البحوث

العيش المشترك وواجب الدعوة إلى الله

العيش المشترك وواجب الدعوة إلى الله

 

إعداد:

سالم عبدالسلام الشيخي

“عضو المجلس”

 

“المبحث الأول”

الدعوة إلى الله في ظلال العيش المشترك

 

المطلب الأول : الدعوة والألفاظ ذات الصلة بواجب الدعاة تجاه العيش المشترك .

إنّ المتأمّل في نصوص الكتاب والسنّة يجد أنّ الألفاظ التي استعملت في دعوة الناس إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، التي تضمّنتها وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعود إلى ألفاظ أساسيّة تحمل في طيّاتها معاني متعدّدة تشكّل بمجوعها الصورة المتكاملة لوظيفة الأنبياء والرُّسل بين أقوامهم وحرصهم على أداء حقوق المعايشة والمشاركة في الوطن الواحد، مع الانتباه للحالة الاستثنائيّة لوظيفة النبي الخاتم- صلّى الله عليه وسلّم- الذي أرسل للناس كافّة، ولم يرسل إلى قومه خاصّة كما قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }، ( سبأ : 28 ).

وكما جاء في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: وذكر منها  وَكَانَ النَبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاس كَافَّةً، “[1] .

وخلاصة هذه الألفاظ والمعاني القرآنية على النحو الآتي :

أولًا : الدعوة :

وهي أولى الألفاظ الدالّة على وجوب إرشاد الناس ودلالاتهم على دين الله تعالى، وعلى سبل السعادة في الدنيا والآخرة وطرق الخروج من الظلمات إلى النور، وقد جاء ذكر الدعوة في كتاب الله في أكثر من موضع، منها قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ  }،(يوسف : 108 ) ، وقوله تعالى : { ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }،( النحل : 125)، وقوله تعالى : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ  }، ( الحج : 67)،وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا }،( الأحزاب : 46) .

 والدعوة في اللّغة هي مصدر بمعنى  الطلب, يقال دعا بالشيء : طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء: حثّه على قصده، ويقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعا إلى الدين وإلى المذهب: حثّه على اعتناقه وساقه إليه، وقال ابن فارس : الدال والعين والحرف المعتل أصلٌ واحد، وهو أن تميل الشَّيءَ إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك. تقول: دعوت أدعُو دعاءً. وَالدَّعوة إلى الطَّعام بالفتح [2].

أمّا الدعوة إلى الله في الاصطلاح فهي كما عرّفها شيخ الإسلام – رحمه الله – تعريفًا جامعًا بقوله : الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا به وفيما نهوا عنه[3].

وعرّفها الدكتور البيانوني اختصارًا فقال:  تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة [4].

وحديثنا عن الدعوة إلى الإسلام في بلاد الغرب نقصد به الدعوة إلى الدخول في دين الإسلام الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم وحيًا من عند ربّه عزّ وجلّ.

قال تعالى :{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .(الأعراف:158)

ثانيًا : الذكرى والتذكير :

لقد جاء ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتاب الله تعالى منها قوله تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }، (الأنعام : 70 )، وفي قوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }، ( الذاريات : 55 )، وفي قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) المدثر }، ( المدثر : 49 )،وغير ذلك من الآيات.

والتذكير في اللّغة من ذَكَرَ الشيء ذكرًا وذكرى وتذكارًا إذا استحضره في ذاكرته وجرى على لسانه بعد نسيانه [5]، وفي الاصطلاح : إعادة ما سبق تبليغه وبيانه وشرحه، ليذكره من كان قد بلغه حتى مستوى الفهم الصحيح الوافي، بأن يجعله حاضرًا في ذاكرته، ويستخرجه من مطويات نفسه رجاء أن ينتفع به اعتقادًا، أو قولًا، أو عملًا، ظاهرًا أو باطنًا [6].

ثالثًا : التبليغ والبلاغ :

التبليغ والبلاغ المبين من أعظم وظائف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ومن تبعهم بإحسان، وقد جاء بيانه في آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }( المائدة : 92 )، وقوله تعالى : { مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}، ( المائدة : 99 )،وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }، (المائدة : 67 ) ، وقوله تعالى:{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }،(الأعراف : 62 ) ، وغير ذلك من الآيات، والتبليغ والبلاغ في اللّغة من بلغ الرجل الشيء تبليغًا إلى كذا، وأبلغه إبلاغا وبلاغًا إلى كذا، إذا أوصله إليه. يقول الدكتور محمد عصمت : البلوغ، والإبلاغ، والتبليغ بمعنى : الانتهاء، والوصول، والإيصال، والتوصيل إلى غاية مقصودة أو حدٍّ مراد، سواء كان هذا الحد أو تلك الغاية مكانًا أو زمانًا أو أمرًا من الأمور المقدرة معنويًّا .

من هذا المعنى أخذ معنى المبالغة في البيان التي هي الوصول باللّفظ إلى أبعد من الحدّ للمعنى الواقعي.

وما ورد في القرآن الكريم من لفظ «بلغ» ومشتقاته يعود في أصله لهذا المعنى. نحو قوله تعالى:{ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}، ( البقرة : 196 ) . أي حتى يصل الهدي المكان المخصص له، والغاية أو الهدف هنا مكاني.

ونحو قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ }، ( الأحقاف : 15 ) .

بمعنى حتى إذا وصل إلى الزمن الذي يكون فيه متكاملًا عقلًا وجسدًا وهو الزمن الذي يكون قد مضى من عمره أربعون سنة، والغاية كما هو واضح زمانيّة.

ونحو قوله تعالى:{ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا }، ( الكهف : 76 )  .

أي أنّني قد وصلت إلى الحدّ الذي لا يقبل عنده عذري، وهو أمر معنوي.

ومن ثمّ فإن معنى التبليغ المراد بيانه هو إيصال شيء إلى شيء آخر، وغالبًا ما يستعمل معنى التبليغ في الأمور المعنويّة ويقلّ في الأمور المحسوسة نحو قولنا: أبلَغت أو بلّغت زيدًا رسالة، أو فلانًا إنذارًا.

قال تبارك وتعالى:{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} ( الأعراف : 62)[7].

وعليه فعندما نقول أبلغ وبلغ الداعي إلى الله نصوص الدين وبياناته وتعليماته أو شيئًا منها إلى الناس تبليغًا وإبلاغًا وبلاغًا إذا أوصلها إليهم، قولا مسموعًا أو كلامًا مكتوبًا .

يقول الدكتور عبدالرحمن حبنكة الميداني :” فتبليغ نصوص الدين وبياناته وتعليماته، تبليغًا يُوصل المعاني إلى فهم المبلغين فهما صحيحًا وافيا، أول واجبات حملة  رسالة الدعوة إلى الله، وإلى صراطه المستقيم، مع دعوتهم إيّاهم إلى الدخول في دين الإسلام، وإشعارهم بأنّهم بعد البلاغ يحملون هم مسؤوليّاتهم تجاه ربهم، وعليهم أن يتحمّلوا نتائج ما يختارون هم لأنفسهم من استجابة وطاعة، أو رفض ومعصية ” .[8]

رابعًا: النصح والنصيحة:

النّصح والنصيحة من الوظائف العظيمة للأنبياء والرسل ولمن أتبعهم بأحسن إلى يوم الدين، وهي وظائف تحمل في طيّاتها كل معاني الإخلاص والصدق والمحبة من الناصح إلى المنصوح، وقد جاء ذكر النصيحة في كتاب الله في عدّة مواضع منها قوله تعالى :

{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }،،( الأعراف : 62 ) ،  وقوله تعالى : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ }، (الأعراف : 68 ) ، وقوله تعالى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }، ( الأعراف : 79 ) ، وقوله تعالى : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) هود }، (هود: 34 ) ، والنصيحة في اللّغة في الخُلُوص من الشوائب من قولهم : نصحت العسل إذا خلّصته من الشمع، ويقال: نصح الشيء نصحًا ونصوحًا ونصاحةً: خلص, ونصحت توبته: خلصت من شوائب العزم على الرجوع، ونصح قلبه: خلا من الغش، ونصح الشيء: أخلصه، وقال ابن فارس رحمه الله: النون والصاد والحاء أصل يدلّ على ملاءمة بين شيئين وإصلاح لهما .

والنصيحة قول فيه دعاء إلى صلاح ونهي عن فساد، والجمع: نصائح، وهي اسم من مصدر الفعل نصح،، ويقال: نصحه ونصح له وهو باللام أفصح: أرشده إلى ما فيه صلاحه وناصح فلانًا: نصح كل منهما الآخر، وناصح فلانٌ نفسه في التوبة: أخلصها, وانتصح فلانٌ: قبل النصيحة، وانتصح فلانًا: اتخذه ناصحًا واعتده ناصحًا [9].

وقد عرّف العلماء النصيحة في الاصطلاح بتعريفات كثيرة مدارها على معنى الخلوص قال ابن الصلاح – رحمه الله- :”النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادةً وفعلًا، “[10].

وقال النووي رحمه  الله : النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذ خاطه، فشبّهوا فعل الناصح فيما يتحرّاه من صلاح المنصوص له بما يسدّه من خلل الثوب [11] .

المطلب الثاني: الدعوة إلى الله وحقوق العيش المشترك:

إنّ من أعظم حقوق العيش المشترك التي ينبغي أن نسعى إليها بكلّ صدق وإخلاص وأن نجعلها على قائمة حقوق العيش المشترك بين المسلمين وغيرهم هو أن ّنبيّن لأهلنا من غير المسلمين الذين نعيش معهم في وطن الواحد ونشترك معهم في الحقوق والواجبات الوطنيّة الواحدة سبل السعادة في الدنيا والآخرة، وسبل النجاة من عذاب الله وغضبه وبطشه، وأن لا نترك خيرًا أرشدنا الله إليه إلاّ ودعوناهم إليه ورغبّناهم فيه، وأن لانترك شرًّا نهانا الله عنه إلا ودعوناهم إلى تركه حرصًا عليهم وأداءً لحقوق الجوار والعيش المشترك وإحياءً لمنهاج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام .

كلّ ذلك  لأنّنا  نوقن بأنّ الإنسان لم يخلق سُدىً وإنّما خلق لغاية وحكمة، وهي أن يقوم بواجب العبودية لله رب العالمين، كما قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}. (المؤمنون :116)  وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }.(الذاريات : 56-57).

لقد بعث الله الرسل برحمته لبيان هذه الحكمة، وختمهم بمحمّد- صلّى الله عليه وسلّم- وجعله آخر الرسل عليهم السلام، وبعد انتقاله- صلّى الله عليه وسلّم- إلى جوار ربه حمَّل الأُمّةَ من بعده بيان هذه الحكمة وحمَّلهم بلاغ الرسالة للناس كافّة.

والإنسان الأوربي اليوم إمّا أن يكون قد خلقه ربّه من غير حكمة ولا غاية، وتعالى الله عن هذا العبث في الخلق: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }، (المؤمنون : 116)، وإمّا أن يكون قد خُلق للغاية نفسها التي من أجلها خلق الله البشر ألا وهي عبادة الله وحده لا شريك له، والاستخلاف في الأرض وفق منهاجه وهديه سبحانه، وهذا الذي نؤمن به وندعو إليه، وهو الذي جاءت به رسالة الله الخاتمة .

فمن الذي يبلغ الإنسان الأوربي هذه الرسالة من ربّ العالمين، وقد توقّف الوحي من السماء، وخُتمت النبوة بنبينا محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ولم يبق لهذه المهمّة إلا أتّباع النبيّ الخاتم -صلّى الله عليه وسلّم – فهم ورثته في بلاغ هذه الرسالة وأداء هذه الأمانة.

وعليه فإنّنا نرى أنّ الدعوة إلى الإسلام في أوربا وتعريف الناس بربّهم وخالقهم من أعظم واجبات العيش المشترك التي ينبغي أن نلتزم بها، ذلك لأنّنا نؤمن إيمانًا راسخًا بأنّنا ورثة الأنبياء في بيان رسالة الله إلى الناس كافّة، وأنّ من أعظم حقوق أهلنا الذين نعيش بين ظهرانيهم أن نبيّن لهم هذه الحكمة ونرشدهم إليها، فإذا حقّقنا ذلك فعندئذ نكون على وفق الوصف الذي ارتضاه الله لنا عندما قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، ( آل عمران : 110).

المطلب الثالث : أمانة الدعوة الإسلامية في أوربا:

حقيقة الدعوة إلى الإسلام كما بيّنت أنّها حمل رسالة الله إلى الناس كافّة، وأنّ هذه الرسالة مفادها :{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ.}. (النحل:36)

لقد قصّ علينا القرآن الكريم والسنة المطهّرة قصّة هذه الرسالة منذ بدايتها، تلك البداية التي ارتبطت ببداية هذا الإنسان، فهو الذي أكرمه ربّه فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته ثمّ أُهبط إلى الأرض ومعه رسالة التوحيد والإيمان كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * }، ( البقرة :30- 39 ) .

ومن بعد ذلك بداية قصّة الإنسان على هذه الأرض، وكيف حمل آدم عليه السلام أمانة الرسالة وربّى عليها أبناءه إلى أن وقع الانحراف في نهج البشرية عن هذه الرسالة بعد ذلك، فبعث الله نبيّه إدريس عليه السلام، ومن بعده وقع الانحراف إلى أن بعث الله نوحًا عليه السلام، وهكذا نبيّ يتلوه نبيّ ورسول يتلوه رسول، كلّهم لهم هدف واحد، ورسالة واحدة، وهي إعادة الناس إلى أصل فطرتهم الأولى التي فطر الله الناس عليها ألا وهي التوحيد الخالص لله رب العالمين كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }، ( النحل : 36 ) .

ثمّ حمل الراية من بعدهم وتحمّل الأمانة سيد الخلق أجمعين محمد – صلّى الله عليه وسلّم – فاتّضحت له معالم الطريق وهُدي إلى صراط مستقيم، وجاهد في الله حق جهاده، والأُمّة من بعده على ذلك كله من الشاهدين.

ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، وحمّل الأمانة الثقيلة من بعده لأصحابه الكرام – عليهم رضوان الله- فكانوا لها أهلًا وخرجوا شرقًا وغربًا وهم موقنون أنهم يحملون رسالة الله إلى العالمين وأن الله هو الذي ابتعثهم إلى الخلق أجمعين كيف لا والرسول- صلّى الله عليه وسلّم- يقول لهم :” إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ “[12] .

ثم استلم الراية من بعدهم أقوام ساروا على نهجهم وسلكوا طريقهم، وسلّموها لمن بعدهم على المحجة البيضاء إلى أن وصلتنا وكأنّها قد أنزلت على نبيّنا الساعة.

وقد قَدّر الله لنا وقُدر علينا أن نكون في أرض نحن حملة رسالة الله إلى أهلها ليس لهم غيرنا يبلغهم كلمات الله الخاتمة، وليس لهم غيرنا يعرفهم على ربّ الأرض والسماء.

وقدّرنا أنهم يشاهدون فينا الإسلام بتطبيقاته الواقعيّة وأخلاقيّاته السلوكيّة في كلّ يوم وليلة.

فكل المنتسبين إلى الديانات الأخرى إذا فعلوا ما يسيء إلى الناس فإنّ الناس في أوربا لا يُحمّلون وزر أعمالهم إلى الدين الذي ينتسبون إليه إلا أهل الإسلام ؛ فإنّ المسلم في أوربا إذا فعل فعلًا مشينًا نُسب ذلك إلى الإسلام- وهذا أمر مخالف للعدل، والإنصاف المطلوب من المجتمعات الأوربيّة تجاه الإسلام وهي التي تنادي على الدوام بالمنهجيّة الموضوعية والإنصاف للآخرين- وهذا الأمر وإن كان فيه ما يسيء إلى المسلمين إلّا أنّه يمكن أن يُنظر إليه من الزاوية الإيجابيّة، فلعلّ ذلك يولّد مزيدًا من المسؤولية في قلوب المسلمين في أوربا تجاه دينهم الذي ينتسبون إليه.

أعود فأقول أنّ قدرنا في أوربا أنّنا نمثّل الإسلام في أقوالنا وأفعالنا وسلوكنا وأخلاقنا.

فالموظف الأوربي في وظيفته ينظر إلى زميله المسلّم كيف يتصرّف، فإمّا أن يرى أمانة وصدقًا وعدلًا وقسطًا وإحسانًا، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }.(يوسف : 36 )  فيقول هذا الموظف: حُقّ لدين هؤلاء أهله أن يُتبع، وإمّا أن يرى خلاف ذلك فيحمل هذه التصرّفات على الدين الذي ينتمي إليه هؤلاء .

وكذلك الجار مع جيرانه من غير المسلمين الذين يشاهدون فيه الأمن والأمانة على أنفسهم وأموالهم وحقوقهم، ويعرفون منه حسن الخلق، والتفقّد لهم، وزيارة المريض، وإدخال السرور عليهم، مع نظافة ونزاهة واحترام، فماذا سيقول هؤلاء إلّا مثل ما قال: من سبق حُق لدين هؤلاء أتباعه أن يُتبع.

والتاجر في متجره يرى فيه الناس من غير المسلمين صدق التاجر، وأمانته، ووفاؤه بالكيل والميزان، مع بعده عن الغش والتزوير، فإذا سأله الناس عن ذلك قال: إنّ ديني يأمرني بكلّ ذلك وقد قال نبينا” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” [13]، فكيف سيكون أثر ذلك فيهم إلّا الاحترام لدينٍ هؤلاء أتباعه وأهله، وهذه أخلاقياتهم في بيعهم وشرائهم .

والمريض في المستشفى، والطبيب في العيادة من غير المسلمين كلّهم يشاهدون الطبيب المسلم مثالًا للتواضع، والإتقان، والحرص على أبدان الناس مع نزاهة في كلّ شيء، ونصحٍ لمرضاه وإحسان لإخوانه الأطباء مع ما يَظهر على محيّاه من ابتسامة المؤمن وراحة العابد، فماذا سيقول هؤلاء؟

 هذه هي أمانة الإسلام، وهذه هي حقيقة رسالة الله إلى الأنام، فأين نحن منها؟ لقد تسلّمناها على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلّا هالك.

فيجب أن يشعر المسلمون في أوربا أن هذه الرسالة المباركة قد بذل جميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام كل ما يملكون لتبقى على وضوحها، وطهرها، ونصاعتها، وقد قدّموها على كل شيء في حياتهم، على أنفسهم وأهليهم والناس أجمعين، فيجب عليهم أن يحفظوها كما حفظها رسل الله، وأن يبلّغوها كما سار من قبلهم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا .

إنّ المسلمين في أوربا يتحمّلون أمانة عظيمة، ومسؤولية كبيرة حتى يبلّغوا رسالة الله إلى الناس من حولهم على الوجه الذي أرشدهم إليه النبي الخاتم- صلّى الله عليه وسلّم-  فهل يشعرون بعظم هذه الأمانة وبثقل هذه الرسالة ؟

المطلب الرابع: عالميّة الإسلام تحتّم ضرورة الدعوة إليه في أوربا:

إيماننا بأنّ الإسلام دين عالمي لا يعرف حدود الزمان ولا المكان، ويقيننا بأنّ النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- قد أرسله الله للناس كافّة إلى قيام الساعة بشيرًا ونذيرًا كما بيّن سبحانه في قوله: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 )، وقوله تعالى: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } (ص : 87 ).

وكما بيّن النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- ذلك بقوله ” أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً “[14].

هذه العالميّة لدعوة النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- لا يمكن أن تتحقّق في إطار الزمان والمكان إلّا بواجب الدعوة إلى الإسلام الذي جاء به محمّد- صلّى الله عليه وسلّم-.

والإنسان الأوربي الذي نعيش معه على أرض واحدة مخاطب دون شكّ بهذا الدين، ومشمول بهذه العالميّة، ولا يمكن إيصال هذا الخطاب إليه إلّا بدعوته إلى الله، وتعريفه بدينه القويم الذي أنزله على محمد- صلّى الله عليه وسلّم- .

إنّ الدعوة إلى الإسلام هي أعظم حقوق العيش المشترك، وأعظم الواجبات المترتّبة على المسلمين تجاه إخوانهم من غير المسلمين، وإنّ أيّ تقصير أو تقاعس عن هذا الواجب هو خيانة وجريمة ترتكب في حق أهلنا من أبناء المجتمعات الأوربيّة .

المطلب الخامس : ما الذي نريده من الإنسان الأوربي ؟

نحن ننطلق من حقيقة دعويّة واحدة جليّة واضحة، وهي أنّنا نريد السعادة للبشريّة جميعًا، وذلك من خلال تحققهم بالوظيفة التي من أجلها خلقهم الله.

فالإنسان- في تصوّرنا الإسلامي- جعله الله- تبارك وتعالى- خليفة في هذه الأرض، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (البقرة :30  )

ونحن نريد له أن يحقّق هذا الاستخلاف في أرقى صوره وأشكاله، وتحقيقه لا يكون إلاّ بالتزام الإنسان بالعبودية لله تبارك وتعالى، وبسيادته في الأرض عبر التوافق والانسجام مع سنن الله الكونيّة والشرعيّة، وهذا ما نريده للإنسان في أوربا أن يتحقّق به ليسعد في الدنيا والآخرة .

كما نريد للإنسان الأوربي أن يوجّه العناية بمصيره في الدار الآخرة . هذا المصير الذي شغلته عنه الفلسفات المادية، والأفكار الوضعية، تلك الفلسفات التي جعلت من حياته مظهرًا من مظاهر متاع الغرور {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ }، ( آل عمران : 185 ) .

 إنّنا نعلن للعالم أجمع أنّنا نريد لإخواننا الأوربيين الذين نعيش معهم على أرض واحدة، ونتشارك معهم في هموم وطنيّة واحدة، أن يتعرّفوا الآتي:

  • خالقهم ليعبدوه.
  • حقيقة وجودهم ليؤدّوا رسالتهم في الحياة.
  • حقيقة الكون ليعمروه بالخير وليسخّروه لنفع الخلق.
  • مصيرهم الذي ينتظرهم ليعملوا له، ويستعدّوا للقاء ربّهم.
  • نبيّهم الذي أرسل للعالمين ليسعدوا بهديه ونهجه.
  • كتاب ربّهم ليخرجوا به من الظلمات إلى النور.

“المبحث الثاني”

حكم الدعوة إلى الله في أوربا

مسألة حكم الدعوة إلى الله من المسائل العلميّة التي قرّرها العلماء قديمًا وحديثًا، ونحن نريد أن ننزّل الراجح من أقوالهم واختلافهم في هذه المسألة على الواقع الأوربي – محلّ البحث والنظر للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث – وقبل الدخول في المسألة من الناحية الفقهيّة أحببت أن أمهّد ببعض المطالب – على سبيل الاختصار – للتعرّف إلى بلوغ الدعوة في المجتمعات الأوربية .العيش المشترك والدعوة إلى الله الله العيش المشترك وواجب الدعوة إلى الله unnamed 5

أي هل المجتمعات الأوربية قد بلغتها الدعوة الإسلامية اليوم بالطريقة التي تقوم بها الحجة عليهم شرعا في الدنيا والآخرة ؟.

وهل قام أهل الإسلام بالواجب الشرعي في بلاغ الرسالة وأداء الأمانة التي جاء بها نبيهم الكريم  الذي أرسله الله رحمة إلى الناس أجمعين ؟.

وعليه فقد جاء هذا المبحث في عدة مطالب :

المطلب الأول : حكم من لم تبلغهم الدعوة في المجتمعات الأوربية .

 المطلب الثاني : متى تقوم الحجة على غير المسلمين؟ (شروط قيامها)

المطلب الثالث :

المطلب الرابع : حكم الدعوة إلى الله في المجتمعات الأوربية .

المطلب الأول : حكم من لم تبلغهم الدعوة في المجتمعات الأوربية .

أولًا: المجتمعات الأوربيّة وحكم أهل الفترة بعد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) .

الأصل المتّفق عليه بين العلماء والذي دلّت عليه النصوص أنّ الله سبحانه وتعالى لا يعذّب إلّا من أرسل إليه رسولًا تقوم به الحجّة عليه، وعليه فإنّ المقيمين في المجتمعات الأوربية إذا وجد فيهم من تحقّق فيه وصف أهل الفترة وهو عدم تمكّنهم من معرفة دعوة الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وعدم بلوغها إليهم فهذا داخل في حكم أهل الفترة.

وحكمهم أنّهم معذورون بالفترة في الدنيا، وأمّا مصيرهم في الآخرة فهو على خلاف بين العلماء يضيق ذكره وذكر الراجح بأدلّته في هذه العجالة.

ثانيًا: الحجّة لا تقوم إلا بالحجّة الرساليّة

الصحيح أنّ الحجّة لا تقوم إلا بنذارة الرسل وأنّها لا تقوم بالفطرة والميثاق والعقل، ولذا قال الشنقيطي – رحمه الله- : ” والآيات القرآنيّة مصرّحة بكثرة بأنّ الله تعالى لا يعذّب أحدًا حتى يقيم عليه الحجّة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلّة وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى “وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا” فإنّه قال فيها: حتى نبعث رسولًا ولم يقل حتى نخلق عقولًا، وننصب أدلة، ونركز فطرة ” [15].

وعليه فإنّ ما نسمعه بأنّ الحجّة قد قامت على المقيمين في أوربا لأنّهم توصّلوا بالاكتشافات العقلية ما يقيم عليهم الحجة على وحدانية الله، أو أنّ الحجة قد قامت بما فطر الله عليه نفوسهم وبما أخذ عليهم من الميثاق كلام غير صحيح مخالف لما دلّ عليه القرآن بأنّ الحجة التي تعذّب من خالفها هي نذارة الرسل لا غير.

ثالثًا: صور ما تقوم به الحجة في أوربا .

  1. السماع بالإسلام وبنبوة محمد (صلّى الله عليه وسلّم)

لا يشك أحد اليوم بصدق مقولة إنّ العالم أصبح قرية واحدة، وذلك لما حصل من تطوّر في وسائل الاتصال المرئي (الفضائيات) والمسموع والمقروء (الإنترنت) ولهذا التطوّر أصبح الإنسان يظنّ أنّه لا يوجد أحد في أوربا لم يسمع عن الإسلام وعن نبيّه محمّد- صلّى الله عليه وسلّم- بالشكل الصحيح حتى بلغ الأمر بالشيخ سعيد حوّى – رحمه الله – أن قال: (فما من إنسان إلا وقد سمع عن الإسلام ورسوله بواسطة المذياع أو التلفاز أو الكتاب أو المجلة أو المحاضرات أو الدعوة المباشرة أو الخلطة لمسلم) ثم قال –رحمه الله – : وكان شيخنا الحامد –رحمه الله- يرى أنّ الحجة في عصرنا قد قامت على كل إنسان بما شاع واستفاض عن بعثة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) مما يوجب على  الإنسان البحث والسؤال، فإذا لم يفعل فهو المقصّر)[16].

وهذا التعميم الذي قاله الشيخ الحامد – رحمه الله- ومن يقولون بقوله مرتكزه يقوم على ظاهر حديث أبي هريرة في الصحيح أنّ النبي – صلّى الله عليه وسلّم –  قال : ” والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار “[17] والذي ندين الله به أنّ السماع بالإسلام وبنبينا – صلّى الله عليه وسلّم – على قسمين:

  • سماع صحيح تقوم به الحجة وهو أن يسمع عن الإسلام ونبيه محمد – صلّى الله عليه وسلّم – على الصورة الصحيحة وفقًا للحقيقة التي بعثها الله بها وبصورة واضحة بينة، وبالحد الذي يعلم به أنه مخاطب بهذا الإسلام وبالإيمان به، فإن كان نصرانيًّا وسمع عن الإسلام وعن النبي – صلّى الله عليه وسلّم – وعن خطاب الإسلام للنصارى بوجوب الإيمان بالله ورسله وعدم التفريق بين أحد منهم، وأنه مخاطب بذلك مع كشف ما عليه اعتقاد النصارى من باطل كما خاطب الله تعالى النصارى في كتابه، وهكذا الشأن في اليهود أو غيرهم ممن هم على غير ملة الإسلام، فهؤلاء تكون الحجة قد قامت عليهم إذا كان سماعهم على هذه الصورة، وهذا لا يعني الإطالة أو الشرح المفصل لمفردات الإسلام، بل يعني بلوغ الحد الأدنى من معنى الإسلام وخطابه العالمي وإزاحة الغمامة من على ذهن السامع وعقله.
  • سماع مشوه عن الإسلام لا تقوم به الحجة .

وهو بلوغ صورة الإسلام وحقيقته على شكل مشوّه إمّا عن طريق أعداء الإسلام كالذي يسمعه النصارى من رهبانهم وهو أنّ الإسلام ملّة كفر وضلال، أو على أحسن الأحوال أنّه دين العرب خاصّة، أو أنّه دين الإرهاب والقتل ودين التخلف أو غير ذلك، فهذا السماع لا تقوم به الحجّة، فهو سماع عن دين آخر غير الإسلام الذي جاء به محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ولا تتوفر فيه مواصفات الحجّة الرساليّة التي يعذّب الله من خالفها.

ويمكن أن يستدلّ على التفريق بين نوعي السماع بقصة النجاشي وهجرة الصحابة إلى الحبشة، فقد تحقق في هذه القصة سماع مشوّه عن الإسلام ثمّ سماع صحيح، وهي القصّة التي ترويها أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم –  فقد قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا فيها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلمّا بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا النجاشي هدايا، …. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي، فقبلهما منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكي شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص أن يسمع كلامهم النجاشي، قالت: فقال بطارقته حوله: صدقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم فأسملهم إليهما… فقال لهم: -النجاشي للمسلمين-: ما هذا الذي فارقتم به قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب. فقال له: أيها الملك كنّا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، …وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام…قالت: فلما دخلوا عليه[18]، قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم –  فقد قالت: (لما نزلنا ارض الحبشة جاورنا فيها خير جار النجاشي، أمنّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، يقول:  هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاه إلى مريم العذراء البتول…)[19].

فانظر معي أخي القارئ إلى الصورة المشوّهة التي قدّمها عمرو بن العاص وصاحبه بقولهم: (فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه،…) فهل يقول أحد بأنّ هذه الصورة التي سمعها النجاشي قد قامت بها الحجّة عليه؟ وهل تتوافر فيها شروط الحجة الرساليّة التي من خالفها كان جزاؤه النار؟ ثمّ انظر إلى الصورة التي قدّمها جعفر بن أبي طالب وكيف هي مع إيجازها واختصارها إلّا أنها كافية في إقامة الحجة لما فيها من البيان لحقيقة هذا الدين ولما جاء به محمد – صلّى الله عليه وسلّم – ولموقف الإسلام الواضح من حقيقة عيسى عليه أفضل الصلاة والتسليم.

  1. الاختلاط بالمسلمين :

يقدّر عدد المسلمين في أوربا بأكثر من خمسة وأربعين مليونًا، وهذا الوجود للمسلمين في أوربا يزداد في كلّ يوم كما هو مشاهد للعيان، وذلك بسبب الهجرة المتزايدة إلى أوربا التي تكون بسبب الأوضاع السياسيّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة في أوطانهم أو تكون الزيادة بسبب اعتناق أهل البلاد في الأصل للإسلام.

فهل هذا الوجود للمسلمين بين ظهراني غير المسلمين في أوربا حجّة قائمة عليهم يحاسبون على أساسها ؟ وللإجابة عن هذا السؤال نمهّد بالآتي:

 وجود المسلمين في هذه البلاد ينقسم- بحسب أثره في الواقع من حوله- إلى قسمين:

القسم الأول: الوجود الإيجابي:

وهو الوجود الذي يعطي صورة مشرقة عن الإسلام، ويكون لسان حال في تبليغ دعوة الإسلام يعدل لسان المقال وزيادة، بحيث يعلم كل من يقيم بين هؤلاء المسلمين بأنّ لهم دينًا اسمه الإسلام يدعو إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإلى سعادة الدنيا والآخرة، وأنّ لهم نبيًّا اسمه محمد – صلّى الله عليه وسلّم –  جاء خاتمًا للأنبياء ومصدّقًا لما بين أيديهم من الهدى، بعثه الله للناس كافّة، وهذه الدعوة تظهر علامات التمسّك بالإسلام وتعاليمه ما يوحي بالثقة في المسلمين ومعرفة ما عندهم من الهدى والنور ليمهد السبيل بعد ذك لدعوة هؤلاء إلى الإسلام.

القسم الثاني: الوجود السلبي:

وهو الوجود الذي يعطي صورة مشوّهة عن الإسلام ويتسبّب في الصدّ عن سبيل الله، وهذا يكون من خلال التصرّفات والأخلاقيات البعيدة عن تعاليم الإسلام إمّا على مستوى الأفراد أو على مستوى التجمّعات والمؤسسات.

فتفرّق المسلمين، وتنازعهم، وعدم ظهورهم بصوت واحد أمام غيرهم هو من الصورة المشوّهة عن الإسلام دين الوحدة والأخوّة، وكذلك انحراف بعض المسلمين الأخلاقي عن هدي الإسلام كما يفعل من يتسكّعون في الشوارع سكارى معربدين في أفضل أيام الله وهي أيام العيد، وبائعي الحشيش والمخدرات الذين يملؤون السجون في هذه البلاد، أو ما يحدث من سرقات على يد أكثر ناس يفترض أن يمثّلوا الإسلام، كلّ هذا من الصورة المشوّهة عن الإسلام وصدّ عن سبيل الله.

بعد هذه القسمة يكون الجواب عن السؤال المطروح: هل وجود المسلمين بين ظهراني أهل الملل الأخرى حجة قامت على المقيمين في ديار أوربا أم لا ؟.

والجواب عن هذا السؤال هو على النحو الآتي:

أولًا: الأصل أنّ مجرد وجود المسلمين بين أظهر غير المسلمين لا يعدّ حجّة إلا إذا توجّه هؤلاء المسلمون إلى غيرهم بالدعوة وتبيين الهدى والنور الذي معهم، ولو كان مجرّد الوجود والمعايشة حجّة لما أُمر النبي – صلّى الله عليه وسلّم –  بإبلاغ الدعوة والجهر بها، إذ هم كانوا يمثّلون قلّة في وسط أكثرية أهل مكّة.

ثانيًا: أنّ هذا الوجود للمسلمين لم يؤدّ دوره، فالمسلمون مشغولون عن قضيّة الدعوة إلى الإسلام إلّا القليل منهم ممن لم يتحقّق بهم الواجب الشرعي المتعلّق بحكم الدعوة إلى الله، ثم عدا ذلك فإنّ هذا الوجود وهذه المعايشة في أغلبه سلبيّ يشوّه صورة الإسلام ويعمل بلسان حاله عن صدّ الناس عن دين الله.

ولذا فإنّي أقول إنّ وجود المسلمين بين ظهراني غير المسلمين لا يعدّ حجّة بإطلاق، وإنّما يعود ذلك إلى اختلاف الزمان والمكان والصورة التي عليها أهل الإسلام في ذلك.

3- بلوغ القرآن المترجم:

 من بلغه القرآن الكريم فقد بلغته الحجّة التي تبطل الأعذار، وتوجب على مخالفها ومعاندها عذاب النار، وذلك لقوله تعالى : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، (الأنعام، 19 )،وبالنظر إلى تفسير هذه الآية يتبيّن المعنى المراد.

قال ابن كثير رحمه الله: “أي هو نذير لكل من بلغه كقوله تعالى :{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ }، (هود :17 ) … عن محمد بن كعب في قوله “ومن بلغ” من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي (صلّى الله عليه وسلّم). زاد أبو خالد (وكلمه…) وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى “لأنذركم به ومن بلغ” أن رسول الله قال: (بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله)، وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أن يدعو كالذي دعا رسل الله (صلّى الله عليه وسلّم) وأن ينذر بالذي أنذر)[20].

وقال الشنقيطي رحمه الله: (صرح في هذه الآية الكرية بأنّه – صلّى الله عليه وسلّم- منذر لكلّ من بلغه هذا القرآن العظيم كائنًا من كان، ويفهم من الآية أنّ الإنذار به عام لكلّ من بلغه وأنّ كل من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار، وهو كذلك. أمّا عموم إنذاره لكلّ من بلغه، فقد دلّت عليه آيات أخر أيضًا كقوله :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }، ( الأعراف : 158)، وقوله :{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }، ( سبأ: 28) ، وأمّا دخول من لم يؤمن به النار، فقد صرّح به تعالى:{ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ }، (هود :17 )، وأمّا من لم تبلغه دعوة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) فله حكم  أهل الفترة الذين لم يأتهم رسول”[21].

وإذا كان من المقرّر عند أهل العلم أنّ من صفة الحجّة أو شروط قيامها أن تكون بلغة المخاطب، كما قال ابن تيمية – رحمه الله – : (ومعلوم أنّ الأمة مأمورة بتبليغ القرآن لفظه ومعناه، كما أمر بذلك الرسول ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العجم قد يحاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة)[22]. وقال- رحمه الله- أيضًا: ” وقوله تعالى: { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ }، (التوبة : 6) قد علم أنّ المراد أن يسمعه سمعًا يتمكّن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرّد لفظ لا يتمكّن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة)[23].

فإنّنا نقول: إنّ من بلغته آيات من القرآن الكريم مترجمة بلغته، فيها ما يبيّن له وجوب الإيمان بالله تعالى ربًّا وإلهًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّد – صلّى الله عليه وسلّم- نبيًّا ورسولًا وأنّه مخاطب بكل ذلك، فقد قامت عليه الحجّة الرساليّة، فإن من آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلّى الله عليه وسلّم- نبيًّا ورسولًا  كان من أهل النجاة، وإن أصرّ على كفره ومات على ذلك فهو من أهل النار.

فهذا حال من بلغه بعض القرآن، فكيف بمن بلغه القرآن كلّه واطّلع عليه؟ بل ودرسه كما يفعل كثير من المثقفين وطلاب العلم في هذه البلاد، فهؤلاء جميعًا قد قامت عليهم الحجّة.

المطلب الثاني : متى تقوم الحجّة الرساليّة؟ (شروط قيامها):

لا شكّ أن المقصود من إقامة الحجة قطع العذر على من بلغته، وهي لا تقطع علة العذر إلا إذا بلغته بصورة يمكنه فهمها ولذلك شروط:

أولًا: أن تصل الحجّة للمخاطب بلغته:

وهذا الشّرط من الأمور التي يقرّرها الشرع والعقل لأنّ المقصود من إيصال الحجّة هو فهمها وفهم المراد منها، ووصولها بلغة غير لغة المخاطب لا يتحقق منه ذلك، ويكون السامع كالأصمّ في هذا الباب، ومن الأدلة القرآنية على ذلك:

  1. قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، (إبراهيم : 4 ) ، قال ابن كثير رحمه الله: (هذا من لطفه تعالى بخلقه أنّه يرسل أليهم رسلًا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، كما روى الإمام أحمد ( ثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عنه أبي ذر قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (لم يبعث الله عز وجل نبيًّا إلا بلغة قومه)، وقوله تعالى: “فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء” أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ويهدي من يشاء إلى الحق)[24].

وقال القرطبي رحمه الله: (أي قبلك يا محمد “إلا بلسان قومه” أي بلغتهم، ليبيّن لهم أمر دينهم ووحّد اللسان وإن أضافه إلى القوم لأنّ المراد اللغة، فهي اسم جنس يقع على القليل والكثير ولا حجّة للعجم وغيرهم في هذه الآية، لأنّ كلّ من ترجم له ما جاء به النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ترجمة يفهمها لزمته الحجة، وقد قال الله تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }،( سبأ: 28)  “[25].

  1. قوله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }،( آل عمران : 164) قال ابن كثير رحمه الله: (أي من جنسهم ليتمكّنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به… وقال تعالى “يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم” فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه)[26].

فهذه الأدلّة من القرآن تدلّ على أنّ من شروط صحّة قيام الحجّة أن تصل إلى المحجوج بلغة يفهمها حتّى يفهم مدلولات الحجّة وما هو المراد منها.

قال ابن القيم رحمه الله: (إنّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجّة الله على الكفار في زمان دون زمان وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتكمن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة)[27].

ثانيًا: أن تكون من البلاغ المبين :

أي أن تكون الحجّة واضحة بيّنة يستطيع المخاطب فهمها بالقدر الذي تقوم به الحجّة، فقد وصف سبحانه وتعالى بلاغ رسله في أكثر من آية في كتابه بأنّه مبين. قال تعالى : {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}،(المائدة: 92) وقال تعالى :{فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}،(النحل : 35 )  وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين}،(النور : 54 )،وقال تعالى على لسان نوح (صلّى الله عليه وسلّم): {إن أنا إلا نذير مبين}، ( الشعراء : 115 )

وفي معنى البيّنة قال الراغب رحمه الله: (والبيّنة: الدلالة الواضحة عقليّة كانت أو محسوسة.. والبيان: الكشف عن الشيء، وهو أعم من النطق، لأنّ النطق مختصّ بالإنسان، ويسمّى ما يبين به بيانًا قال بعضهم: البيان يكون على ضربين:

أحدهما بالتسخير، وهو الأشياء التي تدل على حال من الأحوال من آثار الصنعة،

والثاني بالاختبار، وذلك إمّا يكون نطقًا، أو كتابة، أو إشارة)[28].

والمقدار المطلوب من البيان هو فهم الحجّة بمعنى معرفتها لا بمعنى فهمها على الوجه الذي يفهمها به أهل الإيمان والانقياد لله ورسوله. قال الشيخ سليمان بن سحمان: قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجّة، وفهم الحجّة فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجّة إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قام الحجّة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبلة والانقياد لما جاء به الرسول)[29].

المطلب الثالث : من تقوم عليه (صفة المخاطب بها):

بعد أن تكلّمنا عن صفة الحجّة وعن شروطها نتكلّم عن صفة المخاطب بها، وهو الذي تقوم عليه الحجّة ويشترط فيه الآتي:

  1. القدرة على فهم الحجّة:

وهذا يقتضي سلامة الآلات التي يستطيع بها أن يصل إلى الخطاب فيفهمه، أي سلامة العقل الذي هو مناط الأهلية وهو العقل الكامل، فلا تثبت الحجّة على المجنون والصبي الذي لا يعقل، وسلامة السمع إذ به يفهم الخطاب فالأصم من الأربعة الذين يحتجّون يوم القيامة.

  1. القدرة على الوصول إلى الحجّة :

فالعاجز عن الوصول إلى مكان إقامة الحجّة وهي غير متيسّرة بمحلّه ومكانه معذور مؤاخذ بمقدار ما بلغه من الحجّة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن الله يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:

بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأمّا العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كم انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات)[30].

المطلب الرابع : حكم الدعوة إلى الله في الواقع الأوربي.

اتفق العلماء قديمًا وحديثًا على وجوب الدعوة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، واختلفوا في نوعية الوجوب، هل هو على التعيين، أم على الكفاية؟ وتفصيل ذلك على النحو الآتي :

القول الأول: الدعوة إلى الله واجب عينيّ على كلّ مسلم ومسلمة كلٌّ حسب قدرته واستطاعته، وقد استدلّ أصحاب هذا القول بأدلّة منها:

  1. قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (سورة آل عمران آية: 104) فقالوا بأن لفظة (من) في هي: للبيان والتبيين، وليست للتبعيض.

جاء في تفسير المنار : ” وقد اختلفت المفسرون في قوله – تعالى – : منكم هل معناه : بعضكم، أم ” من ” بيانية ؟ ذهب مفسرنا ( الجلال ) إلى الأول ; لأنّ ذلك فرض كفاية، وسبقه إليه الكشاف وغيره .

وقال بعضهم بالثاني، قالوا : والمعنى : ولتكونوا أمّة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، قال الأستاذ الإمام : والظاهر أنّ الكلام على حدّ ” ليكن لي منك صديق ” فالأمر عام، ويدلّ على العموم قوله – تعالى – : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 : 1 – 3 ] فإن التواصي هو الأمر والنهي، وقوله – عز وجل – : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 : 78، 79 ] وما قص الله علينا شيئا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.

وقد أشار المفسّر (الجلال) إلى الاعتراض الذي يرد على القول بالعموم وهو أنّه يشترط فيمن يأمر وينهى أن يكون عالمًا بالمعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه، وفي الناس جاهلون لا يعرفون الأحكام، ولكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم، فإنّ المفروض الذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التنزيل هو أنّ المسلم لا يجهل ما يجب عليه، وهو مأمور بالعلم والتفرقة بين المعروف والمنكر، على أنّ المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة، والمنكر ضدّه وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة، ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا فتح القدير ولا المبسوط، وإنمّا المرشد إليه – مع سلامة الفطرة – كتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله، ولا يكون المسلم مسلمًا إلا به، فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوزوا أن يكون المسلم جاهلًا لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين المعروف والمنكر، وهو لا يجوز دينا .”[31].

وقال أبو حيان : “وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة” [32].( تفسير البحر المحيط : أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان) .

  1. بعموم قوله تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (سورة آل عمران آية: 110)، فجعلت الآية الدعوة سمةً عامة من سمات الأمة المسلمة، فتكون واجبة عليها جميعا . [33]( انظر دعوة البيانوني ) .
  2. وبقوله – صلّى الله عليه وسلّم -:”من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان [34]،وإن (من) من ألفاظ العموم فيعم الحكم.

قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية أن تكون فرْقَة من الأمَّة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ”. وفي رواية: “وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ”.[35]

  1. وبعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم:  ” ليبلغ الشاهد الغائب، فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه”.[36] وعموم قوله- صلّى الله عليه وسلّم- :”بلغوا عني ولو آية” .[37]

القول الثاني: الدعوة إلى الله واجب كفائي على المسلمين إذا قام به البعض سقط الإثم عن البقية وكان الأجر لمن قام بالواجب .

وهو قول جمهور المفسرين والفقهاء، وقد استدلّ أصحاب هذا القول بالآتي :

  1. بأن لفظة (من) في قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ﴾ (سورة آل عمران آية: 104) الآية، هي للتبعيض.

قال القرطبي – رحمه الله -: قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة. و” من” في قوله “منكم” للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء. وقيل: لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك.

قلت: القول الأول أصح؛ فإنّه يدلّ على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عيّنهم الله تعالى بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج: 41] الآية” [38].

وقال الشوكاني – رحمه الله – : ” في قوله : { مّنكُمْ } للتبعيض، وقيل : لبيان الجنس، ورجح الأوّل بأنّ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفًا، وينهون عنه منكرًا .”[39]

وقال ابن عاشور  – رحمه الله –  : ” وصيغة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} صيغة وجوب لأنّها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنّها أصلها، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية، فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلا بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه، وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير وقد كان الوجوب مقرّرًا من قبل بآيات أخرى مثل{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، أو بأوامر نبويّة، فالأمر لتأكيد الوجوب أيضًا للدلالة على الدوام والثبات عليه، مثل{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136]. …… وإن كان الخطاب بالضمير لجميع المؤمنين تبعًا لكون المخاطب بيا أيها الذين آمنوا إياهم أيضًا، كانت من للتبعيض لا محالة، وكان المراد بالأمّة الطائفة، إذ لا يكون المؤمنون كلّهم مأمورين بالدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بل يكون الواجب على الكفاية، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عطية، والطبري، ومن تبعهم، وعلى هذا فيكون المأمور جماعة غير معينة وإنما المقصود حصول هذا الفعل الذي فرض على الأمة وقوعه” [40].

وقال أبو السعود – رحمه الله – : ” أي ما صح وما استقام لهم أن ينفِروا جميعًا لنحو غزْوٍ أو طلب علمٍ كما لا يستقيم لهم أن يتثبّطوا جميعًا فإن ذلك مُخِلٌّ بأمر المعاش .

{ فَلَوْلاَ نَفَرَ } فهلا نفَر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ } أي طائفة كثيرة { مِنْهُمْ } كأهل بلدةٍ أو قبيلةٍ عظيمة { طَائِفَةٌ } أي جماعة قليلة { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } أي يتكلفوا الفَقاهةَ فيه ويتجشموا مشاقَّ تحصيلِها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } أي وليجعلوا غايةَ سعيِهم ومرمى غرضِهم من ذلك إرشادَ القومِ وإنذارَهم { إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ } وتخصيصُه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليلٌ على أنّ التفقهَ في الدين من فروض الكفايةِ وأن يكون غرضُ المتعلمِ الاستقامةَ والإقامةَ لا الترفعَ على العباد والتبسّط في التلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان “[41]

2 – ولأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل يحتاج إلى علم وبصيرة بالشروط والأحوال، وهذا لا يتوفر في جميع المسلمين، فيكون الواجب على من توفر فيه الشرط، فإذا قام بواجب الدعوة من توفرت فيهم الشروط سقط الإثم عن الباقين.

تحرير الخلاف والقول الراجح لحكم الدعوة إلى الله في أوروبا :

المتأمّل لخلاف العلماء في حكم الدعوة إلى الله يجد أنّ محصلة الخلاف تكاد تؤول إلى اتفاق عند النظر في الفقه التنزيلي لمسألة حكم الدعوة إلى الله، وذلك من خلال الآتي :

  1. اتفق الطرفان على أصل الوجوب الشرعي لمسألة الدعوة إلى الله، وهذا يعني أنّ الحكم داخل في مرتبة الوجوب في الأحكام التكليفيّة، وإنّما الاختلاف في تصنيف هذا الوجوب باعتبار الجهة المكلفة بالقيام به، هل هم المكلفون بأعيانهم؟ أم مجموع الأمّة؟ وهو خلاف يسير .
  2. الذين قالوا إنّ حكم الدعوة إلى الله هو الوجوب الكفائي، يتقيّدون بشرط النجاة من تبعات هذا الحكم وهو حصول الكفاية، وعندئذ يقع الاتفاق مع المخالفين لهم يتفقون بأنه إذا لم تحصل الكفاية لم يسقط الحكم عن الباقين، ويبقى الخطاب متوجهًا إلى الجميع حتى تتحقق الكفاية، وإذا لم تتحقق الكفاية أثم الجميع.

وبناء على ما تقدم يمكن تحرير القول فيما يتعلق بحكم الدعوة إلى الله في أوربا بأنه فرض كفاية بشرط تحقق الكفاية وفق ما يقرره أهل الاختصاص من المسلمين المقيمين في أوربا ، وقد يتعيّن على بعض المؤسّسات والأفراد بحسب الأزمنة، والأمكنة ، ويمكن تفصيل ذلك على النحو الآتي :

  • حكم الدعوة إلى الله بالنسبة إلى عموم أهل الإسلام في أوربا هو فرض كفاية ولا يسقط عنهم الإثم إلّا إذا تحوّل هذا الفرض إلى عمل حقيقيّ عبر مؤسّسات وهيئات ومكوّنات دعوية يمكن من خلالها الاطمئنان إلى أنّ مضمون الرسالة الدعوية لهذا الدين – وهو أنّ الإنسان الأوربي مخاطب بالاستجابة لرسالة النبي الخاتم صلّى الله عليه وسلّم  – قد شاع بين غير المسلمين بحسب القدرة والاستطاعة .
  • حكم الدعوة إلى الله بالنسبة للمراكز الإسلاميّة والمساجد والمؤسسات الدعويّة هو الوجوب العينيّ على هذه المؤسّسات، أي يجب على هذه المؤسسات أن يكون لها مناشط الدعويّة تبلّغ من خلالها الرسالة الدعوية في الدوائر المحيطة بها .
  • حكم الدعوة إلى الله بالنسبة للأفراد هو الندب كلٌّ بحسب موقعه وعمله وحركته في المجتمع، كلّ ذلك بشرط القدرة والاستطاعة القانونية والاجتماعيّة.

“المبحث الثالث”

التحدّيات الدعوية وأثرها في العيش المشترك

يقول سبحانه:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .( الأنعام : 33 )

لا يشكّ أحد من العقلاء ممن يتابع شؤون الإسلام والمسلمين في أوربا، أنّ هناك حملة شرسة شديدة، متنوّعة في أساليبها، وطرقها على الإسلام والمسلمين في أوربا، وهي حملة تشنّها جهات متعدّدة ومتنوعة معروفة، يقودها الإعلام بوسائله المختلفة، إعلام تخلّى عن كلّ المواصفات المطلوبة للإعلام النزيه المنصف الموضوعي.

وهي حملة لم تترك جانبًا من جوانب ديننا الحنيف إلا وطعنت أو شككت فيه، فلم يسلم من ذلك القرآن المنزل، ولا السنّة المطهرة، ولا النبيّ الكريم- صلّى الله عليه وسلّم- ولم تسلم شعائرنا ولا أحكام ديننا كقضايا المرأة ونحوه، وأحكام الأسرة والطفولة، وأحكام الجهاد والسلم وغير ذلك من شرائع ديننا وأحكام ربنا.

ولم يسلم المسلمون كذلك من هذه الحملة التي أظهرتهم كوحوش غاب لا قيم لهم ولا أخلاق.

وكم أعلن العقلاء من أبناء المجتمعات الأوربية أنّ هذه الحملة الظالمة فضلًًا عن كونها من الظلم الذي استقرت على تحريمه كلّ الشرائع السماوية، والقوانين الأرضيّة، هي كذلك لا تخدم الأهداف الكبرى المتعلّقة بمبدأ التعايش السلمي بين أبناء المجتمعات الأوربية بدياناتهم وأعراقهم وثقافاتهم كافّة.

والدعاة إلى الله يعلمون جيّدًا أنّ هذه المظاهر العدوانيّة الاستفزازيّة لهذه الحملة لها أهداف لا تخفى على أحد، فغاية ما يريده أصحابها أن يشوشوا على حركة الإسلام والمسلمين في أوربا، وهو أمر ليس بجديد في تاريخ الدعوات، ومن قرأ سيرة الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله يجد من الكيد والسخرية والعداء الذي تزعمه أعداء الدعوات الشيء الكثير.

فهذا نوح شيخ الأنبياء عليه السلام قال له قومه :{إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } . (المؤمنون : 25 ) وقالوا له:{ … أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ }. ( الشعراء : 111 )

وهذا لوط عليه السلام قال له قومه :{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }. (الأعرف : 82 )

وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه كلامًا كأنه يصف أصحاب الحملة الظالمة في الغرب :{ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ( الأعراف : 86 ) .

 وهكذا لو تتبعنا الدعوات إلى دعوة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم سنجد كثيرًا من الكيد والتآمر بحقيقة واحدة وصور متعددة.

قال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم مبينًا له أنّ منهج التكذيب والعداء الذي تعامل به قومه معه، هو منهج قديم قدم الدعوات : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ }.(فاطر : 4) .

ولبيان أهم التحدّيات التي تواجه الدعوة الإسلامية في أوربا وأثر ذلك في التعايش السلمي بين أبناء المجتمعات الأوربية نذكر المطالب الآتية :

المطلب الأول : التشكيك في دعوات المسلمين للتعايش السلمي

المطلب الثاني :محاولة توريط المسلمين في مواجهات عنصرية وأثرها في التعايش

 

المطلب الأول : التشكيك في دعوات المسلمين للتعايش السلمي:

إنّ الحملة المسعورة التي تقودها بعض الأحزاب والشخصيات المتطرّفة والعنصريّة في أوربا تركّز على تحطيم مصداقيّة الإسلام والمسلمين في نفوس الناس، وأنّ المسلمين إنّما هم أصحاب مصالح ونفاق، ليس لديهم صدق فيما يقولون ويعتقدون تجاه دعوات التعايش السلمي في المجتمعات الأوربية، حتى إنّ بعض الصحف الألمانيّة تكلّمت في مقالات كثيرة عمّا سمّته نفاق الأئمة، وأنّهم استنكروا ما حصل من أحداث إرهابيّة في أوربا بألسنتهم أمّا قلوبهم فهي مع الإرهاب وأهله إلى غير ذلك من التهم الباطلة .

والدافع وراء هذه الأكاذيب إنّما هو النيل من مصداقيّة الدعوة والدعاة في نفوس أبناء المجتمعات الأوربية، مع الحرص على تسميم المجتمع وتعبئته ضدّ الإسلام ودعوته، وضدّ المسلمين وجهودهم ووجودهم في أوربا .

تبع ذلك محاولات كثيرة للتقليل من قيمة المسلمين المعنويّة، باتّباع مجموعة من أساليب السخرية، والاستهزاء، والاتهام، والتشويه، لتشكيك الناس في أمر الإسلام والمسلمين.

 وما أمر الرسوم الساخرة التي تتعلّق بمقام النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- وأمر الفيلم الذي يسخر من القران الكريم وعزم البعض على إحراقه منّا ببعيد.

وهذا الواقع يذكّرنا بمجموعة من الآيات المباركة التي رسمت واقع التحدي للدعوة في مهدها الأول في مكة المكرّمة .كما في قوله تعالى :{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا }. ( الفرقان : 41 ). وقوله تعالى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلً}( الفرقان : 5 ).

ونحن في أوربا قد يصيبنا نوع من الحزن على محاولة النيل من مصداقية هذا الدين، ولكنّنا نؤمن بإذن الله، بأنّ الله يدافع عن الذين آمنوا، وإن كنّا نحزن، فقد حزن من هو خيرٌ منا على هذه الدعوة المباركة، { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ]الأنعام: 33[.  والعاقبة بعد ذلك للمتقين { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (التوبة : 32) .

المطلب الثاني : محاولة توريط المسلمين في مواجهات عنصرية وأثرها في التعايش

ممّا أصبح معلومًا للناس بالضرورة أنّ هناك محاولات آخذة في التزايد- مع مرور الأيام والليالي – تتعلّق بالأعمال والمناشط ذات الصبغة العنصرية، وصورتها تتجلّى بالسماح لمجموعات من العنصريّين للقيام بأعمال استفزازيّة في مناطق استقرار المسلمين وسكناهم، بل أمام المساجد والمراكز الإسلاميّة فضلًا عن مجموعة من المظاهرات التي كانت تعلن صراحة العداوة ضدّ الوجود الإسلامي في أوربا، مع تصرّفات وشعارات ودعوات كلّها استخفاف واستحقار وإهانة للمسلمين ودينهم، تصرفات كثيرة ومتنوّعة يقومون بها تحت ذريعة حرية الرأي وحرية التعبير والتظاهر.

كلّ ما سبق يجعلنا نقف أمام مشروع هدّام يهدف إلى شحن أجواء التعايش السلمي بمعاني الكراهية والانتقام ما قد يدفع ببعض المسلمين – ممن نفد صبرهم – إلى الدخول في مواجهات مباشرة مع الحركات العنصريّة، تلك الموجهات التي  تؤدّي إلى اتساع دائرة الصراع ودخول المجتمع بأكمله في أتون الصراعات الدمويّة المدمّرة لكلّ معاني العيش المشترك، ومن غرائب الأمور أنّه عندما تقع تلك المواجهات تكون التهمة جاهزة للمسلمين بعدم قبول الرأي الآخر ،أو عدم الانضباط بالقوانين، ثم تستغل بعض ردود الأفعال من بعض المسلمين من الناحية الإعلامية لتسليط الأضواء على الإسلام والمسلمين بشكل يتنافى مع أقل القواعد الإعلاميّة التي تدعو إلى النزاهة والموضوعيّة.

إنّ الدعوة إلى احترام أسس العيش المشترك التي تتبنّاها الدول الأوربية لا تنسجم أبدًا مع اطلاق اليد للمجموعات العنصرية بالتعبير بكل ما من شأنه استفزاز المسلمين بالطعن فيهم والاستهانة بدينهم وعقيدتهم ومقدساتهم تحت دعاوى حرية الرأي والتعبير .

أمام كلّ هذه التحديات تبرز الوظيفة الدعوية للمسلمين في أوربا، وتتمحور وظيفة الدعاة والعلماء والمصلحين في ضرورة الدعوة إلى ضبط النفس والتخلق بأخلاق المسلمين في هذه الأجواء، تلك الأخلاق التي ترتكز على معاني الصبر والاحتساب والإعراض عن الجاهلين، وعدم الوقوع في شراك ردود الأفعال التي لا يحمد عقباها مع الاستحضار الدائم لقوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } (199) الأعراف ، ولقوله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (60) الروم، ولقوله { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}(55) القصص  .

إنّ التعايش السلمي الذي ندعو إليه جميعًا ينبغي أن تُهيأ له الأجواء النقيّة الصافية من كلّ معاني الكراهية والانتقام، وهذا واجب مشترك بين جميع أبناء المجتمعات الغربيّة.

المطلب الثالث : محاولة إسقاط الحماية القانونيّة عن المسلمين وأثرها في التعايش السلمي.

من مقوّمات النجاح لدعوات التعايش السلمي بين أبناء المجتمعات الغربيّة شعور الأقليّات الدينيّة بأنّها تقف على قدم المساواة في الحقوق والواجبات التي تفرضها فلسفة المواطنة في الدول الأوربية، ووصفهم بالأقلية لا أثر له في حقوق المواطنة إلّا بشكل إيجابي من زاوية مراعاة بعض الخصوصيّات الدينيّة لهذه الأقليّات ما يساهم في استقراراهم الديني والنفسي والأخلاقي الذي يدفعهم نحو المزيد من الاندماج في تلك المجتمعات .

فإذا اختل الميزان وشعرت الأقلية المسلمة بأنها مستهدفة ببعض القوانين والإجراءات التي تؤثّر في قاعدة المساواة مع غيرها من أبناء المجتمع في الحقوق والواجبات عندئذ لا محالة ستشعر الأقلية المسلمة بأنّ كلّ ما يقال عن التعايش السلمي والاستقرار الاجتماعي إنّما هو مجرّد دعاوى لا حقيقة لها .

والذي نراه اليوم أنّ هناك محاولات مستمرّة تبذل من دعاة العنصريّة، ومن الأحزاب اليمينية المتطرّفة تسعى على الدوام لتحويل التخوّفات الموهمة من الأقلية المسلمة في أوربا إلى قوانين تنتهي لا محالة إلى إسقاط ما استطاعوا من القوانين الحافظة لحقوق المسلمين وغيرهم من الأقليات الدينية، لتشرّع بعد ذلك مجموعة من القوانين بدلًا منها بأسماء مختلفة ظاهرها فيه حفظ أمان المجتمعات الأوربية واستقرارها، وباطنها فيه العنصريّة ضد الإسلام والمسلمين .

[1]  –

[2]  – انظر لذلك : معجم مقاييس لابن فارس ( 2/280)، والصحاح في اللغة للجوهري ( 1/206)،والمعجم الوسيط ( 1/ 286) .

[3]  – مجموع الفتاوى،( 15/157) .

[4]  – المدخل إلى علم الدعوة للدكتور محمد أبوالفتح البيانوني ص 17 .

[5] –  المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، ( 1/ 313) .

[6]  – فقه الدعوة إلى الله، عبدالرحمن حبنكة الميداني، ( دار القلم : دمشق )، ( 1/ 17 )  .

[7]  – الفرق بين الدعوة والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مجلة النبأ العدد 35، السنة الخامسة .

[8]  – فقه الدعوة إلى الله، ( 1/ 16) .

[9]  – انظر لذلك، معجم مقاييس اللغة 5/435، الصحاح /433, المعجم الوسيط 2/925، لسان العرب 2/615 1/309.

[10] –   صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط لابن الصلاح ص: 223-224.

[11]  –  شرح النووي على مسلم 2/37.

[12]

[13]

[14]  – سبق تخريجه .

[15]  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني، ( دار الفكر للطباعة : بيروت – لبنان)،2/43

[16]  – الأساس في السنة وفقهها، 1/88

[17]  –

[18]  في اليوم التالي .

[19]  منير محمد غضبان، فقه السيرة النبوية، 224

[20]  تفسير القرآن العظيم، 2/118

[21]  أضواء البيان 1/355

[22]  مجموع الفتاوى، 4/116

[23]  الجواب الصحيح، 1/68

[24]  تفسير القرآن العظيم، 2/4778

[25]  –

[26]  تفسير القرآن العظيم، 4/373

[27]  ابن القيم الجوزية، طريق الهجرتين، 414

[28]  مفردات القرآن للراغب، 157

[29]  نقلا عن كتاب العلم الشريف 1/388

[30]  مجموع الفتاوى، 20/59

[31] – تفسير المنار، محمد رشيد بن علي رضا، (  4/22)

[32] – تفسير البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف بن حيّان،( 3/ 343) .

[33] –  المدخل إلى فقه الدعوة إلى الله، أبو الفتح البيانوني، (32 )

[34] – تخريج

[35] – تفسير ابن كثير، (2/91)

[36]  –

[37]  –

[38] – تفسير القرطبي، ( 4/ 165)

[39]  – فتح القدير، (2/8) .

[40] – التحرير والتنوير، ( 3/178) .

[41]  – تفسير أبو السعود،( 3/223)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق