الدور الحضاري للوقف الإسلامي في الغرب
الدور الحضاري للوقف الإسلامي في الغرب[*]
أ. د عبد المجيد النجار
تمهيد:
من أعظم ما أرشد إليه الدين الإسلامي في مجال التنظيم الاجتماعي تشريع الوقف وأحكامه، فبالإضافة إلى الحكمة النظرية المبدئيّة السامية في هذا التشريع بالنظر إليه في ذاته بيّنت التجربة التاريخية لتطبيقه في الواقع عبر تاريخ الأمّة الإسلامية الدور العظيم الذي قام به نظام الأوقاف في بنائها الحضاري: تنميةً اقتصادية، وعلمية ثقافية، وتكافلا اجتماعيا، وقوّةَ مجتمع حافظ بها زمنا طويلا على الاستمرارية الحضارية مهما تعرّضت له الدولة سياسيا من الاضطرابات والتقلّبات.
وقد شُرّع الوقف على نحو من السعة بحيث يشمل كلّ ما فيه خير للمسلمين، بل للناس جميعا، بل للبيئة الطبيعية أيضا، فأيّما خير تحقّق به توقيف مال كان الوقف فيه جائزا بل مطلوبا، وذلك وفق شروط وضوابط معلومة في تفاصيل الفقه الإسلامي، وهو ما جرى به العمل في واقع المسلمين حتى لقد تجاوز توقيف المال ما فيه تحقيق مصلحة للناس إلى ما فيه مصلحة للحيوانات، توفيرا لغذائها، وحفظا لها من أسباب الفناء.
وإذ لم تكن العلاقات بين المجتمعات الإنسانية قديما علاقات تشابك وتداخل بأقدار كبيرة فإنّ النظام الوقفي كما كان يمارسه المسلمون لم يكن يتعدّى حدود المجتمع الإسلامي ليطال العلاقة مع المجتمعات الإنسانية الأخرى إلاّ قليلا، ولم تكن الأحكام الفقهية تبعا لذلك كما جاءت في مدوّنة الفقه الإسلامي تتعدّى ما كان يجري به الواقع، فلا نكاد نجد فيها ما يتعلّق بالوقف في مجال العلاقة بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات، وما يتعلّق به من أحكام تخصّ أوقاف المسلمين في البلاد غير الإسلامية إلاّ على سبيل الإشارات الجزئية في بعض الحالات المحدودة.
والواقع اليوم أسفر عن تشابك كبير في العلاقة بين المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات، فالتداخل بينها تكاد تنمحي به الحدود، والتبادل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي أصبح تبادلا يوميا، ناهيك عن الصلات الإعلامية والمعلوماتية التي جعلت العالم ساحة واحدة على صعيد المصالح بين الناس، يتأثّر أقصى الأرض بما يحدث في أدناها من الأحداث في ذات اللحظة أحيانا. وهذا الوضع الذي آلت إليه العلاقة بين المجتمعات الإسلامية وغيرها من التداخل والتشابك يقتضي أن يتوسّع النظر الفقهي في شأن الأوقاف ليشمل الصور التي يفرزها هذا الوضع، وليمتدّ في أحكامه إلى هذه العلاقات الدولية والاجتماعية الجديدة.
ومن أبرز ما يقتضي ذلك ما آل إليه أمر الوجود الإسلامي من امتداد إلى العالم الغربي في أوروبا وأمريكا، فقد أصبح هذا الوجود تقدّر فيه أعداد المسلمين بعشرات الملايين، كما أصبح يواجه تحدّيات ومهامّ جديدة لم يكن للمسلمين بها عهد من قبل، فتعيّن إذن أن يتّجه فقه الأوقاف إلى هذه التحدّيات والمهامّ بالنظر الاجتهادي ليكون لنظام الوقف دور حضاري في خدمة المسلمين بصفة خاصّة، وخدمة العلاقات بينهم وبين غيرهم بصفة عامّة كما كان له ذلك الدور الحضاري العظيم في خدمة المجتمع الإسلامي طيلة قرون من الزمن.
فكيف يمكن أن يكون لهذا النظام الوقفي الإسلامي دور في تحقيق مقاصد الدين من خلال معالجة أوضاع المسلمين بالغرب في علاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، وفي سبيل تعزيز التعايش السلمي والشراكة الحضارية من خلال ذلك بين الشعوب والأمم؟ قد يكون الجواب على ذلك متوقّفا على ضبط مبدئي للمهامّ المطروحة على الوجود الإسلامي بالغرب، وما تتطلّبه تلك المهامّ من الوسائل، لينتهي الأمر ببيان ما يمكن أن يكون للوقف وفق أحكامه الشرعية من دور في تحقيق تلك المهامّ، وهو ما تحاول هذه الورقة الإجابة عليه.
1 ـ المهامّ المطروحة على الوجود الإسلامي في الغرب:
شهد الوجود الإسلامي بالغرب تطوّرا كبيرا منذ بعض السنوات على مستوى الكمّ والكيف جميعا. أمّا على مستوى الكمّ فعدد المسلمين بالغرب في أوروبا وأمريكا يتجاوز الستين مليونا بين مسلمين أصليين في شرق أوروبا ومسلمين جدد ومسلمين وافدين من العالم الإسلامي، ومن المدن الأوروبية ما يبلغ عدد سكّانها من المسلمين مليونين مثل مدينة باريس.
وهذا العدد مرشّح لأن يتزايد بنسب كبيرة خلال المستقبل القريب، وهو ما يجعل الوجود الإسلامي بأوروبا يتّصف بأهمّية كبيرة من حيث ما يمثّله من تداخل الثقافات وحوار الحضارات وتفاعلها.
وأمّا من حيث الكيف، فقد كان الوجود الإسلامي بالغرب إلى عهد قريب يعتبر نفسه بصفة عامّة وجودا عارضا لا يلبث أن يقضي فيه المسلمون المهاجرون أغراضهم العلمية أو الاقتصادية ثمّ يعودون إلى البلاد الإسلامية التي أتوا منها لتكون مستقرَّهم الدائم، ولكن بتتالي الأجيال الناشئة في الغرب، وباستمرائها الحياة فيه بدأ هذا الأمر منذ بعض السنوات يتغيّر شيئا فشيئا، وأصبح الوجود الإسلامي بالغرب ينحو منحى أن يكون وجودا دائما مستقرّا ثابتا وليس عرضيا ظرفيا كما كان من قبل، وأصبح الكثير من المسلمين يشعرون بأنّ هذه البلاد التي يقطنونها هي وطنهم الذي لا يعرفون وطنا غيره، أو هي وطنهم الذي اختاروه لاستقرارهم واستقرار أبنائهم من بعدهم.
وهذا التحوّل الكمّي والكيفي في الوجود الإسلامي بالغرب أدّى إلى تحوّل في أهدافه لئن لم يصبح بعد مستقرّا في الوعي العامّ لكلّ المسلمين فإنّه أصبح شاغلا مهمّا لطلائعهم من النخب ومن المنظّمات والهيئات والمؤّسسات.
ففي حين كان الهدف من هذا الوجود قديما ينزع منزعا فرديا يتمثّل في تحسين المستوى المادّي، أو في الحصول على الشهادة العلمية، أو في الفوز بأمن سياسي أصبح اليوم متّجها نحو أن يكون المسلمون بالغرب عامل حوار حضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، يأخذون فيه من كسب الحضارة الغربية ما ينهضون به في التعمير المادّي، ويعطون من القيم الإسلامية ما يساعد على معالجة المشاكل التي يعاني منها أهل الغرب لينخرطوا إذن في شراكة حضارية مع المجتمعات التي يعيشون فيها تقوم على الأخذ والعطاء لينتهي الأمر بالإسلام إلى عامل إسهام حضاري في بلاد الغرب.
لقد أصبح كثير من المسلمين الذين يعيشون بالغرب يطمحون إلى الانخراط في هذا الهدف، ولذلك فقد أصبحت كثير من منظّماتهم ومؤسّساتهم ترفعه شعارا لها، وتجتهد من أجل المضيّ فيه والعمل على تحقيقه، كما بدأت تظهر في أوروبا وأمريكا منظّمات ومؤسّسات مبنيّة على أساس يناسب تحقيق الهدف الجديد ولم يكن للمسلمين بها عهد من قبل، وذلك مثل الجامعات ومجامع الإفتاء ومراكز البحوث وما شابهها[†]، فهذه المؤسّسات إنّما هي تعبير من الوجود الإسلامي بالغرب عن تغيّر في أهدافه، وعن الاختيار من الوسائل ما يتناسب مع تلك الأهداف الجديدة.
إنّ هذا الهدف الجديد الذي يطرحه الوجود الإسلامي بالغرب على نفسه لهو هدف كبير، إذ هو هدف حضاري يهمّ الأمّة الإسلامية بأكملها، بل يهمّ العلاقة بين العالم الإسلامي والغربي جميعا، وهو بالإضافة إلى أهمّيته لم يكن للمسلمين فيه سابقة من نوعه، فالتجربة التاريخية فيه محدودة إن لم تكن مفقودة، إذ بالرغم من انتشار الإسلام في عالم الحضارات القديمة فإنّ ذلك الانتشار قد تمّ في ظروف أخرى غير الظروف التي يجد فيها الوجود الإسلامي نفسه بعالم الغرب الذي تسود حضارته العالم كلّه من حيث كان الإسلام ينتشر قديما من موقع كونه له الغلبة الحضارية على المناطق التي يكون له فيها انتشار.
وهذه الحيثيات التي تتعلّق بعظمة الهدف الذي يطمح إليه الوجود الإسلامي بالغرب، وبتغيّر الظروف في لقاء الإسلام مع العالم الغربي تستلزم لكي يتقدّم هذا الوجود نحو هدفه أن يستحدث من السبل والوسائل ما يلائم الواقع الجديد والظروف الجديدة، وهو واقع وظروف ذات طبيعة حوارية سلمية، تقوم على الأخذ والعطاء، والاستفادة والإفادة، وذلك من أجل شراكة حضارية تعمل على تحقيق الخير للجميع من مسلمين وغير مسلمين، فالوسائل التي ينبغي أن تستخدم إذن هي وسائل من جنس طبيعة تلك الظروف، وطبيعة ذلك الهدف، غير مناقضة لهما ولا متصادمة معهما.
وبالإضافة إلى ما تتطلّبه الجهود التي ينبغي أن تبذل في هذا الشأن من نظر اجتهادي يأخذ بأحكام الشرع الإسلامي من جهة، ويأخذ بمقتضيات الواقع من جهة أخرى، وما تتطلّبه من استحداث وسائل وآليات تناسب طبيعة الهدف من جهة وتتساوق مع ما يتطلّبه الواقع الغربي فيما يعمل به ويؤثّر فيه من الوسائل من جهة أخرى، بالإضافة إلى ذلك أو ممّا يقتضيه ذلك فإنّ الأمر يحتاج إلى عنصر المال بأقدار كبيرة تتجاوز بالضرورة قدرات الأفراد والجماعات من المسلمين الذين يعيشون بالغرب لتستدعي قدرات الأمّة الإسلامية بأجمعها سواء أولئك الذين يعيشون بالغرب أو الذين يعيشون بالعالم الإسلامي.
ومن مبرّرات هذا الاستدعاء للقدرات المالية للأمّة أنّ الهدف الذي يتطلّب في سبيل تحقّقه الأرصدة الكبيرة من المال هو هدف يتجاوز في مشموليته مسلمي الغرب ليعمّ الأمّة بأكملها، فهذا الهدف يطمح إلى أن يكون جسر تواصل بين المسلمين وأهل الغرب يدفع بالعلاقة بينهما إلى علاقة التعاون بعدما كانت تشوبها ألوان من التوتّرات في كثير من الأحيان، وسيكون هذا الجسر ذا اتّجاهين تمرّ منه الكسوب الحضارية الغربية إلى العالم الإسلامي، وتمرّ منه القيم الإسلامية إلى العالم الغربي، وذلك شأن من شؤون الأمّة بأكملها وليس شأنا خاصّا بمسلمي الغرب.
ولمّا كان الأمر كذلك فإنّه يصبح من الضروري استدعاء أحد الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية التي شرّعها الإسلام في أحكامه وطبّقها المسلمون في مسيرتهم الحضارية طيلة قرون، وكان لها دور عظيم في تحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك هو نظام الأوقاف.
ولمّا كان تطبيق هذا النظام في الواقع التاريخي متمحّضا أو يكاد للقيام بشؤون المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، وكانت الأحكام الفقهية الموجّهة له تعكس ذلك الواقع، فإنّ تطبيقه في واقع الوجود الإسلامي بالغرب يقتضي نظرا جديدا واجتهادا مستأنفا يستصحب فيه التجربة الماضية بأحكامها، ولكن يستحدث ما يقتضيه هذا الوضع الجديد للمسلمين من الصور التطبيقية، ومن الأحكام الضابطة لها حتى يكون هذا النظام الوقفي مسهما في تحقيق الهدف الذي وضعه الوجود الإسلامي بالغرب لنفسه وفق رؤية إسلامية صحيحة.
2 ـ مشروعية الوقف الإسلامي بالغرب:
المقصد الأعلى من تشريع الوقف هو تحقيق ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وما فيه خير الناس والبيئة الطبيعية، وذلك من خلال قنوات مالية يتمّ بها الصرف على وجوه من الخير تتحقّق بها منافع اجتماعية تشمل أفرادا أو تشمل الهيئة الاجتماعية العامّة حسب ضوابط فقهية معلومة، وليس لتلك المنافع التي هي مقصد الوقف من حدود إلاّ الحدود التي تضبطها أحكام الشريعة فيما ترسمه من فواصل بين الحلال والحرام، فكلّ منفعة حلال صغيرة كانت أو كبيرة تصحّ أن تكون مقصدا للوقف، وتستحقّ أن تدرج ضمن ما تُحبس من أجله الأموال في سبيل تحقيقها.
ولمّا كانت مصالح ومنافع المسلمين ومن يليهم ممّن لهم بهم علاقة متغيّرة ومتطوّرة بحسب ما يستجدّ من ظروف وأوضاع فإنّ الأوقاف يمكن أن تكون متطوّرة بحسب ذلك بحيث تواكب وجوه المنافع التي تتطلّبها حاجة المسلمين وفق ظروفهم المتغيّرة.
والوضع الذي عليه الإسلام والمسلمون بالغرب يعتبر من أشدّ الأوضاع تغيّرا فيما مرّ على المسلمين من تاريخ، وذلك سواء من حيث طبيعته وجودا إسلاميا كثيفا ضمن مجتمع غير إسلامي، أو من حيث طبيعة المهمّة غير المسبوقة المطروحة عليه في هذا الوضع الجديد، وذلك ما يستلزم تطويرا للنظام الوقفي يتماشى مع هذا التغيّر في وضع المسلمين بوجودهم في الغرب.
ولكن ينبغي قبل بيان ذلك الإجابة على سؤال قد يطرأ على بعض الأذهان الإسلامية، وهو سؤال يتعلّق بمدى مشروعية قيام وقف إسلامي بالغرب من حيث الأساس، فما هو الجواب على هذا السؤال؟
عُرّف الوقف بأنّه: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة[‡]، ومعناه أن يقوم المسلم بتعيين ملك من أملاكه فيبقي أصل ملكيته لنفسه وذلك هو التحبيس، ولكن يلتزم بتخصيص فوائده وثمراته وريعه للإنفاق في سبيل الله من وجوه الخير والبرّ وذلك هو التسبيل. وبهذا المعنى يكون الوقف معدودا ضمن القربات التي يبتغي بها المسلم الأجر والثواب من الله تعالى.
وقد جاء في الدين توجيه إليه، وحثّ عليه، وذلك باعتباره وجها من وجوه الإنفاق في سبيل الله تعالى بصفة عامّة كما في قوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ (آل عمران/92)، وباعتباره إنفاقا بمواصفات مخصوصة كما جاء من أنّ «عمر بن الخطّّاب أصاب أرضا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله، أصبت أرضا بخيبر لم أُصب مالا قطّ أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: إن شئت حبّست أصلها وتصدّقت بها»[§] أي وجعلت ريعها صدقة على المسلمين.
وقد تنافس الصحابة رضي الله تعالى في وقف بعض أملاكهم على منافع المسلمين استجابة لحثّ الدين على ذلك، ورجاء للثواب عند الله، حتى قيل إنّه لم يكن أحد من الصحابة ذو مقدرة إلاّ وقف[**]، ثمّ تتالى الوقف بعد ذلك في المجتمع الإسلامي حتى أصبح سنّة ثابتة مستمرّة، وقام بدور اقتصادي واجتماعي عظيم.
وإذا كان الوقف يندرج ضمن وجوه القربات التي يعبد بها المسلم ربّه فقد يستشكل على بعض المسلمين أن تتمّ هذه العبادة في مجتمع الغرب وهو مجتمع غير مسلم في عمومه، إذ الوقف يُبتغى منه على وجه العموم خدمة المجتمع، وقد تطال منفعته إذا ما جرى العمل به في المجتمع الغربي بعضا من غير المسلمين، بل قد تطال بعضا من المناشط التي تخالف توجيهات الشرع وأحكامه، بسبب التداخل الكثيف بين المكوّنات الاجتماعية في المجتمع الغربي بما في ذلك المكوّن الإسلامي، وذلك بالإضافة إلى كونه سيكون خاضعا لقوانين قد تكون مخالفة لبعض ما يقتضيه الدين من الأحكام، وذلك كلّه قد ينتهي بالوقف الذي يُبتغى به ثواب الله تعالى إلى أن يصبح طريقا للإنفاق على المحرّمات والمعاصي.
ولكنّ هذا الاستشكال يزول إذا ما عُلمت جملة من الأمور منها:
أولاً ـ أنّ الوقف لم تُحدّد فيه وجوه معيّنة من الخير يقتصر تسبيل الثمرة عليها دون غيرها من الوجوه، وإنّما أُرسل الأمر في ذلك إرسالا ليشمل الوقف كلّ ما فيه مصلحة حقيقية لبني الإنسان، فإذا كان الدين جملة إنّما جاء لمصلحة الإنسان، فإنّه تكون أيّما مصلحة من مصالحه يصحّ أن توقف لأجلها الوقوف على سبيل ابتغاء الثواب فيها، ولهذا فقد قيل في مصارف الوقف إنّها يشترط فيها أن تكون جهة من جهات البرّ، والبرّ اسم جامع للخير، وأصله الطاعة لله تعالى[††]، فكلّ نفقة تكون طاعة لله تعالى يصحّ أن تكون محلاّ للوقف؛ ولذلك فإنّه ليس بواجب على الواقف أن يعيّن مصرف الوقف بل له أن يقول: أوقفت هذا لله تعالى من غير تعيين، فيشمل إذن جميع وجوه الخير[‡‡].
ومن المعلوم أنّ المجتع الغربي والمسلمون أصبحوا جزء منه لا يخلو من وجوه لصرف الأموال يكون الصرف فيها طاعة لله، فيصحّ إذن أن توقف من أجلها الأوقاف.
ثانياً ـ ثبت في الشريعة أنّ الوقف يجوز أن يكون وقفا على غير المسلم، وذلك تأسيسا على ما ثبت من أنّ صفيّة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقفت على أخ لها يهودي[§§]، بل إنّه يجوز الوقف على عمارة الكنائس إذا كان ذلك لغرض خدمة من ينزل بها من المارّة لا لغاية تيسير التعبّد فيها[***]، وهذا كلّه يعني أنّ الوقف جائز بل مطلوب لتحقيق مصلحة للإنسان من حيث كونه إنسانا مهما كان الدين الذي يتديّن به إذا لم يكن لتديّنه ذلك مدخل في سببية الوقف، فلا حرج إذن إذا ما طال الوقف الإسلامي في المجتمع الغربي خدمة غير المسلمين من حيث ما يتحقّق لهم به مصلحة حقيقية، بل إنّ ذلك يكون مطلوبا من المطلوبات الدينية.
ثالثاً ـ إنّ المهمّة التي يطرحها الوجود الإسلامي بالغرب على نفسه كما شرحناها آنفا هي مهمّة تدخل بوضوح تحت مسمّى البرّ؛ وذلك لأنّها تهدف إلى تحقيق ما فيه خير المسلمين وغير المسلمين ممّن يعيشون في المجتمع الغربي، فأن يسعى المسلمون في الغرب إلى أن يستفيدوا من الكسب الحضاري الذي تحقّق فيه، وأن يسهموا بقيمهم الإسلامية في معالجة الكثير من المشاكل والأزمات التي يعيشها الغرب، هو جميعا من وجوه الخير للمسلمين وغير المسلمين، بل إنّه عمل ذو بعد دعوي من شأنه أن يقوى به الإسلام والمسلمون، وأن يهتدي به غير المسلمين إلى القيم الإسلامية ليؤمنوا بها أو ليستفيدوا منها، وهل من وجوه الخير للناس ما هو أرفع من العمل على هدايتهم إلى الحقّ بأن يصير الإسلام في الغرب أنموذجا حضاريا راقيا بقيمه الإنسانية وإنجازاته المادّية الراشدة؟ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ( فصلت/33)؟ ولذلك فإنّه لا مبرّر للاحتراز من أن تقوم الأوقاف الإسلامية في البلاد الغربية، وأن يطال خيرها المسلمين وغير المسلمين.
رابعاً ـ إنّ التخوّف من أن يطال الوقف بالصرف بعض الوجوه المحرّمة يمكن معالجته بالتحرّي ما أمكن، والتحوّط قدر الطاقة، وإذا ما اقتضى الأمر الخضوع في تراتيب الوقف لبعض القوانين المخالفة لأحكام الشرع على سبيل الإلزام، فإنّ ذلك سيدخل المسألة تحت حكم الضرورة وما تقتضيه من رخصة، وإذا ما شاب الوقف في خضمّ تطبيقاته في المجتمع الغربي بعض الشوائب التي تجعله في بعض مجرياته مخالفا لمقتضيات الشرع، فإنّ ذلك يمكن أن يدخل تحت مسمَّى ما تعمّ به البلوى، فإذا ما وزن ما تتحقّق به من مصلحة بما تحصل به من مفسدة جرّاء عموم البلوى، وتبيّن أنّ المصلحة أرجح، اغتفرت تلك الشوائب بمقياس أنّ ما غلبت مصلحته على مفسدته ثبتت شرعيته، فيكون إذن الوقف الإسلامي بالمجتمع الغربي أمرا مشروعا، إذ هو من وجوه البرّ التي شرّعت من أجلها الأوقاف.
3 ـ الأسس العامّة للوقف الإسلامي في الغرب:
إذا كان الوقف قد شرّع ليكون قرباتٍ في وجوه البرّ فإنّ هذه الوجوه قد تتنوّع أنواعا كثيرة بحسب ما تقتضيه حاجات المجتمع الذي تقوم فيه الأوقاف، وقد تتغيّر بحسب تغيّر الظروف الزمنية والمكانية، فتحدث حاجات للبرّ في زمن لم تكن حادثة في زمن قبله، أو في مكان لا تحدث في مكان غيره، وهو ما يدعو إلى أن تكون الأوقاف مترصّدة لحاجات المجتمع تواكب تغيّرها وما يستجدّ منها، ولا تجمد على ما جرى به العمل واستقرّت عليه العادة من الوجوه التي توقف عليها الأوقاف كما هي متناقلة في المدوّنات الفقهية المتعلّقة بهذا الموضوع من الأحكام الشرعية.
والمجتمع الغربي الذي نحن بصدد الحديث عن الأوقاف الإسلامية فيه هو مجتمع ذو خصوصيات تخالف خصوصيات المجتمع الإسلامي، وذلك سواء من حيث ذاته إذ هو قائم على أسس ثقافية وحضارية غير الأسس التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، أو من حيث الوجود الإسلامي فيه، إذ هذا الوجود هو وجود أقلّية مسلمة ضمن مجتمع غير إسلامي، وهو خاضع لسلطان قانوني مخالف إن كثيرا أو قليلا لسلطان الأحكام الشرعية.
وهذه المعطيات كلّها ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في إقامة الأوقاف الإسلامية بالمجتمع الغربي حتى تكون محقّقة للمقاصد التي من أجلها شرّعت.
وفي هذا الصدد يمكن ضبط جملة من الأسس التي يمكن أن تتأسّس عليها هذه الأوقاف جامعة بين المقتضيات الشرعية من جهة وبين المقتضيات الواقعية من جهة أخرى، ولعلّ من أهمّ هذه الأسس ما يلي:
أ ـ الأساس الدعوي:
إنّ الوجود الإسلامي بالغرب ينبغي أن يكون وجودا إسلاميا ينطبق عليه هذا الوصف باستحقاق، بحيث يقوم على تطبيق القيم الإسلامية والأحكام الشرعية بما يتأصّل على الأدلّة المعتبرة، ويستجيب لمقتضيات الواقع، ويحقّق مقاصد الدين، وهذا الوضع لئن كان مطلوبا في كلّ حال من أحوال المسلمين أينما كانوا إلاّ أنّ تحقّقه في المجتمع الغربي هو أصعب من تحقّقه في المجتمع الإسلامي، وذلك لكثرة العوامل المضادّة، وشدّة الغواية التي تغري بالتحلّل من الدين، ولتعقّد الأوضاع التي يجد المسلم نفسه فيها مطلوبا منه أن يوائمها إلى حكم الدين وقد لا يجد لذلك سابقة في التراث الفقهي.
وهذا الأمر يقتضي أن تقوم في مسلمي الغرب حركة دعوية نشيطة متأسّسة من جهة على أساس علمي اجتهادي من شأنه أن ييسّر الحلول الشرعية للمشاكل التي تعترضهم في خضمّ حياتهم في مجتمع غير إسلامي، ومتأسّسة من جهة أخرى على جهود كبيرة تبذل من أجل توعية المسلمين بمقتضيات دينهم إيمانا وسلوكا، ومن أجل ترقية التزامهم الديني ليكون التزاما صحيحا، مغالبةً لعوامل الإفراط والتفريط التي تنفق سوقها بين المسلمين في مجتمع الغرب، وهو ما يفضي إلى أن يكون المسلمون في الغرب يعيشون بحقّ حياة إسلامية في أبعادها الفردية والاجتماعية، وهو الأساس الذي ينبني عليه ذلك الهدف البعيد الذي أصبح الوجود الإسلامي بالغرب يضعه لنفسه كما أشرنا إليه سابقا.
وتهدف هذه الحركة الدعوية من جهة أخرى إلى أن يكون المسلمون بالمجتمع الغربي أنموذجا حضاريا إسلاميا ذا بعد فردي وجماعي، قادرا على أن يشهده الناس في ذلك المجتمع وأن يستميل عقولهم ليفكّروا فيه ظاهرا وفيما وراءه من أسباب القيم الإسلامية باطنا، فيستميل قلوبهم لتنشأ بينه وبينهم وشائج الوئام والاحترام، ممّا قد يفضي إلى أن يكون هذا الوجود الإسلامي عامل إسهام حقيقي في مسيرة التحضّر الغربي بما يضيف من أبعاد قيمية لتلك المسيرة في المجال الاجتماعي والأسري والبيئي على وجه الخصوص، ولـمَ لا في مجال العلم والإنجاز العمراني وهو الذي يقوم على دين يزخر بالقيم في هذا المجال، كما أنّه يضمّ نخبا من العقول القادرة على الاضطلاع بهذه المهمّة، وتلك هي العقول المصطلح عليها بالعقول المهاجرة إلى الغرب[†††]؟
إنّ هذا الدور الدعوي المطلوب من الوجود الإسلامي بالغرب هو الذي ـ فيما نحسب ـ ينبغي أن يكون أساسا من الأسس التي يقوم عليها الوقف الإسلامي بالغرب، فيكون موجَّها في منطلقاته الشرعية وفي بنائه الهيكلي وفي أغراضه بحيث يكون مستجيبا لهذا البعد الدعوي، ويكون عاملا على تحقيق أهدافه في ذات المسلمين أنفسهم وباعتبار دورهم الرسالي في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهو ما يستدعي أن تقوم جهود جدّية ترسم خططا تلائم بين الوقف كما هو محدّد في أحكامه الشرعية وبين هذا البعد الدعوي ذي الطبيعة الخاصّة، إذ هذا البعد في طبيعته هذه قد لا تكون له سابقة في فقه الأوقاف كما هو في التراث الفقهي، وهو ما يستلزم نظرا جديدا يثرى به فقه الأوقاف، ويتأسّس به هذا الفقه في شأن الوجود الإسلامي بالغرب على أساس دعوي.
ب ـ الأساس الحضاري:
إنّ الوجود الإسلامي بالغرب مطلوب منه أن يكون أنموذجا حضاريا إسلاميا، تتمثّل فيه القيم الإسلامية الكبرى، سواء على المستوى الإنساني أو على المستوى التعميري، وذلك في سبيل أن يسهم هذا الأنموذج في إثراء الحضارة الغربية، وفي ترشيدها في بعض مظاهر قصورها، كما في سبيل أن يكون بلاغا للناس يعبّر عن الدين في قيمه العقدية والأخلاقية والتشريعية، ويخاطبهم بما يقنعهم في سبيل أن يستفيدوا منها إذا ما اقتنعوا به نمطا عمليا يؤدّي بهم إلى الاقتناع به نظاما للحياة عقديا وسلوكيا وحضاريا.
وهذا الدور المطلوب يستلزم أن يتّجه المسلمون في الغرب بتديّنهم إلى القضايا الكبرى الأساسية ذات البعد الاجتماعي والإنساني العامّ، إضافة إلى التديّن الفردي المتعلّق بخاصّة النفس، من التزام بالعبادات وبمكارم الأخلاق وما هو في حكمها، وذلك بأن يتبنّى المسلمون القيم التي من شأنها أن تسهم في البناء الحضاري إنشاء وتصحيحا، وأن يجعلوا منها مشاريع عملية تنجز ذلك البناء وفق التوجيه الإسلامي، من مثل قضايا التربية والأسرة، والتكافل الاجتماعي، والبحث العلمي، والحفاظ على البيئة، فتصير هذه القضايا وأمثالها همّا أساسيا من هموم المسلمين، يتنادون للنظر الاجتهادي فيها، ويتعاونون على إنشاء المشاريع فيها، ويعملون على الإنجاز الحضاري من خلالها.
ومثل هذه القضايا فيما تتطلّبه من جهود وما تقتضيه من تكاليف تفوق قدرات الأفراد وجهودهم، وتتطلّب التعاون الجماعي. والوقف الإسلامي يمكن أن يقوم بدور مهمّ في هذا الشأن، إذ به تتجمّع الأموال بالمقادير الكافية، وبه تُضمن الاستمرارية في التمويل، إذ الوقف يقوم في جوهره على الاستمرار، فتوجيهه إذن هذه الوجهة من شأنه أن يكون أكثر فعالية في تحقيق الأهداف الكبرى للوجود الإسلامي بالغرب كما شرحناها سابقا، وأمّا إذا ما وُجّه الوقف نحو المسائل الجزئيّة الصغيرة كما هو عليه الأمر في أكثره بالبلاد الإسلامية فإنّ مردوده سيكون محدودا، وإسهامه في تحقيق تلك الأهداف سيكون ضعيفا، وإذن فإنّ هذا البعد الحضاري جدير بأن يكون أحد الأسس التي يقوم عليها الوقف الإسلامي بالغرب.
ج ـ الأساس الجماعي:
يعيش المسلمون في الغرب وضعا من التديّن ينطوي على صعوبة بالغة؛ ذلك لأنّ أسباب الغواية قويّة غلاّبة، وهو ما يستدعي أن يكون البعد الجماعي في تديّن هؤلاء المسلمين بعدا مرعيّا بأقدار كبيرة تفوق ما يكون عليه الأمر بالنسبة للمسلمين في البلاد الإسلامية، إذ به يمكن أن يتمّ التآزر بين الأفراد، والرعاية من قِبل بعضهم لبعض، ومن قِبل الهيئة الاجتماعية للجميع، فيكون ذلك عاملا مقاوما لغلواء الغواية العارمة، اعتصاما للفرد بالمجموعة في مستويات مختلفة من المستويات الاجتماعية، وإنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية كما جاء في الحديث النبوي[‡‡‡].
والتدين الجماعي إنّما يتمّ من خلال المؤسّسات والمنظمات والمراكز الاجتماعية والثقافية والعلمية والتربوية والخيرية، ومن خلال المشاريع الكبيرة الاقتصادية والعمرانية وسواها، تلك التي تستوعب العدد الكبير من الأسر المسلمة والأفراد المسلمين، وبهذه المؤسّسات والمشاريع يمكن أن يصبح المسلمون كلّهم أو أغلبهم منخرطين اجتماعيا في هذا الحقل أو ذاك من حقول الحياة العامّة، ومن خلاله يمارسون تديّنهم شعائرَ تعبّدية أو أعمالا اقتصادية، أو مناشط ثقافية، أو ممارسات ترفيهية، بحيث يجد الفرد المسلم نفسه مرتبطا على نحو أو آخر بالجماعة المسلمة ارتباطا اجتماعيا يرقّي من أدائه الديني، ويحفظه من الذوبان في خضّم مجتمع تحكمه ثقافة وقيم غير إسلامية، وإن ييسّر له الاندماج الإيجابي مع ذلك المجتمع.
وهذا الأمر يستدعي أن يتّجه الوقف الإسلامي بالغرب وجهة اجتماعية تعمل على تمويل المؤسّسات والمشاريع ذات الصفة الاجتماعية كما وصفناه آنفا، وهو قادر بمقتضى صفة الديمومة الغالبة فيه على أن يضمن لها الاستمرارية بعد الإنشاء، والحال أنّ الكثير إن لم يكن الأكثر ممّا يقوم من هذه المؤسّسات والمشاريع بجهود غير وقفية سرعان ما يؤول إلى الانحلال، أو إلى ضعف يقعد به عن أهدافه لعدم قدرته على الاستمرارية في التموّل الذي يقتضيه أداء مهامّه وتحقيق أهدافه[§§§].
وممّا يعزّز من هذه الوجهة الجماعية للوقف الإسلامي بالغرب أنّ الفرد في الأغلب الأعمّ من المجتمعات الغربية مكفول من قِبل الدولة في حاجاته الأساسية بطريق التضامن الاجتماعي الحكومي أو بالمؤسّسات الاجتماعية، وهو ما يجنّبه الخصاصة عند العجز بمرض أو غيره، فذلك من شأنه أن يجعل الوقف يعدل عن التحبيس لفائدة الأفراد من الأقارب وغيرهم، وهو ما كان معمولا به على نطاق واسع في تاريخ الأوقاف، ليتّجه الوجهة الجماعية، وليكون هذا البعد الجماعي أحد الأسس المهمّة للوقف الإسلامي بالغرب.
د ـ الأساس الواقعي العملي:
ليس الوقف في أصله إلاّ قد شرع لسدّ حاجات المسلمين ومن يعيشون معهم من سائر الناس أفرادا أو جماعة، وهي الحاجات المتعلّقة بحاضرهم أو مستقبلهم مراعاة لتغيّر تلك الحاجات في أنواعها من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان؛ ولذلك فإنّه ليس من مهمّة الوقف أن يُرصد لتحقيق أغراض لا علاقة لها بالحاجة الواقعية وإنّما هي افتراضات موهومة، أو ضروب من التسلية المترفة التي لا تتعلّق بها حاجة معتبرة، وذلك على سبيل المثال كأن يوقف واقف في إحدى القرى مالا لإنشاء ملعب ترفيهي والحال أنّ القرية ليس بها مدرسة أو مستشفى، أو كأن يوقف واقف مالا لأجل الإعداد لمختبر علمي سيقام غدا على سطح القمر لمّا يصبح ذلك أمرا ميسورا، فكلّ هذه الأغراض وما شابهها هي أغراض موهومة لا تتعلّق بها حاجة معتبرة، فلم يشرع الوقف من أجلها.
والحاجات الواقعية للأفراد والمجتمعات قد تتغيّر من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، وذلك لتغاير الظروف والملابسات والأحوال التي تكون عليها المجتمعات.
والمسلمون في الغرب تختلف ظروفهم في مجملها عن ظروف المسلمين في البلاد الإسلامية، وحاجاتهم تختلف عن حاجاتهم في شطر كبير منها، وهو ما يدعو إلى العمل على أن يؤسّس الوقف في البلاد الأوروبية على أساس عملي، يقع الانطلاق فيه من واقع الوجود الإسلامي في الغرب من حيث مطالبه العملية ومشاكله الحقيقية النابعة من خصوصية ظروفه وأوضاعه، دون أن يكون مؤسّسا على ما يستصحبه من مطالب المسلمين ومشاكلهم في البلاد الإسلامية، فيكون تأسيسه في البلاد الأوروبية استنساخا لتأسيسه في البلاد الإسلامية بالرغم من تفاوت المطالب والحاجات العملية بين الوضعين.
إذا كان الوقف في البلاد الإسلامية على سبيل المثال يُوجَّه في شطر كبير منه إلى الوجوه الخيرية لإعالة المحتاجين في ضرورات حياتهم فإنّ هذا الأمر لا يشكّل مطلبا عمليا في البلاد الغربية باعتبار أنّ الدولة متكفّلة بذلك على نحو موف بالغرض، وإذا كانت المدرسة في البلاد الإسلامية لا تكون في الغالب غرضا وقفيا باعتبار أن الدولة هي التي تقوم على توفيرها وتمويلها، وهي مدرسة تتعهّد بالتربية الإسلامية أو المفروض أن تكون كذلك، فإنّ الأمر مختلف في البلاد الغربية، إذ الوجود الإسلامي في أشدّ الحاجة عمليا إلى هذه المدرسة، وذلك لأنّ الدولة لا تقوم بهذه المهمّة بناء على طبيعتها العلمانية، فينبغي أن يكون الوقف قائما على هذه الحاجة، ملبّيا لهذا المطلب، وهكذا يكون الوقف موجّها لتلبية الحاجات الواقعية العملية للوجود الإسلامي بالغرب، وللمجتمع الذي يحتضنه.
4 ـ مصارف الوقف الإسلامي في المجتمع الغربي:
إنّ مصارف الوقف إذا كانت معلومة بصفة جملية فيما تشمله من وجوه الخير، وكما جرت به العادة في المجتمعات الإسلامية، فإنّها في المجتمع الغربي ينبغي في نطاق ذلك العموم أن تكون متناسبة مع ما يتطلّبه الوضع الخاصّ الذي عليه هذا المجتمع من حيث وجود المسلمين فيه قلّةً ضمن كثرة غير إسلامية، وأن تكون متناسبة مع الأهداف التي يتطلّع إليها الوجود الإسلامي بالغرب كما شرحناها آنفا؛ ولذلك فإنّه يمكن أن تكون هذه المصارف مغايرة بعض التغاير لما هو معهود في المجتمعات الإسلامية، إمّا بصرف العناية إلى بعض منها لم يكن محلّ اهتمام كبير فيها، وإمّا باستحداث مصارف جديدة لم تكن معهودة ولكن اقتضتها أوضاع المسلمين في المجتمع الغربي الذي يعيشون فيه. ولعلّ من أهمّ هذه المصارف ما يلي:
أ ـ المؤسّسات التربوية:
لئن كان التعليم بالمجتمع الغربي تكفله الدولة بصفة مجانية في مراحله الأولى على وجه العموم، وفي مراحله الجامعية في أغلب الدول الأوروبية، إلاّ أنّ هذا التعليم المكفول هو تعليم قائم على مبدإ العلمانية، أمّا التعليم الديني فإنّه في أغلب البلاد الغربية يُترك لأهل الأديان يتدبّرون أمره بجهودهم الذاتية[****]؛ ولذلك فإنّ الضرورة تدعو إلى أن يتوجّه الوقف الإسلامي لإنشاء وتدعيم المؤسّسات العلمية التربوية التي تتلقّى فيها الناشئة المسلمة العلوم الشرعية، وأصول التربية الإسلامية، وذلك لضمان استمرارية الوجود الإسلامي على صفته الإسلامية ثقافة وتربية.
وممّا يؤكّد ذلك شدّة الفتنة التي تتعرّض لها الناشئة المسلمة في المدارس العامّة، سواء من حيث المفاهيم والتصوّرات أو من حيث السلوك التربوي. وممّا يؤكّده أيضا الضعف الاقتصادي لأفراد المسلمين بديار الغرب، وهو ما يحول بينهم وبين تأسيس مثل هذه المؤسّسات بمبادرات فردية، فيكون الوقف في بعده الجماعي التعاوني كفيلا بأن يسدّ ولو بمقدار هذه الحاجة من حاجات المسلمين بالغرب.
وإذا كانت المؤسّسات التعليمية التأسيسية هي الضرورة الأولى التي تحتاج إلى دعم الوقف باعتبار أنّها تضمن القاعدة التربوية الأولية للناشئة المسلمة، فإنّ المؤسّسات الجامعية تعتبر هي أيضا حاجة ملحّة من حاجات المسلمين؛ وذلك لأنّها يتوقّف عليها تكوين الأطر القادرة على أن تقوم بمهمّة التربية الدينية في سمتها الصحيح الجامع بين التأصيل الديني وبين مقتضيات الانتماء إلى المجتمع الأوروبي، والأطر القادرة على توجيه الحياة الإسلامية في الغرب نحو الأهداف الحضارية الكبرى التي أشرنا إليها سالفا، وذلك بما تتهيّأ به لأن تتبوّأ مقامات الاجتهاد الديني الذي يضمن السيرورة نحو تلك الأهداف برشد، فلا يميل الوجود الإسلامي بالغرب إلى الذوبان والتلاشي في المجتمع الغربي، ولا إلى الانعزال السلبي عنه.
ب ـ المؤسّسات الاجتماعية:
إنّ حاجة المسلمين في المجتمع الغربي إلى تنمية العلاقات الاجتماعية وترشيدها هي حاجة في غاية الضرورة؛ ذلك لأنّ المسلمين في هذا المجتمع يعيشون تباعدا فيما بينهم، إذ هم قلّة متناثرة في مجتمع كثيف مترامي الأطراف، فالروابط بينهم ينبغي أن تبذل فيها الجهود الكبيرة من أجل الوصل بين هذا الوجود المتناثر، وهي جهود تفوق تلك التي تبذل في المجتمع الإسلامي لذات الغرض، إذ المسلمون هناك تجمعهم لحمة واحدة، ونسيج رابط، وهم متجاورون جغرافيا ودمويا ممّا يسهّل أمر الترابط بينهم بصفة تشبه التلقائية.
ومن جهة أخرى فإنّ المسلمين بالمجتمع الغربي تفصلهم عن سائر مكوّنات المجتمع الأخرى فواصل كثيرة ثقافية ونفسية وغيرها، وعليهم بمقتضى الأهداف التي شرحناها سابقا أن يجتهدوا في إزالة تلك الفواصل، وأن يعملوا على التواصل الاجتماعي مع المحيط الذي يعيشون فيه، وأن يقوّوا علاقات المواطنة مع أبناء مجتمعهم الجديد الذي يعيشون فيه من أجل تحقيق الأهداف المرجوّة من وجودهم في المجتمع الغربي.
وهذا التواصل المطلوب بين المسلمين وبين مجتمعهم الغربي يستلزم إنشاء مؤسّسات تكون مهمّتها العمل من أجل تحقيقه وتطويره وتوجيهه الوجهة الرشيدة الموفية بالغرض، وذلك من مثل المراكز الاجتماعية، والنوادي الثقافية، ودور الشباب، والمؤسّسات الخيرية، والجمعيات الدعوية، وما شابه ذلك من المؤسّسات.
وذلك كلّه يحتاج إلى أموال طائلة ليست الدولة بباذلة إياها إذ هي خارج دائرة اختصاصها المباشر، وليس أفراد المسلمين بمقبلين على إنشائها إذ هي ليست بذات أغراض استثمارية ربحية، فلا يبقى إلاّ أن تكون موكولة للهمّ الجماعي الذي يمكن للوقف أن يسهم بدور فاعل في توجيهه نحو إنشاء مثل تلك المؤسّسات، فيتسابق المسلمون من داخل العالم الغربي ومن خارجه ليوقفوا الأموال من أجل بناء وجود إسلامي بالغرب قادر على مدّ جسور التعاون مع المجتمع الغربي في شراكة حضارية واعدة.
ج ـ المؤسّسات الدعوية:
من أوكد ما يحتاج إليه المسلمون بالغرب في سبيل تحقيق أهداف وجودهم فيه المؤسّسات الدعوية التي تنهض بالتعريف بالإسلام، وعرضه على الناس في صورته الصحيحة المشرقة معتقدا وسلوكا وحلولا عملية للمشاكل التي يعاني منها الغرب خصوصا والإنسانية عموما.
وليس هذا الجهد الدعوي المطلوب بواقف عند الجهد الموجّه للمسلمين لحفظ دينهم في مجتمع الغرب، وإنّما هو يتعدّى ذلك ليتّجه إلى أهل الغرب من غير المسلمين، يشرح لهم حقيقة الإسلام ويعرضها عليهم، وينخرط معهم في حركة حوارية فكرية ثقافية حضارية بتوجيه القيم الإسلامية، لينتهي الأمر إلى أن يوضع الإسلام ممثّلا في قيمه النظرية العقدية والسلوكية العملية موضع المشروع الذي يسهم به المسلمون في الشراكة الحضارية مع المجتمع الذي يعيشون فيه كعامل هداية إلى الحقّ والخير، ومنهج تنمية بشرية شاملة.
والمؤسّسات الكفيلة بأن تقوم بهذا الدور الدعوي على نحو ما وصفنا لا تكون في المجتمع الغربي ذات فعالية إلاّ إذا أخذت بالطرق والمناهج التي تتلائم مع البنية الثقافية والحضارية لأهل ذلك المجتمع، وهو ما يستلزم من بين ما يستلزم أن تتأسّس على طرز رفيعة من المعدّات المادّية، ومن المناهج الإدارية، ومن الوسائل التبليغية، وكلّ هذا يتوقّف على مبالغ من التمويل لا يمكن أن تنهض بها إلاّ الجهود الجماعية التي تحرّكها الدوافع الدينية، وعلى رأس ذلك تأتي جهود الأوقاف التي يتنادى فيها المسلمون ليوقفوا أموالهم على مثل هذه المؤسّسات التي تسهم أيّما إسهام في تحقيق الخير للمسلمين ولغيرهم في المجتمع الغربي.
د ـ مؤسّسات البحث العلمي:
الوجود الإسلامي بالغرب على النحو الذي أصبح عليه الآن هو تجربة جديدة لم يكن للمسلمين بها عهد من قبل؛ ولذلك فإنّ المضيّ في تفعيل هذا الوجود على النحو الذي يحقّق الأهداف المبتغاة منه كما وصفناها هو عمل يشقّ طريقه على غير مثال سابق، وعلى غير اهتداء بموروث فقهي وحضاري سالف، وهو ما يستلزم أن يكون الأمر فيه مبنيا على الدرس العميق والبحث الدقيق لتبيّن السبل الصحيحة التي تؤدّي به إلى أهدافه، ولتفادي المزالق التي يمكن أن تعترض طريقه فتحيد به عن مبتغاه، وتطوّح به إلى تطرّفات ذات اليمين وذات الشمال، توقعه في الصدام من حيث أُريد الوئام، وتنتهي به إلى الفتنة الحضارية من حيث كان الهدف الشراكة الحضارية لما فيه خير الجميع مسلمين وغير مسلمين، أو توقعه في انحلال لا يبقى معه شيء ممّا يمكن أن يُسمّى إسلاما، فتفوت إذن فرصة تلقيح منتج للحضارة الغربية بقيم إسلامية نظرية وعملية خالدة فيها الحلول للكثير من المشاكل التي تعاني منها الحضارة الغربية.
ولا يمكن أن بقوم بهذا الجهد الدراسي البحثي إلاّ مراكز البحوث المتخصّصة في هذا الشأن، ولا يخفى أنّ الإنجاز الحضاري الراهن في الغرب إنّما هو مدين في شطر كبير منه إن لم يكن الأكبر للمراكز البحثية التي أصبحت في حياة الغرب عمودا أساسيا من أعمدة البناء الحضاري.
إنّ هذه المراكز البحثية المتخصّصة هي الكفيلة بأن تدرس واقع المجتمع الغربي في أبعاده المختلفة، وتدرس الحلول الشرعية ذات العلاقة بذلك الواقع، لتنتهي إلى فقه يجمع بين فقه في الواقع وفقه في الدين يقدّم الفتاوى الحضارية الكبرى المتعلّقة بالوجود الإسلامي بالغرب من حيث انتصابه وجودا إسلاميا حقّا، ومن حيث إسهامه إسهاما فاعلا في المسيرة الحضارية للمجتمع الغربي بقيم إسلامية نظرية وعملية ترشّد من تلك المسيرة، وتدفع بها إلى ما فيه خير الإنسانية. وهذه المراكز البحثية باعتبارها مصلحة مهمّة من مصالح المسلمين في الغرب وغير المسلمين فيه ينبغي أن تكون مصرفا من مصارف الوقف في هذه الديار، فهي من وجوه البرّ الخليقة به، والمثمرة الثمار الحميدة منه[††††].
قد تكون هذه المصارف أو بعض منها غير معهودة أن تكون مصارف للوقف في البلاد الإسلامية بلهَ في الموروث الفقهي الإسلامي، ولكن اقتضتها الوضعية التي عليها الوجود الإسلامي بالغرب، والملابسات الخاصّة التي يعيشها المسلمون بتلك الديار، وهي بسبب ذلك قد تكون غريبة بعض الغرابة عن الثقافة الوقفية كما استقرّت عليها الذهنية الدينية للمسلمين أو للأكثر منهم، وذلك عندما انتهى أمرهم في الأزمان الأخيرة إلى الجمود الفقهي والانحدار الحضاري[‡‡‡‡]، فالمسلمون اليوم بصفة عامّة قد تعوّدوا على أن يوقفوا أموالهم على المساجد والشعائر الدينية المختلفة، ولكن ليس في وعيهم الديني بالقدر الكافي أن يوقفوها على مراكز البحوث، أو على المؤسّسات الاجتماعية، أو على المنشآت الدعوية، وذلك ما يقتضي بذل جهود كبيرة في التوعية الدينية حتى يرتقي وعي المسلمين إلى درجة أن تصبح المرافق الحضارية التي ذكرنا بعضا منها مصارف جديرة بأن يشملها الوقف تقرّبا بها من الله تعالى كما يُتقرّب منه بالوقف على المساجد ومرافق الحجّ وسائر الشعائر التعبّدية.
5 ـ تنظيم الوقف الإسلامي بالغرب:
إنّ المهمّة المطروحة على الوجود الإسلامي بالغرب، والدور المرتجى من الوقف أن يقوم به في تحقيقها يقتضيان أن يكون هذا الوقف للقيام بدوره المأمول مؤسّسا على أسس منظّمة، غير متروك للعفوية والتلقائيّة، فالمهمّة أكبر من أن تُنجز بالمبادرات الفردية ذات الطابع التلقائي، وإنّما هي تتطلّب إقامة مؤسّسات وقفية ذات تنظيم من الطراز العالي في كيفه وكمّه، وذلك سواء من حيث الهيكل التنظيمي، أومن حيث السير الإداري، أو من حيث الإطار المشرف، أو من حيث التصرّف الاقتصادي، ففي كلّ ذلك ضمان لنجاعة الأداء، وللتقدّم في تحقيق الهدف المنشود.
وربّما يكون من أهمّ صفات هذا التنظيم الذي ينبغي أن ينخرط فيه الوقف الإسلامي بالغرب ما يلي:
أ ـ الصفة القانونية:
كلّ وقف إسلامي يقوم بالغرب يُعتبر مؤسّسة من مؤسّسات المجتمع المدني للبلاد التي يقوم فيها؛ ولذلك فإنّه ينبغي أن يكون تنظيمه قائما وفق قوانين تلك البلاد، خاضعا لمقتضياتها، مستفيدا من حقوقه فيها، ومؤدّيا لواجباته إزاءها على أقدار عالية من الوضوح والصدق.
وإذا كان بعض ما يقتضيه الوقف من الإجراءات يتناقض شرعيا مع تلك القوانين فينبغي أن يُتدبّر أمره إمّا بمعالجة قانونية، أو بحلول اجتهادية تزيل ذلك التناقض، وتنتهي إلى أن تكون مؤسّسة الوقف مؤسّسة قانونية في تأسيسها ابتداء، وفي مسيرة أعمالها بعد ذلك.
وهذا المسار القانوني لمؤسّسة الوقف يضمن لها الاستمرارية والدوام، ويجنّبها المخاطر في بلاد يطبّق فيها القانون بأقدار من الصرامة، ويتعرّض المخالف له لمحاسبات قد تنتهي به إلى التلاشي كما هو مشاهد في حالات كثيرة، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا الالتزام القانوني من شأنه أن يجلب للمؤسّسة الوقفية الاحترام من قِبل الدوائر الرسمية ومن قِبل عموم الناس على حدّ سواء، وهو ما يُعتبر أحد المداخل المهمّة للتفاعل مع المجتمع في دوائره المختلفة تفاعلا إيجابيا يتمّ فيه تبليغ قيمة من القيم الإسلامية، وهي قيمة التعاون من أجل ما فيه خير المجتمع بأكمله كما تمثّلها مؤسّسة الوقف.
ب ـ الصفة المؤسّسية:
المقصود بهذه الصفة التنظيمية أن ينتظم الوقف الإسلامي بالغرب على هيئة مؤسّسة ذات كيان معنويّ مستقلّ، احترازا في ذلك من المنظّمات المنتسبة إلى أفراد يكونون بصفتهم الفردية هم المتصرّفين فيها بما يشبه تصرّف المالك في ملكه. إنّ هذه الصفة المؤسّسية من شأنها أن تعطي للوقف أبعادا اجتماعية أوسع، وأن تجعله ممتدّا في دوائر لا تمتدّ إليها المؤسّسات ذات الطابع الفردي، كما من شأنها أن تجعل الثقة فيه أمتن، والانتماء إليه والتعاون معه أقوى، إذ نظرة المجتمعات الغربية إلى المؤسّسات الجماعية أكثر اطمئنانا منها إلى المؤسّسات الفردية، كما أنّ تعاملهم معها يكون في الغالب أكثر إيجابية وإثمارا، وكذلك فإنّه لا شكّ أنّ الوقف حينما يكون على هذا النحو فإنّ المسلمين سيكونون أكثر له دعما، وأوسع له تمويلا، فالناس يثقون في المؤسّسة الجماعية بأكثر ممّا يثقون في المؤسّسة الفردية.
ومن مقتضيات المؤسّسية أن تكون إدارة المنظّمة التي تتّصف بها إدارة جماعية تقوم على الشورى والحوار، وفي حال المؤسّسة الوقفية يكون هذا المقتضى أوكد وألزم؛ ذلك لأنّ الوقف يقوم على أموال دفعها أصحابها قربى لله تعالى في وجوه البرّ، فهي ذات بعد إيماني وبعد دنيوي في آن واحد، فالرشد في التصرّف فيها هو أيضا يكتسي الصبغة الإيمانية والدنيوية معا، والرشد في التصرّف إنّما يكون أعلى في حال التشاور والإدارة الجماعية، وذلك كلّه فضلا على كون المؤسّسة الوقفية تحتاج في طبيعتها إلى تعاون بين فريق جماعي من أهل الرأي يجمع بين المتخصّصين في الإدارة الاقتصادية أو الاجتماعية بحسب طبيعة الوقف وبين المتخصّصين في الفقه الشرعي، إذ المؤسّسة الوقفية هي في أساسها مؤسّسة شرعية، فلا تكفي فيها إذن المقاييس العلمية الإدارية، وإنّما تستلزم أيضا مقاييس علمية شرعية، ولذلك فإنّ الشورى فيها ألزم منها في غيرها.
ج ـ الصفة الاندماجية:
إنّ المؤسّسة الوقفية بالغرب قد تكون نازعة منزع الانطواء على نفسها، أو على الدوائر الضيّقة من المسلمين الذين تتعلّق بهم ما يحدّده الوقف فيها؛ وذلك لأنّه قد يذهب الظنّ ببعض المسلمين إلى أنّ الوقف باعتباره ذا بعد ديني فالمطلوب منه أن يقتصر في علاقاته وخدماته على دائرة المسلمين دون غيرهم، خاصّة وأنّ تجربة الوجود الإسلامي بالغرب تجربة جديدة كما أشرنا إليه، والوقف الإسلامي بالغرب هو تجربة أجدّ من بداية ذلك الوجود نفسه، وبذلك الظنّ فإنّ المؤسّسة الوقفية سوف تكون محدودة الأثر، ضعيفة الإسهام في تحقيق الأهداف العليا للوجود الإسلامي بالغرب كما رسمنا ملامحها سالفا.
ولكي تكون هذه المؤسّسة الوقفية الإسلامية بالغرب مؤسّسة فاعلة، ومنخرطة في أهداف الوجود الإسلامي ينبغي أن تُبنى على أساس اندماجي في المجتمع الذي توجد فيه، وذلك بأن تكوّن لنفسها شبكة من العلاقات تمتدّ بها إلى أوسع ما يمكن من دوائر المجتمع بمكوّناته الإسلامية وغير الإسلامية، مع اشتراك في طبيعة ذلك الامتداد بين أولئك وهؤلاء في بعض المجالات، واختلاف بينهم في مجالات أخرى، وذلك بحسب ما تقتضيه الاعتبارات التي تقيّد الوقف بوصفه مؤسّسة دينية.
وإذا كنّا نجد مبرّرا لهذه الصفة الاندماجية فيما أثبتناه سابقا من أنّ الوقف يصحّ شرعا أن يكون غير المسلمين أحد مصارفه على وجه البرّ، فإنّ المبرّر الأكبر لذلك هو البعد الدعوي الذي ينبغي أن يكون بعدا أساسيا من أبعاده، وذلك بأن تكون المؤسّسة الوقفية أنموذجا حضاريا مهما كان الغرض الذي من أجله أقيمت، يشهد الناس منافعه الاجتماعية، ويتفاعلون معه التفاعل الإيجابي الذي تتحقّق فيه الشراكة الحضارية بين المسلمين والمجتمع الغربي الذي يعيشون فيه.
د ـ الصفة الاستثمارية:
المؤسّسة الوقفية لئن كانت مؤسّسة ذات صبغة دينية وذات هدف اجتماعي إلاّ أنّها أيضا مؤسّسة ذات خصائص اقتصادية، إذ هي في حقيقتها قائمة على أموال موقوفة على وجوه البرّ.
وهذه الخصائص الاقتصادية إذا أُضيفت إليها الصفة الإنفاقية التي هي غاية الوقف أصبح الاستثمار أحد الخصائص الأساسية التي ينبغي أن ينبني عليها تنظيم المؤسّسة الوقفية بالغرب، فلكي تقوم مؤسّسة الوقف بدورها المطلوب، ولكي تستمرّ على القيام بذلك الدور ينبغي أن يكون الاستثمار أحد العناصر الأساسية في بنائها، وذلك بأن يكون من بين أجهزتها الإدارية جهاز يهتمّ بتنمية أموالها، وإثراء مواردها، فتدخل بذلك إذن في الدورة الاقتصادية للبلد الذي توجد فيه، مع ما يترتّب على ذلك من التبعات.
ولعلّ من أهمّ تلك التبعات الدور التنموي الذي ينبغي أن تقوم به مؤسّسة الوقف بالمجتمع الغربي، إذ هي مؤسّسة بمقتضى صفتها الاستثمارية ينبغي أن تكون مسهمة في النشاط التنموي الاقتصادي للفضاء الذي تعيش فيه، وأن تكون ممارسة لذلك بصفة إيجابية تنتج الخير وتبتعد عن كلّ ألوان الاستغلال غير الشرعي من احتكار غير مشروع أو أيّ عيب من العيوب الضارّة اقتصاديا.
وذلك المسار لا تقتضيه فقط القيود الشرعية التي تتقيّد بها مؤسّسة الوقف، وإنّما يقتضيه أيضا البعد الدعوي لهذه المؤسّسة، إذ هي مطلوب منها أن تكون أنموذجا يشهد الناس صلاحه وخيريته في حياتهم اليومية بعيدا عن أيّ شبهة قد تضرّ بسمعته، وذلك ليكون صلاحه العملي المشهود مدخلا للاقتناع بخلفياته الدينية التي عليها تأسّس، وبها يتوجّه.
ومن المعلوم أنّ هذه الصفة الاستثمارية التي غايتها الربح حينما تُقرن بهذا البعد الشرعي الدعوي فإنّه يتكوّن من ذلك معادلة صعبة طرفاها النزوع إلى تحقيق الربح من جهة مع ما يقتضيه ذلك من انخراط في ممارسات السوق التي قد يكون بعضها مشبوها، والقيام بدور اجتماعي دعوي من جهة أخرى مع ما يقتضيه ذلك من النزاهة المطلقة ، ولكنّها معادلة ضرورية التحقّق ليكون الوقف الإسلامي بالغرب بالغا أهدافه التي من بينها تعزيز التعايش السلمي بين الشعوب على اختلاف أعراقها وأديانها.
إذا ما اتّجه الوقف الإسلامي بالغرب الاتّجاه الدعوي الحضاري كما رسمنا بعضا من ملامحه في هذه الورقة فإنّه يمكن أن يكون عاملا مهمّا من العوامل المقرّبة بين الحضارتين الإسلامية والغربية، وبالتالي بين المسلمين وأهل الغرب بصفة عامّة، وذلك بما يصير به الوقف بمقتضى مواصفات ذلك الاتّجاه أنموذجا حضاريا يحقّق من جهة المقاصد الحضارية الإسلامية في خدمة المجتمع المدني، والتكافل بين مكوّناته المختلفة، ويحقّق من جهة أخرى مشهدا معروضا على أهل الغرب كفيلا بأن يكون محلاّ لثقتهم فيستفيد منه من أراد الاستفادة منهم، وكفيلا بأن يكون لذلك جسر تواصل اجتماعي وثقافي بينهم وبين المسلمين، وذلك مكسب عظيم، إذ به يتوطّد التعايش السلمي بين الأمم والشعوب في عصر احتدّت فيه الصراعات، واستشرت فيه العداوات.
إنّ الوقف الإسلامي قام في تاريخ المسلمين بدور عظيم في خدمة المجتمع حضاريا في مختلف الوجوه: اقتصادا، وتربية وتعليما، وصحّة، وثقافة، فقوي به المجتمع، وحافظ على قوّته لمّا عصفت بالأمّة عواصف السياسة والفتن، واشتدّت به اللحمة بين مكوّنات المجتمع من الأفراد والجماعات والفئات.
وهذا الدور يمكن أن يقوم به الوقف الإسلامي على المستوى الدولي في عالم امتدّت فيه الأمم والشعوب إلى بعضها، فلم يعد يفصلها فاصل، واختلط المسلمون بغيرهم في كلّ القارّات، فيمكن إذن أن يُطوّر نظام الوقف ليقوم بدور في تقوية اللحمة بين المسلمين وبين المجتمعات غير الإسلامية التي يعيشون فيها، وليكون بالتالي جسر تواصل ثقافي حضاري بين المسلمين بصفة عامّة وبين غيرهم من الأمم والشعوب
والله ولي التوفيق،،،
[*] بجث مقتبس من كتابي ُ« الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي بالغرب »
[†] نذكر من ذلك على سبيل المثال: المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في فرنسا، ومركز البحوث والدراسات الإسلامية بها، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بإيرلندة، ومجلس الإفتاء بالولايات المتّحدة.
[‡] هذا هو التعريف المشهور للوقف، راجع مثلا: ابن قامة ت المغني:5 /597 ( ط الجمهورية، مصر/ مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. د.ت )، وراجع تعاريف أخرى في: عبد الستار الهيتي ـ الوقف ودوره في التنمية: 14 ( ط وزارة الأوقاف ،قطر 1998 )، والزحيلي ـ الفقه الإسلامي وأدلّته: 10/ 7599 ( ط 4دار الفكر، دمشق 1997)
[§] أخرجه البخاري ـ 2/982 ( ط3 دار ابن كثير، اليمامة، بيروت 1987)
[**] ابن قدامة ـ المغني: 5/599.
[††] الزحيلي ـ الفقه الإسلامي وأدلّته: 10م7645
[‡‡] راجع: أبو البركات الدردير ـ الشرح الصغير على أقرب المسالك :5/385. ( ط الحلبي، القاهرة، د.ت)
[§§] راجع: ابن قدامة ـ المغني: 5/ 646.
[***] راجع: ابن قدامة ـ المغني : 5/646 الزحيلي ـ الفقه الإسلامي وأدلّته: 10م7645
[***] راجع: أبو البركات الدردير ـ الشرح الصغير على أقرب المسالك :5/385. ( ط الحلبي، القاهرة، د.ت)
[***] راجع: ابن قدامة ـ المغني: 5/ 646.
[***] راجع: ابن قدامة ـ المغني : 5/646، والزحيلي ـ الفقه الإسلامي: 10/7647
[†††] راجع في هذه العقول ودورها الرسالي: مجموعة من المؤلفين ـ البعد الحضاري لهجرة الكفاءات (كتاب الأمّة،عدد:89، قطر،أوت 2002)
[‡‡‡] استيحاء من الحديث النبوي: « إنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية أخرجه الحاكم في المستدرك: 1/330 (ط دار الكتب العلمية، بيروت 1990)
[§§§] أقام المسلمون بالغرب منذ بعض السنوات العديد من هذه المؤسّسات، ولكن أثبتت التجربة أنّ كثيرا منها إمّا انتهت إلى الفشل، وإمّا قصر أداؤها عن الإيفاء بمهامّها، وذلك بسبب الاضطراب في مصادر تمويلها، وتعرّضها للظروف المتقلّبة، والأحوال الاقتصادية والسياسية، ومن شأن الوقف إذا ما كان مصدرا لتمويل هذه المؤسّسات أن يجنّبها هذا المآل وأن يضمن لها الاستمرارية إلى حدّ كبير.
[****] نجحت الأقلّية اليهودية في أوروبا على سبيل المثال نجاحا كبيرا في إقامة مدارس خاصّة تعلّم فيها ناشئتها أصول دينها، حتى لقد أصبحت هذه المدارس تستوعب تقريبا كلّ أبناء تلك الجالية أو هي قادرة على استيعابها، وقد كان ذلك بجهود جماعية تعاونية، وهو الدور المطلوب من الوقف الإسلامي أن يقوم به بالنسبة للمسلمين.
[††††] أصبح هذا البعد البحثي همّا من هموم العاملين للإسلام بالغرب منذ بعض الزمن، فتأسّست بعض المراكز البحثية نتيجة الشعور بضرورتها البالغة، ومن ذلك ما وقع من تأسيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تخصّصت إحدى لجانه في الإشراف على البحث العلمي، وأشرفت على إصدار مجلّة علمية بحثية تحت اسم « المجلّة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ».ومن ذلك أيضا ما تأسّس من مركز للبحوث والدراسات ضمن المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية بفرنسا الذي أصدر مجلّة بحثية علمية تحت اسم ” التعارف “، وقد كان لي شرف ترؤّس كلّ من اللجنة والمركز المذكورين، ولكنّ مثل هذه المراكز بصفة عامّة ما زالت تعاني معاناة شديدة فيما يتعلّق بالتمويل على وجه الخصوص، وهو ما يؤكّد حاجتها إلى أن تتبنّاها أوقاف المسلمين لتكون مصرفا من مصارفها.
[‡‡‡‡] كان الوقف في عهود الازدهار الحضاري مزدهرا هو أيضا، ومشمولا بالوعي الحضاري العامّ، فعمّ خيره جميع وجوه البرّ من مرافق الحياة: مشاعر عبادة، ودورَ علم، ومراكز بحوث، وخدمات صحّية، وخدمات عامّة. راجع في ذلك: عبد الستار الهيتي ـ الوقف ودوره في التنمية: 127 وما بعدها.