البحوث

الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية

الوطن والمواطنة

في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية

بقلم الأستاذ الدكتور/ يوسف القرضاوي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وخاتم النبيين، سيدنا محمد الرسول الأمين، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين… (وبعد)

فقد طلبت إلىَّ الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: أن أكتب بحثا حول (الوطن والمواطنة) وما يتعلَّق بهما من أحكام شرعية، في إطار عَقَدي ومقاصدي. لتفتتح به الندوة الفكرية الفقهية، التي تعقدها الأمانة حول موضوع المواطنة والاندماج بالنسبة للأقليات المسلمة في أوربة وغيرها، نظرا لما يثور حول هذه القضية الحسَّاسة من التباسات، وما يثار من تساؤلات، وما تتعارض به الإجابات، لتعارض الاجتهادات، واختلاف الدلالات.

وقد استعنتُ بالله تعالى، وكتبتُ هذه الصحائف، مستهديا بكتاب الله، وبسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومغترفا من بحر تراثنا الزاخر، الفقهي والأصولي والحديثي والتفسيري، ومتأمِّلا في الواقع وما يمور به من تيارات فكرية، وأحداث واقعية، ومواقف سياسية، واضطرابات بشرية.

رابطا الفروع بأصولها، والظواهر بمقاصدها، جامعا بين فقه النصِّ، وفقه الواقع، مبتهلا إلى الله تعالى أن يرزقنا نورا نمشي به في الظلمات، وفرقانا نميِّز به بين المتشابهات.

وقد رأيتُ أن أجعل هذه الدراسة في تمهيد حول الوطن والمواطنة، ثم في فصل أول عن مواطنة المسلم وغير المسلم في المجتمع المسلم، ثم في فصل ثان وأخير عن مواطنة المسلم في غير المجتمع المسلم.

أرجو أن أكون قد وفِّقتُ في إلقاء شعاع من ضوء على هذه القضية الكبيرة، يسهم في تجلية حقيقتها، وبيان خلاصة أحكامها، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].

                                                                               الفقير إليه تعالى:

                                                                                   يوسف القرضاوي

 

 تمهيدات حول الوطن والمواطنة

تعريف الوطن والمواطنة

الوطن والمواطنة في اللغة:

قال في القاموس: الوطن: منزل الإقامة (كالمَوطِن)، جمعه: أوطان. ووَطَن به، وأَوطَن: أقام. وأَوطَنه إيطانا، ووطَّنه توطينا. واستوطنه: إذا اتَّخذه وطنا، أي محلاًّ ومسكنا يُقيم فيه. وواطنه على الأمر: أضمر فعله معه. فإن أراد معنى (واثقه) قال: واطأه. قال: وهو مجاز.

وفي (المعجم الوسيط): الوطن: مكان إقامة الإنسان ومقرُّه، وُلد به أو لم يُولد.

ومما استدركه شارح القاموس على القاموس: توطَّنه، وتوطَّن به[2].

والغريب في هذه الاشتقاقات كلِّها: أنها لم يجئ فيها فعل (واطن) الذي اشتُقَّ منه اسم الفاعل (مواطن)، والذي مصدره القياسي (مواطنة).

وإنما جاء (واطن) بمعنى آخر مجازي بعيد عن المفهوم الذي نحن بصدده.

ولهذا قال في (المعجم الوسيط) الذي أصدره مجمع اللغة العربية: واطن القوم: عاش معهم في وطن واحد. (مُحدَثة) أي ليس لها أصل في كتب اللغة[3].

و(الوطنية): مصدر صناعي منسوب إلى الوطن، كما يقال: (القومية) نسبة إلى القوم، و(العالمية) نسبة إلى العالم، و(الإنسانية) نسبة إلى الإنسان. وكثير من هذه المفاهيم والمصطلحات هي من هذا النوع: مصادر صناعية، قد تزاد فيها أحيانا ألف ونون، مثل: النفسانية، نسبة إلى النفس، والعِلمانية نسبة إلى العِلْم، والشخصانية نسبة إلى الشخص.

الوطن والمواطنة

كان آدم وزوجه يسكنان الجنة، ويأكلان منها رغدا حيث شاءا، وكانت كلُّ حاجتهما مكفيَّة، كما قال الله تعالى لآدم في الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طـه:119،118].

فلما أهبط الله آدم وزوجه من الجنة، ليقوما وذريتهما بما قُدِّر لهما من الخلافة في الأرض وعمارتها، وعبادة الله فيها: كانت الأرض مهيَّأة لتكون كلُّها وطنا ومستقرًّا لآدم وذريَّته من بعده، ولهذا قال الله تعالى في القرآن مخاطبا آدم وزوجه وإبليس معهما: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [لأعراف:24].

وهكذا كانت الأرض كلُّها في أول الأمر وطنا لآدم وأولاده، لا تزاحم ولا تنافس، ولا اختصاص بمكان دون مكان.

فلما كثرت ذرية آدم وانتشرت، بدأ الناس يتجمَّعون في أماكن بحكم الطبيعة الاجتماعية للبشر، حتى قال الأقدمون: الإنسان مدني بطبعه. وقال المُحْدَثون والمعاصرون: الإنسان حيوان اجتماعي.

وكان الناس يتجمَّعون في بلدان أو قرى، ويتَّخذ كلٌّ منهم لنفسه ولأهله وولده بيتا، يأوي إليه، يكنُّه من القُرِّ والحرِّ، ويستره من أعين الناس، ويمارس فيه خصوصيته. ومن مجموع هذه البيوت تتكوَّن القرية، التي يترابط أهلها فيما بينهم بروابط شتَّى: كالنسب والمصاهرة والجوار والصداقة والزمالة في العمل، والاشتراك في تأمين حاجات القرية، والدفاع عنها.

ومن هذه القرية أو البلدة أو المدينة: بدأت قضية (الوطن). فحين تعدَّدت البلدان والقرى، واضطرَّ الإنسان لسبب أو لآخر أن يهاجر من بلده، لم ينسَ الموضع الأول الذي عاش فيه، وكوَّن به علاقات حميمة، من أهل وأصهار وأقارب وأصدقاء وأحبَّة، وأمسى مرتبطا عاطفيا بذلك المكان وأهله، كما عبَّر عن ذلك أبو تمام بقوله:

نقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوىما الحبُّ إلا للحبيب الأول!
كم منزل في الأرض يسكنه الفتىوحـنينه أبدا لأول منـزل!

       وكان الوطن أول الأمر يتعلَّق بتلك القرية أو المدينة، ثم لما تطوَّرت حياة البشر وعلاقاتهم، تكوَّنت أوطان أكبر من ذلك، تشمل إقليما كبيرا، ثم عدَّة أقاليم تنتظم تحت سلطان واحد يجمعها: ديني أو اجتماعي أو سياسي.

       على كلِّ حال، نرى فكرة (الوطن والوطنية) تقوم على حاجة الإنسان إلى المكان وارتباطه به، وهذا أمر طبيعي، فكلُّ كائن حيٍّ محتاج إلى مكان أو مأوى يلوذ به، فالوحوش لها جحورها، والطير لها أعشاشها. وقد نرى الطيور والأسماك ونحوها تسير المسافات الشاسعة، وقد تخترق البحار والمحيطات، ثم تعود إلى أماكنها الأولى، أي إلى أوطانها، لا تضلُّ طريقها إليها، بحاسة الهداية العامة التي منحها الله لكلِّ مخلوقاته: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طـه:50].

الحنين إلى الوطن فطرة:

ومن هنا كان حبُّ الوطن والحنين إليه فطرة بشرية، يشترك فيها الناس عامة، مؤمنهم وكافرهم، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم.

وقد قال ابن الرومي:

وحبَّب أوطانَ الرجال إليهمومآربُ قضَّاها الشباب هنـالكَ
إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهموعُهود الصبا فيها، فحنُّوا لذلكَ

وحين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، كانوا يحنُّون إلى مكة، ويشعرون بالشوق إليها، إلى ربوعها وجبالها ووديانها، وكلِّ ما فيها، ومرض بلال رضي الله عنه، فدخل عليه الرسول وهو ينشد ويقول:

ألا ليت شعري: هل أبيتنَّ ليلةبوادٍ، وحولي إذخـر وجليل؟
وهل أردنْ يوما مياه مَجَنـةوهل يبدونْ لي شامة وطَفِيل؟

يتمنَّى بلال أن يسعده القدر يوما بليلة يبيت فيها بهذا الوادي الذي قال عنه القرآن: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37]، وحوله حشيش الإذخر، وأن يجود عليه الدهر، فيَرِد مياه مَجَنَّة بمكة، ويظهر له شامة وطفيل، وهما من جبال مكة.

وهنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه: وقال: “اللهم حبِّب إلينا المدينة، كما حبَّبتَ مكة أو أشدَّ …”[4].

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، مخاطبا بلده وموطنه مكة عند خروجه منها مهاجرا: “والله، إنك لأحبُّ بلاد الله إلى الله، وأحبُّ بلاد الله إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجتُ”[5].

وإنما أخرجوه منها، لأنه تمسَّك بعقيدة التوحيد التي بعث بها، ولم يفرِّط فيها، ومن أجله ضحَّى بوطنه، ولو كان وطنه أغلى من عقيدته، لتنازل عن عقيدته، حتى لا يفقد وطنه.

بل إن القرآن ليفرض على المسلم الهجرة من وطنه الذي يُظلم فيه، ولا يمكَّن من إقامة فرائض ربِّه وشعائر دينه، باحثا عن مكان آخر في أرض الله الواسعة، يجد فيها حريته الدينية، وإذا لم يفعل ذلك، كان آثما عند الله، لرضاه بالهوان لنفسه ودينه طائعا مختارا، ما لم يكن عاجزا عن الهجرة لسبب من الأسباب، فهذا يُرجى له أن يعفوَ الله عنه.

يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

فانظر لهذا الوعيد الشديد الذي تضمَّنته الآية الأولى لمَن رضي بالظلم وأعرض عن الهجرة: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97]. وانظر كيف عبَّرت الآية الأخيرة عن جزاء المستضعفين بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، فلم تقطع بالعفو عنهم؛ لتظلَّ نفوس المؤمنين معلَّقة بالهجرة إذا حُرمت من العمل بدينها.

البدو والوطن:

والبدو أقلُّ الناس إحساسا بالوطن، لعدم استقرارهم ببقعة معيَّنة من الأرض، وترحالهم وراء العشب والكلأ والماء، فهم دائمو التنقل من مكان إلى مكان، كما قال الشاعر:

يومًا بحُزوى، ويوما بالعقيق وبالـعُذَيب يوما، ويومًا بالخليصاء!

ومع هذا نجد لهم اهتماما ببعض الأماكن التي حدثت لهم فيها خِبرات معيَّنة، ولا سيما ما يتعلَّق بخفقات القلوب بالحبِّ، وذكريات المشاعر الإنسانية التي تترك آثارها في أغوار النفوس! ولهذا نرى أشعارهم كثيرا ما تبدأ بالبكاء على الطُلُول، وما وراءها من ذكريات لا ينسيها اختلاف الليل والنهار. كما قال امرؤ القيس:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِبِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ

وقال طرفة:

لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِتَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ

وقال آخر:

لِمَيَّة موحشاً طلليلوح كأنه خلل

وهذا يدلُّ على أن الإنسان – بدويا كان أم حضريا – لا يمكن أن ينفكَّ تماما عن الارتباط بالمكان، وإن بدا رحَّالة طول الزمان!

محنة الإخراج من الوطن:

وارتباط الإنسان بوطنه قوي عميق، ولذا كان انتزاعه منه وإخراجه قسرا: أشبه بنزع الظفر من اللحم، وهو أمر مجرَّم في كلِّ الشرائع والقوانين. كما تجلَّى ذلك في القرآن الكريم.

فالقرآن يعبِّر عن (وطن) الإنسان أو القوم بكلمة (الديار)، ويرى خروج الإنسان – أو إخراجه – من دياره: جريمة كبرى، ومحنة عظمى، قرنها القرآن بقتل النفس، فخروج الإنسان من دياره كخروج الرُّوح من البدن، يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [النساء:66].

ويرى القرآن – في ضوء ما يعرضه من قصص الأمم الماضية للعبرة – أن من حقِّ الإنسان، وحقِّ الشعوب، بل من واجبها: أن تقاتل وتحمل السلاح، لتستردَّ أرضها وديارها – وبعبارة أخرى: وطنها – إذا أُخرجت منها.

يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246].

فانظر إلى هذه الجملة ودلالتها: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا}، فليس هناك أوجب للقتال وأدعى إلى الحرب، من الإخراج من الديار. وليس هناك أوجب من قتال الذين اغتصبوا الأرض، وأخرجوا منها أهلها، وحلُّوا محلَّهم، ظالمين مستكبرين في الأرض بغير الحقِّ.الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية  الوطن والمواطنة في ضوء الأصول العقدية والمقاصد الشرعية wa0E4

وهذا شرُّ ألوان الاستعمار والاستكبار في الأرض: أن يستولي على الأرض، ويطرد أهلها منها، ويحلُّ محلَّهم. فهو (استعمار استيطاني إحلالي)، مثل الاستعمار الصهيوني الإسرائيلي لفلسطين، وقد تفوَّق على الاستعمار الفرنسي في الجزائر، فقد كان استعمارا استيطانيا، جاء ليحتلَّ الأرض ويستوطنها ويقيم فيها مع أهلها، كأنما ورثها معهم من أجداده!!

ولكن الاستعمار الصهيوني لم يكتفِ بالاستيطان، حتى شرَّد أهل الأرض من وطنهم، وشتَّتهم في الآفاق، وسكن منازلهم، وورث أرضهم ومزارعهم وبيَّاراتهم، وهم أحياء، وكأنما لم يكن لهذه الديار ملاَّك ولا سكَّان!!

هل يمكن تغيير الوطن؟:

الأصل: أن الإنسان لا يختار وطنه، فهناك أشياء مفروضة على الإنسان، لا دور له في اختيارها، بل اختارها له القدر الأعلى الذي يخطُّ مصاير الناس.

وذلك مثل أبوي الإنسان (أبيه وأمه) وفصيلته والجنس الذي ينتمي إليه، ومثل الوطن الذي ينشأ فيه مع والده وأسرته. فمَن ولد في مصر ونشأ فيها أصبح مصريًّا، وأصبحت مصر وطنه، وكذلك مَن ولد في العراق أو في الشام.

ولكن من الثابت أيضاً: أن الإنسان يمكن أن يغيِّر وطنه، وهذا ما وقع للكثيرين، مختارين أو مضطَّرين، فانتقلوا من وطن إلى وطن، واستبدلوا بالأهل أهلاً، وبالإخوان إخواناً.

ولعلَّ أقرب مثل لنا في ذلك، هو الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل مكة: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، كما قال القرآن، والذين هاجروا من مكة، وهي أحبُّ البلاد إليهم، وانتقلوا إلى يثرب (المدينة) دار الهجرة، ودار الإسلام، واتَّخذوها لهم مقرًّا وموطنا، وعاشوا فيها وماتوا بها، ورفضوا أن يعودوا إلى مكة، حتى بعد أن نصرهم الله على عدوهم، وفتحوا مكة، حتى تظلَّ لهم صفة (المهاجرين في سبيل الله) حتى إن سعد بن أبي وقاص، حين مرض بعد فتح مكة مرضا شديدا، وعاده النبي صلى الله عليه وسلم: شكا إلى الرسول الكريم: أنه يخاف أن يموت في مكة ويدفن بها، وتضيع عليه هجرته. فطمأنه النبي عليه السلام: أن الله سيمُدُّ في عمره، لينتفع به أقوام، ويتضرَّر به آخرون[6].

هل يمكن تعدُّد الوطن؟:

وهنا سؤال آخر مكمِّل للسؤال السابق، وهو: هل يمكن أن يتعدَّد وطن الإنسان، بمعنى أن يكون له وطنان مثلاً؟

أعتقد أن هذا ممكن، بحيث يكون للمرء وطن أصلي هو مسقط رأسه، ومرتع صباه، ومسرح شبابه، ثم يهاجر – لسبب أو لآخر – إلى بلد آخر، فيتَّخذه وطنا، ربما يستقرُّ فيه إلى آخر حياته. ويموت فيه، ويدفن في ترابه.

وهذا أمر واقع لكثير من الناس، ولكن السؤال الذي يرد هنا: هل تقرُّ ذلك الأعراف السياسية، والأوضاع القانونية؟

الواقع أن هذا أمر يختلف من بلد إلى آخر، وفق قانون الجنسية والتجنُّس في هذا البلد، فهناك بلاد تجيز ازدواج الجنسية، ولا تمنع مواطنيها من أن يحمل جنسية أخرى. وهناك بلاد تمنع ذلك وتتشدَّد فيه مثل دولة قطر.

وهناك بلاد تمنع التجنُّس ببعض جنسيات معيَّنة مع جنسيتها الأصلية، مثل الجزائر، التي تمنع حمل الجنسية الفرنسية خاصة.

الفصل الأول

مواطنة المسلم وغير المسلم

داخل المجتمع المسلم

هل للأرض بالمعنى الجغرافي أهمية في نظر الإسلام؟:

وهنا سؤال مهم أيضاً، وهو: هل للأرض بالمعنى الجغرافي أهميَّة في نظر الإسلام؟ فقد يتصوَّر بعض الناس: أن الإسلام لا يُعنَى بالأرض، لأن الأرض طين ومادة، وهو يُعنَى بالدين لا بالطين، وبالرُّوح لا بالمادة.

كما أن عنايته الأولى بالإنسان، لا بالتراب الذي يمشي عليه الإنسان.

وهذا التصوُّر غير صحيح بالنسبة للإسلام، الذي يمزج الرُّوح بالمادة، ويعتبر الإنسان مخلوقا مزدوج الطبيعة: فهو قبضة من طين الأرض ونفخة من رُوح الله، كما حدَّثنا القرآن عن خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [صّ:72،71].

وقد أهبط الله آدم إلى الأرض وسخَّرها له ولذريته، وجعلها له مهادا وفراشا وبساطا، وقال: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29].

وجعل من مهمَّات الإنسان الأساسية: خلافة الله في الأرض، وعمارة الأرض، كما قال تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، وقال تعالى على لسان نبيه صالح لقومه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61].

وإذا كان هذا شأن الأرض بصفة عامة، فإن الأرض التي يعيش فيها الإنسان ويكون فيها مولده ونشأته وتعليمه وعلاقاته وصداقاته: يكون لها شأن خاص.

وهذا هو أساس إضافة جزء من الأرض إلى الإنسان أو إلى جماعة من الناس، فيقول الفرد، أو تقول الجماعة: هذه أرضي أو بلدي.

وهذه الأرض أو هذه البلدة، لها حقوق على أهلها: أن يتعاونوا فيما بينهم على الخير، وأن يتكافلوا في السرَّاء والضرَّاء، وأن يتناصروا إذا دهمهم عدو، يريد أن يحتلَّ أرضهم، ويفرض سلطانه عليهم بغير إرادتهم.

والإسلام هنا يتماشى مع الفطرة البشرية السليمة، ويوجب على أهل الأرض المتَّصلة أو المتقاربة: أن يتكافلوا ويتعاونوا ويتناصروا، ويرعى بعضهم حقوق بعض.

ومن هنا كان اهتمام الإسلام بحقوق (الجوار)، كما ذكر القرآن الكريم في آية الحقوق العشرة، ومنها: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36]، والجار الجنب: هو البعيد دارا أو نسبا، فكلما كان الجار أقرب بابا من جاره كان حقُّه أوجب.

وجاء في الحديث: “ليس بمؤمن مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع”[7].

وفي أحكام الزكاة: أن جيران المال أولى به من الأبعدين عنه، ولهذا كانت سياسة الإسلام في توزيع الزكاة: أن توزَّع الزكاة محليًّا في كلِّ إقليم، حتى إذا فضلت عن الإقليم، انتقلت إلى أقرب الأقاليم إليه. وبعض الفقهاء حدَّد ذلك بأن لا تنقل الزكاة أكثر من المسافة التي تقصر فيها الصلاة (أي حوالي ثمانين كيلو متر، كما هو رأي عدد من الفقهاء).

ولذلك فرض الإسلام على أهل البلد الواحد إذا غزاهم عدو أن يهبُّوا جميعا للدفاع عن بلدهم، ويعتبر أئمة الإسلام هذا الدفاع أو هذا الجهاد أو هذه المقاومة: فرض عين على أهل البلد، وعلى المسلمين حولهم أن يعاونوهم بما يحتاجون إليه من مال وسلاح ورجال حسب الحاجة.

ومن هذه الصلات المشتركة، والواجبات المشتركة، والحقوق المشتركة: نشأت فكرة (المواطنة) بين أهل البلد الواحد، وإن اختلفت أنسابهم أو أديانهم.

المواطنة في العهد النبوي:

ومَن قرأ السيرة النبوية وأمعن فيها: وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعترف بـ(المواطنة) بين سكَّان المدينة من مسلمين مهاجرين وأنصار، من أوس وخزرج، ومن اليهود على اختلاف قبائلهم، معتبرا هذه المواطنة – أي العيش في وطن واحد هو المدينة – هو: أساس التعاقد والتعامل بين الجميع. فنحن نعرف من سيرته الثابتة: أنه قد عقد بعد هجرته اتفاقية مع يهود المدينة: بني فينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، وهي التي تضمَّنتها (الصحيفة) المعروفة في السيرة.

وقد بناها على أساس التعايش المشترك، والتكافل المشترك، والتناصر المشترك – في السلم والحرب – بين المسلمين وجيرانهم من اليهود، باعتبارهم جميعا مواطنين في دولة المدينة الجديدة، مع اختلاف الأديان التي ينتسبون إليها، والعروق التي ينتمون إليها، بل باعتبار (الوطن) الذي ينتسبون جميعا إليه.

وها نحن نضع أمام الباحث عن الحقيقة نصَّ هذه الوثيقة أو الصحيفة التي اعتبرها الكثيرون بمثابة أول دستور ينظِّم العلاقة بين المواطنين – مختلفي الديانات – في دولة ناشئة.

وننقلها من كتاب (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) للعالم الباحث المدقِّق الشهير الدكتور محمد حميد الله، وقد اعتمد على مراجع شتَّى سجَّلها في مطلع الوثيقة[8]، التي جعل عنوانها: كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار واليهود، وهو دستور الدولة البلدية بالمدينة.

نص الوثيقة:

  • هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومَن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.
  • إنهم أمة واحدة من دون الناس.
  • المهاجرون من قريش على رِبعَتهم[9] يتعاقلون (أي يدفعون الديَّات المطلوبة منهم) بينهم وهم يفدون عانيهم[10] بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلُّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط بين المؤمنين.
  • وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا[11] بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل، أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
  • وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كلِّ) مَن بغى منهم أو ابتغى دسيعة[12] ظلم أو إثما أو عدوانا أو فسادا بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.
  • ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن.
  • وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
  • وإنه مَن تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
  • وإن سِلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
  • وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضا.
  • وإن المؤمنين يبيء[13] بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
  • وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن.
  • وإنه من اعتبط[14] مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود[15] به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل[16])، وإن المؤمنين عليه كافَّة، ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه.
  • وإنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يُؤويه، وإن مَن نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
  • وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
  • وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
  • وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم إلا مَن ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يوتغ[17] إلا نفسه وأهل بيته.
  • إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
  • وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا مَن ظلم وأثِم، فإنه لا يتوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
  • وإن جَفنَة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
  • وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البرَّ دون الإثم.
  • وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
  • وإن بطانة[18] يهود كأنفسهم.
  • وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
  • وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبرَّ دون الإثم.
  • وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.
  • وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
  • وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
  • وإن الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثم.
  • وإنه لا تُجار حُرمة إلا بإذن أهلها.
  • وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار[19] يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
  • وإن بينهم النصر على مَن دهم يثرب.

أ- وإذا دعوا إلى الصلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا مَن حارب في الدين.

     ب-على كلِّ أناس حقُّهم من جانبهم الذى قبلهم.

  • وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرِّ المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البرَّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
  • وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه مَن خرج آمن ومَن قعد
    آمن بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأن الله جار لمَن برَّ واتقى، ومحمد رسول
    الله صلى الله عليه وسلم اهـ.

اتفاقية الصلح مع نصارى نجران:

ومن وقائع السيرة النبوية التي يستشهد بها على شرعية فكرة (المواطنة) وما يستلزمها من الحقوق والمساواة: ما جاء في اتفاقية الصلح التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم، مع نصارى نجران.

(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: إذ كان عليهم حكمه في كلِّ ثمرة، وفى كلِّ صفراء وبيضاء ورقيق، فأفضل ذلك عليهم، وترك ذلك كلَّه لهم، على ألفى حلَّة من حلل الأواقي: في كلِّ رجب ألف حلَّة، وفى كلِّ صفر ألف حلَّة، ومع كل حلَّة أوقية من الفضة. فما زادت على الخراج، أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عروض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مؤنة رسلي، ومتعتهم، ما بين عشرين يوما فما دون ذلك، ولا تحبس فوق شهر.

وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمين ومعرة. وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو عروض، فهو ضمين على رسلي حتى يؤدُّوه إليهم.

ولنجران وحاشيتها، جوار الله وذمَّة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أموالهم، وأنفسهم، وملَّتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم وكلِّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغيَّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. وليس عليهم ربية، ولا دم جاهلية. ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش. ومَن سأل منهم حقًّا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين.

ومَن أكل ربا من ذي قبل فذمَّتي منه بريئة. ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.

وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله، وذمَّة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي الله بأمره، ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم.

شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني النصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة بن شعبة.

وكتب لهم هذا الكتاب عبد الله بن أبى بكر.

(وقال يحيى بن آدم: وقد رأيتُ كتابا في أيدي النجرانيين، كانت نسخته شبيهة بهذه النسخة، وفى أسفله: وكتب على بن أبو (كذا) طالب، ولا أدرى ماذا أقول فيه[20] اهـ.

فهم في جوار الله، وذمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يتجسَّد في حماية أموالهم وأنفسهم وملَّتهم وعشيرتهم وبِيَعهم، وكلُّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.

الوطن المحلي ودار الإسلام الكبرى:

كان المعنى الفطري للوطن هو السائد لدى المسلمين في تاريخهم، وهو: الأرض التي وُلد فيها الإنسان أو نشأ، وله بها علاقة مادية وعاطفية، تمثِّل نوعا من الانتماء والولاء.

ولم يكن هذا المعنى يتنافى أو يتعارض مع مفهوم آخر، وهو: أن للمسلم انتماء أكبر وأعمق من الانتماء إلى الأرض أو إلى الوطن، وهو الانتماء للإسلام. فالانتماء إلى الوطن قدري وجبري لا اختيار للإنسان فيه، ولكن الانتماء الآخر، هو باختيار الإنسان، وحرية الإنسان. إنه هو الذي يختار دينه، ويصرُّ عليه، ولا يرضى به بديلا، ولو كان مُلك المشرق والمغرب.

هذا الانتماء وهذا الولاء الآخر، هو لله ولرسوله وللأمة التي تشاركه هذه العقيدة. فبعد أن رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا: أصبح الإسلام مصدر اعتزازه، ومحور ولائه، وأساس انتمائه، وغدت أمة الإسلام أهله وإخوانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، “المسلم أخو المسلم”[21]، “المسلمون يسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يد على مَن سواهم”[22]. “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا”[23].

وبهذا ارتفع الإسلام بالرابطة التي تصل المسلمين  في مجتمعه بعضهم ببعض من المواطنة التي ترجع إلى الطين إلى الأخوة التي ترجع إلى الدين. فالمواطنة رابطة مادية، والأخوة رابطة معنوية، ولهذا لا يعرف الغربيون إلا المواطنة رابطا بينهم، لغلبة الفلسفة المادية، والنزعة النفعية عليهم.

وهذه الأخوة ليست مجرد شعارات غامضة؛ بل هي معنى كبير له لوازمه من: المحبة والمساواة والتراحم، والتناصر والتعاون، وله حقوق وواجبات وآثار؛ لا يعرفها الليبراليون ولا الماركسيون.

والأخوة كذلك درجات: أدناها سلامة القلب من: الغل والحسد والبغضاء، وأعلاها الايثار الذي مدح الله به الأنصار فقال:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].

وأمست (دار الإسلام) هي وطن كلِّ مسلم، وإن تباعدت داره، وقد عبَّر الإسلام عنها بهذا اللفظ (دار الإسلام)، وإن كانت هي في الحقيقة ديارا وأوطانا، ليشعر المسلم بوحدة الدار.

وأصبح ولاء المسلم لهذه الأمة الكبرى: أمرا مُسلَّما، وهو يعتبر من مقتضيات الإيمان، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56،55].

وولاء المسلم لأمته الكبرى يفرض عليه أن يذود عن حِماها، ولا يسمح لأحد أن يعتدي عليها، أو يستولي على شيء من أرضها، أو ينتهك حرمة من حرماتها، أو يهين كرامة بعض أبنائها أو بناتها. وهو ما جعل الخليفة المعتصم يجيِّش الجيوش لغزو الروم، انتصارا لامرأة مسلمة لُطمت على وجهها، فاستغاثت به عن بُعد قائلة: وامعتصماه! فقال لها: لبيك أختاه!!

إلام كان الانتماء بين الماضي والحاضر؟:

لقد كان وطن المسلم يعني (دار الإسلام) على اتساعها. فكلُّ أرض تجري فيها أحكام الإسلام، وتُقام شعائره، ويعلو سلطانه، ويرتفع فيها الآذان، هي وطن المسلم: يغار عليه، ويدافع عنه، كما يدافع عن مسقط رأسه. وكان العالم ينقسم عند المسلم على هذا الأساس العقائدي: فهو إما دار إسلام، وإما دار كفر.

وكان قوم المسلم هم المسلمين أو الأمة الإسلامية، الذين جمعته بهم أخوة الإيمان، وعقيدة الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وكان أعداء المسلم هم أعداء الإسلام، ولو كانوا ألصق الناس به وأقربهم إليه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].

فالمسلم حين يقف في صلاته مناجيا ربه بهذا الدعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، بصيغة الجمع هذه، يستحضر في حسِّه وذهنه أمة الإسلام جمعاء.

وحين يقرأ قول الله تبارك وتعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104]، يفهم أن هذا الخطاب موجَّه للمسلمين جميعا أينما كانوا.

وحين يقف الخطيب على المنبر يوم الجمعة، يدعو للمسلمين كافَّة، دون تفرقة بين إقليم وإقليم، ولا بين عنصر وعنصر، ولا بين لسان ولسان، بل يقول دائما: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات. اللهم أعزَّ المسلمين في كلِّ مكان.

فإذا خصَّ بلده يوما بالدعاء له بالنصر والرخاء والسعادة والعزة، تجده يقول: لبلدنا هذه خاصَّة، ولسائر بلاد المسلمين عامَّة.

فالتفكير الإسلامي، والحسُّ الإسلامي، لا يعرفان العصبية الإقليمية ولا العنصرية بحال من الأحوال.

صور رائعة في الفقه الإسلامي:

وفي الفقه الإسلامي نجد هذه الصورة المعبِّرة عن وحدة الأمة المسلمة، ووحدة الوطن الإسلامي، وذلك في ما ينقله العلاَّمة ابن عابدين عن أئمة الفقه الحنفي حيث يقرِّرون: أن الجهاد فرض عين إن هجم العدو على بلد مسلم، وذلك على مَن يقرب من العدو أولا، فإن عجزوا أو تكاسلوا، فعلى مَن يليهم، ثم مَن يليهم، حتى يفترض – على هذا التدريج – على المسلمين شرقا وغربا[24]. وهذا متَّفق عليه بين الأئمة جميعاً.

والعجيب أن يقرِّر فقهاء الإسلام وجوب الدفاع عن البلد المسلم المعتدَى عليه، وإن تقاعس أهله أنفسهم في الدفاع عنه؛ لأن هذا البلد ليس ملك أهله وحدهم، ولكنه – باعتباره جزءا من دار الإسلام – ملك للمسلمين جميعا، وسقوطه في يد الكفار: خسارة وهزيمة للمسلمين قاطبة.

وصورة أخرى يذكرها ابن عابدين: امرأة مسلمة سُبيت بالمشرق، وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر[25].

وقال الإمام مالك: يجب على المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم[26]!

وهكذا قرَّر القرآن وقرَّرت السنة: أن المسلمين أمة واحدة “يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم”[27]، “ومَن لم يصبح ناصحا – أي مخلصا بارًّا – لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتهم، فليس منهم”[28].

ولكن غلوَّ (النزعة الوطنية) الحديثة والمعاصرة، جعلت المسلم يفكِّر في وطنه قبل عقيدته، وفي شعبه قبل أمَّته، ويعتبر المسلم من غير بلده أجنبياً.

وبرزت نزعات جاهلية تتنادى بالقومية العنصرية، والوطنية الإقليمية، لا بالأخوة الإسلامية التي جعلها الله صنو الإيمان حين قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، بل أصبحت الأوطان والقوميات، وكأنها أوثان جديدة يعبدها الناس مع الله!

حتى رأينا شاعرا كشوقي – رغم نزعته الإسلامية الأصيلة في شعره – يقول من قصيدة له يخاطب بها المصريين:

وَجهُ الكِنانَةِ لَيسَ يُغضِبُ رَبَّكُمأَن تَجعَلوهُ كَوَجهِهِ مَعبودا!!

ويخاطب الوطن بعد عودته من منفاه فيقول:

أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهيإِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا

ورأينا الأتراك ينادون بقومية طورانية، والعرب – في بلاد الشام – ينادون بقومية عربية، وانتهى الأمر باقتتال العنصرين الإسلاميين – العربي والتركي – بحدِّ السلاح، مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”[29]، “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”[30]، “إذا التقى المسلمان بسيفيهما: فالقاتل والمقتول في النار”[31].

والعجب أن يتَّخذ أحد العنصرين بعض الكفار أولياء وحلفاء له ضدَّ إخوانه المسلمين، مع قول الله المحكَم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].

كان الاستعمار الصليبي – ممثَّلا في مؤسساته التبشيرية والاستشراقية ونحوها – وكانت اليهودية العالمية – ممثَّلة في منظماتها السرية كالماسونية وغيرها – من وراء بذر بذور هذه الفتنة: فتنة الوطنية والقومية، لتحطيم الوحدة الإسلامية التي تمثِّلها الخلافة العثمانية، على ما بها من عِلل وعيوب، ولتمزيق العالم الإسلامي إلى أجزاء يسهل ابتلاعها، وفرض الوصاية عليها، كما يصعُب قيام دولة إسلامية كبرى تضمُّ المسلمين تحت راية الإسلام.

وكاد اليهود كيدهم، وسعوا سعيهم حتى سقطت القلعة الإسلامية – الخلافة – وكانت كارثة زلزلت مشاعر المسلمين، واضطَّرب لها قاصيهم ودانيهم، وثار المسلمون هنا وهناك، وعقدوا المؤتمرات، ولكنها باءت جميعا بالفشل، وتمزَّقت أرض الإسلام إلى اليوم، وقرَّت عين الاستعمار والصهيونية، بهدم تلك الدولة الكبرى، وقيام الدويلات المتفرِّقة هنا وهناك.

يقول “برنارد لويس”:

(والتغريب الذي كان أكثره من عمل (المتغرِّبين) من أبناء الشرق، جاء بتغييرات يشَكُّ كثيرا في قيمتها. أول هذه التغييرات هو الانحلال السياسي الذي أدَّى إلى تفتيت المنطقة وتجزئتها. فقبل ذلك التاريخ كان في الشرق الأوسط نظام سياسي مستقر، فالشاه يحكم إيران، والسلطان هو عاهل المملكة العثمانية التي تشمل كلَّ ما بقي من الشرق الأوسط، وقد لا يكون كلُّ السلاطين الذين تعاقبوا على الحكم محبوبين من رعاياهم، ولكنهم كانوا في موضع احترام، والأهم من ذلك أنه لم يكن هناك خلاف على مشروعية الحكم، فالسلطان هو الحاكم بلا منازع، لأنه عاهل لآخر خلافة إسلامية تضمُّ جميع مسلمي العالم تقريبا … ثم عُزل السلطان … وهُدمت الخلافة، وقام مقامه عدد من الملوك والرؤساء الديكتاتوريين الذين دبَّروا لمدَّة معيَّنة أمرهم، وربحوا تصفيق وتأييد شعوبهم … ولكنهم لم يكونوا أبدا موضع الرضا التام، والقبول الطبيعي، والولاء الأكيد، الذي كان ممنوحا لحكومة السلطان الشرعية، وهذا الولاء والقبول والرضا جعل السلطان غير محتاج للضغط والعنف والإرهاب أو للديماغوجية السياسية[32] في الحكم)[33] انتهى.

غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ينتمون إلى دار الإسلام:

فكرة الانتماء إلى الإسلام، وإلى أمة الإسلام، وإلى دار الإسلام، التي كانت سائدة في القرون الماضية منذ عصر النبوة، فعصر الراشدين، فعصور العباسيين والعثمانيين: قد لا تكون مقبولة عند غير المسلمين. على أساس أن أصل هذا الانتماء ديني، ينطلق من القرآن والسنة.

هذا مع أن فقهاء المذاهب المختلفة جميعا، قرَّروا: أن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهم الذين يعبَّر عنهم في الاصطلاح الفقهي بـ(أهل الذمة) يعدُّون من (أهل دار الإسلام). فهم من (أهل الدار) وإن لم يكونوا من (أهل الملَّة).

وفي اجتهادي: أن كلمة (أهل الدار) هذه تمثِّل مفتاحاً للمشكلة، مشكلة المواطنة، لأن معنى أنهم (أهل الدار) أنهم ليسوا غرباء ولا أجانب، لأن حقيقة معناها: أنهم أهل الوطن، وهل الوطن إلا الدار أو الديار؟

وإذا ثبت أنهم أهل الوطن، فهم (مواطنون) كغيرهم من شركائهم من المسلمين.

وبهذا تحلُّ هذه الإشكالية من داخل الفقه الإسلامي، دون الحاجة إلى استيراد مفهوم المواطنة من سوق الفكر الغربي.

فإن هذا المفهوم المستورد قد يحلُّ مشكلة الأقليَّات الدينية من مسيحية ويهودية ومجوسية ونحوها، ولكنه ينشئ مشكلة عند المسلم، إذ يفرض عليه الانفصال عن انتمائه الديني، وولائه الديني. وهو أمر يدخل في الفرائض، بل ربما في العقائد.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144]، {لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].

والظنُّ بأن الدين لم يعد أساسا في حياة الناس، بعد أن غزته الأفكار العلمانية والليبرالية والماركسية: ظنٌّ غير صحيح، إلا في القليل من النُّخب. فما زال سلطان الدين قائما لدى الجمهور الأعظم من الناس.

فكيف تحلُّ مشكلة الأقلية، ونخلق في الوقت نفسه مشكلة عند الأكثرية؟

وما يضير غير المسلم أن يكون مواطنا في (دار الإسلام) سواء كانت دار الإسلام الكبرى، التي تشمل كلَّ ديار الإسلام حين تضمُّهم قيادة (خلافة) واحدة، أو (دار الإسلام) المحدودة بحدود إقليم أو قُطر معيَّن.

ربما يكون الإشكال هنا، هو التخوُّف من عدم تطبيق مبدأ المساواة على الجميع، وتمييز المسلم على غير المسلم في مجالات معيَّنة، في حين أن المواطنة تفترض المساواة بين جميع المواطنين.

وهذا التخوُّف وارد، وله ما يبرره، ولهذا يلزمنا فقها: أن نقرِّر فكرة المساواة بين أبناء دار الإسلام على أساس مبدأ: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. ولا تمييز إلا فيما تقتضيه طبيعة الخلاف الديني.

ولا بد من حذف كلمات ومصطلحات تاريخية من قاموس التعامل المعاصر، مثل كلمة (ذمَّة) و(أهل ذمَّة) التي لم يعُد يقبلها غير المسلمين. فلم يتعبَّدنا الله بهذه الكلمات، وقد حذف عمر ما هو أهم منها، حين اقتضت المصلحة العليا ذلك، فحذف كلمة (جزية) حين طلب منه ذلك نصارى بني تغلب، وقالوا: إننا قوم عرب، ونأنف من كلمة (جزية)، ونريد أن نأخذ ما تأخذ منا باسم (الصدقة)[34]. ورضي منهم ذلك، معتبرا أن العبرة بالمسمَّيات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين.

الأخوة الوطنية:

بل أقول: إن الاشتراك في الوطن يفرض نوعا من الترابط بين المواطنين بعضهم وبعض، يمكن أن نسمِّيه (الأخوة الوطنية) فكلُّ مواطن أخ لمواطنه، وهذه الأخوة توجب له من حقوق المعاونة والمناصرة والتكافل ما يستلزمه معنى (الأخوة) أي الانتماء إلى أسرة واحدة.

وقد يعترض بعض الإسلاميين من الحرفيين والمتشدِّدين على اطلاق الأخوة خارج الإطار الديني. فليس عندهم أخوة إلا أخوة الإيمان، أي الأخوة الدينية، ولا اعتراف بأيِّ أخوة سواها.

ودليلهم على ذلك قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقوله عن المؤمنين: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].

وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم”[35].

ونحن نؤمن بأصالة الأخوة الدينية القائمة على الإيمان، ونرى أنها أعمق أنواع الأخوَّات. كما عرَفنا ذلك في سيرة الصحابة والمسلمين الأُوَل، وكيف فاقت هذه الأخوة أخوة النسب والدم في وقائع شتَّى.

ونرى هذه الأخوة تذيب كلَّ الفوارق بين الناس، من عنصرية ولونية وإقليمية ولغوية وطبقية، وتُعلي عنصر الدين على كلِّ هذه الأشياء، فترى المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، يألم سائر الجسد إذا اشتكى عضو منه[36]. وترى المؤمن الأبيض في أوربا يشعر بأخوة عميقة بينه وبين المؤمن الأسود في إفريقيا، فقد ربط بينهما الإيمان الواحد.

ومع اعترافنا بذلك نؤكِّد: أن هذه الأخوة على عمقها، لا تمنع من وجود أنواع أُخَر من الأخوَّات. مثل الأخوة الوطنية أو القومية، ومثل الأخوة الإنسانية.

وقد ناقشني أحد المتشدِّدين يوما، معترضا على قولي: (إخواننا الأقباط). بأن الأخوة إنما تكون بين المسلمين بعضهم وبعض، والأقباط نصارى، فكيف يكونون إخواننا؟

قلتُ له: إن الأقباط إخواننا في الوطن، وإن لم يكونوا إخواننا في الدين، يجمعنا وإياهم وطن واحد.

قال: وهل هناك أخوة غير أخوة الدين؟

قلتُ: نعم، هناك الأخوة الوطنية، والأخوة القومية، والأخوة المهنية، والأخوة الإنسانية … إلخ.

قال: وما الدليل الشرعي على ذلك؟

قلتُ: الدليل على هذه الأخوَّات: وجودها في عالم الناس وواقعهم. وإن كان ولا بد من دليل من نصوص الشرع، فها أنا أسوقه إليك من القرآن الكريم.

اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106].

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ …} [الشعراء:124،123].

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:142،141].

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:161،160].

فكلُّ هؤلاء الأقوام كذَّبوا رسلهم وكفروا بهم، ومع هذا عبَّر القرآن عن علاقة رسولهم بهم بأنه علاقة (الأخوة) {قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ}. وذلك لأن هؤلاء الرسل كانوا منهم، ولم يكونوا أجانب عنهم، فتربطهم أخوَّة قومية.

وفي هذه السورة نفسها عرضت قصة شعيب مع أصحاب الأيكة فقال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177،176]. ولم يقُل كما قال في الرسل السابقين: إذ قال لهم أخوهم شعيب، لماذا؟ لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة، بل كان غريبا عنهم، وإنما كان من مَديَن، فهم قومه وليسوا أصحاب الأيكة، ولهذا قال في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة العنكبوت: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:85، هود:84، العنكبوت:36].

فهذا يدلُّنا على أن الأخوة ليست دائما دينية، بل قد تكون وطنية أو قومية، أو غيرها.

وهنا لم يجد المعترض بُدًّا من التسليم، وهل يعارض مسلم دلالة القرآن الكريم؟

وإذا ثبتت الأخوة، فقد ثبت ما تقتضيه وتستلزمه من المحبَّة والمساواة والتضامن، إذ لا معنى للأخوة بغير هذا.

متى تحدث الإشكالية في قضية الوطنية والمواطنة:

ما ذكرناه إذن حول قضية الوطن والوطنية والمواطنة: مُسلَّم به في الجملة على الأقل، ولا ينبغي أن يختلف فيه إسلامي وغير إسلامي.

فمتى تحدث الإشكالية بين الطرفين، بحيث يبدوان وكأنهما خصمان؟ ولماذا تحدث هذه الإشكالية؟

إنها تحدث لعدَّة أسباب يمكن التغلُّب عليها كلِّها بيسر، إذا صفت النيَّات، وصحَّت العزائم.

  1. عند تعارض الولاءات والانتماءات:

فالإنسان في واقع الأمر ليس له انتماء واحد، فقد تتعدَّد انتماءات الإنسان باعتبارات شتَّى، ولا نجد أيَّ تناقض بينهما.

فالإنسان ينتمي إلى أسرته، وينتمي إلى قريته، وينتمي إلى محافظته، وينتمي إلى قُطره أو وطنه، وينتمي إلى إقليمه، وينتمي إلى قارَّته، وينتمي إلى دينه، وينتمي إلى أمَّته (الكبرى المؤسَّسة على الدين)، وينتمي إلى الأسرة الإنسانية.

ولا حرج في ذلك ولا ضير، فهذه الانتماءات غير متعارضة ولا متناقضة، بل هي تعبِّر عن حقائق قائمة بالفعل، والعلاقة فيما بينها علاقة الخاص بالعام، والأخصِّ بالأعمِّ، وما بينهما.

إنما تحدث الإشكالية حين يتعارض الانتماء إلى الوطن والولاء له، مع انتماءات وولاءات أخرى يلتزم بها الإنسان.

وذلك مثل: الانتماء إلى الدين والولاء له.

ومثل: الانتماء إلى القوم والولاء لهم.

ومثل: الانتماء إلى البشرية والولاء لها.

فأيُّ هذه الولاءات والانتماءات أولى بالتقديم على غيرها؟ أعني: إذا تعارض الولاء للوطن والولاء للدين، فأيُّهما يقدم، وبأيِّهما نضحِّي؟

الذي يظهر في هذه الحالة: أنه في حالة التعارض بين الدين والوطن، فإن الدين هو المقدَّم، لأن الوطن له بديل، والدين لا بديل له.

ولهذا رأينا الرسول الكريم وأصحابه حين تعارض الدين والوطن: هاجروا في سبيل الله وضحُّوا بالوطن الذي ضاق بعقيدتهم، وصادر دعوتهم، وفتنهم في دينهم. كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40].

وقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].

وقال عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59].

وقد بيَّن القرآن الكريم في مفاصلة واضحة وحاسمة: أن دين المسلم أعزُّ عليه، وأحبُّ إليه من كلِّ شيء سواه، مما يعتزُّ به الناس ويحرصون عليه، وذلك في قوله تعالى في سورة التوبة: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

وبهذا يتبيَّن بما لا شك فيه: أن دين المسلم المعبَّر عنه بحبِّ الله ورسوله: يجب أن ترجح كفَّته على كلِّ الروابط والقِيَم الأخرى، بما في ذلك الآباء والأبناء، والإخوة، والأزواج، والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن التي يرضونها. وهذه العبارة تعبِّر عن الأوطان التي رضوها وارتبطوا بها ماديًّا وعاطفيًّا.

  1. اقتران الوطنية بالعلمانية:

وتحدث المشكلة لدى بعض الإسلاميين، فتراهم يعارضون أو يتحفَّظون على فكرة (الوطنية) انطلاقا من أن (الوطنية) مسكونة بـ(العِلْمانية) التي تفصل الدين عن الدولة، بل عن الحياة. على خلاف ما هو معروف عن شمولية الإسلام، الذي عرَفه الناس من مصادره الأصيلة: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، دينا ودنيا. وعرَفوا: أن الدين هو إحدى الضروريات أو الكليَّات الخمس التي جاءت بها الشريعة، التي شرعها الله لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد.

ونقول هنا: إن الوطنية في ذاتها لا تحمل أيَّ مضمون أيديولجي، لا مضمون (ديني) ولا (لاديني) (علماني)، بل هي محايدة، وقابلة لأن تحمل ما تحمَّل، من حقٍّ أو باطل.

وليست كلُّ النزعات الوطنية التي رأيناها علمانية، بل رأينا نزعات وطنية مُشبعة بالروح الإسلامية، مثل: (وطنية مصطفى كامل) الذي كان متعاطفا مع دولة الخلافة الإسلامية، ومثل حركات التحرُّر الوطني في كثير من الأقطار الإسلامية، فقد كانت هذه الحركات التي قامت لمحاربة الاستعمار، وطرده من بلادها، والحصول على السيادة والحرية: ذات جذور إسلامية، وحوافز إسلامية، كما في الجزائر وبلاد الشمال الإفريقي العربي، وكثير من البلاد في آسيا وإفريقيا، وهو ما اعترف به المؤرخ الأمريكي المعروف (برنارد لويس) في كتابه (الغرب والشرق الأوسط) بأن حركات التحرير في البلاد الإسلامية المختلفة، كان يقودها ويوجِّهها الزعماء الدينيون في شتَّى البلدان.

ومثل ذلك: النزعات القومية، فليست القومية في ذاتها علمانية، ولكن دعاة القومية في بعض الأوقات كانوا علمانيين، ليبراليين أو ماركسيين، فظنَّ مَن ظنَّ: أن القومية لا بد أن تكون علمانية.

وليس من الضروري أبدا أن تكون الوطنية أو القومية علمانية.

  1. الغلو في الوطنية حتى تصبح بديلاً عن الدين:

وتحدث المشكلة أيضا حين يغلو بعض الوطنيين في فكرة الوطنية، أو عاطفة الوطنية، حيث نرى بعضهم يجعلون الوطن مقابل (الدين) أو بديلا عن الدين، وإن شئتَ قلتَ: مقابل (الله) أو بديلا عن (الله)، فكما تبدأ الأمور (باسم الله) تبدأ باسم الوطن، وكما يُقسم الناس بالله، يُقسمون بالوطن، وكما يعمل الناس لوجه الله، يعملون لوجه الوطن!!

وكأن الوطن أصبح إلها، أو وثنا يشركونه مع الله عزَّ وجلَّ. مع أن المسلم قد جعل محياه ومماته كما جعل صلاته ونسكه لله، كما قال تعالى لرسوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163،162].

والحسُّ الديني عند المسلم يرفض أن يقرن باسم الله اسما آخر، أو يُقسم بأحد أو بشيء مع الله، أو يعمل عملا لوجه غير وجه الله، ناهيك أن يفرده.

ولقد رأينا النزعة الوطنية، حين تمزَّقت مظلَّة الخلافة الإسلامية، وانفرط عقد الأمة الواحدة، والدولة الواحدة، لتصبح أُمما أو أُميمات، أو دُولا أو دُويلات! تحاول كلُّ دولة أن تعزِّز وجودها (الوطني) الجديد، بفلسفة جديدة، ومفاهيم جديدة، يراد بها أن تبدِّل الولاء لله ولرسوله وللأمة المسلمة الكبرى، لتجعل بدله الولاء للوطن الصغير، الذي يُنبئ عنه عَلَم خاص، واسم خاص، وحدود خاصَّة، وتُنشد له الأشعار، وتُنشأ له الأناشيد، لتتعلَّق القلوب به، وتتَّجه المشاعر إليه.

وأذكر أننا حين كنا تلاميذ بالمدارس ألأولية، كانوا يحفِّظوننا نشيدا وطنيا حماسيا، لا أدري مَن أنشأه، وهو يقول:

بلادي، بلادي، فداك دميوهبت حياتي فداً، فاسلمي
غرامك أول ما في الفؤادونجواك آخر ما في فمي

وقد سمعتُ شيخنا الشيخ محمد الغزالي يعلِّق على هذا النشيد، وهذا البيت منه فيقول رحمه الله: فماذا بقي من فؤاد هذا القائل ومن فمه لله خالقه؟

(الوطنية) مشروعة ومطلوبة إذا لم تتَّجه هذا الاتجاه الغالي، فإن الغلو في كلِّ شيء يفسده، وقد رأينا الإسلام يحذِّر أشدَّ التحذير من الغلو في الدين. وكذلك الغلو في الوطن والوطنية.

ومما يذكر هنا أن أمير الشعراء أحمد شوقي برغم نزعته الإسلامية الواضحة، وبرغم قصيدته في نعي الخلافة الإسلامية حين أُلغيت، وهي من روائع الشعر، الذي أُوصي الشباب بحفظه[37]، أراه أحيانا يبالغ في الوطنية، مثل قوله:

وطني لو شغلتُ بالخلد عنهنازعتني إليه بالخلد نفسي!

وأشد منه قوله يخاطب أبنا مصر:

وَجهُ الكِنانَةِ لَيسَ يُغضِبُ رَبَّكُمأَن تَجعَلوهُ كَوَجهِهِ مَعبودا
وَلُّوا إِلَيهِ في النهار وُجوهَكُموَإِذا فَرَغتُمُ وَاِعبُدوهُ هُجودا

بل رأينا بعض الغلاة من العرب يقدِّم الوطن على الدين بصراحة، ويجعل كلمة الوطن هي العليا، وليست كلمة الله، ولا يبالي بما يؤمن به الناس من العقائد الدينية، ولا ما يحسُّون به من المشاعر الدينية. يقول

بلادك قدِّمها على كـلِّ ملَّـةومن أجلها أفطر، ومن أجلها صم!
هبوني دينا يمنح العرب وحدةوسيروا بجثماني على دين برهم!
سـلام على كفـر يوحِّد بينناوأهـلا وسـهلا بعـده بجهنـم[38]!
  1. عندما تتحوَّل الوطنية إلى عصبية جاهلية:

وتحدث المشكلة كذلك عندما تتحوَّل النزعة الوطنية إلى عصبية جاهلية، يتجمَّع فيها أهل الوطن ضدَّ غيرهم، وينحازون فيها بعضهم لبعض، ينصر أخاه في الوطن ظالما أو مظلوما، ويستجيب له إذا دعاه في الحقِّ أو الباطل. على نحو ما قيل في وصف أحد زعماء قبائل العرب: إذا غضب، غضب له مائة ألف سيف، لا يسألونه فيم غضب؟!

وكما وصف أحد الشعراء أبناء قبيلته بقوله:

لا يسألون أخاهم حين يندُبهمفي النائبات على ما قال برهانا

فالمصيبة: أن تعين أهلك وقومك على ظلم الآخرين، وأن تشهد لهم على الآخرين محقِّين كانوا أم مبطلين، وأن تقول ما قال أتباع المتنبئين الكذبة من قبائل العرب أيام حروب الردَّة: كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر.

هكذا تكون العصبية القومية، وكذلك تكون العصبية الوطنية، كما رأينا ذلك في النزعات النازية والفاشية في أوربا في أواسط القرن العشرين، من رفع شعارات: ألمانيا فوق الجميع، وإيطاليا فوق الجميع.

والإسلام يعلِّم المسلم: أن يدور مع الحقِّ حيث دار، وأن يقول الحقَّ وإن كان مرًّا، وأن يكون قوَّاما بالقسط شهيدا لله، ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، وكذلك لا يجرمه شنآن قوم على أن لا يعدل، بل يجب أن يقوم بالقسط مع مَن يحبُّ، ومع مَن يكره. فعدل الله لجميع عباد الله.

ومن هنا أنكر الإسلام العصبية بكلِّ أنواعها، سواء كانت عصبية قبلية، أم عصبية قومية، أم عصبية إقليمية، أم أي عصبية كانت.

روى الإمام مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة، عن النبي أنه قال: “مَن قاتل تحت راية عُمية، يغضب لعَصَبَة، أو يدعو إلى عَصَبَة، أو ينصر عَصَبَة، فقُتِل، فقِتلَته جاهلية”[39].

رجال الإصلاح وموقفهم من المواطنة

كلُّ مَن درس تراث رجال الإصلاح الإسلامي، الذين قاموا بالدعوة للنهوض بالأمة، وتحريرها من نِيْر الاستعمار الغربي، وإخراجها من دائرة التخلُّف إلى دائرة التقدُّم والارتقاء، ابتداء من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم، يجدهم جميعا يؤمنون بأن لأوطانهم حقًّا عليهم، يوجب عليهم أن يبدأوا بإصلاحها أولا، من باب الأقربون أولى بالمعروف، كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215]، فبدأ بالوالدين والأقربين لما لهم من حقٍّ أوكد.

وقد كان الشيخ “محمد عبده” مع ثورة عرابي الوطنية المصرية، التي قامت ضدَّ الخديوي، وبعد ذلك كانت عنايته بالمجتمع المصري أكثر من غيره، عن طريق إصلاح التعليم العام، وخصوصا إصلاح الأزهر، وقال كلمته الشهيرة: يستحيل بقاء الأزهر على حاله، فإما أن يعمر، وإما أن يتمَّ خرابه!

وسمَّاه الأستاذ “عباس العقاد” في كتابه عنه (رائد الفكر المصري الحديث).

ولكنهم جميعا يؤمنون بوطنهم الأكبر: دار الإسلام، ولهذا عملوا على تحريرها من كلِّ سلطان أجنبي، وتوحيدها، والسعي في عودتها إلى الرقي والقيادة من جديد.

هكذا رأينا الأفغاني ومحمد عبده في مجلة (العروة الوثقى) التي كانت تصدر من باريس، والتي كانت تتكلَّم باسم العالم الإسلامي كلِّه، وتوجِّه دعاة الحرية والإصلاح في كلِّ بلاد الإسلام.

وهكذا رأينا الكواكبي في كتابه (أم القرى) الذي تصوَّر فيه مؤتمرا إسلاميا عالميا يعقد في (مكة المكرمة أم القرى) ليبحث مشاكل الأمة الإسلامية جمعاء، ويقترح الحلول لها.

ومن بعد هؤلاء المصلحين والمجدِّدين، ظهر مصلحون آخرون في أقطار شتَّى، اتَّفقت مقاصدهم، واختلفت طرائقهم، وسنقصر حديثنا هنا على اثنين من كبار المصلحين الإسلاميين: أحدهما من بلاد العرب، وهو حسن البنا. والآخر من القارَّة الهندية، وهو أبو الأعلى المودودي. وكلُّ واحد منهما له نظرة تخالف نظرة الآخر، وإن كان هدفهما الأساسي واحدا.

  1. حسن البنا وموقفه من الوطنية والمواطنة:

ولقد تحدَّث الإمام حسن البنا عن مفهوم الوطنية في رسالة (دعوتنا) من رسائله الشهيرة، وبين المعاني والمقاصد التي يمكن أن تفهم من هذه الكلمة، وأن منها ما هو مقبول في منطق الإسلام وشريعته، ومنها ما هو مردود ومرفوض. وذلك بسبب ظهور وانتشار هذه المصطلحات الجديدة في المجتمعات الإسلامية، وولع بعض الناس بها، وفَهم كلِّ فريق لها بحسب هواه، أو هوى مَن يسير خلف فلسفتهم.

الوطنية المقبولة والوطنية المردودة:

وفي رسالة (دعوتنا) يفصِّل “الإمام البنا” القول في الوطنية تفصيلاً، فقد كان الرجل حريصا على تحديد المفاهيم الغامضة، أو المحتملة لاختلاف الأفهام، وعلى تفصيل المعاني والمصطلحات المجملة، وضبط الكلمات الهُلامية التي يفسِّرها كلُّ فريق بما يمليه عليه هواه، أو تبعيته لفكرة معيَّنة.

بيَّن في هذه الرسالة الموقف من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر، ففرَّقت القلوب، وبلبلت الأفكار. ومنها: الوطنية.

قال رحمه الله: (افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة، والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها، إساءة نالت من عزَّتها وكرامتها واستقلالها، وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألَّم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرِضَ عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكلِّ ما في وسعها من قوَّة ومَنَعَة وجهاد وجِلاد، فانطلقت ألسن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.

حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية – وهي مسلمة – أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين، وكتابات الأوروبيين: أَبَوا ذلك عليك، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية، وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظنَّ بعضهم أن ذلك مما يفرِّق وحدة الأمة، ويُضعف رابطة الشباب)[40].

وقد تحدَّث الأستاذ “البنا” عن وطنية الحنين والعاطفة، ووطنية الحريَّة، ووطنية المجتمع وخدمته، ووطنية المجد والفتح، وأشاد بها، ونوَّه بشأنها، وترحيب الإسلام بها، ولكنه رفض وطنية الحزبية والانقسام، التي تؤدِّي إلى التباغض والتناحر وتفكُّك الروابط. وهو مبنيٌّ على رأيه في إنكار الحزبية وتعدُّد الأحزاب، وهو ما ناقشناه فيه في أكثر من كتاب لنا[41].

الوحدة الوطنية واختلاف الدين:

ثم يقول الأستاذ البنا: (وأحبُّ أن أنبِّهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزِّق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام وهو دين الوَحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. فمن أين يأتي التفريق إذن[42]؟)[43] اهـ.

“مصر” في نظر “حسن البنا”:

ويعود الأستاذ إلى فكرة (الوطنية) أو (المصرية) بمعنى الانتماء إلى الوطن الخاصِّ: مصر وحبِّها، والعمل على تحريرها والنهوض بها، فيخصُّها بحديث جدير بمكانتها فيقول:

(إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقَّى الإسلام تلقيًا كريمًا، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يُدَاوى إلا بعقاقيره، ولا يطبُّ له إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكلِّ ما نستطيع؟ وكيف يقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتَّفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتزُّ بأنَّنا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظلُّ كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه هي الحَلْقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأنَّنا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام.

وليس يضيرنا في هذا كلِّه أن نُعْنى بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين الناسَ من المعارف والعلوم. فنحن نرحِّب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة. ونحارب هذه النظرية بكلِّ قوانا كمنهاج عملي، يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه، بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام، وشرح له صدرها، وأنار به بصيرتها، وزادها به شرفًا ومجدًا فوق مجدها، وخلَّصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية، وأدران الشِرك، وعادات الجاهلية)[44].

  1. موقف المودودي من الوطنية والمواطنة:

لم أجد للأستاذ “أبي الأعلى المودودي” – فيما قرأتُ له – أيَّ كتابة فيها تعاطف مع فكرة (الوطنية)، وما يتبعها من المواطنة. بل وجدتُ منه هجوما عليها، ونقدا عنيفا لها.

فقد كان يرى أن أصلها غربي أو أوربي. وهو لا يستقي أفكاره من أيِّ منهل آخر غير الإسلام.

كما أن إقراره بالوطنية، ودعوة المسلمين إليها، قد يخاف من ورائها: أن تغيب هُوِيَّة الأقلية الإسلامية في الأكثرية الهندوسية. ولهذا وجَّه انتقادات عقلية حادَّة إلى فكرة القومية والوطنية.

نقد عناصر القومية (والوطنية) من ناحية العقل:

يقول رحمه الله متحدِّثا عن القومية والوطنية: (انظرْ فيها من حيث ذاتها وتفكَّرْ: هل لها أساس عقلي مستحكم أم هي لا تعدو في حقيقتها سرابا في الفكر والتخيُّل؟

  1. النَسْلية أو العنصرية:

ما هي النسلية؟: الوحدة في الدم ولا غير، وما نقطة بدئها إلا نطفة الوالدين، تنشأ بها في عدد من البشر رابطة الدم، ثم تتَّسع وتظهر بمظهر الأسرة، فبمظهر العشيرة أو القبيلة، فبمظهر السلالة أو النسل. والإنسان إلى أن يبلغ هذا الحدَّ النهائي، يبعد عن والده الذي جعله المورث الأعلى لسلالته بعداً شاسعاً لا تبقى معه وراثته إياه إلا وهماً من الأوهام الخيالية، وتنصبُّ في نهر سلالته المزعومة جداول كثيرة من الدم الخارجي، حتى لا يبقى في مقدوره أن يدَّعي أن نهره خالص، ليس فيه إلا ذلك الدم الذي كان بدأ جريانه من منبعه الأصلي.

وإذا كان للناس على الرغم من هذه الخلطة أن يقرِّروا سلالة من السلالات مادة لوَحدتهم، فماذا عليهم لو قرَّروا أساسا لتوحُّدهم مشاركتهم في ذلك الدم الذي يربطهم جميعا بأبيهم الأول وأمهم الأولى؟ وماذا يمنعهم أن ينسبوا الناس جميعا إلى سلالة واحدة وأصل بعينه؟ ومما لا ريب فيه أن الذين قد قررهم الناس مورثين لسلالاتهم، يلتقون نسبا إذا صعدوا – قليلا أو كثيرا – في شجرة نسبهم، ولا بد من الاعتراف – آخرة – أنهم من أصل بعينه، فما المبرِّر إذن لافتراق الناس على هذه الصورة بين الآريين والساميين؟

  1. الوطنية:

أما الوحدة في المولد والمنشأ، فهي أوهن من النَسْلية وأوغل منها في الوهم والخيال، لأن المكان الذي يولد فيه الإنسان لا يزيد في عرضه وطوله عن ذراع في ذراع، وهو إذا عدَّ هذا المكان المحدود وطنا لنفسه، فلعله لا يستطيع أن يقول عن قطر ما في الأرض إنه وطنه، ولكنه يرسم حول هذا المكان خطا يبعد عنه أميالا، بل مئات وآلافا من الأميال في بعض الأحيان، ويقول: إن وطنه يتَّسع إلى هذا الخط، وإن كلَّ ما وراءه لا علاقة به أبدا.

فما كلُّ هذا إلا ضيق في نظره، وإلا فأيُّ شيء يمنعه أن يوسِّع هذا الخط إلى وجه الأرض من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى شماله ويقول: إنه وطنه؟ لأن الدليل الذي يمكن أن تتَّسع على أساسه قطعة صغيرة من الأرض إلى آلاف الأميال، من الممكن على أساسه هو أن تتَّسع هذه القطعة فتشمل وجه الأرض كلَّه.

والإنسان إن لم يضيِّق وجه نظره، فله أن يرى بدون لبس ولا إبهام: أن هذه البحار والجبال والأنهار التي قد جعلها بزعمه حدودا، وفرَّق بها بين أرض وأرض، ليست كلَّها إلا أجزاء لأرض واحدة، فلماذا أعطى هذه البحار والجبال والأنهار حقًّا في حجزه لبقعة منها محدودة؟ وما له لا يقول إنه متوطِّن الأرض كلها، وأن كلَّ مَن يسكن على وجه الأرض هو أخوه في الوطن، وله في كلِّ بقعة من بقاعها من الحقوق مثل ما له من تلك البقعة الصغيرة التي وُلد فيها، ولا تزيد في عرضها وطولها عن ذراع في ذراع؟)[45].

نظرية الإسلام الشاملة الجامعة:

ثم يعود بعد قليل ليحدِّثنا عن نظرية الإسلام الشاملة، والمعارضة للقومية والوطنية وأشباههما. يقول:

(فهذا – بعينه – ما يقول به الإسلام ويدعو إليه الناس جميعا. فهو لا يقرُّ بأيِّ فرق مادي ولا حسي بين الإنسان والإنسان. ويقول للبشر قاطبة إنكم جميعا من أصل واحد: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].

وأن ليس الاختلاف بينكم في المواطن أو المساكن أو المدافن بشيء جوهري، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام:98].

وأن حقيقة أجناسكم وقبائلكم ليست إلا من أب واحد وأم واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. أي ليس هذا الاختلاف بين شعوبكم وقبائلكم إلا لتتعارفوا، لا لتتباغضوا وتتفاخروا وتتناحروا وتتحاربوا بينكم، فلا تنسوا في هذا الاختلاف وحدة أصلكم. وإذا كان بينكم فارق حقيقي، فإنما هو على أساس الأخلاق والأعمال.

وما هذه الفُرقة بين طوائفكم والاختلاف بين جماعاتكم إلا عذاب من الله أنزله لتذوقوا به وبال ما بينكم من البغضاء والمعادة، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].

والإسلام يعدُّ هذه الطائفية من جملة الجرائم التي استحقَّ فرعون على أساسها اللعنة والعذاب الأليم: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} [القصص:4][46].

ويبيِّن أن الأرض كلَّها لله، وهو الذي كرَّم بني آدم، وجعلهم خلفاءه فيها، وسخَّر لهم كلَّ ما فيها. فما للإنسان أن يتقيَّد في بقعة محدودة من هذه الأرض ويتَّخذها معبودا له، بل إن الأرض كلَّها مُدَّت لأجله. فإذا ضاقت عليه ناحية منها، فليذهب إلى ناحية أخرى. وهو أينما يسير، يجد نعم الله تعالى موجودة مبسوطة أمامه. ففي ذلك يقول عزَّ وجلَّ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [الحج:65]، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، ويقول: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100][47].

اقرأ القرآن من أوله إلى آخره، لا تجد فيه كلمة تبرِّر النسلية والوطنية، لأنه يخاطب النوع البشري ويدعوه قاطبة إلى الخير والسعادة والفلاح، ولا يخصُّ بدعوته أمة دون أمة، أو بقعة من الأرض دون غيرها. وإذا كانت للإسلام علاقة خاصة ببقعة من الأرض، فإنما هي أرض مكة، ولكنه يصرِّح – مع ذلك – بأن المسلمين، من أهل مكة كانوا أو من خارجها، كلُّهم متساوون في أرضها، فيقول: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25][48]، ويقول عن المشركين الذين كانوا سكان مكة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]. فهذا التصريح يستأصل شأفة الوطنية في الإسلام ولا يبقى بعده لمسلم إلا أن يقول، كما عبَّر الشاعر الفارسي بما معناه بالعربية: كلُّ بلاد الأرض بلاده لأنها ليست إلا ملك ربه)[49].

أعتقد أن كلام الأستاذ الكبير المودودي رحمه الله، لم يخل من غلوٍّ في النظرة والتحليل، فإن انتماء الإنسان إلى وطنه حقيقة فطرية، وحقيقة واقعية، وإن فكرة الوطنية في حدِّ ذاتها ليست مشكلة، إلا إذا تعارضت مع الدين، أو اقترنت بالعلمانية، أو وضعت بديلا عن الدين، كما بيَّنا ذلك من قبل.

وربما كان وضع الأستاذ المودودي وقيام دعوته في الهند الكبرى، التي يتمتَّع فيها الهندوس الوثنيون بأغلبية كبيرة، يُخشَى على المسلمين أن يذوبوا فيها، إذا نسَوا انتماءهم الديني: هو الذي ترك أثره في تفكير هذا الإمام. والإنسان ابن بيئته، كما أنه ابن عصره.

الدين لله والوطن للجميع:

ومن الكلمات التي تروج في المحيط العلماني، والمحيط الليبرالي: كلمة: (الدين لله والوطن للجميع).

وهي تُقال في مقابل الذين يتمسَّكون بالدين ويرجعون إليه في حياتهم من مسلمين ومسيحين وغيرهم، فيقولون لهم: الدين لله. وكأن هؤلاء المتدينين يجحدون هذه الحقيقة: أن الدين لله. والواقع أن كلَّ المؤمنين أو كلَّ المتدينين يؤمنون بأن الدين لله.

بل رأينا الإسلام يأمر بالقتال حتى يقرَّ هذه الحقيقة في الواقع: أن يكون الدين لله، فيقول تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، وقال في مقام آخر: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} [الأنفال:39].

فهو يريد أن يستخلص الدين من أيدي الذين يتلاعبون به، ويريدون أن يكون في خدمة فئة أو شعب أو فرد من الناس، بل يجب أن يخلص الدين من كلِّ تبعية لغير الله، ويكون لله وحده، كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].

فما يريده هؤلاء من عبارتهم: الدين لله: ليس من الدين في شيء، إذ يُراد بها عزل الدين عن الحياة، وعن توعية الناس، وردِّهم إلى الله، وإلى صراطه المستقيم.

والحقيقة: أن العبارة المذكورة (الدين لله والوطن للجميع) نستطيع أن نقلبها على كلِّ الوجوه التي تقتضيها القسمة العقلية هنا.

فيمكنك أن تقول: الدين لله والوطن لله. على معنى أن الأرض كلَّها لله، والكون كلَّه لله، كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:115].

ويمكن أن تقول: الدين للجميع والوطن للجميع. فكما لا يُحرم أحد من الوطن: لا يُحرم أحد من الدين.

ويمكنك أن تقول: الدين للجميع والوطن لله.

كما يمكنك أن تقول ما قالوا: الدين لله والوطن للجميع.

 

الفصل الثاني

مواطنة المسلم في غير المجتمع الإسلامي

(الأقليات المسلمة)

موقف المسلمين في غير المجتمع الإسلامي

في الصحائف السابقة، تحدَّثنا عن (المواطنة) بخصوص غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، وهنا نتحدث عن (المواطنة) بخصوص المسلمين في غير المجتمع الإسلامي.

أعني: الأقليات المسلمة، التي تعيش في أوربة وأمريكا والشرق الأقصى وإفريقيا وغيرها. وخصوصا إذا كان هؤلاء المسلمون من أصول مهاجرة آسيوية أو إفريقية.

فكيف ينظر أهل البلاد إلى هؤلاء المسلمين، ولا سيما الذين حصلوا على جنسية هذه البلاد؟ هل يعتبرونهم غرباء عنهم، أو دخلاء عليهم، أجانب منهم، وإن حملوا جنسية البلاد؟ أو يعتبرونهم مواطنين، لهم ما لهم من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات، وإن كانوا مخالفين لهم في الدين أو في الأصل أو في اللون؟

وكيف ينظر المسلمون أنفسهم إلى موقفهم من المجتمع الذي يعيشون فيه: هل يعتبرون أنفسهم جزءا منه أو لا زالوا يعدُّون أنفسهم غرباء عنه؟ هل ينعزلون عن المجتمع ويحيَون وحدهم، منغلقين على أنفسهم؟ أو يندمجون في المجتمع ويتفاعلون معه، ويؤثِّرون فيه، ويتأثَّرون به؟

لبيان الإجابة عن هذه الأسئلة: يجب علينا توضيح الحقائق التالية أو الأحكام الشرعية التالية:

  1. حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين.
  2. حكم التجنُّس بجنسية دولة غير إسلامية.
  3. فإذا جازت الإقامة والتجنُّس، وكان كلاهما أمرا مشروعا، فما حكم الاندماج في المجتمع غير المسلم؟
  4. وهل يشرع للمسلم أن يقبل (المواطنة) في هذا المجتمع، ويصبح واحدا من أهل هذا الوطن في الحقوق والواجبات، أو لا يحلُّ له أن يعطي هذا الوطن الجديد: ولاءه وانتماءه، ويحمل همَّ ازدهاره وتقدُّمه والدفاع عنه في مواجهة أيِّ عدوان عليه، ولو كان ذلك العدوان من بلد إسلامي؟
  5. ثم ما الموقف إذا كانت الأقلية المسلمة تريد الاندماج في أهل البلد، وأهل البلد يضيِّقون عليهم، ولا يقبلونهم شركاء لهم، ويعاملونهم معاملة الدخلاء عليهم؟

حكم الإقامة في بلد غير إسلامي:

أما حكم الإقامة في بلد غير إسلامي، فهذا يختلف باختلاف حال أهل هذا البلد، وموقفه من الإسلام والمسلمين.

فمن البلاد مَن يضطهد المتدينين عامَّة، ويقف من الدين موقف المعادي، مثل: البلاد الشيوعية أيام سطوتها، والتي تقوم فلسفتها على الإلحاد وجحود الألوهية والنبوة والآخرة، وتقول: لا إله والحياة مادة فحسب. وتعلن: أن الدين أفيون الشعوب.

فهي تصادم الأديان جميعا، وتخصُّ الإسلام بمزيد من العدوان والنقمة، لأنه دين جهاد ونضال، ويغذِّي الشعوب بالأفكار الرافضة للشيوعية عقيدة ونظاما، ويطاردها بوصفها لونا من الاستعمار الامبريالي.

فمَن كان من أهل البلاد من المسلمين، فعليه أن يصبر ويصابر ويرابط، ولا يفرِّط في دينه بكلِّ ما يملك من قوَّة وطاقة، ويعمل بأحكام الضرورة فيما لا طاقة له به، معتبرا نفسه في حال إكراه واضطرار، وقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106]، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173، النحل:115].

وأما مَن أراد أن يهاجر إليها من بلد مسلم، فهذا الذي نقول له: لا يحلُّ لك أن تترك بلدك المسلم، الذي تستطيع أن تقيم فيه شعائرك، وتؤدِّي عباداتك، وتذهب إلى بلد يضيِّق عليك، ويضعك تحت المراقبة، ولا يتيح لك العمل – كما تريد – بالإسلام، ناهيك عن العمل للإسلام، والدعوة إلى الإسلام.

وفي الحديث النبوي: “لا ينبغي لمؤمن أن يذلَّ نفسه!”. قالوا: وكيف يذلُّ نفسه، يا رسول الله؟ قال: “يحمِّلها من البلاء ما لا تُطيق”[50].

وإذا كان الإسلام يوجب على المسلم الهجرة من بلده الأصلي إذا ضُيِّق عليه فيه، ولم يمكَّن من إقامة أركانه، وهو ما سمَّاه القرآن (ظلم النفس)، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].

أقول: إذا كان يوجب الهجرة لمثل هذا من بلده، فكيف يذهب مختارا إلى بلد يظلم فيه نفسه، ويُحرم فيه من إقامة دينه؟!!

وهناك بلاد يسود فيها مناخ الحرية: الحرية الدينية، والحرية المدنية، والحرية الفكرية، والحرية السياسية، وغيرها من الحريات، ولا تتدخَّل في دين أحد، بل تَدَع كلَّ إنسان وما اختار لنفسه، وتلك هي البلاد الديمقراطية الليبرالية، وإن اتَّخذت مبدأ العلمانية شعارا لها. فالأصل في العلمانية: أنها تقف من الدين موقفا محايدا، لا تؤيِّده ولا تعاديه، بل تعدُّه أمرا شخصيا لكلِّ فرد فيما بينه وبين ربِّه، الذي آمن به، وتعبَّد له، أيًّا كان هذا الرب أو الإله.

وهذا هو المناخ الذي كان سائدا في أوربا وأمريكا طوال القرن العشرين، والذي سمح باستقبال أفواج كبيرة بالملايين من بلاد العرب والمسلمين، لأسباب شتَّى، منها العمالة، التي كانت أوربا في أمسِّ الحاجة إليها، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية.

وفي هذا المناخ لا أرى بأسا من هجرة المسلم إلى بلاد أوربا التي يدين أغلبها بالنصرانية (المسيحية) والإقامة فيها، إذا كان ذلك لأهداف مشروعة، مثل: العمل وكسب المعيشة، حيث تضيق فرص العمل الملائم في بلده، وتتَّسع في هذه البلاد، فالسعي في طلب الرزق، والمشي في مناكب الأرض مشروع للمسلم.

وقد استقبلت فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها: الألوف، بل الملايين للعمل في شتَّى نواحي الحياة، من بلاد الشمال الإفريقي، وغيرها من بلاد إفريقيا، ومن تركيا، ومن شبه القارة الهندية وغيرها.

وقد قال الشاعر:

بِلادُ اللهِ واسِعةٌ فضَاهـاورزقُ اللهِ في الدَّنْيا فسِيـحُ
فقلْ للقاعِدينَ على هَوانٍإذا ضاقَتْ بكُمْ أرضٌ فَسيحوا

وقال تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].

ومثل طلب الرزق: طلب الأمن، إذا كان يشعر في بلاده بالخوف على نفسه أن يسجن أو يعتقل أو يحاكم محاكمة عسكرية ظالمة، أو الخوف على أهله وولده، أو الخوف على ماله وأملاكه، وقد رأى العبرة في أمثاله وقرنائه، فأراد أن يبحث عن مكان يأمن فيه على دينه ونفسه وأهله وماله. فمن حقِّ الإنسان أن يبحث عن أمنه وأمن أسرته، فإن حاجة الإنسان إلى الأمن من خوف، كحاجته إلى الطعام من جوع، كما قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4].

واعتبر القرآن الجوع والخوف شرَّ ما تبتلى به المجتمعات، {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].

ولهذا حين استقبل سيدنا يوسف عليه السلام أبويه وإخوته في مصر قال لهم: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99].

ومثل طلب الرزق، وطلب الأمن: طلب الدراسة، ولا سيما في التخصُّصات التي لا تتوافر في بلاد الشرق، وإذا توافرت كانت مستوياتها وإمكاناتها متواضعة، فيذهب الطالب للدراسة، ثم تحلو له الإقامة لسبب أو لآخر، فيختار الإقامة في هذا البلد أو ذاك.

وكلُّ هذا يسوِّغ الإقامة في تلك البلاد، بشرط ألا يخاف على دينه ودين أهله وذريَّته من شيوع نزعة التحلُّل والإباحية في هذه المجتمعات، وانتشار الموجة المادية التي تستخف بالأديان والإيمان بالغيب، والاهتمام بالدار الآخرة. فمَن وجد في هذه الديار خطرا على دينه أو دين أولاده، فلا تحلُّ له الإقامة هناك، وإن كان يكسب فيها الملايين، فما قيمة أن يكسب المسلم الدنيا ويخسر الدين؟ وما قيمة أن يربح الأموال ويفقد الأولاد؟

وقد قلتُ في أواسط السبعينات للإخوة المسلمين المهاجرين إلى أمريكا: إذا كنتم تحسُّون بخطر على دينكم أو دين ذراريكم، فابدأوا رحلة العودة من الغد! فليس هناك عند المسلم شيء أغلى وأعز من الدين. وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].

وأهم من الأهدداف السابقة كلها: هدف من يهاجر ليقيم في تلك البلاد، ابتغاء تبليغ دعوة الإسلام إلى أهلها، امتثالا لما أمر الله به ورسوله من تبليغ الرسالة، التي بلَّغها رسول الإسلام في حياته، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].

ونحن مأمورون أن نأتسي برسول الله، ونبلِّغ الرسالة كما بلَّغها إلى الناس، فالأمة مبعوثة بما بُعث به رسولها عليه الصلاة والسلام، وقد قال لأمَّته: “إنما بُعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين”[51].

وقال الصحابي رِبعي بن عامر لرستم قائد الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام[52]!

وبهذا تتحقَّق (عالمية الرسالة الإسلامية) كما صوَّرها القرآن، الذي يقول في مخاطبة الرسول الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158].

ولا ريب أن الإقامة بين المبلَّغين تُعين على قوَّة التأثير فيهم بالقول والفعل والأسوة الحسنة، وتردُّ على كلِّ تساؤل ردًّا مباشرا، وهذا هو أسلوب المسلمين في القرون الأولى: أن يقيموا بين ظهراني الناس، ويختلطوا بهم، ويشاهدوا أخلاقهم وسلوكياتهم، ويتأثَّروا بهم ويحبُّوهم، فيحبُّوا دينهم بحبِّهم، فأظهر وأقوى ما أثَّر في الأمم هو: سلوك المسلمين المثالي، الذي لم يروا مثله في الأمم الأخرى.

فمَن أراد أن يذهب إلى تلك البلاد غير المسلمة بنيَّة الدعوة إلى الإسلام، ونشر دين الله فيها، وكان مؤهَّلا لذلك، بما يملك من ثقافة إسلامية واعية، كما يملك معرفة لغة القوم التي يخاطبهم بها، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [ابراهيم:4]. وكذلك يملك إيمانا عميقا برسالته، كما يملك خُلقا حسنا، وقدرة على التعامل الإيجابي مع الناس.

بل المطلوب من المسلمين: أن يكون لهم في كلِّ أنحاء العالم، ألسنة صدق تدعو إلى دينهم بلسان الأقوام المدعوَّة، فهذا يعتبر من فروض الكفاية الواجبة على مجموع الأمَّة بالتضامن، فإذا قام به البعض بصورة ملائمة، وبعدد كافٍ: سقط الإثم عن سائر الأمة، وإلا سقطت الأمة كلُّها في الحرج.

إقامة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة في ظلِّ حكم غير إسلامي:

ومن الدلائل على مشروعية إقامة المسلم تحت سلطان دولة غير إسلامية: بقاء المسلمين في الحبشة بعد قيام دولة الإسلام في المدينة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمرار بعضهم فيها لعدَّة سنوات. حتى إن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يقدم على المدينة إلا في السنة السابعة بعد الهجرة، أي عند فتح خيبر، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمه، وقال: “لا أدري بأيهما أسر: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر”[53].

لا أستدلُّ هنا بمجرَّد الهجرة إلى الحبشة، وبقاء المسلمين بها قبل الهجرة، والحبشة بلد يحكمه ملك نصراني، فمن المنطقي أن يقال: إن المسلمين هنا كانوا في حالة اضطرار للهجرة إلى هذا البلد والبقاء فيه، وللضرورات أحكامها الاستثنائية. كما كان الرسول والمسلمون في مكة تحت سلطان أهل الشرك من قريش.

بل الذي أستدلُّ به هنا، هو: إقامتهم في الحبشة بعد الهجرة إلى المدينة، وتأسيس دولة الإسلام بها، ووجود (دار) مستقلَّة للإسلام، تنتشر منها دعوته، وتحكم فيها شريعته، وينطلق منها جنوده. فهذا يدلُّنا على أن المسلم يستطيع أن يعيش في كَنَف دولة غير مسلمة، ولا يفرض عليه الهجرة منها، ما دام يعيش فيها آمنا على نفسه وأهله ودينه وحرماته. لا يضطهده أحد، ولا يفتنه عن دينه … وإلا وجب عليه أن يفارقها مهاجرا، حتى لا يكون من الذين تتوفَّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم[54].

شبهات تثار حول الإقامة في بلاد غير المسلمين:

ومن المسلمين – ولا سيما المتشدِّدين – مَن يُثير شبهات شرعية، حول إقامة المسلم في بلاد غير إسلامية، معتمدين على بعض الأحاديث المرويَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من هذه الأحاديث، قوله عليه الصلاة والسلام: “أنا بريء من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين”. قالوا: لِمَ يا رسول الله؟ قال: “لا تراءى ناراهما”.

وحديث: “مَن جامع مشركا، وسكن معه، فهو مثله”.

ولا بد لنا من وقفة مع هذين الحديثين، لنرى مدى صحَّتهما سندا، فإذا ثبتا من ناحية السند، لا بدَّ من نظرة في دلالة المتن أو النصِّ، وهل ما استُنبط منهما صحيح مقبول أو لا؟

  1. حديث: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”:

أما حديث: “أنا بريء من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تتراءى ناراهما”[55].

فقد فهم منه البعض: تحريم الإقامة في بلاد غير المسلمين، وأفتى بذلك مفتون في بلاد شتَّى، وضيَّقوا بذلك على المسلمين الكثيرين الذين يعيشون في أوربا وغيرها، مع تعدُّد الحاجة إلى ذلك في عصرنا: للتعلُّم، والتدواي، وللعمل، وللتجارة، وللسفارة، وللفرار من الاضطهاد، ولنشر الدعوة، ولتعليم المسلمين الجدد وتثبيتهم، ولغير ذلك، وخصوصا بعد أن تقارب العالم حتى غدا كأنه (قرية كبرى) كما قال أحد الأدباء! والحقيقة: أنه أصبح – من الناحية المادية[56] – قرية صغرى!

والحديث الذي اعتمدوا عليه رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله مسندا ومرسلا، أي بدون ذكر الصحابي، وذكروا أن الصحيح هو المرسل. ولم يروه النسائي إلا مرسلا، وبعد أن رواه الترمذي مرسلا، قال: هذا أصحُّ، ونقل عن البخاري: الصحيح المرسل، ولكنه لم يخرجه في صحيحه، ولا هو على شرطه. والاحتجاج بالمرسل: فيه الخلاف المشهور في علم الأصول، وعامَّة أهل الحديث يعدُّون المرسل في الحديث الضعيف.

ونصُّ الحديث: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية)، وقال: “أنا بريء من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين”. قالوا: يا رسول الله، لِمَ؟ قال: “لاتتراءى ناراهما” انتهى. ومعنى: “لا تتراءى ناراهما”: أي لا يتجاوران ولا يتقاربان، بحيث ترى نار كلٍّ منهما نار الآخر، وهو كناية عن بُعد ما بينهما.

وإنما جعل لهم نصف الدية وهم مسلمون؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقِّهم[57] لإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وشدَّد في مثل هذه الإقامة التي يترتَّب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله، والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72].

فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين، إذ كانت الهجرة واجبة[58]، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: “أنا بريء من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر المشركين”: أي بريء من دمه إذا قُتل؛ لأنه عرَّض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدعوة الإسلام، ولدولة الإسلام.

ومعنى هذا: أنه إذا تغيَّرت الظروف التي قيل فيها النص، وانتفت العِلَّة الملحوظة من ورائه، من مصلحة تُجلب، أو مفسدة تُدفع، فالمفهوم أن ينتفي الحكم الذي ثبت من قَبْلُ بهذا النصِّ، فالحكم يدور مع عِلته وجودا وعدما[59].

ومما يقوِّي هذا الحديث: ما جاء في مسند أحمد برقم (20238) من زيادات عبد الله، عن جرير رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبايعه، فقلتُ: هاتِ يدك، واشترط عليَّ، وأنت أعلم بالشرط، فقال: “أبايعك على أن لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح المسلم، وتفارق المشرك“.

قال مخرِّجوه: هذا حديث صحيح، ورواه النسائي في البيعة (4177)، والطبراني في الكبير (2/314)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/13).

وفي بعض روايات هذا الحديث في المسند (19153) بلفظ: “وتنصح للمسلم، وتبرأ من الكافر”.

وقال مخرجوه: حديث صحيح، ورواه الطبراني في الكبير (2/314).

ويؤيده حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، وفيه: “لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملا، أو يفارق المشركين إلى المسلمين”.

رواه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (2043)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، ورواه النسائي في الزكاة (2568)، وابن ماجه في الحدود (2536)، والحاكم في الأهوال (4/643)، وصحَّح إسناده ووافقه الذهبي.

ومما جاء في مسند أحمد في هذا المعنى، ما رواه عبد الله في زياداته، عن يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: كنا بالمِربَد جلوسا فأتى علينا رجل من أهل البادية، لما رأيناه قلنا: كأن هذا رجل ليس من أهل البلد! قال: أجل. فإذا معه كتاب في قطعة أديم – قال: وربما قال: في قطعة جراب – فقال: هذا كتاب كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أُقَيْش، وهم حي من عُكْل: إنكم إن أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم الخمس من المغنم، ثم سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصَّفِي – وربما قال: وصفيه – فأنتم آمنون بأمان الله تبارك وتعالى وأمان رسوله”.

قال مخرِّجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير صحابيه، ورواه البيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/303).

  1. حديث: “مَن جامع مشركا وسكن معه، فهو مثله”:

وأما الحديث الآخر الذي يعتمد عليه مَن يعتمد في تحريم الإقامة مطلقا في بلاد غير المسلمين. فهو حديث: “مَن جامع مشركا وسكن معه، فهو مثله”.

ومعنى “جامعه”: أي اجتمع به وضمَّهما مكان واحد، وقد فسَّر ذلك قوله: “وسكن معه”. ومعنى “فهو مثله”: أي في الإثم، كأنه نوع من التولِّي له، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].

وأبادر هنا فأقول: إن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه أبو داود في الجهاد (2787)، عن سمرة بن جندب، من طريق جعفر بن سعد، عن خبيب بن سليمان بن سمرة، عن أبيه، عن سمرة، وهو إسناد ضعيف بالإجماع[60].

نظرة في دلالة الأحاديث:

وإذا تأمَّلنا في متون هذه الأحاديث ودلالتها تبيَّن لنا ما يلي:

أولاً: أنها تتحدَّث عن (المشركين) وفراق (المشركين). والمشركون كما ذكرنا تعني عُبَّاد الأصنام. ونحن بصدد الحديث عن أهل الكتاب وخصوصا المسيحيين منهم.

ثانياً: أن لفظة (المشركين) إذا أُطلقت في ذلك الوقت، تعني: المشركين المحاربين، الذين أعلنوا العداوة للإسلام ورسوله، وصدُّوا عن سبيل الله، وشهروا السيف على دعوة الإسلام، وفتنوا المؤمنين به، وعذَّبوهم، وأخرجوهم من ديارهم، حتى يرغموهم على الرجوع عن دينهم.

وهؤلاء هم الذين ينهى المسلمين أن يوالوهم ويرتبطوا بهم، بخلاف المشركين المسالمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم. وهو ما قرَّره القرآن بوضوح في آيتين كريمتين من سورة الممتحنة تعتبران دستورا للعلاقة بين المسلمين وغيرهم، يقول تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9،8].

ثالثاً: يجب أن نحدِّد المقصود من (فراق المشرك) في هذه الأحاديث التي كان من وصاياها: “وتفارق المشرك”. فما المراد بكلمة (الفراق) هنا؟ أهو الفراق الحسِّي أم الفراق المعنوي؟

وإذا قلنا: إن الفراق الحسي هو المراد، فقد يكون معناه الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام، ولا سيما إذا كان المسلم مضيَّقا عليه في دار الشرك. وهذا ما قد يُفهم من حديث بَهْز بن حكيم: “أو يفارق المشركين إلى المسلمين”. وهذا هو ما كان واجبا على كلِّ مَن أسلم: أن يهاجر من بلده إلى المدينة، حتى كان فتح مكة، وبها ظهر الإسلام، وأثبت وجوده وقوَّته، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم: سيد الجزيرة. وهنا قال صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا”[61]. وهذا بالنظر إلى حديث بَهْز بن حكيم لا إشكال فيه.

ولكن الإشكال في حديث جرير، أنه قد يعكِّر على هذا الفهم أن جريرا رضي الله عنه، إنما أسلم في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن نسخ وجوب الهجرة.

ولعل هذا ما يؤيِّد الفهم الآخر لمفارقة المشركين في حديث جرير، وهو المفارقة المعنوية: أيْ مفارقتهم في عقائدهم، وفي مفاهيمهم، وفي أخلاقياتهم، التي أفسدتها الوثنية، وجنت عليها الجاهلية.

ومما يقوِّي هذا الفهم: أن بعض روايات الحديث جاء بلفظ: “وتبرأ من الكافر”. والبراءة من الكافر غير ترك السكنى معه، فالبراءة منه: أن يعلن أنه لا يؤمن بمعتقداته بتعدُّد الآلهة، أو بإنكار البعث، أو باستحلال الحرام، أو بتحريم الحلال، أو غير ذلك، كما كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر وأمراء النصارى وغيرهم من أهل الكتاب يختمها بالآية الكريمة من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

نشر الدعوة وتثبيت المستجيبين لها يستلزم البقاء في أرض الكفر:

ومما يدلُّ على مشروعية الإقامة في بلاد غير المسلمين، ليحقِّق مقاصد مشروعة: أن الإسلام فرض على المسلمين أن يبلِّغوا دعوتهم إلى العالمين، لتتحقَّق رحمة الله العامة ببعثة محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين. ومن لوازم ذلك: أن يقيم أناس في بلد الدعوة، ليعلِّموا مَن دخل في الإسلام، ويثبِّتوهم، وهذا أمر ضروري في توريث الإسلام العملي للمسلمين الجدد، ومن القواعد المتَّفق عليها: أن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.

وهذا ما وقع بالفعل خلال التاريخ الإسلامي, وبه انتشر الإسلام في بلاد شتَّى، وثبت فيها، وتغلغل في حياة أهلها. ومنها بلاد لم يدخلها جيش إسلامي، ولم ينتشر الإسلام بين ربوعها إلا بأخلاق المسلمين، وحسن تعاملهم، وحسن فَهمهم لحقائق الإسلام دون تعقيد أو تعسير.

ومن ذلك بلاد كبيرة معروفة، مثل إندونسيا وماليزيا، التي دخل الإسلام إليها عن طريق التجار المسلمين الذين جاؤوا من حضرموت وما حولها، ولم يكونوا علماء ولا دعاة محترفين. فأحبَّهم أهل البلاد، وأحبُّوا دينهم ودخلوا فيه أفواجا، ومكثوا في ديارهم، وصاهروهم، حتى أضحوا جزءا منهم، ولا زالت أنسالهم إلى اليوم تعيش في تلك البلاد بوصفهم مواطنين أصليين فيها.

ومثل ذلك: كثير من البلاد الإسلامية في إفريقيا، انتشر الإسلام عن طريق الاختلاط والمعاشرة، وعن طريق الطرق الصوفية.

ولو كان الحكم الدائم هو تحريم إقامة المسلم في بلاد أهل الكفر: ما وجد الإسلام سبيلا للانتشار أبدا، وسددنا عليه الطريق مختارين.

هذا مع أن أهل الكتاب نرى أمرهم أسهل وأيسر من غيرهم، لما قرَّر لهم الإسلام من أحكام خاصة بهم، تجعلهم أقرب إلى المسلمين من الوثنيين وأمثالهم، ومن ذلك: أنه أباح للمسلمين الزواج من نسائهم، وهذا خطوة تقدمية في التسامح مع المخالفين، قلَّما تسمح بها الأديان الأخرى.

وبهذا تنعقد المصاهرة بين الرجل المسلم وأهل زوجته، التي أمست شريكة حياته، وأم ولده. وأما اولاده منها، فعليهم حقوق البرِّ لأمهم، وصلة الرحم لأجدادهم وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم، وأولاد أخوالهم وخالاتهم، وهؤلاء جميعا لهم حقوق ذوي القربى، التي توجبها صلة الرحم التي أمر الله أن توصل: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75].

ومثل هذه الصلات تجعل متَّسعا لهؤلاء ليقيموا مع أمهاتهم أو أجدادهم أو أخوالهم، إذا كان هناك مَن يعلمهم دينهم، وما يمكِّنهم من إقامة فرائضهم، ولا يخشى خطرا على دينهم في بقائهم.

التجنس بجنسية البلاد الأوربية:

قد رأينا كيف أثار بعض علماء المسلمين شبهات حول إقامة المسلمين في البلاد الأوربية، بوصفها خارج دار الإسلام، وقد رددنا على هذه الشبهات، وفنَّدناها بالأدلَّة الشرعية، وبيَّنا أن إقامة المسلم في البلاد الأوربية وغيرها لا حرج فيه شرعا، بل قد يكون مطلوبا طلب استحباب أو طلب وجوب، حسب الأهداف المتوخَّاه من هذه الإقامة.

بقي هنا موضوع آخر مرتبط بموضوع الإقامة، وهو التجنُّس بحنسية هذه البلاد الأوربية، من فرنسية أو بريطانية أو ألمانية أو غيرها.

ومن المؤكَّد: أن الذين يرفضون الإقامة في أوربا وغيرها من البلاد غير الإسلامية: يرفضون – من باب أولى – التجنُّس بجنسيتها.

وقد رأينا من العلماء والدعاة مَن يتشدَّد في ذلك غاية التشدُّد، ويحرِّم على المسلمين حمل أيَّ جنسية غير إسلامية. وقد بحثت ذلك الندوة الفقهية التي عقدت في الكلية الأوربية الإسلامية في فرنسا، وحضرها عدد من الفقهاء المعتبرين، على رأسهم العلاَّمة مصطفى الزرقا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدَّة، والشيخ منَّاع القطَّان، وغيرهم. وكانت مسألة التجنُّس بالجنسية الأوربية من المسائل المعروضة، وقد انتهت الندوة إلى إجازتها، والردِّ على شبهات العلماء المشدِّدين فيها.

وقد كان من الذين تشدَّدوا في حمل الجنسية غير الإسلامية: الأستاذ حسن البنا رحمه الله، وله في ذلك فتوى منشورة معروفة قال فيها:

(مجرَّد تجنُّس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية: كبيرة من الكبائر، توجب مَقْت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود، عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن ادَّعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة”[62]، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]؛ فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزِّق روابطهم، وتؤدِّي إلى أن يكون المؤمن، في صفِّ الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرا للمسلم أن يَدَع هذه الديار وأمثالها إن تعذَّرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100]، والله أعلم)[63] انتهى.

ولكن الذي أراه هنا: أن أخذ الجنسية من بلد غير إسلامي يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك في حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممَّن يحاربون الإسلام؛ ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسي أن أخذ الجنسية الفرنسية يُعدُّ خروجا ورِدَّة عن الإسلام؛ لأنه بتجنُّسه باع ولاءه لوطنه، واشترى ولاءه للمستعمر، فأفتى العلماء الكبار بكفر مَن فعل ذلك. لأن هذه الفتوى سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد، ولكن في الأوقات العادية فالمسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوَّة ومَنعة؛ فلا يحقُّ للسلطات طرده، ويكون له حقُّ الانتخاب في المجالس البلدية والتشريعية وانتخابات الرئاسة، مما يعطي المسلمين قوَّة في هذه البلاد؛ حيث يخطب المرشحون ودَّهم، فحمل الجنسية ليس في ذاته شرًّا ولا خيرًا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتَّب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم.

ولكي نكون منصفين: فلا بد أن نضع فتوى البنا ومَن وافقه في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطوُّر العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين. كما أن الأستاذ في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس وثورة ، واندفاع في المواجهة. وللسنِّ حكمها، وللبيئة والزمن تأثيرهما، وعلى كلِّ حال؛ ليس في العلم كبير، وكلُّ أحد يؤخذ منه ويردُّ عليه، إلا مَن ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.

هل يقبل الغرب المسلمين مواطنين كغيرهم لهم كل الحقوق؟

في عامَّة البحوث الإسلامية حول اندماج الأقليات المسلمة في الغرب، وقبول فكرة (المواطنة) التي تتيح للمسلم التعايش من أهل البلاد، واكتساب ما لهم من حقوق المواطن، التي يحصل عليها غيرهم بيسر وسهولة، ودون عوائق أو مكدِّرات.

أقول: في عامة البحوث يتَّجه الباحثون إلى أن العقبة في الاندماج وقبول المواطنة هم المسلمون أنفسهم، الذين لا يقبلون بسهولة: فكرة الاندماج في غيرهم، وبخاصة الجيل الأول من المهاجرين، الذي يظلُّ مرتبطا بوطنه الأول، حذرا من الاندماج في وطنه الثاني، وربما كانت عنده أفكار متوارثة أو مفاهيم مغلوطة، يقبلها تقليدا على أنها الدين الحقُّ، ولم يناقشها مع علماء راسخين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة.

وهذا صحيح، وهو ما جعل (المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث) منذ نشأته إلى اليوم، يصدر في كلِّ دورة من دوراته: بيانا ينادي فيه المسلمين بوجوب التفاعل مع الأوطان التي يعيشون فيها، والاندماج في شعوبها، وعدم العزلة عنها، وضرورة المشاركة الإيجابية في كلِّ ما يرقى بالوطن ويعمل على ازدهاره، وبهذا يظهر نشاطهم وتحرُّكهم وجدُّهم واجتهادهم في خدمة الوطن، مع وجوب احتفاظهم بعقائدهم وشعائرهم وأخلاقياتهم وآدابهم وقِيَمهم وتقاليدهم التي تميِّزهم عن غيرهم، والتي فرضها عليهم دينهم. وبهذا تتحقَّق هذه المعادلة التي قد يظنها بعضهم صعبة، وهي: استقامة بلا انغلاق، واندماج بلا ذوبان.

هذا هو موقف العلم والفكر الإسلامي من قضية الاندماج والمواطنة للأقليات المسلمة في أوربة وفي الغرب عموما، ولكن غفل علماء المسلمين وباحثوهم بصفة عامة عن موقف الغرب من قبول (مواطنة ) المسلمين معهم، واندماجهم فيهم.

إذ كان المفهوم من قبل: أن العائق إنما هو عند المسلمين، ولم يكن معروفا أن أوربة والغرب لديهم عقبة أو عائق من قِبَلهم أنفسهم. فقد كانت الفلسفة الليبرالية السائدة عند الغربيين، وخصوصا أوربا الغربية، وأمريكا الشمالية، ترحِّب باندماج المسلمين فيهم، وتجعل لهم كلَّ الحقوق الممنوحة للمواطنين الأصليين، ولغيرهم من المهاجرين إليهم من الجنس الأبيض، فلم يكن هناك – في الغالب – تمييز بين أبيض وأسود وملوَّن، إنما هي حقوق الإنسان من حيث هو إنسان، بغضِّ النظر عن لون جلده، أو لون عينيه، أو شكل أنفه، أو رأسه، أو مدى نعومة شعره! وساعد على هذا التوجُّه أن الأفواج الأولى من المهاجرين لم يكن يعنيها إلا لقمة العيش، ولم تكن تهتمُّ بأمر الإسلام فكرا أو سلوكا.

ولكن في السنوات الأخيرة، وبعد ظهور الصحوة الإسلامية – وخصوصا بعد 11 سبتمبر 2001م – تغيَّر الموقف كثيرا، وأضحى المسلمون يعاملون معاملة خاصة، فيها كثير من الإساءة والاستفزاز، بل التحقير والإيذاء أحيانا: لا لشيء إلا لأنهم مسلمون.

جاء ذلك نتيجة تغيُّر السياسات، التي تتبنَّاها الأنظمة الحاكمة، كما في سياسة جورج بوش وجماعة اليمين المسيحي المتطرِّف والمتصهين في أمريكا، وتوني بلير في بريطانيا، وإنجيلا ميركل في ألمانيا، وغيرهم. ومعظم ما حدث من تغيُّر نتيجة تاثير اللوبي الصهيوني الذي يغذِّي مخابرات البلاد الغربية بمعلومات كاذبة أو ملفَّقة حول المسلمين ودعوتهم، ويعظِّم من شأن الغلاة والمتطرِّفين، وكأنهم أكثرية المسلمين، وما هم إلا فئة قليلة، ينبذها جمهور المسلمين.

ولا غرو أن تجد في أوربا أحزابا يمينية متطرِّفة، تقوم برامجها على إعلان العداء للمهاجرين، والسعي إلى طردهم، وتطهير البلاد من وجودهم، أو على الأقل تحجيمهم وتقزيمهم وتهميشهم، حتى لا يكون لهم دور في المجتمع.

وأحيانا نجد تغيُّر الموقف ضد المسلمين، نتيجة لتغيُّر (الفلسفة) السائدة والمؤثِّرة في التفكير العام، والتي يتبنَّاها الإعلام ويروِّج لها.

ظهور فلسفات رجعية في “فرنسا”:

مثال ذلك: ما حدث في “فرنسا” التي كانوا يعتبرونها (أم الحريات)، ومحضن الليبرالية، وسادنة حقوق الإنسان!

فقد ظهر فيها بعض هؤلاء الذين ينقدون فلسفات الماضي، ويعتبرونها فلسفة مثالية، لا تمتُّ للواقع بصلة، ويدعون إلى فلسفة جديدة، على النقيض من تلك الفلسفات القديمة، التي ضلَّلت العقل الفرنسي بما قدَّمته له من رؤى ومعارف غير حقيقيَّة. ولهذا عدَّها الباحثون والراصدون للأفكار (فلسفة رجعية) حقًّا، لا أثر لها إلا تأخير فرنسا إلى القرون الوسطى، على عكس ما نادى به فلاسفة التنوير أمثال فولتير ورسُّو، وفلاسفة الحرية والإنسانية مثل سارتر وفوكو وألتوسير.

كتب الكاتب التونسي (لسْعَد الواعر) في صحيفة (الصباح) التونسية مقالتين في (3، 4/4/2007م) بعنوان (تساؤلات حول الفلسفة المعاصرة في فرنسا)، كشف فيها النقاب عن هذا الفكر أو هذه الفلسفة الرجعية الجديدة، التي يجسِّدها الفيلسوف (فيلكينكروت) الذي انتقل من اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف، والذي سانده قلة من الفلاسفة والمثقفين الشبان مثل (برنارد هنري ليفي) و(أندريه غلوكسمان) وغيرهما.

سمَّى هذا الفيلسوف اتجاهه الرجعي الجديد (مراجعة ذاتية) وفيها هاجم التيار اليساري والتقدُّمي الذي كان ينتمي إليه، وزعم أنه كان أسطورة أو خرافة في تبنِّيه للمساواة المطلقة بين الأجناس والطبقات والأفراد.

وفي كتابه (هزيمة الفكر) الذي نشره سنة 1987م أعلن صراحة عن اتجاه نقدي راديكالي، للفلسفة أو للثقافة المعاصرة، ووصفها بالتسيُّب والانحلال، وخصوصا بسوء تشخيصها (الأخلاقي) وغير الواقعي لمشاكل المجتمعات الغربية المعاصرة، مثل سوء التفاهم بين الثقافات الموجودة في فرنسا، أو مشكل البطالة، أو مشكل الفشل المدرسي.

فإذا كان الحديث عن إخفاق العرب أو الأفارقة المهاجرين في (التأقلم) مع نموذج العيش الفرنسي، فإن فيلكينكروت وغلوكسمان لا يرجعان ذلك إلى الحيف الطبقي الاقتصادي والاجتماعي الواقع والضاغط على هذه الأقليات المهاجرة، بل إلى (الذهنية) الرمزية العربية أو الإفريقية، التي لا يمكنها أن (تتأقلم) مع الذهنية الغربية المتقدِّمة علميا وسياسيا[64].

وكأنه يعيد نظرية تفاضل الأجناس من جديد، و(تفوق الرجل الأبيض) على غيره، وأنه خلق ليسود ويقود، وأن غيره من الأجناس إنما خلقوا لينقادوا له ويتبعوه!! وكانت هذه النظرية (اللاعلمية) قد عفا عليها الزمن، وجرفتها النظريات التي تسوِّي بين البشر في العقل والروح والخصائص الإنسانية.

على كلِّ حال، هذا هو الفكر الذي يروِّج له الإعلام في فرنسا، وهي نموذج لغيرها من دول الغرب. ومعنى هذا: أن الغرب بعد أن كان قوَّة جاذبة للمسلمين إلى دياره، أصبح قوَّة طاردة لهم، وأضحى يضيق بهم ذرعا، وكأنه يردِّد مجدَّدا مقولة الأديب الغربي القديم: الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا!!

وقفة للتأمل:

ولكن يجب علينا للإنصاف وللوصول إلى الحقيقة: أن نقف هنا وقفة للتأمل والتعمُّق في القضية، فهل فكر هؤلاء (الرجعيين) يمثِّل الفكر العام في أوربة وأمريكا؟ أو هو يمثِّل شريحة معينة من أهل الفلسفة أعماهم التعصُّب عن رؤية الحقيقة، ولم ينظروا إلى الأمر نظرة أعمق، تتجاوز الغلاف أو القشرة الظاهرة للإنسان والأشياء، وتتأمَّل في الإنسان من حيث هو إنسان، فإذا هو جوهره واحد، وإن اختلفت الأوطان والألوان والألسنة، أو اختلفت الأشكال والمستويات والطبقات.

أكبر ظني: أن الذي يسود في النهاية هو النظرة الإنسانية، والفكرة الكونية، التي لا تركِّز على ما يفرِّق الناس ويميزهم بعضهم عن بعض، بل على ما يجمع بينهم، وهو كثير. والبقاء دائما للأصلح، والقرآن يؤكِّد ذلك فيقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].

ولا ريب أن الواقع يفرض نفسه، فقد أصبح المسلمون جزءا من الواقع الأوربي، وغدا منهم أعضاء في البرلمانات المختلفة في عدد من الأقطار الأوربية، ومنهم أعضاء في مجلس العموم البريطاني، وفي مجلس اللوردات، وأعضاء في الأحزاب الحاكمة أو المعارضة، بل بات منهم مَن يتبوَّأ منصب الوزارة، ولم يعُد من الممكن – كما أنه ليس من المفيد قطعا – التفكير في محو الوجود الإسلامي من أوربا، أو من أمريكا، ولا سيما أن بعض هذا الوجود أصيل وليس مهاجرا.

على أن من الخير كلِّ الخير: أن يظلِّ هذا التنوع قائما، فالكون كلُّه قائم على ظاهرة التنوع، أو ما يسمِّيه القرآن (اختلاف الألوان)[65]، وبهذا تتلاقح الثقافات، وتتفاعل الحضارات، ويأخذ بعضها من بعض، كما يعطي بعضها بعضا. ويكفي الجميع وجود الأصل الإنساني المشترك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].

مرحلة ما بعد “11 سبتمبر”.. استثنائية:

وهذه المرحلة التي حدثت بعد 11 سبتمبر 2001م لا ينبغي أن تلغي التاريخ كلَّه، ولا أن تحكم على المستقبل كلِّه. إنها فترة استثنائية، لا بد أن تنتهي، وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية، كما يقولون.

وعلى المسلمين في أوربة – وفي أمريكا كذلك – أن يصبروا على مواجهة هذه الفترة بما يصاحبها من مضايقات وسلبيات، ويثبتوا أنهم أصحاب رسالة عالمية، وأن لدينهم مفاهيم وقِيَما دينية وخلقية تجعلهم يتعايشون مع جيرانهم من أهل هذه البلاد بأخلاق المؤمنين، وفضائل الملتزمين، وبخاصة أن أهل هذه البلاد في نظر المسلمين: (أهل كتاب) خصَّهم الإسلام بمعاملة متميِّزة دون سواهم من غير المسلمين، حتى شرع للمسلم أن يصاهرهم ويتزوَّج منهم.

ومن هنا لا يجد المسلم الفاقه لدينه: صعوبة في الاندماج في المجتمع الغربي، والامتزاج بأهله، والتأقلم معهم، دون أن يفرِّط في دينه وما فرض الله عليه من واجبات، وما حظر عليه من محرمات.

والأصل في المجتمعات الغربية اليوم: أنها مجتمعات (علمانية). وذلك بعد أن اصطدمت هذه المجتمعات بالكنيسة الغربية التي كانت تمثِّل سُلطة الدين، وقد وقفت مع الجمود ضد التحرر، ومع الظلام ضد النور، ومع الخرافة ضد العلم، ومع الإقطاع ضد الفلاحين، ومع الملوك ضد الشعوب، فلا عجب أن ثارت عليها الجماهير، وتمرَّدت على سلطانها، وجرَّدتها من سيف السلطة الزمنية، وقصرتها على السلطة الرُّوحية، وبهذا فصلت الدين عن الدولة أو المجتمع، أي عن الكنيسة.

وكانت مصلحة تلك المجتمعات في اختيار مبدأ العلمانية. أما مجتمعاتنا فلم تكن في حاجة قط إلى مثل ذلك الاختيار، لأن الوضع غير الوضع، والتاريخ غير التاريخ.

والمفهوم أن العلمانية الليبرالية (محايدة) مع الدين، لا تؤيِّده ولا تعاديه، ومعنى ذلك: أن المسلم يستطيع أن يحيا بعقيدته، ويؤدِّي عباداته، ويجتنب ما حرِّم الله عليه، دون أن يضغط عليه أحد، أو يُكرهه على ترك مأمور، أو فعل محظور. وهذا هو ما تنصُّ عليه الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان، من توفير الحرية الدينية لكلِّ الناس.

بيد أن هناك بعض العلمانيات لا تلتزم بموقف الحياد من الدين كما هو الأصل المقرَّر في ذلك، بل تتدخَّل أحيانا بما ينافي الحرية الدينية، والحرية الشخصية، وهما حريتان مقدستان عند الفلسفات والشرائع المختلفة.

قضية الحجاب في “فرنسا”:

من أمثلة ذلك: ما وقع في فرنسا بالنسبة لقضية (الحجاب) مع المسلمات، ولا سيما الطالبات في المدارس الفرنسية، ومنعهن – قانونا – من دخول المدرسة بالحجاب.

وحجَّتهم في ذلك: أن (الحجاب) رمز ديني، ولا يجوز اتِّخاذ الرموز الدينية في المدارس، لما فيها من تمييز بين الطالبات بعضهن وبعض بسبب الدين.

وقد رددتُ عليهم في ذلك بما يبطل هذه الحجَّة، وقلتُ لهم: إن الحجاب ليس رمزا دينيا بحال من الأحوال، لأن الرمز الديني ما ليس له وظيفة إلا الإعلان عن دين صاحبه، مثل وضع الصليب على الصدر ونحو ذلك. أما الحجاب فله وظيفة معلومة، وهي ستر جزء معيَّن من جسد المرأة مثل الرأس والعنق والنحر الذي يحرم الإسلام كشفه أمام الرجال الأجانب.

ولهذا لا تلتزم المسلمة بالحجاب أمام النساء، ولا أمام الرجال المحارم، والرمز الديني يلبس أمام الرجال والنساء جميعا.

على أن الصليب – وهو رمز ديني باتفاق – لم يمنع في مدارس فرنسا، إنما منع فقط الصليب الكبير، ولا حاجة لامرأة في لبسه.

وعندما ثارت قضية الحجاب في فرنسا، واشتدَّ أُوراها، كتبتُ رسالة إلى الرئيس شيراك، بيَّنتُ له فيها: أن منع المسلمة من الحجاب ينافي المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وهي: الحرية والإخاء والمساواة.

أما منافاتها لمبدأ (الحرية)، فلأنه ضد الحرية الدينية، والحرية الشخصية.

أما الحرية الدينية، فهو يُلزم المسلمة أن تخرج عن تعاليم دينها، وأن تخالف أمر ربها في القرآن الكريم الذي قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].

وأما الحرية الشخصية، فلأنها تتدخَّل في زيٍّ ارتضته المرأة لنفسها مختارة، فلماذا نجبرها على خلعه؟ في حين تلبس الأخريات ما يشفُّ وما يصفُّ، وما يكشف عن أجسادهن مما يسمى (الميني جيب) و(المكرو جيب) ولا يتدخَّل أحد في شأن ما يلبسنه!!

وأما منافتها لمبدأ (الإخاء)، فلأنه يشعر المسلمة بأنها (مضطهدة) في دينها، وأنها مجبرة على مخالفة أمر ربها، وأن الأخريات لهن حرية التبرُّج، وليس لها حرية التستُّر والاحتشام. وهذا الشعور ينعكس على نفسيتها ضيقا وتبرُّما بالمجتمع من حولها، وهذا لا يحقِّق الإخاء الذي دعت إليه ثورة “فرنسا”.

وأما منافاته لمبدأ (المساواة)، فهذا واضح، فأين المساواة بين طالبة تلبس ما تحبُّ وتذهب به إلى مدرستها، وأخرى يفرض عليها زيٌّ لا ترضاه، وإذا خالفت ذلك فُصلت من المدرسة؟!

موقف المجلس الأوربي للإفتاء:

وكان مما وفِّق إليه إخواننا المسلمون في أوربة: أنهم عرفوا طبيعة عصرهم، وأنه عصر المؤسسات لا عصر الأفراد، فالأفراد – مهما تكُن عبقريتهم – زائلون وراحلون، والمؤسسات هي التي تستقرُّ وتبقى.

ولهذا أنشأوا المساجد والمدارس والمعاهد والأندية والجمعيات والمراكز المختلفة، لسدِّ حاجاتهم وتلبية مطالبهم المتعدِّدة والمتنوِّعة، الرُّوحية والمادية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية والترفيهية.

ومنها: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، الذي سدَّ ثغرة مهمَّة في العلاج الفقهي لقضايا الأقليات المسلمة المتجدِّدة، والتي قد تختلف كثيرا عن قضايا المجتمعات الإسلامية الخالصة، والتي تحتاج إلى اجتهاد جديد، جزئي وكلي، انتقائي وإنشائي، فردي أو جماعي. والمجلس بتكوينه المتنوِّع يمثِّل هذا النوع من الاجتهاد الجماعي المتخصِّص.

وهو يعمل على مساعدة المسلمين في أوربا على العيش بدينهم وأخلاقياتهم مع جيرانهم من غير المسلمين، دون أن يفرِّطوا في أحكام شريعتهم، ما داموا متمسِّكين بالأصول، مراعين للمقاصد، متحرِّين رضا الله سبحانه.

ولقد حرص المجلس منذ إنشائه على أن يحثَّ الأقليات في كلِّ بلد: أن يشاركوا في خدمة الوطن الذي يعيشون فيه، ويعتبروا أنفسهم جزءا منه، ويتعايشوا مع أهله، ويتفاعلوا مع أبنائه، بكلِّ صفاء وإخلاص، متمسِّكين بقِيَمهم، معتزِّين بإيمانهم، مؤدِّين لشعائرهم، بعيدين عن كلِّ غلوٍّ وتفريط. كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

الفهرس

الوطن والمواطنة في ضوء النصوص والمقاصد الشرعية 0

مقدمة. 1

تمهيدات حول الوطن والمواطنة. 3

تعريف الوطن والمواطنة. 5

الوطن والمواطنة في اللغة: 5

الوطن والمواطنة. 6

الحنين إلى الوطن فطرة: 7

البدو والوطن: 9

محنة الإخراج من الوطن: 9

هل يمكن تغيير الوطن؟: 11

هل يمكن تعدُّد الوطن؟: 11

الفصل الأول: مواطنة المسلم وغير المسلم داخل المجتمع المسلم 13

هل للأرض بالمعنى الجغرافي أهمية في نظر الإسلام؟: 15

المواطنة في العهد النبوي: 16

نص الوثيقة: 17

اتفاقية الصلح مع نصارى نجران: 21

الوطن المحلي ودار الإسلام الكبرى: 22

إلام كان الانتماء بين الماضي والحاضر؟: 23

صور رائعة في الفقه الإسلامي: 24

غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ينتمون إلى دار الإسلام: 27

الأخوة الوطنية: 29

متى تحدث الإشكالية في قضية الوطنية والمواطنة: 31

  1. عند تعارض الولاءات والانتماءات: 32
  2. اقتران الوطنية بالعلمانية: 33
  3. الغلو في الوطنية حتى تصبح بديلا عن الدين: 34
  4. عندما تتحوَّل الوطنية إلى عصبية جاهلية: 36

رجال الإصلاح وموقفهم من المواطنة 38

  1. حسن البنا وموقفه من الوطنية والمواطنة: 39

الوطنية المقبولة والوطنية المردودة: 39

الوحدة الوطنية واختلاف الدين: 40

مصر في نظر حسن البنا: 41

  1. موقف المودودي من الوطنية والمواطنة: 42

نقد عناصر القومية (والوطنية) من ناحية العقل: 42

  1. النَسْلية أو العنصرية: 42
  2. الوطنية: 43

نظرية الإسلام الشاملة الجامعة: 44

الدين لله والوطن للجميع: 47

الفصل الثاني: مواطنة المسلم في غير المجتمع الإسلامي 49

موقف المسلمين في غير المجتمع الإسلامي: 50

حكم الإقامة في بلد غير إسلامي: 51

إقامة المسلمين المهاجرين إلى الحبشة في ظلِّ حكم غير إسلامي: 55

شبهات تثار حول الإقامة في بلاد غير المسلمين: 56

  1. حديث: “أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”: 57
  2. حديث: “مَن جامع مشركا وسكن معه، فهو مثله”: 59

نظرة في دلالة الأحاديث: 60

أولا: 60

ثانيا: 61

ثالثا: 61

نشر الدعوة وتثبيت المستجيبين لها يستلزم البقاء في أرض الكفر: 62

التجنس بجنسية البلاد الأوربية: 64

هل يقبل الغرب المسلمين مواطنين كغيرهم لهم كل الحقوق؟. 67

ظهور فلسفات رجعية في فرنسا: 68

وقفة للتأمل: 70

مرحلة ما بعد 11 سبتمبر استثنائية: 71

قضية الحجاب في فرنسا: 72

موقف المجلس الأوربي للإفتاء: 74

الفهرس… 75

العلامات المرجعية:

[2]– القاموس المحيط (1598) للفيروزآبادي طبعة مؤسسة الرسالة. بيروت.

[3]– المعجم الوسيط (1054) طبعة مجمع اللغة العربية.

[4]– متفق عليه: رواه البخاري في فضائل المدينة (1889)، ومسلم في الحج (1376)، وأحمد في المسند (24360)، عن عائشة.

[5]– رواه الترمذي في المناقب (3926)، وقال: حسن غريب، وأبو يعلى في المسند (5/69)، وابن حبان في الحج (3709)، وقال الأرناؤوط: صحيح، والطبراني في الكبير (10/267)، والحاكم في المناسك (1/661)، وصحح إسناده، والبيهقي في الشعب باب المناسك (3/443)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات (3/615)، بلفظ قريب.

[6]– رواه البخاري في الجنائز (1295)، ومسلم في الوصية (1628)، وأحمد في المسند (1488)، وأبو داود (2864)، والترمذي (2116)، كلاهما في الوصايا، عن سعد بن أبي وقاص.

[7]– رواه أبو يعلى في المسند (5/92)، والطبراني في الكبير (12/154)، والحاكم في البر والصلة (4/184)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب باب كراهية إمساك الفضل (3/225). وقال المنذري: رواته ثقات. انظر: كتابنا (المنتقى من الترغيب والترهيب) (1531).

[8]– انظر: قائمة هذه المصادر في صـ39 – 41 من كتابه. طبعة دار الإرشاد. بيروت. الطبعة الثالثة. مزيدة ومنقحة. سنة 1389هـ 1369م.

[9]– الحال التي كانوا عليها قبل الإسلام.

[10]– العاني: الأسير المخذول الذي تركه قومه ولم يواسوه.

[11]– المحتاج الفقير.

[12]– الدسيعة: ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، فاستعاره هنا للعطية، وأراد به هنا ما ينال منهم من ظلم.

[13]– يمنع ويكف.

[14]– قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله.

[15]– القود: القصاص.

[16]– العقل: الدية.

[17]– لا يهلك.

[18]– بطانة الرجل خاصته وأهل سره.

[19]– اختلاف.

[20]– انظر: مجموعة الوثائق السياسية صـ140 – 146.

[21]– متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة (2580)، وأحمد في المسند (5646)، وأبو داود في الأدب (4893)، والترمذي في الحدود (1426)، عن ابن عمر.

[22]– رواه أحمد في المسند (6692)، وقال مخرِّجوه: صحيح وهذا إسناد حسن، وأبو داود في الجهاد (2751)، والطيالسي في المسند (1/299)، وعبد الرزاق في الجهاد (5/226)، وابن أبي شيبة في الديات (28547)، وابن خزيمة في الزكاة (4/26)، والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/335)، عن عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2390).

[23]– رواه مسلم في البر والصلة (2564) عن أبي هريرة، وأحمد في المسند (7727).

[24]– انظر: حاشية ابن عابدين (3/306) طبعة استانبول.

[25]– المرجع السابق.

[26]– تفسير القرطبي (3/60) تحقيق: محمد رضوان عرقسوسي. طبعة مؤسسة الرسالة. بيروت.

[27]– سبق تخريجه.

[28]– رواه الطبراني في الصغير (2/131)، والأوسط (7/270)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد، ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان (1/264).

[29]– متفق عليه: رواه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (65)، وأحمد في المسند (19167)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942)، عن جرير بن عبد الله البَجلي.

[30]– متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64)، وأحمد في المسند (3647)، والترمذي في البر والصلة (1983)، والنسائي في تحريم الدم (4109)، وابن ماجه في الفتن (3939)، عن ابن مسعود.

[31]– متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (31)، ومسلم في الفتن (2888)، وأحمد في المسند (20439)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4268)، والنسائي في تحريم الدم (4122)، عن أبي بكرة.

[32]مجموعة الحيل السياسية التي يلجأ إليها السياسيون لإغراء الشعب بوعود كاذبة ظاهرا من أجل مصلحة الشعب، وباطنا من أجل الوصول إلى الحكم.

[33]– انظر: الغرب والشرق الأوسط ترجمة د. نبيل صبحي صـ61، 62، وانظر: كتابنا (الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا) صـ58 – 62 ببعض تصرف.

[34]– روى عبد الرزاق في أهل الكتاب (6/99)، عن زياد بن حُدير – وكان زياد يومئذ حيًّا – أن عمر بعثه مصدِّقا، فأمره: أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى العرب نصف العشر. وروى البيهقي في الكبرى كتاب السير (9/216)، عن عبادة بن النعمان التغلبي، أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب مَن قد علمتَ شوكتهم وإنهم بإزاء العدو، فإن ظاهروا عليك العدو اشتدَّت مؤنتهم، فإن رأيت أن تعطيهم شيئا. قال: فافعل. قال: فصالحهم على أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية، وتضاعف عليهم الصدقة. قال: وكان عبادة يقول: قد فعلوا ولا عهد لهم. وانظر: أحاديث الباب في البيهقي، باب نصارى العرب تضعف عليهم الصدقة.

[35]– سبق تخريجه.

[36]– إشارة إلى حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد في المسند (18373).

[37]– ومطلعها:

عادت أغاني العرس رجع نُواحونعيتِ بين معالم الأفراح
كفنتِ في يوم الزفاف بثوبــهودُفنتِ عند تبلُّج الإصباح

[38]– الأبيات للشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري.

[39]– رواه مسلم في الإمارة (1848)، وأحمد في المسند (7944)، والنسائي في تحريم الدم (4114)، وابن ماجه في الفتن (3948)، عن أبي هريرة.

[40]– من رسالة (دعوتنا) صـ 19، 20 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[41]– راجع ذلك في كتبنا: (من فقه الدولة في الإسلام)، و(الدين والسياسة)، و(التربية السياسية عند حسن البنا)، و(الإخوان المسلمون).

[42]– انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، وفصل (الحل الإسلامي والأقليات الدينية) من كتابنا (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين).

[43]– من رسالة (دعوتنا) صـ 20 – 22 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[44]– من رسالة (دعوتنا في طور جديد) صـ 229، 230 من مجموعة الرسائل.

[45]– صـ18 – 20.

[46]– وهذه الآية تشير إلى جريمة فرعون التاريخية، إذ أثار الامتيازات بين أهالي مصر على أساس القبطي وغير القبطي، وعامل أحدهما بما لم يعامل الآخر.

[47]– قال ابن عباس: المراغم: التحول من أرض إلى أرض، وقد قال النابغة بن جعدة:

كطَود يُلاذ بأركانهعزيز المراغم والمهرب

[48]– وبموجب هذه الآية لا تسلِّم طائفة كبيرة من فقهاء الإسلام لأحد من الناس بأي حق للملكية في أرض مكة. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن تبويب دور مكة لينزل الحاج في عرصاتها. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مكة حرام لا يحل بيع رباعها، ولا أجور بيتها”. ويقول: “إنما هي مناخ من سبق”. هذا كله عن أرض مكة التي خصها الله بمزايا ليست لغيرها.

[49]– صـ26 – 30.

[50]– رواه أحمد في المسند (23444)، وقال مخرِّجوه: إسناده ضعيف من أجل علي بن زيد بن جدعان، وهو مع ضعفه قد خولف فيه، والترمذي (2254)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه (4016)، كلاهما في الفتن، والبيهقي في الشعب باب في الإعراض عن اللغو (7/418)، عن حذيفة، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3243).

[51]– رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود (380)، والترمذي (147)، والنسائي (56)، ثلاثتهم في الطهارة، عن أبي هريرة.

[52]– انظر: تاريخ الطبري (2/401).

[53]– رواه الحاكم في الهجرة الأولى (2/681)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، عن جابر.

[54]– إشارة إلى الآيات الكريمة من سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97- 99].

[55]– رواه أبو داود في الجهاد (2645)، عن جرير بن عبد الله، وقال: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة، لم يذكروا جريرا، والترمذي في السير (1604) موصولا، ومرسلا (1605)، ولم يروه النسائي إلا مرسلا (4780)، ومع هذا ذكره الألباني في صحيح الجامع (1461)، وفي صحيح أبي داود (2304)، وصحيح الترمذي (1307)، وفي الإرواء (1207)، إلا جملة الأمر نصف العقل.

[56]– نقول: من الناحية المادي، لأنه من الناحية المعنوية أمسى أكثر تباعدا مما كان قبل!

[57]– قال الإمام الخطابي في تعليل إسقاط نصف الدية: (لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمُقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمَن هلك بجناية نفسه، وجناية غيره، فسقطت حصَّة جنايته من الدية). معالم السنن (3/437، 438) حديث (2530).

[58]– كانت الهجرة واجبة في أول الإسلام على كلِّ مَن أسلم، لينضمَّ إلى الرسول وأصحابه بالمدينة، ليتعلَّم الإسلام، ويمارسه بحريَّة، ويقوِّي شوكة الجماعة المسلمة، فلما فُتحت مكة، ارتفعت الحاجة إلى الهجرة إلى المدينة، وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”. رواه البخاري في الجهاد (2783)، ومسلم في الإمارة (1864)، عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.

[59]– انظر: كتابنا (دراسة في مقاصد الشريعة) صـ168 – 170، وكذلك في فقه الأقليات صـ38، كلاهما طبعة دار الشروق بالقاهرة.

[60]– قال الألباني في سلسلته الصحيحة: إسناده ضعيف: سليمان بن سَمُرة، قال الحافظ: مقبول. أي إذا توبع، وابنه خُبيب: مجهول. وجعفر بن سعد: ليس بالقوي. وسليمان بن موسى: فيه لين. (الصحيحة: 2330).

وطعن ابن حزم في هذا السند بأن رواته: مجهولون لا يُعرف مَن هم (المحلى:5/234). ونقل الذهبي عن ابن القطان: ما من هؤلاء مَن يُعرف حاله، وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم. وقال عبد الحق الأزدي: خُبيب ضعيف، وجعفر ممَّن لا يعتمد عليه. وبكلِّ حال: هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم (الميزان: 1/150).

فالحديث بهذا الإسناد مجمع على ضعفه، بل هو في الحقيقة شديد الضعف، ومثله لا يقبل التقوِّي بغيره.

ومع هذا حاول العلاَّمة الألباني أن يقوِّيه في صحيحه ببعض الطرق الضعيفة التي لا تجبر مكسورا: مثل ما رواه الحاكم في قسم الفيء والغنيمة (2/154)، عن سمرة مرفوعا، بلفظ: “لا تساكنوا المشركين، ولا تجامعوهم، فمَن ساكنهم أو جامعهم فليس منا”. وقد صحَّحه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي وزاد (مسلم). قال الألباني: وهو وهم فاحش منهما، لأن إسحاق بن إدريس – أحد رواته – متَّهم بالوضع، وقد ترجمه الذهبي في (الميزان) أسوأ ترجمة. انظر: إرواء الغليل (6/2322).

فهذه الطريق لا تصلح للتقوية بحال.ثم قال الشيخ في الصحيحة: لكني رجوتُ له متابعا قويا أخرجه أبو نعيم في (أخبار أصبهان) . مع أن رواة هذا الحديث منهم مَن قيل: ليس بقوي. ومَن قيل: مستور. أي لم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا.

ومع هذا قال الألباني: فالحديث عندي حسن بمجموع الطريقين، ولا سيما وقد مضى شاهد بنحوه فراجعه برقم (636) (الصحيحة: حديث 2335) المجلد الخامس.

على أن الشيخ لم يكتفِ بتحسينه، بل ذكر في صحيح أبي داود: أنه صحيح (2420).

والحقيقة أني ألاحظ على المتأخرين والمحدَثين من أهل الحديث: التوسُّع في التحسين والتصحيح بكثرة الطرق، مع أن كلا منها ضعيف في نفسه، وهو على خلاف منهج الأئمة المتقدمين من أمثال البخاري وابن معين وغيرهم.

[61]– متفق عليه: البخاري في الجهاد (2783)، ومسلم في الإمارة (1353)، وأحمد في المسند (1991)، وأبو داود في الجهاد (2480)، والترمذي في السير (1590)، والنسائي في البيعة (4170)، عن ابن عباس.

[62]– رواه أبو داود في الأدب (5115) عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5987).

[63]– مجلة الإخوان المسلمين. السنة الرابعة. العدد (4). صـ11 بتاريخ 14 صفر 1355هـ الموافق 5 مايو 1936م، نقلا عن سلسلة (من تراث الإمام البنا) الكتاب الرابع. الفقه والفتوى صـ229، 230.

[64]– انظر: جريدة الصباح اليومية التونسية يومي 3، 4 إبريل 2007م مقالة الكاتب لسعد الواعر: تساؤلات حول الفلسفة المعاصرة في فرنسا.

[65]– إشارة إلى مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27}.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق