البحوث

الوسطية بين واجب المواطنة والحفاظ على الهوية

الوسطية بين واجب المواطنة والحفاظ على الهوية

د. أحمد جاء بالله

مدخل:

إن الوجود الإسلامي الواسع والمتنامي في البلاد الأوروبية يطرح على المسلمين وعلى المجتمعات الأوروبية في آن واحد مجموعة من القضايا والإشكالات التي أصبحت محل اهتمام الباحثين والدارسين ورجال الفكر والسياسة في أوروبا، ولعل من أبرز القضايا التي يتناولها البحث اليوم في هدا المجال قضية المواءمة بالنسبة للمسلم بين واجب الوفاء بمقتضيات المواطنة وواجب الحفاظ على هويته الإسلامية.

وكثيراً ما يرد السؤال التالي من بعض المسلمين، الذين يقولون: هل أن التركيز على مطالبة المسلم بالوفاء بمقتضيات المواطنة في مجتمع غير إسلامي لا يؤدي به بالنتيجة إلى تحلله من هويته الإسلامية، إذ أن المواطنة تقتضي منه اندماجا في نسيج المجتمع، ومشاركة في حياته العامة في مختلف الميادين بما يلابسها من بعض المظاهر المخالفة للمبادئ الإسلامية، مما قد يؤدي به تبعا لذلك إلى التخلي عن بعض مقومات شخصيته؟

وبمقابل هذا السؤال يرد سؤال آخر يطرحه بعض أفراد المجتمع من غير المسلمين عن مدى قدرة المسلم على الاندماج الحقيقي في المجتمع إذا ظل متشبثا بخصوصياته الدينية والثقافية؟ وقد ظهرت للإجابة على هذا السؤال اتجاهات عديدة بين المفكرين والسياسيين الغربيين، فمنهم من يرى أن الحل هو في الانصهار الكامل في المجتمع، ولو أدّى ذلك إلى فقدان كثير من الخصوصيات الذاتية للأفراد، لأن الأصل فيمن ينتقل للعيش في مجتمع ما، أو من يكون منتمياً لأقلية في المجتمع، هو أن يقبل بأعراف المجتمع وعاداته، وأن يكون على استعداد للتنازل عن بعض خصوصياته، حتى لا يكون تمسكه بالخصوصية معرّضا المجتمع للاهتزاز وعدم الانسجام. وهناك من يرى أن الاندماج في المجتمع يمكن أن يتم للأفراد الذين يريدون الحفاظ على مقومات شخصيتهم الدينية والثقافية، دون ذوبان وانسلاخ عن قيمهم ومبادئهم، وهؤلاء هم الذين يرون أن المجتمعات الغربية الحديثة ينبغي أن تكون مجتمعات متعددة الثقافات والديانات، وأن ذلك يمكن أن يمثل إثراء في كيان المجتمع ككل.

وفي الحقيقة إذا تأملنا في هذه الإشكالية المطروحة برويّة وتعقل، فإنه يمكننا القول بأن الجمع بين ما يبدو وكأنه يمثل طرفي معادلة صعبة، أمر ممكن إذا توفرت الإرادة الصحيحة لدى المسلمين الذين ينشدون فعلا الانخراط في مجتمعاتهم الأوروبية، ولدى المجتمع الذي يريد أن يستفيد من طاقات جميع أبنائه، ويجب عليه بالتالي أن يفتح ذراعيه ليستوعب كافة أفراده على اختلاف أديانهم وثقافاتهم، ولن يكون ذلك الاختلاف والتنوع إلا مصدر إثراء للمجتمع ككل.

بين مقتضيات المواطنة ومقتضيات الحفاظ على الهوية: تناقض أم تكامل؟

لعله من المفيد قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال أن نبدأ أولا بتعريفٍ للمواطنة، وتعريف للهوية.

يمكننا أن نعرّف المواطنة على أنها عبارة عن: “عقد اجتماعي يجمع بين الأفراد في مجتمع ما، وذلك في إطار وطن معين، يحتكم إلى سلطة موحدة منبثقة عن نظام سياسي، يلتزم فيه المواطنون بمرجعية القانون السائد، ويعملون من أجل الصالح العام المشترك، وذلك بقطع النظر عن تباين انتماءاتهم الدينية، وخصوصياتهم الثقافية، وأصولهم العرقية”.

إن هذا التعريف للمواطنة في عمومه يمكن أن يمثل قاسماً مشتركاً بين جميع الثقافات والحضارات، بل إنه بإمكاننا أن نقول بأنه لا يعدّ أمراً غريباً في منظومتنا الفكرية والتاريخية، إذ أن المسلمين منذ العهد النبوي، قد أسسوا مجتمعهم الإسلامي الأول على قاعدة المواطنة، من خلال ما عُرِف بدستور المدينة الذي أقرّ بحقوق جميع المواطنين على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم، وبالتالي يمكننا أن نقول أن المسلمين كانوا لهم السبق في تأسيس مجتمع على أساس المواطنة.

وإذا نظرنا إلى مقتضيات المواطنة وما يترتب عليها، فإننا نجدها تعود إلى مجموعة من الحقوق والواجبات، التي يجب أن يتمتع بها ويؤديها كل مواطن في المجتمع، وتتوزع حقوق المواطنة على شعب ثلاث:

ـ الحقوق المدنية، وتشمل:

المساواة أمام القانون، الحرية الشخصية مثل: حرية التنقل، حرية التعبير، حرية الاعتقاد، حرية الرأي، حرية التملك، حرية التعاقد مع الآخرين.الوسطية بين واجب المواطنة والحفاظ على الهوية الوسطية الوسطية بين واجب المواطنة والحفاظ على الهوية 58ca4711b2ddc

ـ الحقوق السياسية، وتشمل:

أساسا حق الانتخاب وحق المشاركة في الحكم.

ـ الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتشمل:

أساسا حق العلاج وحق العمل.

وأما الواجبات فتشمل:

ـ احترام سلطة الدولة

ـ الالتزام بالقانون العام

ـ الولاء للوطن

ـ حماية الوحدة الوطنية

ـ المساهمة في تحقيق استقرار المجتمع وأمنه وازدهاره

ـ المشاركة في الحياة العامة

ـ احترام حرية الآخرين

أما الهوية فيمكننا أن نعرفها على أنها “مجموعة الخصائص التي تعبّر عن كيان الإنسان وأفكاره ومعتقداته ومشاعره وسلوكياته”، وإن العناصر المكونة للهوية تعود إلى مصادر متعددة:

كالدين، والثقافة، والتاريخ، والوسط العائلي، والموطن الذي ينشأ فيه الإنسان أو يعيش فيه، وتتقاطع هذه العناصر فيما بينها لتشكّل في كل مجتمع إنساني أساسا مشتركا للهوية الوطنية، ولكنها تتمايز داخل المجتمع الواحد بناء على اختلاف انتماءات الناس وتعدد توجهاتهم، وبذلك يصبح لكل إنسان هوية خاصة يلتقي في بعض قسماتها مع الجميع ويتمايز في قسمات أخرى مع غيره، فالمسلم الأوروبي مثلاً يلتقي في صفته الأوروبية مع جميع مواطنيه الأوروبيين، ويلتقي في صفته الإسلامية مع جميع المسلمين في إطار الانتماء إلى الأمة الإسلامية، كما يلتقي المسيحي مع المجموعة المسيحية في العالم، تبعا لانتمائه إلى الديانة المسيحية. ولا يمثل التمايز في بعض عناصر الهوية بين أفراد المجتمع الواحد مشكلة، إذا ما أقرّ الجميع بقاعدة التعددية، وقبول الآخر واحترام خصوصياته، ولكن عندما يسعى البعض من أبناء المجتمع إلى التأكيد على عنصر من عناصر هويته، على حساب هوية الآخر، فهنا تصبح الهويات متصارعة فيما بينها، لأن العناصر المشتركة تغيب لحساب عناصر التمايز والاختلاف.

وأما عن مقتضيات الحفاظ على الهوية الإسلامية، فإنها تعود إلى كل ما من شأنه أن يرسّخ الإيمان بالعقائد الإسلامية، وممارسة الشعائر التعبدية، والتمسك بالخصوصيات الثقافية، والعمل على توريث ذلك إلى الأجيال المتلاحقة.

في ضوء ما سبق ذكره من تعريف للمواطنة ومقتضياتها، وتعريف للهوية، وللهوية الإسلامية ومقتضياتها، فهل يمكن إذن الجمع بالنسبة للمسلم، بين مقتضيات المواطنة في المجتمعات الأوروبية، وبين مقتضيات الحفاظ على الهوية الإسلامية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال، لابد أن نقرر أولاً القاعدة التالية، وهي:

أن المسلمين المقيمين في مجتمعات غير إسلامية يختلف وضعهم في عدد من الجوانب عن المسلمين الدين يعيشون في مجتمعات إسلامية، ولذلك ذهب الفقهاء إلى التفريق في عدد من الأحكام بسبب اختلاف الدور.

وللإجابة على السؤال السابق، لابد لنا من استعراض مقتضيات المواطنة ومحاكمتها إلى المبادئ الإسلامية، من خلال مناقشة الإشكالات التالية:

1 ـ هل أن احترام سلطة الدولة يتعارض مع مبدأ الحاكمية لله؟

إن احترام سلطة الدولة للمواطن المسلم في مجتمع غير إسلامي هو التسليم بأحقية السلطة الحاكمة في إدارة شؤون البلاد، باعتبارها تعبّر عن إرادة المواطنين الذين اختاروها اختيارا ديمقراطيا حرّا، وقد يظن البعض أن الإقرار بسلطة دولة لا تحتكم إلى الشريعة لا يجوز للمسلم؟

إن الإجابة على هذه الإشكالية يقتضي النظر إلى الأمور التالية:

ـ إن وجود المسلم في مجتمع غير إسلامي لا يتخذ من الشريعة الإسلامية مرجعية له، يُعفيه من المطالبة بإقامة نظام سياسي إسلامي في هذا المجتمع، إذ أن النظام السياسي الإسلامي يجب أن يكون قائما على اختيار مجتمع مسلم، ولا يمكن أن يكون نظاما يفرض على الناس، وبالأخص إذا كانوا غير مسلمين.

ـ إن النظام السياسي الإسلامي يقوم على سلطة بشرية يتم اختيارها اختيارا حرا بناء على قاعدة الشورى، وهو ينطلق من القيم الإسلامية التي تدعو إلى مراعاة المصالح، وهو بهذا المعنى ليس مخالفا من كل وجه لما هو قائم من أنظمة سياسية ديمقراطية في عالمنا المعاصر، وإن وجدت بعض عناصر التباين والاختلاف في المرجعية الدستورية.

ـ إن احترام سلطة الدولة شرط أساس في استقرار المجتمع وحفظه من الفوضى والاضطراب، وهو بهذا المعنى يحقق مقصدا شرعيا ينبغي للمسلم اعتباره.

ـ إن الدولة الديمقراطية، كما هو حال الدول الأوروبية، هي نتاج اختيار شعبي حرّ، والمسلم كغيره من المواطنين يملك بصوته الانتخابي أن يساهم في تغيير القائمين على سلطة الدولة، من خلال الانتخابات، وهذا يمنحه دورا في اختيار الممارسين للسلطة.

وبناء على ما تقدم فإن المسلم يمكنه من حيث المبدأ العام أن يحترم سلطة الدولة دون حرج شرعي.

2 ـ هل الالتزام بالقانون العام يتنافى مع وجوب الالتزام بشرع الله تعالى؟

تفتخر المجتمعات الأوروبية بأنها مجتمعات تحكمها دولة القانون، الذي يجب أن يخضع له جميع المواطنين حكاما كانوا أو محكومين، وهذا أمر يلتقي مع قيم العدل والمساواة التي دعا إليها الإسلام كذلك.

إن القوانين السائدة اليوم في المجتمعات الأوروبية لا تتدخل غالبا في الشأن الخاص للأفراد، وهي لا تتدخل بالتالي في الشأن الديني بما يؤدي إلى تحديد حرية الممارسة الدينية لمختلف الطوائف الدينية، بل على العكس فإن من أسس علمانية الدولة الالتزام بمبدأ الحياد بخصوص الأديان وكفالة حقوق أتباعها اعتقادا وممارسة.

وأما ما قد تُبيحه القوانين السارية من أمور قد تتعارض مع الإسلام، فإنها لا تفرضها على الناس إذا كانوا يرفضون الأخذ بها، فإذا كانت بعض القوانين الغربية اليوم تسمح مثلا بالزواج المثلي الذي ترفضه الأديان، فإنها في نفس الوقت لا تفرضه على أحد، وبالتالي يجب أن نفرق بين معارضتنا لقانون غير ملزم وقانون ملزم، فإذا كان القانون يلزم المواطن المسلم بمخالفة أمر شرعي فعليه في هذه الحالة العمل من خلال ما تكفله له النظم من حق الاعتراض، العمل على المطالبة بإعفائه من الخضوع لهذا القانون الذي يصادم شريعته، وقد رأينا في عدد من الدول الأوروبية كيف أنها استجابت لمطالب المسلمين في مسألة مراعاة اللباس الشرعي للمرأة المسلمة العاملة في سلك الشرطة، وقد حصل هذا في بريطانيا مثلا، وكذلك سماح دولة السويد للمسلمين بتخويل أئمة معتمدين لإجراء عقود الزواج في إطار القوانين السويدية وبما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.

إن القوانين في الدول الأوروبية محكومة بقواعد دستورية عامة وبمواثيق حقوق الإنسان التي تكفل حرية الممارسة الدينية، وبالتالي فإن المواطن المسلم يمكنه من خلال المطالبة الإدارية أو السياسية، أو من خلال اللجوء إلى القضاء أن يعفى من أي إلزام قانوني يتعارض مع دينه[1].

3 ـ هل أن ولاء المسلم لوطنه في بلد غير مسلم يعارض ولاءه للإسلام والمسلمين؟

إن الولاء للوطن معناه هو الحرص على مصالحه والوفاء له وعدم خيانته، وهل الإسلام يمنع المسلم من هذا الولاء سواء كان انتماؤه لبلد إسلامي أو غير إسلامي؟ إن الإسلام يحث المسلم حيثما كان على الوفاء بعهوده ومواثيقه مع الآخرين ويحرّم عليه الخيانة والغدر، والنصوص الإسلامية متضافرة لتقرير هذا الأمر:

ـ يقول الله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ” ـ المائدة 1 ـ

ـ ويقول الله تعالى: ” وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ” ـ الأنفال 72 ـ

ـ وقال عليه الصلاة والسلام: ( ثلاث ليس لأحد فيهن رخصة: بر الوالدين مسلماً كان أو كافراً، والوفاء بالعهد لمسلم كان أو كافراً، وأداء الأمانة إلى مسلم كان أو كافرا ) رواه البيهقي في شعب الإيمان في باب الإيفاء بالعهود

ـ وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: ( من أمّن رجلا على نفسه فقتله، أعطي لواء الغدر يوم القيامة ) رواه أحمد في مسنده

فهل يكون من مقتضيات الولاء أن يؤيد المسلم بلده غير المسلم في موقف يكون فيه ظالما لغيره، خصوصا إذا كان هذا الظلم يقع على مسلمين، كما هو الحال في عدد من الحروب التي تشن على بلاد إسلامية ؟ إن المسلم بحكم التزامه بعقد الوفاء لا يجوز له أن يغدر وأن يخون، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يبدي معارضته لما يراه ظلما وعدوانا وأن يطالب بالكفّ عن ذلك، وحرية التعبير عن الرأي مكفولة في المجتمعات الأوروبية إلى حدّ كبير، ولذلك نرى الآلاف من المواطنين الأوروبيين يسيّرون المظاهرات ويعلنون احتجاجهم على حروب تشارك فيها بلادهم ولا يمنعهم أحد من ذلك[2] .

4 ـ هل أن الدعوة لحماية الوحدة الوطنية في مجتمع غير مسلم يتنافى مع مبدأ الترابط على أساس العقيدة ؟

إن من مقتضيات المواطنة أن يعمل المواطن على حماية الوحدة الوطنية في بلاده وأن ينأى عن كل ما يمكن أن يعرّض البلد للفرقة والتشتت، وقد يظن البعض أن الإسلام لا يجيز للمسلم أن يرتبط ارتباط ولاء بغيره إلا على أساس العقيدة، وبالتالي فإن الارتباط بعقد المواطنة مع الآخرين ممن لا يدينون بالإسلام غير ممكن.

لكننا نجد أن القرآن الكريم وهو يحدثنا عن صلة أنبياء الله تعالى بأقوامهم يشير إلى وشائج الصلة بهم مع أنهم كانوا على غير سبيلهم وكثير منهم كذبوا برسالاتهم، بل عادوهم وآذوهم، يقول الله تعالى: ” وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون…وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره… ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين… وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله…” ـ الأعراف 65 إلى 85ـ

إن ارتباط المسلم بأخيه المسلم في إطار العقيدة الواحدة لا يمنعه من الارتباط في إطار المواطنة مع غيره من المواطنين مهما اختلفت معتقداتهم، ما داموا يشتركون في العيش في وطن واحد.

ومن جانب آخر فإن الإسلام دعا إلى التوافق ونبذ الفرقة والخلاف والتنازع دعوة عامة تشمل الناس جميعا، وقد جاء القرآن الكريم في معرض الدعوة إلى الحوار مع المخالفين في العقيدة يدعوهم إلى كلمة سواء:

قال تعالى: ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ” ـ آل عمران 64 ـ

قال “الألوسي” في تفسيره للآية: ( وقيل: إن سواء مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع )

وذكر “ابن عطية” في تفسيره للآية: ( والذي أقوله في لفظ “سواء” أنها ينبغي أن تفُسّر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معانٍ جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم )

وقد كان من أهداف دستور المدينة توحيد أهلها في إطار مواطنة يستوي فيها الجميع في الحقوق والواجبات.

5 ـ هل هناك ما يمنع المسلم في أوروبا من المساهمة في تحقيق استقرار المجتمع وأمنه وازدهاره ؟

إن حب الخير للناس والاحسان إليهم مما دعا إليه الإسلام واعتبره من أوجه البر وعمل الخير، هذا من حيث المبدأ العام، فكيف إذا تعلق الأمر بمجتمعك الذي تعيش فيه وتتبادل فيه مع مواطنيك المصالح والمنافع، فإن الواجب في إرادة الخير يكون أوكد، وقد جاءت نصوص عديدة تؤكد على هذا المبدأ:

ـ يقول الله تعالى: ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ” ـ الممتحنة 8 ـ

قال “القرطبي” في تفسير قوله تعالى: “وتقسطوا إليهم” ( أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي )

ـ وقال عليه الصلاة والسلام: ( الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ) ـ رواه أبو يعلى الموصلي والبيهقي في شعب الإيمان ـ

ـ وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه، أو قال لجاره، ما يحب لنفسه ) رواه مسلم

وقد ذكر “الإمام النووي” في شرح الأربعين أن الأخوة في الحديث الشريف القائل: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) تشمل المسلم وغير المسلم، فقال: ( قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ” الأوْلى أن يُحمل ذلك على عموم الأخوة حتى يشمل الكافر والمسلم، فيحب لأخيه الكافر ما يحب لنفسه من دخوله في الإسلام، كما يحب لأخيه المسلم دوامه على الإسلام، ولهذا كان الدعاء بالهداية للكافر مستحبا، والحديث يدل على نفي الإيمان عمن لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمراد بالمحبة إرادة الخير والمنفعة…)[3]

6 ـ من مقتضيات المواطنة المشاركة في الحياة العامة، مما قد يعرّض المسلم إلى بعض الأوضاع المنافية لدينه، فيما يكون جائزا عند غيره ولكنه لا يخلو من حرج شرعي بالنسبة له؟

إن هذا الأمر قد يعرض لبعض المسلمين عندما يحتكون بغيرهم في المجتمع، من ذلك ما يقع في المجالس العامة من انتشار عادة شرب الخمر مثلا، وقد يلجأ المسلم، خوفا من الوقوع في المحاذير، إلى الانعزال عن الآخرين وتوقي الاختلاط بهم إلا في حدود ضيقة، حتى لا يوقعه ذلك في إحراجات شرعية، ولكن خيار العزلة التامة عن الآخرين يؤدي بالمسلمين إلى أن يكونوا على هامش المجتمع، ولا تتحقق بذلك معاني الالتقاء والتعارف بين مواطنين يعيشون في فضاء واحد، وتقتضي مصالحهم التبادل والاختلاط.

إن المسلم ليس مدعوا ليكون على صلة دائمة بغيره في كل آن وحين، كما أن التقاءه بغيره لا يكون دائما في أجواء منافية، كما أن الإنسان لا يُفرض عليه عند تعامله مع غيره أن يتخلى عن خلقه وقيمه، وعندما يرى من غيره ما لا يعجبه، فيما لا يستطيع توقيه، فعليه أن يتجنب الوقوع في المحذور، وأن يصبر على ما قد يصيبه من الأذى، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) ـ حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد ـ

وقد أعطانا الدين فسحة في إنكار المنكر تشمل التغيير الفعلي باليد، والتغيير باللسان والتغيير بالقلب، وذلك حسب الاستطاعة.

إن المسلمين في أوروبا، وهم يعانون من انتشار صورة سلبية عنهم وعن دينهم، في حاجة إلى أن يعدّدوا فرص الالتقاء مع غيرهم، كما أن مشاركتهم في الشأن الاجتماعي والسياسي، حتى يكونوا فاعلين ويدافعوا عن حقوقهم كمواطنين، لا يتمّ لهم إلا من خلال الالتقاء والتعاون مع غيرهم.

7 ـ إذا كان من مقتضيات المواطنة في مجتمع تعددي احترام حرية الآخرين، فإن ذلك مما قد يؤدي بالمسلم إلى الوقوع في حرج شرعي، بإقراره ـ احتراما لحرية غيره ـ بسلوك خاطئ في ميزان الإسلام كان عليه إنكاره.

إن الحرية في الاعتقادات والسلوك من الحريات المهمة التي تحرص عليها المجتمعات الأوروبية وتعتبرها من المكتسبات التي يجب حمايتها، وقد يختلف الناس حول الحدود التي يجب أن تنضبط بها الحرية انطلاقا من معتقداتهم وقيمهم الأخلاقية، ويحسم هدا الاختلاف القانون بما يقرره من الحريات الشخصية والعامة، وقد تقرّ القوانين ما يعتبره البعض مسّا بمقدساتهم من خلال حرية التعبير[4]، ولكن هذا لا يمنع المسلم من حقه في الاعتراض والتقاضي، وكذلك الدعوة في كل الأحوال إلى القيم العامة، التي يمكن أن يلتقي عليها الكثير من الناس، وخصوصاً من أتباع الأديان السماوية التي تتفق في كثير من مبادئ الأخلاق. ولكن اعتراضه على أمر ما لا يمنحه حق مصادرة حرية الآخرين استنادا إلى قيمه ومعتقداته الخاصة، وقد أقرّ الإسلام حتى في ظل المجتمع الإسلامي بحقوق غير المسلمين في تعاطي ما هو من أعرافهم وعاداتهم، ولو كان منافياً لأحكام الإسلام مع احترام النظام العام في المجتمع. هذا بالإضافة، وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن المسلم عندما يعيش في مجتمع غير إسلامي فإنه لا تحكمه نفس القواعد التي تحكم وجوده في مجتمع مسلم.

ما هو واقع المسلمين اليوم في أوروبا بالنظر إلى مقتضيات المواطنة المطلوبة منهم في المجتمع ؟

لا شك أن هناك تحولات تجري في واقع المسلمين نحو مزيد من التواصل مع المجتمع واندماج إيجابي فيه، ولكن مع ذلك لا تزال هناك الكثير من الحواجز التي تعيق مسيرة المواطنة، ويمكن تلخيص أهم أسباب هذه العوائق في عوامل بعضها يعود إلى المسلمين أنفسهم وبعضها يعود إلى المجتمعات الأوروبية على تفاوت بينها في هذا المجال.

أما ما يعود إلى المسلمين من هذه العوامل فيتمثل أساسا في:

1 ـ قلة انفتاح عموم المسلمين على المجتمع وميلهم إلى الانعزال، إما بسبب الخوف من الذوبان في تيار المجتمع العريض أو لصعوبة الانخراط في نسيج المجتمع، وتبرز هذه الصعوبة خصوصا عند الجيل الأول من المهاجرين المسلمين الذين تعترضهم إشكالية إتقان لغة البلد والمعرفة بأعراف المجتمع وعاداته.

2 ـ أثر الانتماءات الإقليمية والعرقية ودورها في تثبيت الارتباط الاجتماعي في أوساط عرقية مغلقة، لا تفصل أصحابها عن المجتمع الكبير فحسب وإنما تعزلهم حتى عن بقية إخوانهم من المسلمين الآخرين، ومع الأسف فإن بعض الدوائر التي لا تريد للمسلمين أن يكونوا مواطنين فاعلين في مجتمعاتهم الأوروبية تشجع على هذا التوجه.

3 ـ وجود بعض الاتجاهات الإسلامية التي يدعو أصحابها إلى ضرورة مفاصلة المجتمع أو الحدّ من التعامل معه في أضيق نطاق لتحقيق التميز العقائدي والحذر من الوقوع في المحاذير والشبهات، وتجد هذه الأفكار صدى عند عدد من الشباب المتدين من الأجيال الجديدة، الذين يفترض فيهم أن يكونوا أكثر قابلية لتحقيق مقتضيات المواطنة.

وأما العوامل المعيقة لمسيرة المواطنة من جهة المجتمع فتعود إلى أسباب من أهمها:

1 ـ دور الإعلام في تقديم صورة سلبية عن الإسلام والمسلمين مما ينمي موقف الرفض والحذر تجاههم من قِبل الرأي العام، وكثيرا ما يستخدم الإعلام الأحداث الخارجية التي تعيشها بعض المناطق الإسلامية وما يجري فيها من مشاكل وصراعات لتعميق الصورة النمطية السلبية عن الإسلام.

2 ـ استعمال بعض السياسيين في العديد من الدول الأوروبية، قضية الوجود الإسلامي في المجتمعات الأوروبية، خصوصا في أجواء التنافس الانتخابي، كقضية مزايدة يتسابق فيها الجميع لإظهار موقف أكثر حزما من أجل تحجيم “الخطر الإسلامي” الذي يهدد المجتمع ويعمل على تغيير طبيعته.

3 ـ التيار العنصري الذي يضع العراقيل أمام اندماج المسلمين اجتماعيا، وخصوصا في سوق العمل، بما يعمّق تهميش المسلمين في المجتمع، وكذلك ما يثيره من حساسية تجاه الالتزام الإسلامي والخلط المتعمد بين ممارسة الإسلام والتطرف والغلوّ.

ما هو الأمل المرتجى في تحقيق المواطنة الفاعلة للمسلمين في المجتمعات الأوروبية ؟

رغم كل الصعوبات التي ذكرناها إلى أن هناك بوادر إيجابية تجعلنا نغلّب جانب التفاؤل على جانب التشاؤم، وأهم المؤشرات في هذا المجال:

أولا: من جهة المسلمين:

1 ـ ظهور الأجيال الجديدة من الشباب المسلم التي لها معرفة بالمجتمع وبلغته وثقافته وأعرافه، بل إن هذه الأجيال لا ترى لها انتماء وطنيا لغير بلادها الأوروبية، وهذا الأمر يمثل رصيدا هاما سيعين تدريجيا على تحقيق المواطنة الطبيعية للمسلمين في المجتمع.

2 ـ مبادرات كثير من المسلمين في المساهمة في الحياة العامة لمجتمعاتهم سواء في المجال الاجتماعي والاقتصادي من خلال العمل وإقامة المشاريع الاقتصادية الخاصة، أو في المجال السياسي حيث بدأ بعض المسلمين يدخلون حلبة المشاركة السياسة، ويمارسون حقهم الانتخابي، بل يترشحون للتنافس على الفوز بمقاعد في المجالس المحلية والوطنية.

ثانيا: من جهة المجتمع:

1 ـ التطور النسبي الحاصل في تقبل الوجود الإسلامي من قبل الرأي العام، فقد أصبحت مثلا إقامة المساجد في المدن والأحياء لا تثير اعتراضات تُذكر، كما كان الأمر في بعض الدول الأوروبية في سنوات ماضية، وكذلك بدأ وجود المسلمين يكون ظاهرا في المؤسسات العامة، من خلال انخراطهم التدريجي في الوظائف الحكومية والإدارية.

2 ـ الاهتمام بمعرفة الإسلام، إذ أن كثرة الحديث عن الإسلام، ولو في سياق سلبي، جعلت العديد من الأوروبيين يتساءلون عن هذا الدين ويسعون للتعرف عليه، وهو ما يفسّر حركة النشر المتنامية حول الإسلام باللغات الأوروبية، ولا يزال أمام المسلمين دور كبير مطلوب منهم في هذا المجال من أجل عرض المبادئ الإسلامية وتصحيح الصورة الخاطئة.

إن الوجود الإسلامي في أوروبا يمثل فرصة إيجابية للمجتمعات الأوروبية وللمسلمين في آن واحد، ولن تتحقق هده الفرصة إلا إذا استطاع المسلمون أن يندمجوا عن طريق مواطنة فاعلة في مجتمعاتهم وأن يخدموها في المجالات المختلفة، وبذلك سيكونون بحق جسرا للتواصل بين أوروبا والعالم الإسلامي يساهم في تحقيق التبادل الحضاري.

كما أن المسلمين في أوروبا سيستفيدون من وجودهم في ظل مجتمعات غير إسلامية تجعلهم يطوّرون البعد الإنساني في خطابهم الإسلامي، ويتفهمون الثقافة الغربية فيحسنون التحاور معها، بل إنه يمكننا أن نزعم أن المسلمين الأوروبيين سيشكلون نقطة التقاء حضاري يتمّ من خلالها إثراء متبادل بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية.

[1] [1] أقرت المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان بحق الاعتقاد والممارسة الدينية في المادة التاسعة، واعتبرت أن هذا الحق لا يمكن تقييده إلا إذا أدى بالإخلال بالقانون العام والمس من حرية الآخرين:

                   Article 91 – Liberté de pensée, de conscience et de religion

          1        Toute personne a droit à la liberté de pensée, de conscience et de religion ; ce droit implique la liberté de changer de religion ou de conviction, ainsi que la liberté de manifester sa religion ou sa conviction individuellement ou collectivement, en public ou en privé, par le culte, l’enseignement, les pratiques et l’accomplissement des rites.

          2        La liberté de manifester sa religion ou ses convictions ne peut faire l’objet d’autres restrictions que celles qui, prévues par la loi, constituent des mesures nécessaires, dans une société démocratique, à la sécurité publique, à la protection de l’ordre, de la santé ou de la morale publiques, ou à la protection des droits et libertés d’autrui.

[2] المظاهرات السياسية التي جابت شوارع لندن وروما ومدريد وباريس ضد الحرب على العراق ضمت مئات الآلاف، ولم ير مثلها في أغلب الدول الإسلامية.

[3] شرح متن الأربعون النووية، يحي بن شرف الدين النووي

[4] ومثال ذلك ترجيح الكثير من المحاكم في الدول الأوروبية حرية التعبير بنشر الكاريكاتير المسيء للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على ما اعتبره المسلمون مسّا بدينهم ومقدساتهم، وقد تعرض النصارى أيضا إلى أحكام مشابهة في قضايا تخص دينهم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق