البيان الختامى للدورة السادسة

البيان الختامي
للدورة العادية السادسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن
في الفترة 28 جمادى الاولى – 3 جمادى الآخرة 1421هـ الموافق 28 أغسطس – 1 سبتمبر 2000م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية السادسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن (جمهورية أيرلندا) فيما بين 28 جمادى الأولى ـ 3 جمادى الآخرة 1421هـ الموافق 28اغسطس –1 سبتمبر 2000م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء.
كما شارك في جلسة الافتتاح سعادة السيد ميرزا الصايغ رئيس هيئة المكتوم الخيرية، وأثنى في كلمته على الدور الإيجابي الذي يقوم به المجلس للمسلمين في بلاد الغرب، وأكد التزام هيئة المكتوم بتحمل جميع التكاليف المالية التي يتطلبها استمرار أعمال المجلس وعقد دوراته. وقد شكر رئيس المجلس في كلمته الافتتاحية تلك البادرة الطيبة، ودعا بحسن الجزاء لراعيها سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم نائب حاكم دبي وزير المالية والصناعة بدولة الإمارات العربية المتحدة.
وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية، ومن أهمها تشكيل لجنه للبحوث برئاسة فضيلة الدكتور عبد المجيد النجار وأخرى للإفتاء برئاسة فضيلة الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع، وتعيينه مقررا لدورات المجلس.كما تجدر الإشارة إلى أن مجموعة من أعضاء المجلس المتخصصين في الأمور المالية عقدوا اجتماعا مع بعض مسئولي أحد البنوك الأيرلندية وتداولوا معهم إمكانية إيجاد بدائل إسلامية عن المعاملات الربوية الجارية وتم الاتفاق على مواصلة التعاون مع المجلس بهذا الصدد.
ثم تدارس المجلس مجموعة من الأعمال اتخذ بشأنها القرارات المناسبة، والتي كان بعضها بالإجماع، والبعض الآخر بالأغلبية، ومن أبرزها:
القرار 1/ 6
التنازل عن القدس خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين
لا يجوز لأحد أن يتنازل عن أي جزء من أرض الإسلام، فأرض الإسلام ليست حقًا لرئيس ولا لأمير ولا لوزير ولا لجماعة من الناس، حتى تتنازل عنها تحت أي ضغط أو ظرف. وإنما الواجب على الأفراد والجماعات أن يسعوا بكل الوسائل لمقاومة الاحتلال وتحرير القدس الشريف، واستعادتها إلى دار الإسلام.
وإذا عجز جيل من أجيال الأمة أو تقاعس، فلا يجوز له أن يفرض عجزه أو تقاعسه على كل أجيال الأمة القادمة إلى يوم القيامة، فيتنازل عما لا يجوز له التنازل عنه.
و لهذا يفتي المجلس بتحريم بيع الأرض للأعداء في القدس أو غيرها من أرض فلسطين أو قبول التعويض عنها بالنسبة للاجئين المشردين. لأن أوطان الإسلام لا تقبل التنازل أو التعويض عنها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين.
و إذا كان هذا الحكم في شأن أي أرض إسلامية، فكيف إذا كانت هذه الأرض في القدس الشريف، أولى القبلتين، وبلد المسجد الأقصى، وثالث المدن المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة، والأرض التي انتهى إليها الإسراء، وابتدأ منها المعراج. وحسبنا في فضلها قول الله تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا )) الإسراء :1.
و لهذا كان للقدس مكان في قلب كل مسلم، في المشرق أو المغرب، تمس شغافه، وتتغلغل في أعماقه، حبّاً لها، وحرصا عليها، وغيرة على حرماتها، واهتماما بشأنها. ومن أجلها أصبحت قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى، لها يفزعون، وعليها يحافظون، وفي سبيلها يدافعون ويقاتلون، ولا يضنون عليها بنفس ولا نفيس.
إن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، إنها للمسلمين جميعا، عربهم وعجمهم، كما أنها للعرب كافة، مسلمهم ومسيحيهم.
و لا يجوز للفلسطينيين وحدهم أن يتصرفوا في مصير القدس، ويفتئتوا على المسلمين في أنحاء الأرض. وهذا بالتالي يوجب على المسلمين – حيثما كانوا – أن يقوموا بواجبهم ويبذلوا ما في وسعهم في الدفاع عن بيت المقدس، والمسجد الأقصى، وهذا فرض عليهم جميعا، يتكافلون في الذود عنه بأنفسهم وأموالهم وكل ما ملكت أيديهم، وإلا حقت عليهم عقوبة الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم : انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير )) التوبة : 38،39.
و حينما احتل الصليبيون القدس قديماً، كان الذين عملوا على تحريرها مسلمين من غير العرب، مثل عماد الدين زنكي التركي، وابنه نور الدين محمود الشهيد، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي، الذي حرر الله القدس على يديه.
و لا يزال المسلمون في كل مكان – أكثر من مليار وثلث – مستعدين للبذل والتضحية من اجل القدس العزيز، وهذا شيء يلمسه كل أحد لدى الشعوب الإسلامية، ابتداء من الفليبين وإندونيسيا في الشرق إلى موريتانيا في المغرب العربي، وإن لم ينعكس هذا بصورة قوية وواضحة لدى بعض حكام المسلمين للأسف.
إن القدس جزء عزيز من دار الإسلام، وأرض الإسلام، ووطن الإسلام، وقد صار للمسلمين فيها أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يأخذوها من اليهود، فقد انتهى الوجود اليهودي فيها منذ مئات السنين، كما انتهت دولتهم قبل ذلك بمئات السنين، فلم تقم لليهود دولة في فلسطين إلا بضع مئات من السنين، وكان العرب اليبوسيون وغيرهم فيها منذ آلاف السنين.
لقد تسلم عمر بن الخطاب القدس من (بطريركها) النصراني صفرنيوس، وكان مما شارطه عليه عمر : ألا يساكنهم فيها يهود !
إن السيادة على القدس يجب أن تكون إسلامية عربية فلسطينية وهذا لا يمنع المسيحي، كما لا يمنع اليهودي، أن يقيم شعائر دينه فيها بكل حرية وسماحة، عرف بها الإسلام على توالي العصور.
(( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).
القرار 2/6
نقل الأعضاء
1. حكم نقل الأعضاء وحالاته:
( أ ) يؤكد المجلس قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة (التابع لرابطة العالم الإسلامي) رقم…… وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة (المنبثق عن منظمة المؤتمر العالم الإسلامي) رقم 26 (1/4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً, ونصه:
من حيث التعريف والتقسيم:
أولاً: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان, من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها, كقرنية العين. سواء أكان متصلا به, أم انفصل عنه.
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث, هو استفادة دعت ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة, أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:
1- نقل العضو من حي.
2- نقل العضو من ميت.
3- النقل من الأجنة.
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي, تشمل الحالات التالية:
أ – نقل العضومن مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه, كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها.
ب – نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه.
أما ما تتوقف عليه الحياة, فقد يكون فردياً, وقد يكون غير فردي, فالأول كالقلب والكبد, والثاني كالكلية والرئتين.
وأما ما تتوقف عليه الحياة, فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم, ومنه ما لا يتجدد, ومنه ما له تأثير على الأنساب والمورِّثات, والشخصية العامة, كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي, ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية : وهي نقل العضو من ميت:
ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين:
الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً.
الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً. وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة:
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة, وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:
حالة الأجنة الني تسقط تلقائياً.
حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي.
حالة “اللقائح المستنبتة خارج الرحم”.
من حيث الأحكام الشرعية:
أولاً: يجوز نقل العضو من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه, مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها, وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له, أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.
ثانيا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر, إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً, كالدم والجلد, ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية, وتحقق الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر, كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما, أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو, أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك, بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته, أو بشرط موافقة وليّ أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها, مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد, ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً, فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة, مما يدخل في أصل الموضوع, فهو محل بحث ونظر, ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة, على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية.
(ب) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي بجدة رقم 57(8/6) بشأن زراعة الأعضاء التناسلية, ونصه:
أولاً :زرع الغدد التناسلية : بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية ( الشفرة الوراثية ) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقّ جديد، فإن زرعهما محرم شرعاً.
ثانيا : زرع أعضاء الجهاز التناسلي :زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التى لا تنقل الصفات الوراثية – ما عدا العورات المغلظة – جائز لضرروة مشروعة وفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 (1 4 ) لهذا المجمع، والله أعلم.
(ج) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 54 ( 56 ) بشأن زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي ونصه :
أولاً: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي؛ لأن الخلايا من الجسم نفسه فلا بأس من ذلك شرعاً.
ثانياً: إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان، ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.
ثالثاً : إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي.
ا : الطريقة الأولى : أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً، وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم 95 ( 8/6 ) لهذه الدورة.
ب : الطريقة الثانية وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولابأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.
رابعاً : المولود اللادماغي : طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها، ومما تضمنه القرار رقم 26 (1/4 ) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الانعاش إلى ما بعد موت جذع المخ – والذي يمكن تشخيصه – للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل، توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها.
– تحديد المنتفع بالأعضاء، ووسيلة ذلك :
هذا وقد استكمل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعد المناقشة المسائل الآتية التي تتعلق بنقل الأعضاء، وهي:
(أ) إذا حدد المتبرع أو ورثته شخصاً معيناً للانتفاع بالعضو المتبرع به أو فوض جهة معينة بتحديد الشخص المنتفع به فيجب الالتزام بذلك ما أمكن، فإن لم يمكن لسبب إرادي أو طبي فإنه يرجع في ذلك إلى ورثة المتبرع، فإن لم يتيسر فيرجع إلى الجهة المعنية بمصالح المسلمين في البلاد غير الإسلامية.
(ب) إذا كتب الشخص وثيقة للتبرع بعضو من أعضائه بعد وفاته فتطبق على ذلك أحكام الوصية، ولا يجوز للورثة أو غيرهم تبديل الوصية.
(ج) في حالة وجود قانون بأن من لم يصرح بعدم الرغبة في أن ينتفع بأعضائه بعد وفاته يعتبر موافقاً؛ فإن عدم التصريح بالرفض يعتبر موافقة ضمنية.
القرار 3/6
تهنئة غير المسلمين بأعيادهم
مما لا شك أن القضية قضية مهمة وحساسة خاصة للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وقد ورد إلى المجلس أسئلة كثيرة من الإخوة والأخوات، الذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ!
ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟
إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) الممتحنة: 8-9.
ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم:
فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا.
وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه.
وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: (أن تبروهم) وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).
وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: “صلي أمك”.
هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.
حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة:5.