل تمييزهم وتجليتهم، وضرب الخمر على الجيوب هو ستر الصدر ومنعه عن الرؤية، وضرب الطريق فى البحر شقه ودفع الماء جانبا، والضرب بالسور بينهم عزلهم ومنعهم عن بعضهم البعض، وضرب الذل والمسكنة عليهم نزولها بهم وتخييمها عليهم وصبغهم وتمييزهم بين الناس بها، وضرب الأعناق والبنان بتره وفصله وإبعاده عن الجسد، أما باقي ما ورد من كلمة الضرب ومشتقاتها فيما سبق من ضرب الأرجل، وضرب الوجوه، وضرب الحجر، وضرب الضغث، وضرب الأصنام باليمين، فهى بمعنى الدفع بقوة، والخبط واللطم ضد جسد الشيء أرضا، أو وجهاً أو حجراً، أو إنساناً، أو صنماً لإحداث الأثر بإحداث الصوت، أو الإيلام والمهانة أو تفجير الحجر لإخراج الماء أو تحطيم الأصنام.

وهكذا فإن عامة معانى كلمة الضرب فى السياق القرآني هى بمعنى العزل والمفارقة والإبعاد والدفع.

ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يعبر بلفظ الضرب ولكن بلفظ الجَلد بفتح الجيم حين قصد إلى الضرب بمعنى الأذى الجسدي بقصد العقاب والتأديب وذلك فى قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وذلك من الجِلد بكسر الجيم، لأنه هو موضع الإحساس بالأذى والألم، وهو المقصود بالضرب.

فضرب المرأة فى بيتها معناه الأولى والأجدر فى سياق ترشيد العلاقة الزوجية ووضع أطرافها أمام مسؤولياتهم والعودة عن الشقاق والنزاع غير المقصود، هو الترك والمفارقة والاعتزال، أى ترك منزل الزوجة ومفارقة دار المرأة واعتزالها، وذلك كخطوة أبعد ودرس للمرأة أعمق وأبلغ كآخر خطوة ممكنة فى أى جهد ذاتي يبذل بين الأزواج لرأب الصدع، ولم الشمل تتبين فيه أطراف العلاقة الآثار الخطيرة المترتبة على العصيان والتمرد والشقاق فى انفراط عقد الأسرة وانهيارها، ولا يكون بعد خطوة ترك منزل الزوجية إن بقى للود موضع إلا التحكيم، ومساعدة طرف ثالث من أهل الزوجة والزوج على إدارة الحوار وامتحان أسباب النفرة والنزاع، واقتراح الحلول وترشيد الأطراف لوضع حد لتلك النفرة، فلا يتطور الأمر إلى صراع وشقاق وتظالم ولينهى الشقاق بين الزوجين إما بالإصلاح أو الفراق والطلاق. {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229]

وهذا الفهم لمعنى الضرب بمعنى المفارقة والترك والاعتزال تؤكده السنة النبوية الفعلية حين فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت زوجاته حين نشب بينه وبينهن الخلاف، ولم يتعظن وأصررن على عصيانهن وتمردهن رغبة فى شيء من رغد العيش، فلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشربة شهرا كاملا تاركا ومفارقا لزوجاته ومنازلهن، مخيرا إياهن بعدها بين طاعته والرضا بالعيش معه على ما يرتضيه من العيش، وإلا انصرف عنهن وطلقهن فى إحسان {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } [التحريم: 5] وهو عليه أفضل الصلاة والسلام لم يتعرض لأى واحدة منهن خلال ذلك بأى لون من ألوان الأذى الجسدي، أو اللطم أو المهانة بأى صورة من الصور، ولو كان الضرب بمعنى الأذي الجسدي والنفسي أمرا إلهيا ودواء ناجعا، لكان صلى الله عليه وسلم أول من يبادر إليه ويفعل ويطيع، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يضرب ولم يأمر بالضرب، ولم يأذن ولم يسمح بالضرب. ([50])

فهذا الاجتهاد وإن بدا فيه التعسف واضحا، والتناقض كذلك إذا اعتبرنا الضرب بمعنى المفارقة، فيصير تكرارا لسبقه ضمنا فى صورة الهجر، رغم ما فيه من نظر إلا أنه يحل الإشكال فى المسألة من الجذر؛ ولهذا تبناه عدد من الدعاة فى الغرب، وقال به بعض المستشرقين فى الغرب لإغلاق الباب فى هذه المسألة، لكنه اجتهاد يحتاج إلى مزيد من التأمل والنظر لإقرار ما إذا كان معتبرا أم لا؟

وبعد فهذا البحث كتبته على عجل، والفروع والأمثلة التطبيقية فيه تحتاج إلى نقاش جماعي؛ لآثارها العملية والحاجة الماسة إلى بيان الرأى الشرعي فيها؛ لهذا آثرت تأخير نتائج البحث بعد نقاش السادة العلماء لما ورد فى البحث من أفكار ورؤى قابلة للتعديل والإضافة.

وهناك فروع وأمثلة أخرى مبنية على العرف وتكثر الحاجة إليها، لم أتمكن من إضافتها لضيق الوقت وطبيعة البحث، على رأسها اللباس الشرعي للمرأة المسلمة وشروطه وأثر العرف الأوربي فيه، وكذا منع تعدد الزوجات بالعرف والقانون فى الغرب، وأيضا الصور الحديثة لزينة المرأة المسلمة فى الغرب، وغير ذلك من المسائل والقضايا.

والله تعالى أسال أن يتقبل هذا العمل وأن يغفر لى ما وقع فيه من خطأ أو زلل، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]

([1])راجع مفهوم العرف فى الشريعة الإسلامية د حسنين محمود ص 99

([2])المستصفى للنسفي 1/217 مخطوط بدار الكتب المصرية نقلا عن الشيخ أحمد أبو سنة فى كتابه العرف والعادة فى رأي الفقهاء

([3])العرف والعادة فى رأى الفقهاء أبو سنة ص 10

([4])أثر العرف فى التشريع د السيد صالح عوض ص 25

([5])مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الخامس 4/2921

([6])أصول مذهب الإمام أحمد عبدالله التركي 585

([8])راجع الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين د مصلح بن عبدالحي النجار ص 195

([9])رسائل ابن عابدين 2/125

([10])راجع أثر العرف فى فهم النصوص قضايا المرأة أنموذجا د رقية طه جابر العلواني ص 43

([11])السابق ص44

([12])السابق ص 45

([13])السابق ص 46،47

([14])راجع نظرية العرف عبدالعزيز الخياط ص 37،  وأثر العرف فى التشريع الإسلامي السيد صالح عوض 142، والعرف وأثره فى فقه المعاملات المالية عادل قوتة 1/264 والأدلة المختلف فيها عند الأصوليين د مصلح النجار ص 200

([15])مفهوم العرف د. حسنين محمود ص71، وراجع أثر العرف رقية طه ص 47

([16])أصول الفقه لأبي زهرة ص247

([17])أصول الفقه عبدالوهاب خلاف ص 101

([18])العرف والعادة فى رأى الفقهاء أحمد فهمى أبو سنة ص 319

([19])تيسير علم أصول الفقه عبدالله الجديع ص 196

([20])صحيح البخاري كتاب البيوع 2/50

([21])أحكام القرآن لابن العربي ص 184

([22])مجموع الفتاوى لابن تيمية 34/85

([23])أثر العرف رقية طه 56 وما بعدها

([24])العرف وأثره في فقه المعاملات المالية عند الحنابلة د عادل قوته1/244

([25]) العرف والعادة في رأي الفقهاء أبو سنة(83).

([26])أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الاسلامي مصطفى البغا  380

([27])الموافقات للشاطببي 2/575

([28])العرف وأثره في الشريعة والقانون أحمد المباركي ص95 وما بعدها

([29])الأشباه والنظائر للسيوطي ص 193 وراجع الأدلة المختلف فيها عند الأصوليين مصلح عبدالحي ص 191

([30])العرف والعادة فى رأى الفقهاء أحمد أبو سنة ص 120

([31]) راجع العرف وأثره فى فهم النصوص قضايا المرأة نموذجا د رقية طه جابر 169-186

([32])التحرير الإسلامي للمرأة الرد على شبهات الغلاة د/ محمد عمارة صـ 68،69

([33])  ميراث المرأة وقضية المساواة صـ10 وما بعدها د/ صلاح الدين سلطان

([34])فقه المواطنة للمسلمين فى أوربا د عبدالمجيد النجار ص 171، 172

([35])فتاوى معاصرة د. يوسف القرضاوي ص 291-302.

([36])تيسير علم أصول الفقه الشيخ عبدالله الجديع ص 46، 47

([37] ) الموافقات للشاطبي 4 /154

([38] ) العرف والعادة أبو سنه ص 169

([39] ) التحرير والتنوير 5 /42

([40] )  التحرير والتنوير 5 /44

([41] ) أحكام القرآن لابن العربي ـ 2 /341

([42] ) التحرير والتنوير5 /43

([43] ) تفسير المنار 5 /62

([44] ) العرف والعادة أبو سنة ص169،170 بتصرف وتنزيل على مسألة ضرب الزوجة.

([45] ) العرف والعادة أبو سنة 175

([46] ) السابق ص177

([47] ) العرف والعادة 115

([48] ) السابق ص 114

([49] ) السابق 320

([50] ) مختصرا من ضرب المرأة هل هو الفهم الصواب لحل الخلافات الزوجية؟ رؤية اجتهادية قرآنية معاصرة د عبدالحميد أبو سليمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق