البحوث

البعد الاقتصادي للشورى

البعد الاقتصادي للشورى

راشد الغنوشي

تحاول هذه الورقة  أن تلقي أضواء على مجتمع الشورى في حياته الاقتصاديه والاجتماعيه من طريق إبراز الأسس والمبادئ والسياسات العامة للنظام الاسلامي في العلاقة الضرورية بين البعد السياسي والبعد الاقتصادي الاجتماعي للشورى.

  • توطئة: ليست الشورى في الاسلام أي الاشتراك في الامر العام بديلا عن الانفراد بالقرار فيه مجرد عنوان للنظام السياسي في الاسلام ، فلقد ورد ذكر ها في القرآن المكي سابقا لولادة النظام السياسي للجماعة في المدينة، وردت باعتبارها وصفا ثابتاً للاجتماع الاسلامي في سياق جملة من الاوصاف الثابتة: بالايمان والتوكل واجتناب الفواحش والاستجابة لله بإقامة الصلاة والالتزام بالشورى في كل الامور والانفاق وتنتهي بالانتصار من البغي ، بما يوحي “أن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة فهي طابع اساسي للجماعة كلها”(الظلال ج5 ص3160دار الشروق ط12).
  • الشورى أول الدروس في لحظة التكوين: ويمكن الاستدلال على أهمية الشورى بما ألمع اليه صاحب (التحريروالتنوير) من اعتبار الشورى أول درس تعلمه آدم وزوجه في الملإ الأعلى إذ أشهدهما ربهما إخباره سبحانه لملائكته الخبر الذي ورد في شكل استشارة وتعليم أنه “جاعل في الارض خليفة” “ليسوقهم الى معرفة فضل الجنس الانساني على وجه يزيل ما في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس. وعندي أن هذه الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق اول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته “(ج1 ص400الدار التونسية للنشر)
  • الشورى مقصد عام من مقاصد الشريعة: لقد ورد  النص على الشورى  وصفا ثابتا للجماعة المسلمة.”وأمرهم شورى بينهم”/الشورى37/ كما ورد النص عليه  في سياق الادارة الاسرية” عن تراض منهما وتشاور”/ البقرة/ وورد أمرا للرسول عليه الاسلام بوصفه السلطاني ومن باب أولى الامر لمن بعده من الحكام ،ألاّ ينفرد ذو سلطان بالامر دون رعيته..ومع ذلك  فإن مكان الشورى في البنية الاسلامية أوسع واعمق من أن يستدل عليه بنصوص محدودة معدودة فقد اعتبره علماء مقاصد الشريعة كالعدل مقصدا من مقاصده العظمى(مقاصد الشريعة ابن عاشور).
  • مبكّرا غمط حق وواجب الشورى: ملفت للنظر  أنه لئن تجادل الفقهاء حول إيمان تارك الصلاة  من عدمه تأكيدا لأهميتها فإنه لم يثر جدل مماثل حول إيمان تارك الشورى من عدمه  وحول إيمان تارك الزكاة ، مع أن حملة القرآن على فرعون رمز الطغيان وعلى حليفه قارون رمز الجشع الراسمالي وعلى أعوانهما ، وعلى تحالف رجال الدين معهما  بلغت  من التكرار والشدة أن جاء تعريف الدين تعريفا اجتماعيا (أرأيت الذي يكذب بالدين..). ولقد كان جليا في حروب الردة الوجه الاجتماعي ممثلا في الامتناع عن دفع الزكاة، حق الفقراء،و البعد السياسي ممثلا في رفض السلطة المركزية للدولة ، حتى عد الاسلام أول من شن حربا لا هوادة فيها دفاعا عن حق الفقراء( يوسف القرضاوي)، مع أن معظم الحروب القديمة والحديثة يشنها الاغنياء لسلب أموال الفقراء.

والمرجح أن هذا الغمط لحق وواجب الشورى في الثقافة الاسلامية عائد الى ضغط الواقع في أعقاب انقلاب حكم الخلافة الشورية الى ملك عضوض خانق للانفاس الحرة، فحظيت مسائل شعائرية جزئية من الاهتمام ما لم يحظ به الركن الاعظم للحكم والحياة الاسلاميين، الشورى.وسرعان ما شرّع لحكم التغلب، وتفرق دم الشورى في خض الجدل حول الامر بالشورى هل هو للوجوب أم لتطييب الخواطر؟ وهل الاخذ بنتيجتها واجب أم هلى التخيير.ومن هم أهل الشورى كيف يتم فرزهم في مجتمع مترامي الاطراف كثير النفوس؟ وحتى عندما طور الغرب شورانا ونقلها من مستوى الموعظة كما انتهت اليه الى نظام يكفل قوامة الشعوب على حكامها واستبدالهم النظام المعروف بالديمقراطية فقد تجهمه بعض أهل الدين وكل الحكام تقريبا. مع أن ليس في أدوات الديمقراطية ما يصادم إسلامنا كما أوضح المحققون أمثال القرضاوي وبن بية وغيرهما

  • الاستخلاف في المال كالاستخلاف في الحكم: إن المال فى الاسلام كالحكم لله سبحانه، استخلف فيه الجماعة فيما تحت ايدى الافراد من المال وسلطة ، وهو مع إقرار ما بين ايدى الافراد من حكم ومال، اشترط أن يقع التصرف فيهما وفقا لنظرية اسخلاف الله للجماعة  عليهما، بديرهما الافراد نوابا عنها ، بما يجعل كل خروج للمال او الحكم عن حدود الشريعة او مصلحة الجماعة هو تصرف مردود يقتضى نصحا وارشادا فان لم يجد  فالعزل والإبعاد[1] (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التى جعل الله لكم قيما)[2].

المال إذن وظيفة اجتماعية اؤتمن عليه الفرد لتنميتها اصلاحا لحاله بالاستعفاف والاسغناء وخدمة للجماعة(يسالونك ماذا ينفقون قل العفو)[3] ،اى أن تصرف الجماعة في أموال الافرادريمكن أن يتجاوز مقادير الزكاة الى ما زاد عن حاجة الافراد عند الاقتضاء.وفي الحديث:”في المال حق سوى الزكاة”صحيح مسلم

ان حفظ المال مقصد اساسى من مقاصد الشريعة فالله لم يتعبد نا بالاعراض  عن الدنيا،ولكنه تعبد نا بامتلاكها وتطويرها واسثمارها [4]. ولكن هذا المقصد ياتى ترتبيه فى قائمة مقاصد الشريعة بعد حفظ الدين والنفس ،اى انه فى خدمتهما ،فما يحل لمؤمن  يؤمن با لله واليوم الاخر ان يضن بمال اونفس من اجل اقامة الدين ولا ان يمسك ماله وفى الناس من يجوع ويعرى ويضحى ،ولا ان يتكاسل ويعطل طاقته او طاقات الطبيعة متواكلا على غيره.

  • لا معنى للشورى حيث المال دولة بين الأغنياء: ان تفظيع الاسلام لمنكر الاستبداد والانفراد بالقرار السياسي في الجماعة وتاكيده واجب وحق  مشاركة الجميع “وأمرهم شورى بينهم” في تقرير الشئون العامة ، ما ينبغى ان يكون عملا معزولا عن جملة توجهات المجتمع واختياراته، لان الشورى ليست اسلوبا في ادارة الشئون السياسية ، فحسب، بل هي نهج عام في الحياة ، ينطلق من أصل الاستخلاف العام للبشر ووحدة الاصل البشري والمصيري وأوّليةّ الجماعة على الفرد واعتبار الفرد ضعيفا بنفسه ، قويا باخيه ، خطّاء بنفسه ، مهديّا الى ارشد امره باخيه. فالحياة الاجتماعية في التصور الاسلامي ذات بنية عضوية، ترتبط كل وظيفة فيها بجملة الوظائف الاخرى التي تقوم بمقامها وتختل باختلالها فمن غير الواقعي اذن ان نتصور امكان قيام مشاركة سياسية في السلطان السياسي مع استمرار السلطان المالي دولة بين صفوة من اللصوص الدوليين القوارين، في شكل احتكارات كبرى صناعية وزراعية وخدمية، سرعان ما تفرز على صعيد كل مجتمع  نمطين متناقضين من  العمارة واساليب العيش العامة، يغدو معهما الحديث عن الاخوة”إنما المومنون أخوة” وعن الوحدة الوطنية والقومية  والدينية:”وأن هذه أمتكم أمة واحدة”  ، كما يغدو معها الحديث عن الشورى بمعناها السياسي أي المشاركة السياسيه في شكل انتخابات او حريات سياسية عامة، كما تفرز على الصعيد الدولي عالمين متباينين متصارعين متباغضين تنعدم بينهما الوشائج الانسانية بله الاخوة الانسانية المنبثقة من وحدة الاصل ووحدة الخالق”الذي خلقكم من نفس واحدة”، وذلك هو ما آلت له العلاقات الدولية الاقتصادية لعالمنا ، بما يغدو معه الحديث عن مجتمع دولي انساني واخوة دينة او وطنية او انسانية نوعا من الهزل والخداع وغسيلا يوميا  للمخ تقوم به اجهزة الاعلام فى الأنظمة الراسمالية وأذرعها الاخطيوطية التابعة الممتدة في العالم.
  • نظام الاسلام: اتساع المشاركة في الحكم والثروة: ان اتساع الشورى فى المجتمع بشكل جاد يقتضى ضرورة اتساع نظام المشاركة فى الحياة المالية والتكافل فى المغنم والمغرم ، كما يقتضي طرازا من الحكم والسلطة  يقوم على المشاركة في القرار يناظر شكل ادارة الشركات التعاونية بحيث لا احتكار في قرار الادارة ولا ظلم في انصبة الربح والخسارة[5] .البعد الاقتصادي للشورى  البعد الاقتصادي للشورى                      3

انه ما ينبغي في التصور الاسلامي أن تتمحور فلسفة الاقتصاد حول تحقيق الربح لحفنة من اللصوص ولو على أنقاض البئة والحاجات الاساسية للجماعة، بل يجب أن تتمحور حول المصلحة العليا للجماعة بل للانسانية، بما يحفظ كيان أمنا الطبيعة سليما معافى ويوفر الكفاية للجميع فيتحقق التقارب بين كل فئات المجتمع وأعضاء الاسرة البشرية ويقضي  على آفة الفقر قرين الكفر، وعلى التفاوت المشط الذي يحكم العلاقات المحلية والدولية في شكل احتكار تداول المال في فئة قليلة لا تتجاوز2أو3% من السكان على المستوى الاقليمي والدولي، وما يثمره ذلك ضرورة من أحقاد وحروب وأوبئة وتدمير للبئة وتمزّق في النسيج الاجتماعي وصراعات وحروب في العلاقات الدولية، وانهيارات للإقتصاديات العملاقة فضلا عن الصغرى وانعكاساتها الكارثية على الجميع ، وما ذاك إلا بسبب التنكب عن مبادئ العدالة التي جاءت بها النبوات والانسياق مع غرائز الجمع والمنع”وأحضرت الانفس الشح”.

إنه في مجتمع الشورى ما يحل  أن يكون مجرد الربح الراسمالي هو الهدف الأسنى لأي برنامج اقتصادي واجتماعي يحرص على شرف الانتساب الى الاسلام والالتزام بتعاليمه ومقاصده، ذلك  اذا كنا جادين حقا في بناء اخوة اسلامية ووطنية وانسانية حقيقية تقوم على المشاركة في المغنم والمغرم ، وفي العسر واليسر ، اى على الشورى ، فقد كان  ما يمارسه اثرياء مكة القساة من حيف مشط – بعد الاشراك بالله-اول ما استهدفته رسالة النبي عليه السلام في مكة، بحرب لا هوادة فيها، ، ذلك ان اشباع الحاجات المادية الروحية والمادية للبشرية يعتبر جوهر الارادة الالهية ، ومن ثم جوهر الدين[6].

  • ترابط بين الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية:لقد كان اول عمل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يرسي اول تجربة للشورى في التاريخ ، تمثل في بناء المسجد واصدار الدستور واقامة المؤاخاة(دراسات في السيرة:عماد الدين خليل) ، دلالة على الترابط بين الحياة الاجتماعية والثقافية من جهة ، والحياة السياسية من جهة ثانية ، والحياة الاجتماعية والاقتصادية من جهة ثالثة. وكانت الروح الجماعية الشورية اساسا في كل منها لحياة الاخوة والحرية والعدل. ولذلك يحق لنا ان نشك عظيم الشك في كل شعار ديموقراطي يرفع نفاقا ضمن مجتمعات متفجرة يتجاور فيها الحرمان والبؤس والبطالة والمرض مع الترف الفاجر والاستطالة على الله وعباده.. الامر الذي يجعلنا نوقن ان كل بناء اجتماعي يقوم على مثل هذه الاسس ، لا محالة مهما ارتفع مهدوم ،وذلك الذي تكشفت عنه بناءات اقتصادية عظمى أنها بيوت عنكبوت بسبب قيامها على التنكر لواجب الوجود سبحانه وما تولد عن ذلك من طغيان الجشع والاحتكار والغش ونهب الاقوياء لموارد الضعفاء ، وهو ما يفرض على دعاة البناء الجديد  ان تكون دعوتهم هدما وبناء، في مستوى شمول الاسلام ، وفي وحدة لا تنفصم بين معاني التوحيد على المستوى العقدي والعدل على الصعيد الاجتماعي والشورى على الصعيد السياسي ، اذ كما انه لا معنى لايمان لا ينتج عملا , فانه لا معنى لعقيدة التوحيد ان لم تثمر مجتمع العدل والشورى ، مجتمع الاخوة والمشاركة والتكافل في مصادر الرزق الاساسية ( والارض وضعها للانام ) { الرحمن : 10} ( سواء للسائلين ) { فصلت :10} ، ” الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار “/أحمد وأبو داود/ اى مصادر الرزق الاساسية. ويكفينا هنا التاكيد على ان المشاركة السياسية تقتضي ضرورة مشاركة اجتماعية. ان الشورى والعدالة هما وجهان لعملة واحدة هي التوحيد [7]. ودعوة الاسلام المتكررة للافراد ان ينفقوا في مصالح الجماعة ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى يفترض اباحة التملك الفردي ، اذ الاسلام يستهدف الارتفاع بالجميع من خلال التشجيع على عمارة الارض وعلى التكافل المجسّد للأخوة، الى المساواة في الغناء وليس تردي الجميع في منكر الفقر..
  • الضمان الاجتماعي بين الراسمالية والاسلام:لم تتضمن الدساتير وقوانين حقوق الإنسان في الغرب مفهوم الضمان الإجتماعي إلا في وقت متأخر، وتحت ضغط الواقع فتحدثت عن ضمان الحقوق الاجتماعية للمواطن من تعليم وصحة وعمل وأسرة. أما غير القادر على العمل أو الذي لا يكفيه عمله لتوفير العيش الكريم فمسكوت عنه. ولذلك يلاحظ الفرق جليا في موضوع الضمانات الاجتماعية بين المجتمعات الاروبية  التي تعرضت للأخطار التهديد الشيوعي والاشتراكي فتصدت له عسكريا بالاحلاف واجتماعيا بإثار الضمانات الاجتماعية في الصحة والتعليم والبطالة والشيخوخة، وبين المجتمعات الراسمالية التي لم تتعرض لتهديد اشتراكي مما ثل مثل الولايات المتحدة فلا يزال ملايين محرومين من ضمانات ولو في حدها الادنى بما يؤكد تجرد النظام الراسمالي غي أصله من البعد الاخلاقي الانساني فهو في أصله لا يعترف بغير حق الاقوياء الاصلح هو الاقوى مجتمع دارويني. وحتى إعلانات حقوق الانسان لم يتضمن جيلها الاولى التنصيص على الحقوق الاجتماعية  وإنما جاء ذلك متأخرا بعد الحرب العالمية الثانية تحت طائلة التهديد الشيوعي ‘عدئذ جاء التنصيص  على “حق الإنسان في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته وفي لأمين معيشته في حالة الباطلة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة”([8]). إن ما يسمى بالديمقراطيات الاجتماعية ودولة الرفاه كلها جاءت متأخرة وهي ثمرة ضغوط أكثر منها ثمرة اعتراف بكرامة الإنسان – متأخرة جداً في الفكر والممارسة عن الإسلام نظرية وممارسة.

لقد أقام الإسلام مجتمعه على أساس الأخوة والمساواة والعدالة وما يقتضيه ذلك من تعاون وتضامن وإيثار]إنما المؤمنون إخوة[([9])، وفي الصحيح: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله]،  ويعلن ابن حزم في المحلي تعليقاً على هذا الحديث الصحيح يقول فيه: “من تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه”، إن الأخوة ليست مجرد عاطفة ولكنها عقد تكافل تعاون وتآزر، وهو عقد طرفه الأساسي  الأمة ممثلة في مستويات متراتبة تبدأ بالأسرة حيث أوجب على أفرادها التكافل في الإرث والوصية والنفقة]وأولوا الأرحام بعضهم أولي ببعض[([10])، ثم أهل الجيرة ]والجار ذي القربة والجار الجنب[([11])، وفي الحديث: [ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه]، [ليس منا من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم].

ثم يأتي أهل الحي ثم المجتمع كله عن طريق الزكاة وهي فريضة ملزمة ثم النفقة التطوعية”في المال حق سوى الزكاة”، وفي الصحيح يرسم النبي القائد نموذجاً لمجتمع مؤمن صغير كيف يتعامل مع الأزمات الاقتصادية: [نعم القوم الأشعريون كانوا إذا أرملوا في الغزو أو قل عيلا طعامهم بالمدينة جعلوا ما كان عندهم في ثوب وأحد وقسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم].”مسلم عن جابر”.

وصيغة الوصف النبوي لهذا المجتمع ناطقة بتحبيذه، والرغبة للمسلمين وللبشرية جمعاء أن تتأسى به في تجسيد الأخوة وقهر الأنانية ومغالبة الأزمات.

ويتجاوز النبي القائد هذه الصيغة التي تعتمد الإيحاء إلى الإعلان العام المباشر ذي الصيغة التشريعية” [من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال : فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. صحيح أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد من حديث أبي سعيد الخدري ، وللمسلم المعاصر أن يعدد من صنوف البيوت والسيارات والمصانع والحقول… الخ، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. ولقد تقدم حديث النبي r [من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه]م/مسلم/، وليس له أن يمسكها أكثر من ثلاث سنوات إذ “ليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنوات”، كما ورد في حديث آخر.

ولقد تشبع خلفاء النبي “صلى الله عليه وسلم” بهذه الروح الاجتماعية الإنسانية فمنع ابن الخطاب أن يتحول الفاتحون إلى إقطاعيين، فقرر منع توزيع أرض الفتوح  على الفاتحين وجعلها ملكاً عاماً للمسلمين إلى يوم القيامة([12]).

ومع ذلك تبين له في أواخر أيام حكمه وجود تفاوت عزم على قضاء عليه، فقال: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين”. وكان الخليفة الثائر علي بن أبي طالب واضح الرؤيا في تحليله لمشكل الفقر، أنه ثمرة لأنانية الأغنياء”ما جاع الفقراء إلا بمنع الأغنياء”.

  • “يسألونك ماذا ينفقون؟قل العفو”: وإذا كان غبار التاريخ المتطاير من حمأة الحضارات الفارسية والرومانية القائمة على الإقطاع والاستقلال قد غشي كثيراً أو قليلاً أنوار العدالة والإنسانية التي أشعت بها نصوص الكتاب والسنة وتجربة التطبيق النموذجي في الصدر الأول للإسلام، فخالطت تلك الأنوار الساطعة ظلمات الجاهلية وتأثر التنظير الفقهي بذلك قليلاً أو كثيراً، فإن تاريخ الإسلام لم يخل من المجددين الثائرين الذين كسروا أطواق التاريخ ونفضوا غباره المتراكم فاتصلوا بالنبع الصافي وأطلقوا أنواره مجدداً. وكان أشهر أولئك علامتنا المغربي الثائر الفقيه السلفي ابن حزم الذي لا يشك أحد في تمسكه الحرفي المتشدد بظواهر النصوص. وكان ذلك كافياً لو صح تحليل خصوم السلفية ليجعل من ابن حزم أكثر فقهاء الإسلام رجعية وجموداً وخصومة لحقوق المستضعفين من الرجال والنساء، ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك تماماً لدرجة أن رافعي لواء التحرر من سلطان النصوص لحساب العقل – وذلك شرط التحرر والتقدمية عندهم – إذ التقدم بزعمهم والمنهج النصي (أو السلفي) نقيضان لايجتمعان. ولا يكادون يعثرون خلال تنقيبهم في التراث على مواقف تحررية في مجال الاقتصاد أو المرأة والفن وغيرها أعمق وأجلى وأغزر من مواقف الموغلين في السلفية أمثال ابن تيمية وابن القيم، وابن حزم، وهو زعيم المنهج السلفي بلا منازع… وكان على هؤلاء أن يذعنوا للحقيقة التي كشف عنها تاريخ الحضارة الإسلامية، تلك التي أعلن عنها الفكر الإسلامي المعاصر([13])، ألا وهي أنه لا تجديد إلا في إطار السلفية. المقصود أنه انطلاقا من الاعتزاز بالذات الحضارية للأمة والاطمئنان  الكامل إلى دينها وتراثها…فإنما انطلق تاريخنا من النص المقدس، فلا تجديد حقيقياً إلا في إطاره وانطلاقاً منه. بل إن التجديد في كل حضارة كان بهذا المعني سلفياً، أي عودة إلى الجذور انطلاقاً منها من أجل تخطي الحاضر الهابط نحو مستقبل أفضل مع ملاحظة أن السلفية هنا تعني التمسك بنصوص الإسلام ومقاصده في مواجهة محاولات العبث العلماني، وليست بحال رفض التجديد ورفض مقاصد الشريعة، مع التنبيه أيضاً أن مصطلح السلفية لا يحمل دلالة إلزامية بل يمكن الإستغناء عنه والاستعاضة عنه بغيره، لأن السلفية ليست مفهوماً واحداً([14]). لنقرأ بانتباه، ونحن بصدد تقرير حق الضمان الاجتماعي في الإسلام، هذا النص الرائع للثائر السلفي ابن حزم” وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك  إن لم تقم الزكوات بهم ولا في سائر أموال المسلمين بهم فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والشمس وعيون المارة. ومن كان على فضلة، ورأى أخاه جائعاً عريان فلم يغثه فما رحمه بلا شك”، بل يفرض ابن حزم على الجائع أن يأخذ ما يسد به حاجته، ولو مع استعمال القوة([15]).

ويصل الفقيه السلفي ابن تيمية (في كتابه الحسبة في الإسلام) إلى النتيجة نفسها انطلاقاً من النصوص “إذا قدر أن قوماً إلى السكن في بيت إنسان إذا لم يجدوا مكاناً يأوون إليه إلا ذلك البيت، فعليه أن يسكنهم وكذلك إذا احتاجوا إلى أن يعيرهم ثياباً يستدفئون بها من البرد أو إلى آلات يطبخون بها أو يبنون أو يسقون يبذل هذا مجاناً وإذا احتاجوا إلى أن يعيرهم دلواً يسقون به أو قدراً يطبخون فيها أو فأساً يحفرون به فهل عليه بذله بأجرة المثل لا بزيادة؟”.

فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد وغيره. والصحيح وجوب بذل ذلك مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة كما دل عليه الكتاب والسنة، وقال تعالى: (فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. والذين هم يراؤون. ويمنعون الماعون)([16]).

وأن مسؤولية الفرد على إخوانه تصل إلى حد مقاضاته إذا فرط ولم يقم بحاجتهم مع القدرة، يذكر الفقيه المالكي الدردير” يضمن من ترك تخليص مستهلك(أي هالك) من نفس أو مال قدراً على تخليصه بقدرته أو جاهه أو ماله فيضمن من النفس الدية وفي المال القيمة”([17]).

وأن تفرد الإسلام بجعل ضمانه الاجتماعي شاملاً للغارمين حتى تسدد ديونهم وتفرج كروبهم، وللرقيق حتى يتحرروا، ولأبناء السبيل من المسافرين والمنقطعين مهما كانت ثرواتهم في بلدانهم التي يقيمون فيها، كما تفرد الإسلام بجعل التزامات الدولة الاجتماعية شاملة لولاية الأطفال القصر الذين لا أولياء لهم ومراقبة أولياء هؤلاء إن وجدوا، وتزويج من لا أولياء لهم أو لا مال لهم ولقد اتخذ الخليفة عمر بن الخطاب دار السويق فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزيت وما يحتاج إليه المحتاج.

  • الوقف من أعظم مؤسسات الشورى:واضح عمق وأصالة الضمان الاجتماعي في مجتمع الشورى على صعيد التطور والتطبيق في الإسلام، وواضح كذلك طابع التفرد في هذا التصور من حيث ارتباط تلك الحقوق بتكريم الله للإنسان باستخلافه له، ومن حيث تعدد مؤسسات ذلك الضمان: الأسرة، الجوار، الحي، أو العشيرة، المسجد ،الوقف ، المجتمع، الدولة… وذلك وفق تصور الإسلام لعلاقة الفرد والمجتمع بالدولة، إن عقيدة التحرر والعبودية لله وهي أساس التصور الاجتماعي الإسلامي تأبى حصول وضع اجتماعي تتغول فيه الدولة ويتضاءل الفرد والمجتمع تجاهها فيرتبط مصير المجتمع كله بتلك المؤسسة أو الشخص أحياناً(الدولة). إن الإسلام يحرص، ، على تحقيق قدر كبير من الاستقلال للفرد والمجتمع عن السلطة في الدولة الإسلامية، وذلك من خلال التكريم الإلهي للإنسان بما يكسبه حقوقاً ويفرض عليه واجبات لا سلطان لأحد غير الله عليها، ومن خلال حرصه على إقامة المؤسسات الشعبية المستقلة عن السلطة، كالأسرة والعشيرة وأهل الحي ومؤسسة التعليم والتعبد،  وأنواع كثيرة من المؤسسات الاجتماعية الشعبية التي يمولها الشعب عن طريق مؤسسة الوقف التي :انت أعظم إبداعات ومؤؤسات الحضارة الاسلامية التي بلغت من الاتساع ما استوعبت في كثير من المجتمعيات معظم الملكية، ثمرة لمبادرات المجتمع تقربا الى الله عز وجل بما أرسى سندا عظيما  لاستقلال الأمة عن الدولة، وخاصة في عهود فسادها. وأن أشد ما نكبنا  به الغزاة الغربيون نهبهم جزءاً كبيراً من المؤسسات الشعبية وتدميرهم البنية التحتية لمجتمعنا، حتى إذا ورثهم المستعمرون الجدد في عهد (الاستقلال) استكملوا الغزو، وأتموا السيطرة والاستيلاء على ما تبقى من تلك البنية التحتية فارتهن الفرد والمجتمع لأهوائهم وتقلباتهم،و ضمن مشروعهم التسلطي الشمولي دأبوا على تفكيك  بنية المجتمع  الفكرية والمؤسساتية الشعبية لتيسير السيطرة والتحكم.

والخلاصة من ذلك: إن الإسلام يسعى جهده لضمان حرية الناس وإخلاصهم عبوديتهم لله، ومن وسائله منع احتكار سلطة الحكم أو سلطة المال في يد فئة قليلة، بل قد يسعى إلى توزيعها على أوسع نطاق ممكن حتى ينحصر تدخل الدولة المباشر في أضيق نطاق ممكن (أنا ولي من لا ولي له) أي حيث يعجز المجتمع ويختل توازنه.

11

  • في ظل الاسلام لم تعجز مجتمعاته عن انتاج حاجاتها:إن الاسلام الذي قاد اجتماع امتنا وعصور ازدهارها الحضاري المديدة وظل مرجعيتها العليا التي استوحت منها كل مناهج حياتها الثقافية والتشريعية والاقتصادية وتأسست في ظلها مجتمعات راجت فيها أسواق الدنيا جنبا لجنب مع اسواق الاخرةتجسيما للمثل الاسلامي الجامع بين المادي والروحي، وحتى في عصور انحطاط هذه المجتمعات ظلت منتجة لحاجياتها وزيادة حتى كانت تصدر الاقوات للدول الاوروبية وتسدي لها القروض( مصر أقرضت انجلتراوالجزائر أقرضت فرنسا ، وكلاهما قبل الاحتلال)، إن هذا الاسلام  ما عجز طيلة القرون التي حكم فيها وقبل أن ينحى بقوة السيف عن عرشه ويدفع الى الهامش ويستبدل بإيدولوجيات أخرى، إن هذا الاسلام لا يزال أهم مقوم في هوية الامة ومحرك لطاقاتها لو أنها وظفت في مشاريع التنمية كما حصل في تجربة ماليزيا.إن الاسلام الذي قاد اجتماع أمتنا وشكل وعيها وضميرها ولايزال رجاله الاقدر على تعبئة شعوبنا لأي مشروع تنموي وتجسير الهوة الشاسعة التي شقتها المناهج التغريبية بين نخبة الحكم والثقافة من جهة وبين جمهرة الناس.
  • ورحمته وسعت كل شيء:مع أن الاسلام لا يعطي ثماره اليانعة إلا لمن سلم له قياده بالكلية”ادخلوا في السلم كافة”وذلك جوهر ما يحرص عيه دعاته، إلا أن رحمته السابغة لا تستثني أحدا ولا يتوقف عطاؤها عند حد ولا تنتظر شيئا فهو الريح المرسلة بالخيرات في كل اتجاه وحين ، فلم ينتظر النبي يوسف عليه السلام ايمان فرعون وقومه وتخليهم عن الشرك حتى يقدم لهم خطته لإتقاذهم من هلاك في الآفاق محقق، بل لإنقاذ الاقتصاد العالمي يومئذ، بل ويطلب الاشراف بنفسه على تنفيذها حرصا على نجاحها”اجعلني على خزائن الارض” وذلك سبيل اقوم من سبل الدعوة الى الله عبر غمرهم برحمة الله . وتلك سابقة مهمة للأقليات المسلمة أن تجعل نهج دعوتها للاسلام عبر الاسهام في تقديم حلول للمشكلات التي تتخبط فيها مجتمعاتها مثل مشكل تفكك الاسرة ومشكل المخدرات ومشكل الانهيارات الاقتصادية بسبب صنوف المضاربات والمعاملات المنافية لقيم الشريعة مثل المعاملات الربوية. ويقدم نظام المصارف الاسلامية نموذجا حيا للدعوة الاسلامية في الغرب، ما جعل الدول الغربية تتنافس في فتح هذا النوع من المصارف الذي يجمع بين الجدوى الاقتصادية وبين احترام مبادئ العدل وقيم الاخلاق.

ولقد سطع نجم الاقتصاد الاسلامي حتى غدت مصارفه ملجأ لراسمال المذعور في ظل انهيارات الاقتصاديةات الراسمالية الكبرى التي تجتاح عالما يقوده الجشع القاروني.كما أكد ذلك الامين العام لمجلس الخدمات الاسلامية.

“أثبتت المصرفية الإسلامية جدواها وأداءها المالي المتميز بشهادة الكثيرين من خبراء المال والاقتصاد في العالم الغربي والشرقي، فقد بدأت كثير من التحديات التي كانت تواجهها في بداية مسيرتها في طريقها للزوال، غير انه بلا شك هناك تحديات متبقية وقد تكون برزت نتيجة لإفرازات وانعكاسات الأزمة المالية العالمية التي أصبحت فيما بعد أحد أهم أسباب تقديمها للعالم كأحد الحلول الناجعة لمشكلات النظام المالي العالمي.

وفي اعتقادي أن أهم هذه التحديات يكمن في كيفية تمكين الصناعة المصرفية الإسلامية في أن يكون لها أثر وحضور قوي في إعادة بناء النظام المالي الدولي الذي يتهاوى الآن، إذ إن الأزمة المالية العالمية أثبتت فشل النظام المالي العالمي، وهناك مشاورات لإعادة بناء هذا النظام، وهذه فرصة حقيقية للمصرفية الإسلامية للمساهمة في عمليات معالجات أبعاد تلك المشكلة، التي أصبحت الآن مطلبا مصرفيا عالميا لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي المتهالك، خاصة أن لدى المصرفية الإسلامية الكثير من المقوّمات التي يمكنها أن تقدم نموذجا ماليا عالميا محصنا بموانع الانهيار. السبيل أون لاين28-6-2009.

  • قدم الاسلام عطاءه حيثما توفرت له فسحة من الحرية: ومع أن الاسلام لا يزال مقصى غالبا من شؤون الحكم في وضع المعارض المعترف به أو الذي تدور عليه رحى الطغيان من قبل العلمانية الحاكمة،  فليس مسؤولا عن أوضاع الأنهيارات الاقتصادية والكوارث البيئية  ، ومع ذلك ففي الاحوال التي أتيحت للاسلاميين  فسح ولو كانت محدودة فقد قدموا رصيدا معتبرا من التجارب التنموية الناجحة وبالخصوص ضمن مؤسسات المجتمع المدني فقد طوروا على الصعيد الفكري والفلسفي  فكرة الاقتصاد الاسلامي حتى تبلورت في علم تقوم على تدريسه كليات في كثير من الجامعات وبعضها في الغرب مثل جامعة لافبرا في انغلترا، وتنعقد له المؤتمرات العلمية وتقوم على خدمته موسوعات ومجلات ومئات من المؤلفات، كما تجسّده في الواقع الاقتصادي المحلي والدولي مالا يقل عن مائتي بنك اسلامي تدير مائات المليارات من الدولارات وتمثل قطب جذب وإغراء كبير للراسمال ليس الاسلامي فحسب بل غير الاسلامي أيضا لما يوفره النظام المالي الاسلامي المتطهر من سوأة الربا من ضمانات بالمقارنة مع الاقتصاد التقليدي أي الربوي، وهو ما دفع بلدا يتوفر على ثالث اقتصاد عالمي هو انغلترا على افتتاح بنك اسلامي بريطاني كما دفع كبريات البنوك الدولية مثل سيتي بنك وباركليز بنك وغيرها على فتح فروع لها تعمل وفق الشريعة الاسلامية.

ومن جهة أخرى أمكن للاسلاميين الذين قادوا كبريات النقابات المصرية مثل نقابات الاطباء والمحامين والصيادلة والجامعيين ..الخ، أن يثبتوا جدارة متميزة في الارتقاء بمستوى الخدمات في تلك النقابات وهوما أكسبهم ثقة قواعدها، ولولا أن الاخوان حدّوا من مستوى مشاركتهم :الثلث لوقعت كل النقابات بأيديهم، ولا يختلف ذلك عن مستوى إدارتهم للمدارس الخاصة، وهو ما يفسر شدة التنافس والطلب عليها.

أما إدارتهم للبلديات ونهوضهم بها فالمثال التركي ناصع تشهد عليه بلدية استنبول التي رفعهم أداؤهم الراقي فيها وفي المدن التركية الكبرى التي كانت بلدياتها تعاني حالة البؤس والافلاس زمن القيادات العلمانية اليساريةواليمينية، رفعهم الى سدة الحكم بانفراد، ليحققوا في المستوى الاقتصادي نهوضا غير مسبوق أمكنهم به أن يعيدوا للعملة التركية اعتبارها حتى حذف منها ست أسفار لم تكن تعني شيئا مذكورا.

وخفضوا ديون تركيا بنسبة الثلث خلال ثلاث سنوات، وكذلك فعلوا مع التضخم والبطالة. وليس وراء هذه النجاحات من سبب واضح غير  الاسلام، باعتباره العنصر الفارق.

فالاسلاميون مثل زملائهم العلمانيين درسوا في نفس الجامعات متمكنون مثلهم من نفس العلوم والتقنيات والمعارف الحديثة، غير أنهم يتفوقون عليهم بأمرين: خطابهم هو الأقرب لأوسع قطاعات الجماهير، لأنهم يخاطبونهم بمفاهيم وقيم ومواريث متغلغلة في أعماقهم بينما العلماني كأنه يخاطبهم من مكان بعيد فلا يحرك فيهم شيئا كبيرا وتتقاصر عن الاسلامي قدرته على تعبئتهم وتحريكهم في اتجاه ما يريد من اهداف.

والعامل الثاني: أن سلوك الاسلامي يوحي بالثقة أكثر من غيره لأنه يجسم النموذج المستقر في أعماق الجماهير لما ينبغي أن يكون عليه الانسان المسلم، برّا بوالديه واقاربه وجيرانه صادقا في معاملاته، مؤثرا على نفسه، تقيا ورعا، يؤمهم في المساجد ويشهد جنائزهم وافراحهم، ويجدونه الى جوارهم كلما حزبهم أمر وحلّت بهم النكبات وما أكثرها.وكل ذلك راجع الى الاسلام.

والعامل الثالث الفارق المنحدر من الاسلام عامل تربوي قيمي يتمثل فيما يمتلكه من قدرات على ضبط الاندفاع  نحو الاستهلاك بما لا يدع نصيبا للادخار الضروري لكل نمو.

وغالبا ما لا يقف النهم للستهلاك عند حد الدخل المتوفر للافراد بمن فيهم القائمون على مؤسسات الدولة، فتمتد أيديهم لتوظيفها لمنافعم الشخصية وأسرهم وأحزابهم، بينما الاسلام يربي أهله على التقلّل ويلزمهم بالحلال شرطا لقبول عباداتهم، فيكبح جماح الاستهلاك، وينذرهم بأشد العقاب إذا هم ولغوا في الحرام، مما يشكّل عاملا تنمويا مهما جدا لا يمتلكه غير الاسلاميين، إضافة الى وسائل الرقابة في المجتمعات الديمقراطية، التي لم تجد كثيرا في الحد من كبح الفساد آفة النظم المعاصرة.

أما في ظل الانظمة الدكتاورية فيجتمع غياب الرقابة القانونية مع غياب الرقابة الدينية فتكون كارثة الانهيار محتمة ولو بعد حين.

   إن نجاح الشيخ “نجم الدين أربكان” وتلاميذه غير المسبوق في تركيا في القضاء على آفة الفساد التي اجتاحت طبقةسياسية في جملة أحزابها الفساد المستفحل، سواء أكان ذلك خلال نهوضهم بتنمية بلديات مفلسة أم كان من خلال توليهم سلطة البلاد فرفعوا خلال سنوات معدودات من مستويات الدخول الفردية وحدّوا من  مستويات التضخم المتصاعدة ومن البطالة ووضعوا تركيا اقتصاديا وسياسيا وحقوقيا على طريق التمدن الحديث، يمثل شهادة نيرة للاسلام وما حققه من تجديد وتشبيب للنخبة السياسية الهرمة ،وهو ما ينجزه في كل مكان اليوم، بما يفرض اعتبار البرنامج الاقتصادي ليس مجرد مخططات أيا كانت دقتها وجماليتها بقدر ما هو قبل كل شيئ مشروع ثقافي تربوي انساني.يجمع بين الثقافة والسياسة والاقتصاد بين الصلاة والزكاة والشورى.

رابعا: تحاول حكوماتنا تحت ضغط خارجي صارم اقامةنظام اقتصادي راسمالي حر. ومعنى هذا في لغة الغربيين ايجاد نظام سياسي ديموقراطي يتسم بحرية الفرد في ابداء رايه وفي اختيار ممثليه وفي مزاولة مهنته وفي معاملاته الماديه مع غيره ، وفي اصدار قراراته الخاصه بانتاجه واستهلاكه. لذلك كان اول ما يتوحب عليها إن كانت جادة في الخروج من الامة من وهدة التخلف وكانت منطقية مع نفسها ان تزاوج بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية (الشورى الديمقراطية) وبين الزاد الضروري لكل انطلاق وخوض أي معركة بنجاح”وتزودوا فإن خير الزاد التقوى” ، اذ بدون ذلك لن تتمكن من تحقيق ما تعد به الشعب من رخاء اقتصادي وان قل ، فالحرية لا تتجزأ.ومقومات التنمية كذلك لا تتجزأ، الاقتصادية والسياسية والثقافية

  • لا تنمية مستدامة على أساس البعد الواحد:هذا منطق البديهة ، وهو ما قال به اصحاب المذهب الليبرالي في القرن التاسع عشر ، وهو عين ما يقوله معتنقوا هذا المذهب في هذا القرن ، وهو ما قال به الاسلام في القرن السابع، على أن يتأسس المشروع التنموي  في سياق فلسفة خلقية تعطي الاولوية للانسان فردا وجماعة بما يعنيه ذلك من رعاية التوازن بين حاجاته المادية والروحية والخلقية، واعتباره جزء من أسرة وجماعة ومجموع انساني وفي علاقة ضرورية ومصيرية بالبئة ، فما ينبغي التمركز حول بعد واحد منها في مشروع تنموي جاد مثل الربح المادي مقابل إهمال بقية الابعاد، كما فعلت وتفعل النماذج الراسمالية أو الاشتراكية . ولان السياسة الاقتصادية هي في ارفع مفاهيمها مشروع انساني ، فانها تحتاج مع التخطيط ومع التشريعات ومع الاستثمارات ومع التعليم والتكوين المهنى..وربما قبل ذلك كله الى جو سياسى مشجع،ومناخ نفسى مساعد ،وظروف اجتماعية هادئة ، وقوانين عادلة

ويمكن تلخيص كل ذلك فى ما اصطلح  على الاسلام بالشورى في معناها الواسع :المشاركة والتعاون والعدل والمساواة ، وهي المعاني التي انتهى اليه تطور الديمقراطية الاجتماعية فى معناهاالواسع والشامل، فعلى قدر ما تكون الحياة السياسيةشفافة وواضحة يعرف كل فرد ومؤسسة و تنظيم و هيئة.. مكانه ووحدوده  وواجباته وحقوقه،تكون الحياة الاقتصادية والانشطة المنتجة كذلك.

لهذا نقدر ان الشرط الاساسى لنجاح سياسة اقتصادية ان يسود المجتمع جو الجدية والثقة والامان والطمانينة،إلا أن ذلك لايكفى وحده لانتاج القمح والأدب والموادالاسهلاكية ،بل هو مجرد  حافز لاغنى عنه .نحن نكتفى فى السياسات الاقتصاديةالتاكيد على ارتباط الاقتصاد بجملة المفاهيم العقائديةالاسلامية التى تؤطر كل مؤسسات المجتمع الثقافية والتربوية وسياسات الدولة الداخلية والخارجية.

  • سياسات لا تستشار فيها الشعوب مآلها الفشل: ان السياسة الاقتصادية المثلى هي التي تسن لصالح السواد الاعظم من المواطنين و بموافقة غالبيتهم فى جو من الحرية والشفافية،وان كل ماعدى ذلك استبداد بجمهرة الناس لصالح القلة  المسيطرة المدعومة من مراكز القوة الدولية لفئة  مما يهدد التوازن والسلم الاجتماعى و يدمر مؤسسات المجتمع والبئة ويضع بلادا عدة  فى حرب اهلية أو على حافتها وهو عين ما يحدث الان فى معظم بلاد العرب باسم الاصلاح الهيكلي تحت ضغوط منظمات دولية بدعاوى تحرير الاقتصاد ،وهى السياسة ذاتها التى اقتضت الدعم الغربي لأشد الانظمة دكتاتورية وفسادا، فطبقت سياسات الطوارئ – معلنة أو غير معلنة-في أكثر من بلد مثل مصر وتونس وسوريا والعراق والجزائر ، وسحقت صناديق الاقتراع ومعها الفائزين مثل جماعة الجبهة في الجزائر والنهضة في تونس والحركة النقابية والجمعياتية والصحافة ..والإعداد لسحق الاخوان في مصر وفي فلسطين وغيرها جار.. من أجل تسهيل تمرير السياسات الراسمالية الدولية والتسويات الظالمة وسحق أمل الشعوب في تنمية مستقلة لصالح الشعوب وحرياتها  وانعتاقها من التبعية. مع أن الكثير من ذلك قد جرب ولم يفض شيء منه  لا الى تنمية حقيقية ولا كان له انعكاس إيجابي على العلاقات الدولية وبالاخص علاقة الاسلام بالغرب بل كان الوقود الاساسي المفجر لموجات الارهاب، فليس على غير العدالة الالهية يمكن أن يرتفع بناء ويدوم ويسعد.
  • الأولوية للحرية المسؤولة:ان أولى الاجراءات الواجب اتخاذها في حكومة ديمقراطية،هى اعادة الكلمة للمجتمع والمواطن لتنظيم صفوفه من اجل المساهمة الحقيقية فى تطوير الحياة القتصادية واطلاق المبادرة فى اطار قيم الاسلام وعدالته ، وفرض الحريات العامة والخاصة ،ودعم مؤسات المجتمع ،والحد من هيمنة الدولة ،وتعبئة عناصر المقاومة والتحدى لدى شعوبنا من اجل تنمية مستقلة متوازنة فى اطر وبواعث عقدية وسياسية معبرة عن ارادة وضمير امتنا ،تعيد التوازن بين الدولة والمجتمع لصالح هذ الاخير ،واستقلاله واكتفائه واستغنائه عنها فى معظم مقومات حياته ، فينهض العمل الاقتصادي ضمن نهضة شاملة ، تضمن تحرير الفرد والمجتمع من هيمنةالدولة ومن نهم التنين الراسمالي العولمي، بما يقصر تدخل الدولة على سد الثغرات،ولكن دون المس بحرية الافراد ومبادراتهم الفردية والاجتماعية، بل يؤسس ويدعم سلطة الامة على حكامها وتحريرها من التبعية للخارج ، وتحقيق عزتها ووحدتها ، وتحرير اراضيها وارادتها ، ونصرة كل مظلوم ، واطعام كل جائع وستر كل عار ودواء لكل مريض وتعليما لكل جاهل.. على ان تتم عملية تحجيم الحكومة بالتدرج على  قدر ما يحققه المجتمع من استقلال واستغناء.. ذلك ان عدم توافر الكفاية للمواطن يفرض وضعا استثنائيا تستباح فيه الملكيه الخاصة – كما سبق – وتعطل الحدود او بعضها، إذ الاولوية في مثل أوضاعنا  وأوضاع العالم هي للحرية المسؤولة (الشورى) أي المشاركة في اتخاذ القرار على كل المستويات بدء بالاسرة الى المسجد والنقابة والحزب وانتهاء الى الدولة والى المؤسسات الدولية، الاولوية كذلك للعدالة والوحدة في كل المستويات ومقاومة نزوعات الهيمنة في كل أشكالها.

سأل الخليفة “عمر بن الخطاب” رضى الله عنه وهو يودع احد عماله : ( ماذا تفعل اذا جاء سارق) قال: (اقطع يده)، فرد عليه عمر : ( فان جاءني منهم عاطل أوجائع فسوف يقطع عمر يدك ياهذا ، ان الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ونسترعورتهم ونوفر لهم حرفهم ، فاذا اعطيناهم  هذه النعم تقاضيناهم شكرها ، ياهذا ، ان الله خلق الايدي لتعمل ، فاذا لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية اعمالا ، فاشغلها بالطاعة قبل ان تشغلك بالمعصية ).

                                                                                       راشد الغنوشي

[1] حسن البنا ، مجموعة الرسائل .

[2] ” سورة النساء ”  الاية 5

[3] ” سورة البقرة ” ، الاية 219.

[4] هويدي ،القران والسلطان ،ص 225.

[5]  الترابي ، ” الشورى والديموقراصيه : اشكالات المصطلح والمفهوم “.

[6] انظر : اسماعيل الفاروقي في   :المسلم المعاصر، العدد 22 . ولا شك ان الفاروقي لا يتحدث عن اى اشباع وانما الاشباع الطيب لجميع الناس. وتاتي اهميته من انه مما يزيل هم الدنيا والتنافس حولها ويوفر مناخا ملائما  لزرع معاني الاخوة والرحمة والترقي الروحي والفكري والخلقي على اوسع نطاق ممكن.

[7] ..الحريات العامة في الدولة الاسلامية للمؤلف…

([8]) فتحي عثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي، ص294.

([9]) القرآن الكريم، “سورة الحجرات” الآية 10.

([10]) المصدر نفسه، “سورة الأنفال” الآية 75.

([11]) المصدر نفسه، “سورة النساء” الآية 36.

([12]) أبو عبيدة، كتاب الأموال، ويعقوب بن إبراهيم أبو يوسف، كتاب الخراج(بولاق: المطبعة السلفية، 1352هـ).

([13]) انظر على سبيل المثال: منير شفيق، أطروحات علمانية(تونس: دار البوارق)، ومحسن الميلي، ظاهرة اليسار الإسلامي(قرطاج: مطبعة تونس، 1985).

([14]) يقول عبد الاله بن كيران: “إن الوهابية ليست إلا سلفية من بين سلفيات أما بالنسبة إلينا فالسلفية هي النظر الموضوعي في نصوص الإسلام”. نقلاً عن:

Francois Burgat .ed., L’Islamisme au Maghreb: La Voix du sud, les Ariques (Paris: Kartala, 1988) ,p. 33.

([15]) قال ابن حزم: “من عطش فخاف الموت فرض عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه، ولا يحل لمسلم اضطر أن يأكل ميته أو لحم خنزير وهو يجد طعاماً فيه فضل عن صاحبه، لأنه فرض على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وله أن يقاتل عن ذلك فإن قتل(الجائع) فعلى قاتله القود(أي القصاص) وإن قتل(المانع)فإلى لعنة الله، لأنه منع حقاً وهو طائفة باغية… قال تعالى]فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ..[. ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، انظر: ابن حزم، المحلى.

([16])القرآن الكريم، “سورة الماعون” الآيات 4-7.

([17]) أحمد بن محمد الدردير، الشرح الكبير على متن خليل، وعثمان، أصول الفكر السياسي الإسلامي ، ص 300.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق