البحوث

الخطاب الإسلامي ودوره في تعزيز قيم التعايش الإيجابي

الخطاب الإسلامي ودوره في تعزيز قيم التعايش الإيجابي

إعداد

الشيخ أمين الحزمي
مقدمة

 إن العيش المشترك بين أبناء المجتمع fبل وبين الشعوب الإنسانية هو غاية نبيلة تسعى لها سائر الأديان والرسالات السماوية  ويدعو لها العقلاء والحكماء في سائر العالم.

وإنه لمن المهم كثيراً في ظل الانفتاح العالمي بين الشعوب السعي من أجل نشر مبادئ العيش الإيجابي المشترك وتدعيم ثقافة التواصل والحوار والتعاون والتكامل، والعمل الجاد على إزالة الحواجز وأسباب الصراعات والإنقاسمات، ويتأكد ذلك أكثر في المجتمعات القائمة على التعدد والتنوع العرقي والديني والثقافي.

وإنها لمسؤلية عظمى مشتركة بين الساسة والمثقفين والإعلاميين ورجال الدين والمعلمين وواضعي المناهج الدراسية وغيرهم .

وفي هذا الإطار وإسهاماً متواضعاً مني في هذه الرسالة العظيمة – من خلال التركيز على جانب الخطاب الإسلامي ودوره في تعزيز قيم العيش المشترك-  يأتي هذا البحث المقدم للدورة العادية الخامسة والعشرين للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقدة بمدينة إستانبول في تركيا والمنعقد في الفترة من: 22-26 ذي الحجة 1436هـ الموافق لـ 6-10 تشرين الأول (أكتوبر) 2015م، والتي  حملت واحداً من أهم العناوين: “فقه العيش المشترك في أوروبا، تأصيلًا وتنزيلًا” والذي يحاول المجلس من خلاله الإسهام في تعزيز قيم العيش المشترك وخاصة في البلاد الأوروبية التي يعنى بها هذا المجلس المبارك .

إن المسؤلية على الأئمة والدعاة والمؤسسات الإسلامية في الغرب لتتضاعف بحجم تضاعف الوجود الإسلامي الذي صار جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأوروبي، ويتحتم العمل على جعل هذا الوجود أكثر إيجابية وتفاعلاً وأكثر تواصلاً وتطميناً للمجتمعات الأوروبية، خاصة في ظل حملات التخويف من الإسلام .

وينبغي علينا هنا أن نعترف بأن الخطاب الإسلامي عموماً وفي الغرب على وجه الخصوص لا زال بحاجة إلى الكثير من المراجعات والنقد المنهجي الجريئ، وبحاجة إلى تحديث وتطوير مستمر في الوسائل والمضامين والمفردات والإهتمامات، سواء كان ذلك الخطاب الموجه إلى المسلمين في المراكز والمساجد أو الخطاب العام الموجه للرأي العام، وينبغي أن يكون هناك وضوحاً وانسجاماً تاماً في هذا الخطاب.

المبحث الأول : خطاب العيش المشترك في منهج الأنبياء
من خلال القصص القرآني
تمهيد:
أهمية القصص القرآني في فقه الدعوة والخطاب:

لم تأت تلك الحفاوة الكبيرة في القرآن الكريم بالقصص عن فراغ أو لمجرد التسلية بأخبار من سبق من الأمم، ولم تكن تلك المساحة التي شغلها القصص القرآني إلا دلالة واضحة على أهميتها، حيث شغلت ثلث القرآن تقريباً من حيث المساحة ومن حيث المعاني، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الإخلاص: «إنها تعدل ثلث القرآن»([1]) مع قلة حروفها فأجاب:

” أما توجيه ذلك، فقد قال طائفة من أهل العلم: إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي” ([2]).

ذلك الكم الهائل من القصص المليئ بالمواقف والأحداث والحوارات وخاصة حوارات الأنبياء مع أقوامهم وأساليبهم في الدعوة يستوجب التوقف والتأمل، من أكثر من جانب وأكثر من زاوية، ثم أخذ المنهجية السليمة والدروس والعبر والاستفادة منها في تجارب الدعاة المختلفة عبر العصور، وأهم تلك الجوانب التي لم تأخذ حقها من الدراسة والبحث بما يتناسب مع حجمها في القرآن، جوانب فقه الدعوة وأساليب الحوار ولغة الخطاب.

لقد أخذت آيات الأحكام المتعلقة بالأمر والنهي الحيز الأكبر من الاهتمام من قبل العلماء والمفسرين والفقهاء، ومع أن الاهتمام بها لا شك أمر مطلوب، إلا أنه لا ينبغي أن يكون على حساب غيرها، فإن القرآن كله له نفس القيمة والقدر والأهمية باعتباره كلام الله تعالى، ومنهاج الهداية الرباني للبشرية جمعاء بكل ما تحمله آياته من معاني وأحكام ودلالات.

    ولتوضيح الصورة أكثر من خلال مقارنة بين آيات الأحكام والآيات التي تحدثت عن القصص سنجد أن عدد آيات الأحكام يتراوح بين مائة وخمسين وخمسمائة آية في أكثر التقديرات، وذلك أن العلماء اختلفوا في تحديد عدد آيات القرآن إلى أربعة أقوال مشهورة:

القول الأول: عدد آياتها خمسمائة آية، وهو قول مقاتل بن سليمان، والإمام الغزالي وفخر الدين الرازي وابن قدامة المقدسي ([3])، قال ابن الجزي: “أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي. والمسائل الفقهية، وقال بعض العلماء إنّ آيات الأحكام خمسمائة آية”  ([4])، وقال قطب الدين الرواندي من الإمامية: “ففى القرآن الكريم ما يقرب من خمسمائة آية تتناول بيان رؤوس الاحكام الفقهية وأصول التشريع الاسلامي من الوجهة العملية، وهى التى اصطلح العلماء تسميتها ب‍ (آيات الاحكام ) والحديث عنها وشرحها وتفسيرها ب‍فقه القرآن”  ([5]).

القول الثاني: “أن عدد آياتها مائة وخمسون آية”  ([6]).

القول الثالث: أنها مائتا آية، وهو قول أبي الطيب القنوجي وقال: “وقد قيل: إنها خمسمائة آية، وما صح ذلك، وإنما هي مائتا آية أو قريب من ذلك”  ([7]).

القول الرابع: عدم حصر آيات الأحكام بعدد معين بل هو مختلف حسب علم الفقيه والمجتهد، وهو قول ابن دقيق العيد نقل عنه الزركشي ([8]).  والقرافي ، والصنعاني([9]). والشوكاني([10]).

وقد كُتِب في تفسير آيات الأحكام الكثير من الكتب والمجلدات على مر العصور الإسلامية ابتداءاً من كتاب (تفسير الخمسمائة آية) المنسوب لمقاتل بن سليمان مروراً بكتاب أحكام القرآن للرازي وأحكام القرآن لأبي بكر بن العربي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي وغيرها من الكتب .

بينما في المقابل فإن عدد الآيات المتضمنة للقصص القرآني  تتجاوز بكثير عدد آيات الأحكام فهي تزيد على ألف آية، إلا أنها لم تحظ بعشر الاهتمام الذي حظيت به آيات الأحكام.

 صحيح أن المتقدمين كتبوا عن قصص الأمم السابقة كأحداث تاريخية في كتب التاريخ لكن التناول القرآني لهذه القصص هو الأهم والأجدر بالدراسة والبحث واستخلاص الدروس والعبر،  ومن ذلك أحكام فقه الدعوة والخطاب والحوار باعتبار أن الدعوة هي المهمة الأساس التي جاء لأجلها الأنبياء والرسل.الخطاب الإسلامي ودوره في تعزيز قيم التعايش الإيجابي إسلام الخطاب الإسلامي ودوره في تعزيز قيم التعايش الإيجابي 152 1

ولقد كتب عدد من المتأخرين عن قصص القرآن والمستفاد منها ومنهم شيخنا العلامة الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه المستفاد من قصص القرآن وغيره إلا أنها تبقى كتابات محدودة جداً ومتواضعة، والموضوع ما زال بحاجة إلى زيادة دراسة وبحث واستقصاء، ثم إن هناك جوانب مهمة وهي التي أعنيها هنا لم يُلتفت إليها إلا في إشارات متفرقة في بعض الكتب هنا وهناك .

خطاب الأنبياء لأقوامهم:

إن المتتبع لحوارات الأنبياء مع أقوامهم وأساليب دعوتهم سيجد الكثير من المعاني المهمة التي يمكن أن يستفيد منها الدعاة وخاصة في بلاد الغرب في تطوير خطابهم الإسلامي، ومن أهم هذه المعاني التي يجب أن نتوقف معها:

المطلب الأول: خطاب القرب والانتساب

لم يكن النبي وهو يخاطب قومه ويدعوهم يتحدث وكأنه كيانٌ منفصلٌ عن مجتمعه، أو كأنه قادم من عالم آخر، بل يخاطبهم باعتباره واحداً منهم، ينتسب إليهم مستدعياً علاقة الانتساب إلى قبيلة واحدة أو مجتمع واحد ( ياقوم) . ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾([11]).

﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ  هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ  إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾([12]).

﴿ وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ  إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ ([13])

﴿ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا  قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ. ـ﴾([14]). ([15])  بل إن نبي الله لوط عليه السلام يزيد على ذلك فيتحدث عن بنات قريته بقوله “بناتي” قال تعالى: ﴿ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ([16])

والذي يظهر من خلال السياقات أنه نداء التحبُّب والتذكير بالرباط والعلاقة التي تقتضي حرص المتكلم على مصلحة من يخاطبهم، وتستدعي إصغاء المخاطب لما بعد النداء، كما يقول شيخ القبيلة لأفرادها عندما يريد أن يجمعهم على أمر ذي بال: (يا قبيلتي…) أو قول الحكام والملوك: (يا شعبي العزيز)، أو قول الأب: (يا أبنائي) إلى ما هنالك .

ثم يأتي القرآن ليقرر هذا الانتماء في مواضع كثيرة  من خلال الإشارة إلى الأخوة الإنسانية بين النبي وقومه كما في الآيات السابقة على سبيل المثال( وإلى عاد أخاهم صالحاً) ( وإلى مدين أخاهم شعيباً) وغيرها من الآيات رغم اختلاف الدين والعقيدة في غالب الأحيان بين النبي وقومه، ورغم قلة الأتباع منهم إلا أن اختلاف الدين لم ينفِ علاقة النسب وأواصر القرابة ورابطة الوطن ولم يأتِ للقضاء على كل  تلك العلاقات.

ما أروع تلك النداءات وذلك الخطاب من الأنبياء وما ألطفه وأحناه، وكم يحمل في طياته من جميل العبارات، ومن معاني القرب، رغم ما واجهوا من تكذيب وسخرية  وأذى في كثير من الأحيان، وما أحوج الدعاة اليوم استلهام هذه التجارب واقتفاء آثارهم والتعلم من أساليبهم، فإن الله لم يذكر لنا هذه الأساليب ويكررها عشرات المرات إلا لكي نتعلم منها.

وما أحوج الدعاة اليوم إلى خطاب يشعر المتلقين بالقرب والعلاقة والحرص عليهم والانتماء إليهم بأي وجه من أوجه الانتماء الممكنة، فأن هذا مما يذيب الحواجز ويقرب ما ابتعد من المسافات، ويمنح الدعوة والداعي فرصاً من التقارب والتصالح والتأثير على المجتمع.

المطلب الثاني: بلسان قومه

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ([17])

 قال ابن كثير: “هذا من لطفه تعالى بخلقه: أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، عن عمر بن ذر قال : قال مجاهد : عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يبعث الله تعالى ، نبيا إلا بلغة قومه “([18]).

وبهذا يتبين أن حكمة الله اقتضت أن يرسل إلى كل قوم أو أمة رسولاً بلسان أهلها ولغة أهلها وذلك كي تبلغ الحجة، وهذا مؤشر على أهمية إتقان اللغة من قبل الدعاة في أوروبا والغرب، ولا يكفي إتقان اللغة، بل إن قوله تعالى ( بلسان قومه) تحمل في دلالاتها: اللغة، والعقلية والخلفية الثقافية وغير ذلك، إذ ربما أتقن الداعية لغة قوم ولكنه لم يتقن معرفة عقلياتهم، ويستوعب طريقة تفكيرهم، وما يؤثر فيهم ويجذبهم مما لا يؤثر ولا يجذب.

ولهذا فإنه من المهم هنا الإشارة إلى ضرورة الكتابة عن الإسلام بعقلية المسلم الأوروبي ولا يكتفي بترجمة الكتب التي كتبت في في ظل بيئات أخرى.

المطلب الثالث : إظهار الجوانب الوجدانية والعاطفية:

  فمع أن خطابات الأنبياء وحوراتهم مع أقوامهم كانت مليئة بالأدلة العقلية والبراهين إلا أنها في المقابل كانت تحمل قدراً كبيراً من المشاعر والوجدان والعاطفة التي يظهرها أنبياء الله مع أقوامهم رغم تكذيبهم، مما يحدو بالمسلم والداعية على وجه الخصوص أن يتحلى بهذا السلوك، فهو يدعو بروح الناصح المشفق الخائف على قومه،  قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾([19])  وقال تعالى: ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ ([20]) والامثلة كثيرة في القرآن الكريم. والتعبير بالخوف عليهم دليل حبِّ سكن قلوبهم تجاه أقوامهم وحرص عليهم رغم ما ينكرونه عليهم من كفرهم . فأين الخطاب الإسلامي اليوم من هذه الروح التي حملها الأنبياء تجاه أقوامهم ؟ إننا نجد مع الأسف نماذج من الدعاة يتكلمون بعيداً عن أي عاطفة وكأنهم يتحدثون إلى خصوم وأعداء لا يحملون لهم سوى الكره والبغض.. والله المستعان.

المطلب الرابع:التفاعل مع واقعهم ومواجهة آفاته والعمل على معالجتها:

إن المتتبع لمنهج الأنبياء في دعوتهم لأقوامهم كما عرضه لنا القرآن الكريم يجد أن خطاب الأنبياء كان متفاعلاً مع قضايا مجتمعاتهم، خطاباً يعيش الواقع ويتعاطى معه ويوجهه، ويقوم اعوجاجه ولم يكن خطاباً جامداً معزولاً عن تفاعلات الواقع وقضاياه.

فلوطاً عليه السلام على سبيل المثال يُقَوِّمُ في أمته السلوك والأخلاق ، ويواجه الشذوذ الجنسي وتفشي الفواحش والمنكرات والانحرافات الاجتماعية، قال تعال: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ([21])  .

وصالح عليه السلام يواجه الفساد والمفسدين قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾([22]).

وشعيب عليه السلام يُبَلِّغُ أمر الله في الأموال والبيوع ، وينادي فيهم ألا يطففوا وألا يخسروا الموازين والمكاييل، وأن يعرفوا حق الله في أموالهم قال تعالى:﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ *وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ([23])

وموسى عليه السلام عالج في قومه الطاغوتية المتمثلة في فرعون ، وقام يحررهم من استعباده وكافح وناضل في مواجهة هذا الاستبداد السياسي والديني والاجتماعي الذي لم يسبق له مثيل، قال تعالى: ﴿قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِن الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾([24])

ويوسف عليه السلام رغم أنه أُدخل السجن ظلماً ولبث فيه بضع سنين إلا أنه حين أحس -بفضل ما علمه الله إياه من تأويل وتعبير الرؤى- بنذر أزمة اقتصادية عاصفةٍ تطل برأسها على المجتمع المصري آنذاك، لم يتجاهل أمراً كهذا دون أن يقدم مساعدة لدولة ظلمته وسجنته ومجتمع خذله، لم يتجاهل سيدنا يوسف عليه السلام هذه القضية منشغلاً بدعوته غير مبالٍ بما سواها كما يفعل كثير من الدعاة اليوم، بل حمل هم قومه وقدم خطته الشهيرة( خطة الانقاذ الاقتصادي) لخمسة عشر سنة قادمة وحين أتيحت له الفرصة لاختيار أحد ملفات الحكم والتسيير في دولة مصر حينها تقدم وبجدارة لإدارة الملف الأصعب والأهم والذي يمثل ما يسميه فقهاؤنا بواجب الوقت، إنه ملف الاقتصاد، وكان له ما أراد وكتب الله لخطته النجاح.

إن الخطاب الإسلامي في أوروبا اليوم معنيٌّ بتوجيه وتفعيل طاقات المسلمين المقيمين في هذه البلدان للقيام بدورهم في تطوير وخدمة المجتمعات ووضع بصماتهم فيها كواجب أخلاقي ديني ووطني .

المطلب الخامس: تناسب معجزت الأنبياء مع أرقى فنون عصرهم (وسائل الدعوة) :

الحكمة الإلهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره، لأن ذلك أسرع للتصديق وأقوم للحجة، فكان من الحكمة أن يخص موسى عليه السلام بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. وقد كان السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والاذعان به، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الأولى.

رأى علماء السحر ذلك فعلموا أنه خارج عن حدود السحر وآمنوا بأنه معجزة إلهية، وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح عليه السلام وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب، كان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين، لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان.

وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى، وأن يبرئ الأكمه والأبرص.

ليعلم أهل زمانه أن ذلك شيء خارج عن قدرة البشر، وغير مرتبط بمبادئ الطب، وأنه ناشئ عما وراء الطبيعة.

وأما العرب فقد برعت في البلاغة، وامتازت بالفصاحة، وبلغت الذروة في فنون الأدب، حتى عقدت النوادي وأقامت الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدر على ما يحسنه من الكلام، وبلغ من تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم، وكتبوها بماء الذهب في القباطي، وعلقت على الكعبة، فكان يقال هذه مذهبة فلان إذا كانت أجود شعره .

واهتمت بشأن الأدب رجال العرب ونساؤهم، وكان النابغة الذبياني هو الحكم في شعر الشعراء. يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبة حمراء من الادم، فتأتيه الشعراء تعرض عليه أشعارها ليحكم فيها ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يخص نبي الإسلام بمعجزة البيان، وبلاغة القرآن فعلم كل عربي أن هذا من كلام الله، وأنه خارج ببلاغته عن طوق البشر، واعترف بذلك كل عربي غير معاند.

المبحث الثاني: أهم متطلبات الخطاب الإسلامي في الغرب:

أولاً: أن يكون الخطاب إنسانياً :

إن حاجتنا اليوم أشد ما تكون إلى إعادة اكتشاف البعد الإنساني في الإسلام ومراجعة تراثنا وعلومنا لملاحظة المكانة التي احتلها الإنسان من حيث هو إنسان أُرسلت لأجله الرسل وأُنزلت لأجله الكتب السماوية، خاصة مع سيادة خطاب يكاد يصور الإسلام على أنه جملة قوانين وأحكام فحسب، تكاد تفقد معناها الإنساني المرِن والمتحرك في واقع الحياة، أو أنه خطاب يعتني بالمسلمين فقط دون غيرهم، فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان وإما حديث عن الإنسان، كما يقول شيخنا العلامة يوسف القرضاوي ليس مجرد سورة ولا سور بعينها، بل القرآن كله.

ومن دلائل اهتمام الإسلام بالإنسان أنه ذُكر في القرآن  بلفظ الإنسان 63 مرة، وذُكرت  كلمة الناس 240 مرة، فضلاً عن استعمالات أخرى تصب في نفس الاتجاه مثل بني آدم {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، {يَا بَنِي آدَمَ} وغيرها.. والمقصود بابن آدم هو الإنسان.

ومن دلائل اهتمام القرآن بالإنسان أيضاً أنّ أول ما نزل من آيات القرآن على رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم خمسُ آيات من سورة العلق ذكرت كلمة “الإنسان” في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان هذه الآيات هي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾([25]). وسميت سورة كاملة باسم سورة (الإنسان)، وختم القرآن كما في ترتيب المصحف بسورة تحمل اسم (سورة الناس).

وحديث القرآن عن الإنسان أو الموجه للإنسان يخاطب الإنسان من حيث إنسانيته لا من حيث شكله ولا من حيث حجمه ولا من حيث مكانته ومركزه الاجتماعي ولا من حيث لونه أو لغته أو ماله أو غير ذلك من الاعتبارات.

ومِن ثمرات إنسانية الإسلام اليانعة مبدأُ الإخاء الإنساني، وهو مبدأ قرَّره الإسلامُ بناءً على أنّ البشرَ جميعاً أبناءُ رجُلٍ واحد، وامرأة واحدة، ضمَّتهم هذه البنوّةُ الواحدةُ المشتركة، والرحمُ الواصلة، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾([26])

والنبي صلى الله عليه وسلم يقرِّر هذا الإخاء ويؤكِّده كل يوم أبلغ تأكيد؛ فقد روى الإمام أبو داود وأحمد في مسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ …«أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ… »([27])أخرجه أبو داود عن زيد بن أرقم.

 والنَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ, فَقِيلَ لَهُ : إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ ، فَقَالَ : أَلَيْسَتْ نَفْسًا “([28]) ، لذلك عدّ الإسلام الاعتداء على أية نفس اعتداء على الإنسانية كلها، كما عدّ إنقاذَ أية نفس إحياء للناس جميعاً، وهذا ما قرره القرآن الكريم بوضوح جلي ، قال الحكيم الخبير :

﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾([29])

إن الحديث عن البعد الإنساني في الإسلام يشوبه قصور كبير في الخطاب الإسلامي في أوروبا، وربما استعرض البعض من الدعاة هذه الجوانب فقط في الحديث أمام غير المسلمين سواء في وسائل الإعلام أو من خلال اللقاءات المشتركة، فيبدو أشبه ما يكون باستعراض يجمل به صورة الإسلام ويسوِّقه للناس بينما الأهم أن يكون هذا البعد حاضراً في الخطاب الإسلامي بين المسلمين أنفسهم وأن يكون موجهاً للمسلمين قبل غيرهم تصحيحاً للمفاهيم وتربية للناس على منهج القرآن الكريم فحاجة المسملين إلى ذلك مقدمة على حاجة غيرهم.

وينبغي أن يركز الخطاب الإسلامي في بعده الإنساني على قضايا الإنسانية  العادلة كلها، فلطالما استوقفت الكثيرَ من الدعاة قضايا المستضعفين من المسلمين وخطبوا عنها وتظاهروا تضامنوا ودعوا وقنتوا لأجلها، في مقابل إغفال الكثير من القضايا الإنسانية التي يعيشها أو يعاني منها الكثير من بني البشر  من غير المسلمين.

ولقد كان للمؤسسات الإسلامية في إيطاليا تجربة رائعة مع ضحايا زلزال مدينة ( لاكويلا ) الإيطالية عام 2009 والذي لقي بسببه 308 شخص حتفهم كما دمرت الكثير من البيوت وهجر المئات، بل الآلاف وقد تفاعلت الكثير من المؤسسات وعلى رأسها اتحاد الهيئات الإسلامية والإغاثة الإسلامية، ونظمت عمليات إغاثة ومساعدات للمتضررين جنباً إلى جنب مع مؤسسات المجتمع المدني الإيطالي، وقد تركت تلك المبادرات أثراً طيباً على المستوى الشعبي والرسمي آنذاك .

ثانياً: تجنب التعميم وضرورة مراعاة السياق في النصوص التي قد يفهم أنها ضد التعايش:

فمع أن الخط والنهج العام لآيات القرآن الكريم وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتجه نحو التعاون في الخير مع كل الناس، والدعوة الى التواصل والحوار وحسن الخلق، إلا أن هناك من يترك تلك النصوص مجتمعة ويتمسك بنصوص وردت في سياقات خاصة أو لمعاني خاصة ويحاول من خلال هذه النصوص الجزئية أن يقضي بها على أصولٍ كلية في المنهج الإسلامي في تعامله مع غير المسلمين، وكلما قامت مبادرة للتواصل والحوار مع مؤسسة من مؤسسات المجتمع الدينية أو المدنية، أشهر في وجه أصحابها بعض هذه النصوص التي قد تكون وردت في سياقات خاصة، أو لمعانٍ غير المعاني التي يوظفها فيها.

ومن ذلك على سبيل المثال قول الله تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾([30])

قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (قوله تعالى: ﴿وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلا النَصارى﴾ الآية.

قال المفسرون: “إنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمعونه أنه إن هادنهم وأمهلهم اتبعوه ووافقوه فأنزل الله تعالى هذه الآية”([31]).

قال ابن عباس هذا في القبلة وذلك أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم ويئسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية)([32]).

قال أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ : قوله تعالى “{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} قلت ذكره الجعبري بلفظ قال ابن عباس كانوا يودون ثبوت النبي على الصلاة إلى الصخرة .

وقال مقاتل كان اليهود من أهل المدينة والنصارى من أهل نجران دعوا النبي إلى دينهم وزعموا إنهم على الهدى فنزلت ([33])”.

ومنه أيضاً قوله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُو آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([34]) والتي نزلت في غزوة بدر وفي جو حربي معروف، وتتحدث عن قوم أعلنوا حرباً على الله ورسوله ويسعون للقضاء على الدين وأهله بأي وسيلة، مع أن مصطلح الودِّ المنهي عنه في الآية قد ورد نفسه في موضع آخر من غير نهي فقد قال الله تعالى عن الزواج ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾([35])   ومعلوم أنه يمكن أن تكون الزوجة كتابية ومع ذلك فقد أقر المودة التي نهت عنها الآية السابقة، مما يؤكد ضرورة إنزال كل نص في سياقه وإسقاطه على الدائرة التي يعنيها، ومثل ذلك كثير من نصوص القرآن والسنة التي نزلت في مراحل الحرب والمواجهة العسكرية، إلا أن هناك من جعل تلك النصوص أصولاً تتحدد من خلالها وحدها علاقة المسلمين بغير المسلمين، وقد سدَّ البعض بمفهوم الولاء والبراء كل باب لأي نوع من أنواع التقارب والحوار وضخِّم هذا المبدأ حتى أصبح سيفاً مصلتاً أمام كل داعية سلام ورسول نفع للناس، وما أشدَّ الحاجة اليوم إلى مراجعة الكثير من هذه المعاني في ظل نصوص الوحي الصافية بعيداً عن تأثير الصراعات التاريخية على تفسيرات بعض العلماء لتلك النصوص، وما أروع آيات القرآن وهي تبين بجلاء ووضح الفوارق في التعامل بين المحاربين والمقاتلين ولحظات الصراع وبين الحالات الطبيعية التي لا حرب فيها يقول تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ  إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ  وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾([36])

ثالثاً: أن لا يظل حبيس التاريخ والماضي :

الهروب من الواقع ومعالجاته وتحدياته وآماله سمة الكثير من مواضيع الخطاب الإسلامي مع الأسف، حيث يتناول الكثير من الدعاة قضايا تاريخية، أو يسيطر الحديث عن الساعة وأماراتها والموت وما بعده، ورغم أهمية هذه المواضيع إلا أنها ينبغي أن تأخذ حجمها وألا تتحول إلى نوع من التخدير أو الترويح عن المتلقي.

ربما كان لحالة الضعف والهوان التي تعانيها الأمة دور كبير في ذلك، يدفع بالبعض إلى الهروب نحو الماضي أو نحو أي شيء غير الواقع، حتى حين يعالج الكثير من الدعاة مشاكل المسلمين ويتعرضون لحال الأمة، فإنهم كثيراً ما يسرعون لاستدعاء التاريخ وأمجاده، وما كانت عليه أمة الإسلام في السابق، أو يتجهون نحو نظرية المؤامرة والرمي بالمسؤلية والعبء على خصوم الأمة وأعدائها وكأن المطلوب مجرد البحث عن أعذار ومبررات تخفف المسؤلية عن المسلمين، أو كأن عداد الزمن قد توقف عند مرحلة تاريخية معينة، حتى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتي امتدت لـ 23 عام  بين بعثته وموته والمليئة بالأحداث والمواقف والتجارب فإنها قد اختزلت عند الكثير في 17 يوم أو 25 يوم هي مجموع غزات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أعني بكلامي هذا التقليل من أهمية هذه الأحداث والغزوات وضرورة دراستها وأخذ الدروس والعبر منها لكني أقصد ضرورة دراسة سيرة النبي وحياته كلها، وبجميع جوانبها .

ومع الأسف فإن الكثير من الدعاة في الغرب لم يستطع تجاوز هذه الحالة، حيث لا يزالون تحت تأثيرها، إما بسبب حداثة الإقامة في أوروبا، أو بسبب التأثر بما يسمعون من محاضرات وخطب ودروس للكثير من الدعاة في العالم الإسلامي،فينقلونها بنصها وروحها وعقلية أصحابها، بينما الواجب أن ينتج الدعاة والمتحدثون باسم المسلمين والمسؤلون عن العمل الدعوي الإسلامي في الغرب خطاباً خاصاً يتناسب مع واقعهم الأوروبي، مسترشداً بنصوص الوحي، مساهماً في التفاعل مع الواقع، إيجابياً نافعاً، فلا هو حبيس النصوص مجردة عن مقاصدها وروحها، ولا حبيس الماضي، ولا هو مثالي ينقل غرائب ما ورد عن الأوليين من سلف الأمة في مجال العبادات والزهد، مما يجعل تلك التجارب تبدو خيالية صعبة المنال، ليبقى ذكرها نوع من القصص التي يعيش معها المتلقي حالة روحية وجدانية مثالية لحظة سماعها، فيأخذها مجردة عن واقعه مستصحباً استحالة الاستفادة منها أو تطبيقها في بيئته.

رابعاً: أن لا يبالغ في تصوير الفساد الموجود في المجتمع، ولا في جلد الذات المسلمة:

يحلو للبعض تصوير المجتمعات الأوروبية كمجتمعات مجردة عن الفضيلة موغلة في الفحش والرذيلة،  مما يباعد شعورياً الإحساس بقيم التعايش المشترك، ويغلب النظرة السلبية المطلقة، ويجعل العلاقة بين المسلمين وبقية أبناء المجتمع محصورة في حدود الضرورة، قائمة على الريبة والحذر والاتهام،كما يبالغ بعض آخر في تقديم المجتمعات الغربية كمجتمعات مثالية، وفي المقابل يقسو على جمهوره من المسلمين، مبالغاً في جلد الذات، واصفاً المسلمين بالتخلف والجهل وعدم النظام، وعدم احترام المواعيد، ويظل هذا  نهج خطاب مستمر متكرر، أشبه بسوط يجلد به المتلقين، وهذا النهج في الخطاب يؤدي في النهاية وإن بطريقة غير مباشرة، إلى تعميق الفجوة، وتعزيز الشعور بالغربة القيمية والسلوكية والحضارية، و الشعور أيضاً بالدونية، ولهذا لا محالة دوره وأثره السلبي على قيم التعايش المجتمعي.

خامساً: تجنب الإغراق في تفاصيل قضايا العالم الإسلامي:

مما لا شك فيه أن الاهتمام بقضايا المسلمين أمر، ولكن أن تكون هي المسيطرة على خطابات الدعاة في أوروبا وكتاباتهم وأنشطتهم فإن هذا مما يعزز فصل جمهور المسلمين شعورياً عن واقعهم وربطهم بواقع آخر، والمتتبع لصفحات التواصل الإجتماعي وخطابات المراكز يجد هذا الملحظ بارزاً، حتى الدعوات في القنوت والخطب والمناسبات المختلفة وهي لحظات قرب روحي، فأنها تنقل المسلم وتشرق به وتغرب حول العالم الإسلامي متناولة جراحاته المختلفة، ولكنها تكاد تخلو من دعوة بالخير للبلاد الاوروبية التي يقيم فيها الدعاة، وهذا مما أثر أيضاً على ارتباط الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين المقيمين في الغرب بالخطاب الإسلامي وبالأئمة والدعاة .

سادساً: تعزيز دور الاخلاق كواجبات ذاتية:

احتلت الاخلاق في الاسلام مساحة كبيرة حتى صار الدين المعاملة، ولخص النبي صلى الله عليه وسلم  بعثته في مهمة تتميم مكارم الأخلاق « إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق »([37])  فهي واجبة على المسلم في كل حال بغض النظر عن المكان الذي يعيش فيه المسلم والوظيفة التي يشغلها، ربما تزداد المسؤولية الأخلاقية على المسلم بناء على المكان والموقع الذي يشغله، وتأثير تلك الأخلاق على المحيط الذي حوله سلباً وإيجاباً، وفي حالة المسلمين في أوروبا فلا شك إن تصرفاتهم تحسب على الإسلام بشكل كبير إيجابية كانت أم سلبية تلك الأخلاق، وخاصة في ظل حملات التشويه التي تستهدف الإسلام والوجود الإسلامي في أوروبا، إلا أن المبالغة من قبل كثير من الدعاة في التركيز على الأخلاق مراعاة للمجتمع الأوروبي قد يكون لها آثاراً سلبية على المتلقين من المسلمين مع الوقت، وذلك أنها تشعر المسلم بأنه يعيش باستمرار تحت سلطان رقابة المجتمع، وتفقده الشعور بالتلقائية في تصرفاته وسلوكه، وتجعله يمارس سلوكيات وأخلاقيات متكلفة عن غير قناعة، وينتظر اللحظة التي ينعتق فيها من هذه الرقابة، فتصبح ممارسة الأخلاق نابعة عن دوافع خارجية غير الدافع الذاتي الذي يريده الإسلام وينبيه في نفوس أصحابه.

نريد خطاباً يوجه المسلم نحو الخلق الصحيح كممارسة يتقرب بها إلى الله سبحانه أينما كان وبغض النظر عن من ينظر إليه ويراقبه .

وأخيراً :

فإنها محاولة للإسهام في توجيه الخطاب الديني الإسلامي بما يخدم مجتمعاتنا الأوروبية بل والقيم الإنسانية بشكل عام، والله أسأل أن يجعل في هذه الكلمات النفع ، وأن يلهمنا الصواب والسداد وأن يجعلنا من دعاة الخير والسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه .

الفهارس

جدول المحتويات

مقدمة: 1

الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني : 1

أهمية القصص القرآني في فقه الدعوة والخطاب: 2

خطاب الأنبياء لأقوامهم: 5

المطلب الأول: خطاب القرب والانتساب. 5

المطلب الثاني: بلسان قومه: 7

المطلب الثالث : إظهار الجوانب الوجدانية والعاطفية: 7

المطلب الرابع:التفاعل مع واقعهم ومواجهة آفاته والعمل على معالجتها: 8

المطلب الخامس: تناسب معجزت الأنبياء مع أرقى فنون عصرهم ( وسائل الدعوة)  . 10

المبحث الثاني: أهم متطلبات الخطاب الإسلامي في الغرب. 11

أولاً: أن يكون الخطاب إنسانياً . 11

ثانياً: تجنب التعميم وضرورة مراعاة السياق في النصوص التي قد يفهم أنها ضد التعايش . 13

ثالثاً: أن لا يظل حبيس التاريخ والماضي . 16

رابعاُ: أن لا يبالغ في تصوير الفساد الموجود في المجتمع، ولا في جلد الذات المسلمة . 17

خامساً: تجنب الإغراق في تفاصيل قضايا العالم الإسلامي . 17

سادساً: تعزيز دور الاخلاق كواجبات ذاتية . 18

الفهارس. 19

([1]) صحيح مسلم رقم الحديث 1924، ج2 ،ص 199

 ([2]) مجموع الفتاوى ج17،ص206.

 ([3]) ينظر: المستصفى ص 342، والمحصول للرازي ج6، ص 23، وروضة الناظر وجنة المناظر ج2، ص334، والبرهان في علوم القرآن ج2 ،ص 3 ، والإكليل في استنباط التنزيل ج1 ، ص 21.

([4]) التسهيل لعلوم التنزيل ص 16.

([5]) فقه القرآن ص 4.

([6]) الإتقان في علوم القرآن ج4 ،ص40.

([7]) نيل المرام من تفسير آيات الأحكام ج1 ، 9.

([8]) البحر المحيط في أصول الفقه ،ج 8 ،ص 230.

([9]) إجابة السائل شرح بغية الآمل ص384.

([10]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ج2 ،ص 206.

([11]) المؤمنون:23

([12]) هود: 61

([13]) هود:50

([14]) هود:84

([15]) هود:84

([16]) هود:78

([17])إبراهيم: 14.

([18]) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ،المحقق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة ،ج4، ص477.

([19]) الأحقاف :21

([20]) الشعراء:135.

([21]) الأعراف: 80،81.

([22]) الشعراء:151،150.

([23]) الشعراء:183،177.

([24]) الشعراء 22،15.

([25]) العلق: 1-5

([26]) سورة النساء ، الاية:1

([27]) سنن أبي داود ، تعليق الالباني ،رقم 1510 ،ج1 ،ص 557.

([28]) متفق عليه

([29]) المائدة :32.

([30]) البقرة : 120

([31]) الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،لأبي إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبى ،ج1 ،ص 266 .

([32]) معالم التنزيل ،للبغوي  ـج1،ص143.

([33]) ا لعجاب في بيان الأسباب ،ج1،ص 373.

([34]) المجادلة: 22

([35]) الروم : 21

([36]) الممتحنة: 8-9 .

([37])سنن البيهقي الكبرى ، رقم 20571 ،ج 10،ص 191.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق