المسلمون في أوروبا بين الزواج العرفي والزواج في القانون المدني

المسلمون في أوروبا
بين الزواج العرفي و الزواج في القانون المدني
أعده:
د. العربي البشري
الحمد لله و الصلاة والسلام على ر سول الله و على آله وصحبه و من والاه.. وبعد:
خلق ابن آدم لعمارة الأرض و الخلافة فيها و ذلك معنى كونه مخلوقا لعبادة الله، و لما كان لا يمكنه أن يقوم بواجبه الا بالاجتماع جعله الله اجتماعيا بالطبع، و لا بد لكل ذلك من كثرة التناسل.
ولأهمية ذلك جعل الانسان مجبولا على حب التناكح و النسل مندفعا لذلك من نفسه، بسبب ميل كل من الجنسين للآخر المركوز في الفطرة الإنسانية.
ولما كان لا يستقيم أمر النسل الا بحفظ النسب و بناء آصرته و كانت الجماعة الانسانية هي من أكرم المخلوقات و لا ينبغي لها أن تنزل الى مستوى البهائم، أقر الله لأهل الاسلام نوعاً واحداً من الأنكحة التي كانت عليها الجاهلية و هو نكاح الناس اليوم كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها.
و هذا العقد محدد الأركان و الشروط بدقة فلابد فيه من التراضي الذي تدل عليه الصيغة و لا بد فيه من عاقدين ومعقود عليه و هو الزوجة و المهر و لا بد فيه من الإشهاد و لكل من هده الأركان و الشروط معاني رعاها الشارع الحكيم ليتم نعمته على الخلق و ليكمل لهم المنهج القويم الذي ينبغي أن يسلكوه لأداء الامانة التي تحملوها.
ومما تجدر الإشارة إليه في هدا المقام أن هذا العقد ميزه الله عن سائر العقود فسماه الميثاق الغليظ ولم يرد هذا اللفظ إلا في وصف هذا العقد ووصف الميثاق الذي أخذه الله على أنبيائه، وأمر الله فيه بالإشهاد و الولي و الإعلام، و شدد في أمره، فجعل جده جدأ و هزله جدا، و ضيق الشارع في حل عقدته حين جعل الطلاق أبغض الحلال إليه وكرر فيه الأمر بالوقوف عند حدود الله و شدد كل التشديد في تعدي تلك الحدود، و شدد العلماء تبعا لذلك في ألفاظ النكاح ما لم يشددوا في غيرها من ألفاظ العقود كمن أجاز البيع بالمعاطاه ولم يجز النكاح إلا باللفظ الصريح. و كل ذلك احتراما للأبضاع لخطر أمرها و شدة حرمتها.
كما رتب عليه آثاراً أكثر بكثير مما رتبه على سائر العقود، فمن آثاره حقوق شتى للزوجين وحقوق للأولاد وحقوق لله.
ونحن إذ نتناول موضوعا كهذا، في بلاد كهذه، ينبغي أن نددق النظر فيه قبل الحكم، لأنه أمر خطير و ذلك لتعلقه بالأسرة وبنائها في بيئة تعاني عناء مراً من التفكك الأسري، وقد حادت فيها العلاقة بين الذكور والإناث عن الطريق القويم و الصراط المستقيم.
والمسلمون في هده البلاد يخضعون لسلطتين: شريعة الاسلام من جهة وقانون هذه البلاد من جهة أخرى.
وربما عارضت هذه القوانين ظاهر الشرع فيقع المسلمون بسبب ذلك في حرج عظيم ومن أهم المجالات التي يكثر فيها مثل هذا التناقض ميدان الأسرة وبخاصة الزواج. فعند المسلمين، الزواج له أركان وشروط يختلف بعضها عن أركان وشروط الزواج المدني في هده البلاد، كما تترتب عليه آثار تختلف كثيرا عن الآثار المترتبة على الزواج المدني.
فهل يكتفي المسلمون في أنكحتهم بإجراء العقد على القانون المدني؟
أم يكتفون في ذلك بإجراء العقدالعرفي؟
أم لا بد من إجراء العقدين معا؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي أن نبين معنى الزواج العرفي، ثم نبين الفروق بينه و بين عقد الزواج المدني؟
الزواج العرفي
أما الزواج العرفي فالمقصود به الزواج الإسلامي الذي لم يوثق رسميا، فهو إذن زواج استكملت فيه -ظاهرا- جميع الأركان والشروط إلا أنه لم يوثق عند ذي سلطان.
وهل هو في حاجة إلى التوثيق إذا استكمل جميع الشروط و الأركان؟ سؤال لا يمكننا أن نجيب عنه إلا إذا عرفنا علاقة التوثيق بالعقود في نظر الشرع.
تقدم أن الإنسان اجتماعي بالطبع و ذلك يفرض عليعه أنواعا شتى من المعاملات مع غيره، و الإسلام حثنا على العدل في هده المعاملات لئلا يفتح باب النزاع بين الناس، ولذلك اشترط للمعاملات شروطا تحفظها من الإفضاء إلى مثل هده المفسدة، فاشترط في كل المعاملات المالية وما يلحق بها، الخلو من الربا والغرر والغبن، فهي أسباب الفساد، لما في الربا من أكل لأموال الناس بالباطل وهو ظلم و استغلال مقيت يورث البغضاء والكراهية، كما أن الغرر يؤدي الى النزاع والغبن إلى الضرر المطلق.
فاحتاطت الشريعة للمعاملات قبل الشروع بالنهي عن أسباب الفساد وبعد الشروع بالأمر بالتوثيق كالإشهاد أو الكتابة أو الرهن[1].
وكدلك الأمر في النكاح، وإن كان يختلف في بعض جوانبه عن المعاملات المالية، كالبيع، لأن النكاح مبني على المكارمة والبيع مبني على المشاحة و المكايسة.
إلا أنه مثله، بل أشد منه، لأن خلو النكاح مما يمكن أن يؤدي الى نزاع مطلوب بطريقة آكد.
فاحتاطت الشريعة لوقوع النزاع في النكاح ما لم تحتط في غيره، و لذلك شرع فيه الإشهاد و الإعلان.
لأنهما توثيق عند الجحود ورفع للشبهة وحفظ للعرض، سواء كان الإشهاد في النكاح شرط صحة كما هو عند الجمهور أو شرط تمام يستحب عند العقد ويجب عند الدخول كما هو مشهور مذهب المالكية.
فحكم الإشهاد إذن معلل في الشريعة وليس بتعبدي كما زعم البعض.
قال ابن تيمية رحمه الله: إن الأمر الشرعي بلزوم الشهود والإعلان في عقد النكاح إنما هو بتمييزه من السفاح وصيانة للنساء المحصنات عن التشبه أو الاشتباه بالبغايا ولذا شرع في النكاح الاحتفال بضرب الدف والوليمة مما يوجب الشهرة”[2].
وذكر “السرخسي” في المبسوط، في معرض الكلام عن تعليل الإشهاد في النكاح: “فإن المقصود إظهار النكاح عند الحاجة إليه و الصيانة عن خلل يقع بسبب التجاحد”[3].
والمذكور عن العلماء تعليل الإشهاد و الإعلان بالعلتين: التوثق لأجل الجحود و الإظهار ليتميز النكاح عن السفاح، إلا أن التوثيق أنسب للإشهاد و الإظهار أنسب للإعلان.
وإذا كان الإشهاد باعتباره وسيلة من وسائل التوثيق قد يكتفى بها في بعض بلاد الإسلام وقد لا يكتفى بها في بلاد إسلامية أخرى، فيطلب من المتعاقدين أن يوثقوا العقد والشهادة بالكتابة الرسمية، فإنه في هده البلاد تفقد وسيلة الإشهاد في الزواج العرفي معناها فلا يعترف القانون الفرنسي -وربما الكثير من القوانين الاوربية- بالزواج العرفي ولو أشهد عليه آلاف الشهود، بل يمنع القانون وقد يعاقب من يعقد عقداً عرفياً قبل العقد المدني.
فأي عقد هذا الذي تستباح به فروج والذي لا اعتبارله عند أي سلطان على وجه الأرض؟ حتى إذا ما حدث نزاع بين المتزوجين زواجاً عرفياً، ليس ثمة قاض في الدنيا يفصل فيه معتبراً إياه زواجاً، فلا يضمن به أي حق لأي من الزوجين من الناحية القضائية.
ولقد تسبب في مشكلات أسرية و اجتماعية عويصة كما يحدث مراراً أن تفارق المرأة زوجها الرسمي، وقبل أن يصدر القاضي الطلاق تتزوج من رجل آخر زواجاً عرفياً ويحدث مراراً أن يغيب الزوج المتزوج زواجاً عرفياً فتتضرر الزوجة لأنه يتركها كالمعلّقة لا هي متزوجة و لا هي مطلقة فتجوز خطبتها، و لا يوجد قاض في الدنيا يستطيع إنصافها.
والأمثلة من الواقع على ذلك تتجاوز الحصر، مما فتح الباب للذواقين والذواقات فأدى إلى التلاعب في أمر الأبضاع، ترى الشابة تتزوج من هذا فترة ثم من آخر ثم من ثالث وهكذا عدة مرات في السنة، فنتج عن ذلك اضطراب نفسي واجتماعي بين شباب وشابات المسلمين.
لأن العقد العرفي يرتكز على وازع الدين ولا يرتكز على وازع السلطان وإن توفر فيه الشهود لأنه عقد خارج عن القانون أصلا ولأن الشريعة أحاطت العقود بسياجين حافظين سياج الوازع الديني و سياج الوازع السلطاني وقد جاء ذلك آكد في عقد الزواج، فإنه لا بد فيه من وازع السلطان و لا يترك لوازع الدين وحده و قد رق الدين و ضعف الايمان و قلت المروءة، و لذلك نجد الجمهور على أن التوثيق بالكتابة أو الإشهاد أو الرهن مندوب إليه في الجملة في أكثر المعاملات أما في النكاح فالإشهاد شرط صحة عند الجمهور، لذلك أوجبت الشريعة وسيلة الإشهاد في النكاح دون غيره من العقود، إذ المعروف من تصرف الشرع في مصادره وموارده أنه يحتاط في الإبضاع ما لا يحتاط في الأموال، لأن الأمر متعلق بالعرض وهو أمر مقدم عند أولي العقول الراجحة و النفوس الكريمة.
قال الشاعر:
أصون عرضي بمالي لا ابدده لا بارك الله بعد العرض في المال
وقال آخر:
إني و إن قلت عن همتي جدتي وكان مالي لا يقوى على خلقي
لتارك كل أمـر كان يلزمني عارا ويشرعني في المنهل الرمق
ولقد قرر العلماء أنه إذا ائتمن أحد المتعاقدين الآخر على المال فلا حرج أن يترك الإشهاد والكتابة والرهن أما إن خشي التجاحد فيندب التوثيق بإحدى هده الوسائل.
أما أمر النكاح فأخطر، فلا ينعقد بغير شهود عند جمهور الفقهاء، و إن انعقد بدونهما عند المالكية، فلا يصح الدخول إلا بإحضارهما[4].
و إذا لم يكتفى في التوثق بالشهود ندب التوثق بالكتابة، كما ذكر ذلك ابن عابدين في حاشيته قال: “يستحب أن يكتب للعتق كتابا يشهد عليه صيانة عن التجاحد كما في المداينة بخلاف سائر التجارات للحرج، لأنها مما يكثر وقوعها و ينبغي أن يكون النكاح كالعتق لأنه لا حرج فيه”[5].
و هذا التدرج و الترتيب هو من باب رفع رتب الوسائل. لأنه كلما تخلف إفضاء الوسيلة الى المقصد عوض الشرع تلك الوسيلة بما هو أعلى منها مرتبة ليتحقق المقصد، و أسباب ذلك متعددة: منها ما يسمى عند الفقاء بفساد الزمان، مثال ذلك ما حصل لأصحاب أبي حنيفة في معنى العدالة في الشهود حيث رجعوا فيها إلى رأي الجمهور، فقالوا إنه لا يكتفى في العدالة بظاهر الإسلام -كما هو الأمر عند أبي حنيفة رحمه الله- بل لابد من الإسلام و ظهور الصلاح, و لما سئل أهل المذهب في ذلك، قالوا إنما هو اختلاف عصر و أوان و ليس اختلاف حجة و برهان.
ومن ذلك رجوع عمر ابن عبد العزيز عن الحكم بالشاهد و اليمين عند ما انتقل الى الشام و قد كان يحكم بذلك زمن ولايته بالمدينة.
وقال في ذلك قولته المشهورة: “تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور”؛ وهذا كما ذكرت آنفا من باب رفع رتب الوسائل ليكون الإفضاء الى المقاصد آكد.
فإن العدالة وسيلة إلى مقصد، هو حصول غلبة الظن بصدق الشهود. فإذا كان معنى العدالة عند أبي حنيفة قد قصر عن أن يكون مظنة الإفضاء إلى ذلك المقصد، فيكون معناها عند الجمهور مظنة لذلك الإفضاء، لأنها متضمنة عندهم معنى زائدا مناسبا لحصول غلبة الظن بصدق الشهود.
وكذلك الشاهد و اليمين وسيلة إلى مقصد هو ثبوت الحكم لدى القاضي.
فإذا قصرت هذه الوسيلة عن الإفضاء إلى هذا المقصد بالشام، لأنها لا تثير الظن الغالب اللازم لثبوت الحكم لدى القاضي، و ذلك بسبب فارق الحال بين أهل الشام و أهل المدينة في ذلك ، فإن الحكم بالشاهدين وسيلة أعلى، تثير الظن الغالب، فيثبت بها الحكم لدى القاضي.
وذلك لأن الوسائل ليست مطلوبة لذاتها و إنما تطلب لتحقيق غرض التشريع. قال : الشيخ ابن عاشور رحمه الله:
“وأما الوسائل فهي الاحكام التي شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى، فهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل ، إذ بدونها قد لا يحصل المقصد أو يحصل معرضا للاختلال والانحلال، فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتهما”[6].
وقال في موضع آخر: “و قد تتعدد الوسائل إلىمقصد الواحد فتعتبر الشريعة في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه بحيث يحصل كاملاً راسخاً عاجلاً ميسوراً فتقدمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل وهذا مجال متسع ظهر فيه مصداق نظر الشريعة الى المصالح و عصمتها من الخطأ والتفريط و لم أر من نبه على الالتفات إليه. و أحسب أن عظماء المجتهدين لم يغفلوا عن اعتباره، ويجب أن يكون تتبع أساليب مراعاة الشريعة لهذا الأصل من أكبر ما يهتم به المجتهدون و الفقهاء في الاستنباط و التشريع وتعليل الشريعة، وما يهتم به القضاة و الولاة في تنفيذ الشريعة فإنه متشعب متفنن”[7].
و الإشهاد في العقد العرفي في هده البلاد لم يعد له معنى لإنه لا يستند إليه بتاتا في حال النزاع و غاية الأمر أن المتزوجين زواجا عرفيا إن أثبتا أنهما يعيشان عيشة مشتركة يكيف ذلك من الناحية القانونية على أنه “اتحاد حر” و هو ليس زواجاً مشروعا بل هو سفاح محرم.
ومعنى ذلك أن هذه وسيلة أصبحت عاجزة عجزا تاما عن الإفضاء الى المقصود و هو التوثيق، ووسيلة هذا حالها يكون وجودها كعدمها.
إن العقد العرفي بهذا المعنى، لا وجود فيه لوازع السلطان، فإن تبرأ منه أحد الزوجين أو قصر أحدهما في حق الآخر أو جحد الزوج الولد أو تنصل الزوج من مؤخر الصداق أو من النفقة على الزوجة و الأولاد فلا سبيل الى إلزامه بشيء من ذلك لأنه ليس ثمة أي سلطة قضائية تسمع دعوى المتضرر من المتعاقدين.
ولقد سمعت القول بجوازه مع تحريم الإقبال عليه عن بعض الفضلاء ولعلهم استصحبوا ما اشتهر من حكم ما يقع منه في دار الاسلام، فقد أفتى بعض العلماء هنالك بجوازه مع حرمة تعاطيه.
إلا أن الأمر مختلف بين دار الإسلام وغيرها، ففي بلاد الاسلام الكثير منها يقبل توثيق العقد إذا استكملت الشروط و الأركان وتوثقه على شهادة الشهود الأوائل، و هذا أمر لا وجود له في هده البلاد.
فإن كان عقد الزواج العرفي ينعقد صحيحاً في بلاد الإسلام لأن ما اقترن به من فساد هو من خارجه، وذلك لما فيه من خروج عن سنة العقد في قانون السلطان، ففي هده البلاد فساد العقد العرفي من داخله و ذلك لاختلال الإشهاد فيه كما تقدم، فلا يصح أن يستصحب حكمه من بلاد الإسلام الى هذه البلاد.
عقد الزواج في القانون المدني الفرنسي
أما عقد الزواج كما بينت مبناه المادة 76 من القانون المدني الفرنسي فيختل فيه من جهة الأركان و الشروط مايلي:
1) المهر:
لا ذكر للمهر في العقد البتة، و لا يتوقف عليه في شيئ، لا في الصحة و لا في اللزوم و لا النفاد.
2) الولي:
لا دكر للولي فيه بل تلي المرأة البالغ سن الرشد عقد نكاحها دون توقف على رضى أوليائها، بخلاف الصغير و الصغيرة التي تنص المادة 148 في حقهما على توقف العقد على رضى الأبوين أو الكفيل أو مجلس العائلة.
إلا أن المادة 173 أعطت الأبوين حق الاعتراض على العقد، على أن يبينوا سبب الاعتراض.
ومن أسباب الاعتراض ما يشبه الكفاءة في شريعة الاسلام، إلا أن معنى الكفاءة عندهم يختلف عنها في الشرع.
ومذهبهم هدا قريب من رأي “أبي حنيفة” الذي يرى أن المرأة إدا زوجت نفسها من غير كفء فللولي أن يعترض على الزواج ويرفع الأمر إلى القاضي الدي قد يحكم بفسخ العقد إذا ثبت عنده ما يوجب ذلك.
3) الشروط المتعلقة بالزوجين:
وذلك كخلوهما عن الموانع القانونية، فقد نصت المادة 147 على أنه: “لا ينعقد زواج ثاني إلا بعد حل الأول، و هدا لا اعتراض فيه مع الشرع من جهة المرأة ولكن من جهة الرجل معناه منع تعدد الزوجات، كما نصت المادة 228 على أنه: “لا تتزوج المرأة زواجا ثانيا إلا بعد مضي 300 يوم بعد حل عقد الزواج الأول” وهذا معناه أن عدة المطلقة أو المتوفى عنها هي 300 يوم عندهم.
أما من جهة الآثار المترتبة على العقد فيختل في عقد الزواج المدني في القانون الفرنسي بالنسبة للشرع أمور أهمها ما يلي:
- نصت المادة 203 على أنه “بمجرد العقد وجب على الزوجين معا نفقة وصيانة و تربية الأولاد”.
- نصت المادة 213 و المادة 214، على أن القوامة في الأسرة مشتركة بين الزوجين و من آثار دلك أن الزوجة يحق لها أن تعمل دون رضا زوجها كما جاء ذلك في المادة 22.
- نصت المادة 215 على أنه “بمجرد عقد الزواج أصبح للزوجين ذمة مالية واحدة.
- نصت المادة 220 على أنه “لكل من الزوجين السلطة في أن يلي وحده أي تصرف يهدف إلى صيانة الأسرة أو تربية الأولاد. و أي دين ترتب عن هذا التصرف ثبت في ذمتهما الواحدة”. و معنى ذلك أنهما يتحملانه معا و إن عجز أحدهما تحمل عنه الآخر.
- نصت المادة 227 و المادة 229، على أن هذا العقد لا يحل إلا بالموت أو الطلاق، و لا يعلن الطلاق إلا القاضي، بعد أن يوجه إليه طلب الطلاق من أحد الزوجين أو منهما معا، و يكون دلك لأحد ثلاثة أسباب:
- التراضي على الطلاق.
- انقطاع الحياة الزوجية فعلا.
- الطلاق بسبب خطأ.
ومعنى دلك أن الطلاق ليس بيد الرجل، وإنما هو بيد القاضي.
و بعد هذا العرض لأهم الفروق بين عقد الزواج الشرعي وعقد الزواج في القانون الفرنسي يمكن قول ما يلي: إنلاالمسلمون في هذه البلاد بين نوعين من عقود الزواج:
الأول: العقد القانوني و هو عقد لا يصح الاكتفاء به شرعا، لما تقدم من الخلل في أركانه و شروطه و لما يترتب عليه من آثار تختلف عن الآثار المترتبة على عقد الزواج الشرعي.
الثاني: العقد العرفي و هو عقد كما تقدم الإشهاد فيه صوري فارغ من فحواه و خال من معناه و هو التوثق لأجل الجحود، فينبغي ان يوثق رسميا لتتحقق الحكمة من تشريعه.
والحقيقة أننا في حرج من اعتماد أحد العقدين مفردا لعدم وفائهما بالغرض مفردين، أما الأول فلما فيه من الخلل في الأركان والشروط و الآثار، والثاني لما فيه من الخلل في الإشهاد.
والجمع بين العقدين على أن يقرا معا بآثارهما المختلفة، فيه حرج أيضا، لأنه لايصح شرعا أن يعقد على أمر واحد بعقدين مختلفين.
ولأنه عند الخلاف يلجأ كل طرف من أطراف العقد إلى ما يؤيد موقفه من العقدتين. لكن اجتماع العقدين لازم ضرورة لئلا تفوتنا مصلحة النكاح.
يقول الشاطبي: “إن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا تُرْضَى شرعا فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال واتساع أوجه الحرام والشبهات.
وكثيراً ما يلجأ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ولكنه غير مانع لما يؤول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض.
ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا لأدى إلى إبطال أصله وذلك غير صحيح…. فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع.
وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا عيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق”[8]
ونحن أمام مصلحة معتبرة ضرورية اكتنفها من خارج ما لا يرضى شرعا كالتي ذكرها الشاطبي رحمه الله.
إلا أنه قبل النزول على الحكم الذي تقتضيه الضرورة، يجب أن نجتهد ما أمكن من أجل تقليل الفساد ليتخرج الحكم تخريجاً فقهيا صحيحاً.
فيمكن أن يقال: إنه لا يصح اعتماد العقدين مفردين على قدم المساواة بل نعتمد العقد العرفي أساساً والعقد القانوني مكملاً له، وجابراً لما فيه من خلل التوثيق استكمالاً لشرط الإشهاد المختل في العقد العرفي، ويمكن أن يخرج ذلك على مشهور مذهب مالك في أن الإشهاد شرط تمام مستحب عند العقد ولكن يتوقف عليه الدخول ولا يصح الدخول إلا بإحضار الشهود.
فيكون انعقاد الزواج العرفي بمعناه في هذه البلاد كالزواج من غير شهود، فهو ينعقد صحيحاً لكن لا يصح به الدخول إلا بعد إجراء العقد القانوني الذي يكون عوضاً عن الإشهاد المختل في العقد العرفي، وينبغي أن يراعي في تطبيق ذلك الفروق القانونية بين البلاد الأوربية في تقديم أحد العقدين على الآخر أو في عقدهما معاً في وقت واحد.
وهذا في نظري حل مؤقت إلى أن يتيسر ما هو أفضل، وهو أن يعترف للمسلمين بخصوصيتهم ، ودون ذلك عقبة كؤود تحتاج إلى الكد و بذل الجهود، نسأل الله أن يذلل الصعاب و أن يوفق لما فيه الصواب.
[2] فتاوى ابن تيمية ج3 ص 270
[3] المبسوط للسرخسي ج5 ص32
[4] خلاف مالك للجمهور قؤي ومذهيه مصير إلى القول بالبينية
[5] حاشية ابن عابدين ج3 ص
[6] مقاصد الشريعة الإسلامية للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور ص 148
[7] مقاصد الشريعة الإسلامية م س. ص149
[8] الموافقات للشاطبي ج4 ص 211 نكاحت العقد الى ما يدلفين.مالية على الزوجين معا نفقة وصيانة