البحوث

المسلمون في أوروبا.. الشراكة الحضارية مدخلاً للاندماج

المسلمون في أوروبا..

الشراكة الحضارية مدخلاً للاندماج

إعداد

أ.د. عبد المجيد النجار

بحث مقدم

للدورة السابعة عشرة للمجلس – سراييفو

ربيع الآخر/ جمادى الأولى 1428 هـ / مايو 2007 م

 

تمهيد..

أصبح الوجود الإسلامي بأوروبا منذ بعض العقود يتطوّر تطوّرا سريعا في كمّه وكيفه، فقد ناهز عدد المسلمين في هذه البلاد شرقيّها وغربيّها الستّين مليونا، بين مسلمين من أصيلي أوروبا، ومسلمين وافدين من البلاد الإسلامية، ومسلمين أوروبيين جدد. وبعدما كان هدف هذا الوجود كما يرسمه المهاجرون لأنفسهم وهم العدد الأكبر هو أن يستفيدوا من البلاد التي يقيمون فيها استفادة ظرفية عابرة تعود بهم إلى بلادهم الأصلية أصبح الكثير منهم إن لم يكن الأكثر يخطّطون لوجود مستقرّ دائم يكونون فيه ويكون أبناؤهم من بعدهم مواطنين مثل سائر المواطنين في البلاد الأوروبية، وهو ما يقتضي الانخراط في المجتمع والاندماج فيه والمشاركة في جميع فعالياته بصفة طبيعية، وقد بدأت الحياة الإسلامية العامّة تتّجه هذه الوجهة، برسّخها في النفوس وينمّيها استمراء الحياة الأوروبية المريحة من الناحية المادّية في أغلب الأحوال، بالنسبة للآفاق الاقتصادية والسياسية المسدودة في البلاد التي وقعت منها الهجرة.

وحينما بدأ هذا الهدف الجديد يراود النفوس ويأخذ طريقه إلى الواقع منذ ما يقارب العقدين من الزمن بدأت النخبة الإسلامية في أوروبا المهتمّة بوضع الوجود الإسلامي فيها تشعر بأنّه هدف يختلف اختلافا نوعيا عمّا كان، ويفتح آفاقا واسعة للمسلمين والإسلام بصفة عامّة تتجاوز ما يتعلّق منها بالمسلمين في أوروبا بصفة خاصّة ليكون في مصلحة المجتمع الأوروبي بصفة عامّة، وبدأت تقدّر أنّ ذلك يستلزم من وسائل التنفيذ وطرقه ما لم يكن معهودا حينما كان الهدف هو الوجود الظرفي العارض. ومن أبرز ما نتج عن ذلك التقدير الاقتناع بأنّ هدف توطين المسلمين واندماجهم في المجتمع لم تعد قادرة عليه الجهود الفردية، وإنّما أصبح يستلزم جهدا جماعيا تنهض به المؤسّسات والمنظّمات والجمعيات؛ ولذلك فقد بدأت هذه المؤسّسات في الظهور والتوسّع والنموّ حتى أصبحت ظاهرة لا تخلو منها مدينة من المدن الأوروبية، واندرج أغلب النشاط ذي الصبغة الإسلامية ضمن أعمال المؤسّسات والمنظّمات والمراكز الثقافية والاجتماعية والدينية والتربوية.

وحينما آل الأمر إلى المنظّمات في توجيه الوجود الإسلامي والإشراف عليه فإنّها وجدت نفسها في مواجهة تحدّيات كبيرة يطرحها هدف التوطين الذي أصبح هدف المرحلة المقبلة لهذا الوجود، وما يقتضيه ذلك من اندماج في المجتمع وانخراط فيه، ولعلّ من أكبر هذه التحدّيات هو التحدّي الذي يطرحه السؤال التالي:

ما هو دور المسلمين في أوروبا ضمن هدفهم الجديد الذي هو هدف التوطين؟ وما هو موقعهم فيه، هل هو الهامش الذي يبقيهم خارج دائرة المجتمع، أم الاندماج الذي ينتقل بهم إلى قلبه؟

وفي التفاعل مع هذا السؤال بدأت تظهر بوادر لجواب يشغل الأذهان وتنطق به الألسن، ولكنّه ما يزال غير بيّن في مغزاه، وغير نضيج في محتواه، وغير محرّر في مبناه، فضلا عن تحديد الطرائق والسبل التي تؤدّي إليه.

 وذلك الجواب هو أنّ الوجود الإسلامي في أوروبا فيما حدّد لنفسه من هدف التوطين  ينبغي أن يكون قائما بدور الشراكة الحضارية مع المجتمع الذي يعيش فيه، وأن يكون تبعا لذلك حالاّ من المجتمع في دائرته الحيّة  مندمجا في سائر المكوّنات الاجتماعية متفاعلا معها، غير مقتصر على الحلول بالأطراف الهامشية كما كان عليه الأمر في المرحلة السابقة، فالشراكة الحضارية كما سنشرحها تساعد على هذا الاندماج وتدفع إليه، وما يتحقّق من الاندماج يساعد هو بدوره على المضيّ في الشراكة الحضارية؛ ولذلك فإن التخطيط لهذا المشروع، وتيسير السبل لتحقيقه هو فيما نقدّر المدخل الأساسي الذي يجعل المسلمين بأوروبا يندمجون في مجتمعهم ليكونوا أحد مكوّناته الأساسية، وليرتبطوا معها مثل سائر المكوّنات بالعقد الاجتماعي الجامع، فما هي حقيقة هذه الشراكة الحضارية ومؤهّلاتها؟ وما هو مضمونها؟ وكيف تكون مدخلا للاندماج الإيجابي في المجتمع؟

1 ـ الشراكة الحضارية:

يقتضي العقد الاجتماعي الذي يربط كافّة مكوّنات المجتمع من الأفراد والجماعات والفئات أن يكون هؤلاء جميعا شركاء في المجتمع الذي تعاقدوا فيه، وشركاء في القضايا التي تعاقدوا عليها متمثّلة في جملة من الحقوق والواجبات، ومن القوانين والأعراف والعادات. ومن أهمّ البنود التي يتمّ عليها التعاقد العمل من أجل مصلحة المجتمع، عملا يهدف إلى الترقّي به إنسانيا ومادّيا، وذلك هو البناء الحضاري الذي يشترك الجميع في النهوض به على سبيل الوجوب بمقتضى الانخراط في العقد الاجتماعي. والشراكة الحضارية التي هي موضوع بحثنا لا تخرج عن هذا المعنى مع خصوصيات لهذا الطرف الذي يمثله المسلمون بمقتضى صفتهم الإسلامية، فما هي حقيقة هذه الشراكة باعتبار خصوصياتها؟ وهل لها من سند شرعي من ذات هذه الخصوصية الإسلامية؟

أ ـ مدلول الشراكة الحضارية:

حينما يصبح المسلمون بأوروبا على هذا الوضع الذي انتهوا إليه كمّا وكيفا وهدفا فإنّ ذلك يستلزم لا محالة تغييرا في الدور الذي ينبغي أن يقوموا به في المجتمع الذي يعيشون فيه.

لقد كانوا في وضعهم السابق يعيشون على هامش الحضارة الغربية التي يعيش عليها المجتمع، فدورهم هو دور استهلاكي لمنتجات تلك الحضارة، سواء فيما يتعلّق بالمنتجات المادّية أو المنتجات الأدبية الثقافية، يتأثّرون ولا يؤثّرون، ويأخذون ولا يعطون إذ ليست لهم القدرة على العطاء سوى الإسهام في الأعمال التنفيذية البسيطة.

لقد كان المسلمون في هذا الوضع لا يسهمون بشيء يُذكر في تقدّم المسيرة الحضارية إلاّ أن تكون الأعمال اليدوية التنفيذية، وأمّا كلّ ما هو ريادة علمية أو فنّية أو قيمية فإنّ دورهم فيها كان دورا ضعيفا يكاد يقارب حالة العدم، وهو الأمر الذي أبقاهم في وضع من الوجود الهامشي المنفصل أو يكاد عن الجسم الاجتماعي دون تفاعل يذكر معه أو اندماج مثمر فيه.

وإذا كان وضع الوجود العرضي الذي كانوا عليه قد يسوّغ على نحو من الأنحاء هذا الدور الاستهلاكي فإنّ الوضع الجديد الذي أصبحوا فيه يعملون على أن يكونوا مواطنين أوروبيين لم يعد يتناسب مع هذا الدور، ولم يعد يحتمله، وأصبح مطلوبا منهم  باعتبارهم مواطنين أوروبيين أن يكونوا شركاء مع سائر المواطنين في حركة التقدّم الحضاري التي يتحرّك بها المجتمع الأوروبي، وأن ينخرطوا في الدور الذي يقوم به سائر المواطنين، وهو دور الإسهام الفعلي في حركة التقدّم الحضاري مادّيا ومعنويا، ليس بالتنفيذ الفعلي للأعمال اليدوية، وإنّما بالإضافة الريادية في مجال العلوم والتقنية، وفي مجال الآداب والقيم.

 إنّ هذا المسار يعني انخراطا في المسيرة الحضارية الأوروبية العامّة، ولكن بخصوصية كونهم مسلمين تهيّئهم هذه الصفة لعطاء فيه إضافة كمّية ونوعية تثرى بها مسيرة التحضّر الأوروبي، وهذا هو مدلول الشراكة الحضارية الذي قدّرنا أنّه أحد أهمّ التحدّيات التي تواجه المسلمين بأوروبا، وهو الوضع الكفيل إلى حدّ بعيد بأن ينقل الوجود الإسلامي من العيش في الهامش الخارجي إلى الاندماج في النسيج الاجتماعي الداخلي اندماجا إيجابيا مثمرا. فهل لهذه الشراكة الحضارية سند مبدئي ديني يدعمها ويدفع إليها حتى تكون متأسّسة على الخصوصية الدينية للمسلمين؟

ب ـ  الشراكة الحضارية في الميزان الديني:

إنّ هذه الشراكة الحضارية بالمعنى الذي وصفنا تجد لها في نفوس المسلمين دافعا دينيا عقديا، وهو ما يتمثّل فيما يوجبه الدين على المسلم من أن يكون صاحب رسالة في أيّ موقع كان فيه، وفي أيّ وضع من أوضاع حياته، وتلك الرسالة هي أن ينفع الناس ما استطاع أن ينفعهم، وان ينتفع منهم ما استطاع أن ينتفع، وأن يتعاون معهم فيما فيه الخير للجميع، وهذا المعنى هو المضمّن في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ  ” ( الحجرات/13)، وفي قوله تعالى:” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا  “(البقرة/143)، فالشهادة على الناس تعني من بين ما تعني تبليغ المسلم  ما عنده من خير مادّي أو معنوي للناس، والعمل على أن ينـفعهم بذلك الخير، والتعاون على البرّ والتقوى يعني مدّ المسلم حبال التوافق مع من يعيش معهم من الناس ليشتركوا جميعا في إنجاز ما فيه لهم مصلحة مشتركة، وكلّ هذا واجب على المسلم إزاء المجتمع الذي يعيش فيه بقطع النظر عن اختلافه معه أو اتّفاقه في المعتقد أو في الثقافة أو العرق.

إذن فإنّ في المخزون الديني الثقافي للمسلم ما يدفعه إلى أن يندمج في المحيط الأوروبي الذي يعيش فيه اندماجا يكون فيه شريكا لكلّ مكوّناته البشرية في النهوض بأعباء الحياة، وفي العمل على تطويرها إلى ما فيه خير الجميع، وفي التعاون مع الآخرين اتّفق معهم أو اختلف في الدين على التعمير في الأرض التي هي في المعتقد الإسلامي المهمّة التي من أجلها خلق الإنسان وفقا لقوله تعالى:” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً  ” ( البقرة/ 30)، فإذا ما تقاعس عنها لأيّ سبب من الأسباب اعتُبر متقاعسا عن أداء ما من أجله خُلق، وهو ما يجعله في المنظور الديني يبوء بالإثم الكبير والعاقبة السيّئة.

وإذا كانت هذه المعاني ليست قائمة في ذهنية المسلمين بأوروبا على هذا النحو من الوضوح، ولا هي ماثلة في وعيهم على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه من الفاعلية، إلاّ أنّها تُعتبر قيما دينية أساسية يتضمّنها المخزون الثقافي الديني للمسلم، وإذا كان ما هو فاعل منها أقلّ ممّا هو عاطل عن الفعل، فإنّ ذلك العاطل عن الفعل  قائم في النفوس بالقوّة، وهو قابل لأن يُفعّل بأيسر ما يكون من الاستثارة الدعوية، وهو في وجوده القيمي في النفوس مسنود بتجربة حضارية تاريخية ثريّة اشترك فيها المسلمون مع سائر شعوب الأرض على إنجاز حضارة مشهودة لئن كان طابعها العامّ طابعا إسلاميا إلاّ أنّها كانت ذات روح إنسانية جامعة، وذات غايات عالمية شاملة، فإذا ما تفاعلت في نفس المسلم الذي يعيش في أوروبا تلك القيم الدينية ما هو فاعل وما هو قابل للتفعيل بيسر، وذلك المخزون التاريخي للتجربة الحضارية الإسلامية، فإنّه ينتج من ذلك لا محالة دافع قويّ يدفع الوجود الإسلامي بأوروبا إلى شراكة حضارية مع المجتمع الأوروبي على نحو ما وصفنا آنفا، وتوفّر بذلك الداعي النفسي لتلك الشراكة متمثّلا في الدافع العقدي.

2 ـ مضمون الشراكة الحضارية:

لا شكّ أنّ المسلمين بالغرب يجدون أتفسهم في وضعهم الحالي في مستوى حضاري دون المستوى الحضاري الذي عليه المجتمع الذي هم فيه، سواء من حيث العلوم والتكنولوجيا، أو من حيث الضبط الإداري للأعمال، وهو ما قد يوهم بأنّ الشراكة الحضارية أمر غير ذي موضوع، إذ هذه الشراكة تقتضي أن يكون كلّ من الشريكين يتوفّر على رصيد يمكن أن يكون له رأسَ مال يدخل به مع شريكه الثاني ليكون شريكا حقّا، فإذا لم يكن له رصيد يذكر أصبح غير مؤهّل لأن يكون شريكا، فكيف نطلب إذن من المسلمين أن يكونوا شركاء وهم لا يتوفّرون على رصيد تصحّ به الشراكة؟

إنّ الحضارة ليست تقدّما مادّيا أو ضبطا إداريا فحسب، فذلك إنّما هو وجه من وجوه الحضارة، والوجه الآخر من وجوهها، ولعلّه الوجه الأهمّ هو القيم الأخلاقية والروحية والإنسانية التي تؤطّر الحياة، والتي تقود ذلك الوجه المادّي وتوجّهه وتهديه. وإذا كان المسلمون بالغرب ليس رصيدهم في العلم المادّي والإداري برصيد يذكر ليكونوا شركاء، فإنّ رصيدهم القيمي والأخلاقي والروحي هو رصيد ذو أهمّية قصوى بالنسبة للواقع الحضاري الراهن، وهو ما يمكن أن يكون لهم بمثابة رأس المال المقدّر الذي ينخرطون به في شراكتهم الحضارية الغربية لتكون إذن شراكتهم المأمولة دائرة بين أخذ وعطاء: أخذ لما ينقصهم من علوم وتقنية وإدارة، وعطاء لما يتوفّرون عليه من قيم روحية وأخلاقية وإنسانية.

أ ـ الأخذ الحضاري:

لا يمكن أن يكون للمسلمين بالغرب إسهام حضاري في مجتمعهم إلاّ إذا سلكوا أوّلا مسلك الأخذ من الكسب الحضاري الذي حقّقه ذلك المجتمع، وهو الكسب المتمثّل في تلك المنجزات العلمية والتقنية المشهودة، وفي ذلك الأداء الإداري الفاعل، فالانخراط الجدّي الواعي في كسب تلك المنجزات هو الذي سيجعل المسلمين متحقّقين بمصداقية في الإسهام الحضاري، إذ ذلك هو العنوان الأكبر للحضارة في أعين أهل الغرب، وهو لا شكّ عنوان كبير من عناوينها، فإذا لم يتمثّلوا تلك الإنجازات فسوف لن يُؤبه بهم ولا يُلتفت إليهم، وسوف لن يُعتبروا مواطنين حقيقيين، وإنّما سيظلّون على هامش مسيرة التحضّر في المجتمع الغربي، إذ هم لا يملكون الزاد الأساسي لتلك المسيرة كما هو اعتقاد أهلها.

ومن جهة أخرى فإنّ المسلمين إذا لم يستوعبوا هذا الكسب الحضاري الغربي في جانبه العلمي والإداري فإنّهم سوف لن يستطيعوا أن يُقدّموا شيئا، إذ المطلوب منهم في الشراكة أن ينخرطوا في دورة الأخذ والعطاء، فمن أجل العطاء الذي هو العنصر الأبرز في هذه الشراكة ينبغي أن يكون الأخذ، إذ من جهة فإنّ المشاركة في الإنجازات المادّية لا يمكن أن تتمّ إلاّ بأن يستوعب المشارك ما وصل إليه القوم من علوم ومعارف ومهارات ليستطيع أن يلتحق بهم في دور العطاء، ومن جهة أخرى فإنّ العطاء المعنوي من القيم الروحية والأخلاقية كما سنبينه لاحقا هو عطاء مرهون في مقبوليته من قِبل المجتمع الغربي بمصداقية من يعرضه عليه متمثّلة في الأنموذجية الحضارية المادّية، إذ ذلك هو المقياس الأكبر في عرف هذه أهل الحضارة، فإذا ما كان عارض هذه القيم مبرِّزا في العلم المادّي نظريا وتقنيا اتّصف عرضه بالمصداقية فأصغت إليه الأسماع وانتبهت العقول، وإذا ما كان متخلّفا فيها قوبل بالتجاهل والإهمال، فلا يكون لعرضه قَبول.

وما على المسلمين أخذه من الحضارة الغربية كثير، ولكنّه منتظم بالأخصّ في محورين أساسيين هما: العلم المادّي، والعلم الإداري، إذ لا شكّ أنّ البلاد الغربية حقّقت أقدارا كبيرة من التقدّم في العلوم الكونية وتطبيقاتها التكنولوجية، وفي التنظيم الإداري والسياسي للحياة الاجتماعية، وذلك هو سبب ما وصلت إليه هذه البلاد من رقيّ حضاري، فعلى المسلمين بالغرب أن يتمثّلوا هذا الكسب تمثّلا صحيحا، سواء تعلّق ذلك بالعلوم الكونية أو بالعلوم الإنسانية، بحيث تكون عقولهم مستوعبة لتلك المكاسب على حقيقتها كما هي عند أهلها، استيعابا يشمل مفردات العلوم كما يشمل منازلها في الشبكة المعرفية العامّة: عموديا في التاريخ، وأفقيا في المشهد المعرفي الشامل، فيكون علمهم فيها لا يقلّ عن علم مخترعيها بها، تحصيلا للموجود المتراكم، ومتابعة للحادث الجديد، وذلك على نحو ما كان من صنيع الإمام الغزالي حينما درس  الفلسفة اليونانية فاستوعبها بدقّة فاقت أحيانا علم أهلها بها كما يبدو فيما دوّنه في كتابه الشهير”مقاصد الفلاسفة”.

إلاّ أنّ هذا الاستيعاب المعرفي للعلوم نظرية وعملية ينبغي أن يكون ـ مهما كان العلم موضوعيا صحيحا ـ  مرفوقا باستيعاب الخلفيات الثقافية، والأسس المرجعية لكلّ ما يقع استيعابه من تلك العلوم، سواء ما كان منها كونيا أو تكنولوجيا أو إنسانيا، فإنّه لا شيء منها إلاّ وهو ناشئ في منشإ ثقافي فلسفي ذي صفات خاصّة، فيكون متأثّرا بذلك المنشإ إن قليلا أو كثيرا، وإن بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فيكون استيعاب تلك المكاسب العلمية استيعابا لذاتها، واستيعابا أيضا لعللها وأسبابها، ومراجعها وموجّهاتها، وأهدافها ونهاياتها، بحيث يكون العلم بها غير مقتصر على صورها، وإنّما يكون شاملا لأبعادها المختلفة فنّية وثقافية وفلسفية مهما بدا في بعضها من تمحّض فنّي مثل بعض العلوم الكونية والتكنولوجية، فهذا المسلك ممّا يساعد لاحقا في مرحلة العطاء على أن يكون عطاء نوعيا متميّزا وليس مجرّد إضافة كمّية لما هو موجود، وقد برع فيه القوم قرونا من الزمن.

ب ـ العطاء الحضاري:

إذا تجاوزنا ما يمكن أن يكون للمسلمين بالغرب من عطاء حضاري في المضمار المادّي بعد دورات من التعلّم تنتهي بالقدرة على العطاء ينتظمون بها في مسيرة الإنجاز الحضاري المادّي، فإنّهم يتوفّرون ناجزا على مقدَّرات للعطاء قائمة بالفعل، وهي تلك المقدَّرات المتمثّلة في القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية والبيئيّة التي يحملونها جرّاء تعاليم دينهم الذي يؤمنون به، وما زال الأكثر منهم ملتزمين به تصديقاً وعملاً، مهما يكن من تفاوت بينهم في ذلك الالتزام.

إنّ تلك القيم التي يتوفّر عليها المسلمون هي قيم تمثّل في ذاتها عطاء عظيما للبشرية على مرّ الزمن، لا يفقد منها شيء قدره في ميزان الخير بتقادم الزمن، وقد جرّبها التاريخ فأثمرت حضارة مشهودة قد لا يكون الإنسان شهد لها نظيراً، ثمّ إنّها تمثّل عطاء عظيما في هذا الظرف الذي تمرّ به الإنسانية عموما، والذي تمرّ به الحضارة الغربية خصوصا، إذ تشكو هذه الحضارة من أزمات متعدّدة أخلاقية واجتماعية وأسرية وبيئيّة، وهي أزمات تطلب علاجا في مثل تلك القيم التي يتوفّر عليها المسلمون بتوجيه دينهم الحنيف، وذلك أمر أصبح يؤمن به ويدعو إليه كثير من مفكّري أهل هذه الحضارة وحكمائهم، فللمسلمين إذن رصيد معتبر يمكن أن يدخلوا به سوق الشراكة الحضارية في المجتمع الغربي الذي أصبحوا جزء منه، وعنصرا من عناصره.

ومن تلك القيم التي يمكن أن تكون عنصرا أساسيا في العطاء الحضاري للمسلمين ما يتعلّق بقيم الأسرة، والأوضاع التي تنبني عليها، والمقاصد التي توجّهها، فقد اهتمّ التشريع الإسلامي بالأسرة كما لم يهتمّ بأيّ موضوع اجتماعي آخر، وضبط فيها من الأحكام المفصّلة، ومن القيم الموجّهة ما هو كفيل بأن يجعل منها مناخا  نفسيا واجتماعيا يوفّر بدرجة عالية الصحّة النفسية والاجتماعية، وذلك بما بُنيت عليه الأسرة من المسؤولية والاحترام والتكافل والمودّة والرحمة، بالإضافة إلى ما بُنيت عليه من ضبط دقيق للحقوق والواجبات.

 وإذ تعاني الأسرة الغربية اليوم من الانحلال والتشتّت والفقر الروحي، بل من أخطار التلاشي، فإنّ هذه القيم والأحكام الدينية إذا ما عُرضت على أهل الغرب عرضاً نظرياً وعملياً حكيماً فإنّها ستجد إلى عقولهم طريقا للقبول، وثمّة كثير من عقلاء الغرب أصبحوا اليوم متقبّلين لهذه القيم، كما ثمّة كثير من الناس أصبحوا قابلين عملياً للأخذ بها، وما تكاثر الزيجات بين المسلمين والنساء الغربيات بالرغم من المناخ العامّ الذي تشوّه فيه صورة المسلمين بصفة عامّة، وصورتهم فيما يتعلّق بمعاملة المرأة بصفة خاصّة إلاّ مظهرا من مظاهر ذلك ، فالمرأة الراغبة في الزواج من مسلم على الرغم من هذا المناخ المعاكس إنّما تطلب القيم الأسرية الإسلامية التي تتعطّش إليها بحكم الفطرة، ولا تجدها في الأسرة الغربية.

ومن تلك القيم أيضا ما يتعلّق بالبيئة الطبيعية، فقد جاء الإسلام بنظام متكامل في التعامل معها مبنيّ على قيم عقدية وثقافية، ومحدّد بأحكام قانونية، ومنضبط بتوجيهات أخلاقية، ومن شأن هذا النظام حينما يُعمل به أن يُجنّب كلّ ما عسى أن يكون فيه اعتداء على الطبيعة بأيّ شكل من أشكال الاعتداء، ويعصم إذن من أن تنشأ أزمة بيئيّة في خضمّ التعامل مع البيئة، وقد كان لتلك الخطّة الدينية في التعامل البيئي تجربة تطبيقية في الحضارة الإسلامية اتّصفت بالثراء العملي والقانوني، كما أفضت إلى نجاعة فائقة في النتائج بحسب ما وصلت إليه تلك الحضارة من تطوّر في علاقتها بالطبيعة[1].

ولا يخفى أنّ حضارة الغرب تؤرّقها اليوم مشكلة التلوّث البيئي أرقا شديدا، وقد أصبحت يوما بعد يوم تتعالى وتتكاثر الأصوات المنذرة بكارثة وشيكة جرّاء هذه المشكلة، وانتهى الكثير من أصحاب هذه الأصوات إلى أنّ العلاج الحقيقي لهذه الأزمة لا بدّ أن يكون علاجا ثقافيا بدرجة أساسية، وذلك ما يرشّح الثقافة الإسلامية لأن تقوم بدور هامّ في هذا الشأن، تعضّد فيه التجربة الحضارية ما جاء به الدين من قيم ومبادئ وأحكام، لو أُحسن العرض وأُتقن البلاغ[2].

ومن هذه القيم ما يتعلّق بالأمن النفسي والأمل في الحياة، فالتعاليم والقيم الإسلامية تجعل من أولى مقاصدها إشاعة الأمن في النفوس، وإفساح الأمل لها، وإبعاد اليأس والقنوط عنها، ولعلّ أوّل ما يحقّق ذلك عقيدة البعث التي تجعل من الحياة مسرحا ممتدّا إلى ما وراء هذه الفترة القصيرة المنتهية بالموت، وهو ما يجعلها حياة لا تنتهي أهدافها مهما حقّق فيها الإنسان من إنجاز، فيشعر الإنسان إذن جرّاها بالأمن لاطمئنانه إلى المصير، كما يستشعر الأمل لإمكان تدارك ما قد يفوت في مرحلة منها سابقة في مرحلة لاحقة، وكلّ ذلك يُكسب الحياة قيمة كبرى تجعلها جديرة بحفظها والحفاظ عليها، ثمّ إنّ كلّ التشريعات العملية تؤكّد هذه الوجهة في استشعار قيمة الحياة التي ترسي مبادئها عقيدة البعث.

ومن أعوص المشكلات التي يعانيها أهل الغرب ما يشيع في أفراد كثيرين منهم من شعور بالخوف والقلق واليأس، حتّى عبّر ذلك عن نفسه فلسفيا في نظريات تقوم على العدمية والعبثية والغثيان[3]، وعبّر عن نفسه عمليا في ارتفاع معدّلات الانتحار، وفي انتشار أنواع المخدّرات، وفي تفشّي أمراض الاكتئاب بشكل واسع، وما ذلك إلاّ بسبب الشعور بأنّ هذه الحياة القصيرة التي تنتهي بالموت قد استنفدت أغراضها التي يجمعها غرض الرفاه المادّي، فإذا ما تحقّق هذا الرفاه وهو الغرض الأعلى فقدت الحياة قيمتها فلم تعد جديرة بأن يحياها الإنسان، وكذلك الأمر إذا فقد الأمل في تحقيق هذا الغرض ؛ ولعلّ هذا ما يفسّر كيف أنّ أكثر البلاد الغربية رفاها مادّيا وإباحية جنسية هي أعلاها في معدّلات الانتحار وتفشّي المخدّرات، وإذن فإنّ العرض الإسلامي لعقيدة الأمن والأمل، والقيم والمبادئ التي تعمل على ترسيخهما في النفوس سوف يحظى باهتمام أهل الغرب، فيكون ذلك إضافة نافعة من قِبل مسلمي الغرب لمجتمعهم الجديد[4].

إنّ المسلمين في الغرب إذا ما أرادوا أن يكونوا في مستقبلهم بهذه البلاد شركاء في مسيرة التحضّر للمجتمع الذي يعيشون فيه، فإنّ عليهم أن يعدّوا لتلك الشراكة مقتضياتها متمثّلة في طرفي الأخذ والعطاء كما هي حال الشراكة في كلّ مجال من مجالات الحياة، فالأخذ باستيعاب الكسب الحضاري الغربي في وجوهه العلمية والتقنية والإدارية، والعطاء بالإسهام في إنجاز ذات ذلك الكسب بعد استيعابه، والأهمّ من ذلك بتبليغ ما يتوفّر عليه دينهم من قيم روحية واجتماعية وأخلاقية تبليغا يصل إلى العقول والقلوب فيؤثّر فيها، خاصّة وهي مستعدّة لتقبّلها بحكم ما تعانيه من أزمات متعدّدة الجوانب بسبب فقر فيها، فهو إذن عطاء قيّم في ذاته، قيّم في حاجة الحضارة الغربية إليه.

3 ـ مؤهّلات الشراكة الحضارية:

إذا كانت هذه الشراكة الحضارية بالمضمون الذي شرحناه تستند في نفوس المسلمين بأوروبا إلى ذلك الدافع الديني الثقافي على نحو ما بينا، فهل هي مستندة إلى مؤهّلات عملية تجعلها ممكنة التحقّق في الواقع الأوروبي بحيث تكون آمال المسلمين إذا ما انطلقوا للانخراط فيها بفعل ذلك الدافع  أمرا ممكن التحقّق ومرجوّ الثمار؟ إنّه سؤال فيما نحسب وجيه؛ ذلك لأنّ كثيرا من النظريات تكون واجبة في التصوّر، مسنودة في الضمائر بدافعية ذلك الوجوب، ولكنّها لا تملك من المبرّرات الواقعية ما يجعلها قابلة للوقوع إذا ما أراد حاملوها إيقاعها، فتنتهي إلى الفشل، ولكنّ الشراكة الحضارية موضوع بحثنا نرى أنّها مع ما تتوفّر عليه من دافعية ثقافية دينية فإنّها تتوفّر أيضا على مؤهّلات واقعية تجعلها قابلة للتطبيق الفعلي، ومن أهمّ تلك المبرّرات فيما نحسب المؤهّلات التالية.

أوّلا ـ المؤهّل الشرعي:

قد يتبادر إلى الذهن أنّ المسلمين بأوروبا سيجدون أنفسهم بصفتهم الإسلامية يتعاملون مع مجتمع يخضع لقانون وضعي يتناقض في معظمه مع ما تقتضيه الصفة الإسلامية من خضوع للقانون الشرعي، وحينئذ فإنّ هذا التناقض بين مقتضيات المواطنة في الخضوع للقانون الوضعي، وبين مقتضيات الصفة الإسلامية في الخضوع للقانون الشرعي سوف يكون عائقا أساسيا يعوق المسلمين دون أن ينخرطوا في شراكة حضارية فعلية مع المجتمع الأوروبي لما يقتضيه هذا الانخراط من انخراط أيضا في المنظومة القانونية والثقافية للمجتمع الذي ينتج الحضارة الغربية.

ولئن كان هذا الإشكال مبرَّرا في ظاهره إلاّ أنّه عند التبيّن يظهر أنّه لا يمثّل عائقا؛ وذلك لأنّ الشريعة الإسلامية التي من واجب المسلمين بأوروبا الالتزام بها في كلّ الظروف بما في ذلك انخراطهم في الشراكة الحضارية هي شريعة قابلة لأن تكون شريعةً للمسلم في كلّ زمان ومكان، وفي كلّ وضع وحال، ولا يشذّ عن ذلك حال المسلمين الذين يعيشون في أوروبا، فإنّ هؤلاء يمكن أن يكونوا مسلمين ملتزمين بشريعتهم وفي ذات الوقت مواطنين مشاركين في مسيرة التحضّر.

فالقوانين الوضعية التي تحكم المجتمع الأوروبي لئن كانت في بنائها العامّ قوانين وضعية إلاّ أنّ كثيرا منها لا يتعارض مع أحكام الشريعة وإنّما هو متناسب معها، بل لعلّ بعضها كان مقتبسا منها[5].

وما كان من تلك القوانين متعارضا مع أحكام الشرع فإنّ الاجتهاد يمكن أن يحلّ الكثير من ذلك التعارض بينهما وفقا لأصول الاجتهاد المعتبرة، وقواعده المعتمدة، فتتوفّق إذن حياة المسلمين في ظلّ القوانين الوضعية إلى حكم الشرع بذلك الاجتهاد، وتمضي في الشراكة الحضارية بتوجيه منه دون أن يعوقها مانع شرعي، بل سيكون العامل الشرعي دافعا فاعلا كما بينّاه آنفا.

ثانيا ـ مؤهّل القدرة الذاتية:

إنّ المسلمين في أوروبا كانوا في معظمهم قد وفدوا إليها قبل عقود عمّالا من ذوي المستويات الثقافية المتواضعة، فبقيت تلك الشريحة تمثّل إلى حدّ الآن  الشريحة الغالبة على الوجود الإسلامي فيها، إلاّ أنّ أجيالا جديدة من المسلمين بدأ يظهر فيها النبوغ العلمي والمستويات الثقافية الرفيعة، وبعض من هؤلاء برزوا من بين الأجيال التي نشأت في أوروبا، وبعض منهم وفد من البلاد الإسلامية ولكنّهم استقرّوا بالبلاد الأوروبية التي هاجروا إليها، وأصبحوا يندرجون ضمن ما أصبح يُعرف بالعقول المهاجرة، وبهذا وذاك أصبح المسلمون بأوروبا على مشارف وضع جديد من حيث الكفاءة العلمية والثقافية التي تمكّنهم من التفاعل الإيجابي مع الحضارة الغربية في مجالاتها المختلفة.

إنّ المسلمين بهذا الوضع الجديد الذي بدأت طلائعه في الظهور أصبحوا على مشارف أن يكونوا مهيّئين علميا وثقافيا للقيام بهذا الدور في الشراكة الحضارية، وهم بمرور الأيّام سوف تزداد كفاءتهم في هذا الشأن بتقدّم اندماجهم في المجتمع الأوروبي، وتطبّع أجيالهم الجديدة بطبائع العقلية العلمية والضبط الإداري والإتقان في الأعمال، فكلّ ذلك إنّما هم اليوم يتقدّمون فيه ولا يتأخّرون، ويكسبون ولا يخسرون، ونذكّر في هذا الصدد بأنّ المسلمين في الغرب بصفة عامّة بدأت طلائعهم تصل إلى مواقع الريادة لتحصل على الجوائز العالمية في الاختراعات العلمية مثل جائزة نوبل، وذلك مؤشّر مهمّ على أنّ المسلمين في ديار الغرب يمكن أن يكون لهم دور ذو بال في الإسهام الحضاري بتلك الديار.

قد يكون صحيحاً أنّ هذه الريادة العلمية المؤهّلة للقيام بدور الشراكة الحضارية لا تكون مفضية إلى الهدف المنشود إذا ما كانت مرسلة دون توجيه يجعلها إسهاما حضاريا إسلاميا في قيمه وفي أبعاده الروحية، فيكون إذن مجرّد جهد يبذل في ذات السياق الحضاري الأوروبي دون أن تكون فيه إضافة رائدة على المستوى الثقافي بخلفية القيم الإسلامية، وذلك ما يدعو إلى أن تكون هذه القدرات الذاتية للمسلمين بأوروبا ممثَّلة بالأخصّ في العقول المهاجرة مؤطّرة بإطار رسالي يجعلها تُسهم في عطائها الحضاري من منطلقاتها القيمية الإسلامية، فيكون إذن ذلك العطاء إضافة نوعية تثرى بها مسيرة التحضّر، ويتحقّق بها المعنى الحقيقي للشراكة الحضارية، فلا يبقى مجرّد إضافة عددية أو كمّية خالية من أيّ بعد نوعيّ في هذه الشراكة الحضارية المبتغاة[6].

ثالثا ـ مؤهّل التجربة الحضارية:

إنّ المسلمين في الغرب وإن كانوا في وضعهم الحالي ليس لهم إسهام حضاري يدخلون به شركاءَ في وجودهم بهذه الديار فإنّهم يتوفّرون في مخزونهم الثقافي على تجربة ثريّة في الشراكة الحضارية الإنسانية الجامعة، وذلك رصيد يمكن أن يُستدعى ليكون عونا على ما يرومونه من شراكة حضارية مع المجتمع الغربي الذي أصبح مجتمعهم، والذي أصبحوا فيه مواطنين مثل سائر المواطنين.

لقد كانت الحضارة الإسلامية حضارة ممتدّة، شملت أمما وشعوبا وثقافات وحضارات كثيرة، أخذت منها، واستفادت من عطائها، وأسهمت فيها تلك الأمم والشعوب المختلفة، من أسلم منها ومن لم يسلم، فكانت حضارة اشتركت فيها الإنسانية قاطبة بكسوبها الحضارية السابقة مهما يكن من أنّها كانت حضارة أطّرت تلك الإسهامات جميعا بالإطار العقدي الإسلامي.

ثمّ إنّ هذه الحضارة الإسلامية تفاعلت مع المجتمع الإنساني في توجّهاته الحضارية الناشئة، فمدّت هذه التوجّهات بكسبها الحضاري في غير منع ولا ضنّ، ومن ذلك نشأت الحضارة الغربية الراهنة، فاجتمعت في هذه الحضارة الإسلامية خاصّية التفاعل الحضاري مبدأ ومنتهى، وأخذا وعطاء.

إنّ هذه التجربة تمثّل رصيداً ثقافياً مهمّا يمكن أن يكون أحد المقدّرات الممكّنة للمسلمين بالغرب من انخراطهم في الشراكة الحضارية بيسر؛ إذ الاندماج الحضاري بما هو سار في خلفيتهم الثقافية بحكم التجربة التاريخية من شأنه أن يجعل الاندماج في المجتمع الغربي اندماجا حضاريا أخذا وعطاء أمرا مقبولا من الناحية النفسية ومن الناحية الدينية أيضا، وهو ما يعتبر أحد المؤهّلات الهامّة لانخراط المسلمين في البناء الحضاري معزّزين برصيدهم التاريخي، فيقبلون إذا إقبال الواثق من النفس، القادر على العطاء كما هو قادر على الأخذ، وحينئذ فإن هذا الإقبال على الشراكة الحضارية سوف يكون له الدور الكبير في الاندماج الاجتماعي الإيجابي.

4 ـ دور الشراكة الحضارية في الاندماج الإيجابي:

حينما تصبح الشراكة الحضارية كما وصفناها هدفا للوجود الإسلامي بأوروبا يعمل على تحقيقه فإن هذا الوجود سيصبح متحوّلا شيئا فشيئا نحو الاندماج في المجتمع، والتفاعل معه، وسيجد نفسه منتقلا بالتدرّج من الوضع الطرفي المنعزل الذي كان فيه إلى وضع يجعله مكوّنا من مكوّنات المجتمع يوازي سائر المكوّنات الأخرى في دورة التفاعل الاجتماعي، فما هو هذا الاندماج الذي تفضي إليه الشراكة ؟ وما هي مواصفاته التي يكون بها اندماجا فاعلا فلا يؤول إلى ذوبان؟ وكيف تفضي الشراكة إلى هذا الاندماج بمواصفاته الإيجابية؟المسلمون في أوروبا.. الشراكة الحضارية مدخلاً للاندماج أوروبا المسلمون في أوروبا.. الشراكة الحضارية مدخلاً للاندماج 78 164324 muslim population eu countries triple

أ ـ الاندماج الإيجابي:

إنّ كلّ مجتمع لكي يتّصف بصفة كونه مجتمعا لا بدّ أن يكون متحقّقا بين أفراده ضرب من الاندماج، وهو المتمثّل في ذلك التداخل بين أفراده وفئاته تداخلا يمتدّ فيه بعضهم إلى بعض من حيث التوافق النفسي، ومن حيث الروابط والعلاقات، ومن حيث الآمال والهموم، ومن حيث التعاون في المصالح المشتركة، بحيث لا تكون فئة منه تعيش انعزالاً عنه، وانكماشاً دونه، وإنما تكون جميع المكوّنات الاجتماعية من أفراد وجماعات منخرطة في الدورة الاجتماعية، تسهم فيها على نحو أو آخر من الإسهام فيما يشبه الوحدة المتجانسة في تدبير الحياة الجماعية.

ولا يعني الاندماج بحال من الأحوال أن يكون أفراد المجتمع وفئاته نسخا متطابقة في التصوّرات والمعتقدات والعادات، فذلك مما قد يكون عامل ضعف في المجتمع، إذ يفقده الثراء، وينزع منه أسباب الحوار الذي تتقدّم به الأفكار، ويؤدّي به إلى الركود بسبب التطابق، وإنما يكون الاندماج اندماجا إيجابيا فاعلا حينما يتكوّن المجتمع من جماعات وفئات متنوّعة في أفكارها، ومتعدّدة في تصوّراتها، ولكنها تكون متوافقة على قواعد وقوانين العيش المشترك، ومنتمية إلى أهداف كبرى يعمل من أجلها المجتمع، وخاضعة في ولائها إلى الهيئة الاجتماعية العامّة في خططها وفي مصالحها، فإذا ما تمّ هذا التوافق وتحقّق هذا الانتماء فإنّ التنوّع من شأنه أن يكون عامل إثراء وفاعلية، إذ هو يغني المجتمع بالتجارب المتعدّدة، وينشّطه بالتدافع الحواري بين الأطراف المتنوّعة، ويذكي روح التنافس على خدمة مصالح المجتمع، فكلّ ذلك إذا ما تمّ في نطاق الانخراط في الهيئة الاجتماعية بضوابطها وأهدافها كان وجها إيجابيا من وجوه اندماج الأفراد والجماعات في المجتمع.

وبهذا المعنى فإن المسلمين في أوروبا لا تعوقهم صفتهم الإسلامية عن الاندماج في مجتمعهم الأوروبي، بل على العكس من ذلك فإن تلك الصفة يمكن أن تكون عاملا إيجابيا من عوامل الاندماج؛ وذلك أنهم إذا ما تحقّقوا بإسلامهم على الوجه المطلوب فإنهم يمكن أن يسهموا أيما إسهام في خدمة المجتمع بالقيم الأخلاقية والحضارية التي يدعوهم إليها دينهم، والتي يحتاج إليها أيما حاجة ذلك المجتمع، فإذا ما وضعوا نصب أعينهم خدمة مجتمعهم الأوروبي من منطلق دينهم، وإذا ما انضبطوا بقوانينه وانخرطوا في تحقيق مصالحه، فإن ذلك يعتبر اندماجا إيجابيا في هذا المجتمع مع محافظتهم على صفتهم الإسلامية مع ما تقتضيه من التزامات.

أما إذا ما انسلخ المسلمون في أوروبا من هويتهم الإسلامية، وأصبحوا متجانسين مع سائر مكونات المجتمع في تصوّراتهم وفي عاداتهم وفي قيمهم فإنهم سوف يتحولون إلى أرقام تضاف إلى عدد السكان، وسوف يفقدون أسباب تميّزهم وعطائهم، فلا تكون لهم مبادرة، ولا تكون لهم إضافة، ولا يكون لهم حوار مثمر، ولا يكون لهم تحدّ يدفعهم إلى المبادرة والإبداع، وإذا ما أصبحوا مجرّد أرقام سكانية فإنّهم سوف لا يكون لهم عطاء متميّز، إذ الآخرون الذين أصبحوا هم نسخا منهم متقدّمون عليهم في العطاء، فتكون سيرتهم إذن مختصرة في اللهث وراءهم، والتقليد لخطاهم. إن هذا النوع من الاندماج هو اندماج سلبي، بل هو ذوبان لا يثمر شيئا.

إن هذا الاندماج الإيجابي بالمواصفات التي ذكرنا لا يحصل للمسلمين بصفة تلقائية نتيجة مجرّد وجودهم في المجتمع الأوروبي، بل إن هذا الأمر إذا ترك للتلقائية أصبح مآله إلى الاندماج السلبي الذي يعني الذوبان وفقدان الهوية أكثر احتمالا، وإنما يسير الاندماج في مسار الإيجابية إذا ما كان جاريا وفق خطّة محكمة تحافظ على التميّز في الهوية من جهة، وتدفع إلى الانخراط في مصالح المجتمع وأهدافه من جهة أخرى، ونحسب أنّ خطة الشراكة الحضارية التي شرحناها آنفا يمكن أن تثمر اندماجا إيجابيا، وذلك لما لهذه الخطة من تأثير في هذه السبيل من وجوه متعدّدة.

ب ـ وجوه الاندماج الإيجابي:

لا يكون الاندماج في المجتمع اندماجا إيجابيا إلا إذا كان الانخراط في الدورة الاجتماعية انخراطا متعدّد الاتجاهات؛ ذلك أنّ العلاقة بالمجتمع هي علاقة ذات صفة شبكية، إذ يمتدّ فيها الأفراد والجماعات إلى بعضهم بعضا وإلى الهيئة الاجتماعية العامّة امتدادات متعددة نفسيا وثقافيا واقتصاديا وفكريا ومصلحيا، وكلّما كانت تلك الامتدادات أوسع وأمتن كان الاندماج الاجتماعي أبلغ وأقوى مهما يكن من تنوّع في الأفكار والتصوّرات والمعتقدات، ألا نرى كيف كان الاندماج الاجتماعي متينا في المجتمع الإسلامي بين جماعات مختلفة أديانهم ولكنهم اشتركوا جميعا في بناء الحضارة الإسلامية، وأسهم كلّ منهم بقسط فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للأعراق المتنوّعة والأمصار المتباعدة والعادات المختلفة؟

وإذا ما انخرط المسلمون بأوروبا في المجتمع الأوروبي على أساس من الشراكة الحضارية على النحو الذي وصفناه ماضيا بالتوازي في منحى الاستفادة والإفادة، فإن ذلك سوف يؤدّي بالتراكم إلى اندماجهم في هذا المجتمع اندماجا إيجابيا يتبادل فيه النموّ مع الانخراط في هذه الشراكة ذاتها، بحيث يؤدّي المضي في الشراكة إلى تقدّم الاندماج، ويؤدّي هذا التقدّم فيه إلى دفع الشراكة نحو الفاعلية والإنتاج. ومن وجوه الاندماج الإيجابي الذي تفضي إليه خطّة الشراكة الحضارية نذكر ما يلي:

أولا ـ الاندماج النفسي:

لا شكّ أنّ الاختلاف العقدي بين الناس قد ينشأ عنه تباعد نفسي، وذلك باعتبار أنّ المعتقد الديني هو أكثر ما يؤثّر في النفس وأشدّ ما يطبعها بطابع مميّز، ولكنّ الإسلام برسالته العالمية جاء بمعان من الأخوّة في الإنسانية خفّفت كثيرا من التباعد النفسي الذي يحدثه اختلاف المعتقدات، ومن آيات ذلك أنه أباح الزواج من الكتابية المخالفة في الدين، والزواج لا يقوم إلا على تقارب نفسي، إذ وصف بأنه لباس وسكن كناية عن القربى والتوافق والاطمئنان، وكلّها تعبّر عن العلاقة النفسية الحميمة.

والشراكة الحضارية كما وصفناها آنفا من شأنها أن تجعل المسلم يشعر بأنه يعيش في مجتمع يرتبط فيه بأهداف مشتركة، وبمصالح مشتركة، وأنه يستفيد منه في مصالحه الخاصّة وفي مصالحه الفئوية، كما أنه ملتزم بأن يقدّم إليه ما يكون به صلاحه، ويشترك في أداء ما به تقدّمه، وفي حلّ ما يعاني من مشكلات، ويشعر بأنّ كلّ ذلك يحصل على أساس أنّ هذا المجتمع هو محضنه الدائم الذي ينفعه ما ينفعه ويضرّه ما يضرّه، وأنّ مآله من مآله إن في خير أو في شرّ.

ويمكن أن نقارن هذه المشاعر بحال من يعتبر نفسه يعيش في المجتمع الأوروبي على سبيل العارية، لا يربطه بهذا المجتمع إلاّ مصلحة ظرفية يحصلها ريثما تتوفّر له فرصة المغادرة، أو هو مستقرّ فيه ولكن لا يهمّه من أمره إلا معيشته التي يحصلها منه، وفيما عدا ذلك فهو منفصل عنه، لا يشعر بهمومه، بل قد لا يعتبر نفسه جزءا منه لتباين ما بينه وبينه من معتقد، ولا يشترك معه في آمال، ولا يشعر نحوه بمسؤولية ما تجعله يحرص على مصلحته ونموّه وتقدّمه، ولا يرى نفسه معنيا بمشاكله أن يعمل من أجل الإسهام في حلّها، وهذا أنموذج له وجود في المجتمع الأوروبي وفي أوساط بعض المسلمين أنفسهم.

إذا ما قارنّا بين هاتين الحالتين، الأولى التي تمثّل انخراطا في خطّة شراكة حضارية، والثانية التي تمثّل انخراطا في خطّة تقتصر على تحقيق المعاش، فإننا نجد كلا منهما تنتهي إلى وضع نفسي في العلاقة بالمجتمع تخالف الوضع الذي تكون عليه الأخرى، ففي حين تنتهي خطّة العزلة إلى تباعد نفسي بين الفرد أو الفئة وبين المجتمع، تنتهي خطة الشراكة إلى اندماج نفسي بينهما، إذ لمّا يشعر المسلم أنّه مستحِقّ من المجتمع للانتفاع، وهو في ذات الوقت ملتزم نحوه بالنفع، وحينما يشعر بأنه مرتبط في مصيره به، ومشترك في آماله معه، فإن ذلك يتبعه شعور بأنه قريب من هذا المجتمع، بل إنه يتألّم لآلامه ويفرح لأفراحه، ويحمل همّا لمشاكله وعزما على الإسهام في معالجتها، كما يحمل آمالا لنموّه وتقدّمه ويعمل على تحقيق ذلك، وهذا ما يندرج كلّه ضمن الاندماج النفسي الذي يتحقّق عند المسلمين لما ينخرطون في مشروع الشراكة الحضارية، وهو ركن أساسي من أركان الاندماج في المجتمع.

وليس هذا الاندماج النفسي بمفض على سبيل الضرورة إلى الاندماج فيما هو من الخصائص العقدية والسلوكية للمجتمع الأوروبي مخالفا لمقتضيات الهوية الإسلامية، بأن يمتدّّ هذا الاندماج بالرضا والاستحسان إلى تلك الخصائص؛ وذلك لأنّ الانخراط في الشراكة الحضارية كما شرحناه يقوم على مبدإ التنوّع الذي يحافظ فيه كلّ على خصوصياته، فيقف الاندماج النفسي إذن عند حدّ ما هو مشترك من المصالح والآمال والمصير، ويكون ما هو محلّ تمايز واختلاف مجالا للاحترام المتبادل القائم على الاعتراف بحقّ التنوّع وما يترتّب عليه من خصوصيات، وهذا أمر يشتمل على بعض الصعوبة إلا أنه ممكن التحقّق، كما إنّ الاندماج النفسي بين الأزواج المختلفين في الدين ممكن التحقّق، وممكن الإثمار.

ثانيا ـ الاندماج الفكري:

حينما ينخرط المسلمون في خطة الشراكة السياسية ضمن المجتمع الأوروبي، فذلك يعني أنهم سينخرطون في مسار من العمل المشترك مع سائر مكوّنات المجتمع لإنجاز المشاريع والمخططات التنموية البشرية والمادّية، وذلك كلّه لا يتمّ إلاّ من خلال منهج فكري واضح لهذه المخططات تتوافق عليه الفصائل الاجتماعية، ومن خلال   خطّة عملية واضحة للتنفيذ، إذ كلّ مشروع لا يفهمه الناس في حقيقته وأبعاده وطرق تنفيذه لا تكون له حظوظ وافرة في النجاح، وإذا ما كانت فئة من الفئات غير مستوعبة إياه فإن ذلك ينقص من كفاءة الأداء بالنسبة للمجموع.

إنّ المسلمين حينما ينخرطون في مشروع الشراكة الحضارية فسيجدون أنفسهم منخرطين أيضا في المستلزمات المنهجية التي يتطلبها أداء ذلك المشروع، ومن أهمّها طريقة التفكير من أجل الإسهام في تخطيط المشروع، وطريقة التعامل من أجل الأداء.

وبما أنّ المجتمع الأوروبي قد بلغ شأوا بعيدا في إدارة المشاريع وتنفيذها، فإن هذا المجال سيكون المسلمون فيه مستفيدين أكثر مما هم مفيدون، إذ سيجدون نمطا منهجيا من التفكير ونمطا منهجيا من التنفيذ أثبت بصفة عامّة كفاءته في الإنتاج، فسينخرطون إذن في ذلك النمط الفكري المنهجي، طرقا في البحث، وسبلا في التخطيط، ومنهجا في التنفيذ، وسيتحقّق لهم إذن اندماج على هذا المستوى الفكري المنهجي.

وعلى سبيل المثال فإنّ المسلمين إذا ما انخرطوا في الدورة الاجتماعية الأوروبية فإنهم سيتشكّل تفكيرهم على نمط من الروح الجماعية في العمل، فالأعمال في المجتمع الأوروبي هي في أغلبها أعمال جماعية، سواء على مستوى البحث إذ تقوم به في الغالب فرق بحثية جماعية، أو على مستوى الإنجاز، إذ يُعهد في الغالب إلى المؤسسات والشركات ذات الطابع الجماعي، وفي كلّ من هذا وذاك سينخرط المسلم في دائرة من الأداء الجماعي مع الآخرين من مكوّنات المجتمع، وهو ضرب من الاندماج الفكري المنهجي في المجتمع.

وعلى سبيل المثال أيضا فإنّ المسلم حينما يشارك المجتمع الأوروبي في التنمية الحضارية فإنه سوف يجد نفسه منخرطا في آليات إدارية ذات طابع قيمي في هذا المجال، وذلك من مثل الثقافة المؤسسية التي تجعل القرارات تصنع على أساس التراتبية المؤسسية لا على أساس الفردية، فكلّ يعمل بحسب موقعه في المؤسسة التي ينتمي إليها، ومن مثل احترام الآخر وعدم التدخّل في شؤونه الخاصّة في ذات نفسه أو في ذات عمله، ومن مثل قبول الرأي المخالف واحترامه والاعتراف بحقّه في الوجود وفي التعبير عن نفسه، فتلك وأمثالها خصال ذات صفة منهجية يتطبّع بها كلّ من يدخل في دائرة العمل المجتمعي بروح الشراكة، وهي تمثّل وجها من وجوه الاندماج الفكري.

ولنا أن نتصوّر وضع من يكون خارج دائرة هذه الشراكة من حيث هذا الوجه، إذ من يكون همّه منحصرا في اقتناص العيش بعيداً عن خضمّ المجتمع، فإنه سوف لن يستفيد من منهجية العمل الجماعي شيئاً، فيبقى فردياً في التفكير وفي الأداء مهما بدا أنه يعيش في مجموعة من الأفراد المماثلين له في الانعزالية، وقد شاهدنا جموعاً من المسلمين قضوا في البلاد الأوروبية سنين طوالاً ولكنهم لم يكتسبوا من روحية العمل الجماعي شيئا، بل بقوا على فرديتهم في التفكير وفي التدبير، وعلى فوضويتهم في إدارة العمل وفي التعامل مع الآخرين، وما ذلك فيما نحسب إلا بسبب أنهم بقوا بعيدين عن المجتمع في تخطيط أعماله وفي إنجازها، فواطأ إذن انعزالهم عنه طبيعتهم الفكرية التي بقيت مخالفة للطبيعة الفكرية للأروبيين.

ومن المفارقات العجيبة في هذا الشأن أنّ كثيرا من هذه القيم المنهجية التي من خلالها يتمّ الاندماج هي قيم إسلامية كان من المفروض أن يتمثّلها المسلمون بحكم تديّنهم، ولكنّ عهود التخلّف قد أتت عليها، فبدا الأمر كأنهم يتعلّمونها من المجتمع الأوروبي، ونذكر من ذلك على سبيل المثال قيمة التشاور والتراتبية القيادية والاعتراف بحقّ الآخر في الاختلاف والإتقان في الأعمال والانضباط فيها، ومهما يكن من أمر فإنّ انتشار هذه القيم وأمثالها في الثقافة الإسلامية وإن تكن في حال من الكمون سيكون مساعدا على سرعة الاندماج من خلالها في المجتمع الأوروبي، إذ سيجدها المسلم قيما له بها عهد ثقافي وإن لم يكن يتمثّلها في الواقع العملي.

ومن البيّن أنّ القيم التي نتحدّث عنها في هذا المجال هي قيم إدارية منهجية تتعلّق بالتفكير في بحث المشاكل ومعالجتها، وفي التخطيط للمشاريع وإنجازها، ولا يتعلّق الأمر بالقيم الأخلاقية والدينية وإن كانت الحدود بين المجالين تتداخل أحيانا في بعض النقاط، فهذه القيم وبالأخصّ منها ذات الخصوصية الدينية سوف تبقى خارج نطاق الاندماج ليحتفظ المسلمون بها ضمن الحفاظ على هويتهم الإسلامية، بل قد تكون تلك القيم مندرجة ضمن ما يقدّمونه للمجتمع من إسهام في حلّ بعض مشاكله، وذلك من مثل قيم العفّة الجنسية، والامتناع عن المسكرات والمخدّرات، وقيم الترابط الأسري والاجتماعي وما شابهها.

ثالثا ـ الاندماج المصلحي:

حينما يشعر المسلمون بأنهم منخرطون في المجتمع ضمن مسيرة حضارية ذات آمال مشتركة يسهمون فيها بالإنجاز مع سائر المكوّنات الاجتماعية، باذلين في ذلك الجهد من أجل الانتفاع والنفع، فإن ذلك من شأنه أن يشعرهم بأنهم أصبحوا مرتبطين مع هذا المجتمع ارتباطاً مصلحياً متيناً، يتمثّل فيما يستقرّ في النفوس من أنّ ما يصيب المجتمع من نفع يتعدّى أثره إلى المسلمين فيه، وما يصيبه من ضرر كذلك، كما يستقرّ في النفوس أيضا أنّ ما يصيب الأفراد من ضرر يتعدّى أثره إلى المجتمع، وما يصيبه من نفع كذلك، وهكذا يرتبط المسلم في شعوره المصلحي بالمجتمع في الاتجاهين، وذلك وجه من وجوه الاندماج الإيجابي يثمره الانخراط في الشراكة الحضارية.

وهذا الوجه من الاندماج الشعوري بالاندماج المصلحي مع المجتمع يؤدّي إلى تداعيات إيجابية تخرج بهذا الاندماج من مرحلته الشعورية إلى مرحلة العمل السلوكي، فحينما يستقرّ في النفس هذا الترابط المصلحي فإنّ المسلم سوف يصبح حريصا على أن يسعى في تحقيق المصلحة للمجتمع، إذ هي مصلحة سيناله منها نصيب، كما يسعى إلى دفع ما فيه الضرر عنه، إذ هو ضرر سيناله منه كذلك، فيصبح الترابط المصلحي إذن عملاً سلوكياً ينطبع به عمل المسلم في كلّ علاقاته الاجتماعية.

ومن ثمرات ذلك أيضا أنّ المسلم بهذا الشعور الاندماجي المصلحي يصبح حريصا على أن يؤدّي واجباته نحو المجتمع، إذ تلك الواجبات ستكون سببا من أسباب قوّته، وتلك القوّة سوف يعود نفعها إليه، فيكون إذن ساعيا سعيا ذاتيا في أداء واجباته الاجتماعية، سواء كان ذلك إزاء الدولة أو إزاء المنظمات المدنية، أو إزاء الدوائر الأضيق من جيران وزملاء في العمل ودوائر في المعاملات التجارية وغيرها، ومن تلك الواجبات الصدق والأمانة والنصح وتقديم الخدمات والوفاء بالالتزامات والمشاركة بالتبرعات والحراسة من المجرمين والعابثين. ونحسب أنّ هذا الوجه من الاندماج سيكون سهلا على المسلم، وذلك لسابق عهد ثقافي له بمبدإ من المبادئ الإسلامية في الاندماج الاجتماعي هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا المبدأ إذا ما كُيّف بحسب مقتضيات المجتمع الأوروبي وطبيعة الوجود الإسلامي فيه فإنه سيكون صالحا لأن يصبح وجها من وجوه اندماج المسلم في هذا المجتمع كثمرة من ثمار الانخراط الحضاري فيه.

ومن ثمرات الشعور بالاندماج المصلحي مع المجتمع الأوروبي ما يدفع هذا الشعور من احترام للقوانين العامّة التي تنظم المجتمع في وجوهه المختلفة، فهي قوانين ما وضعت في الأصل إلا لمصلحة المجتمع التي سيعود نفعها إلى الأفراد، فيصبح المسلم إذن مستجيبا لتلك القوانين، عاملا بمقتضاها، غير متحايل عليها، وبالأخصّ منها ما يتعلّق بالمعاملات المالية من ضرائب واستحقاقات اجتماعية وما في معناها مما يكثر التحايل عليه في العادة، وتكون استجابته لهذه القوانين التي تخدم المجتمع تساوي في قوتها مطالبته بحقوقه منه، وذلك مظهر من مظاهر الاندماج الإيجابي الذي ينبغي على المسلم أن ينخرط فيه جرّاء انخراطه في الدورة الحضارية للمجتمع الأوروبي.

وإذا كانت بعض المطلوبات القانونية والمصلحية التي يفرضها المجتمع على أفراده تناقض بعض المقتضيات الدينية التي يلزم بها الإسلام أتباعه، فيجد نفسه إذن في موقف حرج بين الوفاء بفروضه الدينية، والوفاء بواجباته الاجتماعية، ويكون ذلك مؤثرا تأثيرا سلبيا على الاندماج الاجتماعي من بوابة المصلحة، إذا كان ذلك فإنّ هذا التناقض قد يكون أحيانا تناقضا موهوما فينبغي رفعه برفع الوهم فيه، وقد يكون تناقضا حقيقيا ولكن فيه من الاجتهاد حلّ شرعي كالكثير من تلك الحلول التي اهتدى إليها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، فيرفع إذن بتلك الحلول الاجتهادية، فإذا ما كان تناقضا حقيقيا ليس فيه من الاجتهاد حلّ فعلى المسلمين باعتبارهم مواطنين أوروبيين أن يطالبوا المجتمع بإعفائهم مما يتناقض مع معتقداتهم من الواجبات الاجتماعية فيُرفع عنهم الحرج في مسعاهم إلى الاندماج المثمر ولو بصفة متدرّجة، وهو الأمر الذي حصل بعض منه في بعض البلاد الأوروبية فكان عاملا من عوامل التقدّم في الاندماج المصلحي مع المجتمع الأوروبي.

ولو تصوّرنا الوضع المقابل في هذا الشأن حينما يكون المسلم في أوروبا عائشا على هامش المجتمع، لا ينخرط في مشاغله، ولا يشارك في مسيرة نهضته، فإنه يكون إذن غائبا أيضا عن البعد المصلحي في العلاقة به، فلا يهمّه من مصلحة المجتمع شيئا، إذ يعتبر نفسه غير معني بتلك المصلحة التي لا يعود في ظنّه شيء منها إليه، وهو ما يجعله يسعى في تحصيل مصلحته الشخصية في غير اكتراث بمصلحة الآخرين، وقد يخلط في سعيه ذلك بين الطرق الشرعية والطرق غير الشرعة من تحايل وغشّ وتمويه، فيما يشبه التصرّف للحصول على غنيمة قد لا تعاد فرصة أخرى لتحصيلها، وتلك مشاهد ملموسة بوضوح عند بعض المسلمين الذين يعيشون في أوروبا غير منخرطين في مجتمعها، وإنما هم موجودون على هوامشه، منفصلون عنه أو يكادون نفسيا وفكريا ومصلحيا، وذلك وضع يحتاج إلى جهود كبيرة للتحوّل به من الهامشية إلى الاندماج الإيجابي.

إنّ المسلمين في أوروبا أصبح قدرهم أن يعيشوا في مجتمعهم أوروبيين مثل سائر مكوّناته من الأفراد والجماعات والفئات، وتقتضي صفتهم الإسلامية أن تكون لهم في المجتمع فاعلية يتداول فيها النفع والانتفاع، وذلك لا يتمّ إلاّ بانخراطهم في الدورة الحضارية التي هو منخرط فيها على سبيل الشراكة التي يستفيدون فيها مما تحقّق من الكسب الحضاري، وخاصّة في مجال العلوم الكونية والتكنولوجية والإدارية، والتي يقدّمون فيها إضافات رائدة لا في مجال الأفكار والعلوم والأعمال، ولكن بالأخصّ في مجال القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية، وحينئذ فإنّهم سيجدون أنفسهم في وضع من الاندماج في المجتمع الأوروبي، ولكنه اندماج إيجابي، يحافظون فيه على مقوّمات هويتهم، ويجعلون منها منطلقا لإضافات حضارية إبداعية، تسهم في ترقية المجتمع مادّيا ومعنويا، كما تسهم في حلّ مشاكله المؤرّقة.

والله ولي التوفيق،،،

   [1] راجع كتابنا الآنف الذكر: قضايا البيئة من منظور إسلامي ( ط وزارة الأوقاف بدولة قطر 1999 )

[2]  راجع في أزمة البيئة ومقترحات علاجها: آل قور ـ الأرض في الميزان ( ترجمة : عواطف عبد العزيز، ط الأهرام، القاهرة 1994)

[3] منها على سبيل المثال الفلسفة الوجودية المنظّرة للقلق والعبثية كما أسّس ذلك جون بول سارتر وألبير كامو.

[4]  راجع في ذلك كتابنا: الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي بالغرب:124 وما بعدها ( ط المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية باريس 2005 ).

[5]  كثير من بنود القانون المدني الفرنسي مقتبس من الفقه المالكي.

[6]  راجع في هذا المعنى بحثنا بعنوان : البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة إلى الغرب ( ضمن كتاب: البعد الحضاري لهجرة الكفاءات، كتاب الأمّة، عدد: 89، وزارة الأوقاف بقطر، 2002 )

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق