البحوث

دور المؤسسات الإسلامية في أوروبا في عملية الاندماج

دور المؤسسات الإسلامية في أوروبا في عملية الاندماج

“شكيب بن مخلوف”

رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا

سراييفو (البوسنة والهرسك)

غرة جمادى الأولى 1428 هـ / 17 مايو 2007 هـ

المحتويات

* توطـئـة: دور المؤسسات الإسلامية في تعزيز فكرة الاندماج الإيجابي

* دور المؤسسات الإسـلامية في عملية الاندمـاج:

 أولاً) على المستـوى المفاهيـمي.

ثانياً) على مستـوى المقـاربة الواقـعـية:

أ) صلة الاندماج بالحوار

ب) صلة الاندماج بالمشاركة

جـ) صلة الاندماج بتكافؤ الفرص

 ثالثاً) على المستـوى العمـلي:

1) الاندماج في بيئة مؤسسية معقّدة

2) الاندماج الداخلي حلقة من حلقات الاندماج

3) الاندماج مسؤولية مشتركة

 توطـئـة: دور المؤسسات الإسلامية في تعزيز فكرة الاندماج الإيجابي:

لم تنشأ فكرة “الاندماج” بالنسبة لمسلمي أوروبا من فراغ. فعلى إثر التحولات الديمغرافية (السكانية) التي أفرزتها الهجرة في المقام الأول، برزت تساؤلاتٌ في عديد البلدان الأوروبية الغربية، عن كيفية إدارة العلاقة بين مكوِّنات مجتمعات القارّة الذي باتت أكثر تعدّدية.

ولم تكن تلك التساؤلات بمنأى عن بعض مكامن القلق، الناشئة من مخافة تَبلوُر مجتمعات موازية أو جيوب معزولة عن الإطار العام للمجتمع، جرى أحياناً التعبير عنها مجازاً بلفظة “الغيتو”، ذات الوقع السلبي في التجربة التاريخية الأوروبية.

وإذا كانت تلك التساؤلات قد تعلّقت ابتداءً بمن يُوصَفون بأنهم “أجانب” أو “مهاجرين” بشكل عام؛ فإنّ المسلمين قد وُضعوا في أحيان كثيرة في بؤرتها، خاصة بالنظر إلى ذلك الانطباع التقليدي الواهي، التي يعتبر الشرق الإسلامي والمتحدرين منه مقابلاً للغرب الأوروبي وقاطنيه الأصليين.

ورغم أنّ تلك المقابلة، أو حتى التضاد، لا ينهضان على أرضية صلبة من الحجج، بالنظر إلى المشترك القائم في الماضي والحاضر بين “الشرق” و”الغرب”، وبعض صور التداخل، والتواصل الإيجابي في ما بينهما؛ فإنّ مسلمي أوروبا، وفي الأساس المتحدرون منهم من خلفية هجرة، باتوا، ربما أكثر من غيرهم، في مواجهة استحقاق الاندماج، أسوة بغيرهم من فئات المجتمع الأخرى التي لا يُرجَى تقوقعها على ذاتها أو تمركزها في الهامش.

ومن نافلة القول؛ أنّ فكرة الاندماج، على نحو مبسّط، تنهض على أرضية الحاجة إلى إبقاء المجتمع في حالة تواصل داخلي بين شتى قطاعاته، وبحيث ينضوي المجموع في نطاق مشترك من القيم العامة والنظم المرعية. ومن الواضح أنّ الاندماج باعتباره مفهوماً فضفاضاً وغير محدّد؛ يبقى مثيراً للتفسيرات والتأويلات، بما أنشأ حالة واضحة من التفاوت في المقصود به، من مدرسة فكرية أو فلسفية إلى أخرى، ومن خط سياسيّ أو مجتمعيّ إلى آخر. ولعلّ ذلك ما دفع المؤسسات الإسلامية التي تناولت فكرة الاندماج إلى إلحاقه بوصف “الإيجابي”، بحيث أصبح “الاندماج الإيجابي” هدفاً من الأهداف التي يسترعيها طيفٌ واسع من مؤسسات المسلمين في القارة الأوروبية، والتي تمثل بدورها التيار الرئيس في أوساطهم.

وإنّ منظور المؤسسات الإسلامية للاندماج، تلتقي في واقع الأمر، وبدرجة كبيرة، مع ما تنادي به العديد من الأطراف والأصوات في الفضاء المجتمعي، وحتى السياسي أحياناً، في المشهد الأوروبي العام. ويبقى الحوار والتواصل، وفعل الحضور والمشاركة، سبيلاً لا غنى عنه للتوافق على تصوّرات جامعة وبرامج عمل مشتركة والوصول إلى كلمة سواء، في ما يتعلق بعملية الاندماج، وبما يتفرع عنها أو يتصل بها من مسائل.

وإذ لا يخفى أنّ مسألة الاندماج هي من الشواغل المتجدِّدة للمسلمين في أوروبا. فإننا في “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا”، نُعرِب عن ثقتنا بأنّ المسلمين في هذه القارة، بصفتهم مواطنين أوروبيين، يعتبرون أنّ من واجبهم أن يعملوا من أجل الصالحِ العام، وأن يكون حرصُهم على أداء واجباتهم كحرصهم على المطالبة بحقوقهم. ونحن ندرِكُ في هذا السياق؛ أنّ من مقتضياتِ الفهمِ الإسلاميِّ السليم؛ أن يكون المسلمُ مواطناً فاعلاً في الحياة الاجتماعية، منتجاً ومبادراً وساعياً لنفع غيره.

ويودّ “اتحادُ المنظمات الإسلامية في أوروبا”، أن يؤكِّدَ موقفَه المبدئيّ الذي طالما عبّر عنه، من أنّ المسلمين مدعوّون إلى الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم، اندماجاً يقوم على التوازن بين الحفاظ على هويتهم الدينية ومقتضيات المواطنة.

ومن نافلة القول؛ أنّ المسلمين في أوروبا، وهم يعيشون في مجتمعات متعددة المذاهب الدينية والفلسفية؛ يؤكدون احترامَهم لهذه التعددية، وهم يعتقدون بأنّ الإسلام يُقِرّ مبدأَ التنوّع والاختلاف بين الناس، ولا يضيق بواقع التعددية القائم بينهم، بل يدعو إلى التعارف والتعاون والتكامل بين أبناء المجتمع الواحد.

إنّ هذا الطرح الذي أسلفت ليس خواطر عابرة؛ بل يتعلق الأمر بمنطلقات وتوجهات، أكدناها في الاتحاد، وشدّدنا عليها مع شركائنا في ساحة المؤسسات الإسلامية على امتداد القارة، مثل ما ورد بصفة خاصة في “ميثاق المسلمين في أوروبا”.

 دور المؤسّسـات الإسـلامية في عمليـة الاندمـاج:

يمكن تحديد دور المؤسسات الإسلامية في الاندماج، ضمن ثلاثة مستويات، هي:

  • المستوى المفاهبمي.
  • مستوى المقاربة الواقعية.
  • المستوى العملي.

وفي ما يلي تناولٌ لملامح من دور المؤسسات الإسلامية في عملية الاندماج عبر تلك المستويات، مع التمثيل لذلك ببعض النماذج الموجزة. 

أولاً) على المستـوى المفاهيـمي:

يتمثّل دور المؤسسات الإسلامية في ما يتعلق بعملية الاندماج على الصعيد المفاهيمي؛ في الإسهام في صياغة المفهوم المتعلق بالاندماج من جوانبه المتعددة.

فالاندماج شأنه شأن عديد المفاهيم الأخرى، التي تحتاج إلى توضيحٍ لكُنهها، وتحديد للمراد بها، وتفسير لمقاصدها. وإنّ ذلك ليستدعي إسهاماً من جانب المؤسسات الإسلامية في صياغة المفهوم المتعلق بالاندماج، كي لا تتحوّل هذه المُفرَدةُ إلى عنوانٍ بلا فحوى أو شعارٍ بلا مضمون.

وفي واقع الأمر؛ فإنّ المؤسسات الإسلامية في أوروبا لم تتخلّ عن دورها في هذا الاتجاه، بل تناولت الاندماج في مدارساتها وأدبياتها ومؤتمراتها وندواتها وإصداراتها، وهو ما يتضح بشكل جلي بالنسبة لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا ومؤسساته الأعضاء منذ خمسة عشر عاماً على الأقل.

وقد تطوّر التناولُ لموضوع الاندماج وتعمّق، فأصبح هناك نسقٌ من المفردات والمفاهيم ذات الصلة به، كـ”التوطين” (توطين الحضور المسلم في الواقع الأوروبي) و”المواطنة” (المواطنة الصالحة للمسلم في مجتمعه الأوروبي الذي ينتمي إليه)، و”المشاركة” (المشاركة المجتمعية وكذلك المشاركة السياسية)، و”تكافؤ الفرص”. وقد انتقل الأمر من حيِّز المداولات التي تجري في فضاءات مسلمة أوروبية متفرِّقة؛ إلى المدارسات والمشاورات في الفضاء المسلم الأوروبي العريض، حيث صدرت إعلاناتٌ عدّة، وانتهى الأمرُ إلى مواثيق، نستحضر منها “ميثاق المسلمين في أوروبا” لعام 1427 هـ / موافق 2006 م.

ولعلّ من بين ما يلفت الانتباه؛ أنّ المؤسسات الإسلامية لم تنكفئ على الذات خلال إسهامها في صياغة المفهوم، بل هي في الوقت الذي أخذت تقدِّم فيه تصوّراتٍ ومقترحات كأرضيةٍ للنقاش؛ فإنها سعت قدر الوسع إلى توفير بعض الأطر والمنابر لأهل العلم والنظر، وأصحاب الفكر والرأي، من المسلمين وغير المسلمين، لإنضاج التداول بشأن مسألة الاندماج وما يتفرّع عنها أو يتّصل بها من مسائل.

ويتضح ذلك، على سبيل المثال، في الدور الذي اضطلعت به المؤتمراتُ والندواتُ، وكذلك حلقات النقاش والأيام الدراسية وحتى ورش العمل، التي التأمت طوال عقد ونصف العقد من الزمن، فضلاً عن عديد الإصدارات المطبوعة التي كانت أشبه بمنابر لتناولِ هذه المسائل من زوايا عدّة.

وأحسب أنّ واحداً من أنصع النماذج على ذلك الإسهام المتعلق بصياغة المفهوم؛ هو قيام “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث”، الذي يفتتح اليوم عشريته الثانية المباركة بعونه تعالى، خاصة وأنّ مجالات اهتمام المجلس تتّصل بمطلب “التأصيل”، الذي لا يمكن المضيُّ في نهج اندماجِ المسلمين ومواطنتهم بمعزل عنه.

ثانياً) على مستـوى المقـاربة الواقـعيّـة:

على صعيد المقاربة بين المفهوم والواقع؛ فإنّ ما ينبغي استحضارُه ابتداءً؛ أنّ المفاهيم المجرّدة عن الواقع، أو المعزولة عنه، لا تتأهّل لملامسته أو التأثير فيه. ولذا فإنّ مفهوم الاندماج، وما يتفرّع عنه أو يتّصل به؛ لا ينبغي أن يكون حبيس الأَروِقة أو أسيرَ النُّخَب (الصفوة)، بل ينبغي أن ينطلق أيضاً من الواقع ويتنزّل عليه كذلك بحكمة.

وأحسب أنّ فكرة الاندماج، كما حضرت على الأقلّ في تناول المؤسسات الإسلامية الوسطية في هذه القارة؛ لم تحتجب عن واقعها أو تنقطع عنه، خاصة وأنها في الأصل شاغلٌ من الشواغل العامة التي تعيشها الأسرة المسلمة في أوروبا مثلاً، ويواجهها الشاب والفتاة الناشئان في مجتمع لا تتطابق ملامحه مع مجتمع النشأة الذي عرفه الآباء والأجداد. أي أنّ ما يمكن وصفه مجازاً بـ”الموقف من المجتمع” أو “مسألة الانتماء”، هو سؤال قد يُطرَح في الفضاء المجتمعي لمسلمي أوروبا بشكل اعتيادي وتلقائي، تبعاً لمسألة الهوية، أو حتى لمجرد كون الاندماج مادةً للجدل العام في الساحتين السياسية والمجتمعية في عديد البلدان الأوروبية الغربية والوسطى، منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين وحتى اليوم.

ولكنّ ذلك لا ينهض وحدُه بمطلب المقاربة الواقعية؛ إذ:

ـ لا بدّ من أن يراعي مفهومُ الاندماج؛ الواقعَ موضع الاهتمام، بأبعاده المتشعِّبه وتفاصيله.

ـ ولا بدّ من تكييف المقاربة النظرية مع الواقع العملي، وتهيئتها لأن تتنزل على أرض الواقع بطريقة سليمة وبما ينسجم مع المقصد.

ـ ولا بدّ أيضاً من استمرار النظر والمعالجة للمفهوم، أخذاً بعين الاعتبار ما يستجدّ أو يطرأ، وهو ما يكتسب أهمية خاصة بالنظر إلى بعض التطوّرات والمنعطفات التي عرفها الوجودُ المسلم في أوروبا منذ سنة 2001.

ـ كما يتوجب، زيادة على ما سبق، إدراكُ أنّ الاندماج له متطلباته واستحقاقاته، وطريقه مفروشة بالتحديات وربما بالعوائق والمشاقّ أحياناً، لكن هناك محفزِّات تحفزه وعوامل تنشطه بالمقابل.

وإنّ من مقتضيات تنزيل الفكرة على الواقع وتكييفها معه؛ أن يجري التعرّف على تلك العوامل والموثِّرات وأخذها بعناية على محمل الجدّ، والسعي للتعامل معها حسب ما يتطلّب الأمر.

دور المؤسسات الإسلامية في أوروبا في عملية الاندماج  "شكيب بن مخلوف"  دور المؤسسات الإسلامية في أوروبا في عملية الاندماج 58315 811

ـ ولابدّ من طرح التساؤلات الجادة والناقدة، الرامية لتوصيف المشكلات والعوائق والصعوبات، بما يتيح المجال لمعالجتها بكيفية أنجع. 

وكمثال على المقاربة الواقعية؛ فإنه لا مناص من ربط مطلب الاندماج بأبعاد، أو أدوار، ينبغي النظرُ إليها باعتبارها وثيقة الصلة بتحقّق الاندماج الإيجابي المنشود والتمكين له، وقطع الطريق على نذر العزلة والتقوقع، أو الذوبان وتلاشي الحضور الإيجابي. ومن هذه الأبعاد، على سبيل المثال لا الحصر، صلة الاندماج بالحوار، وصلته بالمشاركة، وكذلك بتكافؤ الفرص:

 أ) صلة الاندماج بالحوار:

إنّ الحوار لازمة لا غنى عنها لعملية الاندماج، في شتى مراحلها ومستوياتها. فالاندماج بدءاً من كونه فكرة، إنما ينبغي إنضاجها على المستوى المفهومي على أرضية الحوار الذي يتيح اتساعاً في الرؤية وانفتاحاً للمعالجة على واقع حافل بالتشابك وربما بالتعقيد.

وسواء تعلّق الأمر بالمؤسسات الإسلامية، أم بصانعي القرار على المستوى السياسي مثلاً؛ فإنّ استبعاد الحوار من مسعى الاندماج لا يُقرِّب من المقصد الإيجابي بل يُباعِد المسافات عنه، ويؤدي إلى حالات مؤسفة من الانسداد في قنوات التواصل والتفاهم ضمن المجتمع الكبير.

ومن الاستحقاقات التي يرتبها الحوار أيضاً؛ أن يتم التواصل المنفتح مع قطاعات الجمهور المعني كافة خلال أطوار عملية الاندماج.

ولا ريب أنّ ذلك يُفيد، أيّما إفادة بإذن الله، في جعل توجّهاتِ الاندماج منسجمةً مع الواقع، علاوة على أنّ الحوار يعين على تقبّل الجمهور للفكرة وإقباله عليها والمضيّ في ما يستتبعها من استحقاقات والتزامات وأدوار.

ب) صلة الاندماج بالمشاركة:

إنّ التوجّه إلى الاندماج الإيجابي، يقتضي تفاعلاً إيجابياً من قبيل “المشاركة”، ويشمل مطلبُ المشاركة؛ الانتشارَ الحميدَ في شتى مجالات الفعل المجتمعي البنّاء، بما في ذلك المشاركة السياسية.

ولا ريب أنّ المشاركة تقتضي، من جانبٍ، إقبالاً عليها، ومن جانب آخر، تذليل أية صعاب يمكن أن تكمن في طريقها، بحيث يجري إفساحُ المجال أمام حالةٍ إيجابية ومُثمرةٍ من المشاركة الفاعلة في شتى المجالات.

وليس من المبالغة الإقرارُ بأنّ المشاركةَ فضلاً عن كونها سبيلاً لا غنى عنه من سبل الاندماج الإيجابي؛ فإنها كذلك تمثل مؤشراً أساسياً على نجاحه.

ولعلّ ذلك تحديداً ما يشير إلى معيارٍ هام من معايير التفريق بين الاندماج الحميد والذوبان الذميم، فالأخير يَطمس الأثرَ ويُلغي الخصوصيات ويمحو التنوّع ويُقطع الطريقَ على الإثراء المتبادل ضمن النطاق المجتمعيّ العريض.

جـ) صلة الاندماج بتكافؤ الفرص:

إذا تبيّن ما تُمثِّله المشاركةُ من أهميةٍ للنهوض بالاندماج الإيجابي والتمكين له؛ فإنّ ذلك لا بدّ وأن يلفتَ الانتباهَ إلى أهميةِ العنايةِ بمطلب تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد.

إذ لا يخفى أنّ الاندماج على نحو عام والمشاركة على نحو خاص؛ يقتضيان ضمانَ الفرصِ المتكافئة للجميع، للتمكّن من الإسهام المستمر في شتى المجالات وعلى نحوٍ لائقٍ.

ومن الواضح أنّ تكافؤَ الفرص ليس بالمطلب المتيسِّر في غالب الأحوال، وهو ما يقتضي انصرافَ الاهتمام إلى العنايةِ بهذا المطلب الهام وتضافر الجهود لتعزيزه.

فالفرصُ المتاحة لأعضاء أي مجتمع، ترتبطُ بعوامل عدة، من بينها الخصوصيات التعليمية والثقافية، والمقدرات الاقتصادية والتمويلية، ومواصفات التموضع المجتمعي (حسب الشرائح والفئات داخل المجتمع الواحد)، فضلاً عن مواصفات البيئة السياسية والمجتمعية العامة.

ومن نافلة القول؛ أنّ المؤسسات الإسلامية في أوروبا، معنيةٌ بأن تشجِّع كافةَ الجهود الرامية للتحقّق من تكافؤ الفرص وتعزيزها في شتى المجالات، بما في ذلك إعلان الاتحاد الأوروبي عن العام الجاري (2007) باعتباره “السنة الأوروبية لتكافؤ الفرص للجميع”، وهو ما يقابله اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا بالترحيب، وينظر إليه باهتمام خاص. 

ثالثاً) على المستـوى العمـلي:

لعلّ أولى الخطوات العملية في أداء المؤسسات الإسلامية في ما يتعلق بالاندماج؛ هو التعريف بالفكرة وما هو مقصود منها، بناءً على الصياغة المفاهيمية المتحققة والمقاربة الواقعية التي ترتّبت على ذلك.

أي أنّ المؤسساتِ الإسلامية مُطالََبةٌ في هذا الصدد بإشاعة الفكرة الإيجابية والتعبير عن الموقف بصورة مؤثرة وحكيمة، ثم أن تبدأ بتنزيل مقتضياتها في واقعها هي ابتداءً، بالتعبير عن هذا المنظور وذلك الموقف في توجّهاتها وأدبيّاتها، وترجمةِ القولِ إلى فعل والشعار إلى مُمارَسة.

أما في خِضَمّ الأداء؛ فإنّ مطلب الاندماج، بشكل عام وعلى نحو تفصيليّ أيضاً، يُرتِّب جملةً من الأدوار والمسؤوليات على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا، يمكن إيجاز بعضها في ما يلي:

 1) الاندماج في بيئة مؤسسية معقّدة:

إذا كان الطابعُ المؤسسيّ من الخصائص الملموسة للبيئة الأوروبية، فإنّ ذلك مما لا يجدر تجاهلُه في سياق عملية الاندماج. فاندماج مجموعة بشرية، أو “طائفة” ما، في بلد أوروبي؛ لا يتحقّق بترك “الأفراد” وحيدين لينخرط كل منهم فرادى في النسق المجتمعي الزاخر بشكل يورث الفرد التيه وفقدان الرؤية أحياناً.

بل إنّ الأمر يتطلّب قدراً من التواصل والتعاون بين الأفراد، و”انخراطاً مؤسسياً” أيضاً. ويعني ذلك في حالة مسلمي أوروبا، قدرتَهم على التفاعل مع بيئةٍ تحفل بالمؤسسات وتقوم في عديد مساراتها على العمل المؤسسيّ.

ويقضي ذلك الانخراطُ المقصود، بالعناية ببعض المتطلبات التي تشجِّع عملية الاندماج من هذا الوجه، من قبيل:

أ) تهيئة الفرد المسلم على التعامل مع المؤسسات من حوله، والتفاعل معها، بصورة فاعلة وواعية:

فالبيئة المؤسسية الفاعلة؛ يُفترض فيها أنها تتيح المجال أمام استيعاب اهتمامات الجمهور وملاحظاتهم وانطباعاتهم، وكذلك مقترحاتهم وشكاواهم، أو حتى اعتراضاتهم بالطريقة الحسنة على ما لا يروق لهم.

ولا ريب أنّ قدرةَ الأفراد على التعبير عن مكنوناتهم بطريقة سليمةٍ وبنّاءة، عبر المسالك المنظورة لذلك؛ لهو مؤشِّرٌ من مؤشِّرات اندماجهم الإيجابي في مجتمعهم واكتراثهم بالتفاعل مع المحيط الذي يعيشون فيه.

ب ـ انتشار المسلمين في بيئة العمل المؤسسي القائمة وحضورهم فيها، وسعيهم لأداء أدوار إيجابية وخدمة الصالح العام من خلالها أيضاً:

ومن الشواهد على ذلك، على سبيل المثال؛ تقلّد مواقع خدمية أو مسؤولية في مؤسسات عامة، والحضور في الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعدم الانعزال عن الأوساط المؤسسية العامة والخاصة ومن قطاعات عدة، وغير ذلك.

وإنّ هذا الانتشار يرجى منه أن يعبِّر أيضاً عن شخصية تفاعلية مسؤولة، تبني وتنهض بالمجتمع، وترشِّد وتصوِّب وتساهم في الإصلاح والتطوير والنصح كلما لزم.

 جـ ـ نهوض بيئة مؤسسية معبِّرة عن المسلمين، في الفضاء المجتمعي العام:

فـ”الانخراط المؤسسي” يقتضي أن يكون للمسلمين حضورهم في المجتمع المدني (المجتمع الأهلي). ولا يتوقف الأمر على وجود مؤسسات إسلامية فاعلة وحسب؛ بل وأن تتوفر المؤسسات ذات الاهتمامات الجامعة، وتلك ذات الاهتمامات التخصصية أيضاً، بما تغطي مجالات الحاجة كافة، وينهض بالمتطلبات المتراكمة على شتى المسارات.

كما أنّ نهوض أطر تمثيلية فاعلة للمسلمين، أو هيئات تعبِّر عن “الشخصية القانونية أو الاعتبارية للطائفة المسلمة” في التعامل مع الدولة والمجتمع؛ هو مطلب أساسيّ في هذا السياق.

 د ـ تشكيل أطر معنية بالتواصل والتعاون، وكذلك التنسيق والشراكة:

والمُنتظر من تلك الأطر، أساساً، أن تجمعَ المؤسساتِ الإسلامية على مستوى الدول والأقاليم والمستوى الأوروبيّ القاريّ ككل، وكذلك وجود أطر أخرى تجمع المؤسسات الإسلامية بشركائها في المجتمع العريض على شتى المستويات، محلياً وقطرياً وقارياً، وهو ما يعزِّز من اندماج المؤسسات الإسلامية في النسيج المؤسسي المدني في البيئة الأوروبية.

2) “الاندماج الداخلي” حلقة من حلقات الاندماج:

ويُعني بذلك أنّ المؤسسات الإسلامية ينبغي وهي تمضي إلى تحفيز الاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية؛ أن لا تتجاهل مطلب انفتاحها هي (المؤسسات) على شرائح الوجود المسلم، وقدرتها على التعبير عن تلك الشرائح في أطرها وهياكلها المؤسسية.

ويقتضي ذلك، على سبيل المثال، ضمان التواصل الإيجابي بين الأجيال، في واقع المؤسسات الإسلامية، وكذلك حضور المرأة المسلمة في هذه المؤسسات، فضلاً عن تحاشي ما يمكن أن نصفه بـ “التموضع الطبقي” للمؤسسات الإسلامية، بل أن تكون أبوابها ومساراتها ومسالكها مفتوحة لجمهرة المسلمين في البيئات الأوروبية التي تعمل بها، بحيث لا تتحوّل إلى أطر صفوية (نخبوية) منغلقة على من فيها، أو ربما مفترقة إلى الشفافية والتجدّد.

وليس من فراغ يمكن للشكوك أن تثور بشأن قابلية المساهمة في تحقيق الاندماج إن لم تكن الأطر المؤسسية قادرة على التعبير عن جمهور متنوِّع.

ومن هنا؛ فإنّ “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا”، يولي عناية خاصة لمطلب التواصل بين الأجيال، أو ما يسمى أحياناً بـ”التوريث”، وتعزيز مساهمة المرأة المسلمة وكذلك الانفتاح على الجمهور وتلمّس اهتماماته واحتياجاته والتعبير عنها، وهو ما يفرض مزيداً من التطوير والجهود. ونرى أنّ ذلك، بالإجمال، يفرض تحدياً جادّاً على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا، إذا ما نشدت الدفع بعملية الاندماج قدماً.

3) الاندماج مسؤولية مشتركة:

لا ريب أنّ النهوض بعملية الاندماج، يقتضي إدراك طبيعتها التي تُرتِّب مسؤولياتٍ عدّة على عديد الأطراف، داخل ساحة المسلمين، وخارجها. ومن هنا؛ فإنّ تضافر هذه الأطراف وتعاونها، وقيامها بمسؤولياتها بشكل رشيد؛ يبقى مطلباً لا غنى عنه للمضي في هذه العملية، بما يستتبعها من متطلبات وما ينبني عليها من استحقاقات.

وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ التزامات جادّة تقع على عاتق المؤسسات الإسلامية لجهة مسؤوليتها في النهوض بالاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية، إلى جانب المسؤوليات المترتبة على شركاء الفضاء المجتمعي الكبير رسمياً وشعبياً، سياسياً ومدنياً، وفي شتى المجالات.

والله الموفق لما يحبّ ويرضى، وهو الهادي إلى سواء السبيل،،

                                                                               سراييفو

                                                                                        غرّة جمادى الأولى 1428 هـ

                                                                                         الموافق: السابع عشر من مايو 2007 م

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق