قرارات المجلس

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

قرارات الدورة السادسة

دبلن – أيرلندا

28 جمادى الأولى – 3 جمادى الآخرة 1421هـ، الموافق لـ 28 أغسطس – 1 سبتمبر 2000م

قرار 19 (3/6)

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

مما لا شك أن هذه القضية مهمة وحساسة، وبخاصة للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وقد ورد إلى المجلس أسئلة كثيرة من الإخوة والأخوات، الذين يعيشون في هذه البلاد الأوروبية، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الرحمن والمصاهرة والجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم      فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ!

ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يؤذونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟

إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9].

ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم:

فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلًا وإحسانًا.

وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: (أن تبروهم) وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).

وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: “صلي أمك”(1).

هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.

حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].

ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره، وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].

ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54].

ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة وما لها من حقوق مؤكدة على ولدها في الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟ وما موقفه من أقاربه من جهة أمه، مثل الجد والجدة، والخال والخالة، وأولاد الأخوال والخالات، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى، وقد قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 76]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 91].

فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم، ورحابة صدره، ووفاءه لأرحامه، فإن الحقوق الأخرى توجب على المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أبا ذر بقوله: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”(2)ـ هكذا قال: “خالق الناس” ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من (العنف) والخشونة في ذلك.

ولما دخل بعض اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، ولووا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: (السام) عليك يا محمد، ومعنى (السام): الهلاك والموت، وسمعتهم عائشة، فقالت: وعليكم السام واللعنة، فلامها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال: “مهلًا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله”. فقالت: يا نبي الله، أولم تسمع ما يقولون؟ قال: “أولم تسمعي أني أرد ذلك عليهم، فأقول: وعليكم”(3).

وتتأكد مشروعية تهنئة غير المسلمين بهذه المناسبة إذا كانوا يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].

ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرمًا، وأدنى حظًا من حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظًا، والأكمل خلقًا، كما جاء في الحديث “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا”(4)، وكما قال عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”(5).

ويتأكد هذا إذا أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم المسلمين، وهذا واجب علينا، فهذا لا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم بل بحسن التواصل.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، كريم العشرة، مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه. حتى إنهم لثقتهم به عليه الصلاة والسلام كانوا يودعون عنده ودائعهم التي يخافون عليها، حتى إنه صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، ترك عليًا رضي الله عنه، وأمره برد الودائع إلى أصحابها.

فلا مانع إذن أن يهنئهم الفرد المسلم أو المركز الإسلامي بالكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات، والتي لا تشتمل على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك.

ولا مانع من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا غير المسلمين مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره(6)، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير.

ونذكر هنا أن بعض الفقهاء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم قد شددوا في مسألة أعياد المشركين وأهل الكتاب والمشاركة فيها، ونحن معهم في عدم احتفال المسلمين بأعياد المشركين وأهل الكتاب الدينية، كما نرى بعض المسلمين الغافلين يحتفلون بـ(الكريسماس) كما يحتفلون بعيد الفطر وعيد الأضحى، وربما أكثر، وهذا لا يجوز، فنحن لنا أعيادنا، وهم لهم أعيادهم، ولكن لا نرى بأسًا من تهنئتهم بأعيادهم لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة التي يقرها العرف السليم، كما تقدم.

أما الأعياد الوطنية والاجتماعية، مثل عيد الاستقلال، أو الوحدة، أو الطفولة والأمومة ونحو ذلك، فليس هناك أي حرج على المسلم أن يهنئ بها أو يشارك فيها، باعتباره مواطنًا أو مقيمًا في هذه الديار على أن يجتنب المحرمات التي تقع في تلك المناسبات.


(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 2477، 3012، 5633، 5634)؛ ومسلم (رقم: 1003).

(2) أخرجه أحمد (رقم: 21354، 21403، 21536)؛ والترمذي (رقم: 1987)؛ والدارمي (رقم: 2688)؛ والحاكم (رقم: 178)، من حديث أبي ذر. قال الترمذي: “حديث حسن صحيح”، وصححه الحاكم.

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 6032)؛ ومسلم (رقم: 2165)، من حديث عائشة.

(4) أخرجه أحمد (رقم: 7402، 10106، 10817)؛ وأبو داود (رقم: 4682)؛ والترمذي (رقم: 1162)؛ والدارمي (رقم: 2689)، من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”.

(5) أخرجه أحمد (رقم: 8952)؛ والبخاري في “الأدب المفرد” (رقم: 273)؛ والبزار (رقم: 2470 – كشف الأستار) واللفظ له، وإسناده صحيح. وصححه ابن عبدالبر في “التمهيد” (24/333).

(6) الأخبار في ذلك مستفيضة، ودلالتها صحيحة ثابتة، ساقها الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” سياقًا جيدًا في موضعين (6/399 و11/128).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق