البحوث

الحوار الديني “مفهومه، أهدافه وضوابطه”

الحوار الديني

 

مفهومه، أهدافه وضوابطه

د. أحمد جابالله

 

عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث

مدير المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس ـ فرنسا

 

بحث مقدم

للدورة الواحدة والعشرين للمجلس

دبلن ـ إيرلندا  28 يونيو إلى 02 يوليو 2011

مدخل:

إن من آثار العولمة في عالمنا المعاصر اتساع حركة الأفكار والبشر بما هو متاح اليوم من تطور وسائل المعرفة والاتصال، ولكن هذا التطور على ما حققه من إمكانيات ضخمة في التعريف بالإنتاج الفكري والثقافي، فإنه لم يؤدّي بالضرورة إلى تحقيق المزيد من التعارف والتقارب بين بني البشر، بل إن البشرية في عمومها اليوم تعاني من فقدان التعارف المتبادل، مما أدّى إلى تأجيج المشاكل والنزاعات والصراعات، وما نتج عنها من بؤر توتر وحروب لا تكاد تهدأ؛ وفي عدد من هذه النزاعات القائمة، كثيرا ما يكون العامل الديني حاضرا، سواء باعتباره منطلقاً لها، أو باعتباره عاملا يتم توظيفه لتعبئة الأتباع في خوض عملية الصراع مع المخالف المنازع.

ولكن لا مناص للبشرية، إذا أرادت التخلص من الصراعات والنزاعات أو تضييق نطاقها على الأقل، إلا أن توفر العوامل المساعدة على جعل الحوار منطلقا في بناء مشترك إنساني يقوم على القيم الإنسانية الداعية إلى الحرية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية، بعيدا عن كل أسباب التمييز والظلم والاستبداد؛ وإن مما يعين على ذلك تسير تفعيل الحوار الجاد والهادف بين مختلف الثقافات والحضارات، وبين أتباع الأديان.

إن الحوار الذي يمكن أن يحقق التعايش المنشود هو الذي يقوم على الاعتراف بالآخر واحترام خصوصياته الدينية والثقافية والحضارية.

إن الحوار الديني من أهم مجالات الحوار الفكري والثقافي، وذلك لما للدين من أهمية في صياغة الشخصية الحضارية لكل أمة، ولما للدين من أثر في النزاعات بين البشر سواء من حيث إذكائها وتأجيجها، أو من حيث العمل على تجاوزها وحلّها.

وحتى نعالج موضوع: الحوار الديني، لا بد لنا من:

ـ أولاً: المقصود بالحوار الديني

ـ ثانياً: موقف الإسلام من الحوار الديني

ـ ثالثاً: أهداف الحوار الديني

ـ رابعاً: ضوابط الحوار الديني

المقصود بالحوار الديني:

إنه من المهم دائما توضيح مضامين المفاهيم وتحديد المصطلحات قبل الخوض في الحديث عن أي موضوع ما، وذلك لتجنب التداخل بين المفاهيم والاضطراب في إدراك القضايا المتشابهة والمسائل المتقاربة، خصوصا عندما تُستخدم تلك المفاهيم في ساحة الحوار المشترك، فيكون لكل محاور تصوره الذي ينطلق منه في تضمين معاني لمصطلح ما أو لقضية ما لا تطابق مع لدى غيره من فهم لنفس المصطلح أو القضية.

إن الذي نقصده بالحوار الديني هو تحقيق التعارف والتواصل بين المنتسبين للأديان، بحيث يعرض كل صاحب دين معتقداته ومفاهيمه وفقا لما هو مستقر عنده في دينه، إذ أن الحوار مع الآخر لا يمكن أن يكون مُجديا إذا كنا نريد من الآخر أن يكون على الصورة التي نحددها له سلفاً.

يمكن لكل إنسان أن يدرس الأديان الأخرى وأن يتعرف عليها، وأن تكون له تصورات عنها ومواقف من عقائدها ومبادئها، ولكن ذلك لا يُغنيه عن الوقوف على فهم الآخر لدينه كما هو يعرضه، بل إن من أهداف الحوار الديني تصحيح بعض المفاهيم ورفع الالتباس حولها، وإن ظل الخلاف قائما حول القضايا المختلف فيها.

إن الحوار بين الأديان ليس غرضه إجبار الآخر على التخلي عن دينه، أو إلزامه باعتناق صورة معينة لدينه لا يرتضيها، وإنما التعارف معه من أجل تدعيم المشترك واحترام الاختلاف لتحقيق التعايش والتعاون.

وفي إطار هذا التصور للحوار بين الأديان لا يمكن أن نقرّ ما قد يدعو له البعض من وحدة الأديان، بمعنى جمع الأديان على مبادئ موحدة وإلغاء ما بينها من فروق واختلافات، وفكرة توحيد الأديان لا تجد ترحيبا من كل الديانات القائمة، لأنه لا يوجد أتباع دين واحد يقبلون بالتخلي عن شيء من معتقداتهم من أجل التقارب مع غيرهم.

إن سنة الله تعالى اقتضت أن يكون بين البشر تنوع واختلاف في ألسنتهم وألوانهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، قال تعالى: ” ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم… ” (هود 118،119)

إن من مستلزمات الحوار الديني الناجح أن يُحَدّد المقصود منه حتى ينطلق على بيّنة ووضوح مشترك ويبتعد بالتالي عن الوقوع في مطبّات قد تؤدي به إلى الانحراف عن الطريق المرسوم له.

موقف الإسلام من الحوار الديني:

إن التصور الإسلامي يعتبر الحوار أمرا ضروريا بين الناس، لأنه وسيلة من أهم وسائل التواصل بينهم ولا يمكن للإنسان إلا أن يتواصل مع غيره، إذ أن طبيعة الحياة وتبادل المصالح والمنافع بين بني البشر أمر لا مناص منه؛ وإن من أهمّ أنواع الحوار، الحوار الديني.

إذا أردنا أن نتبين موقف الإسلام من الحوار الديني باختصار، فيمكننا الوقوف عند آيتين في القرآن الكريم، رسمت الأولى منهما منطلقات الحوار وحددت الثانية القواعد المهمة له.

أما الآية الأولى، فهي قوله تعالى: ” وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما انزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعكم جميعا، فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ” (المائدة 48).

إن التأمل في هذه الآية الكريمة يرشدنا إلى المنطلقات الأساسية التي يجب أن يقوم عليها الحوار الديني، وهي التالية:

ـ إن الإسلام جاء بكتاب مصدّق لما بين يديه من الكتب السابقة المنزلة من عند الله تعالى، وهذا يعتبر تأكيدا لوحدة المصدر الذي تعود إليه الأديان السماوية، بل إن الإسلام يعتبر أن الدين في جوهره واحد، لأن ما أنزله الله على سائر رسله إنما هو تقرير وتذكير بأسس واحدة، وإن تنوعت الشرائع في بعض أحكامها بحسب ما اقتضته حاجات الناس المختلفة من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى أخرى.

إن التأكيد على أن القرآن الكريم جاء مصدقا لغيره من الكتب المنزلة التي سبقته، يجعل المسلم يتجه بنظره عندما يلتقي مع غيره من أتباع الديانات السماوية الأخرى، إلى ما هو مشترك قبل النظر إلى مواطن الاختلاف، ولذلك جاء الوصف للكتاب بالتصديق قبل وصفه بالهيمنة، وهي الرقابة على ما هو موجود في الكتب السابقة والحسم للمختلف فيه.

وإن التصديق للكتب السابقة فيما هو متفق عليه ليؤكد على وحدة المنطلق بين هذه الأديان، يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره: ( إن تأييد الشريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولا في النفوس، ويدل على أن ذلك الحكم مُرَاد قديم لله تعالى، وأن المصلحة ملازمة له لا تختلف باختلاف الأقوام والأزمان ) [1].

ـ إن وصف القرآن الكريم ـ إلى جانب التصديق ـ بأنه مُهيمن على الكتب السابقة يؤكد المرجعية في إطار الوحي الإلهي، والتي تعود إلى آخر الكتب تنزيلا من عند الله تعالى، وهذا أمر يسلم به المسلم وإن لم يسلّم به أتباع الديانات الأخرى.

إنه لابد من توضيح هذه المرجعية حتى لا يبقى الإنسان في حيرة أمام ما يراه من اختلاف بين أصحاب الديانات التي تنتسب إلى مصدر إلهي، إذ أنه لا يمكن أن نقرر في نفس الوقت أن الكتب المنزلة جاءت كلها من عند الله تعالى ثم يكون بينها تناقض واختلاف، وقد نفى الله تعالى عن القرآن التناقض باعتباره وحي كله من عنده، فقال: ” أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً” (النساء 82) فكل ما يأتي من عند الله تعالى وينسب إليه نسبة صحيحة لا يمكن أن يكون فيه اختلاف.

ـ إن تقرير هيمنة القرآن على غيره لتقرير الحقائق ورفع الالتباس في مواطن الاختلاف، لا يعني أن الرقابة التي أعطاها الله سبحانه للقرآن على غيره من الكتب السماوية، هي إلغاء لحقيقة الاختلاف القائمة في واقع الناس، ولهذا قال بعد ذلك: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة“، فالله سبحانه قد جعل الشرائع والمناهج متعددة في تفاصيلها وإن اتفقت في أصولها، حتى تكون مناسبة لمقتضيات الزمان والمكان لكل أمة من الأمم، ولذلك أيضا صِِيغت نصوص الشريعة الإسلامية باعتبارها آخر الشرائع الإلهية تنزيلا، صياغة مرنة بحيث تكون قادرة على استيعاب المستجدات عبر العصور ومع اختلاف البيئات.

ولعل هذا الاختلاف في الشرائع والمناهج العائد إلى مراعاة ظروف الزمان والمكان، أصبح في نظر البعض مما يجب التمسك به ولو تغير الزمان والمكان، فكان ذلك مصدراً من مصادر الاختلاف بين الناس، ولكن الله عز وجل، وهو الذي يريد لعباده أن يهتدوا لما يرشدهم إليه وما يسدد به مسارهم، ترك لهم حرية النظر والاختيار التي تؤدي حتما إلى الاختلاف، وهذا يلتقي مع الإرادة الكونية القدرية [2] في أن الخلاف أمر قائم إلى يوم الدين، ولذلك قال سبحانه: ” ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ” (المائدة 48)، فليس من مشيئة الله تعالى أن يجبر الناس حتى يكونوا أمة واحدة، وهذا تنبيه على أن التعدد سيكون هو القانون العام الذي تتسم به الحياة البشرية، بل إن التعدد هو ظاهرة كونية، كما قرر القرآن الكريم ذلك في آيات كثيرة واعتبره من الآيات الدالة على عظمة الخالق وإبداع وحكمته. [3]

ـ ثم قرر القرآن الكريم في الآية المذكورة بأن التسليم بواقع الاختلاف بين الناس هو نوع من الابتلاء من الله تعالى لهم، وهذا الابتلاء يكمن في مدى قدرتهم على استعمال ملكة التمييز في مواطن الاختلاف، وهو أيضا ابتلاء حتى لا يكون الاختلاف دافعاً للصراع مع المخالف، ولذلك قال لهم بعد ذلك: “فاستبقوا الخيرات” حتى يكون الاختلاف وازعاً إيجابياً يدفع إلى التنافس وليس وازعاً سلبياً يدعو إلى الصراع المدمّر.

ـ وختمت الآية الكريمة بقوله تعالى: ” إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون “، وفي هذا تذكير بأن الله تعالى هو الذي سيحاسب عباده يوم القيامة، ذلك اليوم الذي سيُرجعون فيه جميعا إليه فيبين لهم حقيقة ما تنازعوا فيه، وهل هناك أعدل من الله تعالى وأعلم منه بالحق الذي يختلف فيه عباده؟ ولا شك أن تأكيد هذه الحقيقة الإيمانية مما يطمئن المؤمن الذي هو على يقين بأن الله تعالى سيظهر الحق، فليس له أن يضيق بما يواجهه من إنكار المنكرين وإعراض المعرضين، كل ما هو مطلوب منه هو أن يجتهد في إبلاغ ما عنده بالحكمة والرفق واللين، ويترك حسم الأمر ليوم الحسم وهو في الآخرة. إن الانطلاق من هذا المبدأ في حسم الخلاف يساهم في نزع أسباب الحدّة المؤدية للصراع ويؤكد على احترام ظاهرة التنوع التي هي سمة من سمات الحياة التي ستظل قائمة بين الناس حتى يرجعون إلى الله.

وأما الآية الثانية التي حددت منطلقات أساسية للحوار الديني، فهي قوله تعالى في سورة العنكبوت ـ الآية 46 ـ : ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون”.

إن التأمل في هذه الآية الكريمة يرشدنا إلى منطلقَين مهمَّين في مجال الحوار الديني:

1 ـ ركزت الآية في بدايتها على طبيعة الخطاب الذي يجب أن نمارسه في حوارنا مع أهل الكتاب ووصفته بوصف عام بأنه “بالتي هي أحسن” ليشمل بذلك كل ما من شأنه أن يتّسم بالحسن واللين والرفق، الذي يشرح صدر المخاطب ويجعله مُقبلا على المحاورة. إن التركيز على طبيعة الخطاب قبل التعرض إلى مضمون الحوار يدلنا على أن الخطوة الأولى التي يجب العناية بها في الحوار مع المخالف، هي إيجاد أرضية من التواصل النفسي التي تهيأ لديه القابلية للسماع ومحاولة فهم الخطاب، وإذا ما حصل هذا، فإن التعامل مع مفردات الخطاب تصبح أيسر، بخلاف ما لو كان الحوار مبتدأ بالمُحاجّة فإن ذلك قد يؤدي إلى انقطاع حبل التواصل، ويصبح المخاطب لا يعبأ بما يُقال مهما كانت الحجة على القول قوية وبيّنة، وإنما يكون مُستنفرا للرد والدفاع عن نفسه بما يجعله يفقد ميزان العدل والإنصاف، وإن هذا لعمري طبعا عاما في كل إنسان؛ ومن أجل الخروج من منطق ردود الأفعال السلبية، جاء التوجيه القرآني للمسلمين يدعوهم أن يتجنبوا سبّ آلهة المشركين حتى لا يردوا الفعل بسبّ الله تعالى عدوانا وظلما، يقول الله تعالى: ” ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم، ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون” (الأنعام 108) يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسير هذه الآية: ( سبّ آلهتهم لما كان يحمي غيضهم ويزيد تصلبهم قد عاد منافيا لمراد الله من الدعوة، فقد قال لرسوله عليه الصلاة والسلام ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” وقال لموسى وهارون عليهما السلام ” فقولا له قولا لينا “، فصار السب عائقاً عن المقصود من البعثة، فتمحض هذا السب للمفسدة ولم يكن مشوبا بمصلحة. ) [4]الحوار الديني مفهومه أهدافه وضوابطه حوار الحوار الديني "مفهومه، أهدافه وضوابطه" L16 16 335 305 192 1336

2 ـ وفي قوله تعالى: “وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ” تعليم للمسلمين في محاورتهم لأهل الكتاب أن يبدءوا بالتركيز على القواسم المشتركة التي تجمعهم مع المحاور، لأن البدء بذلك يُشعر الطرف الآخر بأن دائرة الخلاف لا تشمل كل شيء وإنما هناك قضايا هي محل اتفاق، ولو كان ذلك الاتفاق جزئياً.

إن الأسس الثلاثة التي أشارت إليها الآية، والمتمثلة في الإيمان بالوحي المنزل باعتباره أصلاً للديانات السماوية، وأن الإله واحد وأن الجميع مستسلمون له بالخضوع والعبودية، لا تتفق حول تفاصيلها المضمونية الديانات السماوية، ولكن ذلك الاختلاف مهما كان شاسعا، كالاختلاف بين المسلمين والنصارى في قولهم بالتثليث المنافي للتوحيد عند المسلمين، لا ينبغي أن ينسينا القدر المشترك في الإيمان بالله تعالى خالقا ومدبراً ومعبوداً؛ وهذا من شأنه أن يعلمنا قاعدة مهمة في الحوار وهي أن الاتفاق بين الناس لا يستلزم أن يكون كلياً وشاملاً وإنما يمكن أن يكون جزئياً، ومع ذلك يعتبر رصيداً مشتركاً يُعين على التواصل، فإذا حصل التواصل الجزئي أمكن الانتقال إلى مواطن الاختلاف لمناقشتها بروح إيجابية تستصحب ما هو مشترك وتتصدى في ضوئه لما هو مختلف فيه.

أهداف الحوار الديني:

لا بد لكل حوار يجري بين الناس من أهداف يبتغي الوصول إليها، ومن الصعوبات التي تعترض الحوار بين أتباع الأديان، هو التساؤل عن هدف الآخر من الحوار وتخوّفه من أن يُستدرج إلى ما لا يريده من ذلك الحوار، ويمكننا القول بأنه من الصعب أن نوحّد بين المتحاورين في جميع الأهداف التي يرتجيها كل واحد منهم من الحوار، إذ أن ظروف الأديان ومصالح أتباعها قد تختلف من بيئة إلى أخرى ومن ظرف إلى آخر بما يقتضي قدرا من التنوع في النظرة والأهداف المرجوة، ولكن هذا التنوع ليس معناه إقرار الانطلاق من غايات خفية يريد الآخر أن يستعمل فيها غيره لتحقيق مصالح ذاتية على حسابه، لأن الانطلاق من مثل هذا المنطلق لا يمكن أن يكون أساسا سليما لحوار مثمر، بل إنه قد يؤدي إلى عكس المرجو ويعزز سوء الظن والخوف المتبادل.

من المهم لكل من ينطلق في الحوار الديني أن يكون على بينة من الأهداف التي يرسمها لهذا الحوار، ولكنه من المستحسن الاتفاق بين المتحاورين على الغايات العامة لحوارهم وإن كان لكل منهم، إلى جانب الأهداف المشتركة، أهداف أخرى خاصة به ولكنها ليست على حساب الطرف الأخرى والتعامل معه على أساس الثقة والوضوح.

إن أهداف الحوار الديني في إطار التصور الإسلامي يمكن تلخيصها في غايات خمس متدرجة، يمكن أن تشكّل قاعدة اتفاق بينا وبين محاورينا من أتباع الديانات الأخرى:

1 ـ التعارف:

إن حالة التنوع والتمايز القائم بين الناس تقتضي السعي للتعارف المشترك بينهم، لأن التعارف هو السبيل الأنجع لمعرفة الآخر واحترامه، وتصحيح المفاهيم الخاطئة عنه، لأنه كما قيل: ” الإنسان عدو ما جهل ” فإذا تعرفت على الآخر وأدركت ما لديه من مفاهيم وقيم ساعد ذلك على تبديد الأفكار السلبية عنه.

2 ـ توسيع مساحة التفاهم المشترك:

كثيرا ما ينطلق الناس في نظرتهم للآخر من صورة نمطية جاهزة لا تستند إلى معرفة موضوعية بدينه وبثقافته، ويبنون بذلك من الحواجز والاختلافات الوهمية مع غيرهم ما يفتقد إلى أي أساس صحيح.

إن تحديد عناصر الاتفاق والالتقاء مع الآخر، ولو كانت جزئية أمر مهمّ، لأن ذلك مما يُمكّن من تحرير مواطن الاختلاف وحصرها، بحيث لا يُهدر المشترك، وقد يكون شاملاً لمساحة كبيرة من التفاهم، لحساب ما هو محلّ اختلاف؛ والناس عموماً هم أسرع إلى القفز على عناصر الاختلاف منهم إلى الوقوف على عناصر الاتفاق.

3 ـ تحقيق التعايش المشترك:

إن من أهم ما يسعى إليه كل مجتمع بشري ينشد الاستقرار والسلم الاجتماعي هو تدعيم أواصر العيش المشترك بين أبنائه على اختلاف معتقداتهم وثقافاتهم، ولن يكون ذلك إلا بالحوار والتعارف، وإن البديل عن الحوار هو الصراع المدمّر الذي لا يحسم الخلافات بل يزيد من تأجيجها.

لقد أثبت التاريخ أن ما وقع من حروب بين الأديان والطوائف لم يؤدي إلى زوالها، بل إن إعلان الحرب على عقيدة ما، لا يزيد أصحابها إلا تمسكا بها ودفاعا عنها، وإن الشعوب لا يمكن أن تبني حضارة وتحقق تقدما إلا في أجواء التعايش المشترك، ولذلك كان من ركائز بناء المجتمع الإسلامي الأول في المدينة الوثيقة التي قرّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم حقوق المواطنة لكل أهل المدينة على اختلاف معتقداهم على قاعدة العدل والمساواة.

4 ـ التعاون:

إن الوصول إلى تحقيق التعايش الإيجابي في إطار المجتمع بين مختلف مُكوّناته، يجعل هذه المكونات لا تقنع بمجرد التعايش وإنما تسعى لإقامة التعاون فيما هو مشترك بينها.

وإذا ما نظرنا إلى الأديان السماوية فإننا نجد أن بينها من المبادئ المشتركة ما يدعوها إلى التعاون، كما أنها تعيش في واقع يطرح عليها نفس التحديات، مما يدعوها لتكاتف الجهود.

إن تراجع القيم الإيمانية والأخلاقية في المجتمعات الحديثة لحساب المفاهيم المادية، ووجود حالات الصراع والنزاعات والحروب التي يعرفها عالمنا المعاصر، ومشكلات البيئة وما تعاني منه من خلل له مضاعفات على حياة الناس… كل هذه القضايا وغيرها يستوجب تفكيرا مشتركا وعملا متكاتفا بين أتباع الأديان، بل إن مثل هذه القضايا يمكن أن تجمع أتباع الأديان مع غيرهم من المناضلين في هذه الميادين على اختلاف عقائدهم ومشاربهم الفكرية.

5 ـ التعريف بالنفس لدى الآخر:

إن من أهداف الحوار بين أتباع الأديان أنه يوفّر ساحة للتعارف المشترك، وخصوصا لتلك الأديان التي يمثل أتباعها أقلية في المجتمع، ولا يملك الآخرون فكرة واضحة عنها، بل قد تكون لديهم أفكاراً غير صحيحة عنها تساهم في إيجاد حالة من التباعد والتنافر.

إن تعريف أصحاب كل دين بأنفسهم يجعلهم يطمئنون لفهم الآخر لهم كما يريدون هم التعريف بأنفسهم، وليس معنى ذلك أن يكون الآخر موافقاً لهم في كل ما يعتقدونه، وإنما أن يكون مُدركا لحقيقة اعتقادهم كما هو قائم عندهم، لا كما يريد البعض أن يصوره بطريقة تفتقد إلى الموضوعية والتجرد؛ وإن عدم تمكين الآخر من التعبير عن معتقداته بنفسه يجعله ضحية لتشويه المخالفين له وإلزامه بصورة عن دينه لا تطابق حقيقة اعتقاده؛ ومن الأمثلة على ذلك ما تعانيه صورة الإسلام من التشويه في كثير من وسائل الإعلام الغربية التي تربط مثلاً بين الإسلام والعنف والإرهاب، انطلاقاً مما ينسب لبعض المسلمين، ولو كان المسلمون لا يُقرون ذلك ويعتبرونه منافيا لمبادئ دينهم.

ضوابط الحوار الديني:

إنه من الضروري لكل عمل جادّ ومثمر من أهداف راشدة ومن ضوابط حاكمة، حتى يظل ذلك العمل في إطار ما رُسِم له من غايات ولا ينحرف عن مقاصده المرجوة إلى غيرها من المقاصد الأخرى، وإن افتقاد مثل هذه الضوابط قد يؤدي إلى أخطاء وإلى تصورات ومواقف منتقدة تجعل البعض يشكّ أصلا في مبدأ الحوار وفي نوايا القائمين عليه؛ وإن من أهم الضوابط التي يجب مراعاتها في هذا المجال:

1 ـ أن يتصدى للحوار من هو أهل له:

إن هذا الضابط من أهم الضوابط التي لا يمكن أن يستقيم الحوار بين الأديان بدون احترامه، إذ كيف يحاور إنسان باسم دينٍ ويمثله وهو غير عالم بحقائقه وأحكامه حقّ العلم.

وإن من مسؤولية كل إنسان يُدعى إلى الحوار وهو غير مؤهّل للتعبير بعلم وأمانة عن دينه في موضوع الحوار المطروح أن يعتذر عن ذلك وأن يُعيد الأمر إلى أهله؛ كما أن من مسؤولية وأمانة الجهات الداعية للحوار أن لا تدعو غير المؤهّل لذلك، وإنه من المؤسف أن بعض المؤسسات الحوارية تدعو لندوات الحوار التي تنظمها الممثلين الحقيقيين لكل دين، ولكنها عندما يأتي الدور لاختيار من يمثل الإسلام فإنها تلجأ إلى اختيار من تعتقد أنه يمثل “إسلاماً منفتحاً” في نظرها، وأكثر هؤلاء الذين يرشحونهم لهذه المهمة ممن لا يعترفون إلا بانتساب ثقافي للإسلام، كما يقولون، وهم بعيدون عن التخصص الشرعي والالتزام العملي.

وإن مما يجب مراعاته أيضا في اختيار من يُرشّح للحوار الديني، إلى جانب تمكنه العلمي والتزامه العملي، أن يكون حائزا على شيء من القدرات الحوارية مع الآخرين، وأن يكون صاحب اختصاص أو إطلاع في موضوع الحوار، فقد تجري أحيانا بعض اللقاءات الحوارية لبحث مواقف الأديان في المسائل الطبية مثلا، كمسألة الاستنساخ، ونقل الأعضاء، والموقف مما يسمى “موت الشفقة”… وقد يكون المتحدث على دراية بالقضايا الشرعية العامة ولكنه لا يملك المعرفة العلمية بالمسائل المطروحة.

2 ـ أن يكون تحديد الحوار في مضمونه وأساليبه عملا مشتركا بين الأطراف المشاركة فيه:

إن الحوار عمل جماعي يلتقي فيه أطراف متعددون لبحث القضايا التي يريدون التحاور فيها، وحتى تكون جميع الأطراف المتحاورة على قدم المساواة في هذا الحوار لا بد أن يكون لكل طرف منها رأيه وكلمته في تحديد طبيعة الحوار المرجو إقامته، والمواضيع والقضايا التي يُراد بحثها، والأساليب والطرق التي يُراد إتباعها في ممارسة الحوار، وتعيين المتحدثين باسم كل دين.

إن انفراد طرف واحد بتحديد كل قواعد الحوار ومضامينه ودعوة الآخرين للانخراط في برنامج معدّ سلفا قد يجعل الحوار مُوجّها لخدمة غرض مُعين ليس محل اتفاق بين الجميع.

3 ـ أن يكون من مستهدفات الحوار تحقيق تعاون عملي في القضايا المشتركة:

إن أكثر هيئات الحوار الديني ليست مؤسسات للبحث العلمي، وإنما هي مساحات يتبادل فيها أهل الأديان الأفكار حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، وإنه من المفيد لدفع عجلة الحوار إلى الأمام أن يجتهد المتحاورون في إقامة مشاريع تعاون حول المسائل التي تطرح في الواقع وتحتاج إلى جهود مشتركة للدفاع عن قيم معينة في المجتمع، أو المطالبة باحترام مبادئ عامة يلتقي عليها أصحاب الأديان، من ذلك مثلاً: الدفاع عن مكانة القيم الأخلاقية في ظل المجتمعات المعاصرة، وحماية حرية التدين أمام التيارات التي تريد الحد منها، والدفاع عن كيان الأسرة أمام ما يتهددها من اتجاهات تسعى إلى تهميش دورها، وكذلك الحفاظ على البيئة التي تتعرض لمخاطر التلوث والتغيّر المناخي الذي أصبح يخلّ بالتوازن البيئي في حياة الناس… إن مثل هذه القضايا وغيرها تحتاج إلى تكاتف الجهود بين المدافعين عنها حتى يمكنهم إيصال أصواتهم إلى جهات التأثير والتقرير.

4 ـ احترام عقيدة الآخر:

إن من الضوابط المساعدة على نجاح الحوار أن يحترم كل طرف من أطراف الحوار عقيدة الآخر، وأن يمتنع عن كل ما يتضمن الاستهزاء أو الانتقاص منها، ولو كان ذلك تحت غطاء النقد أو حرية التعبير.

نعم يمكن لكل صاحب عقيدة أن يعلن رأيه في القضايا المختلف فيها بين أصحاب الأديان ولكن بعيدا عن أساليب التجريح والهجوم، الذي لا يساعد على الالتقاء والتفاهم بل يدعو إلى الصراع والتنافر.

خلاصة البحث:

  • إن المقصود بالحوار الديني هو تحقيق التعارف والتواصل بين المنتسبين للأديان.
  • لا يمكن أن نقرّ ما قد يدعو له البعض من وحدة الأديان، بمعنى جمع الأديان على مبادئ موحدة وإلغاء ما بينها من فروق واختلافات.
  • إن التصور الإسلامي يعتبر الحوار أمرا ضروريا بين الناس، لأنه وسيلة من أهم وسائل التواصل بينهم، وإن من أوكد أنواع الحوار، الحوار الديني.
  • إن أهم أهداف الحوار بين الأديان هي: التعارف، توسيع مساحة التفاهم المشترك، تحقيق التعايش المشترك، التعاون، التعريف بالنفس لدى الآخر.
  • من ضوابط الحوار بين الأديان:

1 ـ أن يتصدى للحوار من هو أهل له.

2 ـ أن يكون الحوار في مضمونه وأساليبه عملا مشتركا بين الأطراف المشاركة فيه.

3 ـ أن يكون من مستهدفات الحوار تحقيق تعاون عملي في القضايا المشتركة.

4 ـ احترام عقيدة الآخر.

 عناصر البحث:

ـ مدخل: …………………………………………………………………………………2

ـ المقصود بالحوار بين الأديان …………………………………………………………3

ـ موقف الإسلام من الحوار بين الأديان ………………………………………………..4

ـ أهداف الحوار بين الأديان ……………………………………………………………10

ـ ضوابط الحوار بين الأديان …………………………………………………………..14

ـ خلاصة البحث ………………………………………………………………………..17

[1]  الشيخ الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير ج6 ص216

[2]  الإرادة الكونية القدرية والإرادة الدينية الشرعية، والفرق بينهما أن الإرادة الكونية القدرية لا بد أن تقع، وأنها قد تكون مما يحبه الله كالطاعات وقد تكون مما يبغضه الله كالمعاصي، وهذه الإرادة هي المطابقة لقولنا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، أي لا يقع في الكون خير أو شر إلا بمشيئة الله. وأما الإرادة الدينية الشرعية فلا تكون إلا مما يحبه الله، وقد تقع وقد لا تقع، وعلى هذا فمعنى الآية أن الله تعالى لا يريد بكم العسر أي لا يحبه، ولكنه إذا وقع فإنه يقع كوناً وقدراً لحكمة يعلمها، ومعنى قولهم، مراد الله أن تفعل الطاعات وتترك السيئات أي أنه يحب أن تفعل الطاعات وأن تترك السيئات، ووقوع السيئات إنما هو بإرادته الكونية القدرية (تعريف منقول من موقع إسلام ويب)

[3]  ولكن ينبغي ملاحظة أن الاختلاف الموجود في الكون قائم على قاعدة الانسجام وليس على قاعدة التضاد، فهو من باب اختلاف التنوع

[4]  تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور ج 7 ص 430

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق