البحوث

الإفتاء الحضاري

الإفتاء الحضاري

تمهيد

يطوي المجلس الأوروبي من عمره هذه السنة عشرة أعوام، وهي مدّة قصيرة في عمر المؤسسات من جنسه، ولكنها مليئة بالأعمال، ثرية بالإنجازات، فقد عقد المجلس خلال هذه المدة ستّ عشرة دورة، وأحسب أن ذلك رقم قياسي في تاريخ المجامع العلمية المشابهة.

وقُدّمت خلال هذه الدورات أعداد من البحوث ربما قاربت بضع مئات، نوقشت مناقشة علمية مستفيضة، و نشرت في مجلة المجلس بأعدادها التسعة، وصدرت بناء على تلك البحوث مئات من الفتاوى والقرارات الفقهية نشرت في المجلة أيضا كما نشرت في كتاب مستقلّ على مجموعتين وترجمت إلى عدّة لغات أوروبية، والمجموعة الثالثة قيد النشر.

لقد قام المجلس من أجل مساعدة المسلمين بأوروبا على أن يوفّقوا حياتهم في مجتمعهم الأوروبي إلى أحكام الدين وهم يعيشون ضمن نظام قانوني واجتماعي وثقافي يخضع لسلطان غير سلطان الدين الذي به يتدينون به، فيجدون إذن صعوبات جمّة في أن يعيشوا ضمن هذا النظام وهم مسلمون، فتأسّس المجلس من أجل أن يفتيهم في شأن هذا الوضع الصعب الذي يعيشونه، فيمارسوا حياتهم في مختلف وجوهها وفق أحكام دينية يجتهد المجلس في استنباطها بناء على الأصول الدينية المعتبرة، ومراعاة لظروف الواقع المعيش، وليتأسّس من ذلك فرع جديد من الفروع الفقهية هو فقه الأقليات.

  كان المسلمون في أوروبا وقد تزايدت أعدادهم واتجهت حياة الكثير منهم نحو الاستقرار يحتاجون الحاجة الأكيدة إلى فتاوى فقهية تحلّ مشاكلهم التي تعترضهم في ممارسة حياتهم الأسرية والاجتماعية والاقتصادية حلاّ شرعيا، وكانت هذه المشاكل لا تحتمل التأخير بما هي متعلّقة بمجرى حياتهم اليومية التي ينبغي أن تجري على أساس شرعي فيما هو راجع على الأقلّ إلى قدرتهم على تنفيذه خارج نطاق الإلزام القانوني الذي هم واقعون تحت سلطانه، من مثل ما يتعلّق بالعبادات وبالأحوال الشخصية وبالعلاقة الاجتماعية مع غير المسلمين ممن يساكنونهم ويخالطونهم في مختلف المواقع الاجتماعية.

واستجابة لهذه الحاجة الآنية الملحّة للمسلمين  دأب المجلس في سنواته العشر الماضية على النظر في تلك المشاكل، وعلى تقديم الفتاوى المناسبة لها، متطرّقا أحيانا إلى قضايا أكبر حجما، وأبعد أثرا في مستقبل الوجود الإسلامي بأوروبا من مثل قضية المشاركة السياسية، وشراء البيوت بالقروض البنكية، وإسلام المرأة مع بقاء زوجها على دينه، ولكن مع ذلك بقيت أغلب الفتاوى التي يصدرها المجلس متعلّقة بالحياة اليومية في نطاق الأسرة أو في نطاق التعامل الاجتماعي، أو في نطاق مناسك العبادة، كما هو بيّن من خلال مجموعات الفتاوى التي صدرت مطبوعة عن المجلس.

ولا شكّ أنّ هذا الدور الإفتائي للمجلس سوف يكون له استمرار ما دام المجلس موجودا؛ ذلك لأنّ المسلمين تحدث لهم من مستأنفات النوازل في حياتهم اليومية ما هو متجدّد بتجدّد الابتلاء في مجتمع يقع تحت سلطان غير إسلامي، وربما احتاج الأمر أيضا إلى الإفتاء في ذات المسائل التي وقع فيها الإفتاء سابقا لتغيّر الظروف والأحوال والملابسات، فهذا الإفتاء هو إذن مهمّة دائمة للمجلس لا يُتصوّر لها انقطاع.

2 ـ الوجود الإسلامي نحو شراكة حضارية:

إنّ الوجود الإسلامي بأوروبا يتطوّر بشكل متسارع، سواء من حيث أعداد المسلمين المقيمين منهم بأوروبا والقادمين إليها، أو من حيث صفاتهم إذ من يكتسب منهم صفة المواطنة تزداد أعدادهم يوما بعد يوم، أو من حيث أهدافهم المستقبلية، إذ هدف الهجرة الآنية يتناقص، وهدف المواطنة الدائمة المتفاعلة مع المجتمع الأوروبي كأحد مكوّناته الأساسية ينتشر ويتوسّع.

وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الواجب الديني المتمثّل في الشهادة على الناس بدأ الوعي به في نفوس المسلمين بالغرب يقوى يوما بعد يوم، وهو ذلك الواجب الذي يقتضي أن يكون المسلمون في أيّ مكان حلّوا به، وفي أيّ مجتمع وجدوا فيه قائمين بهذه الشهادة حقّ القيام، تبليغا لما عندهم من خير يحلّون به مشاكل المجتمعات التي يعيشون فيها، واستفادة لما عند تلك المجتمعات من خير يعود عليهم وعلى من وراءهم من المسلمين ومن غير المسلمين بالمنافع المعنوية والمادية، وإذا لم يكن ذلك الوعي قد بلغ المستوى المطلوب، فإن من مهمّة الدعاة والمرشدين أن يشتغلوا عليه ليصلوا به عند المسلمين إلى القدر المطلوب من القوّة، وإلى ما يستلزمه تحمّله من المقتضيات.

وهذا التطوّر الحاصل في أوضاع المسلمين بأوروبا، سواء من حيث الكمّ أو الكيف، وهذا التطوّر الحاصل في اهتمامات هذا الوجود ما كان منها باديا وما كان مضمراً يحتاج إلى تفعيل بالدعوة والإرشاد يطرح على المسلمين بأوروبا هدفاً مستقبلياً غير الهدف الذي كان يحدوهم قبل العشرين سنة الماضية، وهذا الهدف يمكن تسميته بهدف الشراكة الحضارية مع المجتمع الذي يعيشون فيه كما يقتضيه منهم الواجب الديني المتمثّل في الشهادة على الناس.

ومعنى الشراكة الحضارية هدفاً مستقبلياً للمسلمين بأوروبا هو أن يكون هؤلاء المسلمون مسهمين في البناء الحضاري في المجتمعات التي يعيشون فيها إسهاما يكون لهم به إنجاز في كلّ ميادين الحياة المادّية والمعنوية كما ينجز غيرهم من أبناء مجتمعهم، فيخرجون بذلك من الوضع الاستهلاكي لمنجزات التحضّر التي أنجزها غيرهم كما كان حالهم في مراحل وجودهم السابقة إلى الوضع الإنتاجي لتلك المنجزات سواء بصفتهم الفردية كمواطنين و مقيمين أو بصفتهم الجماعية كجماعة مترابطة ترابطا خاصّا تتمايز به عن غيرها في نطاق الترابط الاجتماعي العامّ مع سائر مكوّنات المجتمع.

وتقوم هذه الشراكة الحضارية على قطبين متكاملين يمثّلان طرفي التعارف الذي جاء في القرآن الكريم هدفا خُلقت من أجله الشعوب على سنّة التنوّع في مكوّناتها الطبيعية والثقافية كما جاء في قوله تعالى”: يا أيها الناسُ إناّ خلقنَاكُم من ذَكرٍ وأُنثى وجَعَلنَاكم شُعُوبا وقبائلَ لتَعارَفُوا” ( الحجرات/13)، فالتعارف في الآية إنما هو التعاون بين الفرق المتمايزة تعاونا يعطي فيه كلّ طرف ما عنده من خير للطرف الآخر، ويأخذ هو منه ما فيه من خير نافع؛ ولذلك فإنّ القطبين المتكاملين في هذه الشراكة الحضارية هما: استفادة المسلمين من الكسب الحضاري الذي توفّرت عليه المجتمعات التي يعيشون فيها، وإفادة هذه المجتمعات بما يتوفّرون عليه هم من قدرات وإمكانات وقيم.

أمّا الاستفادة من الكسب الحضاري، فلا شكّ أنّ المجتمع الأوروبي قد حصلت له مكاسب حضارية عظيمة في مجال العلم الطبيعي والإنساني، وفي مجال التكنولوجيا، وفي مجال الإدارة والتنظيم، وهذه المكاسب مهما حفّت بها من ملابسات تتمثّل في تدنّي القيم الأخلاقية والروحية فإنها تبقى في ذاتها مكاسب ذات شأن في الترقّي الإنساني مادّيا، ويكون من المطلوب من المسلمين دينا أن يستفيدوا منها ما داموا مكلّفين بهذا الترقّي المادّي باعتباره مندرجا ضمن مهمّة الخلافة في الأرض.

وأمّا إفادة المجتمعات التي يعيشون فيها بما يتوفّرون عليه هم من خير، فلا شكّ أنّ المسلمين يحملون دينا يتضمّن قيما خالدة على مرّ الزمن، وهي قيم يعاني المجتمع الأوروبي اليوم أزمات حادّة جرّاء غيابها، وهو ما أصبح همّا مؤرّقاً للكثير من أهل الفكر في هذا المجتمع، وناهيك في ذلك بالقيم المتعلّقة بالتماسك الأسري، والمتعلّقة بالترابط الاجتماعي، والمتعلّقة باللحمة الروحية بين بني الإنسان، والمتعلّقة بالحفاظ على البيئة، فضلا عن القيم الموسّعة لأفق الإنسان وآماله إلى ما وراء هذا الوجود المادّي الكالح إلى وجود غيبي رحب. والمسلمون مطالبون دينا بتبليغ هذه القيم إلى الناس كافّة، وإلى المجتمع الذي يعيشون فيه خاصّة، وهو ما يندرج ضمن واجبهم في الشهادة على الناس وفق قوله تعالى:  “وكذلكَ جعَلناكُم أُمّةً وسطًا لتكُونُوا شُهداءَ على الناسِ” ( البقرة/143)، وهو ما يقتضيه منهم أيضا ضمن ذلك وصف المواطنة الذي اكتسبوا به وضعهم الجديد في البلاد الأوروبية.

وهذه الشراكة الحضارية المطلوبة من المسلمين في وجهي الإفادة والاستفادة ليست بالأمر الهيّن المرسل الذي يمكن للمسلمين أن ينخرطوا فيه بتلقائية كما تنخرط بعض الأقلّيات الأخرى؛ ذلك لأنّه لكي يكون انخراطا ينتج إضافة مثمرة يتقدّم بها المجتمع ينبغي أن يتمّ وفق معايير تتضمّن الروح الفلسفية الإسلامية التي توجّه كلاّ من تلك الاستفادة من الكسب الحضاري الأوروبي، والإفادة بتلك القيم الإسلامية الخالدة، وإلا فإنه ربما أفضت تلك الشراكة إلى ذوبان للمسلمين لا تكون به إضافة نوعية وقد لا تكون به إضافة مطلقاً، أو إلى توتّرات تبوء بفتنة اجتماعية، وهو ما نرى اليوم أطرافا منه تقع هناك أو هناك من البلاد الغربية بصفة عامّة في علاقة المسلمين بمجتمعاتهم الجديدة التي انخرطوا فيها بالمواطنة.

وهذا التوجيه المعياري الفلسفي الإسلامي يندرج فيما نقدّر في صلب مهامّ المجلس الأوروبي بالإفتاء والبحوث، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الإفتاء الحضاري.

3 ـ الإفتاء الحضاري: المفهوم والخصائص:

نعني بالإفتاء الحضاري توجيه المسلمين توجيها شرعيا في القضايا الكبرى المتعلّقة بمستقبل الوجود الإسلامي بأوروبا من حيث ما يستشرفه من شراكة حضارية بشقّيها المذكورين آنفاً.

وليس المقصود بالتوجيه مجرّد الإرشاد الوعظي الذي يكتفي ببيان ما ينبغي على المسلمين أن يفعلوه وما ينبغي عليهم أن يتركوه، وإنما المقصود به أن يُعطَى المسلمون رؤى وخططا في القضايا الكبرى التي سيشتركون بها في التنمية الحضارية لمجتمعاتهم، مبنية على تأصيل شرعي في مبدئها وأصل فكرتها، وفي تفاصيلها وإجراءاتها.

أما التأصيل الشرعي في مبدئها فإنه تأصيل يتّجه إلى تبيان الرؤية الفلسفية الإسلامية في القضايا المطروحة، من حيث ما تنبني عليه من مقاصد شرعية، ومن حيث ما تؤول إليه من مصلحة للمجتمع، ومن حيث ما يكون لها من أثر في مستقبل الإسلام والمسلمين بصفة خاصّة، ومستقبل الإنسانية بصفة عامّة، فهو تأصيل استشرافي يتحرّى ما يمكن أن يقدّمه الإسلام عن طريق المسلمين بأوروبا من خير للناس، استثمارا لموقعهم الأوروبي وما يتوفّر عليه من إمكانيات النفع، داخلا في ذلك ما ينتفع به أولئك المسلمون من كسب حضاري أوروبي وما ينتفع به من ورائهم سائر المسلمين، وكلّ ذلك في نطاق فلسفة التعارف التي هي أحد المقاصد الدينية الكبرى في العلاقات بين بني الإنسان.

وأما التأصيل الشرعي في التفاصيل، فإنه تأصيل يتّجه إلى مجمل المسائل الجزئية التي تندرج ضمن القضايا الأساسية الكبرى، وذلك بأن يقع الإفتاء في هذه المسائل على ضوء المقاصد الشرعية العامّة التي توجّه تلك القضايا، فتضبط إذن بأحكام شرعية ما كان منها ذا سوابق مشابهة وما كان مستجدّا، في انسجام وتناسب فيما بينها لتنتهي كلّها بتلك الأحكام إلى تحقيق الرؤية الدينية العامّة التي بُنيت عليها القضية التي هي مندرجة ضمنها، فيكون إذن إفتاء جزئيا في القضايا التفصيلية مندرجا ضمن إفتاء كلّي عامّ في القضية الأساسية الكبرى التي تشتمل عليها.

وقد شرع المجلس منذ بعض دوراته فيما يشبه هذا الإفتاء الحضاري، وذلك حينما أصبح يتناول بالإفتاء مسائل متعدّدة مندرجة ضمن قضية أساسية موحّدة، يجعلها محورا للإفتاء، ويخصّص لها دورة مستقلّة من دوراته أو أكثر، وذلك مثلما وقع بالنسبة لقضية الأسرة، وقضية المشاركة السياسية للمسلمين بأوروبا.

ولكن الإفتاء في هذه القضايا كان يميل إلى أن يكون إفتاء في مسائل متفرّقة مهما كانت مندرجة ضمن قضية واحدة، وهو ما يستلزم شيئا من التطوير لينتهي إلى ما نعنيه بالإفتاء الحضاري.

هذا الإفتاء الذي يختصّ بجملة من الخصائص من أهمّها ما يلي:

أ ـ أن يكون متناولا للقضايا الكبرى المتعلّقة بالوجود الإسلامي بأوروبا، والتي يكون لها تأثير بيّن على مستقبل هذا الوجود، من حيث ما يكون له من دور في الإسهام الحقيقي مع سائر مكوّنات المجتمع في البناء الحضاري في وجوهه المختلفة اقتصادية وثقافية واجتماعية وسياسية وغيرها.

ب ـ أن يكون إفتاء مبنيا على رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وعلى مقاصد دينية من عوالي المقاصد التي تتعلّق بالمصالح الكبرى، ولا تكتفي هذه الرؤية ببيان ما هو حرام وما هو حلال، كما هو الإفتاء في الغالب من القضايا الجزئية التفصيلية، وإنما تستشرف المصالح العليا، وتوجّه المسلمين إليها للمضيّ في الطريق المؤدّي إلى تحقيقها.

ج ـ أن تُتّخذ تلك الرؤية المقاصدية العليا منهجا تندرج فيه كلّ القضايا الجزئية التي تشملها، فيكون الإفتاء فيها موجّها بتلك الرؤية، ويُتّخذ فيها من الأحكام ما يخدم ذلك المقصد الأعلى، بحيث يتكوّن محور إفتائي في هذه القضايا الكبرى تنسجم فيه الفتاوى الجزئية مع بعضها، وتنسجم كلّها مع التوجيه المقاصدي الأعلى لتلك القضايا.

د ـ أن يكون إفتاء مبنيا على منهج تكاملي، ترتبط فيه التفاصيل والجزئيات التي يجري بها الواقع اليومي فيما توجَّه به من فتاوى بالرؤية الكلّية التي تحدّد الهدف وتستشرف المستقبل وتنطلق من الواقع، فلا تتعارض إذن الفتوى الكلّّية الراسمة للمستقبل مع الفتاوى الجزئية الموجّهة لما تجري به الحياة اليومية للمسلمين.

4 ـ مقتضيات الإفتاء الحضاري:

إنّ هذا الضرب من الإفتاء لئن كان يتطلّب من المستلزمات ما يتطلّبه الإفتاء الجزئي في القضايا العارضة لحياة المسلمين في أوروبا، إلا أنّه يتطلّب مع ذلك مقتضيات أخرى زائدة عليها، من أهمّها ما يلي:

أ ـ تعميق البحث العلمي وتوسيعه في القضايا المطروحة للإفتاء، وذلك سواء من حيث ما يتعلّق بها من أحكام الشريعة بتوسيع النظر في الأدلّة ذات العلاقة بها، وفي اجتهادات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم المعتبرة ما كان منها راجحا وما كان مرجوحا، أو ما يتعلّق بها من ملابسات الواقع في تحليلات علمية وإحصائية تشرح الظواهر، وتنفذ إلى الأسباب وتستشرف الاستتباعات والمضاعفات.

ب ـ توسيع النظر الأصولي المقاصدي عند التصدّي لهذا الإفتاء، وذلك بأن يخصّص قسم تمهيدي من البحث فيها لنظر أصولي مقاصدي عميق تُنجز فيه دراسات وافية، وذلك من أجل أن توضع القضايا الكبرى المراد الإفتاء فيها ضمن منظور تأصيلي مقاصدي يكون هو الموجّه للإفتاء فيها، والناظم لكلّ ما يندرج ضمنها من فتاوى جزئية متعلّقة بها.

ج ـ توسيع النظر في الواقع الأوروبي الذي هو ساحة الإفتاء في هذه القضايا، وذلك بتخصيص بحوث عميقة للكشف عن حقيقته في مجالاته المختلفة، والوقوف بصفة علمية دقيقة على الأسباب الثقافية والفلسفية التي توجّهه وتصنع أحداثه، ما كان منها منظورا وما كان غير منظور، وذلك ليكون الإفتاء مبنيا على هذا الفقه بالواقع الذي كثيرا ما تغيب عن الكثيرين جذوره وأبعاده وعوامل توجيهه.

د ـ الاستعانة في هذا الإفتاء بعلم المستقبليات الذي يستشرف المآلات، تطبيقا على الحالة الأوروبية بصفة خاصّة، وعلى الوضع العالمي بصفة عامّة، فاستشراف المستقبل وإن لم يكن مبنيا على اليقين إلا أنّه يساعد كثيرا على الإفتاء لما تستبين به من مآلات وإن تكن ظنّية، فيكون لذلك دور في توجيه الفتوى إلى حيث تحقّق المقصد الشرعي منها.

هـ ـ الاستعانة بدائرة من الخبراء في الِشأن الأوروبي متخصّصين في القضايا المراد الإفتاء فيها وما له علاقة بها بصفة مباشرة وغير مباشرة، وذلك لتوضيح ما قد يخفى عن المشاهد العادي للواقع الأوروبي، من حيث ما يحكم ذلك الواقع من الأسباب والعلاقات والموجّهات التي تنشأ بها الظواهر وتتطوّر دون أن تكون ملحوظة فيها للمشاهد، وهي ذات أهمّية بالغة في توجيه الفتوى.

وهذه المستلزمات وربّما غيرها مما يستبين يتقدّم الفتوى لا يكفي فيها أن تُترك للعفوية والتلقائية، وإنما يقتضي الأمر أن تكون مخطّطة ومبرمجة بعناية، بل ربما يقتضي الأمر أن تكون مؤسّسة في شكل لجان أو خلايا عمل ضمن مؤسّسات المجلس ولجانه، وذلك ضمانا للوقوف عليها بما ينتهي إلى تطويرها وتفعيلها في أداء المجلس لمهمّته الإفتائية.

5 ـ نماذج من قضايا الإفتاء الحضاري:

ربّما يكون من أهمّ ما يمكن أن يُدرج من القضايا في هذا الإفتاء الحضاري فيما نقدّر جملة من القضايا نورد منها القضايا التالية على سبيل التمثيل:

أ ـ الاندماج والمواطنة: وهو القضية التي خُصّصت لها الدورة المقبلة من دورات المجلس، ويمكن أن تؤطّر هذه القضية بإطار هو الجواب على سؤال: هل من الخير للإسلام والمسلمين في أوروبا، وللمجتمع الأوروبي بصفة عامّة أن يمضي المسلمون في الاندماج بهذا المجتمع والمواطنة فيه، أم أن يكوّنوا لهم وجودا متمايزا عن المجتمع؟ ولا شكّ أنّ هذا الجواب ينبغي أن يكون مبنيا على رؤية أصولية مقاصدية يثبت بها حصول المصلحة من عدمها، فتصدر إذن الفتوى  بتوجيه المسلمين إلى الاندماج في المجتمع الأوروبي والمواطنة فيه، أو تصدر بعكس ذلك.الإفتاء الحضاري الإفتاء الإفتاء الحضاري 2015 8 25 21 10 45 791

 وإذا ما ثبتت الفتوى بالتوجيه إلى الاندماج والمواطنة بناء على ما تبيّن من مصلحة في ذلك فإنه ينبغي أن يتّجه البحث فيه إلى تفصيلها في وجوهها المختلفة، وأن تؤصّل هذه الوجوه كما أُصّلت المصلحة في مبدئها العامّ.

ثمّ تُدرج كلّ الفتاوى في القضايا الجزئية المتعلّقة بالاندماج والمواطنة ضمن هذه الرؤية التأصيلية المقاصدية العامّة، فيُفتى في الضوابط التي ينبغي أن توجّه الاندماج والمواطنة، ويُفتى في المسالك العملية التي ينبغي أن تُسلك من أجل ذلك. وهكذا ينتهي الأمر إلى إفتاء متكامل في قضية لها تأثير على مستقبل المسلمين في أوروبا، وعلى مشاركتهم في تنمية المجتمع الذي يعيشون فيه.

ب ـ المشاركة الاقتصادية للمسلمين في أوروبا: ما هو التوجّه الذي على المسلمين بأوروبا أن يتّجهوا فيه من الناحية الاقتصادية؟ هل هو توجّه الانخراط الكامل في الدورة الاقتصادية للمجتمع الذي يعيشون فيه، بحيث يقتحمون ميدان الإنتاج والخدمات بقوّة، ليصبحوا أصحاب مؤسّسات اقتصادية ذات شأن، وليكونوا من ذوي الإبداع والتنمية، ومن ذوي التأثير والتوجيه، أم هو توجّه الاكتفاء بما يحفظ العيش الكريم من المهن والمؤسّسات الصغرى ابتعادا عن مواطن الشبه من الناحية الشرعية كالربا وغيره؟

إنّ على المجلس أن ينظر في هذه القضية ليفتي فيها بما يكون له تأثير في مستقبل الوجود الإسلامي، وهو إفتاء يستلزم تأصيلا مقاصديا لينتهي بهذا الخيار أو ذاك من الخيارات الاقتصادية، فإذا ما انتهى بعد الدرس التأصيلي المقاصدي العميق إلى اقتحام ميدان الاقتصاد بقوّة على سبيل المثال فإنّ ذلك يستلزم أن تُحدّد المسالك الشرعية للمضيّ في هذا الخيار، فيقع الإفتاء في المسائل الجزئية المتعلّقة بالاقتصاد في نوازله اليومية بما يستجيب للرؤية الكلّية التي أُفتي بها في التوجّه المبدئي، وهو ما يقتضي فقها غير الفقه الذي يُفتى به لو كانت تلك المسائل الجزئية مرسلة غير مؤطّرة بذلك الإطار الكلّي الذي بُني عليه التوجّه العامّ.

ج ـ التربية والتعليم للمسلمين بأوروبا: ما هو الخيار الأكبر الذي ينبغي أن يمضي فيه المسلمون بأوروبا في مجال التربية والتعليم لأبنائهم؟ هل هو خيار الاندماج التعليمي في المنظومة التربوية التعليمية العامّة التي يعتمدها المجتمع الذي يعيشون فيه، فيستفيد أبناؤهم إذن من الإمكانات الكبيرة لتلك المنظومة، ويتخرّجوا منها مندمجين في مجتمعهم مثل سائر أبناء المجتمع، أم هو خيار أن يؤسّسوا لهم نظاماً تعليمياً تربوياً خاصّاً بهم مهما يكن عليه من اشتراك مع التعليم العام، فيضمنوا إذن أن يحافظ أبناؤهم على هويتهم الإسلامية مع ما قد يشوب ذلك من احتمال أن يكون التعليم ضعيفا في الجوانب العلمية التكنولوجية على الأخصّ، واحتمال أن يفضي إلى ضرب من ضروب الانعزالية عن المجتمع؟

هذا مجال آخر على المسلمين أن ينتهوا فيه إلى خيار مؤسّس على فتوى حضارية من المجلس، باعتبار أنه خيار سيكون له تأثير على مستقبل الأجيال الخالفة من المسلمين، ومدى إسهامها في الحركة الحضارية للمجتمع، وأيّما خيار ينتهي إليه الإفتاء فإنه ينبغي أن يكون مؤسّسا على استشراف مقاصدي تستبين به المصلحة العليا للمسلمين وللمجتمع بصفة عامّة، فإذا ما استقرّ الإفتاء على خيار فإنّ الرؤية الشرعية الكلّية التي بُني عليها ينبغي أن تكون هي الرؤية الموجّهة للإفتاء في كلّ ما يندرج ضمن هذه القضية من التفاصيل المتعلّقة بالتربية والتعليم لأبناء المسلمين من أجل تحقيق المقصد الذي بُني عليه الإفتاء العامّ.

د ـ علاقة المسلمين الأوروبيين بالعالم الإسلامي: هل المسلمون بأوروبا هم جزء من مجتمعهم الأوروبي، يدينون له بالولاء، ويكونون معه على كلّ من سواه بما في ذلك المسلمون في العالم الإسلامي، أم هم وإن كانوا مواطنين أوروبيين فليسوا إلاّ جزء من الأمّة الإسلامية يوالونها في قضاياها على من سواها بما في ذلك مجتمعهم الأوروبي الذي يعيشون فيه، أم هم مواطنون قانونا في مجتمعهم يوفون بمستلزمات المواطنة من استيفاء حقوق ووفاء بواجبات، وهم في ذات الوقت جزء من الأمّة الإسلامية عقائديا وروحيا يوالونها فيما لا يخلّ بمقتضيات المواطنة؟

هذه قضية استراتيجية صعبة أيضا، يُطلب من المجلس أن يحدّد فيها خيارا مبدئيا عامّا، وهو خيار ينبغي أن يُبنى على درس مستفيض ذي أبعاد عقائدية وأصولية وقانونية، ليقع الانتهاء فيه إلى فتوى بيّنة توجّه المسلمين إلى البناء الأمثل لعلاقتهم بمجتمعهم من جهة وعلاقتهم بأمّتهم من جهة أخرى، وتندرج فيها كلّ مشاعرهم وولاءاتهم وتصرّفاتهم ومواقفهم، وذلك وفق فتاوى تفصيلية تخدم الفتوى الكلّية العامّة التي سيكون لها دور في رسم مستقبل المسلمين بأوروبا، وربما في رسم مستقبل العلاقة بين أوروبا والعالم الإسلامي.

إنّ هذا النوع من القضايا ذات التأثير في مصير الوجود الإسلامي بأوروبا، وربما على نحو أو آخر في مصير المجتمع الأوروبي تقتضي من المجلس الأوروبي أن يضع في الجدول المستقبلي لأعماله تطويرا للإفتاء يضيف إلى الإفتاء في النوازل الجزئية التي تعترض حياة المسلمين في مسيرتهم اليومية ـ وهو اللون الغالب على جدول الأعمال للمجلس في الفترة الماضية ـ  إفتاء من نوع آخر يوجّه المسلمين إلى مصير يكونون فيه مكوّنا من مكوّنات الواقع الأوروبي لا يُحسب على أنّه مجرّد رقم من أرقام الأقليات الكثيرة التي تعيش في المجتمع الأوروبي، وإنما هو رقم نوعي تكون له إضافة حقيقية في المسيرة الحضارية لهذا المجتمع، وهذا ما عنيناه بالإفتاء الحضاري.

والله ولي التوفيق،،،

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق