البحوث

مسلمو أوروبا والمشاركة السياسية الواقـع والمنشـود

بسم الله الرحمن الرحيم

  

مسلمو أوروبا
والمشاركة السياسية
 

ـ ملامح الواقع وخيارات التطوير ـ

حسام شاكر

 

 

المحتويات

 

مقدِّمة ………………………………………………………………………………………………………………………………..  7

 

توطئة ……………………………………………………………………………………………………………………………….  11

 

الفصل الأول: عن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ………………………………………………….  15

  • المشاركة السياسية ـ في المفهوم …………………………………………………………………………………. 17
  • المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ في المفهوم ………………………………………………………….. 19
  • المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ـ من إشكاليّات المفهوم ……………………………………….. 21
  • المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ……………………………………………………………………….. 23
  • المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ـ تشابك آليات التأثير ……………………………………. 25
  • مسلمو أوروبا وأهمية استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية ………………. 28
  • مؤشرات للتعرف على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا …………………………………………. 34
  • ملف تمثيل المسلمين .. والطابع السياسي ………………………………………………………………. 40

 

الفصل الثاني: مسلمو أوروبا وصعوبات المشاركة السياسية ………………………………………..  43

  • من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية لعموم الجمهور ………………………………… 45
  • من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية للأقليات …………………………………………. 52
  • من الصعوبات المتعلقة بخصوصية مسلمي أوروبا …………………………………………………….. 59
  • فرص المشاركة السياسية في أوروبا وتحدي “السقف الزجاجي” ……………………………….. 66
  • الصعود إلى النخبة ومعايير الاصطفاء ……………………………………………………………………… 71
  • تحفيز المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ من المسؤول؟ ……………………………………………. 74

 

الفصل الثالث: مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية …………………………………….  79

  • في البدء كان الحلم ـ آمال المشاركة السياسية الفاعلة ………………………………………………. 81
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات مؤيدة بوضوح للمشاركة السياسية ……………………………. 85
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات لا تعارض المشاركة السياسية
    لكنها تتردّد في الإقدام عليها ……………………………………………………………………………………….. 93
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات معارضة بوضوح للمشاركة السياسية
    أو لصورها المباشرة على الأقل ……………………………………………………………………………………… 95

 

الفصل الرابع: في توصيف المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ……………………………………  103

  • الظرف التاريخي للمشاركة السياسية الراهنة لمسلمي أوروبا ……………………………………. 105
  • من ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ………………………………………………………… 116
  • المشاركة السياسية على المستوى المحلي ………………………………………………………………….. 132
  • عن تجارب إدارة العمل السياسي في صفوف مسلمي أوروبا ………………………………… 141
  • عندما يحجم مسلمو أوروبا عن الانتخاب ـ الخلفيات …………………………………………… 144
  • المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية ……………………………………………………………… 152
  • مساجد أوروبا .. وساحة المشاركة السياسية ………………………………………………………… 154

 

الفصل الخامس: المشاركة السياسية في ظلال الأزمات ……………………………………………..  157

  • انعكاس الأزمات على المشاركة …………………………………………………………………………….. 159
  • مسلمو أوروبا وإدارة الأزمات ……………………………………………………………………………….. 161
  • التفاعل مع الأزمات ……………………………………………………………………………………………… 163
  • الأزمات وثقافة الاعتراض السلمي ……………………………………………………………………….. 167

 

الفصل السادس: مسلمو أوروبا الشرقية والمشاركة السياسية ………………………………..  171

  • المشاركة والتحوّل في النظم السياسيّة في أوروبا الشرقيّة ـ لمحة موجزة ……………………….. 173
  • خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية ………………………………………….. 178

 

الفصل السابع: إشكالية المفاضلة بين المواقف السياسية عبر المجالات المختلفة

السياسات الداخلية والخارجية ـ مثالاً ………………………………………………………………………….  185

  • مسلمو أوروبا وخلفيات الاهتمام بالسياسات الخارجية ……………………………………….. 188
  • مسلمو أوروبا ونموّ الاهتمام بشؤون السياسة الداخلية ………………………………………….. 193
  • حضور هامشي للسياسة الخارجية في الساحة الجماهيرية الأوروبيّة ……………………….. 197
  • ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للتفاعل السياسي لمسلمي أوروبا؟ …………………………….. 201
  • مسلمو الغرب واضمحلال فرضية “القرب من مراكز صنع القرار العالمي” ……………. 203
  • عن التوازنات الداخليّة بشأن “القضايا الإسلامية”
    في السياسات الخارجية الأوروبية ………………………………………………………………………………… 207
  • مسلمو أوروبا .. وخيارات الدور الوسيط في
    العلاقة الأوروبية مع العالم الإسلامي ………………………………………………………………………….. 208
  • مسلمو أوروبا والتفاعل مع السياسات الخارجيّة .. نحو مشاركةٍ أكثر عمقاً …………. 213
  • مراعاة الأولويات وإدراك التباينات في البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها ………. 215

 

الفصل الثامن: كيف تكون المشاركة؟

بحثاً عن مداخل لتطوير تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ……………………………..  219

  • عن مفهوم المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا ……………………………………………. 221
  • المشاركةُ السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ في مقاصدها العامة …………………………….. 221
  • المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ أهدافها المباشرة ………………………………….. 222
  • المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ وسائلها وأدواتها ………………………………….. 223
  • مسؤوليات ووظائف مترتبة على أطراف المشاركة
    السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ………………………………………………………………………………… 226
  • من متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته …………………………… 228
  • الموازنة بين المكتسبات الرمزية والتقدم الفعلي في ساحة المشاركة السياسية ……………. 230
  • المبادرة إلى الفعل واستباق التطوّرات .. بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال ………….. 236
  • نحو حضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية …………………………………….. 238
  • تهيئة الرأي العام وتكييف الخطاب والممارسة ………………………………………………………… 241
  • عن التنازلات في سياقات المشاركة ـ الهوامش والحدود ودور الخطاب السياسي …….. 242

 

الفصل التاسع: مسائل وإشكاليات في العمل السياسي لمسلمي أوروبا …………………..  247

  • السياسي المسلم وإشكالية “ازدواجية الولاء” (المزعومة) بين
    الأقلية المسلمة والحزب السياسي ……………………………………………………………………………….. 249
  • تحدي القدرة الفعلية للسياسي المسلم على التأثير في المستوى السياسي ……………….. 252
  • إشكالية التوافق مع مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي ……….. 255
  • هل من معايير لإمكانية بقاء السياسي المسلم في إطار حزبي بعينه؟ …………………….. 261
  • إشكالية التشابك بين “السياسي” و”الدعوي”، أو إشكالية “تسييس”
    الحضور العام لمسلمي أوروبا ………………………………………………………………………………………. 264
  • إشكالية “الالتزام الحزبي” في الحياة السياسية والبرلمانية ………………………………………….. 271
  • مسألة التعاطي مع “القواسم المشتركة” بين المبادئ والتوجيهات الإسلامية من جانب؛ والمبادئ والأيديولوجيّات الحزبية من جانب آخر ……………………………………………………………………………………………………………….. 274
  • إشكاليّة التنازع أو التردّد بين أنماط الخطاب ضمن مجمل
    الحضور السياسي والمجتمعي لمسلمي أوروبا ………………………………………………………………… 275
  • إشكالية الموازنة بين مقتضيات المبدأ والواجب والدور؛
    وضرورات الحذر والاحتراس ……………………………………………………………………………………….. 277

 

الخاتمة: المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ خلاصات ………………………………………………..  281

 

 

مقدِّمة

 

لم تعد قضيّة المشاركة السياسيّة شاغلاً هامشياً في ساحة مسلمي أوروبا، بل تنامى الاهتمام بها، أكثر من أيِّ وقت مضى، وسط تجارب شقّت طريقها منذ زمن ومحاولات تنهض على هذا الصعيد.

ولا جدال في أنّ المشاركة السياسيّة لا تقتصر على جولات انتخابية وحشد موسميّ للأصوات؛ فهي أعمق مفهوماً وأعرض نطاقاً. كما أنّ التعامل معها بمعزل عن رؤية أوسع للمشاركة المجتمعيّة ككلّ؛ لا يأتي إلاّ منقطع الأوصال ومعزولاً عن سياقه.

وقد يبدو للمرء أنّ التساؤلات المطروحة اليوم، والتي ستُطرح في الغد، في أفق المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا؛ ذات طابع معقّد ومركّب، وفي كلّ تساؤل منها أوجهٌ تستلزم الدرس والبحث وإمعان النظر، في ملابسات الواقع وخلفيّاته ومآلاته.

وحتى عندما يتملّكنا الأمل بما هو معقود على ناصية المشاركة في الساحة السياسيّة من مكاسب للوجود المسلم في القارة الأوروبيّة؛ فإنّ النظرة الفاحصة تسفر، لا شكّ، عن تحدِّيات وصعوبات لا يمكن تجاهلها أو التغاضي عنها. بل يستنتج المرء من خبرات السنوات القليلة الماضية تحديداً؛ أنّ التطوّرات السياسيّة تبدو في عيون مسلمي أوروبا مرتبطةً بمواسم من الأزمات وعواصف من الجدل، يُشكِّل كلّ منها منعطفاً يتولّى ضبط الإيقاع، سياسياً ومجتمعياً، وفق تطوّرات داهمة أو متغيِّرات متسارعة.

ويعيد ذلك إلى الأذهان أنّ المشاركة السياسيّة لا يُنتظر منها تحقيقُ مصالح أو الوصول إلى منافع وحسب؛ بل وأن يُسعى عبرها إلى دفع مضارّ، أو تحاشي عوارض سلببّة وربما تجاوزات يمكن أن تطرأ. ولذا فإنّ تضييع المصالح ليس هو الخسارة الوحيدة المُفترَضة جراء إهمال المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ بل وإمكانيّة نشوء تطوّرات غير مرغوبة أو تفاقم أوضاع غير مريحة قائمة بالفعل دون أن تجد من يدفعها أو يحتويها.

ولا يخفى أنّ الساحة السياسيّة الأوروبيّة، وفي النظم الديمقراطيّة ككلّ؛ تقوم على أساس التفاعل بين الأطراف المجتمعيّة والسياسيّة والتدافع بين استقطابات المصالح والتجاذب بين المعبِّرين عنها، وهو ما يجري ضمن معادلات تستظلّ بالقوانين والنظم والأعراف المرعيّة. يعني ذلك أنّ الحضور الهامشيّ أو الأداء السلبيّ إنما يتسبّب، وكما تقدّم؛ في اختلال في التوازن يؤذن بنتائج غير مرغوبة. كما سيعكس ذلك ضموراً للحضور المجتمعيّ للفئة المنكفئة على ذاتها، وهو ما لا يتماشى بحال مع التوجّهات المبدئية المنشودة من وجود فاعل وبنّاء للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية، على قاعدة “المواطنة الصالحة”.

وعندما يُسَلِّم المرء بالقواسم المشتركة والأطر الجامعة في الفضاء المجتمعيّ العريض الذي يضمّ المسلمين وغير المسلمين؛ فإنّ ما تستدعي الاكتراث أيضاً؛ سبل التعامل المشترك مع جملةٍ من التحدِّيات والصعوبات والمخاطر، والخيارات المتاحة لتجاوز الحواجز الفعلية والمعنوية والقفز على الأسوار غير المرئية في المجتمع الواحد، أو تفكيكها. والواقع أنّ تلك الصعوبات والمخاطر والفجوات؛ إنما تعضِّد من مبرِّرات المشاركة السياسيّة للمسلمين وتؤكد دواعيها، وتبرهن مجدداً على ضرورتها وأهميتها، بقدر ما تؤشِّر إلى أحد ميادين الفعل الأساسيّة المنتظَرة من تلك المشاركة، سعياً إلى توثيق عرى الصلة والانتشار للمسلمين ضمن النسيج المجتمعي العام، وتبديد مكامن القلق والمخاوف التي تُطِلّ برأسها في كلّ منعطف، وتجسير الفجوات، السحيقة أحياناً، وفتح نوافذ الأمل أمام أجيال مسلمي أوروبا الجديدة، في مجتمعات يُرجى أن تنحاز إلى خيار تكافؤ الفرص للجميع في شتى الميادين، وأن تتضافر جهود كافة الأطراف فيها لتحقيق هذا المطلب الذي لا غنى عنه.

أمّا هذا الكتاب؛ فينشغل بالمسائل العامة، الكبرى والجزئية، المرتبطة بقضية المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا. ولذا فإنه يتحاشى، بوعي، الاستغراق في فيض الأدوات والجوانب الفنية المتعلقة بتلك المشاركة على المستوى التطبيقيّ.

ولا غنى عن مزيد من الجهود في معالجة الأسئلة الكبرى، المتعلقة بمغزى المشاركة المنشودة، وطبيعتها وطرائقها، ومآلاتها وعواقبها، علاوة على التناول التشخيصيّ لواقع المشاركة الراهنة، برصد المكتسبات والصعوبات، واستشراف الفرص والتحديات، التي تكتنف واقعاً يحفل بالمستجدات.

وتختصّ القضية التي يتناولها هذا الكتاب؛ بالمشاركة في الساحة السياسية الأوروبية، سواء على المستوى المحليّ والقُطريّ، أم الإقليميّ والقارِّيّ، ولا تندرج فيها، غالباً، المشاركةُ في الشأن السياسي المتعلِّق بالأوطان السابقة التي وفد منها “مهاجرو الأمس”، كما عليه الحال بالنسبة لبعض النشاطات السياسية للاجئين السياسيين إلى أوروبا مثلاً. وإن تعسّر تحديد خطوط فاصلة دوماً بين النوعيْن المُشار إليهما، خاصة مع الظاهرة المسماة بالعولمة وتجلِّياتها التي تقاربت فيها المسافات؛ فإنّ أحد المعايير التي يمكن اعتمادها في التمييز بينهما؛ يتمثّل في مدى حسم خيارات “المواطنة”، بمفهومها العام، وطبيعة مقاصد الفعل المجتمعي العام، بحيث تكون المشاركةُ السياسيّة متساوقةً مع إرادة الاستقرار والتفاعل مع الحياة العامة تبعاً لذلك. وينبغي أن يُلاحَظ هنا؛ أنّ التفاعل مع الساحة السياسية في أوروبا قد يتمّ أيضاً بدوافع المشاركة السياسيّة في الشأن الخارجي، كما في محاولة التأثير على السياسات الخارجية في مسألة ما.

يبقى هذا الكتاب، الذي يسّر المولى تبارك وتعالى لتأليفه، مدخلاً من مداخل التناول المأمول لهذه القضية الواسعة والمتشعِّبة، ولعلّه يُسهِم في إضاءة مساحات منها للمهتمِّين بها، سائلين الله عزّ وجلّ أن يجعل فيه النفع وأن يعيننا على تلافي ما قد ينتابه من قصور.

وبعد حمد الله تعالى وشكره على ما أسبغ علينا من النعم وأكرمنا من الفضل؛ يبقى أن نعرب عن تقديرنا للجهد الذي أبداه “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث”، وعلماؤه الأجلاء، في إثارة الاهتمام بقضية المشاركة السياسية هذه، وعقد مؤتمر موسّع لبحثها، وأخصّ بالشكر الأمانة العامة للمجلس وقسم البحوث التابع له، على حرصهما على نشر هذا العمل.

حسام شاكر

بروكسل، محرّم 1428ﻫ / كانون الثاني (يناير) 2007م

 

توطئة

 

يعالج هذا الكتابُ قضيةَ المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، بالنظر في واقعها والبحث في سبل تطويرها وآفاق النهوض بها، وذلك عبر تسعة فصول، تليها خاتمة موسّعة تتضمّن بعضاً من الخلاصات والاستنتاجات.

ويُخصَّص الفصل الأول لمفهوم المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وما يرتبط بالمفهوم من إشكاليات، وطبيعة العلاقة بين المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية.

ثم تقترح هذه الدراسة تتبّعَ ملامحِ المشاركة السياسية من خلال ثلاثة مستويات مترابطة، تنتقل من الأخصّ فالأعمّ، وذلك من مستوى المشاركة السياسية المباشرة، فمستوى المشاركة السياسية العامة، ثم مستوى المشاركة المجتمعية ككل.

ويبحث الفصل الثاني ما يعترض مشاركةَ مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة من صعوبات، يُعزَى بعضُها إلى صعوباتٍ عامّة بالنسبة للسياق المجتمعي، وأخرى متعلِّقة بالأقلِّيّات أو من يُصَنّفون على أنهم “أجانب”، علاوة على صعوبات متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين. وتتداخل هذه الصعوبات وتتشابك، مع تفاوُتٍ نسبيّ في ذلك بين بيئةٍ أوروبية وأخرى، وهو ما يفرض، باستمرار، ملاحظةَ التباينات القائمة وأخذَها بعين الاعتبار، تحاشياً للانجرار إلى التعميم.

ويضمّ الفصل الثالث استعراضاً لمواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية، التي يمكن تصنيفها ضمن فئات مؤيِّدة بوضوح للمشاركة السياسية، وأخرى لا تعارضها لكنها تتردّد في الإقدام عليها، وثالثة تعارضها بوضوح أو ترفض بعض صورها المباشرة على الأقل.

ويأتي الفصل الرابع موسّعاً في محاولة وصفه لواقع المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا. إذ تأتي المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا وثيقةَ الصلة بجملة من التطورات والملابسات، وطيف من الخلفيات والأبعاد الظرفية، مما يمكن أن يُعبّر عنه إجمالاً بالظرف التاريخي.

ويتتبّع الفصل ذاته ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، عبر سبر أغوار الواقع وما يختزنه من تجارب، واستعراض حالات من بلدان أوروبية شتى. ويعالج الفصل أيضاً قضية إحجام قطاعات من مسلمي أوروبا عن المشاركة في الانتخابات، متتبعاً خلفيات ذلك وملابساته.

كما يتطرق الفصل إلى جوانب أخرى، كمدى حضور المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية، وطبيعة دور المساجد في واقع المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا.

ويعالج الفصل الخامس من الكتاب قضية المشاركة السياسية “في ظلال الأزمات”، فيتتبّع انعكاس الأزمات على تلك المشاركة، وكيف يتصرّف مسلمو أوروبا إزاء مطلب إدارة الأزمات المتلاحقة.

ويبحث الفصل أيضاً في كيفية التفاعل الذي أبداه مسلمو أوروبا مع تلك الأزمات، ثم يخلص إلى مسألة “ثقافة الاعتراض السلمي”.

ويستقلّ الفصل السادس بتناول واقع المشاركة السياسية وأبعادها بالنسبة لمسلمي أوروبا الشرقية، مسلِّطاً الضوء على التحوّل الذي طرأ على النظم السياسيّة في ذلك الشطر من القارة. فقد أُعيد تشكيل الساحة السياسية في دول شرقيّ أوروبا، بمفعول عاملين اثنين متتابعين، أولهما انهيارُ نظم الحكم الشيوعي، وثانيهما إعادة تشكيل الخارطة السياسية في تلك الدول، مع ما رافقه من توتّرات وأزمات، بل وحروب طاحنة كان المسلمون هم أبرز ضحاياها بلا منازع. وقد نشأت دولٌ جديدةٌ من رحم هذه التحوّلات في غضون العقد الأخير من القرن العشرين. ثم يجري في الفصل ذاته البحث عن خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية وما تميّزت به عن السياق الأوروبي العام.

ويتصدّى الفصل السابع لإشكالية المفاضلة بين المواقف السياسية عبر المجالات المختلفة، وذلك من خلال السياسات الداخلية والخارجية كنموذج على ذلك. فإحدى الصعوبات الجوهريّة في العمل السياسي لمسلمي أوروبا تتمثّل في افتقار قطاعات من المسلمين لإدراكِ خارطة الواقع السياسيّ وعمقِه في الساحة الأوروبيّة. إذ لا يمكن أن تحوزَ سياساتُ حزب بعيْنه أو حكومة ما، على مؤشِّرات إيجابيّة وبالمستوى ذاته في كافة المجالات. وبهذا؛ فإنّ تقويم مدى توافق حزبٍ سياسيّ ما، مع ميول الناخبين المسلمين المفضّلة، أو مع مقاصد المشاركة السياسيّة للمسلمين في البلد المعنيّ؛ إنما يُفترَض أن يخضع لملاحظة رؤى الحزب وبرنامجه ومواقفه من مجالات شتى: كخلفيات الحزب ومنطلقاته، وخطه العام وخطابه، ومجالات السياسة الداخلية، وإزاء ذلك ما يتعلق بمجالات السياسة الخارجية أيضاً.

ويشخِّص الفصل خلفيات اهتمام مسلمي أوروبا بالسياسات الخارجية، ثم يتتبع نموّ اهتمامهم بشؤون السياسة الداخلية. وبعد أن يسهب الفصل في العرض والتحليل لجوانب عدّة متعلقة بهذا الشأن؛ يخلص إلى معالجة مسألة الأولويات والمفاضلة بينها، ومراعاة التباينات بين البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها.

أمّا الفصل الثامن؛ فيتولّى الإجابة عن السؤال العريض: “كيف تكون المشاركة؟”، وذلك بحثاً عن مداخل لتطوير تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا.

ويطرح ذلك الفصل مفهوم “المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا”، والتي يُقصد بها ما يُبتغَى منه تحقيقُ تفاعلِهم الإيجابيّ المثمر مع الساحة السياسيّة، بشتى الأشكال الممكنة، بالصورة التي تتوافق مع خصوصيّات الساحة الأوروبيّة وتستهدي أيضاً بالتوجيهات الإسلاميّة. ويجري في هذا السياق التعرّف على المقاصد العامة لتلك المشاركة الرشيدة، وتحديد أهدافها المباشرة، علاوة على وسائلها وأدواتها، مع تصنيف المسؤوليات والوظائف المترتبة على أطراف تلك المشاركة بصفتها الرشيدة.

ويسوق الفصل ذاته شرحاً لمتطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته، كما يقترح مواصفات لحضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية، قبل أن يتفحّص بعض الإشكاليات؛ من قبيل مسألة التنازلات في سياقات المشاركة ودور الخطاب السياسي إزاء ذلك.

ويأتي الفصل التاسع مخصّصاً لاستعراض إشكاليات في العمل السياسي لمسلمي أوروبا. فذلك العمل يبقى محفوفاً بتساؤلات، ومرتبطاً بتحدِّيات عدّة، ينبغي استعراضُها ومناقشتها باستفاضة وعُمق.

ولمّا كان العملُ السياسيّ لمسلمي أوروبا خاضعاً لتقديراتٍ اجتهاديّة وافرة، ومتعلقاً بموازنات معقّدة ومتشعِّبة أحياناً؛ فإنه لا بد من لفت الانتباه إلى جملةٍ من المحاذير والنقاط الجديرة بالانتباه، بناءً على خصوصيّة مسلمي أوروبا وطبيعة ساحتهم السياسيّة.

ويتضمّن الفصل محاولاتٍ لتشخيص بعض الإشكاليّات، أو التساؤلات، المتعلِّقة بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وربما المشارَكة المجتمعيّة العامّة ككلّ، وهي مستقاةٌ إجمالاً من واقع هذه المشاركة، ومُغْتَرَفَةٌ من صميم ما يموج فيها من تجاذباتٍ وما يخيِّم عليها من التباسات، وقد تنحو أحياناً منحى استشرافياً لما يُتَوَقّع أن يُثارَ في الحاضر والمستقبل من تساؤلاتٍ في هذا السياق.

وبهذا؛ فإنّ الإشكاليّات المنتقاة تتفاوتُ في مدى جديّتها، وتتمايز في عُمقها وتأثيراتها، كما تتبايَنُ في قوّة حضورها أو ضعفه في ساحة مسلمي أوروبا، دون أن يُنقِص ذلك من دواعي التصدِّى لها بمعالجات تحليليّة ناقدة، سعياً لتوضيح ملابساتها، وصولاً إلى بعض الاستنتاجات أو التوصيات.


 

الفصل الأوّل

عن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا

 

 

  • المشاركة السياسية ـ في المفهوم
  • المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ في المفهوم
  • المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ـ من إشكاليّات المفهوم
  • المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية
  • المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ـ تشابك آليات التأثير
  • مسلمو أوروبا وأهمية استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية
  • مؤشرات للتعرف على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
  • ملف تمثيل المسلمين .. والطابع السياسي


 

المشاركة السياسية ـ في المفهوم:

طبقاً لما تقرّره مصادر العلوم السياسية؛ فإنّ النظام السياسي الديمقراطي إنما يقوم على أساس مشاركة الشعب أو الجمهور فيه، فيقال على وجه العموم؛ “إنّ النُّظُم الديمقراطيّة تنظر إلى أنّ غاية السياسة هي توفير جوّ اجتماعي، وحمايته والمحافظة عليه؛ يستطيع فيه الأفراد أن يحقِّقوا طموحاتهم الفردية والجماعية”[1].

من هنا تأتي المشاركة السياسية لتصف تلك الأداءات التي يتولّى المواطنون القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي. أي أنّ هذه المشاركة يُقصَد بها ما يتعلّق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي[2].

والواقع أنّ المشاركة السياسية لمجموعة ما إنما تهدف في الأساس للتأثير على صناعة القرار، وتحقيق مكتسبات أخرى معنويّة الطابع غالباً كاكتساب التقدير العام مثلاً، وهي إن نجحت فإنها تكون، بدرجة ما؛ جزءاً من بيئة صناعة القرار، بل وقد تنجح في بعض الحالات في النفاذ إلى داخل الدائرة المباشرة لصناعته. فعضوية اللجان العامة المختصّة، أو صعود ممثِّل عن رؤى المجموعة ومواقفها إلى مستويات تشريعيّة أو تنفيذيّة مثلاً؛ قد يُعَدّ، ضمن أشكالٍ واحتمالاتٍ متعددة، مشاركةً عضويّة في عملية اتخاذ القرار. إلاّ أنه قد يحدث كذلك، أن يصعد ممثِّلون عن المجموعة ذاتها إلى نطاق صناعة القرار، دون قدرة على التعاطي مع بيئتها أو إمكانية التأثير فيها، لأسباب ذاتية و/أو موضوعية.

ولا تتخذ المشاركة السياسية نمطاً محدداً، كما لا يمكن حصرها في ما يقرِّره المشرِّعون مثلاً، طالما أنها بمثابة حالة تواصلية قادرة على التعبير عن ذاتها بطرق شتى، منها ما هو مقبول، ومنها ما قد لا يكون كذلك. وبهذا؛ لا يكون بالوسع النظر إلى المشاركة السياسية بمنطق النصوص الدستوريّة أو القانونيّة وحدها، ذلك أنّ المشاركة السياسية تتحقّق من جانب وفق مقرّرات تشريعية أو نظامية ما، كما في الجولات الانتخابية مثلاً، بينما تتجسّد واقعاً من جانب آخر عبر حملات الحشد والتعبئة والضغوط التي يقوم بها المواطنون بصفة غير نظاميّة أيضاً. ثم إنّ المشاركةَ السياسية قد تجري في ضوءِ القانون، فتكون متمتِّعةً بالشرعيّة القانونيّة، بينما قد تجري في حالاتٍ ما على هيئة “مشاركةٍ في الظل”، أي بشكل لا يتوافق، بقدر أو بآخر، مع المعايير والضوابط، قانونيّة كانت أم أخلاقيّة.

وهي على أي حال؛ مشاركةٌ تُمارَس بوعي[3] سعياً لأن تَتْرُكَ تأثيراً ما على صناعة القرار في مستوى أو آخر. وإن كان يجري أحياناً بدون وعي ما يبدو شبيهاً بفعل المشاركة السياسية، كجُملةٍ من الأفعال والأقوال التلقائيّة أو حتى ما دون ذلك من صور الحضور والتعبير عن الذات، التي ربما يترتب عليها انعكاس سياسي ما. ورغم اعتبار الوعي بفعل المشاركة أساساً فيها؛ فإنّه يصعب عملياً عزلُ الفعلِ “الواعي” ذي الأثر السياسيّ عن نظيره الذي يجري بدون وعي أو إرادة مُسبَقة أو تصميم مثلاً، ولذا فإنّ هذه الدراسة تتبنّى مفهوماً أرحب للمشاركة السياسية، يأخذ بعين الاعتبار جملة المشاركات المؤهلة لأن تكون ذات أثر بدرجة أو بأخرى، في الساحة السياسية.

أما لجهة تأثيرها؛ فإنّ المشاركة السياسية قد تكون مُلزِمة أو غير مُلزِمة، وذلك من الجانب النظامي البحت، ولكنها في المنظور الأخلاقي أو الأدبي أو المبدئي، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً تباينه وعدم تحديده وكونه فضفاضاً في الغالب؛ قد تفرض إلزامية أو لا إلزامية، وهو ما يخضع لتقديرات ذاتية وموضوعية متفرِّقة. ذلك أنّ الأغلبية في نطاق ما قد يتاح لها هضم بعض حقوق الأقلِّيّات بموجب النظم “الديمقراطيّة” التي تضبط المشاركة السياسيّة، ولكنّ ذلك له شأن آخر بالمنظور الأخلاقيّ أو الأدبيّ أو المبدئيّ. وعلى سبيل المثال أيضاً؛ ينبغي، وفق المنظور النظاميّ، القبول بنتائج الانتخابات التي تجري طبقاً للأنظمة المرعية والتسليم بها إلزاماً، ولكنّ ذلك قد يستدعي في حالات ما، تحفّظات، عادةً ما تُورَد مشفوعة بمبرِّرات، أو ذرائع، أخلاقية أو أدبية أو مبدئية، فعلية كانت أم مزعومة؛ إذا ما تمخّضت العملية النظامية عن نتائج مُتحفّظ عليها من طرف أو أكثر. وهنا؛ قد تخضع نتائج المشاركة السياسية للضغوط والرفض والمقاومة، بصفة صريحةٍ أو غير صريحة[4]. ويثير ذلك جانباً إشكالياً، يتعلّق بالحالات التي يجري فيها تحوّر، أو إجراء تحوير، في النظرة المبدئية أو الموقف النظري أو الملابسات الأخلاقية من مسألة بعينها أو من طرف ما، بالشكل الذي يجعل، مع عوامل أخرى، المعايير القانونية أو النظامية وحدها غير كافية لضمان مشاركة سياسية فاعلة ومتكافئة في البيئة السياسية الواحدة.

وهناك انطباعات واقعية تعزّز هذا التقدير، منها مثلاً ما تلاحظه الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا من أنّ “وضعية الاعتراف القانوني (بالطائفة المسلمة) لا تعني (بالضرورة) إلى حدٍّ كبير قبولاً مجتمعيّاً عريضاً” بالمسلمين وحضورهم. ولذا فمن منظور هذه الهيئة؛ تمثِّل المشاركة “نموذجاً مناقضاً للذوبان، لأنّ الإسهام النشط مع الاحتفاظ بالهويّة الثقافيّة والدينيّة الخاصّة، والذي يتضمّن أيضاً الإثراء المتحقِّق عبر التبادل المرتبط بها؛ إنما يتيح اندماجاً حقيقياً”. وعلى هذه الخلفية؛ فإنّ الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا قد رفعت شعاراً لها هو “الاندماج من خلال المشاركة”[5].

المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ في المفهوم:

لا يُقصَدُ بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ “المشاركة الإسلاميّة” في الساحة السياسية الأوروبية، أي انبثاق المشاركة هذه عن توجيهات الدين الإسلامي، كما قد ينصرف إليه الذهن. ولكن يُفترَض بالممارسة الرشيدة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسية المحلية والقُطرية والقارِّيّة أن تكون منسجمةً بقدر معقول مع خصوصيّات البيئات السياسية الأوروبية، وغير متعارضة مع قيم الإسلام وتوجيهاته وتعاليمه، بل وأن تكون، وهذا هو الأوْلى والأوفَق، مستهديةً ومسترشِدةً بهذه القيم والتوجيهات والتعاليم الإسلامية مع انطباعها الإيجابي بخصوصيّة بيئيةٍ تجعلُها متّصلةً بواقعها غير منفصمةٍ عنه.

ومن هنا؛ يمكن التفريق بين مفهوم “المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا”، كحالة مُستلّة من الواقع، وتلك الممارسة إذا ما وُصفت بالرُّشد، كحالة مُثلى أو قريباً من ذلك، كممارسة منشودة أو مرتجاة.

وغنيّ عن القول إنّ مشاركة المسلمين في الساحة السياسية، لا يمكن أن يُفهم منها أنها تسعى إلى الهيمنة على هذه الساحة في العاجل أو الآجل، بل هي، من حيث كونها مشاركةً؛ إنما تهدف بالطبع إلى الحضور اللائق في هذه الساحة على أسس التفاعل السليم مع شركاء المواطنة من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى، وهو ليس بالمطلب المتيسِّر على أي حال.

وفي واقع الأمر؛ فإنّ ما قد يستدعي لفتَ الانتباه إلى هذه المُسَلّمة أمران؛ أولهما ما تثيره بعض أصوات التحريض ضد مسلمي أوروبا من أنهم يسعون إلى “أسلَمة” الواقع الأوروبي، وهي مُفرَدة يُقصَد بها في سياقات كهذه إرادةُ الهيمنة على هذا الواقع والاستفراد به مع النزوع إلى إضفاء طابع شموليّ عليه وبما لا يتيح متنفساً للآخرين، في ما يهدِّد “الميراث الأوروبي” برمّته. وعادة ما يتذرّع هؤلاء المحرِّضون المتطرِّفون بلغة البيانات العدديّة (عن تزايد أعداد المسلمين مقابل تناقص عددي للمواطنين الأوروبيين “الأصليين”) التي تُجَيّر على نحو يُراد منه إثارة الفزع، وبما يمنح انطباعاتٍ مضلِّلَة تُشَكِّل بحدّ ذاتها محفِّزات لاستنبات القلق والارتياب و”الإسلاموفوبيا”. أما الأمر الثاني؛ فيأتي على خلفيّة إدراك حالات الخلل والقصور في الثقافة السياسية وتجاربها في بقاع ممتدّة من العالم الإسلامي، والتي قد تُلقي ببعض ظلالها على تصوّرات بعض المسلمين الوافدين من تلك البقاع. فقد شهد العالم الإسلامي، وما زال، تجاربَ مؤسِفة من الاستفراد السياسيّ المزمن، والهيمنة الأحادية على الساحتين السياسية والمجتمعية، تملّصت من مبدأ الشورى وانعتقت عن التزاماته، وهو ما لم يُتِح فرصاً مشجِّعة لبلورة خبرات مُسبَقة لدى بعض مسلمي أوروبا الذين يتحدّرون من تلك الأقاليم، وهي ملاحظة تستدعي السعي إلى بلورة ثقافة سياسية ومجتمعية معفيّة من أعباء أعباء التجارب هيمنت بشكل سلبيّ على بعض بيئاتهم السابقة، وذلك تشجيعاً على تعاطٍ رشيد وبنّاء من جانب عموم مسلمي أوروبا مع الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة في البيئات الأوروبيّة.

المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ـ من إشكاليّات المفهوم:

لا ريب في أنّ مفهوم المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، مؤهّلٌ لأن يثير تساؤلاتٍ وإشكاليات. فهل يمكن حقاً النظر إلى المشاركة السياسية لقطاعات المجتمع العريض من خلال الاقتصار في التصنيف على الانتماء الديني مثلاً وحسب، أو لمجرّد التابعيّة لأقلية ما؟ وإلى أي مدى يمكن تجاهل حقيقة انتماء عضو المجتمع إلى أكثر من دائرة أو فئة أو قطاع في الوقت ذاته؟.

وكمثال على ذلك؛ يجد المرء أنّ المسلمةَ الأوروبيّة التي تعمل في مصنع، مثلاً، تنتمي إلى الأقليّة المسلمة، وإلى فئة النساء، وإلى “الشريحة العاملة”، كما أنها قد تكون من قطاع من يُوصَفون بالمهاجرين. وهي من الناحية العمرية؛ قد تُصنّف ضمن الشريحة الشابة، في ما أنها قد تكون متحدِّرة من بلد مسلم، أو حتى من أقليّة مسلمة تقطن بلداً أغلبيته غير مسلمة، كأن تكون مهاجرة من بلد آسيوي كالفلبين لا يشاركها معظم مواطنيها السابقين انتماءها الدينيّ لكنها تشاركهم الانتماءَ إلى “الوطن السابق” واللغة وبعض العادات والتقاليد أيضاً. من هنا؛ تتّضح، ببساطة، استحالةُ تصنيف الفرد، تصنيفاً أحادياً، بالتعامل مع خصوصيّة واحدة وتجاهل غيرها من الخصوصيّات.

هذا بشأن الفرد؛ أما تصنيف المجموعات، كلّ على حدة؛ فيتم تلقائياً على أساس ملاحظة المشترك الجامع بين الأفراد، فتكون لكل مجموعةٍ خصوصيّتُها التي يَفتَرضُها هذا التصنيف. لكنّ ذلك لا ينبغي له أن يتجاهل حقيقة التداخل والتشابك والتقاطع بين المجموعات والفئات والقطاعات والشرائح المكوِّنة للمجتمع العريض، كما لا يجوز له أن يَغُضّ الطرف عن واقع التنوّع الداخليّ المتوقع ضمن كل مجموعة على حدة أيضاً.

ولا بدّ أن يكون واضحاً؛ أنّ إدراك التنوّع الداخلي والتباينات الضمنيّة ضمن الوجود المسلم في أوروبا لا ينبغي فهم مقصدنا منه على أنه مشروعٌ تقويضيّ للإطار العام، أو نزعةٌ تفكيكيّةٌ ﻟ “وحدة المسلمين” كما قد يُظَنّ؛ بل هو في الأساس مدعاةٌ للتعويل على القواسم المشتركة في تعزيز حالة التشابك المسلم ضمن النسيج الأوروبي العام.

أما من يتجاهل ذلك بالفعل في تناوله؛ فإنه لا يكتفي بتشكيل ملاحظاتِه واستقاء استنتاجاته على أُسُسٍ غير دقيقة؛ بل وقد يُمارِس، بوعي أو بدونه؛ تناولاً يقوم على عزل مجموعة عن سياقها المجتمعي عزلاً قسرياً. وإذا ما تعلّق الأمر بالمسلمين؛ فإنّ المرء يلحظ ذلك مثلاً بشكل صارخ في التناول التحريضي ضد الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، الذي يعمد إليه خطاب متطرِّف في المجتمع أو السياسة أو الإعلام. ومن المؤسف أن نجد شيئاً من ذلك في بعض المعالجات الأخرى التي تَلْتَفِتُ إلى خصوصيّة الوجود المسلم في أوروبا، دون الاكتراث بواقع التنوّع في فضاء هذا الوجود، وبوشائج الصلة والتقاطعات المتعدِّدة التي تضعه ضمن النسيج المجتمعي العام. ولكنّ التناول الذي يَتَحرّى المقاربةَ الواقعيّة؛ ينبغي أن يراعي التوازن النسبيّ بين إدراكِ الخصوصيّات من جانب؛ وملاحظة طبيعة التشابكات والتقاطعات ضمن النسيج المجتمعي العام من جانب آخر.

وعليه؛ فإنّ هذه الإشكالية تخضع لكيفية التعامل مع مفهوم المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أي زاوية تناول الموضوع. فهذه المشاركة ينبغي، تحرِّياً للدقة والموضوعيّة؛ أن تُقرَأَ باعتبارها محصِّلة مشاركة المجموع المسلم المتنوِّع في ذاته، والتي تأتي، دون فقدان خصوصيّتها الجوهرية، في سياق فعل المشاركة للمجتمع العام. بل إنّ ملاحظة التشابكات والتقاطعات المجتمعية للأقلية المسلمة، كالتموضع الطبقي أو الشرائح المهنية مثلاً؛ تبدو هامّة للغاية، في معرض دراسة المشاركة السياسية لهذه “الأقليّة”.

وسيكون من الواضح، بالتالي، كم يُرتِّب هذا التشابكُ وتلك التقاطعات من مصاعب، في سبيل كلّ من يسعى للخروج باستنتاجات بشأن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، على أساس افتراض عزل المسلمين عن سياقهم المجتمعيّ وتحييد مجمل العوامل والملابسات الأخرى المؤثرة في واقعهم وفي ما يتعلق بمشاركتهم السياسية. ومع ذلك؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك مبرِّراً للاستغراق في نسبيّة تفضي إلى إهمال الخصوصيّة، أو تجاهل الملامح الذاتية المشتركة التي تحملها الأقلِّيّة، أو الأقلِّيّات، المسلمة في أوروبا، حتى على صعيد الساحة السياسية، فوضع المسلمين في سياقهم المجتمعي؛ لا يبرِّر النزوعَ إلى منطق يَفتَرِض ذوبانَهم فيه أو يطمس أَثرَهم وملامحَهم الجامعة المشتركة؛ بذريعة تشابكهم مع النسيج المجتمعي العام.

المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية:

لا يمكن عزل المشاركة السياسية عن المشاركة المجتمعية كسياق عام. ذلك أنّ المشاركة السياسية تبقى جزءاً من المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل. ولا شك أنّ العلاقة بين المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية هي علاقة جدلية، فكلما تزايد منسوب المشاركة المجتمعية الفاعلة لمجموعة بشرية أو أقلية ما؛ ازدادت احتمالات مشاركتها السياسية الفاعلة، وكلما انخفض ذلك المنسوب تضاءلت فرص المشاركة السياسية الفاعلة وإمكاناتها. كما أنّ المشاركة السياسية ذاتها تنعكس بالإيجاب على تطوير واقع المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل، وتحفيزها بالنسبة للمجموعة البشرية أو الأقلية المعنية.

وقد يبدو للمرء أنّ كلّ فعل مجتمعي، يمكنه أن يحمل بُعداً أو أبعاداً ذات صلةٍ ما بالشأن السياسي، أو ذات مغزى أو دلالة أو تأثيرات ذات انعكاسات سياسية[6]، مهما بدا ذلك ثانوياً أو غير مباشر.

وبالمقابل؛ فإنه يمكننا أن نستنتج أنّ القابليات والفرص، أو الصعوبات والتحديات، التي تتعلّق بالمشاركة السياسية لأية مجموعة بشرية أو أقلية ما؛ يمكن العثور على العديد من مكامنها أو ارتباطاتها أو مسبِّباتها في الفعل المجتمعي الذاتي أو في الظرف المجتمعي الموضوعي المتعلق بتلك المجموعة أو الأقلية.

ومن هنا يكون مفهوماً لماذا يشدِّد الشيخ راشد الغنوشي، مثلاً، على أهمية الانتشار المجتمعي والثقافي للمسلمين في أوروبا والغرب إجمالاً. ففي محاضرة له ألقاها في بريطانيا في أواسط التسعينيات من القرن العشرين؛ كان قد أوضح أنّ “الإسلامَ هنا ما لم يربط علاقةً خاصة مع البريطانيين وحضارتهم ومع مشكلاتهم وآدابهم والتحديات التي تواجههم، وكذلك مع الفرنسيين والألمان والأمريكان، وما لم يساهم الإسلام في إثراء هذه الثقافات (…)؛ سيظلّ الإسلام نبتةً غريبةً معزولةً لا تزال بها البيئة تحاصرها حتى تفنيها، وليس ذلك ولا شك من طبيعة الإسلام العالمية الإنسانية الدعوية المنظمة، التي نهضت على عقيدة الإيمان بالله رب العالمين بوصفهم الإنساني”[7].

ويأتي وضعُ المشاركة السياسية ضمن نسقٍ من المشاركة المجتمعية، متماشياً مع اعتبار النظام السياسي جزءاً من النظام المجتمعي العام، وهذا ما يراه بعض علماء السياسة، وعلى رأسهم ديفيد إيستون (David Easton) وجابرييل ألموند (Gabriel Almond). إذ يرى إيستون أنّ النظام السياسي عبارة عن مجموعة من الظواهر التي تمثل نظاماً فرعياً من النظام المجتمعي، في ما يذهب ألموند إلى أنّ النظام السياسي هو ذلك النظام الذي يشتمل على التداخلات القائمة في كافة المجتمعات والتي يقدّم عبرها الوظائف التي ينجزها النظام بواسطة القوة الجبرية الشرعية أو التهديد باستخدامها[8].

ورغم أهمية إدراك الفعل السياسي ضمن مجمل الفعل المجتمعي العام، ورغم ضرورة تناول المشاركة السياسية ضمن مجمل المشاركة المجتمعية؛ فإنّ المشاركةَ السياسية، على نحو يرومُ التناولَ الأدقَّ؛ إنما يُقصَد بها ما يتعلق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي. فهذه المشاركة تصف تلك الأداءات التي يتولى المواطنون القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي[9].

ولا يغيب عن الأنظار هنا ما انشغل به بعض الفلاسفة من إبراز الطابع السياسي للفعل المجتمعي، وهو ما يتّضح مثلاً لدى بعض الماركسيين، إلى درجة إفراطهم في تسييس ذلك الفعل، بما قد يُفضي إلى المجازفة باعتبار أنّ أيّ عمل من شأنه إحداث تحوّل في جانب ما هو عمل سياسي، ما قد يقودنا إلى طمس خصوصيّة السياسة. ويمكن العثور على جذور ذلك التماهي بين الجانبين في أعمال ماركس ولينين، كما يلاحظ نيكوس بولانتزاس[10] (Nicos Polantzas) مثلاً[11].

المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ـ تشابك آليات التأثير:

إنّ إدراكَ تشابكِ المشاركة السياسية مع مجمل المشاركة المجتمعية؛ ضروريّ جداً لفهم بعض خصائص الثبات والحراك في المجتمع والسياسة. وعلى صعيد الأدوات؛ يبدو نشاط الأطراف المجتمعيّة مدخلاً لا غنى عنه للتحوّلات السياسية، خاصة وأنّ بعض أوجُه هذا النشاط وصُوَرِه يمكن قراءتها أيضاً على أنها مشاركة سياسية مباشرة أو غير مباشرة.

ففي البيئة الأمريكية؛ لم تكن الآليات الديمقراطية “النظامية” قادرةً، ولا مؤهّلةً، لأن تُنصِفَ الأمريكيِّين السود، وكان لا بد من أن تضطلع حركة الحقوق المدنية، في أواسط القرن العشرين، بدور ناهض انطلاقاً من القاعدة الجماهيرية، وعبر الشارع. لقد كانت تلك مشاركةً سياسيّةً أيضاً، وإن لم تكن مباشرةً أو تخصّصية الطابع. وهنا يبدو الأثر الحاسم للمعتدلين (كتحركات مارتن لوثر كنغ) والمتطرِّفين (كبعض المنظمات السوداء المحليّة) على السواء في هذه التفاعلات المجتمعية والسياسية، التي شهدتها الولايات المتحدة، وبغضّ النظر عن الوسائل المتّبعة للوصول إليها ومدى مشروعيّتها. والمثير أنّ ما بدا “حلماً” لمارتن لوثر كنغ؛ لم تتوفّر في أدوات الفعل الديمقراطي التقليدية، كالانتخابات النيابية مثلاً، ما يحقِّقه، فكان لا بدّ من التعبئة والحشد وإلقاء أحجار كبيرة في المياه الراكدة، بل والإقدام على “استثمار مدنيّ” رشيد لنقمة جارفة وقابلة أحياناً لممارسة العنف باتت تجتاح التجمعات السكانية السوداء، علاوة على السعي للتحالف والشراكة والتنسيق مع أطراف في الساحة المجتمعية الأمريكية[12].

أما في الحالة الأوروبية الغربية؛ فقد شعر جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنّ النظامَ المجتمعيَّ والسياسيَّ حافلٌ بالرتابة والشكلية، وأنّ الديمقراطيّة النيابيّة وحدها لا تلبِّي تطلّعات الأجيال الجديدة، وأنّ الساحة السياسية والثقافة المجتمعية لم تَعُد مُقنِعةً وهي بحاجة إلى تغيير ملموس. لقد استنتج “جيل 1968” بالتالي أنّ “الأدوات النظاميّة” في مجتمع ديمقراطيّ بتلك المواصفات؛ لم تكن مؤهّلةً لأن تنهض بمطلب التفعيل المنشود، بل غالباً ما نُظر إلى تلك الأدوات على أنها جزءٌ من المشكلة وليست مفتاحاً للحلّ. ولذا؛ انطلقت الانتفاضة المجتمعيّة والسياسيّة، في صفوف ذلك الجيل، بكل صخبها ونزعتها الصادمة للوعي واستفزازها المتعمّد للتقاليد الراسخة، لتدفع باتجاه التغيير ـ بغض النظر عن مدى تحقّقه ـ، ضمن المعادلة التي تقوم على التجاذب بين القوى الساعية للتغيير والقوى المعيقة له. والواقع أنّ ذلك المنعطف قد ترك بصماته التي لا تخطئها العين على المشهد السياسيّ والمجتمعيّ في أوروبا والغرب، بل والعالم أيضاً. وما يلفت الانتباه في هذا الصدد؛ أنّ أدوات متجدِّدة للفعل المجتمعي والسياسي أخذت بالظهور تباعاً، من رحم تلك التحوّلات وما واكبها أو أعقبها، من قبيل بروز تجارب “المعارَضة خارج البرلمان”، أو نموذج “المبادرات الشعبية” أو “مبادرات المواطنين” مثلاً[13]، في ما أخذ قطاع المنظمات غير الحكومية ينتزع اعترافاً متزايداً بدوره وإسهاماته، ويثير بعض التحفّظات أحياناً.

وغالباً ما تَكتسب أدوات التفعيل غير التقليديّة أهميّةً إضافيّةً في البيئات التي تُعاني من جمود سياسيّ مزمن، ومن انسداد آفاق الحوار المجتمعيّ والسياسيّ، ومن منطق مركزيّ في الحكم والإدارة والتسيير، ومن الافتقار إلى تقاليد التغيير التدريجي واستحقاقاته التي تتطلّب الصبر[14]. ومن هنا؛ يمكن إلى حدّ ما فهم جانب من “النموذج الفرنسيّ” الذي يمثِّل فيه الشارع الصاخب “لاعباً أساسياً” أحياناً في التغيير السياسيّ؛ كلّما بدت لبعض قطاعات الجمهور حاجةٌ فعليّةٌ إلى ذلك. وهناك من باحثي العلوم السياسية من يرى أنّ “الإضرابات لأهداف سياسية، وكذلك رفض دفع الضرائب، وتزوير الكشوف لتخفيض الضرائب؛ (…) أسلوب من أساليب الحياة في فرنسا. وأكثر من ذلك؛ يقوم الفلاحون بسدّ الطرق بواسطة جرّاراتهم أو بضائعهم وحيواناتهم، وكذلك يقومون باحتلال المباني العامة أو تخريبها”[15]. ولعلّ مركزية الحكم، ومنطق النظام الجمهوريّ الفرنسيّ الذي يبدو وكأنّ الأفراد فيه “مكشوفون” أمام الدولة، لم يُوَلِّد الكثيرَ من الخيارات البديلة التي يرى بعض الجمهور جدواها. يعني ذلك أنّ الانسدادَ السياسيَّ من جانب، واستشعارَ عجزِ قطاعاتٍ من الجمهور عن المشاركة السياسيّة الفعليّة من جانبٍ آخر؛ قد يعزِّزان من النظرة إلى الخيارات البديلة، كتحريك الشارع أو الفعاليات التنديديّة أو الإضرابات، على أنها خياراتٌ أكثر جدوى. والمُقلق هنا على نحو خاص؛ أنّ إمكانية الانزلاق إلى مسارات العنف المجتمعيّ والسياسيّ تبدو أيسر في ظلّ هذه الملابسات.

مسلمو أوروبا وأهمية استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية

يعني ما سبق أنّ تنويع خيارات الفعل المجتمعي والسياسي وأدواته مطلبٌ هام، وأنه لا مناص من استفادة المشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي لأوروبا من مجمل خيارات الفعل وأدوات التأثير، ضمن الضوابط القانونيّة والشرعيّة والأخلاقيّة، ومن خلال الموازنات الدقيقة، والتقدير الحصيف للمصالح والمفاسد. وبالمقابل؛ فإنّ التعويل على خيارات بعينها دون مجمل ما يتطلّبه التدافعُ المدنيُّ الرشيد؛ قد يُفَوِّتُ الكثير من المصالح، بل وغالباً ما يُغري بتجاوزات عدّة على حساب مسلمي أوروبا لا تتوفّر الحصانة منها دوماً، حتى في بيئة مسيّجة بمواثيق حقوقية (تشوبها بعض الثغرات) والتزامات أدبية (غير دقيقة أحياناً).

ويلحق بذلك؛ التحذير من خطورة الاستئناس بالتصرّف بمعزل عن النسيج المجتمعي، بمعنى أن تظهر الأقليّات معزولة عن “مجتمع الأغلبية”، ومكشوفة أمام معادلة كثيراً ما تبدو غير متكافئة. ولا جدال في أنّ أيّ فعل مجتمعي أو سياسي قائم على منطق العزلة أو حتى إرادة الانعزال؛ إنما يتناقض مع روحيّة فعل “المشاركة” مجتمعيّاً أو سياسيّاً. ومن هنا؛ فإنّه لا مناص من السعي للانتشار في شتى قطاعات الفعل المجتمعي الرشيد، وبناء التحالفات والشراكات، وتوثيق أواصر التعاون والتنسيق؛ مع الأطراف الفاعلة في البيئة المجتمعيّة والسياسيّة، بناءً على مخزون القواسم المشتركة، واسترشاداً بالتوجيهات الإسلامية في هذا الشأن، وأخذاً بعين الاعتبار مجمل المعايير والضوابط ذات الصِّلة.

وإنّ العُرَى المتشابكة بين مجمل المشاركة المجتمعيّة، والمشاركة السياسيّة؛ لتتّضح أيضاً من خلال أهمِّيّة المشاركة المجتمعيّة في إحداثِ التغيير اللازم أحياناً في واقع المشاركة السياسيّة. فإذا ما أمكن التسليمُ بأنّ المشاركةَ السياسيّة ينبغي أن تسير في الأساس طبقاً ﻟ “قواعد اللعبة”، فإنّ الاختلالات التي يُحتمل العثور عليها على صعيد الممارسة بمفعول تلك “القواعد” المعمول بها؛ قد تقتضي إضفاء تعديلات على “قواعد اللعبة” ذاتها، وهو ما يقتضي إلى جانب التعاطي مع التقاليد السياسية وإفرازاتها؛ استثمار دور المشاركة المجتمعية لتحقيق التغيير المطلوب في المجال السياسي. من ذلك مثلاً؛ مطلب تمكين “الأجانب” من حق المشاركة في الانتخابات المحلية، سواء كمشاركة سلبية (تصويتاً وحسب) أم إيجابية (ترشحاً وتصويتاً). فإن كانت البيئة التشريعية تحظر ذلك، وأحجم النظام السياسي عن إتاحة الفرصة لهذه الخطوة؛ فإنّ الأمر قد يتطلّب، ضمن خيارات عدّة؛ فعلاً مُرَكّزاً في مستوى المشاركة المجتمعيّة، بما قد يتصل مثلاً بالتوعية العامة بمقتضيات الحقوق السياسية والمجتمعية وما يترتب عليها من التزامات.

من هنا؛ ينبغي التعامل الواعي مع مفهوم “العمل في نطاق القانون”، أو “احترام القوانين”، أو ما في حكم ذلك من تعبيرات. فهذا يبقى مطلباً، والتزاماً هامّاً ينبغي أن يتقيّد به مسلمو أوروبا، دون أن يُفهَم منه إخراجُ الفعلِ المجتمعيّ والسياسيّ لمسلمي أوروبا، ولشركائهم وحلفائهم، من ساحة الفعل والتأثير اللازمة للتطوير المستمرّ للمنظومة القانونية، عبر معالجة أية اختلالات أو ثغرات ذات صِلَة، وهو ما عناه الأستاذ عبد الله بن منصور، أحد قياديِّي “اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا” (l’UOIF)، في تعقيبه المباشر على خطاب ألقاه وزير الداخلية الفرنسي نيقولا صاركوزي سنة 2003. فبعد أن خاطب الوزير جماهير المسلمين في مؤتمر الاتحاد العشرين[16] بقوله “لا أجاملكم على حساب قوانين فرنسا”؛ علّق القيادي المسلم مباشرة بالقول إنّ “المسلمين حقاً يحترمون القوانين، ولن نسكت حتى تغيير كل قانون غير عادل مثل قانون خلع الحجاب (في صور بطاقات الهوية) وسوف نجتهد لتغيير هذا القانون غير العادل وفق الطرق القانونية المشروعة أيضاً”.

ولكنّ الرئيس الفرنسي جاك شيراك لديه رؤية أخرى، إذ يقول في خطاب رسمي “لا يمكننا أن نسمح بأن تصبح قوانين الجمهورية موضع اعتراض وجدل تحت ستار الحرية الدينية”[17].

لا ريب بالتالي أنّ استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية؛ هو خيار لا غنى عنه لمسلمي أوروبا على نحو أخصّ. ذلك أنّ فُرَصَ التحرّك السياسي وحدودَه كثيراً ما تبقى مُرتَهَنةً على نحو عام لواقع المشاركة المجتمعيّة ومواصفاتها، بما يكاد يُوحي أنّ المشاركة السياسية قد تأتي انعكاساً لحالة الاصطفاف المجتمعي القائمة. ورغم صعوبة التسليم بتقدير كهذا كقانون عام؛ إلاّ أنه ينطوي على قدر من الصحة والدلالة الجزئية في أحوال عدّة، على الأقلّ.

ويترتّب على ذلك؛ الالتفاتُ إلى أنّ للتحرّك السياسي حدوداً تستمدّ تفسيرَها من واقع الساحة المجتمعيّة، وأنه بموجب ذلك؛ يكون من غير المتوقع أن يجد مسلمو أوروبا في المشاركة السياسية، على نحو حصريّ، وصفةً ناجعةً للنهوض الشامل بواقعهم. فخياراتُ النهوض الجادّة؛ إنما تتأتي، ضمن مداخل عدّة، عبر مسارات المشاركة المجتمعيّة ككلّ، بما في ذلك مسارات المشاركة السياسيّة، المباشرة منها وغير المباشرة.

لقد كان ممن أدرك ذلك من أصحاب التجارب الحديثة في العالم الغربيّ؛ “الليبراليون”، أو “الليبراليون الجدد”. فهؤلاء الذين مكّنوا لرؤاهم الاقتصادية في عالم السياسة مع نهاية سبعينيات القرن العشرين[18]، في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا؛ قد مهّدوا لذلك بعمل دؤوب استغرق ثلاثة عقود ونصف العقد ضمن ميادين التوجيه الفكري والإعلامي، فأسّسوا المعاهد، واستقطبوا الأكاديميين والمثّقفين والكاتبين، وتوجّهوا عبر وسائل الإعلام أيضاً إلى التأثير على الثقافة العامة في البلدين، إلى حدّ الحرص على ترويج رؤاهم عبر مجلة “ريدرز دايجست”  (Reader’s Digest) واسعة الانتشار. وكان تقدير روّادِهم أنّ “مصير المجتمع يتغيّر فقط بتغيّر الأفكار، فيجب أولاً أن تصل إلى المثقفين والمعلِّمين والكاتبين بالحجّة الساطعة، ثم يطغى تأثير نخبة الروّاد المثقفين على المجتمع، ومن ثم يتبعهم السياسيون”، ولذا فقد بلغ بهم الأمر أن أحجموا عن الانخراط في الساحة السياسيّة إلى أن تمكّنوا من تقلّد مواقع التوجيه للمستوى السياسي[19].

ولا ينبغي أن تنصرف الأذهان إلى أنّ التأثير لا يكون إلاّ عبر منابر الفكر والتوجيه الثقافيّ والتواصل الإعلاميّ وحدها، فهناك مجالاتٌ أخرى لا ينبغي إغفالها أيضاً، ضمن مجمل ساحة العمل المجتمعيّ العريضة. ولكنّ “تهيئةَ أذْهانِ” النُّخَب (الصفوة) وعموم الجمهور، والسياسيِّين بالتالي؛ تبقى مطلباً لا غنى عنه لإحداث تأثيرات، أو حتى تغييرات ما، في بعض جوانب الساحة السياسية، وهي عبرةٌ ينبغي على مسلمي أوروبا أن يُدرِكوها أيضاً.

بالمقابل؛ فإنّ هناك أطرافاً انخرطت في الساحة السياسيّة بكلِّ قواها، وأغفلت أهميّة التواصل مع النخب والجمهور، وتجاهلت ضرورةَ تعزيز حضورها في الساحة المجتمعيّة العامّة، أو أهميّة كسب تفهّم قطاعات النخب والجمهور أو تأييدها، وهو ما أدّى إلى انحسار تجربتها السياسية على نحوٍ بيِّن، كما جرى مثلاً في تجربة جمعية الفابيين في إنجلترا (The Fabian Society)، عندما تفرّغوا لمناصب الحكومة بعد فوز حزب العمال في الانتخابات العامة البريطانية سنة 1945، وتركوا ساحة التواصل المجتمعيّ العريضة، وهو ما جعل انتصارهم مؤقتاً[20].

ويتّضح الارتباط الوثيق، متعدِّدُ الأوجُهِ، بين المشاركة السياسيّة الأخصّ، والمشاركة المجتمعية الأعمّ، أكثر فأكثر؛ من خلال الولوج المألوف إلى العمل السياسيّ من بوابات الفعل المجتمعيّ، سواء في ما يتعلّق بالأفراد أو حتى الأُطُر. فأولئك الطامحون إلى مراكمة التأييد الجماهيري وحصد الأصوات عادة ما يُدرِكون أكثر من غيرهم مفعولَ الحضور في المجتمع والنشاط فيه، وتقديم الخدمات، والتفاعل مع بعض مسارات الفعل العام فيه. وأما تشكيلُ القوائم الانتخابية من خارج الأطر الحزبية التقليدية، أو حتى إقامة تجمّعات حزبيّة جديدة؛ فغالباً ما يأتي ثمرة اندماج مجموعاتٍ، أو أفراد متفرِّقين، بعد خبراتٍ من العمل المشترك في ما بينهم. وفي واقع مسلمي أوروبا؛ تبدو واضحة الحالات التي أتاحت فيها ضروبُ المشاركةِ المجتمعيّة الفاعلة؛ الانتقالَ إلى الساحة السياسيّة المباشرة، بل لعلّها تكون الأصل والحالة الغالبة بلا منازع. بالمقابل؛ فإنّ “اعتزال السياسة” كما يسميه بعضُهم، وعلى فرضيّة إمكان ذلك حقاً؛ غالباً ما يكونُ لحساب الانشغال بالنشاط المجتمعيّ العام، بما يعنيه ذلك في حالاتٍ كثيرة مجرّد الانتقال من خانة المشاركة السياسيّة المباشرة، إلى نظيرتها غير المباشرة.

من جانب آخر؛ فإنّ الترابط بين المشاركة السياسية المباشرة والمشاركة غير المباشرة، هو ترابط واضح، ولا يجوز تجاهله. إذ لا يمكن للمرء أن يَغُضّ الطرف عن وشائج الصلة التي تربط ساحة المشاركة السياسية المباشرة عن تلك ذات الصفة غير المباشرة. وقد تؤدي التطوّرات التي قد تطرأ على مركز الساحة السياسية إلى انعكاسات ارتدادية في أطراف تلك الساحة. فعندما يتمكّن طرفٌ سياسيّ ما من إحراز تقدّم انتخابيّ يؤهله لقيادة الحكومة بأغلبية مريحة؛ فإنّ القوى المنافسة له قد تجد ضالّتها في التعبئة السياسيّة من خلال الجماهير بوسائل بديلة، من قبيل تنظيم المظاهرات أو الفعاليات التنديدية بسياسات أو إجراءات ومواقف محدّدة. وغالباً ما يتم توظيف مواقع التأثير المتاحة من خلال جماعات المصالح والقوى النقابية مثلاً لإنجاز تلك التعبئة. وهكذا مثلاً؛ أدى صعود ائتلاف يمين الوسط الذي جمع “حزب الشعب” (ÖVP) و”حزب الحرية” (FPÖ) بعد الانتخابات البرلمانية النمساوية، التي جرت في تشرين الأول (أكتوبر) 1999، إلى موجة تحرّكات جماهيرية كبرى نظّمتها قوى ناشطة في المجتمع المدني وبتشجيع من الأحزاب المعارضة لذلك الائتلاف بدءاًَ من الشهر التالي للانتخابات. كما أنّ فوز ائتلاف يمين الوسط الذي يقوده سيلفيو برلسكوني، زعيم حزب “فورتسا إيطاليا” (Forza Italia)، في انتخابات أيار (مايو) 2001، على منافسه ائتلاف “شجرة الزيتون” المعبِّر عن يسار الوسط؛ قد جاء إيذاناً بتنظيم سلسلة من التحرّكات الجماهيرية في الشارع الإيطالي لمناهضة سياسة الحكومة. وقد كان لافتاً للانتباه أيضاً أنّ هذه التحرّكات قد جرت كذلك تحت لافتة التحذير من العولمة الاقتصادية، كما في الفعاليات الكبرى في مدينة جنوى الإيطالية في تموز (يوليو) 2001 (التي لم تتم في الأصل بتنظيم من اليسار السياسي والمعارضة البرلمانية وإنما من مجموعات في المجتمع المدني الإيطالي وتشكيلات مستقلة نسبياً وممن يوصَفون ﺑ “المناضلين القاعديين”[21])، ولاحقاً في أواسط 2002 من خلال إضرابات القوى النقابية وفعالياتها الحاشدة، مثل نقابات معامل الحديد والصلب ونقابات المعلِّمين ومعهم التلاميذ، وكذلك من خلال التحركات التي قادها من يوصفون بالأجانب والمؤيدون لحقوقهم ضد “قانون بوسي ـ فيني”[22]، وفي ما بعد أواخر 2002 وأوائل 2003 لمعارضة الحرب على العراق التي شاركت فيها حكومة برلسكوني حليفة للولايات المتحدة.

وبصفة عامة؛ يُستَنتَج أنّ الأطراف السياسية والمجتمعية تحاول في العادة توظيفَ أقصى قدر متاح لها من فرص المشاركة السياسيّة، وأنّ خسارتها، أو خسارة حلفائها، للانتخابات العامة مثلاً؛ قد يدفعها إلى تفعيل الخيارات الرديفة من التأثير وممارسة الضغوط على مركز الساحة السياسية، وهو ما يمكن العثور على شواهدَ متضافرةٍ بشأنه في عموم البلدان الأوروبية. ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ ما يجري هو مجرد انعكاسٍ لسعيِ القوى السياسية التي تخسر جولةً ما إلى ممارسة التأثير بطرق “التفافية”؛ بل إنّ الأمر قد يكون مؤشراً على حالة من إعادة التبلور وتجديد الحضور في القواعد الجماهيرية المؤيدة لطرف خسر جولة انتخابية مثلاً، بما قد يؤذن مثلاً بتشكيل أطراف سياسية جديدة في الساحة تأسيساً على الخبرات المتراكمة. وفي كلِّ الأحوال؛ فإنّ الأمر قد يؤشِّر إلى تصاعد التذمّر في أوساط شعبية بعينها من توجّهات الحكومة وسياساتها وأدائها.

مؤشرات للتعرف على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا:

هل بالإمكان قياس المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أو حتى لأية فئة مجتمعية أخرى؟ ربما يكون من الصعوبة بمكان قياس تلك المشاركة بدقّة، إلاّ أنه بالوسع تشكيل تقديرات عامة بشأن منسوب تلك المشاركة وتكوين انطباعات مبدئية عنها.

وتقترح هذه الدراسة تتبع ملامح المشاركة السياسية من خلال ثلاثة مستويات مترابطة، تنتقل من الأخص فالأعم، وذلك من مستوى المشاركة السياسية المباشرة[23]، فمستوى المشاركة السياسية العامة، ثم مستوى المشاركة المجتمعية ككل. ويمكن لبعض المؤشرات ضمن كل مستوى أن تمنح انطباعاً واقعياً عن حالة المشاركة، وذلك على النحو التالي مثلاً:

أولاً/ مستوى المشاركة السياسية المباشرة:

ويتمثل هذا المستوى، بالمشاركة في الفعل السياسي الصرف، كالجولات الانتخابية مثلاً. وهنا يمكن قياس مدى مشاركة المسلمين فيها من واقع البيانات العددية، تصويتاً، وترشيحاً، وفوزاً أو خسارة. وعادة ما يمكن التعرّف على المعطيات المتعلِّقة بهذا المستوى من المشاركة السياسية بصورة أدقّ نسبياً من غيرها، بل والتعبير عن ذلك جزئياً بمؤشرات عددية. إلاّ أنّ تلك المؤشرات وحدها لا تمتلك في العادة قُدرةً توضيحيةً وتفسيريّةً كافية لواقع المشاركة السياسية وملابساتها، كما لا تعكس في الغالب جملة من التفاصيل والتباينات التي ينبغي إدراكها. فهل يمكن حقاً التعبير عن حجم المشاركة المباشرة للمسلمين في الحياة السياسية من خلال عدد المقاعد البرلمانية أو البلدية أو الحقائب الحكومية والتنفيذية مثلاً التي يشغلها مسلمون؟ إنّ ذلك ينبني على الافتراض الواهي بأنّ كل مسلم يشغل موقعاً في الحياة السياسية يُعدّ معبِّراً عن مشاركة سياسية للمسلمين فيها، وهو ما لا يمكن التسليم به على إطلاقه. كما أنّ ذلك المنطق يستبعد الشركاء والحلفاء المحتَمَلين للمسلمين في الساحة السياسية، والذين يتجاوز دورُهم أحياناً من ناحية الحجم والجدوى والأهمية ما يتحقّق عبر حضور مسلمين في تلك الساحة.

إلاّ أنه لا مناص من رصد مؤشرات المشاركة السياسية المباشرة للمسلمين وأخذها بعين الاعتبار، مع استجماع المستلزمات ذات العلاقة أيضاً، بما يتيح قدرةً أكبر على تكوين تقديرات وتشكيل انطباعات تتحرّى الدقّة، ضمن مسعى قياس المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا.

ومن بين المؤشرات المتعلقة بالمشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا؛ ما يتمثل في ما يلي:

1/ حجم حضور المسلمين في الهيئات التشريعية، أي على مقاعد المجالس النيابية (البرلمانات)، سواء على المستوى المحلي (كالبلديات والمقاطعات ومجالس الأحياء)، أو القُطري (برلمانات الدول)، أو الأوروبي (البرلمان الأوروبي).

2/ حجم حضور المسلمين في الأجهزة الحكومية والتنفيذية، بدءاً من الحكومة والأجهزة الوزارية على المستوى القُطري، أو بالأجهزة التنفيذية على المستوى المحلي (البلديات والمقاطعات)، فضلاً عن المستوى التنفيذي الأوروبي (المفوضية الأوروبية والأجهزة المتفرعة عنها). ويُلحَقُ بذلك أيضاً مدى حضور المسلمين في المواقع المتعلِّقة بالأجهزة التنفيذية والوكالات العامة، وأيضاً على مستوى السلك الدبلوماسيّ (CD) الخارجيّ للدول، وفي سياق تمثيلها في المنظمات الدولية والإقليمية.

3/ مدى انخراط المسلمين في الحياة الحزبية، عبر التسجيل في الأحزاب السياسية، ومدى تبوّؤهم مواقع في مستوياتها القيادية ودوائر صنع القرار خاصتها.

4/ الاتجاهات التي يتّخذها السلوك التصويتيّ لمسلمي أوروبا في الجولات الانتخابية في شتى مستوياتها ونطاقاتها، من قبيل نسبة المقترعين من إجمالي من يحقّ لهم التصويت منهم، ونسبة من يُحجِمون عن الإدلاء بأصواتهم، وكذلك خياراتهم الانتخابية المفضّلة (كالأحزاب والمرشّحين) والتحوّلات التي تطرأ عليها من جولة إلى أخرى، وما إلى ذلك.

5/ حجم مشاركة المسلمين في التحرّكات السياسية الأهم في البلدان الأوروبية، كالفعاليات الجماهيرية (المظاهرات، المسيرات، الاعتصامات، وغير ذلك) ذات الطابع السياسي المباشر، والحملات السياسية الشعبية، والتوقيع على العرائض التي يرفعها الجمهور، والمشاركة في الاستفتاءات، وما إلى ذلك.

6/ نسبة المسلمين الذين يكسبون أرزاقهم من خلال وظائف ومهن وأعمال ترتبط بالشأن السياسي ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر (موظفون في هيئات سياسية أو حزبية أو أجهزة تنفيذية سياسية الطابع، أكاديميون وأساتذة جامعيون في العلوم السياسية، باحثون ومحلِّلون في الشأن السياسي، خبراء واستشاريون في مراكز مختصة بالمتعلقات السياسية، عاملون أو معلِّقون في مؤسسات إعلامية مختصة بالمتابعات السياسية، وغير ذلك).

ومن المؤكّد أنّ التمكّن من قياس مؤشِّرات الصعود والهبوط، عبر مراحل زمنيّة عدّة، لمجمل هذه المؤشِّرات؛ من شأنه أن يرسم صورةً تقريبيّةً لا غنى عنها لواقع المشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا، ولما يمكن أن يطرأ عليها من تطوّرات أو تحوّلات.

ولكن؛ لابدّ هنا من ملاحظة أنّ قياس مؤشرات النموّ أو التراجع في واقع مسلمي أوروبا على صعيد هذه الجوانب؛ لا ينبغي أن يتم بمعزل عن ملاحظة المؤشِّرات العامة المرصودة في الواقع الأوروبي بعامة، وذلك لإدراك مدى تساوق هذه المؤشِّرات مع الاتجاهات الملموسة في السياق المجتمعي العام. فتسجيل نموّ في جانب بعينه في هذا الحقل قد يبدو، بنظرة مجرّدة، تقدّماً بالنسبة لمسلمي أوروبا، إلاّ أنه بنظرة نسبيّة إلى ما يتحقّق في السياق المجتمعي العام قد يوحي بقصور عن المواكبة من جانب أو بتقدّم استثنائيّ من جانب آخر، بحسب المؤشرات المرصودة في الساحة المجتمعية العامة.

كما أنّ هذه المؤشِّرات ينبغي أن تُرصَد مع استصحاب ملاحظة المشاركة السياسية العامة والمشاركة المجتمعية ككلّ.

ثانياً/ مستوى المشاركة السياسية العامة (المباشرة وغير المباشرة):

إنّ المشاركة السياسية العامة تشمل المشاركة المباشرة، وتلك غير المباشرة. أيّ أنها تبدو بمثابة نطاق أعم يشمل المشاركة المباشرة، ويستوعب أيضاً صور المشاركة التي تتواصل مع الساحة السياسية وتفاعلاتها دون أن تعدّ من صميم الفعل السياسي. وقد يصعب في واقع الأمر وضع حدود فاصلة بين الجانبين، المباشر وغير المباشر، وهو ما يؤكد بحدِّ ذاته مدى الترابط والتعاضد بينهما.

وتتمثل المؤشِّرات المتعلقة بالمشاركة السياسية العامة لمسلمي أوروبا في ما يلي، على سبيل المثال لا الحصر:

1/ مجمل المؤشرات المتعلِّقة بالمشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا، حسب ما تقدّم توضيحه.

2/ مدى توفّر قَنواتٍ وآلياتٍ للتواصل بين المسلمين من جانب؛ والسياسيِّين والمسؤولين من جانب آخر، ومدى فعاليّة هذه القنوات والآليات.

3/ الإدلاء بالمواقف والبيانات والتصريحات في ما يتعلّق بالشأن السياسي العام وتفاصيله، وحضور آراء المسلمين في الشواغل العامة للمجتمعات الأوروبية. فمثلاً؛ يمكن لبرامج الحوار التلفزيونية بشأن المستجدات السياسية أن تمثل أحد النماذج على ذلك، كما يمكن للندوات النقاشية حول الشأن السياسي أن تندرج ضمن هذا.

4/ مدى حضور السياسيين والمسؤولين للفعاليات والنشاطات التي يقيمها المسلمون في البلدان الأوروبية، وكذلك مدى دعوة القيادات المجتمعية المسلمة المحلية لحضور المناسبات واللقاءات العامة في البلدان الأوروبية، ودرجة اهتمام “البروتوكول” الرسمي بهذا الجانب.

5/ طبيعة المشاركة في النشاطات المجتمعية ذات الصفة السياسية ومنسوبها، وتدخل في ذلك المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وتحرير العرائض، وغير ذلك من الصُّوَر.

6/ المشاركة في العمل النقابيّ بشتى مسالكه وصوره، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعض أوجه العمل النقابي تتّخذ صفة المشاركة السياسية المباشرة.

7/ مدى توفّر أسبقيّات على تأثير، أو مشاركة في تأثير، من جانب المسلمين على صناعة القرار التشريعي أو التنفيذي، بما أدى إلى نتائج ملموسة مثلاً.

ثالثاً/ مستوى المشاركة المجتمعية:

تشمل المشاركة المجتمعية صور المشاركة في شتى مسارات الفعل المجتمعي بما في ذلك المسارات السياسية، أي أنّ المشاركة السياسية (مباشرة وغير مباشرة) تندرج في هذا النطاق، دون تجاهل خصوصيّة الخاص وعموميّة العام.

وتتمثّل المؤشرات المتعلقة بالمشاركة المجتمعية لمسلمي أوروبا، في ما يلي أساساً:

1/ مجمل المؤشرات المتعلقة بالمشاركة السياسية العامة لمسلمي أوروبا، حسب ما تقدم توضيحه.

2/ مدى وجود بيئة مؤسسية وأجهزة تخصصية تلبِّي مطلب رعاية خصوصيّات الوجود المسلم في البلدان الأوروبية في شتى المجالات، دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وتعليمياً، وإعلامياً، واقتصادياً، وإنمائياً، وغير ذلك.

3/ الحضور في أطر العمل الأهلي أو المدني، والتفاعل معها، وهو ما يشمل المنظمات غير الحكومية (NGOs) والتجمعات واللجان والمبادرات الشعبية، وغير ذلك.

4/ الحضور في الساحة الإعلامية، عبر المشاركة في الحلقات التلفزيونية مثلاً، أو الكتابة في زوايا الرأي بالصحف، وكذلك عبر وجود معلِّقين صحافيين مسلمين وكاتبي أعمدة صحافية، وحضور المسلمين في الجسم الصحافي، وأيضاً في السوق الإعلامي من خلال حصصهم من ملكية وسائل الإعلام وإدارتها، وغير ذلك.

5/ الإسهام في الحياة العلمية، عبر مدى حضور المسلمين في المؤسسات العلمية والبحثية للبلاد الأوروبية، وإسهامهم في وضع الكتب العلمية وتأليف البحوث والدراسات، ومشاركة المسلمين في المؤتمرات والندوات العلمية والتخصصية بالحضور أو التقديم أو التنظيم، وما إلى ذلك.

6/ الإسهام في الحياة الثقافية، كتأليف الكتب ونشرها، وتنظيم الفعاليات الثقافية كالمؤتمرات والندوات والمعارض، ومشاركتهم في الحياة الفنية، وغير ذلك. ويلحق بذلك؛ الإسهامُ في جهود الحوار الدينيّ، والتواصل بين الثقافات، وتشكيل المنتديات الجامعة أو التفاعل معها.

7/ الإسهام في الحياة الاقتصادية وإنعاش الرفاه، كتوزّع المسلمين ضمن مجمل القوى العاملة وشرائح العمل، ومؤشرات البطالة، وكذلك مدى توفر حلول للإشكاليات المرتبطة بالجانب الاقتصادي للوجود المسلم، كالصيرفة الإسلامية (Islamic Banking)، ومؤسسات التمويل الإسلامية، ومؤسسات التأمين الإسلامي أو التعاوني، علاوة على مدى نضوج التجربة الوقفية للمسلمين، وغير ذلك.

8/ الإسهام في الجهود الإنسانيّة والخيريّة في شتى المستويات، داخلياً وخارجياً، وذلك بالنظر إلى مدى وجود أُطر تعبِّر عن إسهام المسلمين في هذا الحقل كليّاً أو بالشراكة مع غيرهم، ومن خلال ملاحظة حجم إنفاق مسلمي أوروبا الخيري، وأيضاً حجم الموارد البشرية المسلمة المنخرطة في هذا الحقل توظيفاً أو تطوّعاً.

9/ الفعالية المدنيّة للجمهور المسلم، أي مدى قابلية المسلمين واستعدادهم للتعبير عن رؤاهم وتطلعاهم والذود عن مصالحهم وحماية حقوقهم ومكتسباتهم بطريقة مدنية ومتماشية بوعي مع خصوصيات البيئة ومسالكها، وقيامهم بذلك بصفة فاعلة ومؤثِّرة كلما لزم الأمر. ويمكن القول إنّ أحد الملامح الأساسية لهذه الفعالية المدنية؛ يتمثّل في القدرة على الانتقال من نطاق المشاعر إلى مُرتَقى المواقف العملية الواعية والمؤثِّرة، وبصورة تعمّق حاسة المبادرة الرشيدة في صفوف المسلمين. ويتخذ ذلك صوراً شتى، منها مثلاً تشكيل جبهات التحالف مع قوى مجتمعيّة حول قضايا أو مسائل بعينها، والتوجّه للتواصل مع الرأي العام لكسبه في موقف محدّد، والاحتكام إلى القضاء في حالات النزاع بصورة كفؤة ومنظّمة، وغير ذلك.

ملف تمثيل المسلمين .. والطابع السياسي:

إذا ما تركّز الانتباه بشأن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا على مدى تفاعلهم مع الساحة السياسية العامّة في أوروبا؛ فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان، أنّ الفعل السياسي للمسلمين يمضي في مسارات غير مُتوقّعة بالضرورة أحياناً، من قبيل التفاعلات السياسيّة في ساحة مسلمي البلد الأوروبي الواحد، أو في ساحة مسلمي أوروبا ككلّ.

ورغم أنّ ذلك ليس ملموساً في عديد البلدان الأوروبية، إلاّ أنّه يتجسّد حقيقةً قائمة في بعضها بالفعل، كما يبدو في صفوف الوجود المسلم التاريخيّ الذي يتركّز في شرقيّ أوروبا، وحتى في بلدان أوروبا الغربية، كما في الحالة الفرنسية مثلاً. ففي فرنسا، التي تضمّ أكبر عددٍ من المسلمين من بين دول الاتحاد الأوروبي؛ شهد ملف تمثيل المسلمين تجاذباً لسنوات طويلة، ثمّ برز ذلك بقوّة مع إطلاق وزير الداخلية الفرنسي السابق جان بيار شوفنمان لما سُمِّي ﺑ “الاستشارة” في عام 1999، وُصولاً إلى تشكيل “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية” (CFCM) في الأيام الأخيرة من عام 2002، والذي بدا في حينه بمثابة حدث كبير سبقته مخاضاتٌ عسيرة، كانت وثيقة الصلة بتطوّرات الحالة السياسية الفرنسية وأنماط معالجتها للشأن الإسلامي. ومن اللافت للانتباه أنّ ملف تمثيل المسلمين برز، ولأسباب مفهومة، في مقدمة الاهتمامات ذات الملمح السياسيّ التي أبدتها أطراف الساحة المسلمة في فرنسا، وربما متقدِّماً بمراحل عن الاهتمامات السياسية الأخرى كالتفاعل مع الأحزاب السياسية أو جولات الانتخابات التي تجري في البلاد مثلاً.

وبهذا يمكن استنتاج أنّ تمثيل المسلمين، وما في حكمه، هو ملف لا يفتقر أحياناً إلى طابع سياسيّ، بل قد يطغي عليه هذا الطابع بالنظر إلى ظروف ذاتيّة وموضوعيّة أو ملابسات ظرفية عدة، كما يبدو بوضوح في الحالة الفرنسيّة. وكونه ملفاً سياسيّ الطابع، بقَدْرٍ أو بآخر؛ فإنّ تسْييسَه يتأتى من خلال العلاقة مع المستوى الرسميّ (الحكومي والقانوني)، ومدى تأثيراته أو تدخلاّته المُعلنَة أو الضمنيّة، من جانب، وعبر التوزّعات الداخليّة والتوازنات البينيّة ضمن صفوف الوجود المسلم المحلِّي، من جانب آخر. وقد جاء انتخاب الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا للمرة الأولى في العام 1999 دلالةً قوية على ذلك، خاصة مع فتح مراكز للاقتراع واستقبال الناخبين بطرق نظاميّة وبصورة تشبه الجولات الانتخابيّة البرلمانية والمحليّة والنقابيّة التي تجري في البلاد.

وما يزيد من طابع المنافسة السياسيّة ضمن هذا الملف أحياناً؛ تلك الأهميّة التي توليها بعض الدول الإسلامية لملف تمثيل المسلمين في أوروبا، بالنظر إلى منطق “الرعايا المغتربين” كما يمكن أن يُلاحَظ في خطاب الحكومات التركيّة، والمغربيّة، والجزائريّة، والباكستانيّة، مثلاً لأولئك “المهاجرين” الذين كثيراً ما تعتبرهم مجرّد رعايا لها في أوروبا، وإن كانت هذه النظرةُ الرسمية تشهد تحوّلات أيضاً.

ولا بدّ من ملاحظة الدلالات المتباينة لمفهوم تمثيل المسلمين، بين التمثيل المجتمعيّ والسياسي من جانب، ونظيره الذي يُقصَد منه الإشرافُ على تسيير الشأنِ الدينيّ العام للوجود المسلم. وعادة ما يحصُل اجتماعُ النموذجيْنِ في إطارٍ واحد، أو افتراقُهما على أكثر من إطار. وقد يغيب أحدُهما أو كلاهما من بيئةٍ أوروبيّة إلى أخرى. كما يُشار هنا إلى وجود تبايُنات عدّة في ملف تمثيل المسلمين في أوروبا، من دولةٍ إلى أخرى، وهي تبايناتٌ تُعزى إلى تمايزٍ في الخصائص والظروف، بما في ذلك خصوصيّة التجربة التاريخية للوجود المسلم وللبلد ذاته، وخصوصيّة النظام القانوني والسياسي، ولطبيعة العلاقة بين الدين والدولة وتأثيرات ذلك على الثقافة السياسيّة، ولأسباب أخرى مُحتَملة. وبصفة إجمالية؛ سيتضح أنّ ملف الاعتراف بكيان قانونيّ معبِّر عن الطائفة / الأقليّة المسلمة؛ هو من الملفات التي ما زالت متعثِّرة في عديد البلدان الأوروبية، والتي كثيراً ما تخضع لمحدِّداتٍ معقّدة ومتباينة بوضوح من بلدٍ أوروبي إلى آخر.

ومع الإقرار بالطابع السياسيّ لبعض الملفّات الداخلية الخاصة بمسلمي أوروبا، بغضّ النظر عن درجته، بما فيها ما يتعلّق بتسيير ما يمكن وصفه ﺑ “الشأن الدينيّ الصّرف”؛ فإنّ هذا لا ينبغي أن يُغري المحلِّلَ لذلك بالاستدراج إلى مزالق التسييس المُفتَعل والمبالَغ فيه، خاصة مع طابع التسييس الذي يطغى على بعض المعالجات الكتابيّة والتعليقات والتغطيات الإعلامية المرصودة في الساحة الأوروبية في ما يتعلّق بالشأن الإسلامي وتفاصيله. والواقع أنّ تلك المعالجات والتغطيات قلّما تتحرّر من المنظور المأزوم للملفّات المتعلقة بمسلمي أوروبا، ما يجعل زاوية الأزمة تنعكس، عادةً، على مداخل التناول ومخرجاته: كالاستنتاجات أو الانطباعات المتحققة، بالشكل الذي كثيراً ما يجافي المقاربة الموضوعية للواقع، ولا يساهم بالتالي في فهم أدقّ للمسائل موضع التناول.


 

الفصل الثّاني:

مسلمو أوروبا وصعوبات المشاركة السياسية

 

 

  • من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية لعموم الجمهور
  • من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية للأقليات
  • من الصعوبات المتعلقة بخصوصية مسلمي أوروبا
  • فرص المشاركة السياسية في أوروبا وتحدي “السقف الزجاجي”
  • الصعود إلى النخبة ومعايير الاصطفاء
  • تحفيز المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ من المسؤول؟


 

صعوبات المشاركة السياسية:

يمكن للمرء أن يقرِّر؛ أنّ المشاركة السياسية، وعلى نحو أعم المشاركة المجتمعية ككل؛ تمثِّل أبرز تجلِّيات الاندماج الإيجابي إذا ما تعلّق الأمر بالمجموعات والأقليات والطوائف. فإذا ما كان التعامل مع المجتمع المحيط وتحاشي العزلة عنه من المؤشِّرات الحاسمة في ما يتعلق باندماج الأفراد؛ فإنّ المشاركة المجتمعيّة، وضمناً المشاركة السياسية؛ إنما تُعتبر مؤشِّراً فائق الأهمية في هذا الجانب بالنسبة للمجموعات والأقلِّيّات والطوائف. بل يمكن الزعم فوق ذلك؛ أنّ المشاركة الفاعلة والإيجابية إنما تعكس أعلى درجات الاندماج.

ولا يغيب هنا عن الأذهان؛ أنّ تلك المشاركة لن تكون مؤشراً صحياً بالنسبة للأقلية أو الفئة المعنية وحسب؛ وإنما تبدو مؤهلة لأن تعكس مدى فعالية قيم التعايش الودي وتكافؤ الفرص والمنسوب الديمقراطيّ في المجتمع العريض.

ويَلْفِتُ ذلك الانتباه إلى صعوباتٍ عدّة تعترض مشاركةَ مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة، يتمثّل بعضُها في صعوباتٍ عامّة بالنسبة للسياق المجتمعيّ، وأخرى متعلِّقة بالأقلِّيّات أو من يُصَنّفون على أنهم “أجانب”، علاوة على صعوبات متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين. وتتداخل هذه الصعوبات وتتشابك، مع تفاوُتٍ نسبيّ في ذلك بين بيئةٍ أوروبية وأخرى، وهو ما يفرض، باستمرار، ملاحظةَ التباينات القائمة وأخذَها بعين الاعتبار، تحاشياً للانجرار إلى التعميم.

أولاً/ من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية لعموم الجمهور:

يُقصَد بهذه الصعوبات العامة؛ تلك الصعوبات التي يمكن لأفراد المجتمع بعامة، وللمنتمين إلى بعض قطاعاته بخاصة، أن يواجِهوها في طريق تفاعلهم مع الساحة السياسية، بغضّ النظر عن خصوصيّة الانتماء إلى أقلية ما، كالمسلمين مثلاً.

وتتمثّل هذه الصعوبات في جوانب عدة، منها تلك المرتبطة بالديمقراطيّة التمثيليّة (النيابيّة)، وما ينشأ معها من فجوات بين النواب ومن فوّضوهم (الناخبون)، وكذلك بين الحكومة والشعب. ويُعيد ذلك إلى الأذهان بعضَ الانتقادات التي وجّهتها “ثورةُ الشباب والطلاب” في أوروبا في سنة 1968، لجهة التشكيك في مدى شفافية تمثيل النواب للشعب فعلياً. وتُلاحَظ هنا بعض أوجه التفاوتُ بين النُّظُم السياسيّة في أوروبا، وضيق هذه الفجوة في بعضها، كما عليه الحال في نموذج ما يسمى ﺑ “الديمقراطية المباشرة” السويسري مثلاً.

وخلاصة القول؛ إنّ الصعوبات المرتبطة بهذه الديمقراطية التمثيلية، وبالشكل الذي يبدو واضحاً للعيان في بعض الساحات السياسيّة الأوروبية؛ تلقي بظلالها على تفاعل الجمهور مع الساحة السياسيّة، بل وقد تُنشئ أزمة ثقةٍ بين السياسيّ والناخب، وهو ما تُعبِّر عنه استطلاعات الرأي في العادة.

وفي ما يتعلّق بالمآخذ على الديمقراطيّة النيابيّة أو التمثيليّة؛ يرى الكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب خوزيه ساراماغو (José Saramago)، أنّ المواطن يتنازل عبر الديمقراطية النيابيّة عن حقه في العمل السياسي حتى حلول موعد الانتخابات التالية، وهو ما يجعله يقترح مثلاً إعادة النظر في الديمقراطية.

بل يذهب ساراماغو (وهو عضو في الحزب الشيوعي البرتغالي) إلى حد القول بأنّ “الديمقراطيّة الغربيّة المفترَضة قد دخلت في حقبة تحوّل تراجعيّ لا يمكن وقفُها، ستفضي كما هو متوقّع إلى نقيض لها. فلا حاجة أن يُقدِمَ أحدٌ على تصفيتها فهي تنتحر يومياً”[24]، وفق تقديره.

ويرى جاك تستار (Jaques Testart)، مدير الابحاث بالمؤسسة الوطنية للصحة والبحث الطبي  (Inserm) في فرنسا، أنه قد “آن الأوان لاستنباط ممارسات جديدة، خصوصاً من أجل معالجة نواقص الديمقراطية التمثيلية بأشكال أكثر تشاركية”، ويضيف “علينا الانتهاء من المفهوم السحريّ للديمقراطية الذي يدفع الى الاعتقاد بأنه في مقدور أيّ كان تكوين رأي صائب حول مسألة معقّدة دون التزوّد المسبق بالوسائل اللازمة لتكوين هذا الرأي”[25].

ويرى السياسي النمساوي كاسبار آينم، وهو وزير سابق (ديمقراطي اجتماعي)، أنه “لم يعد كافياً أن يُتاح إجراء انتخابات كل عدة سنوات، فالأمر يتعلق بإجابات ذات مضمون سياسي وبقدرات نظام الديمقراطية. ففي الدولة الجديدة التي نطوِّرها ونريد أن نطوِّرها؛ يتعلق الأمر بمصالح جوهرية، وليس بمجرد شكل ممارسة السلطة ومشروعيّتها”، معتبراً أنّ “الدولة هي التنظيم الذاتي للمواطنات والمواطنين الذي يحتاجونه من أجل الحفاظ على التعايش المشترك والقدرة على هذا التعايش بينهم جميعاً”[26].

كما أنّ هناك صعوبات مرتبطة بدور رأس المال في الحياة السياسية. فالعمل السياسي بما يتطلّبه من مقوِّمات تمويليّة، خاصة في المواسم الانتخابية، لا يتيح الفرصة المتكافئة لجميع المواطنين للارتقاء في مراتب الحياة السياسيّة، ليبقى الأمرُ مرتبطاً، بدرجة أو بأخرى، بعوامل نخبويّة ذاتيّة أو موضوعيّة. فالسياسيّ “الفقير” في الواقع الأوروبي يبقى استثناءً وحالة نادرة، حتى وإن كانت هناك قوى سياسيّة تعوِّل على إسناد “الطبقة الكادحة” من المجتمع لها.

وتتمثل هذه الإشكاليّة في الفُرَص الواقعية المتاحة لأولئك المنتمين لشرائح ذوي الدخل المحدود، للمنافسة الجادّة في الساحة السياسيّة، مقابل أولئك المستقلِّين مالياً أو من يحظَوْن بمداخيل أعلى. وترتبط هذه الإشكالية بجانب آخر؛ هو دورُ رأس المال واللاعبين الاقتصاديين في الحياة السياسية، وهو ما يبرُزُ بصورة صارخة في بعض النماذج الأوروبية، من قبيل النموذج الإيطالي المتجسِّد برئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني.

مع ذلك؛ فإنّ هناك فوارقَ ملموسة بين بلد أوروبي وآخر في هذا الجانب، كما أنّ لرأس المال دوراً محدوداً في العمل السياسي في عموم أوروبا، بالمقارنة مع ما عليه الحال في الساحة السياسية الأمريكية حيث يضطلع التمويل الشعبي من المساندين بدور هام في الصعود بالسياسيين، الأمر الذي يتيح هامشاً واسعاً لتحركات بعض جماعات المصالح وقوى الضغط.

أيضاً؛ فإنّ الجانب الماليّ في الواقع السياسي الأوروبي يبدو أقلّ أهمية في قاعدة الهرم السياسي، أي في العمل السياسي على المستويات المحليّة (البلديّة) وما دون ذلك، كالقطاعات النقابية أيضاً.

ومن بين الصعوبات الأخرى التي يمكن فرزها؛ ما يتعلّق بالخطاب السياسي الشعبوي (الغوغائي) (Populistic)، الذي يُرَكِّز على حشد المؤيدين واقتناص الأصوات من خلال تهييج العواطف والمشاعر، وأحياناً ببعث الضغائن والعداوات، كما يتّضح في حالة أقصى اليمين السياسي غالباً. وعادة ما تنتهج هذه القوى السياسية سبيلَ إثارة الهلع في صفوف الجمهور وتوظيف المخاوف المتأصِّلة في النفوس، لحصد التأييد لها، ما يتسبّب في إرباك الساحة السياسية ككل، وربما يشكِّل حالةً من “الوعي السياسيّ الزائف” (أي القناعة بخيار سياسي أو تأييده رغم أنّ المصلحة لا تكمن فيه) ولعلّ الأخطر من ذلك؛ هو ما يعمد إليه هذا الخطاب من محاولةِ شقّ صفوف المجتمع الواحد. ومن الواضح بالتالي أنّ الخطاب السياسي الشعبوي المتطرِّف يمثل إحدى الصعوبات في المشاركة السياسية، بالنظر لمحاولته استلاب وعي قطاعات من الجمهور وإطلاق العنان لغرائزه البدائية، والجنوح بها صوب جداول أعمال (Agendas) سياسية متطرِّفة.

وكما يستنتج ألكسندر دورنا (Alexandre Dorna)، الأستاذ في جامعة كان (فرنسا) ورئيس الجمعية الفرنسية لعلم النفس السياسي، ومؤلف كتاب “الشعبوية”
(Le Populisme)[27] فإنّ “انبعاث الشعبوية منذ حوالي عشرين سنة يشير إلى أزمة تجتاح الديمقراطية التمثيلية. والأزمة كونية، أي لا سابق لها، ويبدو أنّ تأثيرها النفسي تصاعديّ إعلامياً. فالاضطراب المفاجئ، وغير العنيف بالضرورة، في البنى الاجتماعية والسياسية بفعل العولمة الليبرالية؛ يترافق مع تشويش موازٍ في البنى النفسية والعادات والتخيّلات. فالكبت المتراكم يولِّد شيئاً فشيئاً خيبةَ أمل كبرى. فالقدماء لا يجدون أنفسهم في جمهورية المحدثين الحزينة والمستسلمة ولا في المجتمع “الاجتماعي ـ الليبيرالي” السلطوي والمنغلق بشكل متزايد. من هنا يكبر القلق الى درجة أنّ البديل ليس مُفرِحاً: إمّا الانفجار الثوري وإمّا الانبجاس الامتثالي. لا مفرّ عندها من تحديد الداء، ويمكن اعتبار الشعبوية بمثابة حمّى، واذا كانت الحمّى إشارةً إلى المرض؛ فهي ليست المرض في عينه”[28].

ثمّ إنّ المشاركة السياسيّة تحفّها صعوبات أخرى تترتّب على بيروقراطية الحكم والإدارة، كأن تتسبّب تلك البيروقراطية في انعكاسات سلبيّة أحياناً، في ما يتعلّق بقابليّات أفراد الجمهور على التفاعل مع الساحة السياسية. فمن جانب؛ قد يبدو للمواطنين أنّ النظام السياسي يتّسم بالتعقيد، وأنّ طبيعته أو آليات عمله غير مفهومة بالتالي. ومن جانب آخر؛ تبدو المسافة واسعة نسبيّاً بين الحاكم والمحكوم، أي قد يستشعر المواطن أنّ أبواباً مُغلقة أو مسارات بيروقراطية تحجزه عن صانع القرار، بغضّ النظر عن مدى دقة هذا الانطباع. ورغم أنّ الأمر لا يبدو في الحالة الأوروبية على هذه الشاكلة دوماً (فمثلاً؛ يُنظر إلى الحالة السويسرية تقليدياً على أنها تمثِّل نموذج “الباب المفتوح” بين السياسي والمواطن)؛ فإنّ هذه المشكلة موجودة في الواقع الأوروبي في حالات عدّة بالفعل، علاوة على أنها التصقت في وعي مواطني القارة الموحّدة بأطر الاتحاد الأوروبي على نحو خاص.

ومهما يكن من أمر؛ فإنّ من شأن العواقب السلبيّة تلك، الناجمة عن بيروقراطية الحكم والإدارة؛ أن تتسبّب في تضييق بعض مسارات تفاعل عامة المواطنين مع الساحة السياسيّة، كما يتّضح مثلاً في الإقبال الفاتر نسبيّاً في عديد البلدان الأوروبية على الاقتراع في الجولات الانتخابية للبرلمان الأوروبي.

فمثلاً؛ رغم الحملات الأوروبية والوطنيّة المكثّفة التي جرت في الأسابيع التي سبقت انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران (يونيو) 2004، لاستنهاض إرادة المواطن الأوروبي نحو الإدلاء بصوته، لتحديد من يمثله في بروكسل على المستوى التشريعي؛ هبطت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات إلى قرابة الثلث من إجمالي من يحق لهم التصويت. وقد جرى ذلك رغم ظهور رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، رومانو برودي، بشكل يومي على شاشات التلفزة في أقطار أوروبا، في إعلانات مدفوعة الأجر لحثّ مواطني الدول الأعضاء بلغاتهم الأم على التفاعل بشكل أفضل مع انتمائهم الأوروبي المشترك.

ومن الأسباب التي يُحتَمل أنها تقف وراء ذلك الإقبال الفاتر؛ أنّ مشروع التكامل الأوروبي الذي يقوم على عضويّة الدول فيه؛ يُضَيِّق مسارات التفاعل بين الشارع والمفوضية، أي “حكومة” أوروبا الموحدة. فليس من المعهود، مثلاً، أن يقوم المواطنون الأوروبيُّون بالنزول إلى الشوارع للتنديد بحكومتهم الأوروبية تلك، بينما اعتادوا أن يفعلوا ذلك على المستويات الوطنية، بما أدى أحياناً إلى الإطاحة بوزراء أو حتى إسقاط حكومات.

أما عدم حدوث التفاعل الحيوي بين المواطنين وقمّة مشروع الوحدة؛ فيمكن أن يُعزَى أيضاً إلى حواجز واقعيّة أخرى. فإذا كان المواطنُ الأوروبيّ على احتكاكٍ شبه مباشر مع المسؤولين على المستوى المحليّ والوطنيّ؛ فإنّه يرى المسافة التي تفصله عن بروكسل أو ستراسبورغ بعيدة جداً. وما يزيد في اغترابه؛ أنّهم في أروقة الوحدة لا يتحدّثون إلاّ نادراً بلغته الأم، فهي مجرد واحدة من ثلاث وعشرين لغة مُعتَمدة رسمياً على قدم المساواة[29]، بينما يعمل “جيش” من آلاف المترجمين على إنجاح هذا التواصل اللغوي المذهل.

ثم إنّ البناءَ المُتعاظم لبيروقراطية الوحدة؛ يفرض مساراتٍ معقّدة يصعب على المواطنين استيعابها، ما يورثهم حالةً من التيه واضطراب الاتجاه، وهي التي تعبِّر عن ذاتها أيضاً عبر التقلُّبات الحادّة في المؤشِّرات التصويتيّة في انتخابات البرلمان الأوروبي، بين مفاجآت جولة وأخرى. وما يفاقم الموقف؛ ما أسفرت عنه التوسعة التي جرت في أيار (مايو) 2004، وفي إثرها التوسعة اللاحقة مطلع عام 2007؛ من تعقيد زائد في الهيكليّة وتشابكٍ معقّد في الصلاحيات، لإفساح المجال أمام دول جديدة أخرى في مؤسسات الاتحاد. ومن هنا يثور التساؤل؛ عمّا إذا كان نظامُ أوروبا الموحّدة أو آليّة مشروعها مفهوميْن بالقدر الكافي في وعي مواطنيها.

وبالوسع الإشارة إلى أصناف عدّة أخرى من الصعوبات التي تعيق المشاركة السياسية لعموم الجمهور، منها مثلاً ما تواجهه المرأة في الصعود في الحياة السياسية، وهي صعوبات تبقى ملموسةً في البيئة السياسيّة الأوروبيّة، بشكل عام، خاصة مع المنسوب المتدنِّي لحضور المرأة في المواقع التشريعيّة والتنفيذيّة، بالنظر لنسبتها في المجتمع، واحتمالات أن يكون هذا الحضور شكليّاً أحياناً وبعيداً عن بعض المواقع النافذة والأكثر تأثيراً أحياناً أخرى. والثابتُ أنّ المرأة تواجه في الساحة السياسية الأوروبية “سقفاً زجاجياً” يحدّ من قدرتها على الصعود إلى المواقع المتقدِّمة.

وللتعامل مع هذه الصعوبات؛ وقائياً أحياناً، وعلاجياً أحياناً أخرى، جرى اتخاذ تدابير عدّة في مستويات متباينة، بدت فاعلة كلِّيّاً أو جزئيّاً في حالات، وأقل جدوى في حالات أخرى.

فلاحتواء الصعوبات المرتبطة بالديمقراطية التمثيليّة، جرت مثلاً، وإلى حدٍّ ما بمفعول مطالبات “جيل 1968″، خطواتٌ عدّة في عديد الساحات السياسية في اتجاه تجسير الهوة بين النخب السياسيّة وعامة الجمهور. وقد اكتسب ذلك طابعاً جدياً أحياناً وشكلياً أحياناً أخرى، إلاّ أنّ اعترافاً عاماً بهذه الإشكالية كان قد تحقّق في غضون ذلك.

وبشأن رأس المال والحياة السياسية؛ وُضِعت ضوابطُ ومعايير عدّة، واتُخِذَت تدابيرُ متفرِّقة، بهدف معالجة الإشكاليّات ذات الصلة بهذه العلاقة الحسّاسة. وبينما تحقّق بعض النجاح في حالات أو بيئات بعينها؛ فإنّ ذلك بقي محدود الأثر في حالات أو بيئات أخرى.

وفي ما يخصّ الصعوبات المتعلِّقة ببيروقراطية الحكم والإدارة؛ فإنّ التعامل معها استدعى مساعٍ لتبسيط صورة الآليات الحكومية في عيون الجمهور، واختزال المسافات بين المسؤول والمواطن، وتكثيف السياسات الإرشاديّة العامة. وقد أطلق الاتحاد الأوروبي، كمثال، تحرّكاتٍ عدة للتواصل مع مواطني القارة الموحدة وتوعيتهم بما “يدور وراء الكواليس”. ويمكن الافتراض أنّ الاعتماد المتزايد على شبكة الإنترنت في التواصل مع الجمهور يمثل فرصة في هذا الاتجاه.

وفي ما يتعلّق بالصعوبات التي تواجهها المرأة، أو حتى الشرائح الشابة، في الانخراط في الحياة السياسية والصعود في مراتبها؛ فإنّ تقاليد العمل السياسي في كثير من بلدان أوروبا باتت تشتمل على إتاحة فرص أوفر أمام النساء والشبان للولوج إلى هذا الحقل وتقلد المزيد من المواقع المتقدمة فيه. وكمثال؛ فقد جسّدت الدول الاسكندنافية حالةً متقدمة أوروبياً وعالمياً في مجال إفساح المجال للمرأة في البرلمانات والحقائب الوزارية، إلاّ أنّ منطق “الإفساح” بقي هو السائد ضمناً في حالات عدة، بكل ما قد يحمله ذلك من انطباعات سلبيّة. ورغم ازدياد نسب النساء في الساحة السياسيّة؛ فإنّ ما يسمى ﺑ “الطابع الذكوريّ” ظلّ هو المهيمن عليها، خاصة في المستويات الاستراتيجية الدقيقة والوزارات المفصلية في العمل السياسي، فضلاً عن أنّ المواقع الأولى بقيت في معظمها حكراً على الرجال غالباً.

ثانياً/ من الصعوبات التي تحكم فرص المشاركة السياسية للأقليات بشكل عام

يمكن الاستنتاج مبدئيّاً أنّ الأقليات، بشكل عام، تواجه صعوباتٍ أكثر من غيرها في ما يخصّ فرص المشاركة في الحياة السياسية. ويتأتّى ذلك من واقع الصعوبات العامة، سابقة الذكر، التي قد يواجهها عامة المواطنين في ما يتعلق بالتفاعل مع الشأن السياسي، وهي الصعوبات التي تبدو أحياناً أشدّ حدة في الكشف عن ذاتها إذا ما تعلّق الأمر بالأقليّات.

إنّ الأقلِّيّة، وكما يشي به التعبير، لا تتمتع بفرص مريحة دوماً إزاء ما يُوصف ﺑ “مجتمع الأغلبية”، فهي تتمايز عنه بهذا القدْر أو ذاك، لتنشأ مع هذا التمايز مفارقاتٌ وإشكاليّاتٌ عدّة، تبدو هيِّنة حيناً وعسيرة حيناً آخر، وذلك بحسب الأقلية المعنيّة، وتبعاً لخصوصيات مجتمع الأغلبية أيضاً، وبناء على طبيعة العلاقة المتبادلة بين الجانبين، وما شهدته في الماضي والحاضر من صعوبات أو نجاحات.

وفي حالة الأقليات المتحدرة من خلفية هجرة؛ يرصد الرئيس الفرنسي جاك شيراك واقعاً من التفرقة في بلاده فيقول “يتعيّن هدم جدار الصمت وعدم المبالاة الذي يحاصر اليوم واقع الميز والتفرقة على أنواعها. إنني مدرك لما يشعر به الشبان الفرنسيون هؤلاء، المتحدرون من الهجرة، من عدم تفهم لهم وقلق وحتى من رغبة في التمرد أحياناً، عندما يُرمَى بطلبات التوظيف التي يتقدّمون بها في سلّة المهملات، لا لشيء إلا لما توحي به أسماؤهم، ولطالما واجهتهم أشكال الميز والتفرقة في سعيهم للحصول على مسكن أو حتى وبكل بساطة لدخول مكان ما من أماكن اللهو والتسلية”[30]. وما توثِّقه المنظمات الحقوقية المتخصِّصة في هذا الملفّ والهيئات المستقلّة المكلفة رسمياً بمراقبة هذه الظاهرة؛ يكشف عادة عن مؤشرات باعثة على القلق في عديد البلدان الأوروبية.

وقد يكفي هنا أن يُشار إلى الحساسية التقليدية التي كثيراً ما تطبع العلاقةَ بين الأقليّات ومجتمعات الأغلبية، وهو ما اتضح في التاريخ الأوروبي القديم والحديث، وصولاً إلى المنعطفات الحادّة خلال القرن العشرين في هذه القارّة، وهو ما زال يمثِّل في بواكير القرن الحادي والعشرين ملفّاً مُثقَلاً بالأعباء.

وإذا ما تعلّق الأمر بالمشاركة السياسية في واقع المتحدِّرين من خلفية هجرة، أي الأقليات المنعوتة بأنها “أجنبيّة”؛ فإنّ المعضلة تنطوي على حساسيات إضافية أحياناً، وعلى صعوبات معقّدة، من بينها تأثّر المشاركة السياسيّة بالثقافة الجمعية وطبيعة الخلفية السياسية أو الخبرات الديمقراطية في البلد الأصلي الذي جاء منه مهاجرو الأمس، والتي قد لا تتساوق مع ملامح الثقافة الجمعيّة والساحة السياسية للوطن الجديد، الأمر الذي يأتي على حساب مساعي التكيّف المتبادَلة بين هؤلاء “المواطنين الجدد” والبيئة التي يُفترَض أن تحتضنهم وتشجِّعهم على التفاعل المثمر مع شتى مسارات الفعل المجتمعي، بما في ذلك الساحة السياسية. ولكنّ هذه الخبرات المتعدِّدة قد تُثمر في بعض الحالات عن نتائج إيجابية أو حتى باهرة، وعن إثراء فعليّ لساحة المشاركة السياسيّة.

 

“نحن” و”هم”: الأغلبية والأقليات في الحياة السياسية ـ التوازنات والمحاذير والإشكاليات

إنّ الاحتكام الصارم لمنطق الأغلبية والأقلية في الحياة السياسية، يثير إشكاليات عدّة، بل ويحمل محاذير على صعيد الممارسة التطبيقية.

الإشكاليات والمحاذير المرتبطة بالاحتكام الصارم لمنطق الأغلبية والأقلية في الحياة السياسيّة:

1/ تبدو الأغلبية، في معظم الأحوال، أوفر حظاً في فرض ذاتها على الحياة السياسية، بل والشأن المجتمعي بعامّة، وربما على حساب ما تبدو أحياناً أنها مكتسبات وحقوق تعود للأقليات.

2/ إنّ تمركُز المخزون التصويتي في صفوف الأغلبيّة يجعل القوى السياسية تركِّز اهتماماتها وبرامجها على شؤون الأغلبيّة، بالقدر الذي كثيراً ما يتسبّب في إهمال احتياجات الأقليات ومصالحها. وما قد يسعف الأقليات أحياناً في هذا الجانب؛ هي القدرة الترجيحية التي قد ينطوي عليها ثقلها التصويتيّ.

3/ إنّ اختلال التوازنات المجتمعية بين “أغلبيّة”، وأقلية أو أكثر؛ إنما يفتح المجال على مصراعيْه للاستقطابات السياسية الحادّة، بالشكل الذي يُغري بعض القوى السياسيّة والمجتمعيّة بالتعويل على الشقاق المجتمعيّ وإثارة المخاوف المتبادَلة سعياً لتحقيق أصوات ومكاسب جماهيريّة، وهو ما يُلاحَظ مثلاً في واقع القوى السياسية الغوغائية (الشعبوية) واليمينية المتطرِّفة في أوروبا، التي كثيراً ما تختزل برامجها وخطابها السياسي وتعبئتها الجماهيرية في فكرة محورية تتمثّل في العداء ﻟ “الآخر” أو الأجنبي أو المسلم.

4/ إنّ مجرّد تقسيم المجتمع إلى أغلبية وأقلية، يحمل في طياته ما يثير انطباعات سلبية بشأن مدى تجسيد مفاهيم الشراكة المجتمعية والمشاركة السياسية التي يُفترَض فيها التكافؤ المبدئي. بل إنّ ذلك المنطق قد يغري بتعميق الاختلالات المجتمعيّة والسياسيّة التي كثيراً ما تكون قائمة بين حظوظ مجتمع الأغلبيّة وبعض الأقليات.

5/ إنّ توزيع قطاعات المجتمع وفئاته وشرائحه على مربّعيْن اثنيْن، متقابليْن بلا تكافؤ، هما الأغلبية والأقلية أو الأقليات؛ إنما يفضي إلى تجاهل التمايزات والتباينات والخصائص المتفاوتة الملموسة داخل صفوف من يُوصَفون بالأغلبية وكذلك في أوساط من يُصنّفون على أنهم أقليّة. بمعنى أنّ معادلة الأغلبية والأقلية من شأنها أن تشجِّع النظرة التسطيحيّة والاختزاليّة لواقع التنوّع والتعدّد الضمنيّ وحيثيات التفاوت القائمة في المجتمع العام، لصالح ثنائيّة استقطابيّة كثيراً ما يجري التعبيرُ عنها بتقسيماتٍ تعسفيّة من قبيل “نحن” و”هم”. وعادة ما تقفز هذه التقسيمات على المشترك المجتمعيّ الذي يجمع المنضوين ضمن الفئات والشرائح، لصالح فرض خارطة مجتمعيّة إجماليّة لا تعكس الواقع من مناظيره المتعدِّدة. والمعضلة الأخرى التي يُفضي إليها ذلك التصوّر؛ أنه كثيراً ما يُعَظَّم من شأن الاستقطابات الثنائية على أرض الواقع ضمن منطق “نحن” و”هم”، لتبدو تلك الخارطة المجتمعية المصطَنعة وكأنها آخذة في البروز، والتجسّد فعلياً، على حساب خيارات أخرى أكثر واقعيّة وجدوى. فقد لا يغدو يسيراً، كمثال على ذلك، الالتفاتُ إلى حقائق ومعطيات، تتعلّق بالتفاوت، الهائل أحياناً، في صفوف المجموعة المصنّفة على أنّها أغلبيّة أو أقليّة، فلا يُعدّ النقابيّ المسلم مثلاً في المربع المجتمعي ذاته مع زميله الذي ينتمي إلى فئة دينية أو عرقيّة مغايرة، لمجرد الاحتكام إلى منطق الأغلبية والأقلية إيّاه بمنظور أحادي. كما يُتوَقّع في هذا الصدد أن يصبح بعض كبار المتموِّلين والساعين نحو الفائدة الربحيّة بأيّ ثمن مادي أو أخلاقي كان؛ أقرب إلى بعض صغار الكسبة ممن ينادون بشعارات العدالة الاجتماعية والمسؤولية الأخلاقية لرأس المال، لمجرد اشتراكهم في مربع الأغلبيّة أو الأقليّة القائم على بُعد أحاديّ يتجاهل أبعاداً أخرى. أي أنّ منطق الأغلبيّة والأقليّة قد يُلحِق أضراراً بفرض التواصل المجتمعيّ وتعزيز القواسم المشتركة والالتقاء على برامج أو تفاهمات بمنطلقات عدّة بوسعها أن تخدم الصالح العام وتعبِّر عن القيم الصالحة، وهو ما قد يهدِّد إجمالاً باهتراء النسيج المجتمعيّ العام. ومع ذلك؛ فلا ينبغي أن يُفهم من استحضار التباينات وإدراك التعدّديّة؛ أنّ المقصود هو إلغاء المشترك الجامع ضمن المجموعة البشرية الواحدة، بحسب توزّعاتها الدينية أو العرقية أو الثقافية أو غير ذلك؛ بل المُراد ألاّ يكون ذلك مدعاةً لإغفال أبعادٍ وخصائص أخرى قائمة بالفعل في الواقع المجتمعيّ، وإن لم يكن بالوسع معاينتها بوضوح أحياناً.

6/ إنّ طائفةً من الحقوق والمصالح المجتمعية الأساسية، لا يمكن أن تُترَك لتقديرات الأغلبية أو الأقلية، فالمشروعيّة السياسية لا ينبغي أن تتحقّق لتوجّهات سياسيّة أو قرارات ما لمجرّد موافقتها لما تراه الأغلبية. كأن يرى من يُفتَرَض أنّهم مُعَبِّرون عن الأغلبية في مجتمع ما؛ حرمانَ المرأة المسلمة من حقِّها في ارتداء الزيّ الذي تريد، أو أن تقبل “الأغلبيّة” برنامجاً سياسياً قائماً على التعدِّي على حقوق الأقليات وربما السعي لاجتثاثهم (كما جرى في ألمانيا لدى صعود النظام النازي مثلاً). فقد برهنت الخبرات التاريخية البشريّة، وبما اتضح على نحو جليّ في أوروبا أيضاً؛ على أنّ الصرامةَ في الاحتكام إلى منطق الأغلبيّة والأقليّة في الممارسة السياسيّة؛ محفوفةٌ بمحاذير عدّة، كما تبيّن في سوابق فرض قرارات مدفوعة بقناعات دينيّة محدّدة تعتنقها الأغلبية المجتمعية، في مواجهة الأقليّات الدينية، مثل ما جرى في إنجلترا وهولندا[31] في القرن السابع عشر، على سبيل المثال. ومن هنا؛ وُضِعت ضوابطُ عدة، في الدساتير والمواثيق، وفي التنظيم القضائيّ والسياسيّ والإداريّ، بغيةَ التعاملِ مع هذه الإشكاليّات، لكنّ فعالية تلك الضوابط، أو مدى معالجتها لمجمل الواقع الإشكاليّ بشتى تفاصيله على الصعيديْن النظري والتطبيقي؛ ما زالت خاضعةً لمكامن قصور متفاوتة بحسب البيئات والوقائع. وهو ما يمنح أهمِّيّةً إضافيّةً لأن تتقدّم الأقلياتُ إلى ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، وتسعى لتعزيز حضورِها فيها، والتنبّه المستمر إلى أية نُذُر قد تحيقُ بها، والذود عن حقوقها ومكتسباتها، دون الإخلالِ بالسلم المجتمعي أو انتهاكٍ للمعايير والضوابط ذات الصلة.

 

خيارات للتعامل الرشيد مع توازنات الأغلبية والأقليات في الحياة السياسية:

1/ إنّ المجتمعات البشريّة، التي تتوزّع ضمناً على أغلبيّات وأقليّات؛ لا ينبغي أن تُطلِق العنان لمنطق صارم في التعامل مع هذه التوازنات، بشكل يأتي على حساب حقوق من يُصَنّفون على أنهم أقليّات ومكتسباتهم ومصالحهم.

2/ الحذر من مغبة ركون الساحة السياسية إلى تسويات، تعتمد على محصِّلة استقطابات الأطراف الفاعلة ذات الوزن والتأثير، وهو ما قد يعني تجاهل الأقلِّيّات. وينبغي بدلاً من ذلك في المسائل ذات العلاقة؛ السعي إلى التوافق بين الأطراف السياسية والمجتمعية، بما في ذلك الأقلِّيّات، وهو ما يوفِّر أيضاً ضمانة لتعزيز السلم المجتمعيّ والتفاعل المتكافئ بين قطاعات المجتمع وفئاته، بغض النظر عن تصنيفات الأغلبيّة والأقليّة.

3/ إنّ الساحة المجتمعيّة والسياسيّة بحاجة إلى ضوابط فاعلة ومتجدِّدة لحماية السلم المجتمعيّ وضبط الخطاب والممارسة السياسيّيْن بعيداً عن نزعات التهميش والإقصاء لمن ينتمون إلى المجتمع الواحد الكبير. وينبغي في هذا الإطار تفعيل المواثيق الحقوقية ذات الصِّلة، وتطويرها المستمرّ في النصوص والتفسيرات، بما يحقِّق المأمول منها في هذا الجانب.

4/ تعزيز المشترك المجتمعيّ، وإدراك وجود قواسم مشتركة عدّة قائمة أو يمكن تعزيزها أو بالوسع التوصل إليها (كلمة سواء). وتلحق بذلك أهمِّيّة اندماج الأقليات في النسيج المجتمعيّ، اندماجاً إيجابياً على أساس المشاركة الفاعلة والمتكافئة، دون الإضرار بخصوصّياتها.

5/ لا بدّ من العمل من خلال الساحة المجتمعيّة العامّة بما يؤدي إلى دفع عجلة الإصلاح السياسيّ حال تبيّن الحاجة إليه، عبر المشاركة المجتمعية الفاعلة للأقلِّيّات، بما من شأنه أن يتيح، ضمن مساعٍ رديفة؛ تداركاً كليّاً أو جزئيّاً، لمكامن القصور أو التجاوزات في الساحة السياسيّة.

6/ ضرورة تحسّب المجموعات البشرية المُصنّفة على أنها أقليّات؛ للاحتمالات الواقعيّة لتجاوز حقوقها أو هضم مصالحها أو الانتقاص من مكتسباتها، من خلال الساحتين المجتمعيّة أو السياسيّة، وهو ما يقتضي منها التوجّهَ الفاعلَ لمعالجة أية مكامن قصور أو تجاوزات قد تلحظ بواكيرها. وقد عبّر الطاهر بن جلّون، الأديب والروائي المغربي المقيم في فرنسا، عن شيء من ذلك عندما حذّر من “أننا إذا انكفأنا ولم نتصرّف؛ نجعل العنصرية اعتياديّة ومتعجرفة”[32]. وينبغي اعتبار أنّ ذلك الإسهام غالباً ما يصبّ، ضمناً، في صالح المجتمع بكامله، سواء لجهة مسعى الترشيد المستمرّ للممارسة المجتمعيّة والسياسيّة فيه، أو من منظور تدارك الانعكاسات السلبية التي تنجم عادة عن الإضرار بالنسيج المجتمعيّ العام بمفعول الاختلالات المُفترَضة في العلاقة بين الأغلبيّة والأقلِّيّات.

7/ أهمية تنبّه الأطراف الفاعلة ضمن صفوف الأغلبيّة، بما في ذلك الهيئات والمؤسسات والقوى السياسيّة والمنظمات غير الحكوميّة وقادة الرأي؛ لمسؤوليتها الأدبية والتزاماتها المنتظرة منها، في ما يتعلق بتعزيز العلاقة الإيجابية والودِّيّة والمثمرة في المجتمع الواحد. إذ ينبغي أن تتداعى هذه الأطراف، من موقع المسؤولية القانونية و/أو الأدبية، إلى إصلاح أية اختلالات ماثلة على هذا الصعيد.

8/ عدم الاكتفاء بالخطوات والتدابير العلاجية للاختلالات التي يمكن أن تُلمَس في العلاقة بين الأغلبيّة والأقلِّيّة في المجتمع الواحد والساحة السياسيّة؛ بل ينبغي أيضاً الاهتمام بالجانب الوقائيّ، الذي يستبق التطوّرات قبل أن تتفاقم إلى مآلات غير مرغوبة، وهو ما يقتضي بلورةَ آلياتٍ فاعلة للإنذار المبكر، من قبيل المراصد المعنيّة بجمع المعلومات وتحليلها وتقصِّي الحقائق، والمراكز البحثيّة المتخصِّصة.

9/ إنّ التصدي للإشكاليات والمحاذير الناشئة على خلفية توازنات الأغلبية والأقلية في المجتمع والسياسة؛ ينبغي أن يتمّ أيضاً عبر التعامل مع منظومة التقاليد والأعراف المجتمعيّة والسياسيّة السائدة. ولا ريب أنّ تلك التقاليد والأعراف، تبقى عرضة للتحوّلات والتبدّلات، التي عادة ما تتم ببطء وبشكل غير ملحوظ، وهي تبدّلات وتحوّلات تمليها مستجداتُ الواقع، ويحملها ما يطرأُ من مؤثرات على الثقافة المجتمعيّة العامة، وعلى الثقافة السياسيّة ضمناً، وهي تحوّلات وتبدّلات لا تبدو معزولةً كذلك عن التفاعلات الجارية بين شتى الأطراف المجتمعيّة والسياسيّة، بمعنى أنها متأثرةٌ بالتجاذب المجتمعيّ والتدافع السياسيّ. وعليه؛ فإنّ المشاركةَ المجتمعيّة والسياسيّة، ينبغي أن تُولِي مسألةَ التقاليد والأعراف المجتمعيّة والسياسيّة عنايتَها، بالتعامل مع الثقافة العامة للمجتمع والثقافة السياسية للبيئة المعنيّة. وعلى سبيل المثال؛ تبذل مؤسسات ونخب أوروبية مسلمة، مساعٍ متزايدة، لكي تُدخِل المناسبات والخصوصيات الإسلامية ضمن مجمل الثقافة المجتمعيّة والسياسيّة المحلِّيّة، ليغدو من المألوف، مثلاً، تهنئةُ المسلمين بأعيادهم، أو إقامة موائد إفطار رمضانية بمشاركة الشخصيات العامة. ويجدر الانتباه هنا إلى أنّ الأمر يتعلّق باتجاه، لا بدّ منه، لتطبيع العلاقة بين المسلمين وخصوصيّاتهم من جانب؛ ومجمَل البيئة المجتمعيّة والسياسيّة من جانب آخر، وهو مسعى لا ينبغي أن يَقتصر على الجانب المسلم وحده، بل هو جدير بأن يحظى بدعم وإسناد عام من الفاعلين في المجتمع والسياسة.

ثالثاً/ من الصعوبات المتعلقة بخصوصية مسلمي أوروبا:

تخضع مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسية لصعوبات عدة، يُعزَى بعضها إلى تلك الصعوبات العامّة التي سبق التطرّق إليها، وإلى صعوبات أخرى متعلقة بالأقليات أو بمن يُصنَّفون على أنهم “أجانب”، بينما تبدو هناك صعوبات من نوع خاص، متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين، ومنها ما يلي:

أ/ صعوبات ذاتية وموضوعية:

من الصعوبات التي تحدّ من المشاركة المجتمعية والسياسية الفاعلة لمسلمي أوروبا؛ ما هو شائعٌ في كثير من البيئات الأوروبية من الافتقار إلى أطر التنسيق والتعاون الفاعلة ضمن نطاق الوجود المسلم، حيث لا تبدو حالات التشرذم أمراً استثنائياً.

وكثيرون أولئك الذين سجّلوا ملاحظاتهم بشأن ما استوقَفهم من قصورٍ كامن ضمن نطاق الأقليات المسلمة، على صعيد القدرة على تنظيم ذاتها في أطر وَحدَوية فاعلة. ففي التسعينيّات من القرن العشرين؛ سجّل الشيخ راشد الغنوشي، خلال محاضرة ألقاها في بريطانيا، انطباعاته بهذا الشأن بقوله “نحن هنا نستورد كثيراً من التخلّف، ولذلك عندما نرى الجماعات المسلمة وكيف تتعامل مع بعضها (بعضاً)، ونقارنها بالأحزاب الغربية هنا كيف تتعامل، وكيف تحلّ مشكلاتها؛ ندرك بأنّ هناك كافراً متحضِّراً ومسلماً متخلفاً”[33].

أما محمود الدبعي، أحد القيادات البارزة لمسلمي السويد، وقد رأَس لأعوام عدّة “المجلس الإسلامي السويدي”، المعني بالتواصل مع المستوى السياسي والمجتمعي في السويد؛ فيرى أنّ “أزمة التمثيل والقيادة أدّت إلى وجود اختلافات بين مناهج العمل وعدم الاتفاق حول تحديد الأولويات، حيث أنه في الكثير من الأحيان يصعب على الغرب التحدّث مع طرف موحّد أو قيادة موحّدة وشرعية تمثِّل الجالية الإسلامية في ما يتعلّق بشؤونها. نحن متخلِّفون في جانب الحوار السياسي مع صنّاع القرار في الغرب، مع أننا نرى أنّ ذلك واجب علينا من أجل تصحيح المفاهيم”[34].

وفي سياقات شبيهة؛ كان قد رصد شيئاً من ذلك الباحث الباكستاني في بريطانيا، مُعظّم علي (مدير مركز لندن لدراسات باكستان) بالنسبة للجاليات الباكستانية في أوروبا، فقد لاحظ (عام 1982) أنها تعيش حالة من الفُرقة على “الكثير جداً من الأحزاب الصغيرة” التي تهاجم بعضها بعضاً ولا تقوم بأي نشاط يُذكر، وهو ما يراه كفيلاً بتشويه “صورة باكستان والباكستانيين في عيون الشعب والسلطات بالبلدان المستقبلة” لهم[35].

والواقع أنّ شكاوى كهذه عادةً ما كانت تتردّد في أوساط الأقليات المسلمة في أوروبا، خلال العقود المنصرمة، ورغم أهمية التعامل بجدية معها؛ فإنها لا تخلو أحياناً من نزعة مثاليّة تكاد تنفصم عن الواقع باتجاهها إلى افتراض إمكانية قَولَبة وجود الأقلِّيّات في أطر وَحدَوية مع الإحجام في العادة عن اقتراح خيارات واقعيّة وعمليّة تتيحُ التوصّلَ إلى ذلك. بمعنى أنّ المسألة ينبغي أن تتعلّق بكيفية التعامل الأمثل مع حالة التنوّع والاختلاف الضمني في واقع مسلمي أوروبا، بما يحدّ من احتمالات الخلاف ويطوِّق إمكانات الشقاق ونوازع التمزّق، ويستثمر في الوقت ذاته الحالة التعدّدية القائمةَ، على أفضل وجه.

أما الافتراض التقليدي بأنّ الأمر يتعلّق ﺑ “سفراء” لأوطانهم الأصلية في الخارج، وأنّ عليهم تمثيلها على الوجه الأمثل؛ فإنه كثيراً ما يتجاهل تلك التحدِّيات والإشكاليّات التي ينضح بها واقعٌ معقّد تعيشه الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا في مجالات عدّة.

كذلك؛ فإنّ إحدى المعضلات التي واجهت، وتواجه، تجارب المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا، على تفاوتٍ بين بلد وآخر؛ هي حالة التمركز حول الأشخاص، التي غالباً ما تكون باديةً للعيان في أوساط الجيل الأول للوجود المسلم المهاجر، أي جيل التأسيس ﻟ “العمل الإسلامي”. وبصفة إجمالية؛ لا يمكن وضع تفسير أحاديّ لهذه الحالة، فهناك مفعول التكوين الثقافيّ والاجتماعيّ والنفسيّ الذي حمله بعض مهاجري الأمس من بيئاتهم السابقة، حيث تتقدّم أهمية الولاءات أحياناً على مطالب الحوار والتواصل والشورى. ولكنّ بعض أنماط التشكّل التي عرفها الوجود المسلم الحديث في عدد من بلدان أوروبا؛ شجّعت هذه الحالة من الشخصنة والتفرّد. فمن اعتُبروا بمثابة “قيادات للجاليات المسلمة” كانوا أفراداً في حالات عديدة، ثم نشأت من بعد ذلك مؤسسات وأطر وهياكل. أي بدا أحياناً وكأنّ الفرد هو الذي استَوْعَبَ المؤسسة وليس العكس. وما جرى في حالات عدّة؛ لم يكن سوى “تركيب” المؤسسة على القيادات الفردية، أي تقمّص لملامح مؤسسيّة، وليس اتجاهاً جادّاً نحو المأْسَسَة بالضرورة. وتنشأ هذه المعضلة مع تركّز الخبرة في أيدٍ قليلة، وإمساك أفراد قلائل بمفاتيح التأثير، وتصدّرهم المشهد العام للحضور المسلم في ساحة المشاركة السياسية والمجتمعية. وقد انعكس ذلك على تماسك ساحة المسلمين أحياناً، وعلى كفاءة مشاركتهم المجتمعية والسياسية بكلّ تأكيد، وأورث مشكلة ملموسةً على صعيد التواصل بين الأجيال. وفي بعض الأحيان؛ بدت تلك وكأنها حالة مُستَأْنَسة حتى من بعض الأطراف السياسيّة في الساحات الأوروبية، التي ترى في هذا الشخص أو ذاك خياراً مريحاً بالنسبة إليها.

والواقع أنّ حالة التمركُز حول الأشخاص؛ تحمل مخاطرةً جدِّيّة ببعض فرص المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، ذلك أنّ الخروجَ الاضطراريّ لبعض الأشخاص المحوريِّين القلائل من ساحة فعلهم؛ يؤدِّي تلقائيّاً إلى إحداث فجوةٍ كبيرة قد يَصعُبُ سدّها، طالما أنّ أولئك لم يعمَلوا على توريثِ التجربة ونَقلِ الخبرة وإشاعةِ ثقافةِ المشاركة ضمن المربّع المسلم المعنيّ بالتواصل السياسيّ. ولم يعد الخروجُ الاضطراريّ للأفراد أو حتى بعض المؤسسات من ساحة العمل العام بالأمر المستَبعَد في واقع مسلمي الغرب إجمالاً، في ظلّ حملات الاستهداف والتشويه المسلّطة على بعض ساحات الأقليات المسلمة، والتي تتجنّد لها مؤسساتٌ وأقلام، وأبواق إعلامية، وأصواتٌ سياسيّة ومجتمعيّة أحياناً، كثيراً ما تجد فرصَتَها السانحةَ في أداءاتٍ متعثِّرة أو مكامن قصورٍ أو ثغرات في الفعل أو القول. ومن المؤسف ألاّ تكون هذه التداعيات المقلقة كافيةً هي الأخرى لانتشال واقع العمل العام للمسلمين في بعض البلدان الأوروبية من حالات التفرّد القياديّ والتمركز حول الأشخاص. وما قد يلفت الانتباه ها هنا أيضاً؛ أنّ ممارسة أي ضغط ما، يمكن افتراضه، على القيادات الفردية؛ غالباً ما يكون أيسر وأنجع بالمقارنة مع ما يمكن أن تواجهه القيادات الجماعية، الأمر الذي يكشف جانباً آخر من خطورة ارتهان الأقليات المسلمة لقيادات فردية.

كما يمكن تحديد إحدى أهمّ الصعوبات التي تحكم فرص المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا على نحو مرتبط بخصوصيّتهم أساساً؛ في افتقار الساحة المؤسسيّة لمسلمي أوروبا إلى النضوج التخصصيّ، وهو ما لم يُتِح في معظم البيئات الأوروبية الفرصةَ لتَبَلْوُر نسقٍ مؤسسيّ متكامل وقادر على رفد التجارب السياسية المحليّة الناشئة في صفوف المسلمين بمستلزمات النهوض والدعم والتجدّد. وتبدو ضمن ذلك إشكالية الافتقار إلى أطر مؤسسيّة لا غنى عنها في سياق العمل السياسيّ الفاعل، أو التعامل المؤثِّر مع الساحة السياسيّة، في البيئة الأوروبية؛ من قبيل مؤسسات البحث والدراسات، والمراصد الحقوقية الفاعلة، ومجموعات الضغط والتأثير والتعبير عن المصالح، وأطر التأهيل السياسي، وغير ذلك.

وبشكل عام؛ يمكن القولُ إنّ واقع مسلمي أوروبا ما زال شاهداً على الافتقار إلى تَبَلْوُر أدواتٍ للعمل السياسي تكون في مستوى يلائم ما عليه الحال في الساحة الأوروبية، سواء تعلّق الأمر بالبلدان والأقاليم الأوروبية كلّ على حدة، أم تعلّق بالمستوى الأوروبي العام. ومع ذلك؛ فلا يمكن تجاهل النمو النوعيّ الذي شهدته بعض الساحات الأوروبية المسلمة في غضون الأعوام الماضية؛ إلاّ أنّ الطابعَ العام ما زال دون المستوى الذي يمكن التعويلُ الجادّ عليه. وقد برهنت عديدُ الحالات على أنّ مسلمي أوروبا إجمالاً، وفي بعض البيئات الأوروبية على نحو خاص؛ يَفتَقِرون بوضوح لأدواتِ المشاركةِ المجتمعيّة والسياسيّة الفاعلة والقادرة على التعاطي مع خصوصيّات الساحة التي يتحرّكون فيها، وهو ما يمكن أن يُعزَى إلى ظروف ذاتيّة متعلقة بخصوصيّة الوجود المسلم ذاته في البلد أو الإقليم المعنيّ ومقدّراته وإمكاناته؛ وإلى ظروف موضوعيّة متّصلة بالبيئة أو الظرف الناشئ. ومن الشواهد التي يمكن أن يُشار إليها في هذا المضمار؛ الحالةُ الفرنسيّةُ من خلال القانون المتعلِّق بما يُسمى “الرموز الدينية البارزة”، والذي رمى أساساً إلى حرمان التلميذات المسلمات من حق اختيار الزيّ، وأيضا عبر التطرّق إلى الحالة الدانمركية من خلال أزمة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للمقام النبوي الشريف (صلى الله عليه وسلم).

ففي الحالة الأولى؛ تمّ تمرير القانون المثير لاستياء جمهرة مسلمي فرنسا (وفق ما يُستدلّ عليه من مؤشرات عدّة)، دون أن تتوفّر لعموم المسلمين أية أدوات مجتمعيّة أو سياسيّة قادرة على كبحه. كما لم يجد المسلمون حلفاء جادِّين لهم لمعالجة القضية التي بدت وكأنها حازت على ما يشبه توافقَ الأوساطِ السياسية والمجتمعية على تمريرها، وهو ما كان.

وفي الحالة الثانية؛ لم يجد مسلمو الدانمرك أدواتٍ للفعل المجتمعيّ والسياسيّ تكون قادرةً على التعاطي مع الأزمة في نطاقها المحليّ ابتداء، في ما أنّ البيئة المؤسسيّة لمسلمي الدانمرك بدت بدائيّة إلى حدٍّ ما، كونها تركّزت على أنماط بعينها تتمثل في المساجد والمراكز الإسلامية، أي مؤسسات غير متخصِّصة، وأنّ القيادات المجتمعية قد ارتبطت بمواقع الإمامة أساساً، وهو ما يثير التساؤل عن الافتقار إلى سمات التنوّع في القيادة المجتمعيّة، وهو أساس لأيّ أداء مجتمعيّ أو سياسيّ فاعل في أي بيئة كانت. وفي المحصِّلة؛ لم تتوفّر لمسلمي الدانمرك من أدواتِ الفعل المجتمعيّ والسياسيّ ما يُسعِف في اختراق حالة الانسداد المحليّ في الموقف، كما لم يجد المسلمون، حلفاءَ لهم في الساحة السياسية والمجتمعية الدانمركية لمعالجة القضية، حتى مع عدد من المواقف الهامة التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد (كموقف الدبلوماسيين الدانمركيين)، وهو ما يفسِّر جزئياً اتجاه مسلمي الدانمرك لتحريك القضية من الخارج.

ويمكن الاستنتاج أنه في الحالتيْن، الفرنسية والدانمركية؛ تضافرت عواملُ موضوعيّة مع أخرى ذاتيّة، لتمرير سابقة قانونية (فرنسيّاً) من جانب، واحتدام الموقف وتأزّمه (دانمركيّاً) من جانب آخر.

وقد يَعثُر المرء على صعوبات، أو إشكاليّات من ضَرْبٍ آخر، تنبثق عن التباين في بعض تقاليد العمل السياسي بين ما هو سائد في البيئات الأوروبية من جانب، وما هو مُستَقى من التوجيهات الإسلامية والأعمال والتجارب والموروثات ذات الصفة الإسلاميّة من جانب آخر. ومَكْمَنُ هذه الصعوبات أساساً في الافتراق أو التنازع بين الإطارين المرجعيّيْن اللذيْن يجد المسلم ذاتَه إزاءَهما في بعض الحالات، أي الإطار المرجعيّ السائد في بيئته الأوروبية، والإطار المرجعيّ الإسلاميّ، بما قد يترتّب عليه من انعكاسات. ومن ذلك مثلاً مسألة الالتزام الحزبي، التي تفرض على النائب في البرلمان أن يصوِّت مع كتلته، بغض النظر عن رأيه الشخصي في المسألة، وهو ما قد يجده متعارضاً مع “أمانة التصويت”. أيضاً؛ فإنّ بعض المراوغات التي يمكن تتبّعها في بعض ثنايا الساحة السياسية، بما فيها تلك التي تقوم على تبرير الغاية للوسيلة؛ تصطدم بأخلاقيّات العمل السياسي وضوابطه وخاصة بالنسبة للمسلم. ولا ريب أنّ ذلك من شأنه أن يفرض أعباءً متزايدة، وربما يبثّ أجواء غير مريحة، بالنسبة للمسلم الذي يروم الصعود في مراتب الحياة السياسية، إذا ما شابت ساحة تحرُّكه شوائبُ كهذه.

ب/ الصعوبات المتعلقة بالمواقف السلبية من الإسلام والمسلمين:

وهنا يمكن تصنيف تلك المواقف، ضمن فئات عدّة، منها المواقف المتحفِّظة على الإسلام والثقافة الإسلاميّة، وتلك التي تتّسم بمناهضة الإسلام أو الوجود الإسلامي في أوروبا وتتبنّى توجهات عدائية ضدهما. ويمكن في هذا المجال إدراكُ الدور المتعاظم لهذه المواقف إجمالاً، وسط حمّى الرّهاب الإسلامي “الإسلاموفوبيا”، وموجةٍ من التعامل التمييزيّ أو الإقصائيّ مع المسلمين تسللت إلى بعض البيئات الأوروبية.

وقد يجد بعض السياسيين المسلمين في أوروبا أنّهم مستهدفون بالتشويه على هذه الخلفية، فهذا مِهْمِت دايماغولر (Mehmet Daimagüler)، عضو المجلس الرئاسي للحزب الديمقراطي الحر الألماني (الليبرالي) (FDP) يكشف عن جانب من تجربته في هذا الحقل رغم كونه علمانياً؛ فيكتب “لقد وُلدْتُ ونشأْتُ في ألمانيا، وعلى الرغم من ذلك قام مجهولون بكتابة: “خلية إرهابية كامنة” على لوحات الدعاية الانتخابية الخاصة بي. ويقع المواطنون المسلمون في هذا البلد تحت وطأة الاشتباه العام، ولهذا أصبح مناخ الحياة الجماعية في هذا المجتمع قاسياً لدرجة أثارت دهشة المسلمين الأتراك الآن”[36].

ويأتي في هذا السياق دور اليمين السياسي المتطرِّف، أو ما يُعرف بأقصى اليمين، وحتى دور بعض القوى العلمانيّة أو الليبرالية المتطرفة والتي كثيراً ما تتذرع ﺑ “القيم الأوروبية” أو “قيم الحرية والانفتاح والتسامح” وضرورة “حمايتها”، لتبرير رؤاها وخطابها ومواقفها. كما يُشار هنا إلى وجود قوى أصدرت تحفّظات على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وأبدت مناهضة لذلك، من قبيل الدور التحريضي لبعض الأطراف.

وكثيراً ما يمكن تتبّع تجلِّيات الإسلاموفوبيا في المواقف السياسية والتغطيات الإعلامية، وهي تمضي، في حالات عدة، في استهداف المؤسسات الفاعلة والقيادات المجتمعية ذات الأثر الحميد والحضور الإيجابي في صفوف مسلمي أوروبا، بصورة كفيلة في حالات عدّة بإرباك الأداء المجتمعي والسياسي للوجود المسلم برمّته. ولا يتسع المقام لإيراد الكثير من الشواهد على ذلك، وإيضاح بعض الملابسات المرتبطة بهذا المنحى.

ولا يجوز التساهل مع أحد الاتجاهات المقلِقَة التي أخذت تطلّ برأسها بوضوح في السنوات الأخيرة في بعض بلدان أوروبا، وهي التي تتعلّق بمطالبة الجمهور المسلم، على نحو كلِّيّ أو جزئيّ، بما يشبه البرهنة على الولاء للمجتمع والدولة، وهو ما يجري التعبير عنه بشكل أو بآخر في بعض سياقات الجدل بشأن الاندماج وما يتّصل به. فبينما يتم في فرنسا الحديث أحياناً عن أهميّة “استيعاب قيم الجمهورية”، يتحدّث آخرون في ألمانيا عن التسليم ﺑ “الثقافة السائدة” (Leitkultur)، في ما ينادي المستشار النمساوي فولفغانغ شوسل، عن حزب الشعب (محافظ)، في حملته للانتخابات التشريعية لعام 2006 بأهمية احترام “التقاليد” النمساوية من جانب الأجانب والوافدين. أما في هولندا فيجري الإكثار من الحديث عن ضرورة القبول بقيم المجتمع الحرّ والديمقراطي والمتسامح، وهي إشارات تتفاوت من بلد إلى آخر في طرائق التعبير عنها أو في درجة حضورها، أو في الأطراف التي تطلقها.

ج/ الإشكاليات المتعلقة بجوانب شرعية وفقهية ومبدئية ومسلكية في ما يخصّ العمل السياسي والتواصل المجتمعي:

فتبعاً للخصوصيّة الإسلامية أو الثقافية، يمكن، بشكل أكثر تحديداً، العثور على طائفة من الصعوبات، التي تكتنفُ فرصَ مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسية. والأمر هنا يتسع لشواهد عدة، تتردّد في الأوساط المسلمة المعنية في أوروبا، ويمكن، على سبيل المثال لا الحصر، الإشارة إلى ثلاثة أنماط من هذه الإشكاليّات:

– الإشكاليّات المتعلقة ببعض المواقف السياسيّة، التي يقول المعنيّون من المسلمين إنه لا مناص أحياناً من الإقرار المبدئيّ بها، أو حتى التعامل الواقعيّ أو “البراغماتي” معها، سواء من خلال العمل ضمن إطار سياسي ما، كحزب أو كتلة برلمانية أو لائحة انتخابية أو مجموعة نقابية؛ أو عبر مقتضيات التحالفات السياسيّة والمواقف الجبهوية الجامعة لأكثر من فئة.

– ثمة إشكاليّات أخرى تتَمَحوَر حول مواقف بعض المجموعات الناشطة في صفوف المسلمين، منها المجموعات الرافضة للمشاركة السياسية، والتي كثيراً ما تسوق ما تعتبره حججاً شرعيّة أو فقهيّة أو حتى مبدئيّة لتبرير مواقفها.

– الإشكاليّات المتعلِّقة بحدود التواصل البشري وبعض أوجه السلوك الفردي وما يمكن أن يخالطه، كالاجتماع على موائد تتصدّرها الخمور مثلاً، أو المدى المقبول شرعاً في الاختلاط بين الجنسين. وتبدو هذه الإشكاليات أكثر حضوراً وإثارة للتساؤلات لدى الجيل الأول المسلم المتحدر من خلفية هجرة أو في أوساط الشبيبة المسلمين، علاوة على المرأة المسلمة، وهم الذين يتوجّه إليهم عادة، أكثر من غيرهم، خطاب الاستنهاض للمشاركة في الفعل المجتمعي والسياسي. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ العمل الحزبيّ التقليدي في أوروبا، يضع الشبان المسلمين أمام تساؤلات من قبيل كيفيّة التعامل مع الحفلات والرحلات الشبابية لناشطي الحزب، التي لا تبدو بعض أجوائها أحياناً ملائمة لما يحرص المسلم الملتزم بدينه على التقيّد به.

فرص المشاركة السياسية في أوروبا وتحدي “السقف الزجاجي”

أو: عن المنافذ الضيقة للمشاركة والفجوات بين الشعار والتطبيق

“صحيحٌ أننا نقترع، وأننا نختار ممثلينا في البرلمان من خلال التفويض الذي نعطيهم إياه عبر الأحزاب بصفتنا مواطنين كاملي الحقوق. صحيح أخيراً أنّ الحكومة تأتي من الحجم التمثيليّ للأطراف والتحالفات السياسية التي تفرضها ضرورة قيام أكثرية. كلّ ذلك صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ إمكانات الممارسة الديمقراطية تبدأ هنا وتنتهي هنا”.

هكذا يوجز الكاتب البرتغالي خوزيه ساراموغا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، تقديره للمنافذ الضيقة التي يراها للمشاركة السياسية في واقع الديمقراطيات الغربية. وهو يرى أيضاً أنه “بوسع الناخب إسقاط حكومة لا يرضى عنها واستبدالها بحكومة أخرى، لكنّ تصويته هذا لم يكن له قطّ، ولن يكون له أبداً؛ أيّ تأثير ملموس على القوة الحقيقية الوحيدة التي تحكم العالم وتحكم بلده وشخصه تالياً، قصدت بها بالطبع السلطة الاقتصادية في القطاع متنامي الأهمية، والذي تديره الشركات متعدِّدة الجنسية وفقاً لخطط لا تمت بصلة إلى الخير العام الذي تصبو إليه الديمقراطية من حيث المبدأ”[37].

إنّ مثل هذه التقديرات آخذة بالاتساع في أوساط النخب الأوروبية، في ظلّ الشكوك التي تحوم حول فعّاليّة فرص المشاركة السياسية لعموم المواطنين. وقد عبّرت عن ذلك مؤلّفات ومنتديات عدة، تطرّقت إلى جوانب هذه المعضلة، واقترح بعضُها حلولاً للتعاطي معها، في ما يعبِّر آخرون في مرافعاتهم عن نبرة يائسة، وربما تبدو متطرِّفة أحياناً؛ إزاء مجمل واقع النظام السياسي في البيئات الأوروبيّة.

لكنّ ما يتّصل من هذه المعضلة بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، ينطوي على بُعديْن؛ واحد يشتركون فيه مع نظرائهم في المجتمع العريض، وآخر يتعلّق بخصوصيّتهم لجهة كونهم يتوزّعون على أقلِّيّات غالباً، وما زال طابعهم العام في معظم البلدان الأوروبية الغربية والوسطى مرتبطاً بملمح الهجرة، وإن نشأت أجيالٌ متعاقبة منهم في الأوطان الأوروبية.

ففي السياق العام للواقع في بلدان أوروبا؛ رغم أنّ الأدبيات الديمقراطية التقليدية ترفع شعارات، من قبيل أنّ الديمقراطية هي “حكم الشعب بالشعب للشعب”، وقد اشتُهر ذلك الرأي عن الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن؛ إلاّ أنّ ترجمة ذلك على أرض الواقع تبدو مغايرة ومحفوفة بالتساؤلات. ففي آليات الديمقراطيّة التمثيليّة مثلاً؛ فإنّ الحكم لا يجري “بالشعب”، وإنما بمن يُفترض أنّهم ممثلوه، ولكنّ هؤلاء هم في الواقع أدنى لتمثيل أحزابهم
ـ وربما هم معبِّرون عن جماعات مصالح أيضاً ـ من كونهم ممثِّلين لقطاعات الشعب، في ما لا يبدو من الجائز التسوية بين الأطر الحزبيّة والشعب كإطار عام جامع. ومن جانب آخر؛ فإنّه من المقتضيات العمليّة للديمقراطيّة التمثيلية أنّ “الجمهور هو آخر منبع لاتخاذ القرار السياسيّ”، كما يُلاحِظ عالم الاجتماع السياسي الألماني رالف داريندورف
(Ralf Dahrendorf)[38].

ويدفع ذلك العالم السياسي الألماني هاينريش أوبرْرُويتر (Heinrich Oberreuter)، مثلاً، لأن يفترض أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة يتوجب أن تكون “ديمقراطيّة تواصليّة” (kommunikative Demokratie)، إلاّ أنه يُعرِب في الوقت ذاته عن خشيته من أنّ الصفة التواصلية هذه ضئيلة جداً في واقع الممارسة السياسية، وخاصة في وعي النواب وفي اعتيادية العمل البرلماني[39].

وعلاوة على الإشكاليّات التقليديّة المتعلِّقة بالديمقراطية النيابيّة، أو التمثيليّة؛ فإنّ المجالس النيابية، أو البرلمانات؛ لديها في الواقع فرصٌ محدودة للتغيير السياسيّ بصفة مستقلة عن الحكومة. ولما كانت الحكومة تتشكّل من الحزب، أو ائتلاف الأحزاب، التي تتمتّع بأغلبيّة مقاعد البرلمان؛ فإنّ ذلك يعني أنّ البرلمان مرتبط بدرجة ما بالحكومة، أو هو تابع لها لجهة صناعة القرار، وأنّ فكرة الفصل بين السلطات، أو السلطتين التشريعية والتنفيذية على نحو خاص؛ تبدو هنا موضع شكوك جدية. والواقع أنه “في مجلس العموم البريطاني فإنّ 97 في المائة من المشاريع التي تقدمها الحكومة تُقرّ، ولأعضاء مجلس العموم فترة اثني عشر يوماً لاقتراح مشاريع أنظمة فرعية، وأيام أقل لتعديل أي مشروع نظام. أما البرلمان الفرنسي فينعقد لمدّة أقلّ من نصف العام، ويمنع الدستور الجمعية الوطنية (المجلس الأدنى) من التشريع في بعض الأمور، بينما يستطيع رئيس الوزراء والحكومة التشريع بالمراسيم. باختصار إنّ معظم البرلمانات هي نيابيّة أو تمثيليّة، وهدفها شرعنة قرارات الحكومة لكنّها ليست تشريعية، هم فقط يصادقون على مشاريع النُّظُم المُقدّمة من الوزارات والحكومة، ويساندون المراسيم التنفيذيّة، أو يرفضونها على شكل تصويت على الثقة في الحكومة”[40].

ولذا؛ فليس من فراغ أن تَبَلْوَرَت في عدد من البيئات الأوروبيّة تجاربُ سعى القائمون عليها إلى تلافي ما يرونَه من قصور وثغرات في النظام الديمقراطي القائم على الإنابة. ومن بين هذه التجارب يبدو مثلاً أسلوب “مؤتمرات المواطنين”[41]، أو ما يُسمى في الدانمرك ﺑ “مؤتمرات التوافق”، وهي نماذج تندرج ضمن ما يسمى “الديمقراطية الحوارية”.

أما في السياق الخاص بمسلمي أوروبا؛ فإنّ التصوّرات المُشرِقة التي حملَها المهاجرون المسلمون إلى أوروبا عن “البيئة الديمقراطية” و”أجواء الحرية”، التي سيصادفونها؛ أخذت بالاهتزاز التدريجي في بعض البيئات التي وفدوا إليها. ومع تجذّرهم في هذا الواقع؛ انقَشَعت الهالةُ التي ارتسمت في أذهانهم للواقع السياسي عن تفاصيل معقدة لا تُدرَك بنظرةٍ أفقيّة حالمة. وقد جاءت “صدمة 11/9” لتهزّ شيئاً من القناعات في هذا الجانب لدى قطاعات من مسلمي أوروبا، الذين أخذ بعضهم، وعلى نحو غير مسبوق، يخشى على حقوقه ومكتسباته في بيئة ديمقراطية.

ويعرض الدكتور علي أبو شويمة، مدير المركز الإسلامي في ميلانو ولومبارديا بإيطاليا، لهذا التحوّل الناجم عن الفجوة بين التوقّعات المسبَقة والوقائع الملموسة، في افتتاحيّته لمجلة “الأوروبيّة” التي يرأس تحريرها (كانون الثاني (يناير) 2004)، التي كتب فيها: “لعلّ الكثير ممن جاؤوا إلى الغرب؛ كانت هذه الشعارات (الديمقراطية، الحرية، المساواة، …)، وما تصوّروه من تطبيقات لها في حيِّز الواقع؛ السبب المباشر أو غير المباشر لهجرتهم، ولكن بعد فترة قصيرة يصطدم المهاجر بأنّ الدكتاتورية هناك (في موطنه الأصلي) لا تختلف عن هنا، إلاّ أنّ الأولى دكتاتورية فرد يخدمه نظام مفروض، وهنا (في أوروبا) دكتاتورية نظام يخدمه أفراد. وفي الحالتين إذا كنت خارج “السيستم” (System) ـ النظام القائم أُسساً وفلسفة ـ ؛ فلا حرِّيّة لك ولا ديمقراطية ولا مساواة. وحيث أنّ “السيستم” هنا (في أوروبا) وُضِع بتأثير طبقة مَلَكت المال والإعلام والسياسة والقوّة العسكريّة، أي ملكت كلّ شيء تقريباً كما ملك هناك القائدُ المُلهَمُ والزعيمُ الأوحد؛ فمن حقّ هذا النظام أن ينعَتَك ويجعلك في الدائرة أو خارجها، سواء كانت لك حقوق أو ليس لك حقوق، وسواء كان الظلم عليك مشروعاً أم غير مشروع، وقهرُك جائزٌ أو جائر، وقتلُك حرامٌ أم حلال. بل هو اليوم يرسم لك حياتَك كلّها ويحدِّد لك ما تأكل وما لا يجب عليك أن تأكل، وما تلبس وما لا يجوز لك أن تلبس، لتكون آلةً من الآلات وقطعةً من قطع الشطرنج، ودُميَةً”. ويضيف متابعاً “كما أنه مَرْضِيّ عنك هُناك (البلدان الأصلية) وتُعطَى لك الرشاوى وتُدفَع لك الأتاوات وتُقَلّد المناصب والجاهات، إن صفّقت وتجسّست لصالح النظام حتى على أخيك وأبيك؛ فأنت هنا المعتدل ورجل السلام وتُقَلّد الأوسمة إلى جائزة نوبل إن تبنّيْت الميوعة ونسيْت هويّتك ودُسْتَ على مبادئك. لقد تغيّرت أحوال الطقس في العالم فنَدَر الماء والعُشب لأسراب الطيور والعصافير، وتغيّرت أوروبا وأمريكا فتقلّصت فيها الحرية والديمقراطية والمساواة”[42].

الصعود إلى النخبة ومعايير الاصطفاء:

لإدراك الكيفيّة التي تضيق بها منافذ المشاركة السياسيّة؛ يُستَحسَن الالتفاتُ إلى أنّ التنوّع الذي ينطوي عليه الواقع المجتمعيّ في البلدان الأوروبية؛ لا ينعكس بالدرجة المماثلة من التعدّديّة في ساحة المشاركة المجتمعيّة، في ما تتضاءل بوضوح هذه التعدّديّة في ساحة المشاركة السياسية، وأما المستويات العليا من صنع القرار السياسي فتبدو أكثر تجانساً وأبعد عن أن تكون انعكاساً لواقع التنوّع المجتمعيّ. وفي ظلال هذا الواقع تضطلع فرص الصعود ومعايير الاصطفاء ومؤهلات البروز المجتمعي والسياسي، بأدوار حاسمة في الإبقاء على هذه الحالة، وربما تكريسها.

ويمكن تتبّع بعض مسالك الصعود تلك في مؤسسات التعليم الأكاديمي رفيعة المستوى وباهظة الكلفة التي تلجأ إليها النخب للتحصيل الجامعي، أو تبوّؤ مواقع متقدِّمة في إدارة مؤسسات المال والأعمال والمجموعات والشركات الكبرى التي تمثِّل أحجار الزاوية في الساحة الاقتصادية فضلاً عن التمتّع بحصص من أصولها. وقد تكون “معايير الاصطفاء” مرتبطةً بالإمكانات الاقتصاديّة، أو المقدرات الإعلامية المتاحة تحت التصرّف، في ما أنها كثيراً ما تفرض طابعاً خاصّاً على بعض جوانب الحياة، مثل الكيفية التي يتمّ بموجبها قضاء أوقات الفراغ والمرافق المُختارَة لذلك، وحتى الأماكن المفضّلة لعقد اللقاءات والاجتماعات مع الآخرين. بل وفي بعض الأحيان يكتسب الانتماء العائلي أهمية خاصة في هذا الجانب، في ما تلحق بذلك أبعادٌ أخرى، مثل العلاقات الاجتماعية وارتباطات الزواج والصداقة، وصولاً إلى عضوية منتديات النخب والاشتراك في بعض المؤسسات نافذة التأثير أو قويّة الحضور. ورغم أنّ ذلك لا يمثل معايير ثابتة أو مُطلَقة، علاوة على أنها غير مكتوبة أو منصوص عليها؛ إلاّ أنها ترقى لأن تكون اشتراطاتٍ غير مرئيّة، بل وتمتلك قدرة على تفسير بعض جوانب الارتقاء في مسالك التأثير مجتمعياً وسياسياً، وهو ما يبدو في بعض البيئات الأوروبيّة أوضح منه في أخرى، وضمن تيارات بعينها (المحافظون ويمين الوسط مثلا) أكثر منه في غيرها (كاليسار والخضر والاجتماعيين). ومن المثير أنّ هذه الظاهرة تتجاوز حدود القطر الواحد إلى الإقليم والقارة والعالم، مثل ما يعكسه مثلاً نموذج منتديات اللقاء والتشاور للنافذين والأطراف الأكثر تأثيراً في العالم، كالمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس (سويسرا). ومن هنا؛ لا يكون مفاجِئاً أن يخرج القادة من الساحة السياسيّة إلى ميدان الاقتصاد والأعمال، ليتبوّؤوا مراتب القيادة في أبرز الشركات مثلاً، وبصورة تبدو معاكسة لتوقعات بعض من أنصتوا باهتمام إلى خطابهم السياسي. فبعد تقمّصه لمطالب العاملين مثلاً قد لا يتورّع السياسي ذاته عن تثبيت أقدامه في مربع أرباب العمل وربما في قطيعة صارخة مع ماضيه، لكنّ ذلك قد يكون إيجابياً إذا ما عبّر الشخص ذاته عن المبادئ والمثل الإيجابية في شتى المواقع.

ولا يعني ذلك أنّ الصاعدين في دروب الحياة المجتمعية والسياسية يُتوقّع أن يكونوا من القابعين داخل أروقة النُّخَب بالضرورة؛ لكنّ ذلك قد يلفت الانتباه إلى أنّ الارتقاء في مراتب التأثير تصاحبه في العادة مخاطر من الانفصام أو العزلة عن الواقع التعدّدي في الفضاء المجتمعي، ونشوء مشكلات في التواصل مع ذلك الواقع ومن يَنتمون إليه من خارج أوساط النخب[43]. فعندما تتشكل شبكة من العلاقات مع “النافذين”، قد لا يكون الإبقاء على شبكة العلاقات السابقة خياراً مضموناً، أو حتى مرغوباً ربما من صاحبها.

إنّ هذه المعضلة، التي تتفاوت في حضورها بين بيئة أوروبيّة وأخرى؛ تنطوي على تحدّ غير يسير بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا، لجهة فرصه في المشاركة الفاعلة في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة. فمسلمو أوروبا لا يتمتعون حتى الآن بفرص ذات شأن في الحضور الملموس ضمن دوائر النخب، خاصة في غربي أوروبا ووسطها، حتى مع وجود نسبة ملحوظة من المسلمين في بعض القطاعات المهنيّة المرموقة نسبياً كالأطباء والمهندسين مثلاً، في عديد البلدان الأوروبية. ويمكن اعتبار القوائم والإصدارات المخصّصة للتعريف بالشخصيات البارزة في شتى المجالات في بلدان أوروبا، والمعروفة باسم (Who’s Who)؛ شاهداً قوياً على ذلك، وهي التي تبرهن على أنّ حضور المسلمين الضعيف للغاية ضمن هذه التصنيفات، وربما غيابهم عنها تقريباً؛ لا يتناسب بأي حال مع نسبتهم العددية في المجتمع[44].

وعندما تضيق منافذ تلك المشاركة كلما اقتربت من دوائر من يُوصَفون ﺑ “النافذين”، مجتمعيّاً وسياسيّاً؛ لا تتفاقم مشاقُّ العبور إلى تلك الدوائر وحسب؛ بل وتتزايد احتمالاتُ اهتراء عرى التواصل بين الوجود المسلم في المجتمع والمعبِّرين عنه داخل هذه الأوساط، وبالتالي نشوء شكوك جدية بشأن مدى تمثيلهم لمصالح المسلمين وهمومهم وتطلعاتهم فيها، طالما أنهم أصبحوا مصنّفين ضمن من يُعرَفون ﺑ “الشخصيات الأكثر أهمية” (VIP).

ولعلّ ذلك يلفت الانتباه إلى أحد الأدوار الأدبيّة التي يُستَحسن بالمشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي أوروبا أن تأخذها على عاتقها، ألا وهو الإسهام في ردم الفجوات التي تفصل النُّخَب عن الواقع، خاصّة من خلال الحرص على نهج “القرب من المواطنين” وتَمَثُّلِه وتأكيده بصورة رشيدة من قبل الفاعلين المجتمعيِّين والسياسيِّين المسلمين وشركائِهم، وهو مطلبٌ يتواءَم على أي حال مع القيم والتوجيهات الإسلاميّة في هذا المجال، كما يتضح مثلاً في سورة “عَبَس”، وكما في محطات عدّة من سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ذاتها.

تحفيز المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ من المسؤول؟

في مواجهة الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا؛ ينبغي التفتيش عن الأدوار الرامية لتحفيز المشاركة وتذليل العوائق المصادَفة في طريقها.

ومن القسط، ابتداءً، التنبيه إلى إنّ تحفيز المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أو لأيّة أقلِّيّة كانت على نحو عام، هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأطراف الفاعلة، مؤسسات وقيادات، في نطاق الأقلِّيّة ذاتها، من جانب؛ وعلى عاتق الأطراف الممسكة بزمام النظام السياسي في البيئة المعنيّة، أي في الدول الأوروبية والنطاق الأوروبي العام، من جانب آخر، علاوة على مجمل الفضاء المجتمعي من منطلق الشراكة والتعاون والتفاعل المتبادل المثمر.

فمن غير الجائز تحميل الأقلِّيّات وحدها المسؤولية عن تحفيز مشاركتها السياسية، كأن يُكتَفَى بالقول إنّ على مسلمي هذا البلد الأوروبي أو ذاك أن يتدبّروا أمرهم وأنهم يتحمّلون المسؤوليّة الكاملة عن نجاحهم في الحضور في الساحة السياسيّة أو عن إخفاقهم فيه. ذلك أنّ النظام السياسيّ مُطالَبٌ هو الآخر بأن يُعِين القطاعات المجتمعيّة، وأن يشجِّع الأقليات؛ على المساهمة في الشأن السياسيّ، والشؤون المجتمعيّة ككلّ. ومن المؤسف أن تُسمع بعض الملاحظات، التي تكاد تُحَمِّل المسلمين حصراً، في بلد أوروبيّ أو غيره، المسؤوليّةَ عن إخفاقٍ مُفترَض في مشاركتهم السياسيّة أو حتى المجتمعيّة، وأحياناً يعزى ذلك إلى خصوصيتهم الثقافيّة و/أو الدينيّة.

وقد تُسمَع ملاحظاتٌ كهذه في أوساط المسلمين، كما في أوساط غيرهم، كما قد يجد المرء مثلاً في بعض الشكاوى المألوفة التي تنعى على مسلمي بلدٍ ما “لا مبالاتهم” و”عدم اكتراثهم” بمطلب المشاركة السياسيّة، دون النظر إلى مجمل العوامل ذات الصلة والتأثير التي تتطلّب إدراكاً ومعالجة. وهنا؛ سرعان ما يُستدرَج النقدُ الذاتيّ إلى ضروبٍ من جَلْد الذات، وتشديد النكير عليها، مع عدم التوجّه للأخذ بالأسباب وتذليل العراقيل أو العوائق والمصاعب التي قد تفترش سبل المشاركة السياسيّة، وهي السبل التي قد تكون بحدِّ ذاتها ضيِّقةً وغير مُهيّأةٍ لاستيعاب مشاركة المسلمين أو الأقلّيّات. وبالمقابل؛ فقد تأتي هذه الملاحظات في سياقات مغايرة، كأن تعمد بعض الأطراف المؤثِّرة في النظام السياسيّ إلى محاولة إعفاء ذاتها من المسؤوليّة عن تحفيز تلك المشاركة، وتبرير تقاعسها عن مدّ الجسور. ويمكن العثور على ما يتعلّق بذلك في سياق مواقف بعض المسؤولين السياسيين وتصريحاتهم التي تكاد تحمِّل المسلمين مثلاً المسؤولية الكاملة عن الاندماج في المجتمع، مع غضّ الطرف عن الأدوار المنتظرة من المؤسسة السياسيّة لتيسير هذه المهمة وإنجاحها.

ورغم الإقرار بأنّ قَدْراً، وقد يكون وافراً وأساسيّاً، يقع على عاتق خاصّة الوجود المسلم، مؤسسات ومسؤولين وقادة رأي، وعامّته، من قطاعات الجمهور؛ من المسؤوليّة عن إخفاق مُفتَرَض في ما يتعلّق بالمشاركة السياسيّة للمسلمين؛ إلاّ أنّ هذه المسؤوليّة لن تكون مُطلَقةً بحال. فلا يمكن إعفاء الأطراف المسؤولة والفاعلة في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة من قسط منها لا يمكن التهوين من شأنه.

فهل بالوسع حقّاً إعفاء المنظومة التشريعيّة من مسؤوليّة تحفيز المشاركة السياسيّة، مثلاً عندما تحرم القوانين المعمول بها في معظم البلدان الأوروبية من يقيمون فيها من البشر حتى من حق التصويت السلبيّ (الاقتراع دون الترشح) في الانتخابات البلديّة، رغم أنهم واقعون ضمن نطاق المعنيِّين بصنع القرار في المستويات المحلِّيّة؟ وهل بالإمكان إنكار أثر العراقيل التي تضعها بعض الدول الأوروبيّة في حصول المقيمين فيها على المواطنة (الجنسيّة)؛ على تفاعلهم مع الشأن السياسيّ أو حتى المجتمعيّ؟ وتنسحب ملاحظات كهذه على ما يتّصل بالمتضرِّرين من مسبِّبات عدة، مثل القوانين الصارمة المتعلِّقة بالإقامة (التي تتحمل قسطاً من المسؤولية عن الظاهرة المعروفة ﺑ “بلا أوراق” (sans-papiers) والمتفاقمة في بعض بلدان أوروبا) أو سوق العمل الذي يشهد بعض المشكلات والمفارقات في استيعاب المسلمين أو الأقلّيات، لأسباب قانونيّة وإجرائيّة وتطبيقيّة.

وفي كلّ الأحوال؛ لا يصحّ غضّ الطرف عن مسؤولية النظام السياسيّ بمكوِّناته؛ في ما يتعلّق بتحفيز المشاركة السياسيّة لمسلمي بلد أوروبي ما أو تثبيطها. ولا يغيب عن الأنظار هنا؛ أنّ تعزيز المشاركة السياسية لعامة المواطنين من الأهداف التي تسعى إليها أجهزة متخصِّصة في بعض بلدان أوروبا[45].

وقد رصد بعض باحثي العلوم السياسية مشكلة عجز نظام سياسيّ معيّن عن استيعاب مشاركة فئات مجتمعية ما في نطاقه، وهو ما عبّرت عنه مثلاً لجنة السياسات المقارنة، بمجلس أبحاث العلوم الاجتماعية بالولايات المتحدة الأمريكية[46]، بوصف “أزمة المشاركة”، والتي تتعلّق بمشاركة مجموعات مجتمعيّة جديدة، أو مُستَبعدة في ما سبق من المشاركة، في تشكيل الإرادات السياسيّة ضمن نظام ما. في ما جرى أيضاً تحديد ما سُمِّي ﺑ “أزمة التوزيع”، التي تمسّ التوزيع الأمثل للمجموعات المهمّشة على الثراء المجتمعيّ[47].

ومن بين ما يجدر الاكتراث به في هذا السياق؛ أنّ تحفيز المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة للمسلمين، أو لأية أقلِّيّة أو مجموعة مجتمعيّة كانت؛ ليس بالأمر المتعلِّق ﺑ “النوايا الحسنة” أو بمجرد مراعاة التوجّهات الإيجابيّة كتكافؤ الفرص في المجتمع الواحد وحسب، كما قد يتصّور المرء؛ بل إنّ ذلك ينبغي أن ينهض أساساً على أرضيّة الوعي بجدوى تلك المشاركة ومردوداتها بشأن تعزيز التعايش المثمر بين مكوِّنات المجتمع العريض، وانطلاقاً من الحذر من ما قد يترتّب على انسداد منافذ المشاركة من حالات احتقان أو أزمات مؤهّلة لأن تتفاعل وتتفاقم بما لا يخدم السلم المجتمعيّ. “فالسؤال الرئيس هو ما إذا كان النظام السياسي مرناً بما فيه الكفاية للتكيّف مع التغيّرات المجتمعيّة، من خلال تحقيق تمنِّيات القوى المجتمعية الجديدة واحتوائها في البنية الحكوميّة. إنّ القوى الجديدة التي لا تتحقّق لها المشاركة تمثِّل سبباً حقيقياً للتوتر المجتمعي، إذا لم يكن للانفجار والثورة”[48].

وتساوقاً مع ذلك؛ يُعرب “المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب” (EUMC) عن اعتقاده بأنّ دول الاتحاد الأوروبي “بحاجة لأن تطوِّر السياسات الرامية للتوصل إلى المساواة واللاتفرقة بالنسبة للجاليات المسلمة وأن تعزِّز تلك السياسات وتقوِّمها، وخاصة في حقول التشغيل والتعليم والحصول على السلع والخدمات”. ويقول المركز إنه “يشجِّع مبادرات الفعل الإيجابية الساعية لابتكار بيئة تتيح للجاليات المسلمة المتعددة في أوروبا المشاركة الكاملة في المجتمع العريض”[49].

ولكن، لا ينبغي لتأكيد المسؤولية الجزئية للنظام السياسيّ بمتعلّقاته عن تحفيز المشاركة السياسيّة للمسلمين في البلد المعنيّ؛ أن يدفع إلى التملّص من المسؤوليّة الذاتيّة بهذا الشأن الملقاة على عاتق الوجود المسلم. بل يمكن القول؛ إنّ إحدى المهامّ المنتظرة من المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة للمسلمين؛ هي السعي لتذليل الصعوبات أو ربما العراقيل التي تعيق هذه المشاركة، وهي مهمّة لا غنى عنها، وقد تمثِّل بحدّ ذاتها إحدى الأولويّات الجوهريّة الملقاة على عاتق تلك المشاركة.


 

الفصل الثالث:

مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية

 

 

  • في البدء كان الحلم ـ آمال المشاركة السياسية الفاعلة
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات مؤيدة بوضوح للمشاركة السياسية
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات لا تعارض المشاركة السياسية لكنها تتردّد في الإقدام عليها
  • مواقف مسلمي أوروبا: فئات معارضة بوضوح للمشاركة السياسية أو لصورها المباشرة على الأقل


 

في البدء كان الحلم ـ آمال المشاركة السياسية الفاعلة:

اتسعت تطلّعات مسلمي أوروبا لمساحة من الحلم بمشاركة فاعلة لهم، سياسياً ومجتمعياً، في البيئة التي تكتنفهم. وقد عبّر عن ذلك فيضٌ من الآمال التي جرى الإفصاح عنها، والتي جاءت غالباً في ثنايا الخطاب الاستنهاضي للحضور المسلم في أوروبا.

وبغضّ النظر عن واقعيّة المضامين التي حملتها تلك الآمال؛ فإنّها عبّرت في الأساس عن إرادة النهوض، أو توجّه الاستنهاض، وكانت تشي بعدم الرضا عن واقعٍ مؤسِفٍ من الهامشيّة السياسيّة والمجتمعيّة.

فقد شكّلت المشاركةُ الفاعلة همّاً شاغلاً لقطاعات من مسلمي أوروبا، أو بتعبير الدكتور عبد المجيد النجار؛ “أصبح المسلمون في الغرب يعيشون يوماً بعد يوم همّ التواصل الحضاري بينهم كمسلمين وبين المجتمع الذي يعيشون فيه مكوّناً في أغلبه من غير المسلمين، فقد تجاوزوا منذ بعض الزمن أن يكون وجودهم في هذا المجتمع وجوداً هامشياً باعتبار أنه ظرفيّ طارئ سينتهي يوماً بعودتهم إلى البلاد التي هاجروا منها، وأصبحوا ينطلقون في ارتياد آفاق المستقبل من اعتبار أنفسهم مواطنين في البلاد التي هم فيها، يمثِّلون مكوِّناً أساسيّاً من مكوِّنات المجتمع الذي يعيشون فيه، فعليهم أن يؤدُّوا واجباتهم إزاءه، وأن ينتفعوا بحقوقهم منه مثل سائر المواطنين المنتسبين إليه. وهذا الهمّ الذي أصبح يحمله المسلمون في الغرب؛ أفضى بهم إلى أن يرتقوا في تصوّر المستقبل إلى التفكير بالكيفيات التي يمكن بها أن يقوموا بالدور الجديد المطلوب منهم، وهو دور المشاركة في المسيرة الحضارية للمجتمع الغربي مشاركة أخذ وعطاء، وهم واعون بأنهم كما هم في حاجة إلى أن يتعلّموا من الغرب الكثير من أنماط التحضّر فإنهم بإسلامهم قادرون أيضاً على أن يكون لهم عطاء حضاريّ من القيم الأخلاقيّة والثقافيّة والبيئيّة، فيكون تفاعلهم إذن مع أوطانهم الجديدة تفاعلاً إيجابياً يحمل إضافةً يُسهمون بها في مسيرة التحضّر في تلك الأوطان” الغربية[50].

وفي الفضاء الفسيح لهمّ المشاركة ذاك؛ انطلقت أصواتٌ عدّة للحثّ على حضور فاعل للمسلمين في الساحة السياسية. ففي طرح له يعود إلى مطلع تسعينيات القرن العشرين؛ رأى الناشر عبد الحليم خفاجي، المقيم في ميونيخ، أنّ “هدف الدعاة (المسلمين) في أوروبا” ينبغي أن يتراوح بين حدّين أدنى وأعلى، ويحدِّد الحدّ الأعلى بقوله “أن يتحقّق في المستقبل لا مجرد انتشار الإسلام في أوروبا، ولا مجرد قيام جمعيات أوروبية؛ بل أن نتطلع إلى اليوم الذي يتكوّن فيه في كل بلد أوروبيّ حزب إسلاميّ من أبنائه يكون له حق المشاركة في الحياة السياسية”[51].

أما عبد الكريم الداودية، وهو شخصية معروفة في ساحة مسلمي بلجيكا؛ فيشدّد على أنّ المشاركة في الانتخابات هي “مجال ذو أهمية ومن الخطورة بمكان، يُعتبر الغائب عنه في عداد الأموات وغير جدير بالحياة”. وهو يلفت الانتباه إلى أنّ “الانتخابات ورقة وأيّ ورقة، لطالما رفعت أقواماً كانوا في الحضيض، ووضعت أقواماً كانوا في القمّة، (…) من ثمّ لا بد وأن تكون لنا (المسلمون في أوروبا) فيها مشاركة وحضور، والمهم في الموضوع، بعد أن اقتنعنا بأهميته وجدواه؛ أن نعرف لمن نعطي أصواتنا وكيف؟ فهناك أحزاب لها أهداف قريبة من أهدافنا، ويوجد بيننا وبينها قواسم مشتركة في بعض النقاط، بينما هناك أحزاب أخرى هي على النقيض من ذلك تماماً، فلنَخْتَر الحزب القريب منّا ولنتحاور معه على قاعدة: خُذ وهاتِ وأعطني أعطيك، فكما أنّه يحتاج إلى أصواتنا؛ فنحن أيضاً محتاجون إليه في تحقيق مصالحنا، وإنّ التصويتَ الأبيض (الأوراق اللاغية) ظاهرة مَرَضية ينبغي أن نعمل على علاجها”[52].

ومن الواضح أنّ التطلّعات إلى مشاركة سياسية فاعلة؛ كانت على الجانب الغربي من المحيط أسبق نسبياً، فقد قال الكاتب محيي الدين عطية في عام 1991، موجِّهاً حديثه إلى قيادات مسلمة بارزة مقيمة في الولايات المتحدة آنذاك؛ “إنّ تقويم أدائنا هنا، في ما أرى، ليس كم دولاراً أرسلناه إلى مجاهدي أفغانستان (ضد الاحتلال السوفياتي السابق)؛ وإنما كم لقاء أجريناه مع رجال الكونغرس الأمريكي للتأثير على الإدارة الأمريكية في موقفها من أفغانستان. إنّ قياس عملنا هنا ليس كم بحثاً قدّمناه (في ندوات) عن قضية التعامل مع الحكومات (في العالم الإسلامي)؛ وإنما كم ندوة عقدناها لبحث قضية إسهام المسلم الأمريكي في القرار الأمريكي. إنّ تقويم أدائنا هنا ليس كم داعية استقدمناه من العالم الإسلامي ليطوف الولايات المتحدة مُرشداً وناصحاً؛ وإنما كم من مسلم أمريكي أوفدناه إلى العالم الإسلامي يطوف بلدانه ناقلاً إليها أفضل ما أفرزته حضارة الغرب أخذاً بالأسباب. إنّ معيار نجاحنا هنا ليس كم دراسة قدّمناها لحلّ إشكالية التناقض بين السنّة والشيعة في العراق، ولا لبحث المصالحات بين الإسلاميين والقوميين في لبنان، ولا لفتح القنوات بين المودوديِّين والنّدْوِيِّين في القارّة الهندية؛ وإنما كم دراسة قدّمناها تستهدف بناء الجسور بين الجزر الإسلامية في الساحة الأمريكية؛ كجزيرة البلاليِّين، وجزيرة الباكستانيين، وجزيرة العرب”[53].

ولم تقتصر آمال النهوض بالمشاركة على بعض المسلمين؛ بل وتجاوزتهم إلى غيرهم ممن رصدوا غياباً مسلماً واضحاً عن الساحة السياسية، بل وعن العديد من مسارات الفعل المجتمعي الأخرى. وفي خلفيّة ذلك؛ كثيراً ما ساد الإدراكُ بأنّ العبور إلى المستقبل بمجتمع متماسك؛ إنما يقتضي تعزيزَ فِعلِ المشاركة لدى كافّة مكوِّناته، خاصة وأنّ “مشاركة المنظمات المسلمة في الحياة المجتمعيّة والسياسيّة هامّة من أجل التماسك المجتمعيّ”[54].

وفي العام 2001 مثلاً؛ أكدت روزماري سيمان، رئيسة اللجنة الاتحادية السويسرية المختصّة بالأجانب، أهمية تحفيز المشاركة السياسية للمسلمين في الواقع السويسري، متعهدة بأنها يوم أن تطأ قدم شخص مسلم البرلمان السويسري لشغل مقعد نيابيّ فيه؛ فسوف تستقبله بالزهور. وتنادي هذه المسؤولة بضرورة أن يكون هناك “وسطاء” من السويسريِّين المسلمين، يكون لهم دور بارز في التعبير عن وجهات نظر المسلمين في الاتحاد السويسري، معربة عن أسفها من ما رأته من عزلة المسلمين عن القرارات والنشاطات السياسية[55].

ومع وفرة هذه المواقف وما يشبها، وفي ظلال التطلّع إلى المشاركة السياسيّة الفاعلة وتنامي الخطاب الاستنهاضي الذي يحثّ عليه؛ أخذت مواقف مسلمي أوروبا من تلك المشاركة تتفاعل وتتشكّل، لتكتسب ملامحها التي هي عليها اليوم.

مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية:

يمكن تصنيف مواقف مسلمي أوروبا، مؤسّسات وتجمّعات وقادة رأي وشخصِّيات عامة، من المشاركة السياسية؛ ضمن فئات عدة، تتوزّع إجمالاً بين خانات “المؤيِّدين” و”المتردِّدين” و”المعارضين”. لكنّ التيار الرئيس (mainstream) المسلم في أوروبا، المعبِّر إجمالاً عن الوجود المسلم، يؤيد فكرة المشاركة السياسية بلا مواربة، بل يرى أهميتها وربما قال بعض قياداته بوجوبها أو ما فوق ذلك، حتى مع وجود بعض التقديرات المترددة في الإقدام على المشاركة الفعلية. ومع هذا؛ فإنّ ساحة مسلمي أوروبا اتّسعت لمواقف أخرى من تلك المشاركة، تحفظت عليها وربما قالت بحرمتها، وهي مواقف بقيت إجمالاً في هامش الساحة المجتمعية المسلمة في هذه القارة.

ومع التمايز بين الفئات؛ فإنّ في كل جانب منها أطيافٌ من التنوّع والتباين الضمنيّ في بعض الحيثيات والحجج أو في مدى الحماسة لهذا الموقف أو ذاك، أو حتى في ما يتّصل بإمكانية إيراد تحفّظات أو ضوابط أو “خيارات بديلة”.

وإجمالاً؛ يتّضح بشكل جليّ، أنّ الحضور المسلم في أوروبا يميل للمضيّ في نهج المشاركة السياسية والمجتمعية، ومعه معظم المؤسسات الإسلامية وقادة الرأي المسلم والأئمة. والحديث هنا هو عن المواقف التي تنطلق أساساً من المرجعية الإسلامية أو تحاول أن تنسجم معها. ولا ينفي ذلك أنّ أطوار التشكّل التي اجتازتها الأقليات المسلمة أو ما زالت تشهدها لا تجعل مطلب المشاركة السياسية في مقدمة الأولويات التي تحددها لنفسها في هذه المرحلة أو تلك.

وفي ما يلي عرضٌ لمواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية؛ التي يمكن تصنيفها ضمن فئات مؤيِّدة بوضوح للمشاركة السياسية، وأخرى لا تعارضها لكنها تتردّد في الإقدام عليها، وثالثة تعارضها بوضوح أو ترفض بعض صور المشاركة المباشرة السياسية على الأقل.

أولاً/ فئات مؤيدة بوضوح للمشاركة السياسية:

يمثِّل “ميثاق المسلمين في أوروبا” (Muslims of Europe Charter) النموذج الأبرز على أنّ الحضور المسلم في أوروبا يميل في معظمه للمضيّ في نهج المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، ومعه معظم المؤسسات الإسلامية وقادة الرأي المسلم والأئمة، والحديث هنا هو عن المواقف التي تنطلق أساساً من المرجعية الإسلامية، خاصة وأنّ هذا الميثاق مُعتَمد من قبل مئات المؤسسات الإسلامية في عموم القارة الأوروبية، بما فيها كبريات المنظمات على الصعيد الأوروبي المركزي، والتي تدير المئات، بل آلاف، المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية في أرجاء القارّة.

فحسب ما ورد في مقدِّمة ميثاق المسلمين في أوروبا؛ فإنه منذ مطلع سنة 2000، تداول “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” (FIOE)، لوضع ميثاق للمسلمين في أوروبا، يحدِّد منطلقات عامة للفهم الإسلامي، ويبيِّن قواعد لاندماج المسلمين في المجتمع في إطار المواطنة. وقد شكّل الاتحاد لجنة لإعداد المشروع، الذي تمّت مناقشته في مؤسّساته القيادية، ثم عُرِض المشروعُ على العديد من الهيئات الإسلامية الأوروبية، التي اجتمع مندوبون عنها في ندوة جامعة بمدينة بروكسل في كانون الثاني (يناير) 2002، ثم وقع تعميم المشروع على أكبر عدد ممكن من المؤسسات الإسلامية الأوروبية التي لم يتيسّر لها حضور ندوة بروكسل لإبداء ملاحظاتها واقتراحاتها. وبعد اعتماد التعديلات وإدراجها، تم التوصل إلى الصيغة النهائية للميثاق بصورته الحاضرة، ووقّعت عليه مؤسسات في 28 قطراً أوروبياً، في ما ظلّ التوقيع على الميثاق مفتوحاً لكل المؤسسات التي تقرِّر اعتماده.

وقد أيّد “ميثاق المسلمين في أوروبا” فكرةَ المشاركةَ السياسية، فضلاً عن المشاركة المجتمعية. ففي ما يتعلّق بالمشاركة السياسية؛ نصّت المادة 21 من الميثاق على أنّ “المسلمين في أوروبا مدعوّون للانخراط في الشأن السياسي العام من منطلق المواطنة الفاعلة، إذ أنّ من أهم مقتضيات المواطنة الصالحة؛ المشاركة السياسية بدءاً من الإدلاء بالتصويت في الانتخابات إلى التعاطي مع الهيئات السياسية، ومما يشجِّع على ذلك انفتاح هذه الهيئات على جميع أفراد المجتمع وفئاته، انفتاحاً يستوعب جميع الطاقات والأفكار”.

ويرى الميثاق ذاته دوراً للمسلمين في تعزيز عملية الوحدة الأوروبية، فقد ورد في مادته 26 ما يلي “إنّ المسلمين في أوروبا من خلال رصيدهم الدينيّ والثقافيّ، ومن خلال وجودهم في مختلف البلاد الأوروبية؛ يشكِّلون عامل دعم لجهود التقارب في إطار الوحدة الأوروبية، مما يجعل من أوروبا قطباً حضارياً هاماً، قادراً بما يحمله من مكوِّنات دينية وثقافية متنوِّعة، على القيام بدور التوازن في العالم”.

وفي ما يندرج في نطاق المشاركة المجتمعية، أو ما يتّصل إلى حدٍّ ما بالمشاركة السياسية غير المباشرة، وردت موادّ عدّة في الميثاق، مثل المادة 17، التي نصّت على أنّ “المسلمين في أوروبا يحترمون القوانين والسلطات القائمة عليها، ولا يمنعهم ذلك، ضمن ما هو مكفول لجميع المواطنين، من الدفاع عن حقوقهم والتعبير عن آرائهم ومواقفهم أفراداً ومجموعات، وذلك في ما هو عائد إلى شؤونهم الخاصة كفئة دينية، أو في ما يتعلّق بالشأن العام كمواطنين، وإنّ ما قد يعرُض من تباين بين ما تقتضيه بعض القوانين وما يتّصل بجوانب دينية خاصة؛ فللمسلمين أن يتوجّهوا إلى الجهات المعنية لمراعاة احتياجاتهم والوصول إلى الحلول المناسبة”.

وقد نصّت المادة 19، على أنّ “المسلمين في أوروبا بصفتهم مواطنين أوروبيِّين، يعتبرون أنّ من واجبهم أن يعملوا من أجل الصالح العام، وأن يكون حرصُهم على أداء واجباتهم كحرصِهم على المطالبة بحقوقهم. وإنّ من مقتضيات الفهم الإسلامي السليم؛ أن يكون المسلمُ مواطناً فاعلاً في الحياة الاجتماعية، منتجاً ومبادراً وساعياً لنفع غيره”.

وقد نصّت المادة 20، على أنّ “المسلمين مدعوّون إلى الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم، اندماجاً يقوم على التوازن بين الحفاظ على هويتهم الدينية ومقتضيات المواطنة، وإنّ كلّ اندماج لا يعترف بحقّ المسلمين في الحفاظ على شخصيّتهم الإسلاميّة وحقهم في أدائهم لواجباتهم الدينية؛ لا يخدم في حقيقة الأمر مصلحةَ المسلمين ولا مصلحةَ مجتمعاتهم الأوروبية التي ينتمون إليها”.

وعلى نحو أعمّ؛ فإنّ “ميثاق المسلمين في أوروبا”، يؤكِّد في مادته 24 أنّ “الإسلام بما يملكه من رصيد للقيم الإنسانية والتجارب الحضارية، يمكنه أن يساهم عبر الوجود الإسلامي الأوروبي في دعم مكانة القيم العامة التي تخدم مجتمعاتنا المعاصرة، كقيم العدل والحرية والإخاء والمساواة والتكافل، وتأكيد البُعد الإنساني والأخلاقي في المجال الاجتماعي وفي مجال التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، وإنّ في هذا الإسهام من الإثراء النافع ما تعود فائدته على الجميع”[56].

أما بالنسبة للوجود المسلم في الأقطار والأقاليم الأوروبية؛ فيمكن التوقف عند عدد من الشواهد على سبيل المثال، لا الحصر، كما بالنسبة لواحدة من أبرز المؤسسات الإسلامية الجامعة في اسكندنافيا، وهي “الرابطة الإسلامية في السويد”. فحسب تعريفها لذاتها، ورد في نشرة تحمل عنوان “من هي الرابطة الإسلامية في السويد”، ما يلي: “تُعتبر الرابطة الإسلامية في السويد إحدى المؤسسات الإسلامية العاملة في الساحة السويدية، ولها علاقات واسعة بمختلف الدول الاسكندنافية. تقوم الرابطة على مجموعة من المبادئ هي من صميم الإسلام، وتجسِّد روحه بين الجالية المسلمة والمجتمع الذي نعيش فيه بعيداً عن الإفراط والتفريط”.

وقد جاء في النشرة ذاتها، التي يُقدَّر تاريخُ صدورها بعام 1999 أو قبل ذلك (بلا تاريخ)، ما يلي ضمن “موقف الرابطة من مختلف القضايا”: “العمل السياسي: هناك جدل (في أوساط مسلمي السويد) حول ولوج العمل السياسي من خلال المشاركة السياسية سواء بالبلديات أو البرلمان (بالسويد). وهكذا؛ فقد انقسم الناس إلى مؤيِّدٍ ومعارض وكلّ له دليله. وبعد دراسة لهذا الموضوع واستشارة أهل العلم والمشورة من العلماء كأمثال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وغيره؛ فقد استقرّ رأي الرابطة على ضرورة المشاركة السياسية لخدمة الإسلام والجالية المسلمة والمجتمع الذي نعيش فيه بما يُرضي الله عزّ وجل”.

كما تتبنّى “الرابطة الإسلامية في السويد”، خيارَ المشاركةِ المجتمعيّة بوضوح، وقد عبّرت عن ذلك في النشرة التعريفية ذاتها، فقد جاء فيها مثلاً أنّ “المسلم مُطالََبٌ بواجباته تجاه المجتمع، سواء الماديّة منها أو المعنويّة، كالالتزام بالقانون والعمل ضمن مؤسسات الدولة في ما لا يتعارض مع الإسلام. كما أنّ الواجب الشرعي يملي علينا كمسلمين أن نكون إيجابيِّين تجاه المجتمع الاسكندنافي، وأن نُساهم مساهمة فعّالة في إصلاحه وألاّ نتحوّل إلى مجموعة من المستهلِكين”.

وفي موضع آخر من النشرة؛ يجري تأكيد قيمة الحوار، وذلك عبر توضيح أنّ “المجتمع السويدي مجتمعٌ متعدِّدُ الثقافات. والإسلام بفضل الله قد أصبح جزءاً من هذا المجتمع، وإحدى الثقافات التي أصبحت تأخذ طريقها إلى مختلف المؤسسات والهيئات والمنتديات. وإننا كمسلمين مسؤولون عن دمج الإسلام في المجتمع حتى يتبوّأ المكانة اللائقة به، وليساهم مساهمة فعّالة في خدمة المجتمع ككل (…)”[57].

أما بالنسبة للمسلمين في فرنسا؛ فيرى رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (l’UOIF)، الحاج التهامي إبريز، أنّ على مسلمي فرنسا “أن يكون لهم تواجد فعّال في كلّ المحافل، عن طريق تأهيل النخبة ثم المشاركة في الانتخابات، ويأتي ذلك ضمن الاندماج العام في كلّ الأحزاب السياسية”[58].

ومن جانبه؛ يشير المفكر الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان، إلى جدوى المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة للمسلمين بقوله “من المفيد أيضاً الانخراط في الجمعيات والأحزاب من أجل أن تكون تصوّرات المسلمين ووجهات نظرهم مسموعةً، ويجب عدم الخوف من الاتصال بغير المسلمين، لأنّ هذا هو جوهر الدعوة”. كما يدعو هوفمان إلى انتشار المسلمين في المجالات التنفيذية والإدارية والقانونية، إذ يقول “يجب أن تصنع الجاليات المسلمة (في أوروبا) محامين وقضاة، وأكبر عدد من الموظفين في البيروقراطيات المحلية والجهوية (الإقليمية)”[59].

كما يحثّ الدكتور أحمد جاء بالله، مدير الكلية الأوروبية للدراسات الإنسانية بباريس، على المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الحياة السياسية، بقوله “لا يمكن أن يكون حظّنا من الحياة السياسية هو حظّ المتفرِّج المراقب الذي يسجِّل مواقف هذا الحزب أو ذاك، أو يعلِّق بسلبية على سياسات الحكومة في هذا المجال أو ذاك، وإنما يجب أن يكون في دور المشارك الفاعل المتفاعل الذي تحرِّكه دوافع الخير للجميع والحرص على المصلحة العامة”[60].

وينادي الدكتور طارق رمضان بضرورة سعي مسلمي أوروبا إلى المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة على كافة المستويات، فيقول “يتوجّب على المسلمين أن يَهتمّوا بتاريخ البلد الذي يعيشون فيه، وبكيفيّة عمل المؤسّسات، وبالمشاركة بصفة المواطن في كافة مستويات المجتمع من المستوى المحليّ فالجهويّ فالوطنيّ. ويسري ذلك على تطوير الوعي بصفة المواطن”[61].

ويقول عضو البرلمان المحلي بفيينا، عمر الراوي، “الشيء المهمّ الذي يجب أن يعلمه المسلمون، أو أيّة أقلية، أنّ هناك قراراً يُصنَع، والقافلة تسير. وإن كان هناك مجال قريب عليك؛ ليكن في علمك ولتكن على يقين بأنك إن لم تشغل هذا المكان فسيشغله غيرك. يعني إذا كان هناك ملعب للأطفال بجانب بَيْتِك، ولم يذهب أولادُك إليه، فلن يبقى فارغاً، فسيلعب أولادٌ آخرون فيه. والقرار سيسير، وهو يهمّك كإنسان وكأقليّة، فإن لم تشارك سيشارك غيرك”[62].

كما تعكس مواقف كثير من المؤسسات الإسلامية في أوروبا تأكيداً لفكرة المشاركة المجتمعية الفاعلة، وبما يلحق بها من المشاركة السياسية المباشرة أو غير المباشرة.

فمثلاً تحدِّد “أمانة معاذ الخيرية” ببرمنغهام (بريطانيا) إحدى أولوياتها ﺑ “الالتزام، قدر الإمكان، بمبدأ المشاركة والتعاون عند القيام بمعظم الأنشطة والخدمات والمشاريع، مع مؤسسات المجتمع المختلفة، الرسميّ منها والشعبيّ، وذلك لسبيين رئيسين: الأوّل: تثبيت وتشجيع مبدأ التواصل والتفاهم والتعاون على الخير الذي يرسٍّخ واقع المسلمين كجزء لا يتجزأ من المجتمع البريطاني. الثاني: أبناء المسلمين، كغيرهم من أفراد المجتمع، لهم حقوق وصلاحيات لا يجوز تركها أو التخلِّي عنها، خاصة وأنّ المؤسسات الطوعية الخيرية
ـ كأمانة معاذ ـ لا يمكن أن تكون لها الإمكانيات الكافية للقيام بأي مشاريع كبيرة أو خدمات متميِّزة دون الاستعانة بالمؤسسات الأخرى والمشاركة معها”[63].

وفي ما يتعلّق بالمشاركة المجتمعيّة؛ فقد قرّر مؤتمر جمع عدداً من الأئمة ومسؤولي المراكز الإسلامية في أوروبا، التأم في مدينة غراتس (Graz) النمساوية في عام 2003، أنّ “المشاركة الفعّالة وتحمّل المسؤولية في كل مجالات الحياة؛ هو مبدأ إسلامي أصيل يثري التعايش المشترك في عالم يقوم على التعدّدية”. وفي ما يتعلّق بالتواصل السياسي؛ أوصى المؤتمر ﺑ “بتأسيس مكتب اتصال إسلامي في بروكسل ليكون حلقة تواصل وحوار مستمرّ بين المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وأجهزته المختلفة”[64].

وقد تضمّن “الميثاق الإسلامي” (Islamische Charta)  الذي أصدره “المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا” (Zentralrat der Muslime in Deutschland) لتوضيح “موقفه الأساسيّ من الدولة والمجتمع”، بعد أن أقرّته جمعيته العمومية في 3 شباط (فبراير) 2002؛ إشارات عدّة للمشاركة المجتمعية، وأخرى بشكل ضمنيّ للمشاركة السياسية، من قبيل ما جاء في المادة 21 منه: “سيقوم الناخبون المسلمون بإعطاء أصواتهم للمرشّحين الذين يعملون على تمكين المسلمين من الحصول على حقوقهم، والذين يدعمونهم من أجل تحقيق أهدافهم، والذين يُبدون أكبر تفهّم لقضايا الإسلام وحاجات المسلمين في هذه البلاد”. ومن الإشارات اللافتة للانتباه في سياق هذا الميثاق ما جاء في المادة 12 منه، والتي حملت عنوان “لا نهدف إلى إنشاء دولة”، وتضمّنت النص التالي: “لا نهدف إلى إنشاء دولة إكليروسية
ـ ثيوقراطية ـ ونحيٍّي نظام جمهورية ألمانيا الاتحادية الذي توفرت فيه علاقة منسجمة بين الدين والدولة”.

وفي سياق تأكيد المشاركة المجتمعية لمسلمي ألمانيا؛ أورد “الميثاق الإسلامي” ذاته في المادة 18 منه، تحت عنوان “واجبنا نحو المجتمع”، ما يلي: “يشعر المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بواجبه تجاه المجتمع الألماني بكامله، ويسعى للقيام بواجبه بالتعاون مع جميع عناصر المجتمع من أجل تحقيق التسامح والمثل والأخلاق وحماية البيئة والحيوان. كما يندِّد المجلس الأعلى بانتهاك حقوق الإنسان في كلّ مكان، ويبدي استعداده للتعاون من أجل مكافحة العنصرية والعرقية والعنف والإباحية الجنسية”.

وهناك فقرات عدّة من ذلك الميثاق تطرّقت إلى جوانب متفرِّقة من المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، في ما أنه أورد في مادته العشرين تحت عنوان “حاجات وضرورات قائمة”، أحد عشر مطلباً أساسياً تمثِّل بحدّ ذاتها تلخيصاً لأهم مضامين التحرّك المطلبي للمسلمين في ساحة المشاركة السياسية في المرحلة الراهنة[65].

وعن المشاركة المجتمعية يشرح الأستاذ أحمد الراوي، رئيس “اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا” سابقاً، ما تُرتِّبه على المؤسسات الإسلامية في القارة الأوروبية من أدوار والتزامات، وذلك بعد أن يؤكِّد الموقف من هذه المشاركة بقوله “لقد حسمنا خيارنا في أوروبا، بما ينسجم مع الدور الإيجابي للمسلم، دور المواطنة الصالحة بكل أبعادها، خاصة وأنّ مسلمي أوروبا لم يعودوا كما كانوا في غالبيّتهم مجرّد مهاجرين، بل بات وجودهم استقراراً متجذِّراً في هذه البلاد جيلاً في إثر آخر، وتبلورت في غضون ذلك ملامح جديدة لهم، وقضايا وإشكالات واحتياجات عدة لم تكن ربما معهودة من قبل”.

ويضيف “على ضوء ذلك؛ نستطيع أن نسلِّط الأضواء على الدور الملقَى على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا على النحو التالي:

– مسؤولية التعريف بالإسلام وترسيخ القيم والمثل الإسلامية في صفوف المسلمين في الغرب، وإبراز فقه إسلامي يناسب مقتضيات العصر وخصوصيات الواقع الأوروبي.

– مسؤولية المؤسسات الإسلامية في تعزيز الوجود الإسلامي في أوروبا، أي تكريس الجهود والإمكانات للحفاظ على الوجود الإسلامي في أوروبا باعتباره جزءاً من المجتمعات الأوروبية، والعمل على تثبيته وتدعيمه ليقوم بدوره الفاعل في الإشعاع الحضاري.

– العمل على حضور المسلمين في المجتمعات الأوروبية ومساهمتهم في مجالات حياتها المختلفة؛ الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

– التشجيع والعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي للمسلمين، وأجيالهم الجديدة على وجه الخصوص؛ في المجتمعات الأوروبية؛ اندماجاً يجمع بين الحفاظ على الشخصية الإسلامية من جانب؛ وممارسة المواطنة الصالحة من جانب آخر، خدمةً للصالح العام وتحقيقاً لمبادئ النصح والانسجام والازدهار لشعوبهم الأوروبية.

– الإفادة من التقدّم والتطوّر الذي حصل في الغرب في أوجه الحياة المختلفة، العلمية والثقافية والاجتماعية والمثل والقيم الإنسانية الصالحة، التي هي نتاج جهود إنسانية وبحوث علمية.

– إبراز صورة الإسلام الصافية والتعريف بمثله وقيمه الإنسانية الحضارية في المجتمعات الأوروبية، وإبراز أثره الحضاري في ميادين العلوم المتعددة.

– توسيع الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وأصحاب الأديان والعقائد والأفكار الأخرى، والعمل على التفاعل معها وصولاً إلى توطيد السلم الاجتماعي في المجتمعات الأوروبية.

– المساهمة في الجهود الرامية لحماية الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته ونبذ الميز”[66].

يُشار هنا إلى أنّ منظمات إسلامية جامعة تعمل على المستوى القاريّ، افتتحت في غضون الأعوام الماضية مكاتب اتصال لها في بروكسل قرب مقارّ الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها اتحاد “المنظمات الإسلامية في أوروبا” (FIOE)، و”المنتدى الأوروبي للمنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية” (FEMYSO)، وهو ما يمثِّل تجسيداً عملياً لإرادة المشاركة السياسية، من خلال التواصل مع صانعي القرار وموجِّهي السياسات حتى على المستوى الوحدوي الأوروبي.

ثانياً/ فئات لا تعارض المشاركة السياسية لكنها تتردّد في الإقدام عليها:

ينبغي الانتباه إلى أنّ عدم إبداء التفاعل مع الشأن السياسي لا يعني بالضرورة رفضاً للمشاركة السياسية من الناحية المبدئية. فهناك من تعامل مع المشاركة المباشرة في الساحة السياسية بوصفها مطلباً مؤجّلاً إلى حين نضوج بعض ما اعتُبرت أنها عوامل وظروف مساعدة على مشاركة فاعلة. وكان التوجّه لدى هذا الفريق يقوم على أساس أنه من الأفضل للوجود المسلم تحاشي الخوض في الشؤون السياسية؛ ربما لأنّ هناك متطلبات أساسية لم تكن قد تحققت، على صعيد حقوقه ومكتسباته الدينية والاجتماعية. فهذا الفريق رأى أنّ تفاعل مسلمي هذا البلد الأوروبي أو ذاك مع الشأن السياسي لا يقف على رأس الأولويات بالمقارنة مع اهتمامات أخرى مثل الوضعية القانونية التي تحكم العلاقة مع الدين الإسلامي، وملف تمثيل المسلمين، والخصوصيات الدينية، والاحتياجات التعليمية للطائفة المسلمة، وما إلى ذلك. وعلى نحو عام يمكن الاستنتاج؛ بأنّ هذا الفريق قدّر عدم نضوج الظروف والإمكانات اللازمة لمشاركة سياسية فاعلة تعود بمردودات ملموسة. ولعلّ ما شجّع تقديرات كهذه أحياناً؛ هو الشعور بأنّ الجمهور المسلم في هذا البلد الأوروبي أو ذاك لا يبدي تفاعلاً ملموساً مع الساحة السياسية ومجرياتها، ما يولِّد الانطباع بعدم توفر الاستعداد لخوض هذه المشاركة.

ورغم التفهم الذي قد يبديه المرء لبعض الملابسات الباعثة على ذلك الموقف؛ فإنّ المعضلة الجوهرية بشأنه يمكن تحديدها أساساً في عزل مطلب إحراز الحقوق وتحقيق المكتسبات؛ عن مسارات المشاركة المجتمعية والسياسية. ثم إنّ الطابع التراكمي لعملية المشاركة؛ يفرض شكوكاً بشأن مدى واقعية الإحجام عنها بدعوى التهيّؤ والاستعداد للمضيّ فيها.

ولا يخفى أنّ تحاشي تحديد تصوّر جماعي جادّ للمشاركة السياسية، وعلى نحو أعمّ للمشاركة المجتمعية ككلّ؛ قد يترك التواصل السياسي والمجتمعي للمسلمين مرتهناً للممارسات العفوية والتقديرات الفردية، كما أنّ عدم الاكتراث بالشأن السياسي والمجتمعي من شأنه أن يجعل الحضور العام للوجود المسلم مطبوعاً باللامبالاة، ما قد ينعكس بالسلب على انتزاع الحقوق وإحراز المكتسبات.

وعلاوة على ذلك؛ فإنّ هناك أصواتاً من مسلمي أوروبا أبدت بالمقابل تحفظاً على المشاركة السياسية، أو حتى معارضة لها، بناء على توجّس من نتائجها أو تقدير بأنّها قد لا تعود بمردودات إيجابية على المسلمين بصورة أو بأخرى، أي ليس رفضاً لها من الناحية المبدئية. وتملّكت هذا الفريقَ الخشيةُ من مغبة زجّ المسلمين في المعترك السياسي بما قد يثير حفيظة بعض الأطراف التي لم تعتد على مشاركة المسلمين في الشأن السياسي، أو يجرّ ردود أفعال سلبية أو حتى محاولات مُفترَضة للإعاقة، وكان التقدير بالتالي أنّ الوجود المسلم ليس في مرحلة من القابلية تؤهله لخوض غمار التفاعل السياسي وتحمّل تبعاته.

ويبدو واضحاً أنّ هذه الحُجّة وثيقة الصلة بالجدل المصاحب لأطوار التبلْوُر والنضوج التي تشهدها الأقليات المسلمة في أوروبا. فالافتقار إلى بنية مؤسسية متنوِّعة الاهتمامات ومتخصصة في مجالات عدة، والاقتصار في التعبير عن الحضور المسلم على أسماء قليلة العدد من الشخصيات؛ لا يتيحان هامشاً معقولاً للتفاعل المريح مع الشؤون السياسية وتجاذباتها، بما يبعث على التردّد في الإقدام على المشاركة المجتمعية والسياسية.

ثالثاً/ فئات معارضة بوضوح للمشاركة السياسية أو لصورها المباشرة على الأقل:

لدى تحديد فئاتٍ معارضةً بوضوح لمشاركة المسلمين في الحياة السياسيّة في أوروبا؛ فإنّ ما يلفت الاهتمام أنّ هناك تباينات يمكن العثور عليها بين هذه الفئات، سواء في ما يتعلّق بالمنطلقات أو الحجج، أو في ما يختصّ بالخطاب المعتمد لدى كل منها، أو أساليب التعبير عنه.

كما يقتضي الأمر ملاحظة أنّ معارضة المشاركة السياسية لا تبدو مُطلَقةً لدى بعض هذه الأطراف، كما عليه الحال بالنسبة ﻟ “حزب التحرير” مثلاً، فرغم معارضته الصارمة لفكرة المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ إلاّ أنّ تلك المعارضة تتركّز في واقع الأمر على المشاركة السياسية المباشرة، أو ضمن بعض صورها ربما، وخاصة ما يتعلّق منها بالمشاركة في الانتخابات بأيّ من الصور، أو بالانضواء في الأحزاب والبرلمانات والحكومات، لكنه يقترح ما يسميها “بدائل” مما يندرج أساساً ضمن المشاركة السياسية في نطاقها العام.

ويمثِّل موقف “حزب التحرير” من مسألة المشاركة السياسية، حالةً لافتة للاهتمام، نظراً لإمعانه في رفض هذه المشاركة في شتى صورها المباشرة، ومحاولة تأصيله لهذا الموقف وحسمه، وأيضاً للأهمية التي يوليها الحزب لهذه المسألة بالشكل الذي طغى على حضوره العام في أوروبا، خاصة في البلدان الأوروبية التي تشهد حالةً من المساعي الواضحة لمشاركة المسلمين في الشأن السياسيّ فيها. ومما يضفي أهميةً على موقف “حزب التحرير” ذاك؛ أنّ تبنِّي خطابِه في هذا الشأن يجري في بعض الأوساط والمجموعات العاملة في صفوف مسلمي أوروبا والتي تبدي تقارباً فكرياً مع الحزب في هذه المسألة، بل ربما تكون قد تأثّرت بأطروحاته بشأنها بدرجة أو بأخرى، كما في حالة جماعة “المهاجرون” العاملة في نطاق مسلمي بريطانيا مثلاً. وقد تسبّبت مواقف “حزب التحرير” والأطراف التي تتّفق معه في هذه النقطة، في نشوء تطوّرات أثارت جدلاً في الأوساط المسلمة في عدد من بلدان أوروبا، خاصة في ظل المواقف المناهِضة لمشاركة المسلمين في الانتخابات والتي جعلت الجولات الانتخابية مواسمَ للتنازع المتكرِّر حول هذه المسألة في بعض البلدان والأقاليم الأوروبية.

وكان “حزب التحرير” يبدي معارضة مستمرّة في ما سبق لأية مشاركة من جانب المسلمين في أوروبا في الجولات الانتخابية، ولو بمجرد الإدلاء بالأصوات، لكنّ ذلك كان يأتي عادة في سياق الموقف العام للحزب الرافض لتلك المشاركة أينما كانت، وخاصة في العالم الإسلامي، دون اختصاص مميّز بواقع مسلمي أوروبا أو الغرب. لكنّ الحزب أخذ مع نهاية التسعينيات من القرن العشرين، يُبَلوِر مواقف أكثر تحديداً واستفاضة في ما يتعلق بمسلمي أوروبا والغرب إجمالاً، وخاصة في ما يتّصل بمسألتيْ المشاركة السياسية والاندماج[67]. وقد اتجه الحزب في الأعوام الأخيرة لمحاولة تفصيل القول في مسألة المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، فخصّص “حزب التحرير ـ أوروبا” لذلك مثلاً كتيِّباً أصدره في عام 2002، تحت عنوان “حكم مشاركة المسلمين الموجودين في العالم الغربي في الحياة السياسية فيه”، وعرض فيه موقفه من هذه القضية.

وفي سياق تناوله لهذه القضية؛ يشدٍّد “حزب التحرير” النكير على فكرة مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة، بقوله “إننا لنعجب كلّ العجب من بعض المسلمين الذين يتجرّؤون على دين الله سبحانه وتعالى فيُبيحون للمسلم العمل مع أحزاب الكفر هذه، بلْه يوجبون عليه ذلك!، ونسألهم عن دليلهم الذي استندوا إليه من كتاب الله وسنّة رسوله الذي يبيحون للناس أو يوجبون عليهم بمقتضاه العمل في الأحزاب السياسية في الغرب رغم ما ينطوي عليه هذا العمل من مخالفات عقدية وشرعية. وكيف يصنعون بمئات من النصوص الشرعية التي تحرِّم على المسلم تبنِّي الكفر والحرام والدعوة إليهما والعمل بهما، وتوجب عليه التصدِّي للكفر والحرام بكل أنواعهما وأشكالهما!.

والمسلم الذي يريد المشاركة في الأحزاب السياسية الغربية بين أمرين؛ إما أن ينتميَ إليها وقد اقتنع بفكرها وتبنّى آراءها، فأدنى حكم يصلح في حقِّه أنه فاسقٌ ظاهرُ الفسق، هذا إن لم يكن جاوز الفسقَ إلى الكفرِ والعياذ بالله. وإما أنه قصدَ التلبيس على الغربيين بانتمائه إلى أحد هذه الأحزاب بغية تحقيق بعض المصالح للمسلمين، حين يزعم ظاهراً إيمانه بفكر الحزب الذي انتمى إليه مع كفره به باطناً، فهذا عمل الكاذبين والمنافقين، وهو من المحرّمات بيِّنة الحرمة، ومما ينبغي للمسلم أن يربأ بنفسه عنه، وكيف للمسلم أن يُعطي الصورة الحقيقية عن الإسلام للغربيين وهو يخادعهم في الأصول قبل الفروع!”[68].

أما في ما يتعلق بمشاركة مسلمي البلدان الأوروبية والغربية في الانتخابات، فإنّ “حزب التحرير” يقرِّر أيضاً أنه “لما كان الحُكم في الغرب يقوم على الكفر والحرام، وكان البرلمان يقوم بأعمال التشريع دون الله تعالى، أي يقوم بأعمال كفر ومعصية، وكانت البلدية تقوم هي الأخرى بأعمال محرّمة؛ فإنّ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية في الغرب محرّمة لأنها نوع من التوكيل في أعمال محرّمة. ولا فرق في ذلك بين انتخاب المسلم أو غيره، لأنّ الانتخاب متعلِّق بالأعمال المنتَخَب لها.

ويزيد انتخابَ قائمة الحزب السياسي حرمةً كونُ الانتخاب ليس انتخاباً شخصياً بل انتخاباً لبرنامج يخالف الإسلام. فالمسلم عندما يصوِّت لحزب سياسي لا يصوِّت لأشخاص بصفتهم الفردية بقدر ما يصوِّت للبرنامج الذي وضعه الحزب بكل ما يحويه هذا البرنامج، سواء منه ما كان واقعاً في إطار ما أجازه الشرع، أو ما كان حراماً أو كفراً صراحاً. ومن المغالطة ما يدّعيه بعض المسلمين من أنه صوّت للحزب الفلاني لأنّ هذا الحزب يحقِّق مصلحة للمسلمين، أو لأنه يناصر قضية من قضايا الأمة على وجه أفضل من غيره من الأحزاب، لأنّ إدلاءه بصوته ليس مربوطاً بنيّته وقصده، بل حقيقة هذا التصويت أنه انتخاب لبرنامج الحزب بأكمله شاء ذلك أم أبى.

كما ويختصّ انتخابُ الحاكم بمزيد إثم إن كان اختياراً لكافر لأنّه لا يجوز للكافر الحكم شرعاً، إذ من شروط الحاكم الإسلام”[69].

وعن المشاركة في العمل السياسي على المستويات البلدية والمحلية في البلدان الأوروبية، يرى “حزب التحرير” أنّ “المسلم الذي يريد المشاركة في البلدية؛ رئاسة أو عضوية، لا مندوحة له عن الوقوع في الحرام المحقّق، وفي المحافظة على المنكرات، لأنه لا يتأتّى له قَصْر أعماله على النواحي الإدارية الصرفة مما هو مباح، بل طبيعة عمله في البلدية توجب عليه القيام بما هو محرّم قطعاً”[70].

ومما تجدر ملاحظته هنا؛ أنّ موقفاً كهذا يرى حرمة مشاركة مسلمي الغرب في شتى المستويات الانتخابية، وهو ما لا يتوقف عند حدود الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو حتى البلدية، بل يشمل بالضرورة الانتخابات في أطر قطاعية وضمن مستويات أدنى، كالانتخابات في الهياكل النقابية والطالبية، وقد يُفهم أيضاً أنها تشمل الانتخابات التي تجري حتى في مجالس الأحياء السكنية ضمن التقسيمات المحلية، وربما على وجه الاحتمال في بعض الأطر الانتخابية الأخرى، مثل أطر المجتمع الأهلي (المجتمع المدني) أو منظّماته غير الحكومية، أو في نطاقات أخرى من قبيل الانتخابات المعبِّرة عن الجمهور في بعض المؤسسات التابعة للحق العام كمجالس الجمهور في هيئات الإذاعة والتلفزيون العامة[71]. أي أنّ ذلك من شأنه أن يفضي إلى عزلة شاملة للمسلمين عن أحد أبرز خيارات التفاعل مع هذه المستويات والقطاعات كافة في البلدان والمجتمعات التي يعيشون فيها.

لكنّ ما يلفت الانتباه على نحو خاص في موقف “حزب التحرير”؛ أنه بينما يرفض المشاركة السياسية المباشرة؛ فإنه يكاد، وبشكل غير صريح، يُعوِّل في وثيقته ذاتها على المشاركة السياسية غير المباشرة وبعض أوجه المشاركة المجتمعية العامة.

فقد جاء فيها “إنّ حرمة مشاركة المسلمين الموجودين في ديار الغرب في الحياة السياسية في البلدان التي يعيشون فيها لا تعني أن يتقوقعوا على أنفسهم، وأن يعتزلوا عن مخالطة أهل البلاد، بل عليهم أن يعيشوا معهم عيشة طبيعية، يلتزمون فيها بأحكام الإسلام، وأن يكونوا مؤثِّرين لا متأثرين، لأنهم أصحاب رسالة عالمية، وحضارة لا تضاهيها حضارة.

إنّ ما يُراد تحقيقه من المشاركة في الحياة السياسية في بلاد الغرب جملة من المصالح والمطالب، كنصرة المسلمين وقضاياهم، وتوفير أفضل السبل للدعوة إلى الإسلام، وتمكين المهاجرين من الالتزام بأحكام الشرع دون حرج وتضييق، كأحكام الزواج والطعام الحلال ولباس المرأة الشرعي وغير ذلك من المطالب المشروعة. وهذا الأمر يمكن تحقيقه بسلوك المسلك الشرعي الذي أجازه الإسلام، دون الحاجة إلى ارتكاب الحرام، أو الاحتجاج بالضرورات وجلب المصالح ودرء المفاسد التي تحلّ الحرام. فقد أغنانا الله عزّ وجلّ عن حرامه، وأباح لنا من البدائل والأساليب ما فيه كفاية لتحقيق المطالب. (…) وأما البدائل والأساليب التي يتيسّر للمسلمين الأخذ بها دون الوقوع المحتم في الحرام؛ فهي كثيرة نذكر منها:

1/ القوة الفكرية: ونعني بالقوة الفكرية القدرة على مخاطبة العقول والتأثير في النفوس. (…) وهو ما يقتضي اتصال مفكرينا من المتقنين للغة الغرب بالمثقفين الغربيين والمفكرين والسياسيين حتى يُعرض عليهم الفكر الإسلامي، وتقدّم لهم المعالجات الإسلامية للمشاكل التي تعترض البشرية بطريقة عقلية مؤثِّرة، وأسلوب رصين، أي بالحكمة والموعظة الحسنة. فإذا استطعنا نقاش هؤلاء الناس، واستطعنا التأثير فيهم، إمّا بإسلامهم، أو بنيل احترامهم وتقديرهم، فإنا نكون قد أوجدنا مناخاً ملائماً لعرض مطالبنا، وكسبنا تأييداً هاماً لها. والأصل في المسلمين أنهم حملة رسالة الإسلام أينما وُجدوا، وفي أي مكان حلّوا باعتبار أنّ الإسلام رسالة عالمية، وباعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوجب عليهم حمل هذه الرسالة إلى العالم جميعه: دولة، وأحزاباً، وأفراداً، وتبليغها للناس جميعاً (…).

2/ القوة الاقتصادية: يستطيع بعض المسلمين ممن أوتوا المال والثروة أن يؤثِّروا في صناعة القرار السياسي في الغرب. ذلك أنّ تركيز القوة الاقتصادية بيد المسلمين، واعتمادها أداة ترغيب وترهيب يجعل صوتهم مسموعاً، وكلمتهم مؤثِّرة، خصوصاً إذا أدركنا كون الحكومات الغربية تقوم على دعم الرأسماليين بل تقوم بهم. ولقد رأينا بعض غير المسلمين ممن هم قلّة في العدد كيف تمكّنوا من الضغط على الحكومات الغربية لتنفيذ مطالبهم ورعاية شؤونهم عن طريق ما يتمتعون به من قوى اقتصادية. (…) وعلى كل حال؛ فإنّ النشاط الاقتصادي من حيث الأصل ليس محرّماً في الإسلام، بخلاف المشاركة في الحياة السياسية، ويمكن للمسلمين ولوج جُملة من أوجه النشاط الاقتصادي مع الحرص الدقيق على عدم الوقوع في المحرّم من المعاملات الاقتصادية كالربا وغيره.

3/ القوة الإعلامية: ميدان الإعلام من الميادين الخطيرة التي تساهم في صياغة الرأي العام واتخاذ القرارات السياسية. وهو هام بشكل خاص في البلاد الغربية لكثرة ما يعتمد عليه أصحاب القرار في تبرير سياساتهم وإقناع الناس بها (…).

4/ القوة البشرية: إنّ المسلمين يُعدّون في البلاد الغربية بالملايين، وهو ما يمكن أن يجعلهم قوّة يُحسب لها حساب لما لها من ظهور وبروز في المجتمع، ولما لها من أهمية مستقبلية يبني عليها الغرب مخططاته. فعلى المسلمين أن يحسنوا استغلال هذه الإمكانية، وأن يدركوا حاجة الغرب إليهم. (…) وهذه القوى البشرية من المسلمين في الغرب تتكوّن من قطاعات مختلفة ومتعددة من الناس في كل المجالات، ففيهم الطبيب والمهندس في كلّ أنواع الهندسات، وفيهم المتخصصون في كل العلوم والمجالات، كما أنّ فيهم البسطاء من العمال وأصحاب الحرف. إنّ هذا التنوّع عند المسلمين يكسبهم قوّة هائلة ويمكِّنهم من تحقيق مطالب كثيرة تفوق ما يحلمون به اليوم من ذبح حلال، وسماح بارتداء اللباس الشرعي لبناتهم ونسائهم وما يشبه ذلك. ليصبحوا أداة ضغط على الدول الغربية في مناصرة قضايا الأمة، وحملة دعوة في هذه الأرض القفر”.

ويخلص “حزب التحرير” في وثيقته ذاتها إلى القول إنّ “هذه بعض الأمور البديلة التي يمكن للمسلمين أن ينصرفوا إليها بدلاً من المشاركة في الحكم وغيره من المحرّمات. وإذا كان غير المسلمين رغم قلّتهم قد نجحوا في اكتساح بعض المجالات والميادين، واستطاعوا في بعض الأحيان الضغط على الحكومات والتأثير عليها في أمور تهمّهم؛ فلماذا يفشل المسلمون في ذلك وهم لا تعوزهم الإمكانيات ولا تنقصهم القدرات؟”[72].

وقد نشطت بعض المجموعات العاملة ضمن نطاق المسلمين في بعض البلدان الأوروبية، للحيلولة دون انخراط المسلمين في الساحة السياسية والتفاعل الإيجابي معها. ولم يكن “حزب التحرير” وحده في هذا المضمار، رغم أنّه كان في ريادة من نظّر لفكرة “خطر المشاركة” وقال بحرمتها، فساهم في تمهيد الطريق لمجموعات أخرى تقمّصت خطاباً مماثلاً إلى حدٍّ ما في هذه المسألة.

ويشرح مختار بدري، وهو أحد المتابعين لأوضاع المسلمين في بريطانيا حيث يقيم، جانباً من ذلك بقوله “تستوقفنا ونحن نتجوّل في شوارع لندن ملصقات دعائية للإسلام وعلويّته على أيّ نظام أرضي، ودعوات لإقامة الخلافة الإسلامية، وشعارات تسفِّه النظم السائدة (في بريطانيا وأوروبا) وتحرِّض على اعتماد الشريعة الإسلامية بدلاً منها، مثبّتة على إشارات المرور في الطرقات العامة!. كما يقف المتابع للصحوة الإسلامية في هذا البلد (بريطانيا) الذي كانت قوانينه ولا تزال من أكثر القوانين الأوروبية والغربية تسامحاً مع التعدّد الديني والثقافي والعرقي وحرِّيّة التعبير والدعاية لها؛ يقف على تنامي مجموعات جعلت موضوع دعايتها ومادة تعبئتها للجيل الثاني من الشباب المسلم التهجّم على نظم البلاد القائمة على الديمقراطية والحرية وعلى الانتخابات والبرلمانات، فأصبحت كلّ تلك المفردات رديفة في خطابهم للكفر والفساد، وأصبح الجهاد في سبيل الله لإلغائها ورفع راية الخلافة بدلاً منها فوق مؤسسات البلاد السيادية كقصر الملكة ومقرّ البرلمان وغيرها واجباً دينياً عاجلاً، هكذا!، وإظهار الخروج على قوانينها المنظِّمة للهجرة والإقامة والسلوك قربة إلى الله، (…)”[73].

وتجسيداً لإرادة الحيلولة دون مشاركة المسلمين في الشأن السياسي؛ تخوضُ مجموعاتٌ مثيرةٌ للجدل والتذمّر في صفوف المسلمين محاولاتٍ لتعطيل بعض الأنشطة المخصّصة لتواصل المسلمين مع المستوى السياسي في البلدان الأوروبية. وتمثل حادثة وقعت في المسجد المركزي بلندن في أواخر نيسان (أبريل) 2000، شاهداً قوياً على ذلك، عندما استهدفت مجموعةٌ من المسلمين رافضةٌ للمشاركة السياسية اجتماعاً نظّمه “المجلس الإسلامي البريطاني” (MCB)، واستضاف فيه سوزان كرامر، مرشحة الحزب الليبرالي الديمقراطي لمنصب عمدة لندن، في المركز الثقافي الإسلامي ـ المسجد المركزي (ريجنت بارك) بلندن. وقد تمّ التهجم اللفظي على كرامر ورشقها والمشاركين بالبيض والدقيق، مع إطلاق المهاجمين للتكبيرات. وفي واقعة أخرى سبقت ذلك بنحو عشرة أيام فقط، كان المجلس الإسلامي البريطاني قد نظّم تجمّعاً مندِّداً بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (16–18 نيسان (أبريل) 2000) إلى مقرّ رئاسة الوزراء البريطانية بلندن، إبّان حرب الشيشان، ورفع بعض الذين حاولوا فرض حضورهم على التجمّع شعارات مكتوبة وصوتية متشدِّدة أثارت حنق المشاركين[74].

وعلى نحو عام؛ من المرجّح أن تنعكس المواقف المتحفظة على الديمقراطية من قبل بعض الأطراف المسلمة على إمكانيات التواصل واللقاء والتنسيق ضمن الوجود المسلم في البلدان الأوروبية. وهناك من يَلمَح بالفعل، أثراً سلبياً للموقف المتحفظ على الديمقراطية ونظمها (كالانتخابات) أو المعارض لها كلِّيّاً؛ على فرص التنسيق بين المؤسسات والأطراف ضمن ساحة مسلمي بلد أوروبي ما. ومن ذلك ما يتعلّق بالحالة الإسلامية السويدية مثلاً، إذ أنّ أحد القادة البارزين في ساحة المؤسسات الإسلامية في السويد، وهو الأستاذ محمود الدبعي، يحدِّد من بين العوامل التي لا تجعل بعض المؤسسات المسلمة تتعاطى بإيجابية مع مساعي التواصل والتنسيق ضمن أطر نظاميّة تتولى التعبيرَ عن المسلمين؛ “وجود قناعاتٍ فكريّة أو أيديولوجية أو تعصّب جهة إلى فكرتها حيث لا ترى الصواب سوى في تصوّرها، وبعضها يكفِّر أو يفسِّق مَن قََبِل بتطبيق النهج الديمقراطي في تأسيس الجمعيات وقبولها بالتعددية والمشاركة السياسية في بلد غير مسلم. ونتيجة لهذا السلوك؛ صدرت بيانات مُستغرَبة تنال من هذه الاتحادات الإسلامية، وتهاجم القائمين عليها لمجرّد قبولهم بمفهوم الديمقراطية والتعددية الثقافية وقبول مبدأ المشاركة السياسية”[75].


 

الفصل الرابع:

في توصيف المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا

 

 

  • الظرف التاريخي للمشاركة السياسية الراهنة لمسلمي أوروبا
  • من ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا
  • المشاركة السياسية على المستوى المحلي
  • عن تجارب إدارة العمل السياسي في صفوف مسلمي أوروبا
  • عندما يحجم مسلمو أوروبا عن الانتخاب ـ الخلفيات
  • المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية
  • مساجد أوروبا .. وساحة المشاركة السياسية


 

الظرف التاريخي للمشاركة السياسية الراهنة لمسلمي أوروبا:

تأتي المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا وثيقةَ الصلة بجملة من التطورات والملابسات، وطيف من الخلفيات والأبعاد الظرفية، مما يمكن أن يُعبّر عنه إجمالاً بالظرف التاريخي. وعلى نحو مقتضب؛ يمكن تحديد ملامح هذا الظرف التاريخي في ما يلي:

1/ ميراث علاقة مطبوعة بالأعباء التاريخية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي:

فغالباً ما تُوضَع العلاقةُ التاريخيّة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، أو كما يسميها بعضهم بعلاقة الإسلام بالغرب؛ في سياق مأزوم، مع إشارات إلى ميراثٍ ثقيلٍ من وطأة تلك الأعباء التاريخية، ينعكس على الحضور المسلم في أوروبا وآفاق مشاركته مجتمعياً وسياسياً. والواقع أنّ إدراكَ المرء للنظرة القائمة إلى التاريخ المتبادل على هذا النحو؛ لا يعني تسليمه بمبرِّراتها، خاصة وأنّ العلاقة الإسلامية ـ الغربية (إن جاز التعبير) لم تكن علاقة صراع دوماً، بل ربما كانت الحروب هي الاستثناء فيها، كما أنّ هذه النظرة تتجاهل أيضاً أنّ العلاقات الداخليّة في أوروبا ذاتها كانت محفوفةً بالصراعات المريرة عبر قرون طويلة، وصولاً إلى القرن العشرين. ومع ذلك؛ فلا مجال لإغفال أنّ العلاقة مع الإسلام والمسلمين، قد تأخذ أحياناً طابعاً حسّاساً وإشكاليّاً في بعض ثنايا الواقع الأوروبي، بذرائع تاريخية مزعومة إلى حدٍّ ما، وهو ما تترتّب عليه عواقب سلبية في ساحة المشاركة الراهنة.

2/ ملامح أزمة ثقة متجدِّدة في العلاقة بين الدائرتين الحضاريتين الإسلامية والغربية:

وقد عبّرت عن ذلك التطوّرات المصاحبة للمنعطفات في فلسطين، وحرب أفغانستان، واحتلال العراق، وكذلك بعض الأزمات الأوروبية الداخلية من قبيل أزمة الحجاب في فرنسا، وأزمة الرسوم الدانمركية، فضلاً عن التطوّرات العنيفة من قبيل عمليات التفجير والترويع التي تجري في بلدان عدة. وتأتي أزمة الثقة المتجدِّدة هذه لتغترف من أعباء التجارب الاستعمارية الأوروبية في العالم الإسلامي، والتي ما زالت تداعياتها تطبع بعض جوانب العلاقة المتبادلة بين مكوِّنات الدائرتين الحضاريتين.

3/ العامل الديمغرافي (السكاني):

ويتعلّق ذلك بواقع النموّ العددي الكبير الذي طرأ على الوجود المسلم في غربي أوروبا ووسطها، والذي جعل المسلمين في مقدِّمة من تزايدت أعدادهم من الطوائف الدينية في أوروبا الغربية والوسطى منذ الربع الأخير من القرن العشرين. وواكب ذلك النموّ العددي؛ تجذّر للحضور المسلم في البلدان الأوروبية مع نشوء أجيال مسلمة جديدة من ذراري الجيل الأول المهاجر. ويلاحظ هنا تركّز مسلمي أوروبا الغربية والوسطى في العواصم والمدن الكبرى، وهو ما من شأنه أن يضفي وزناً أكبر على آفاق مشاركتهم السياسيّة والمجتمعيّة، بينما قد يكونون في الوقت ذاته الأكثر معاناة من الاختلالات القائمة في التجمّعات المدينية، كما يُلاحَظ مثلاً في بعض الضواحي أو الأحياء السكنية الأفقر في عدد من العواصم والمدن الأوروبية. ومن اللافت للانتباه أنّ مؤشرات النموّ العددي كثيراً ما يجري توظيفها من قبل الأطراف المتحفِّظة على الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، كأقصى اليمين السياسي مثلاً، والتي تحاول تقديم هذه المعطيات بطريقة تنزع إلى إثارة الذعر والفزع في صفوف المواطنين “الأصليِّين”. كما أنّ هذا التعامل التحريضي مع المعطيات العدديّة؛ يغفل واقع التنوّع الداخلي الذي ينطوي عليه الوجود المسلم في أوروبا، فهو يُقَدَّم في هذا التناول المشوّه على أنه وجود متجانس أو كتلة أحادية، وهو ما لا يتوافق مع الواقع. ومن هنا؛ حدّدت مؤسسة “رانيميد” (Runnymede Trust) البريطانية غير الحكومية[76]، إحدى الخصائص التي تؤشِّر للإسلاموفوبيا بالنظرة إلى الإسلام، ومعه المجموع المسلم؛ على أنه كتلة أحاديّة متجانسة وثابتة ومستعصية على التغيير[77].

الحالة الألمانية مثالاً:

مما يلفت الاهتمام على أيّ حال؛ أنّ الحضور الجديد للمسلمين في أوروبا الغربية والوسطى لم يكن ظاهرةً متوقّعة سلفاً على هذا النحو، وتبدو حالة الأتراك في ألمانيا شاهداً على ذلك. فبداية الوجود التركي الجديد في ألمانيا الاتحاديّة كان باتفاق تم التوقيع عليه في الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 1961 بين بون وأنقرة، ثم أخذت القطارات تقلّ هؤلاء في “رحلة عمل”، استُقبلت أفواجها الأولى بالمعزوفات والورود. وكان الذين فارقوا قراهم في الأناضول يحملون من الأمتعة ما يكفيهم لمفارقة الوطن سنوات قليلة وحسب، وكانوا يُسمَّون في ألمانيا طوال عقود “العمّال الضيوف” (Gastarbeiter).

لقد وضعت اتفاقية استقدام العمال الأتراك نصب عينيها استقطاب قوى عاملة لتمكين المصانع الألمانية من متابعة نشاطها، ودون أن تتكلّف أجوراً باهظة، ولم تكن فكرة المواطنة أو المشاركة بحق هؤلاء واردة آنذاك بأي حال. فقد انشغلت الحكومة الألمانية بمطلب سدّ نافذة العجز الفادح في الأيدي العاملة، الذي خلّفه قرار ألمانيا الشرقية تشييد الجدار بين شطري برلين وسدّ الطريق أمام الألمان الشرقيين للالتحاق بأماكن العمل في ألمانيا الغربية. ومن المحتمل؛ أن تكون “الأعجوبة الاقتصادية” في ألمانيا أمراً مستحيلاً بدون القوى العاملة المُستَقدمة من تركيا أو من أية أقطار أخرى.

وقد انقضى ربع قرن تقريباً في أعقاب الاتفاقية هذه؛ قبل أن يكتشف الجميع أنّ “العمال الضيوف” أصبحوا مواطنين في البلاد، بشكل أو بآخر. فرحلة العمل المؤقتة تحوّلت إلى استقرار دائم، والعمّال الذين داعبت مخيّلاتهم أحلام العودة بالمال الوفير إلى أسرهم في بلاد الأناضول باتوا يُوصَفون ﺑ “جيل المهاجرين الأول”، فاليوم ها هم أحفادهم يستهلّون تجربتهم في ألمانيا ذاتها ويحملون وصف “الجيل الثالث”.

ويستقرّ في ألمانيا اليوم أكثر من مليونين وربع المليون نسمة من أصل تركي، افتتحوا قرابة ألفي مسجد ومصلى في أنحاء البلاد (وإن كانت متواضعة المواصفات في غالبيتها العظمى)، في ما برزت المظاهر الإسلامية من خلالهم بوضوح في بعض المدن الألمانية، وخاصة في أحياء بعينها هي في الغالب الأدنى حظاً.

وكما كانت البدايات بالأيدي العاملة متدنِّية التأهيل؛ فإنّ معظم الأتراك في ألمانيا اليوم ينتمون إلى “الشريحة الكادحة”. وإذا أمكن “غضّ الطرف” عن هذه الشريحة في مواسم الازدهار الاقتصادي الكفيلة بامتصاص القوى العاملة؛ فإنّ الأمر لا يكون على هذه الشاكلة مع آفة البطالة الباعثة على الأرق في المجتمع منذ الوحدة الألمانية بصفة خاصة، إذ تفاقمت الشكوك في المجتمع وشهدت الميول العنصرية تصاعداً متخذة من الأجانب “كبش الفداء” أو الشماعة التي تعلّق عليها الاتهامات.

أما حضور المواطنين من أصل تركي في الحياة العامة الألمانية؛ فيجري ببطء ملحوظ، ومن ذلك تمكّن عدد منهم في الأعوام الأخيرة من الوصول إلى البرلمانات المحلية، علاوة على البرلمان الاتحادي “البوندستاغ” (Bundestag).

كما تتحقّق نجاحات اقتصادية موازية في قطاع الأعمال، وعلى صعيد المنشآت الصناعية المتوسطة والصغيرة. ففي العام 1970 لم يكن عدد رجال الأعمال من أصل تركيّ في ألمانيا يتجاوز 3300 شخص، وقد قفز هذا العدد بعد ثلاثين سنة إلى نحو 55 ألف رجل أعمال، أوجدوا لألمانيا 293 ألف فرصة عمل[78].

ومع ذلك؛ فغالباً ما يرتبط الحديث عن “المهاجرين الأتراك” بالشكاوى التقليديّة من “الأجانب الذين يرهقون شبكة الخدمة الاجتماعية”، أو “غير المندمجين”، وما إلى ذلك. والمؤكّد أنّ هذه الانطباعات تتجاهل أنّ هؤلاء لم يعودوا مهاجرين وإنما أصبحوا مواطنين، وعلاوة على شراكتهم في المجتمع؛ فإنه بالوسع التسليم بأنهم دعامة من دعائم الاقتصاد الألمانيّ.

وكما لخّص الكاتب الألماني هاينريش بُل (Heinrich Böll) الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1983، ما جرى بمقولته الشهيرة: “لقد استدعينا قوى عاملة؛ وجاءنا بشر”[79]؛ فإنّ التجربة المتعلقة باستقدام الأتراك للعمل في ألمانيا، تكشف عن الملابسات غير المتوازنة التي خيّمت على تجربة الوجود المسلم المهاجر في عدد من بلدان أوروبا، وكيف، أيضاً، أخذت النظرة العامة لهذا الوجود تنحو بالتدريج إلى اتجاهات سلبيّة.

وكما يأتي في تقرير “الغرب والعالم الإسلامي” الصادر في ألمانيا بمشاركة كاتبين من الغرب والعالم الإسلامي؛ فقد “استمرّت المعايير المزدوجة تسود حتى بعد بناء أوروبا ما بعد الحرب (العالمية الثانية)، إذ تم إحضار ملايين العمال من المناطق الإسلامية، مثل تركيا وشمال أفريقيا، ومعاملتهم كبشر من الدرجة الثانية في أوروبا”[80].

وهناك ما يمنح الانطباع بأنّ الْتِفات الأحزاب السياسيّة الألمانيّة لشركاء المواطنة من الخلفية التركيّة، ومن المسلمين إجمالاً؛ جاء متأخِّراً نسبيّاً. وحتى عندما تشكّلت ملامح الاهتمام بهذا الوجود؛ فإنّ الموقف بدا محكوماً بتجاذبيْن أساسيّين؛ الأمل في الاستحواذ على نصيب من الثقل التصويتيّ لهذه الشريحة الناخبة الجديدة، والتعامل السلبيّ إزاء ملف “الأجانب” والمسلمين من بعض الأطراف السياسية، وخاصّة من اليمين. بل إنّ هناك من اشتكى من المواقف المتحفِّظة التي أبدتها بعض القوى الدينيّة في المجتمع المدنيّ الألمانيّ إزاء التعاون والشراكة مع الوجود المسلم في المجتمع الواحد. فقد سجّلت مسؤولة ألمانية ملاحظات بهذا الصدد من واقع تجربتها على المستويات المحلية في ألمانيا بقولها “من ضمن خبراتي المؤلمة في منصبي الحالي (1993) كمكلّفة بشؤون الأجانب؛ أنه من الصعب جداً في الطوائف (المجموعات الرعويّة المحليّة) المسيحية والأحزاب المسيحية تحديداً؛ العثور على تفهّم لشركاء المواطنة الأجانب، والقبول بنصيبهم من الحياة المجتمعيّة والسياسيّة المساوي في الأحقِّيّة”، معتبرة أنّ الخوف من الاغتراب المجتمعي جراء وجود الأجانب والمسلمين، والخشية من الإسلام “هما أقوى بكثير من محبّة الآخر (die Nächstenliebe)”، التي تتضمّنها التعاليم الدينية. وتفرِّق المسؤولة بين موقف المجموعات الرعويّة المسيحية على المستوى المحليّ، والأحزاب المسيحيّة من جانب؛ والمواقف التي تتخذها الكنائس عبر هيئاتها القيادية على المستوى الاتحاديّ الألمانيّ ككلّ والتي لم تَرصد لديها ما يبعث على انتقادات كهذه[81].

ورغم طابعها العمّالي؛ فإنّ الهجرة التركية إلى الجمهورية الاتحادية لم تُكافَأ باهتمام لائق من جانب النقابات الألمانيّة. فالحركة النقابيّة، التي تأخر تطوّرها في جمهورية ألمانيا الاتحادية، أهملت طويلاً مصالح من يُوصَفون بالعمال الأجانب واهتماماتهم، لصالح التركيز على المصالح والاهتمامات المتعلِّقة بالقوى العاملة الألمانيّة التقليديّة، وهو ما تجسّد كذلك في مدى حضور ممثِّلين عن القوى العاملة الأجنبيّة على القوائم المتنافسة في الانتخابات النقابيّة. وبينما رُصِدت ملاحظاتٌ في هذا الاتجاه في وقت مبكِّر نسبياً[82]؛ فإنّ ما كان حريّاً بتلك النقابات هو أن تشجِّع التضامن والتواصل بين العمّال الألمان والأجانب، وهو ما لم تتوفّر لعقود متعاقبة مؤشِّرات جادّة عليه.

وتكشف المعطيات الديمغرافية بعض خصوصيات الوجود المسلم في ألمانيا. فعلى سبيل المثال؛ عند التركيز على الحالة الديمغرافية لولاية بريمين (Bremen) الألمانية، وفق معطيات العام 2000؛ سيتبيّننّ أنّ سكان تلك الولاية يُفترض أن يزيد عددهم، إلاّ أنّ العدد يتناقص باطراد، وبدون “المهاجرين” فإنّ التناقص السكانيّ في الولاية سيكون أكثر حدّة. فخلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين فقدت مدينتا بريمين (Bremen) وبريمينهافن (Bremenhaven) وحدهما بالولاية 45 ألف شخص عبر التناقص في الولادات، ويُتوقّع أن يبلغ التناقص في الولادات في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين 63 ألف شخص[83]. ويُستدلّ من المؤشِّرات الرسميّة المرصودة أنّ الهجرة من خارج ألمانيا ستضطلع بدور كبير في احتواء مشكلة التناقص العددي في الولاية[84].

ويتركّز الوجود السكانيّ في ولاية بريمين المتحدِّر من خلفية هجرة؛ في المستويات الأدنى من ناحية الهرم العمري، بالمقارنة مع الوجود الأصليّ لسكان الولاية الذي يبدو بوضوح أكبر سنّاً[85].

وقد ارتفع عدد السكان “الأجانب” في ولاية بريمين الألمانية بين عامي 1980 و1999، من 48 ألفاً إلى 81 ألفاً، ولكنّ عدد العاملين “الأجانب” في الولاية قد انخفض خلال تلك المدة الزمنية بمقدار ثلاثة آلاف شخص[86]. ويُستدلّ من الإحصاءات الرسمية؛ أنّ المسلمين يشكِّلون ما لا يقل عن نصف عدد الأجانب في ولاية بريمين الألمانية[87].

ويرتبط هذا الوجود الأجنبي، والمسلم ضمناً، بصعوبات عدة، إذ أنّ “الصور تتشابه في كل مكان يعيش فيه كثير من المهاجرين؛ فالظروف المعيشيّة للناس (المهاجرين) لا تبدو نسبيّاً ملائمة، والعكس صحيح”. و”غالباً ما يتوجّب على المهاجرين أن يَنشؤوا عند بؤر التوتر المجتمعي وفي أسر ذات موارد ضئيلة”، وتحدّ هذه الظروف المعيشية من فرصهم في مجالات شتى[88]. وما يزيد القلق؛ أنّ “الناس الذين يَنشؤون في ظروف ذات امتيازات متدنية؛ يحققون في المعدل مستوى تأهيلي متدنٍّ للغاية”، وهي ملاحظة مرصودة بقوة لدى المهاجرين[89].

ولكن هناك ما يدلِّل على تراجع في حدّة المؤشِّرات المتعلقة بالتأهيل في ولاية بريمين الألمانية، ففي عام 1980 كان ما نسبته 34.1 في المائة من التلاميذ الأجانب الذين فرغوا من المدرسة قد غادروها بدون مؤهِّلات تعليمية (شهادة)، لكنّ هذه النسبة قد تراجعت إلى حدود النصف بحلول عام 1999، بواقع 19.3 في المائة. وأمّا نسبة الحائزين على الشهادة الثانوية العامة (Abitur) من التلاميذ الأجانب بالولاية؛ فقد ارتفعت بنحو أربعة أضعاف خلال تلك المدة من 4.5 في المائة إلى 17.6 في المائة[90].

وكما يتبيّن في حالة هذه الولاية؛ فإنّ الواقع لم يصدِّق التوقعات بأن تنعكس نجاحات اندماج المهاجرين في القطاع التعليمي على مشاركتهم في وظائف ذلك القطاع[91]. بل تُظهِر الدراسات في حالة الولاية أنّ هناك ميولاً نحو الإقصاء الإثني، والذي قد يشمل البُعد الديني، في ما يتعلق بالاستيعاب في وظائف القطاع التعليمي والتأهيلي الجذّابة[92].

وبحلول نهاية التسعينيات من القرن العشرين؛ أخذت معدلات البطالة لدى القوى العاملة المتحدِّرة من خلفية هجرة، في ولاية بريمين، تقفز إلى نسبة 30 في المائة، بينما كان المعدّل العام المرصود لبطالة مجمل القوى العاملة في الولاية تبلغ نصف ذلك. وكمؤشر عام؛ فإنّ البطالة في صفوف “المهاجرين” تبلغ باستمرار تقريباً ضِعف معدلها المرصود لدى مجمل القوى العاملة في الولاية بمن فيهم المهاجرون أنفسهم، ما يعني أنّ المؤشِّرات ستبدو أكثر حِدّة في ما لو جرت المقارنة حصراً مع القوى العاملة ضمن الوجود الأصلي[93].

4/ تبلور واقع مأزوم في العلاقة مع الوجود المسلم في أوروبا:

وقد جاء ذلك عبر تصاعد حدّة الجدل بشأن كيفية إدارة العلاقة مع الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، والنظرة الاستثنائية تقريباً في التعاطي مع هذا الوجود في عدد من بلدان أوروبا، علاوة على صعود المخاوف في البلدان الأوروبية والغربية من صور التطرف والتشدّد والعنف والترويع المنسوبة للدائرة الإسلامية.

ويترافق ذلك مع استشعار الأجواء الضاغطة على الوجود المسلم في أوروبا، متمثلة في نشاط بعض الأطراف العنصرية، وفي ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، وفي الأصوات التحريضيّة أو المتحاملة على مسلمي هذه القارّة، وهو ما اكتسب إجمالاً زخماً ملحوظاً في ظل تحوّلات ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وما أعقبها من محطاتٍ من قبيل تفجيرات مدريد (2004)، ولندن (2005)، وأعمال العنف في هولندا في خريف 2004 على خلفية مقتل المخرج تيو فان جوخ (Theo van Gogh)، وأزمة الرسوم الدانمركية المسيئة للمقام النبوي الشريف بدءاً من خريف 2005. ثم جاءت أزمة تصريحات بابا الفاتيكان بيندكتوس السادس عشر في أيلول (سبتمبر) 2006 تواصلاً مع ذلك كله.

5/ التباين في الرؤى والممارسات في التعامل مع المسلمين والأقليات:

إذ تتعدّد الرؤى والممارسات والتجارب القائمة في التعامل مع المسلمين أو الأقليات، في الواقع الأوروبي، بين الإقصاء والمشاركة، أو بين الإذابة والاندماج. ويعود ذلك أساساً إلى خلفيات عامّة، مثل الخبرة التاريخية لكل بلد في العلاقة مع الأقليات، وهنا تقف الدانمرك وهولندا على طرفي نقيض تقريباً مثلاً، كما تفترق التجربتان الفرنسية والسويدية بوضوح في هذا الحقل. ويرتبط ذلك أيضاً بخصوصيات الثقافة السياسية لكل بلد أوروبي، علاوة على التباينات في الأطر الدستورية والقانونية لجهة العلاقة مع الأديان والطوائف الدينية. وعليه؛ فإنّ المصطلح الواحد عادة ما يحمل دلالات غير متطابقة بين بيئة أوروبية وأخرى، بل وداخل البيئة الواحدة أيضاً، كما يتجلّى في مصطلح “الاندماج” (Integration). وتتفرّع عن هذه التباينات ممارسات متفرِّقة المشارب والأهواء في التعامل مع المسلمين والأقليات في الفضاء الأوروبي، تأخذ طابع النزوع إلى الإقصاء في حالات والترغيب في المشاركة في حالات أخرى، وهناك من يعمد إلى محاولة الإذابة أو الصهر الثقافي، مقابل من يدركون أهمية الاندماج بصفته الإيجابية ويشجعون التعدّدية في الفضاءات الثقافية والمجتمعية.

6/ نموّ في صور تعبير مسلمي أوروبا عن الذات:

وقد يأخذ ذلك طابع التفاعل مع بعض المجريات المجتمعيّة والسياسيّة، في ظل مساعٍ للنهوض في أوساط مسلمي أوروبا، مع استمرار معضلات عدّة في صفوفهم أو حتى تفاقمها. ومن المتوقع أن يتجّه مسلمو أوروبا نحو مزيد من المأْسَسَة في نطاقاتهم وضمن آليات مشاركتهم المجتمعيّة وربما السياسيّة أيضاً. وقد تكفي للإشارة إلى ذلك ملاحظةُ الاتجاه الملموس في أكثر من بلد أوروبي لتشكيل أطر يُؤمَل منها أن تكون جامعة للوجود المسلم أو معبِّرة عنه، وربما ممثِّلة له[94]، وإن كان رصيد النجاحات في هذا الحقل بقي محدوداً على نحو عام. كما تلحق بذلك مساعٍ لتشكيل أطر معبِّرة عن قطاعات الوجود المسلم في البلدان الأوروبية ككلّ.

وفي ما يتعلّق بالمسلمين في النمسا مثلاً، يرى رئيس الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا (IGGiÖ)، أنس الشقفة، أنّ “قصة النجاح الحقيقية” بالنسبة للهيئة الممثِّلة للمسلمين “جرت وتجري باستمرار في رؤوس الناس. ففي الأعوام الخمسة والعشرين الماضية (1979 ـ 2004)، وخاصة في عشرة الأعوام المنصرمة (1994 ـ 2004)؛ حدث تحوّل أساسي في تفكير الأغلبية المُطلَقة من المسلمين في هذا البلد”، مشيراً إلى أنّ هذا التحوّل يجري في اتجاه الانتماء إلى النمسا كوطن والاعتزاز بذلك[95].

7/ التحوّلات التي طرأت على حالة الوجود المسلم التاريخي في أوروبا الشرقية:

وذلك مع انهيار أنظمة الحكم الشموليّة في الشطر الشرقيّ من القارة، الذي يتركّز فيه الوجود المسلم المتواصل تاريخياً في الديار الأوروبية. والمفارقة أنّ ذلك الوجود كان يُفترَض مع ذلك التحوّل أنه بات بوسعه أن يتمتّع بفرص واعدة من الحريّة الدينيّة وربما السياسيّة؛ لكنّه كان عليه أن يواجه محناً عسيرة كادت في بعض الحالات أن تعصف به وتجتثّه، عبر حروب الإبادة والاستئصال، مثل ما شهدته البوسنة والهرسك (1992 ـ 1995)، وأيضاً عبر اختبار حرب كوسوفا (1999). ومع ذلك؛ فإنّ التحوّلات التي شهدتها أوروبا الشرقية مكّنت لفرص لم تكن متاحة طوال نصف قرن تقريباً، للتعبير عن الحضور الدينيّ المسلم، وتطويره. كما أنعش ذلك بعض الآمال في استعادة الأوقاف الإسلاميّة المسلوبة أو المصادرة أو المطموسة، أو بعض منها على الأقل.

8/ ملامح تحوّل نسبيّ في الثقافة السياسية في بلدان أوروبا نحو تعزيز فكرة مشاركة المواطنين في الشأن السياسي:

ورغم أنّ ذلك لم يكن ليعني على الأغلب نشوء تحوّلات عميقة أو شاملة في هذا الاتجاه بالكيفيات المثلى؛ إلاّ أنّه لا يمكن إغفال بعض التطوّرات التراكميّة التي طرأت على آليات المشاركة المجتمعية وصورها، منذ سبعينيّات القرن العشرين، والتي تلاحقت منذ ذلك الحين، ومنحت وزناً أكبر بالتالي للمشاركة السياسية غير المباشرة (خاصة عبر تفاعل المجتمع المدني مع الشأن السياسي). كما تلحق بذلك القفزات التي شهدتها ميادين الاتصال والإعلام والتشبيك الإلكترونيّ منذ تسعينيّات القرن العشرين، وهو ما ترك أثرَه الملموسَ في واقع العمل السياسيّ والمجتمعيّ.

9/ تسارع عملية التكامل الأوروبي:

جاء ذلك مع بروز تجربة الوحدة الأوروبيّة، ممثّلة بالاتحاد الأوروبي، الذي بات يضمّ مع حلول عام 2007 سبعاً وعشرين دولة، وهو عدد يُنتَظر أن يتزايد في الأعوام المقبلة. ويُفترَض أن يفتح ذلك آفاقاً جديدة أمام مشاركة المسلمين السياسيّة، سواء من خلال مؤسّسات الوحدة، كالبرلمان الأوروبي مثلاً، أو عبر التواصل والتنسيق في ما بينهم وتعزيز تجاربهم وتطويرها مع تبادل الخبرات، فضلاً عن تواصلهم مع التجارب السياسيّة والمجتمعيّة القائمة في عموم أوروبا ككلّ. ويرافق ذلك نشوءُ اهتمام قاريّ بملف العلاقة مع الشأن الإسلامي، بما يتيحه ذلك من آفاقٍ وفُرَص، أو حتى تحدِّياتٍ وربما مكامن قلق. وقد يَكمُنُ القلقُ مثلاً في ما يتعلّق ببعض جوانب القصور لجهة إبداء ضمانات للأقلِّيّات في نطاق الاتحاد الأوروبي مثلاً[96].

10/ تنامي الشعور بالهويّة والخصوصيّة الإسلاميّة في أوساط مسلمي أوروبا:

وقد جاء من جانب بمفعول حالة من الوعي الإسلامي كثيراً ما جرى التعبير عنها في أوساط المسلمين ﺑ “الصحوة الإسلامية”، وهو تعبيرٌ شاع استخدامه منذ نهاية سبعينيّات أو بداية ثمانينيات القرن العشرين تقريباً. ومما يُلاحَظ أيضاً؛ أنّ تنامي ظاهرة الإساءة للدين الإسلامي والتحريض ضد المسلمين كفيلة جزئيّاً بأن تُبَلوِر الوعي بالهوية المسلمة، خاصة وأنّ بعض الأصوات التحريضيّة والعدائيّة تتعامل مع الجميع ضمن نطاق مسلمي أوروبا على أنهم مسلمون قبل أن يكونوا أتراكاً أو آسيويِّين أو عرباً، وهو ما من شأنه أن يستحثّ الوعي بالهوية المشتركة لمسلمي أوروبا[97].

من ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا:

بدت المشاركةُ السياسيّةُ لمسلمي أوروبا في الغالب مكتسبةً طابع الأداء المتقطِّع، الذي لا يستندُ إلى برامج متواصلة أو أدوات مستقرّة. ورغم المؤشرات المتصاعدة لفعل المشاركة هذا في الأعوام القليلة الماضية؛ إلاّ أنّ الحصيلة العامة لتجاربها تبدو متواضعةً، وغالباً ما جاءت أدنى بوضوح من المنسوب المتعارَف عليه في الساحتين المجتمعية والسياسية في بلدان القارة، مع تفاوت في ذلك بين بلد أو إقليم وآخر.

ومع هذا؛ فإنّ المؤشرات تسير عموماً في اتجاه نموّ المشاركة السياسيّة للمسلمين، وربما النموّ المتسارع بشكل ملحوظ في بعض البلدان والأقاليم، ومن المتوقع أن يكون ذلك النموّ في الأمد القريب كمِّيّاً أكثر من كونه نوعيّاً، أي بحجم الحضور في الميادين ذت الصلة بالتأثير السياسيّ، من ناحية الثقل والزخم (كما في مدى إقبال الناخبين المسلمين على الاقتراع، وأعداد المسلمين المرشّحين على القوائم الحزبية، وأعداد البرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية، ووتيرة الإدلاء بمواقف سياسيّة أو عدد البيانات التي يجري إصدارها، وغير ذلك)، في ما أنّه يبقى مُنتَظَراً أن يطرأ نموٌّ في الجوانب النوعيّة للمشاركة، والتي يمكن أن تمنحها تأثيراً أكبر (مثل جودة الأداء السياسي، ومواصفات المواقف والبيانات ونوعية التصريحات، وطبيعة الصلات مع المستوى السياسي، وغير ذلك).

تجارب المشاركة من واقع الحالة البريطانية:

تُعتبر جولة الانتخابات العامة البريطانيّة التي جرت في عام 1997، محطّةً زمنيّة هامة بالنسبة لتجربة المشاركة السياسية لمسلمي بريطانيا. ففي تلك الجولة تمكّن أول مسلم من الدخول إلى مجلس العموم (المجلس الأدنى البرلمان)، وهو محمد سِروار، النائب عن حزب العمال من غلاسغو (اسكتلندا). وقد تميّزت تلك الجولة بتقدم حزب العمال وفوزه بالحكومة التي أمسك حزب المحافظين بزمامها لمدة ثماني عشرة سنة متواصلة حتى ذلك الحين.

ويمكن اعتبار تلك الجولة محطّةً على طريق تطوّر تجربة مشاركة مسلمي بريطانيا في الساحة السياسية. ففي الانتخابات البرلمانية اللاحقة التي جرت في السابع من حزيران (يونيو) 2001؛ بدت ساحة مسلمي بريطانيا أكثر تنظيماً وفاعلية من ذي قبل، وهو ما تجلّي مثلاً في نهوض “المجلس الإسلامي البريطاني” (MCB) (تأسّس في 1997) بوصفه مظلّة تمثيليّة لمعظم المؤسسات الإسلامية الفاعلة على الساحة، كما أنّ أساليب الحشد والتعبئة والتوجيه بدت أكثر فعالية في العام 2001، مع استفادة نسبيّة من تقنيّات التشبيك الإلكتروني في هذا الصدد. وقد تكفي الإشارةُ في هذا الصدد إلى حملة “التصويت الذكي” أو النبيه (Smart Voting) التي أطلقها بعضُ المسلمين لتوجيه الأصوات على أسس أكثر وعياً، وإن كان تأثير الحملة في حينه بقي موضع تساؤل بالنظر إلى طبيعة السلوك التصويتي الفعلي للناخبين المسلمين. فرغم ما انطوت عليه من نموّ نسبيّ؛ جاءت الجولة الانتخابية البرلمانية التي جرت في العام 2001 مخيِّبة لآمال قطاع واسع من مسلمي بريطانيا، لأنها لم تنجح في إيصال أكثر من نائب مسلم إضافي إلى مجلس العموم، هو خالد محمود، من حزب العمال عن برمنغهام (إنجلترا)، إلى جانب احتفاظ النائب محمد سِروار بمقعده، في ما أخفق 32 مرشحاً مسلماً في الفوز.

ولكنّ تلك الجولة (2001) على نحو خاص؛ حملت معها بعض المستجدّات والمزيد من الخبرات بالنسبة لمسلمي بريطانيا، وهو ما يمكن إيجازه في الأبعاد التالية التي يمكن التعرّف عليها من خلال الملاحظات المتوافرة في ساحة مسلمي بريطانيا آنذاك:

1/ انعكس وصول نائب مسلم إلى مجلس العموم البريطاني في جولة 1997 الانتخابية؛ بالإيجاب إلى حدّ كبير، على منسوب اهتمام الجمهور المسلم في بريطانيا بالتفاعل مع جولة 2001، ويبدو أنها ساهمت في اجتياز حاجز معنوي، بل وتفكيك بعض الانطباعات والأحكام المسبقة في صفوف بعض قطاعات مسلمي بريطانيا، من قبيل ذهاب بعضهم في ما سبق إلى حدّ استبعاد إمكانية وصول مسلم إلى البرلمان.

2/ من الخبرات التي راكمتها جولة انتخابات 2001؛ التواصل المتزايد لممثلي الأحزاب السياسية المتنافسة مع المسلمين، بما في ذلك حزب المحافظين الذي لا يحظى في العادة بإسناد الناخبين المسلمين في بريطانيا. فقد قام وليام هيغ، مرشح المحافظين آنذاك لرئاسة الوزراء، بالاجتماع مع ممثلي المؤسسات الإسلامية الكبرى، وأبدى تقديره للدين الإسلامي، كما يفعل منافسه طوني بلير. وقد ركّز هيغ في الوقت ذاته على “قيم الأسرة” في الإسلام وتأثيراتها الإيجابية على المجتمع البريطاني، انسجاماً مع منطلقات حزبه المحافظ. وقد شهدت تلك الجولةُ محاولاتٍ من جانب الأحزاب الرئيسة في الحياة السياسية البريطانية لاستقطاب أصوات الناخبين المسلمين، وهي أحزاب العمال، والمحافظين، والديمقراطيين الأحرار (الليبراليين). وفي هذا السياق؛ تنامى الوعيُ في أوساط المسلمين بأنّ المجاملات الرمزية من جانب الأحزاب لخطب ودّهم لم تعد كافية ولا تصحّ المبالغة في التعويل على مفعولها الواقعيّ في الساحة السياسيّة.

3/ تبيّن لقطاعات من المسلمين، وخاصة بالنسبة للمؤسسات الإسلامية الفاعلة؛ أنّ مجرّد صعود نائب مسلم أو أكثر إلى البرلمان يبقى مكسباً محدوداً، وربما رمزيّاً إلى حدّ كبير، إذا لم يتوافق ذلك الصعودُ مع توجّهاتٍ وبرامج عمل في الفضائيْن السياسي والمجتمعي.

4/ اتّضح من خلال تجربتيْ انتخابات 1997 و2001 لمجلس العموم؛ أنّ تمثيل المسلمين من خلال نائب أو اثنين في البرلمان، لمجرد انتمائهما للوجود المسلم في البلاد؛ لا يشكل وحده مؤشراً على النجاح، فالتمثيل الفعلي والجاد يتأتي أساساً من خلال أداء النائب وفعاليّته ودوره. وقد تبلور الانطباعُ على ما يبدو بأنه لم يعد بالوُسع دعم مرشّح بعينه لمجرّد كونه مسلماً، بل لا بدّ من ملاحظة جملة من العوامل الأخرى.

5/ أفرزت التجربة المتراكمة حتى حينه عِبراتٍ ودروساً، كان منها أنّ عملية “تمثيل المسلمين” في البرلمان، لا يمكن أن تُترَكَ بالكامل للأحزاب السياسية وأولويّاتها وموازناتها وخياراتها التفضيليّة، بل لا بدّ من أن يكون للأطراف المعبِّرة عن الحضور المسلم دور فاعل في هذا الجانب.

6/ بالنظر إلى الفارق الكبير بين عدد المرشّحين المسلمين لمجلس العموم (34 مرشّحاً) على قوائم الأحزاب، وعدد الذين تمكّنوا من الوصول إلى المجلس بالفعل (مرشّحان فقط)؛ فقد بدا لذلك العدد من المرشحين المسلمين مفعولٌ امتصاصيّ للأصوات المسلمة تغتنمُه الأحزاب دون جدوى مكافئة للثقل التصويتيّ يمكن أن يعود على الوجود المسلم ذاته[98].

7/ استقرّت القناعة في أوساط مسلمي بريطانيا مع تلك التجارب؛ أنه ينبغي الانفتاح قدر الممكن على كافة الأطراف السياسية في الساحة، باستثناء تلك المتطرِّفة (كالحزب القومي البريطاني BNP المعادي للمسلمين)، دون منح الانطباع المسبق بأنّ الصوت المسلم محسومٌ لصالح حزب بعيْنه (وهو في الحالة البريطانية حزب العمال، كما عليه الحال عادة). في ما أنّ تقدير الطرف أو الأطراف المؤهّلة لكسب أصوات المسلمين يبقى إجراء مترتِّباً على مضامين البرامج واتجاهات المواقف وحصيلة عملية الاتصال السياسي للمسلمين مع ممثلي الأحزاب على المستوى البريطاني العام وعلى مستوى الدوائر كلّ على حدة، مع استصحاب مجمل الموازنات ذات العلاقة.

8/ مع ترشّح عدد غير مسبوق في حجمه من المسلمين على قوائم الأحزاب السياسية المتعارضة لانتخابات 2001، بلغ 34 مرشحاً للبرلمان؛ رافقت ذلك بعض المستجدّات غير المألوفة، من قبيل تنافس أكثر من مرشّح مسلم على قوائم أحزاب عدّة ضمن دائرة انتخابية واحدة، وهو ما أبرز إشكالية تشرذم الصوت المسلم في بعض الدوائر، لكنه ربما شجّع اتجاه المفاضلة بين المرشّحين المسلمين على أسس أكثر وعياً في ما بعد. وقد كانت برمنغهام نموذجاً على التعارض الصارخ وحالة التشرذم تلك، عندما ترشّح ستة مسلمين على قوائم أحزاب متنافسة في دائرة سباركروك وسمول هيث، وقد أخفقوا جميعاً ليفوز مرشح غير مسلم.

9/ ظهرت في تلك الجولة الانتخابيّة ملاحظاتٌ ناقدة في بعض الأوساط المسلمة تتعلّق بمدى تقاطع المصالح وافتراقها، بين الحزب السياسي والجالية المسلمة، لدى تقويم سلوك بعض السياسيين المسلمين في الأحزاب البريطانية. فمثلاً؛ خسر محمد رياض، المرشّح المسلم عن حزب المحافظين في دائرة غربي برادفورد (إنجلترا)، فوزاً كان يبدو مضموناً سلفاً، وذلك على ما يبدو بمفعول تدخّل أطراف مسلمة من حزب العمال للترويج للمرشح العمالي (غير المسلم) في الدائرة ذاتها. وقد خسر محمد رياض المقعدَ النيابيّ آنذاك بفارق يقارب أربعة آلاف صوت عن منافسه، وهو ما اعتُبر في حينه فارقاً ضئيلاً.

10/ أظهرت الجولةُ الانتخابيّةُ لعام 2001، وجودَ أطراف في ساحة مسلمي بريطانيا، تحاول ثني المسلمين عن التصويت والاقتراع، وهي تقول بحرمة المشاركة في الانتخابات على سبيل القطع. وقد خاضت تلك الأطرافُ، ومن أبرزها “حزب التحرير” وجماعة “المهاجرون”، حملاتٍ واسعة النطاق نسبيّاً في هذا الاتجاه، في ما رُصدت حالةٌ واضحةٌ من الاستياء في صفوف القطاع الأعرض من المؤسسات الإسلاميّة البريطانيّة من هذه الاتجاهات، خاصة وأنّ هناك من قام بالمشاغبة على فعاليّات التواصل السياسيّ للمسلمين مع ممثِّلي الأحزاب. وقد تكرّرت تلك المحاولات في انتخابات 2005، في ما أعرب بعضُ المسلمين المعنيِّين بالتواصل السياسيّ عن شكواهم من عمليات الإخلال بفعاليات نظّموها مع مرشّحي الأحزاب.

11/ تَبَلْوَرَت ملاحظاتٌ ناقدةٌ إزاءَ ترشيح نوّاب مسلمين على قوائم الأحزاب في دوائر غير مضمونة بالنسبة إليها، وهو ما أثار تساؤلاتٍ وشكوكاً في صفوف المسلمين بشأن جدِّيّة تلك الأحزاب في الوصول بأولئك المرشحين إلى البرلمان. ويمكن النظر إلى تلك الملاحظات في سياق منسوب الثقة من جانب قطاعات المسلمين بهذه الأحزاب، خاصة لجهة مدى استعدادها الفعلي لإتاحة المجال أمام صعود شخصيّات مسلمة إلى مراتب الحياة السياسية بطريقها. وقد تكرّرت هذه الظاهرة في جولة الانتخابات البرلمانية لعام 2005.

12/ لوحظ تأثيرُ التعبئة والتعبئة المضادة، ومفعول الإشاعات على اضطراب السلوك التصويتيّ للمسلمين في بعض الدوائر، وهو ما يتجلّى مثلاً في موقف الناخبين المسلمين من مايك غيبس، مرشّح حزب العمال عن دائرة إيلفورد الجنوبية بلندن، والذي لا يقف على التوافق مع المؤسسات الإسلامية البريطانية في ما اشتُهر بانحيازه للدولة العبرية وتقلّده منصب نائب رئيس “جمعية أصدقاء إسرائيل” بحزب العمال. فقد سادت إشاعات قبل نحو أسبوع من انتخابات 2001 البرلمانية تتحدّث عن أنّ مشكلة المسلمين والمؤسسات الإسلامية مع غيبس قد حُلّت بشكل ما. وقد تردّدت تقديراتٌ[99] بأنّ شخصيات مسلمة بعينها في حزب العمّال قد وقفت وراء تلك الإشاعات لاجتذاب الأصوات لصالح مرشح الحزب هذا.

 

ورغم اتساع آمال مسلمي بريطانيا في تحقيق أداء أفضل للمرشحين المسلمين لمجلس العموم، في انتخابات أيار (مايو) 2005؛ إلاّ أنّ النتيجة جاءت فاترة للغاية. فلم ينجح سوى أربعة نواب مسلمين في الوصول إلى المجلس، منهم نائبان سابقان.

وهكذا فإنّ النواب المسلمين في مجلس العموم لدورة 2005 ـ 2009 هم بالإضافة إلى محمد سِروار (عن غلاسغوGlasgow ولدورة ثالثة على التوالي) وخالد محمود (عن برمنغهام Birmingham ولدورة ثانية على التوالي)؛ النائب الجديد شاهد مالك (عن ديوسبري Dewsbury)، والنائب صادق خان (عن توتنغ Tooting ). واللافت للانتباه أنّ هؤلاء الأربعة هم من حزب العمال، وقد جاء ذلك رغم ترشّح 74 مسلماً في تلك الانتخابات، 48 منهم على قوائم الأحزاب الرئيسة (العمال، المحافظون، الليبراليون الديمقراطيون). ويرى الصحافي البريطاني المسلم أحمد فيرسي، محرِّر صحيفة “مسلم نيوز” اللندنية[100]، أنّ نسبة المسلمين العدديّة في بريطانيا كانت تقتضي وجود عشرين نائباً مسلماً في مجلس العموم. ومع ذلك؛ فإنّ هناك مؤشِّرات تتحدّث عن تأثير لأصوات المسلمين على فرص بعض المرشحين (غير المسلمين) بالإيجاب أو السلب، بحسب مفاضلة الصوت المسلم بين المرشّحين، وهو تكييفٌ نسبيّ للسلوك التصويتيّ شجّعت عليه حملاتُ الإرشاد التي قامت بها الأطراف المسلمة المعنيّة.

وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ نتائج انتخابات مجلس العموم للأعوام 1997، 2001، 2005؛ تُظهِر أنّ الثقل التصويتي للمسلمين هو أبرز حضوراً في الانتخابات المحلِّيّة أساساً، وهو ما تؤكِّده انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2004 أيضاً.

ولدى تحليل التطوّرات التي طرأت على تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، من خلال الجولات الانتخابيّة البرلمانيّة، لعام 1997، وعام 2001، وعام 2005؛ يمكن ملاحظة أنّ تلك التجربة قد اجتازت ثلاث مراحل ضمنيّة:

أولاً/ مرحلة الخروج من عهد الانكفاء على الذات، واجتياز الحاجز المعنوي الذي يحول دون التواصل مع الساحة السياسية، وبدء التعرّف على الساحة السياسيّة والاحتكاك بها، مع الاهتمام المبالغ به بالأبعاد الرمزيّة للمشاركة السياسيّة، دون نضوج مضامين أو برامج جادّة لتلك المشاركة.

ثانياً/ مرحلة التعاطي مع الأحزاب السياسيّة بانفتاح نسبيّ، ومع قدْر واضح من الاضطراب في البوصلة السياسية، وذلك بمفعول تدفّق الخبرات المتجدِّدة بصفة أسرع من أطوار النضوج التي تشهدها مراكز التوجيه السياسي العام للجمهور المسلم. ومن الصعب القول إنّ إرادةً سياسيّةً مسلمة قد نضجت في تلك المرحلة بصفة مستقلّة عن الاستقطابات الحزبيّة. ويبدو أنّ الملامح الكبرى لتلك المرحلة قد طُوِيَت مع صعود حضور جديد لمسلمي بريطانيا في الساحتين السياسية والمجتمعية، بدءاً من عامي 2002 و2003، وهما اللذان ترافقا مع تحرّكاتٍ واسعة واصطفافاتٍ ملحوظة داخل الساحة البريطانية لمواكبة التطوّرات السياسيّة الدوليّة التي كانت بريطانيا طرفاً فيها بصفة مباشرة أو غير مباشرة[101].

ثالثاً/ مرحلة التحوّل للتعاطي الواقعيّ والموجّه نسبيّاً مع الساحة السياسيّة، مع تَبَلْوُر تدريجيّ لما يشبه القيادة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، وهي عبارة عن بعض نقاط الارتكاز والاستقطاب[102]، مع اتجاه ملموس لديها بشكل عام للحرص على إبقاء هامش استقلاليّ عن الأحزاب السياسية. وتميّزت هذه المرحلة، التي عبّرت عن ذاتها في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أيار (مايو) 2005؛ بالاكتراث المتزايد بالمضامين والبرامج دون المبالغة في التوقّف عند الأبعاد الرمزيّة البحتة أو الحضور الشكليّ في المواقع السياسيّة. فقد عمّم المجلس الإسلامي البريطاني بطاقاتٍ إرشادية على الناخبين المسلمين يوجِّههم فيها إلى القضايا التي يجدر أن يراعوها في المفاضلة بين المرشّحين بغض النظر عن أحزابهم. ويمكن ملاحظة أنّ تفاعل الأطراف المعبِّرة عن مسلمي بريطانيا في هذه المرحلة مع الجولات الانتخابية؛ لم تعد تقتصر على الانتخابات البرلمانية (مجلس العموم) وحدها؛ بل مع شتى الجولات الانتخابيّة المتاحة في الساحة السياسية، كالانتخابات المحلِّيّة والبلديّة، وانتخابات البرلمان الأوروبي. بل يُعرِب أنس التكريتي، أحد وجوه الحياة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي بريطانيا، عن تقديره بأنّ “المجتمع المسلم (البريطانيّ) وضع قدمه بشكل قويّ وراسخ في حقل المباراة السياسيّة، إمّا على الصعيد الأوروبي، أو على الصعيد البلدي ـ المحلي، أو على الصعيد البرلماني البريطاني وغيره”[103].

وترى قيادات بريطانيّة مسلمة، أنّ هذا الحضور السياسي يأتي ضمن نسق من المشاركة المجتمعيّة الواسعة، فَطِبقاً لتقديرات إقبال سكراني، الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB)؛ “يتواجد المسلمون في بريطانيا منذ قرون عديدة. وحيث أننا نشكل ثاني أكبر ديانة في بريطانيا، نجد أنفسنا الآن نساهم في نسيج ورفاهية مجتمعنا بطرق لا تُعَدّ ولا تحصى، تتراوح ما بين المشاركة في الحياة السياسيّة والأكاديميّة والماليّة، وفي مجال القانون والتعليم والصحافة والفنون الإبداعية، وهذه أمثلة معدودة من بين الكثير من المجالات”[104].

وعلى أيّ حال؛ فمِمّا يلفت الانتباهَ في تطوّرات المشاركة السياسيّة بالنسبة لمسلمي بريطانيا؛ أنّ الطموحَ لم يعد يقتصر على مجرّد إنجاح نائبٍ مسلم، وإنما تعداه إلى تحرِّي الجدوى المنشودة من ذلك، في ما شهدت هذه المرحلة اتجاهاً واضحاً نحو بناء التحالفات مع نواب وسياسيِّين غير مسلمين ودعمهم، سواء على مستوى البرلمان، أم على المستويات المحلية، وتمثل حالة عمدة لندن كين ليفنغستون نموذجاً واضحاً على ذلك الاتجاه.

ويجدر التساؤل عن كيفيّة التوصيف الأدقّ لدور سياسيٍّ مسلم ما، أو سياسيّة مسلمة، في حزب أوروبي، فهل يتعلّق الأمر حقاً ﺑ “سياسيّ” أو “سياسيّة” بالمفهوم “المتعارف عليه”، أم أنه في الأساس معبِّر أو معبِّرة عن “الطائفة” أو “الجالية” المسلمة لدى الحزب
و/ أو بالعكس. ولمّا كان الجمع بين الدوْرَيْن ممكناً ومتوقّعاً، وربما ملموساً أحياناً؛ فإنّ التساؤل المحدّد يتعلّق بمدى تقدّم أيّ من الدوْرَيْن على الآخر، وما الذي يترتّب على ذلك في مستوى الممارسة.

وتؤشِّر هذه المسألة، في واقع الأمر؛ إلى طبيعة تموضع السياسيِّين المسلمين في أوروبا وانتشارهم في الساحة؛ أيكون في قلب ساحة الفعل السياسيّ أم على أطرافها. وما يُكسِب النقاش مزيداً من الجدِّيّة؛ ما يتّصل بالسلوك الاستقطابي الذي تمارسه الأحزاب إزاء فئات الجمهور، والأقلِّيّات منها تحديداً، خاصّة بالنظر إلى حاجة الأحزاب لامتصاص الكمّ التصويتيّ لفئات الناخبين، والذي يتطلّب وجود سياسيِّين معبِّرين عن تلك الفئات في نطاقها الحزبي وعلى قوائمها الانتخابية.

ومن بين الداعين لتحاشي النمط التقليديّ في التصويت بناء على مجرد الانتماء الاثنيّ أو الدينيّ؛ يبرز المفكر طارق رمضان، الذي يرى أنّ “المشاركة بصفة المواطن يتوجب تأسيسها قبل كلّ شيء على الوعي بالمسؤولية، وليس فقط على شعور غير محدّد بالانتماء. إنّه فارق حاسم في أوقات الانتخاب خاصّة. والأنسب للأوروبيين من ذوي الديانة الإسلامية أن يختاروا تلك المشاركة التي يلتزمون بها حسب ضميرهم وفهمهم، وليس حسب معايير الهوية الإثنيّة أو الدينيّة. فلا يكفي أن يكون لمرشّح اسم ذو وقع هندي ـ باكستاني أو مغاربي أو مسلم؛ من أجل تبرير انتخابه. إنّ العقيدة الإسلامية تُلزِم ضميرنا والتعقّل الديمقراطي يسيِّر فهمنا؛ بأن يُتّخذ القرار في الانتخابات حسب الصّلاح والكفاءة، سواء أكان (المرشّح) مسلماً أم لا”. والمطلوب، حسب تصوّر رمضان، هو “تجنّب التقوقع”، ويتوجّب “علينا أن نذكِّر بذلك أيضاً بعض السياسيِّين في إنجلترا وفرنسا وبلجيكا ـ والتي هي الأكثر تقدّماً بالنظر للمشاركة ـ؛ الذين يُدرِجون بعض الأسماء ذات الوقع المُستطرَف (exotic) على قوائمهم إيّاها من أجل استدراج الناخبين الوافدين عبر الهجرة من ذوي الأغلبية المسلمة”.

ويحذِّر طارق رمضان، بقوّة، من أنّ ذلك النهج “ضارّ بالمستقبل التعدّديّ للبلدان الأوروبيّة وغير مقبول. فبهذا وعلى هذه الشاكلة التي يُقاد حسبها انتخاب أشخاص معيّنين؛ يكمن الخطر في أن يتم توليد الانشقاق بين الجاليات، وتقوية نظام اللوبيّات ومجموعات المصالح؛ المنتشر بقوّة كبيرة. ولا يُتاح بناء مستقبل سلميّ على هذه الشاكلة، كما لا يستحقّ المرءُ تفاعلَ المواطنين إذا ما حاول أن يختزله بشكل منهجيّ بهذه المناورة الخادعة”[105].

وتتوجّب الإشارة إلى أنّ المراحل التي عرفتها تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، وخاصة في التفاعل مع الانتخابات، وإن كان بالوسع توقّعها في تجارب المسلمين في بلدان أوروبية أخرى؛ إلاّ أنها لا تمثل مساراً حتمياً. وعلاوة على كونها تجربةً متعلِّقةً بالواقع البريطانيّ وملابساته؛ فإنها متأثِّرة أيضاً بالخيارات التي تحدِّدها الأطراف الفاعلة ضمن ساحة مسلمي بريطانيا لنفسها، كما أنها جاءت مُنطبعةً بالأداء السياسي للأحزاب والفجوة بين التوقّعات المسبقة والنتائج المتحققة فعلياً. فمما أثار أسف قطاعات من المسلمين، أنّ حزب العمال الذي صوّتت غالبيتهم لصالحه عام 2001؛ قد تحالف مع الولايات المتحدة في حرب احتلال العراق (2003) وبدت سياستُه متراخيةً إزاء تصاعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وقد انعكس ذلك بوضوح على تفاعل المسلمين مع الحزب، ولكنّ خيارات سياسية بديلة لم تكن قد تَبَلْوَرَت بعد في المشهد السياسي البريطاني طالما أنّ المحافظين ليسوا بديلاً ملائماً في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية في ما أنّ السياسات الداخلية لحزب العمال بدت مقبولة نسبياً.

وعموماً؛ تتّجه المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، أيضاً، إلى استصحاب مفعول المشاركة المجتمعيّة الفاعلة في التأثير في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة، وإلى المضيّ بقَدْرٍ إضافيّ من الثقة والواقعيّة للوُلوج إلى مسارات الفعل المجتمعي والسياسي.

وتبدو تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، ذات أهمية خاصة لما تحفل به من الدلالات والعبر، التي يمكن لمسلمي أوروبا أن يفيدوا منها ويكيِّفوها بالقَدْر الذي يتساوق مع واقعهم المحليّ ويتلاءم مع خصوصيّاتهم، خاصة وأنّ بريطانيا تُعَدّ إحدى أهم الدول في أوروبا الموحدة، إلى جانب ألمانيا وفرنسا، وأنّ الوجود المسلم فيها يُعتبر متقدِّماً نسبيّاً عن نظيره في معظم دول أوروبا الأخرى في مجال إقامة المؤسّسات المتخصِّصة، وإن لم تَرْقَ تلك البنية المؤسسيّة إلى المستوى الذي يستجيب لجحم الاحتياجات والمتطلّبات المعقّدة ويَفي بالآمال العريضة المعقودة على ناصيتها للنهوض بواقع مسلمي بريطانيا من شتى جوانبه.

ولا يمكن اختزال تجربة المشاركة السياسية لمسلمي بريطانيا مع الأحزاب والمستويات التشريعية والتنفيذية؛ بنوّاب قلائل غير ملحوظي الحضور في مجلس العموم، أو حتى بدخول مسلمين إلى مجلس اللوردات؛ ذلك أنّ الحضور الفعلي آخذ بالتمدّد والانتشار من خلال مستويات السياسة المحلِّيّة أساساً. ويأخذ التعبيرُ عن ذلك مظهَرَيْن أساسيَّين؛ هما صعود مسلمين إلى مواقع العمل السياسيّ المحلِّيّ، ونجاح آخرين من غير المسلمين في تبوّؤ مواقع في هذا المستوى بينما تلقُّوا دعماً من الوجود المسلم المحلِّيّ (يمثِّل عمدة لندن كين ليفنغستون نموذجاً واضحاً على ذلك). ويمكن النظر إلى تقلّد سياسيّ مسلم محليّ، ومعروف بالتزامه الدينيّ، منصب عمدة مدينة مانشستر، في العام 2005، على أنه بمثابة مؤشِّر قويّ على التطوّر الجاري في هذا السياق. وقد يلفت الاهتمامَ إضفاءُ بعض الأبعاد الرمزيّة على هذا الحضور، فمثلاً تخلّل حفلَ تنصيب عمدة مانشستر المسلم محمد أفضل خان، في 22 أيار (مايو) 2005، إنشاد “طلَعَ البدرُ علينا”، في ما أنّ مراسيم افتتاح أعمال البرلمان الاسكتلندي في السادس من أيار (مايو) 2003 في كاتدرائية سانت جايلز بمدينة أدنبره تخلّلتها أيضاً تلاوة ثلاث آياتٍ من سورة الحجرات. ورغم أنّ هذه الإشارات الرمزية الوافرة، ينبغي أن لا يُضخّم من أهميّتها في ساحة المشاركة السياسيّة؛ إلاّ أنها تنطوي على كسرٍ لبعض الحواجز الذهنيّة والنفسيّة التي يمكن العثور عليها في سياق التعامل بين المسلمين وغير المسلمين، في ما أنها تكشف في الوقت ذاته عن الفوارق والتبايُنات الملموسة بين بلد أوروبي وآخر، ليس فقط في قدرته على استيعاب حالة إيجابيّة من التعامل مع المسلمين في شتى المجالات؛ بل وفي الخصائص الذاتية للبيئة السياسيّة ومدى مرونتها في هذا الجانب أو ذاك. ولكنّ تلك الإشارات الرمزيّة وما يواكبها تمثِّل إحدى وسائل الاستقطاب الانتخابيّ للمسلمين أيضاً، فقادة الأحزاب والمرشّحون على قوائمها يحاولون استمالةَ المسلمين عبر زيارة مسجدٍ خلال الحملة الانتخابية مثلاً، أو حتى إقامة موائد إفطار رمضانيّة، وفعاليات بمناسبة عيدي الفطر والأضحى، وربما بإقامة حفل بمناسبة المولد النبوي الشريف، كما فعل حزب المحافظين البريطاني على ضوء الانتخابات البلدية في العام 2003، في مقرّه الرئيس تحت رعاية قائد الحزب أين انكن سميث وبحضوره شخصياً.

المشاركة من واقع التجربة الهولنديّة:

تمثِّل الحالة الهولنديّة نموذجاً على مفعول القوانين المنفتحة نسبيّاً على “الأجانب” في مجال الإقبال على المشاركة السياسيّة. فبعد أن شرّع البرلمان الهولندي، في العام 1990، قانوناً يكفل حقّ الانتخاب والترشّح في الانتخابات المحلِّيّة (البلدية) للأجانب الذين انقضى على وجودهم القانونيّ في البلاد خمسة أعوام متواصلة؛ بدأ مفعول ذلك بالتنامي، من حضور غير ملحوظ إثر صدور القانون مباشرةً في الانتخابات المحلِّيّة لعام 1990، إلى نقلةٍ واضحة في جولة الانتخابات المحلية لعام 1994 بوصول 25 نائباً محلِّيّاً من المسلمين، ليقفز العدد في جولة الانتخابات المحلِّيّة التي جرت في عام 1998 إلى 75 نائباً.

أما في المستوى القُطري الهولندي؛ فإنّ نسبة النوّاب الذين يحملون خلفيّة مسلمة قياساً إلى إجمالي عدد مقاعد البرلمان الوطني؛ يسير نحو التقارب مع نسبة المسلمين في هولندا، وهو ما يُعَدّ حالة فريدة تقريباً في أوروبا، إذ أنه صعد من أربعة نواب في 1994 إلى سبعة في 1998، وذلك من أصل مائة وخمسين نائباً. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الحضور يمثِّل انعكاساً لمشاركة سياسية متماسكة كما قد تشي به المعطيات العددية المجرّدة عن التفاصيل والمنتَزَعة من واقعها، خاصة عندما يدرك المرء أنّ حالة النائبة أيان هيرسي علي (Ayaan Hirsi Ali) (عن الحزب الليبرالي ذي التوجّهات المتطرفة)، التي تتحدّر من أصل صومالي، تمثّل ذروة العداء للإسلام والتطرّف في الساحة السياسية الهولندية، قبل أن تطيح بها فضيحة تزوير في ربيع سنة 2006 طوت، على الأرجح، صفحة تجربتها السياسيّة المثيرة للجدل في البلاد، وهي الفضيحة التي أدّت تفاعلاتها إلى انهيار الائتلاف الحاكم في البلاد في أواخر حزيران (يونيو) 2006.

ومن المُحتَمل أن تكون الساحة السياسية الهولندية التي لا يحظى فيها حزب سياسيّ بأغلبيّة تتيح له تشكيل حكومة بمفرده؛ عاملاً مشجِّعاً على تحفيز المشاركة السياسية للمسلمين، بالنظر إلى تزايد مفعول الثقل الترجيحيّ لأصواتهم في التوازنات السياسية في البلاد. كما أنّ طبيعة النظام المجتمعيّ والثقافة السياسيّة في هولندا، التي تتيح هوامش واسعة نسبيّاً من التنظيم الذاتي للأقلِّيّات (العرقيّة والاثنيّة أساساً)؛ تعود ببعض المردودات الإيجابيّة على هذه المشاركة في هذا الاتجاه، وإن رأى بعضُ الناقدين أنها تتسبّب في عزلة كل أقلِّيّة في فضائِها الخاصِّ بها، عمّا سواها في المجتمع العريض.

ومن المؤكد أيضاً أنّ النُّظُم الهولندية في مجال حيازة جنسيّة البلاد والسماح بمزاوجتها مع جنسيّة أجنبيّة، والتي تُعَدّ نموذجاً على الصعيد الأوروبي العام؛ قد تركت أثراً إيجابياً على قابليّات المشاركة السياسيّة للمسلمين وفُرَصها، وطبعت ساحة الفعل المجتمعيّ والسياسيّ في مملكة الأراضي المنخفضة بملامح التنوّع. إلاّ أنّ مناخات التراجع في هذا المضمار، خاصة في ما يتعلّق بالمسلمين، أخذت بالبروز تدريجياً، وبالذات منذ مطلع العام 2001 تقريباً.

ويمكن تحديد بداية مسيرة التراجع تلك مع الضجّة الإعلامية والزوبعة السياسية التي أُثيرت حول تصريحات للشيخ خليل المومني، أحد الأئمة المعروفين على مستوى مدينة روتردام، أبدى فيها معارضةً صريحةً للشذوذ الجنسيّ. ومغزى تلك الضجة؛ أنها وضعت الوجود المسلم المتديِّن، موضعَ تساؤلٍ لجهة مدى توافقه مع “ليبرالية” المجتمع الهولندي، التي تُعَدّ بالمنظور الشائع في بلدان أوروبية أخرى “ليبرالية مُفرِطة”. وارتفعت بعض الحجج والشعارات بدءاً من ذلك التوقيت، للتحذير من مغبة التسامح مع “غير المتسامحين”، في ما تعاقبت الحملاتُ الإعلاميّةُ على المساجد والأئمّة، ويبدو أنّ جانباً من ثنايا الخطاب المنبري السائد في بعض المساجد كان صيداً ثميناً لتلك الحملات.

وتنتصب هذه القضية بحدِّ ذاتها شاهداً على ملابسات تنشأ بموجبها بعض الأزمات المفضية إلى تراجعاتٍ في المناخ السياسي والمجتمعيّ والإعلاميّ. فقد بدا الأمر وكأنّ هناك مخزوناً من الاحتقان طفا إلى السطح فجأة، وما فاقم الموقفَ أنّ الساحة الهولنديّة كانت في واقع الأمر واحدةً من أكثر الساحات توتّراً في أوروبا الغربية في أعقاب الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وهو توتّر لم يتوقف عند حدود الهجمات المادية والاعتداءات اللفظية؛ بل تعداه إلى بعض مضامين الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ والتغطيات الإعلامية التي بدت وكأنها تؤجِّج الموقف.

وقد ارتكس النموذجُ الهولنديُّ في الاندماج وبدا مثيراً للشكوك والتساؤلات حول جدواه، بعد أن استلَبَ الاهتمامَ لأعوامٍ مديدة. وقد جاء هذا الارتكاسُ تحديداً مع الأزمة التي أعقبت اغتيال المخرج السينمائي المناهض للإسلام تيو فان غوخ (Theo van Gogh)، على يد شابٍّ مسلم في خريف 2004. فمسلسل الاعتداءات والتوتّرات الميدانية في هولندا، وتخييم شبح الأزمة على السياسة والمجتمع والإعلام؛ جاء بمثابة ضربة قوية للنموذج الهولندي الذي يرفع لافتة التعدّديّة الثقافيّة، لتسارع القوى الرافضة لهذا النموذج، داخل هولندا وخارجها؛ إلى توظيف هذه الأزمة من منطلق مناداتها بإقصاء حضور الثقافات المتعدِّدة في الفضاء المجتمعيّ الأوروبيّ، في ما وُضع الإسلامُ والثقافة الإسلاميّة في مركز الجدل إلى درجة شبه حصرية. وقد تجاوبت الساحة الألمانيّة، كمثال، مع أصداء ذلك، لتنشأ حالةُ جدلٍ عام فيها خيّمت عليها نبرات التطرّف في الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ والتغطيات الإعلاميّة، وسط تساؤلاتٍ عن احتمالات اندلاع أزمة شبيهة في بعض الولايات والمدن الألمانية، من قبيل كولونيا (Köln) مثلاً.

والواقع أنّ تلاحُقَ الأزمات عالمياً وأوروبياً؛ لم يُتِح الفرصةَ لتعافي الواقع الهولنديّ من مؤثِّرات هذه الحالة الداخلية المتأرجِحة، وهي أزماتٌ بدت وكأنها تقترب من تخوم هولندا بالتدريج، خاصة بعد وقوع اعتداءات مدريد الدامية في 11 آذار (مارس) 2004، ثم هجمات لندن في 7 تموز (يوليو) 2005، علاوة على بروز أشكال متجدِّدة من التوترات داخل الساحات الأوروبيّة والتي اعتُبرَ المسلمون أحياناً ذوي صلة بها، مثل اضطرابات الضواحي الباريسية في خريف 2005، والتي رسمت نُذُراً من المخاوف المقلقة في عدد من بلدان أوروبا باعتبارها نموذجاً “قابلاً للتصدير” إلى بؤر الأزمات المجتمعية والاقتصادية الملموسة في بعض التجمّعات المدينيّة من أوروبا الغربية، وعلى الأخص في دول البينيلوكس.

ومع ذلك؛ فإنّ هذه التفاعلات المثيرة لقلق مسلمي هولندا (وأوروبا ككلّ) وتوجّسهم، نخباً وجماهير، وإن ساهمت في انكفاء بعض المسلمين على أنفسهم وتراجع حماستهم لخيارات المشاركة السياسيّة؛ فإنّ التوجّه العام نحو المشاركة ظلّ ملموساً، بل وربما طرأ عليه تطوّر ونموّ في بعض المجالات الكمِّيّة (كنسبة الإقبال) أو النوعيّة (الميل لطرح مضامين وحلول، مع تطوّر في الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ مثلاً).

وبعد فصول التراجعات المتتابعة منذ مطلع سنة 2001؛ جاءت الانتخابات المحليّة التي شهدتها هولندا في آذار (مارس) 2006 لتمثِّل نموذجاً مُشَجِّعاً إلى حدٍّ ما؛ فالإقبال على مشاركة المسلمين فيها كان كبيراً، وقد أفرزت في الوقت ذاته قياداتٍ سياسيّة من صميم الحضور المجتمعي المتديِّن من منظومة المؤسسات الإسلامية والمساجد في البلاد، وهو ما يُعبِّر عنه مثلاً الفوز الذي حقّقه القيادي المسلم أحمد مركوش في برلمان أمستردام، وهو الذي وقف من قبل على رأس مؤسسة إسلامية هولندية تعبِّر عن المساجد والأئمة هي اتحاد المساجد. وبموجب نجاحِه؛ بات مركوش يرأس بلدية سلوترفارت التابعة لمدينة أمستردام بدءاً من عام 2006. ومن الإشارات الجديرة بالتأمّل، وربما التي تنطوي على نصيب من الدلالة؛ أنّ ذلك جاء متبوعاً بانطفاء تجربة السياسيّة المتطرِّفة المعادية للإسلام، أيان هيرسي علي، مع فضيحتها المدوِّية، دون أن يعني الأمر بالضرورة خبوّ جذوة التيّار السياسي والمجتمعي المناهض للإسلام وللتنوّع الثقافيّ بالضرورة.

ومن التطوّرات اللافتة للانتباه التي شهدتها الساحة السياسية الهولندية لاحقاً على صعيد العلاقة مع المسلمين؛ ما أقدمت عليه وزيرة الاندماج والهجرة الهولندية ريتا فردونك (Rita Verdonk) عندما أعلنت قبل خمسة أيام فقط من الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في هولندا في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 أنّ حزبها ذا التوجهات الليبرالية اليمينية، وهو حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية (VVD)، المشارك في الائتلاف الحاكم، سيعمل على حظر غطاء الوجه في الطرقات والفضاءات والمرافق العامة والمنشآت الحكومية والمدارس ووسائل النقل إذا ما أُعيد انتخابه. وقد أثار ذلك الموقف الذي بدا بمثابة محاولة لحصد أصوات الناخبين قبيل الاقتراع؛ جدلاً واسعاً في هولندا بشأن التعامل مع المسلمين ومستقبل التعددية الثقافية في البلاد.

وما يستدعي التوقّفَ والمعالجة؛ أنّه قد اتضح في سياقات هذه التطوّرات الهولنديّة، وكما يبدو بوضوحٍ في حالات بلدان أوروبيّة أخرى؛ كم أنّ ملف “الاندماج” والهيئات والجهات القائمة عليه؛ بوسعها أن تكون جزءاً من الحلّ، وأن تغدو جزءاً من الأزمة أيضاً.

وإذا ما أمكن الخروجُ بخلاصاتٍ من التجربة الهولنديّة، وما اعتراها من مدّ وانحسار؛ فسيكون من بينها على الأرجح أنّه من الأهمِّيّة بمكان التعامل مع نُظُم الاندماج السياسي والمجتمعي بتقويم نقديّ لا يكتفي بالانبهار بالشعارات المرفوعة أو بالعناوين العريضة، بل يتوجّب إخضاعُ هذه النُظُم والنماذج للاختبار والتمحيص، سواء بمراجعة ما تقوم عليه أو التحقّق من الكيفية التي تعمل من خلالها والصور التي تتنزّل بها على أرض الواقع.

أيضاً؛ فإنّ من أهمّ ما يمكن استخلاصُه من التجربة الهولندية؛ أنّ عدم اضطلاع المستوى السياسي بمسؤوليّاته بالقدْر اللائق به، في احتواء أمارات التطرّف السياسيّ والإعلاميّ ونوازع الشِّقاق المجتمعيّ، الذي يهدِّد فُرَص الأقلِّيّات وإمكاناتها للحضور المتكافئ في الساحتين المجتمعية والسياسية؛ من شأنه أن يُفضي إلى عواقب غير حميدة قد تحمل معها نُذُراً بائسة، خاصة في مواسم الأزمات التي لا تتوفّر ضماناتٌ كافيةٌ من أنّ تداعياتها لن تخرج عن السيطرة. ولا ريب في أنّ مسؤوليّات القيادات السياسيّة والمجتمعيّة (بما في ذلك القيادات الدينية والمثقفون والمجتمع المدني) هامّة للغاية في احتواء النُّذُر المقلقة، وأما التوجّه إلى معالجة تلك الأزمات المتعلِّقة بالوجود المسلم، واحتوائها؛ فينبغي أن يتم أيضاً على أساس الشراكة والتعاون مع هذا الوجود ذاته وقياداته المجتمعيّة، بما في ذلك القيادات الدينيّة والأئمّة، وليس بالقفز عليه وتصميم الحلول الأحادية والفوقية التي تؤزّم الموقف وتهدِّد بإذكاء نوازع الإقصاء من جانب “مجتمع الأغلبيّة” وتفاقم احتمالات التهميش الذاتي في جانب “مجتمع الأقلّيّة”.

المشاركة السياسية على المستوى المحلي:

التلكؤ الرسميّ في تشجيع مشاركة “الأجانب” ـ خلفية:

يتّصف الوجود المسلم في أوروبا الغربيّة والوسطى بخلفية الهجرة، أي أنّ معظم المسلمين الذين يعيشون في هذه البلدان إما أنهم هاجروا إلى أوروبا أو أنهم من ذراري الجيل الأول المهاجر في غضون القرن الميلادي العشرين، وبالأخص النصف الثاني منه.

ورغم تعدّد أسباب الهجرة؛ فإن طابعها الأبرز ظلّ عمّالياً، بمفعول الحاجة إلى الأيدي العاملة لتحقيق النهضة الاقتصادية في أوروبا الغربيّة بعد الحرب العالمية الثانية. وكان التقدير الرائج في المستوى الرسميّ؛ هو أنّ هؤلاء إنما جاؤوا في رحلة عمل، ولذا فلم ينصرف الاهتمام إلى مطلب أحقيّتهم في المشاركة المجتمعية وكذلك السياسية؛ إلاّ بعد عقود.

ومع رسوخ هذا الوجود الجديد، ونشوء نموذج “الأسرة المهاجرة”؛ أخذت مسألة الاندماج (Integration) في البروز إلى الواجهة تدريجيّاً في سنوات الثمانينيات والتسعينيات. ولكنّ تصوّرات قاصرةً هي التي حكمت النظرة لملف الاندماج هذا، الذي رافقته تفسيرات وتأويلات غير متطابقة، بل لم تفتقر إلى التناقض أحياناً بين دولة وأخرى، وكذلك بين الأطراف في الساحة السياسيّة والمجتمعيّة الواحدة.

ولم تكن فكرة المشاركة السياسية مطروحة ابتداءً في ما يتعلّق بهؤلاء “المقيمين الأجانب” أو “العمال الضيوف”. كما لم يتمكّن الخطاب الرسميّ من استيعاب متطلّبات المشاركة المجتمعية والسياسية بالنسبة لهذه الفئة. وحتى الاتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، الصادرة في العام 1950؛ فإنها تمنح الدول الأوروبيّة الموقعة عليها الحقّ في تقييد النشاط السياسيّ للمقيمين الأجانب، حسب ما جاء في مادتها 16، بما ينتقص بالتالي من الحقوق المقرّرة لعامة المواطنين في المادتين 10 و11 من تلك الاتفاقية التي تمثل مرجعيّة حقوقية للدول الأوروبية في غربي القارة وشرقها.

ومع إعادة تقويم الأوضاع الناشئة؛ تمّت، في بدايات العام 1992، بلورة اتفاقية أوروبية بشأن “مشاركة السكان الأجانب في الحياة العامة على المستوى المحلي”، معروفة اختصاراً باسم (EAB) وأُتيحت منذ ذلك الحين للتوقيع عليها. وقد جاء في ديباجة الاتفاقية أنّ “إقامة الأجانب على الأرض الوطنيّة هو الآن ملمحٌ دائم للمجتمعات الأوروبيّة”[106].

لقد استغرق النقاش بشأن هذه الوثيقة الواقعة في ثلاثة فصول؛ سنواتٍ من الجدل في اللجنة الوزارية التابعة لمجلس أوروبا، وتخلّلت ذلك انتقاداتٌ للنُّظُم المعمول بها في الدول الأعضاء بشأن المشاركة السياسيّة لمن يُوصَفون بالأجانب على المستوى المحليّ.

لقد أقرّت الاتفاقية، في فصلها الأول وهو المُلزِم للدول الموقِّعة عليها؛ حقّ مجموعات الوجود الأجنبي في التعبير عن مصالحها في الحياة العامة، معتبرة أنّ جمعيات المهاجرين يحقّ لها أن تهدف للحفاظ على الهويّة الثقافيّة أو تمثيل مصالحها.

وأما الفصل الثاني من الاتفاقية، وهو غير مُلزِم؛ فيؤكد أنّ السلطات في الدول الموقِّعة عليها تلتزم بتشجيع إقامة مجالس للتشاور بشأن مصالح المهاجرين على المستوى تحت القطري (local level)؛ وألاّ تعيق ذلك.

ويأتي الفصل الثالث من الاتفاقية، وهو غير مُلزِم أيضاً؛ ليدعو الدول الموقِّعة عليها لأن تصمِّم الانتخابات على المستويات تحت القطرية (المحلية)؛ بما يتيح للمقيمين في البلاد من غير حاملي جنسيتها أن يشاركوا في تلك الانتخابات طالما أنهم مقيمون فيها بشكل طبيعيّ منذ خمس سنوات على الأقلّ.

ورغم أنّ الفصل الأوّل وحده من هذه الاتفاقية هو المُلزِم، وأنّ فَصليْها الثاني والثالث اختياريّان؛ فإنّ الغالبيّة العظمى من دول أوروبا لم تُصادق عليها. وحتى حلول النصف الثاني من سنة 2000؛ لم يتجاوز عدد الدول الموقِّعة على تلك الاتفاقيّة خمسَ دول، هي هولندا والسويد والنرويج والدانمرك وإيطاليا، وقد التزَمت الأربعةُ الأولى منها بالاتفاقيّة كاملةً بدون أي تقييد[107].

مسلمو أوروبا والمشاركة على المستوى المحلي:

تمثِّل مشاركة المسلمين السياسية على المستويات المحلِّيّة (كالبلديّات والمقاطعات أو الولايات) والقطاعية (كالنقابات) ميداناً هامّاً لتوسيع نطاق مشاركتهم السياسية وإكسابها زخماً كبيراً، وذلك للخلفيات والعوامل التالية:

1/ تنطوي المستويات المحلِّيّة والقطاعية على احتكاك مع عامة الجمهور بصفة أكثر حيوية وتفاعليّة، مع اختزال المسافة الفاصلة بين المسؤول وصانع القرار، بالمقارنة مع ما عليه الحال على المستوى القطري العام.

2/ لا تتطلّب المشاركةُ السياسيّةُ في المستويات المحلِّيّة، على الأغلب، المنسوب ذاته من القدرات المادِّيّة أو المهارات المتمِّيزة الذي تتطلّبه المشاركةُ السياسيّة في المستوى القُطريّ العام.

3/ تحرم معظم البلدان الأوروبيّة أولئك المصنّفين على أنهم “أجانب” من حقوق الترشّح أو الانتخاب على المستوى المحلي، وهو ما يُنشئ في هذه الحالة فجوةً يصعب تبريرها بين من يَصنَعون القرار ومن عليهم أن يتحمّلوا تبعاته. ولكنّ بعضها يتيح في النطاق المحلي حقَّ المشاركة السياسيّة انتخاباً وترشّحاً حتى لغير المتمتعين بمواطنة (جنسية) البلد مع بعض الشروط، في ما أنّ بلداناً أخرى تكفل حق المشاركة الانتخابية السلبيّة وحسب (الانتخاب دون الترشّح). ويعني ذلك إجمالاً أنّ هامشَ المشاركة الانتخابيّة أوسع نسبيّاً أمام المسلمين ممن هم مُصَنَّفون على أنهم “أجانب” على المستويات المحلِّيّة (برلمانات المقاطعات أو الولايات والمجالس البلديّة ومجالس الأحياء) والقطاعيّة (المجالس النقابيّة والطلابيّة المنتَخَبة)، بالمقارنة مع المستويات الوطنيّة العامّة (البرلمان الوطني أو الاتحادي أو الأوروبي).

4/ يفوق عدد الناشطين في صفوف الأحزاب السياسيّة ومن يتقلّدون مواقع تشريعيّة أو تنفيذيّة في الساحة السياسيّة والإداريّة، في المستوى المحلِّيّ ما عليه الحال في المستوى الوطنيّ العام. ويعني ذلك أنّ القدرة الاستيعابيّة للعمل السياسي من الناحية العدديّة تكتسب ثقلَها في المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة التي تشكِّل قاعدة الهرم.

5/ يُعَدّ العملُ السياسيّ في المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة هو المدخل الاعتياديّ للارتقاء في مراتب العمل السياسيّ، ليُتاح التدرُّج التقليديّ من المستوى المحلِّيّ أو القطاعيّ إلى المستويات القُطريّة، وربما القارِّيّة (البرلمان الأوروبي مثلاً).

6/ كثيرٌ من المطالب المحدّدة والمصالح المرعيّة والمكتسبات المنشودة، من جانب مسلمي البلدان الأوروبيّة؛ يمكن إحرازُها أو تحقيقُها أو حتى حمايتها وتعزيزها، من خلال المستويات المحلِّيّة، كإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتأسيس المدارس الإسلامية ورياض الأطفال والمنشآت التربويّة والاجتماعيّة، واقتطاع المقابر الإسلامية، وتوفير بعض الخدمات كالمسالخ الخاصة بالذكاة الشرعية، وسنّ بعض الإجراءات المتعلِّقة بجوانب الحياة اليوميّة على المستويات المحلِّيّّة أو في النطاقات المهنيّة والقطاعيّة. لكنّ النظُم المعمول بها في أوروبا تؤدِّي إلى تفاوتٍ واضح في صلاحيّات كلٍّ من المستويات القطرية والمحلية، ففي الوقت الذي يُعدّ فيه تنظيمُ الاعتراف بهيئة معبِّرة عن الطائفة المسلمة من اختصاصات الحكم المركزي في فرنسا، أو في النمسا (وإن استلزم ذلك لاحقاً ترتيبات إجرائية في الأقاليم أو المقاطعات)؛ فإنّ ذلك يُعَدّ من اختصاصات الولايات في جمهورية ألمانيا الاتحادية (التي تضم 16 ولاية).

7/ يَكتَسِبُ العملُ السياسيّ على المستوى المحلِّيّ أهمِّيّةً خاصّة بالنسبة لمسلمي أوروبا بالنظر لطابع انتشارهم الديمغرافي. إذ أنّ تركّز مسلمي أوروبا الغربية في العواصم وبعض المدن الصناعيّة، وتحديداً في أحياء بعينها على نحو خاصّ؛ يمنح مشاركتَهم السياسيّة في المستوى المحلِّيّ ثقلاً أكبر، بل ويفرض على الأحزاب السياسيّة التعاطي مع هذه المعطيات الديمغرافية سواء بمحاولة استمالة الثقل التصويتي للمسلمين وإفساح المجال لصعود مسلمين على قوائمها والتدرّج في أطرها؛ أو بمحاولة تركيز القوى المتطرِّفة والعنصريّة (كأقصى اليمين السياسي) على النفخ في نار الأحقاد وإثارة المخاوف من الوجود المسلم الملحوظ عددياً سعياً لحصد الأصوات. وتُلاحَظُ هنا مثلاً حالةُ مدينة روتردام الهولنديّة، ذات الكثافة السكانيّة المسلمة الملحوظة، والتي تمثِّل من جانب نموذجاً على حضور المسلمين في المستوى السياسي المحلِّيّ، والتي شهدت من جانب آخر انبعاث تيّار يمينيّ ليبراليّ متطرِّف مُعادٍ للمسلمين بقيادة السياسي بيم فورتوين (Pim Fortuyn). فمن مدينة روتردام انطلقت “قائمة فورتوين” المتطرِّفة إلى المستوى القُطري الهولندي، وذلك بعد أن حصدت 34 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات المحلية بروتردام في آذار (مارس) 2002، التي خاضتها تحت شعارات معادية للإسلام ومناهضة للتعدّديّة الثقافيّة.

8/ إنّ المؤسسات والأُطر التي أقامها مسلمو أوروبا للتعبير عن حضورهم؛ تبدو أكفأ في أدائها وأكثر وُضوحاً في حضورها في المستويات المحلِّيّة، كالمقاطعات أو الولايات والمدن والأحياء، بالمقارنة مع كفاءتها وحضورِها على المستوى القُطري العام، وذلك يعود أساساً لأطوار النشوء والارتقاء المرحليّ التي تشهدها تلك التجارب، ولحدود الإمكانات والمقدرات البشرية والمادية المتاحة لها، بما يجعل القدرة أوفر على التواصل والتأثير في المستوى المحليّ منه على المستوى القطريّ العام الذي يستلزم أطراً أكثر تخصّصاً وكفاءةً وموارد. وبناء على هذه الفجوة؛ يمكن توقّع أنّ المشاركة السياسية على المستوى المحلي تحظى بفرص أكبر في صفوف مسلمي أوروبا بالمقارنة مع ما هو مُتاحٌ لتلك المشاركة على المستوى القطري العام.

9/ إنّ فرص التواصل مع الأطراف الفاعلة في الساحة السياسيّة المحلِّيّة والقطاعيّة، تبدو أيسر بالمقارنة مع المستويات القُطرية أو حتى القارِّيّة. وتلحق بذلك الفرص الأوفر لنسج التحالفات وعقد الشراكات، والمضيّ في مساعي التنسيق والتعاون ضمن المجتمع المدنيّ على المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة، بما في ذلك تشكيل القوائم الانتخابيّة أيضاً أو حتى إقامة الأحزاب المحلِّيّة أو الجهويّة.

المستويات المحلية مركز الثقل في المشاركة السياسية المسلمة:

في واقع الأمر؛ يحقِّق مسلمو أوروبا حضوراً متزايداً في المستوى السياسيّ المحلِّيّ في بلدانهم، بينما ظلّ حضورُهم السياسيّ في المستويات القُطريّة متواضعاً نسبيّاً. ويمكن هنا ملاحظة عدد النواب المسلمين في البرلمانات المحلِّيّة والمجالس البلديّة في بلدان أوروبا الغربيّة؛ مع عدد من نجحوا في الارتقاء إلى البرلمانات القُطريّة أو الوطنيّة، ولكنّ ذلك قد لا يمثِّل في حالات عدّة فجوةً فعلية أو كبيرة إذا ما روعي التناسب، بالنظر إلى أنّ القابلية الاستيعابيّة تتضاءل كلما جرى الصعود من المستويات المحلية إلى المستويات الإقليميّة (الجهوية) فالقُطرية فالأوروبية[108]. وفي كلّ الأحوال؛ لا ينبغي هنا إغفال أنّ هذا العدد لا يُعَدّ تعبيراً تلقائيّاً عن حجم المشاركة السياسيّة للمسلمين، فضلاً عن أنّ وجود من يحملون أسماء مسلمة في موقع سياسيّ ما لا يصلح أن يكون وحده معياراً لتصنيف ذلك ضمن المشاركة السياسية للمسلمين بكل ما تحمله هذه المشاركة من دلالاتٍ وما يترتّب عليها من مسؤوليّات وأدوار.

وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ مسلمي أوروبا قدّموا وجوهاً أكثر عدداً في العمل السياسيّ المحلِّيّ، بالمقارنة مع النُّدرَة الملحوظة في الوجوه السياسيّة المسلمة العاملة ضمن المستويات القطريّة والأوروبيّة.

ومن غير المستَبعَد أن تتّخذ المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في عديد البلدان الأوروبيّة مساراً يَبدَأُ من المستويات المحلِّيّة إلى ما فوقها، بحيث يبرُزُ مركزُ الثقل في البلديّات والمقاطعات وحتى مجالس الأحياء، علاوة على المستويات القطاعيّة كالنقابات، قبل أن يتعزّز الحضورُ السياسيّ على المستوى القُطريّ العام، وهذا هو الاتجاه العام السائد في تجارب المسلمين في معظم بلدان أوروبا، في ما يبدو مُستَبعَداً أن يتحقّق حضورٌ للمسلمين يلفت الانتباه على المستويات القُطريّة مع تجاوز الحضور السياسي المحلي.

وفي بعض البلدان؛ تكتسب المشاركةُ السياسيّة على المستويات المحلِّيّة وزناً أكبر مما هي عليه في بلدان أوروبيّة أخرى، كما يتّضح مثلاً في البلدان الاتحاديّة (الفيدراليّة) كألمانيا، أو في حالة بلجيكا مثلاً، وعلى نحو أكثر بروزاً في سويسرا، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي السويسري، الذي يتيح هوامش واسعة للكانتونات ضمن نطاق الاتحاد الكونفدرالي.

فأحد النماذج اللافتة للانتباه على صعيد المشاركة السياسية للمسلمين، يكاد يجسدها كانتون تيسّان (تيتشينو) (Ticino)، السويسريّ الناطق بالإيطاليّة، والواقع في جنوب شرقيّ سويسرا. فعلاوة على أنه سجّل في العام 2004 أسبقيّة ترشّح أوّل مُسلِمة محجّبة في سويسرا على قائمة انتخابيّة محليِّّة وعُرِفَ عنها حرصُها على الالتزام الدينيّ، وهي الشابّة المسلمة السويسرية نادية صديقي، والتي لم يحالفها النجاح بالفوز؛ فإنّ الكانتون ذاته قد شهد انتخاب القيادي المسلم المحلِّيّ حسن العربي، ليشغل مقعداً في أحد مجالسه المحلِّيّة (لوغانو)، من خلال ترشّحه على القائمة المشتركة لحزبيْ الخضر والاشتراكي، وهو معروف بإدارته لمكتبة إسلامية، وبتديّنه أيضاً، وبنشاطاته الواسعة في المجتمع. ويرى الإعلامي المسلم في سويسرا، الصحبي الخطيب، أنّ “نجاح حسن العربي يشكِّل مرحلة جديدة في مستقبل الأقلِّيّة المسلمة على المستوى الكانتوني وكذلك على المستوى الفيدرالي (السويسري)، إذ أصبح الآن محطّ أنظار الرأي العام، الذي يتابع عن كثب مداخلاتِه في المجلس البلدي ومقترحاته أو كيفية تعامله مع المشكلات، من منطلق التوفيق والموازنة بين المسؤولية النابعة من انتمائه إلى الحزب الذي يمثله وخصوصيته الإسلامية التي تطبع نظرته إلى القضايا المطروحة”[109].

ومن الأهمِّيّة بمكان مراعاة بعض الفوارق المُحتَمَلة بين السلوك التصويتيّ للمسلمين في المستويات المحلِّيّة وفي نظيرتها القُطريّة أو الوطنيّة. ففي المستوى المحلِّيّ يَنفَتِح الصوتُ المسلمُ على خياراتٍ أوسع في العادة، ويمكن توقّع الانتقال بالأصوات من خانةٍ إلى أخرى بسهولةٍ أكبر مما عليه الحال في المستويات الوطنيّة والقُطريّة. ومن ذلك ما شهدته الانتخابات البلدية التي جرت في بريطانيا في العام 2003، والتي طرأ فيها انصرافُ نسبةٍ ملحوظة من أصوات المسلمين عن حزب العمال، ليرسو بعضُها لصالح أحزابٍ أخرى، بما فيها حزب المحافظين، الذي لم يكن الخيار التقليديّ المفضّل للمسلمين في العادة. وقد تسبّب هذا التحوّل النسبي الذي طرأ على تلك الجولة في إثارة انتقاداتٍ من جانب مسلمين من حزب العمال، اعتَبروا الانصرافَ عن حزبهم مؤشِّراً على قِصَر نظرٍ سياسيّ.

ومن العسير على أيّ حال التسليمُ تلقائيّاً بأنّ السلوك التصويتيّ للمسلمين في هذا البلد الأوروبيّ أو ذاك ينمّ عن وضوح رؤيةٍ سياسيّة أو حتى عن تشويش فيها؛ إلاّ أنّ مجرّد إقبال المسلمين على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، على نحو رشيدٍ أو أقلّ رشداً؛ هو مطلب هام بحدّ ذاته لتحقيق حالة تراكميّة من الوعي العام في هذا الجانب تبقى قابلةً للتطوير والتوجيه لاحقاً.

المشاركة السياسيّة بين المستويات المحلِّيّة والقُطريّة .. البحث عن صمّام الأمان؟

إنّ المشاركة السياسيّة ضمن المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة يُفترَض أن يكون بوسعها الاضطلاع بدور صمّام الأمان الإضافيّ للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، خاصة عندما ينطوي الأداءُ السياسيّ المركزيّ أو القُطريّ على تجاوزاتٍ ما أو على ما يُعَدّ انتقاصاً محتَمَلاً من مكتسبات المسلمين أو تهميشاً لمصالحهم. ولكنّ العكس صحيحٌ أيضاً، باعتبار أنّ المستوى القُطريّ أو الاتحاديّ، وربما الأوروبي أيضاً؛ بوسعه أن يكون صمّام أمان لأية تجاوزات مُفترَضة في المستويات المحلِّيّة.

فالعمل مع المستوى السياسي المحلِّيّ، أو حتى القطاعيّ (كالنقابات مثلاً)، يمكن أن يعيقَ تمرير بعض القوانين أو السياسات أو الإجراءات غير المرغوبة التي يتخذها المستوى الوطنيّ، أو أن يخفِّف من وطأتها على الأقلّ. ورغم أنّ ذلك لا يبدو خياراً مكفولاً دوماً، وأنه يتباين بوضوح من بيئةٍ أوروبيّة إلى أُخرى؛ إلاّ أنه يكتسبُ أهمِّيّته في بعض البلدان الأوروبية على نحو أخصّ بالنظر لهيكليّة النظام السياسي وتوزيع الصلاحيات فيه.

لكنّ ذلك لا ينبغي أن يَغُضّ الطرفَ عن بعض السلبيّات التي يمكن توقّعها من مستويات السياسة المحلِّيّة أيضاً. ففي الحالة الألمانيّة كمثال؛ يمكن لبعض الولايات أن تتمادى في سياسات مثيرةٍ لحنق المسلمين بناء على التوجّهات السائدة فيها، مثل ما تعكسه حالة ولاية بافاريا (Bayern) الألمانيّة، التي يُهَيمن على ساحتها السياسيّة، بحكومتها وبرلمانها؛ الاتحادُ المسيحي الاجتماعي (CSU)، وهو النسخة الأكثر محافظة ويمينيّة من حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU). وقد اشتُهر ذلك الجناح البافاري بعدد من المواقف المتشدِّدة في ما يتعلق بملف المسلمين، وخاصة بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، في ما بلغ الأمر في سنة 2005 حدّ إغلاق “المدرسة الإسلامية الألمانية” (Deutsche Islamische Schule) الأعرق من نوعها في ألمانيا، الكائنة في ميونيخ عاصمة الولاية. كما أنّ قضيّة حجاب المعلِّمات المسلمات في المدارس العامة الألمانية، والتي انطلقت في العام 1997 مع قضية المعلمة فريشيتا لودين، ولاحقاً مع قضية المعلِّمة إيمان الزايد؛ جاءت من إجراءات وقرارات اتُخِذت على المستوى المحلِّي (الإدارات المدرسية في المدن والولايات أو وزارات التعليم المحلِّيّة ومن ثم تمت شرعنتها بقرارات قضائيّة من محاكم الولايات). وفي الحالتين السويسريّة والبلجيكيّة؛ كان واضحاً أنّ الأقاليم الناطقة بالفرنسيّة بدت أكثر قابلية ﻟ “استيراد” قضية الحجاب من فرنسا المجاورة ولو عبر الجدل السياسي، بالمقارنة مع غيرها من الأقاليم، وهو ما يتضح بصفة خاصة في حالة كانتون جنيف السويسريّ أكثر من غيره، وفي الشطر الوالوني من بلجيكا الناطق بالفرنسية.

ومن شأن هذه الملاحظات أن تعزِّز الاستنتاجَ بأنّ المشاركةَ السياسيّة، والمجتمعيّة أيضاً، للمسلمين على المستويات المحلِّيّة؛ تكتسب أهمِّيّة فائقةً وتنطوي على حساسيّة خاصّة أيضاً، فهي مطلوبةٌ لتحقيق مكتسباتٍ وتعزيز مصالح، وأيضاً لدفع أضرارٍ محتَمَلة.

عن تجارب إدارة العمل السياسي في صفوف مسلمي أوروبا:

تنوّعت التجارب التي تَبَلْوَرَت في ساحات مسلمي أوروبا، على صعيد تفعيل مشاركتهم السياسيّة وترشيدها، ومن ذلك تشكيل أطر ولجان متخصِّصة بالإشراف على العمل السياسيّ المباشر أو تنسيقه. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى التجارب التي شهدتها كلّ من السويد وبلجيكا.

إذ تُعَدّ السويدُ من البلدان الأوروبيّة التي سبقت نسبيّاً في تفاعل مسلميها مع الساحة السياسيّة. وكما قال القيادي شكيب بن مخلوف، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، ، عندما كان في العام 1999 رئيساً للرابطة الإسلامية في السويد، “لقد أصبح الإسلام فعلاً أحد الأنسجة التي تشكِّل المجتمع الاسكندنافي وخاصة السويد، وأصبحت هذه الظاهرة مقبولة إلى حدّ ما من قبل بعض السياسيين والمؤسسات الرسمية والشعبية، وذلك بدرجات متفاوتة”[110].

وقد عبّرت خطواتٌ عدّة عن التفاعل المبكر نسبياً (بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى) من جانب مسلمي السويد مع الساحة السياسية، منها تشكيلُ وفد مساعٍ حميدة إسلاميّ في سنة 1990 بهدف التوسّط لإخلاء سبيل الرعايا السويديِّين العالقين في بغداد على إثر الغزو العراقي للكويت، وهي المهمّة التي تكلّلت في حينها بالنجاح، وأيضاً تشكيل المجلس الإسلامي السويدي في العام 1990 كمحاولةٍ لتمثيل المسلمين في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة، على ضوء الحاجة إلى طرفٍ تتعامل معه الجهات المسؤولة في التعبير عن الوجود المسلم في البلاد. وقد انبثقت عن المجلس الإسلامي السويديّ لجنةٌ سياسيّة متخصِّصة في المتابعات المتعلِّقة بالشأن السياسيّ الصّرف. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1998؛ تأسّس “التجمّع السياسي الإسلامي” (PIS) ليغدو بمثابة إطارٍ لتنسيق التواصل والتحركات بين المسلمين الفاعلين في الساحة السياسية، وذلك بعد اجتماع ممثلين من 14 مدينة سويديّة. وقد اتفق الحاضرون في ذلك الاجتماع على انتخاب 44 مندوباً يمثِّلون التجمّع في البلديّات السويديّة، كما أقرّوا الدستور والسياسات العامّة. ومن بين تلك السياسات التي تجدُر الإشارةُ إليها مما جرى إقرارُه؛ عدم اعتبار اللون الحزبيّ للأعضاء، خاصة وأنّ التجمّع يضمّ مسلمين منضوين في العديد من الأحزاب السويديّة. ويتكون الهيكلُ الإداريّ للتجمّع من إدارةٍ عامّة ومجلس للمندوبين ومؤتمر عام. ومن الأهداف التي وضعها ذلك التجمّع لنفسه؛ تكوينُ تكتّل إسلاميّ سياسيّ يعمل على دعم الوجود المسلم في السويد ويخدم قضاياه بالوسائل السياسيّة، وتجميع أصحاب الاهتمامات والممارسة السياسّية من المسلمين لتوحيد الرؤية وتبادل الخبرات في هذا المجال، وتوعية مسلمي السويد بفوائد المشاركة السياسية واستثمار رصيدهم العددي بما يخدم قضاياهم[111].

أما في الحالةِ البلجيكيّة، والتي تُعَدّ من بين الحالات التي تميّزت مع قلّة من الدول الأوروبية الأخرى، بالسبق لحضور أشخاص ينتمون للوجود المسلم في مواقع سياسيّة ضمن الأحزاب أو على مقاعد برلمانيّة؛ فيمكن الإشارة إلى تجربتين في الميدان المتعلق بالمشاركة السياسيّة للمسلمين، أو للنطاق العربي من المسلمين على الأقل (الذي يمثِّل نسبة الأغلبيّة تقريباً من إجمالي الوجود المسلم). وقد حملت التجربة الأولى التي يمكن التوقّف عندها في هذا الاتجاه اسم “مكوِّنات الجالية العربيّة”، وكانت قد انطلقت في غضون الموجة التفاعليّة الأولى مع انتفاضة الأقصى (2000 ـ 2002)، لتتحوّل بالتدريج من الاقتصار على مناصرة قضية فلسطين إلى إطارٍ للتداول والمشاورة والتنسيق في شؤون التواصل المجتمعي والسياسي. وأما التجربة الثانية؛ فحملت اسم “لجنة المشاورة” (CDC) وتعود بواكيرُ تشكّلها إلى عام 2002. ومما يؤشر للتواصل بين التجربتين هو وجود قاسم مشترك بين الفاعلين فيهما، مثل العضو في تنسيقيّة “مكونات الجالية العربيّة”، يونس شكري، والذي رأس في ما بعد “لجنة المشاورة”.

وقد نشطت اللجنة الأخيرة في التواصل مع الأحزاب والمرشّحين في الجولات الانتخابيّة التي شهدتها بلجيكا منذ ذلك الحين، كالانتخابات التشريعيّة التي جرت في 18 أيار (مايو) 2003، وانتخابات البرلمان الأوروبيّ التي جرت في حزيران (يونيو) 2004، وشكّلت حسب القائمين عليها “جسر التواصل السياسيّ والحوار بين الجهات الرسميّة والجالية العربيّة والمسلمة وتحديداً نسيجها الجمعيّاتي”. وتراسل اللجنة الأحزاب السياسيّة البلجيكيّة، والنواب الذين ينتمون للجالية المسلمة، قبل الجولات الانتخابية، لحثِّهم على الاهتمام بالقضايا التي تشغل عناية الوجود العربي والمسلم في بلجيكا، في ما تذكر اللجنة أنها تتلقّى ردوداً إيجابيّة على مراسلاتها تلك[112].

وإجمالاً يمكن القول إنّ هذه التجارب ومثيلاتها قد لا تكون عرفت استمراراً أو استقراراً طويلاً من الناحية الزمنيّة، ولكنّها كانت مُجْدِيَةً من أوجه عدّة، أهمّها أنّها أَسْدَت خدماتٍ لا يمكن التهوينُ من شأنها في بعض المراحل، بما في ذلك بعض مواسم الذروة السياسيّة. وحتى في حالة اضمحلال إحداها؛ فإنّ ذلك كان يؤذِنُ بصعود أخرى جديدة، وهي ولادةٌ قد تأتي من رَحِم التجربة الأولى، وربما بصورة أكثر نُضجاً. والثابت على كلِّ حال؛ أنّ التجارب تبزُغُ ثم قد تتوارى نسبيّاً أو ربما تنطفئ؛ لكنّ الخبرات المشترَكة مؤهّلة لأن تتراكم وتنفتح على آفاقٍ متجدِّدة.

جدير بالإشارة في هذا السياق؛ أنّ من الشواغل الجوهريّة في سياق إدارة العمل السياسيّ لمسلمي أوروبا؛ هو ما يرتبط بمواقف الجمهور المسلم من الخيارات المطروحة عليه. فهل ما ترتئيه “القيادة السياسية” المُفترَضة للأقلية المسلمة من خيارات في هذا الشأن؛ سيتطابق مع ميول الناخبين المسلمين وخياراتهم المفضّلة مثلاً ليوم الاقتراع؟ وإلى مدى ستضيق الفجوة أو تتّسع بين قرارات النخبة السياسيّة المسلمة واختيارات جمهورها؟. وهنا يأتي دور التواصل السياسيّ في تجسير الهوّة وتقديم توضيحات مسؤولة وملائمة للجمهور عن طبيعة المعطيات والملابسات التي تبرّر المواقف المتّخذة.

وما يضاعف الأعباء في هذا الشأن؛ هو ما يقرره بعض علماء السياسة من أنّ مشاركة الجمهور في العملية السياسية تجري في نطاقات محدودة فقط، وهو ما يسري على حالة الأقليات أيضاً. وحتى تلك المشاركة السياسية، على محدوديّتها؛ فإنها تأتي متأثِّرة بنوعيّة المعلومات المتاحة للجمهور[113]. ويُبرِز ذلك أهمية دور التواصل السياسي الذي تتولاه الأحزاب؛ وكذلك المؤسسات وشتى الأطراف الفاعلة وقادة الرأي في أوساط هذه الأقليات، كالمسلمين في أوروبا.

ومن هنا تتّضح أيضاً جدوى العناية بالتوعية السياسية بأبعادها المتكاملة، وهي مهمّة قد يُفترَض أنّ الأداء التواصلي للأحزاب السياسيّة قد يشجِّع عليها، ولكنّه لا يُغني عن النهوض بها بشكل مستقلّ وأكثر تكاملاً وكفاءة، ومع مزيد من مراعاة خصوصيّات الأقلِّيّات أيضاً. وقد تجد الأقلِّيّة المسلمة، بالتالي، أنّ إقامة مؤسّسات أو أطر متخصِّصة بهذا المطلب من شأنه أن يمثِّل خياراً مُجدياً لتفعيل مشاركتها السياسية وتطويرها.

عندما يُحجِم مسلمو أوروبا عن الانتخاب ـ الخلفيات

لماذا تُحجم قطاعات من مسلمي أوروبا عن المشاركة في الانتخابات؟

ليس من النّادرِ أن تُسْمَع بعضُ الانتقادات التي تأخذ على الجمهور المسلم في أوروبا، عدم إقبالِه على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، والزهد في التصويت. ومن المألوف أن تأتي هذه الانتقاداتُ بدافع الحرص على تفعيل المشاركة السياسيّة للمسلمين، وفي سياق خطابٍ استنهاضيّ للدور المسلم في جولات الاقتراع.

لكن قَلّ ما يجري التوقّفُ عند الأسباب التي تجعل قطاعاً، كبيراً كان أو ضئيلاً، من المسلمين في البلدان الأوروبيّة، يُحجِم عن الإدلاء بالأصوات. كما يصعُبُ أن تُنْتَزَعَ هذه الحالةُ من سياقِها المجتمعيّ العريض، الذي يشهدُ ظاهرةَ عدم الاكتراث بالتصويت، إلى الدرجة التي جعلت بعض المراقِبين لهذه الحالة يَتَندَّرون بالقول: إنّ الطرفَ الرابِحَ في معظم الانتخابات التي تجري في أوروبا هو “حزب غير المصوِّتين”.

أما بالنسبة لمسلمي أوروبا، فبالوسع تصنيف العوامل التالية، التي تتداخل في ما بينها أحياناً، باعتبارها المسؤولة إجمالاً عن عدم إقبال قطاع من المسلمين الذين يحقّ لهم الاقتراع، على الإدلاء بأصواتهم في المواسم الانتخابيّة التي تجري في مستويات عدّة. ويُلاحَظ في هذا الصدد أنّ العوامل التاليّة ليست مقتصرة بعامّة على المسلمين، فهي تتّصل بعدد من القطاعات في المجتمع العريض، وعلى تفاوت في ما بينها.

أولاً/ أسباب إجرائيّة أو فنيّة بحتة:

كعدم استكمال الناخبين لإجراءاتِ العملية الانتخابيّة، أو عدم الإدلاء الصحيح بالأصوات، كما في حالة الأصوات الملغاة، ويُقدّر أنّ هذه المشكلات أكثر حضوراً في صفوف المسلمين في عديد البلدان الأوروبية، بالمقارنة مع ما عليه الحال في المجتمع العريض، سواء على خلفية حداثة عهد قطاعاتٍ منهم نسبيّاً بالانتخابات الحرّة بسبب موروث الهجرة من أوطان أصليّة لا تُمارَس فيها الديمقراطيّةُ بالمفهوم الفعلي، أو لإشكاليّات فنِّيّة في التعامل مع الجانب الإجرائي من العملية الانتخابية لأسباب مرتبطةٍ بمدى الاندماج أو التباينات الثقافيّة واللغويّة، أو لغير ذلك.

وتلحَقُ بالمشكلاتِ الفنِّيّة والإجرائيّة وصعوبات التواصل؛ تأثيراتُ الأميّة، أو عدم الإلمام باللغة المحلِّيّة، أو حتى عدم التمكّن من الوصول إلى مراكز الاقتراع، بل وأحياناً الافتقار إلى المعرفة بوجود انتخابات جارية في الموعد المحدّد (وهو ما يُتوقَع في الانتخابات القطاعيّة، كما في أُطر النقابات، أكثر من غيرها)، في ما قد ينشغل آخرون بأعمالهم أو بظروفٍ خاصّة أو يفضِّلون قضاء أوقات أطول مع الأُسرة، وربما السفر إلى الخارج في أيام العطلات التي تجري فيها الانتخابات.

ويلحق بذلك الضعفُ في فهم العملية السياسيّة وإدراك تفاعلاتها والأطراف المشاركة فيها، على النحو الكافي، أو الافتقار إلى التمييز الدقيق بين الأحزاب والبرامج، وهو ما يمثل بحدّ ذاته إشكاليّةً متعلِّقةً بمدى الاندماج والعزلة، وبمدى نجاح الأحزاب في الوصول إلى شتى شرائح الجمهور وفئاته.

ثانياً/ أسباب دينيّة أو أيديولوجيّة أو مبدئيّة:

كموقف القائلين من المسلمين بحرمة المشاركة في الانتخابات الديمقراطيّة إجمالاً، أو التحفّظ على المشاركة بالانتخابات في البلاد غير المسلمة على نحو خاص. ويُشار هنا إلى وجود مجموعات دينيّة غير مسلمة حاضرة في أوروبا وتحظر على أتباعها المشاركةَ في الانتخابات أيضاً، مثل فرقة “شهود يهوه”[114].

وقد يحدث الإحجامُ عن التصويت لأسباب أيديولوجيّة، وهو باعث لدى نسبة من الذين لا يُدلُون بأصواتهم في الانتخابات بالدول الأوروبيّة، مثل أولئك الذين يتّخذون موقفاً مناهضاً للنظام السياسيّ القائم.

ثالثاً/ مواقف السخط والتنديد:

قد تَتَبَلْوَر مواقفُ ساخطة أو تنديديّة بناءً على تطوّرات ما، تدفع قطاعاً أو أكثر من الناخبين إلى الإحجام عن الإدلاء بأصواتهم. وغالباً ما تكمن خلف ذلك الرغبةُ، الواعية أو غير الواعية، في إيصال رسالةٍ سياسيّة للقوى الحزبية المتنافسة، أو لبعضها على وجه الخصوص؛ بعدم الاكتراث بأدائها أو برامجها أو وعودها. وقد يأخذ ذلك أحياناً نمطاً شبيهاً بالمقاطعة الانتخابية المنظّمة من خلال مجموعات.

رابعاً/ ركود الساحة السياسية والقناعة بصعوبة تفعيلها:

وذلك عندما يستشعرُ الناخبون أنّ الساحة السياسية تتسم بالركود وليس فيها ما يجتذبُ اهتمامَهم، وأنّ لا آمال بإحداثِ تغييرٍ ما أو تفعيلٍ للساحة السياسيّة. وعلى سبيل المثال؛ قد يبرز هذا العامل بالنسبة لمسلمي أوروبا، في الحالات التي لا يُولي فيها المستوى السياسيّ، والأطراف المتنافسة فيه، عنايةً تُذكَر لمخاطبة اهتمامات الناخبين المسلمين وشواغلهم.

خامساً/ عدم وعي الأفراد والمجموعات بأهمية أصواتهم:

بما في ذلك استشعار الفرد بأنه في العملية الانتخابية “مجرّد صوت” غير ذي وزن. كما أنّ المُحجِمين عن التصويت قد لا يَرَوْن أنّ الاقتراع يمكنه أن يكون أداةً للتأثير السياسيّ الفعليّ. وقد أوضحت استطلاعاتٌ للرأي أنّ نسبة من لا يَرَوْن إمكانيّة التأثير السياسيّ عبر تصويتهم في الانتخابات؛ هي أعلى بوضوح لدى غير المقترِعين منها لدى المقترِعين[115].

سادساً/ عدم تبلور خيارات مشجعة للتصويت لها:

فقد تُهمِلُ الأطرافُ المتنافسةُ في الانتخابات اهتماماتِ المسلمين، وقد يبدو لبعض الناخبين أنّ الأطراف المتنافسة في الساحة السياسية ليست جديرة بأصواتهم، أو حتى أنّ المنافسة تجري بين حزب غير مفضّل وآخر غير مرغوب فيه، أو بين ما يعتبره بعضهم خياراً سيِّئاً وما يرونَه خياراً أسوأ. وقد لا تكون المشكلة مع الحزب السياسيّ ذاته؛ بل مع من تم ترشيحُه على قائمته الانتخابية، أي مع شخص بعينه أو أشخاص على خلفيّات عدّة مُحتملة.

سابعاً/ تآكل الثقة بالأحزاب السياسية:

ويتأتّى ذلك عبر أسبابٍ عدّة، منها استشعارُ الناخبين الفجوة السلبيّة بين الوعود الانتخابيّة والممارسة الفعليّة، وعدم الرضا العام عن أداء الأحزاب والسياسيِّين، ومفعول الفضائح السياسيّة، والفجوة بين المستوى السياسي والجمهور.

ثامناً/ مواقف الأطراف السياسية من اهتمامات المسلمين والشؤون الإسلامية و”الإسلاموفوبيا”:

تتسبب بعض المواقف التي تتخذها أطرافٌ سياسية في إحداث اضطراب في مدى إقبال الناخبين على المشاركة في الاقتراع، وهو ما يبدو بالنسبة للمسلمين واضحاً إذا ما تعلّقت تلك المواقف باهتماماتهم المباشرة وبالشؤون الإسلامية وبمعضلة “الإسلاموفوبيا”. وعلى سبيل المثال؛ أربك التحالفُ البريطانيّ مع الولايات المتحدة في حرب العراق (2003) قطاعاتٍ من الناخبين المسلمين، الذين اعتادوا التصويت تقليديّاً لحزب العمال البريطاني الحاكم. وبالمقابل؛ فإنّ المحافظين لا يمثِّلون خياراً تقليدياً مفضلاً للناخبين المسلمين في بريطانيا.

كما أنّ المواقف غير المشجِّعة للحزبيْن الأساسيّين في ألمانيا (الاجتماعيين SPD والمسيحيين CDU/CSU)، من الشؤون الإسلاميّة على المستوى الداخلي في السنوات الأخيرة؛ أربكت قطاعاً من الناخبين المسلمين في الانتخابات البرلمانيّة لعام 2005.

تاسعاً/ استشعار قطاع من الناخبين سلفاً أنّ النتائج محسومة:

فاستشعار أنّ النتائج محسومة بفوز طرف ما، بغضّ النظر عن موقف الناخب منه، من شأنه أن يعزِّز من اطمئنان الناخب المؤيِّد لذلك الطرف بأنه لا حاجة للإدلاء بصوته، أو ربما يبعث على قنوطه من فعالية اقتراعه إن كان يميل لطرف سياسيّ مقابل. ومن المألوف أن تتسبّب استطلاعاتُ الرأي التي تتزايد قبل الانتخابات في تعزيز مشاعر الإحجام عن الاقتراع أحياناً على هذه الخلفية.

عاشراً/ عدم الاكتراث بالشؤون العامة:

يتخذ ذلك طابعاً من عدم الاكتراث بالشؤون العامة، أو الافتقار إلى الحدود الدنيا من الدراية بالمجريات السياسيّة، وهي مشكلةٌ قد تأتي وثيقة الصلة بطبيعة الثقافة السياسيّة السائدة، أو بخصوصيّة بعض الأفراد أو المجموعات أو القطاعات في المجتمع. ومن أبرز أعراض هذه المشكلة؛ عدم متابعة أنباء التطوّرات السياسيّة الكبرى في البلاد، أو حتى تفضيل الانشغال بممارسة بعض الهوايات على الذهاب “لمجرّد إلقاء ورقة” في صندوق الاقتراع يوم الانتخابات. وتحاول بعض الإجراءات والحملات التعاطي مع هذه المشكلة بحثّ الجمهور على التصويت، وربما بتيسير سبل الاقتراع بما في ذلك بمحاولة اعتماد أسلوب الاقتراع الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت (E-Voting).

حادي عشر/ مقتضيات واقع الهامشيّة المجتمعيّة:

إنّ الوقوع على هامش الحياة المجتمعيّة، من قبل بعض الفئات؛ يجعلها معزولة، بقدر أو بآخر، عن الحدث السياسيّ والتفاعلات الانتخابيّة، وهي عُزْلَةٌ تتأتّى بإرادة تهميش ذاتية، أو بمسبِّبات حالةٍ من التهميش، أو بكليْهِما معاً. ومن ذلك ما يتعلّق مثلاً ببعض الفئات التي تعيشُ في ما يُوْصَف أحياناً ﺑ “مجتمعات موازية” ضمن الفضاء المجتمعيّ، أو تلك التي تعيش حالةً من العزلة المجتمعيّة المُطبِقة لأسباب اجتماعية ـ نفسية (socialpsychological) أو بمفعول مصاعب اقتصادية حادّة، علاوة على فئات أخرى واقعة على أقصى الهامش المجتمعي كما في نموذج فئة المشرّدين (بلا مأوى) (Homelessness) الذين يُقدّر عددهم بمئات الألوف في دول الاتحاد الأوروبي وحدها، أو مدمني الكحول ومتعاطي المخدِّرات. فالعيشُ ضمن واقع اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو صحِّيّ أو نفسيّ لا يبعث على الارتياح؛ قد يحرِّضُ بعض من يحقّ لهم الاقتراع على الإحجام عن التصويت، بل وقد تَتَبَلْوَر مشاعرُ من الوقوع ضحيّة للغُبن تستدرجُ أصحابها إلى تبنِّي مواقف سلبية من مجمل النظام السياسيّ والاقتصاديّ والمجتمعي القائم، أو من الإحساس بالعجز إزاءه، ما يورث تآكلاً للثقة السياسية بالنّفس[116]. ويتّضح هنا؛ إلى أي مدى يتداخلُ هذا العاملُ مع عوامل أخرى من بواعث الإحجام عن المشاركة في الاقتراع الانتخابيّ. كما يتّبيّن أنّ المؤشِّرات التي تدلّ على كون المسلمين والأقليات في الواقع الأوروبي أكثر عرضة من “مجتمع الأغلبية” لمجمل ملابسات التهميش المجتمعي واختلال ميزان الفرص لأعضاء المجتمع الواحد؛ إنما تجعل المسلمين والأقليات عرضة لاحتمالاتٍ أوفر من الإحجام عن المشاركة السياسيّة، بما في ذلك المشاركة الانتخابيّة. ويكتسب هذا الاستنتاجُ أهميته؛ حتى وإن أمكن توقّع أن تكون تلك الاختلالاتُ ذاتها باعِثاً محرِّضاً، في الوقت نفسه، على مشاركة فاعلة لقطاعات أوسع من المسلمين والأقليات، لاستشعار أنّ الأمر ينطوي على تحدِّيات ومسؤوليّات متراكمة.

ثاني عشر/ القنوط من الديمقراطيّة النيابيّة (التمثيليّة):

منذ منعطف 1968 في أوروبا، تَبَلْوَرت مؤشِّرات من الشكوك في النظام الديمقراطيّ النيابيّ والتململ منه، وأخذت خياراتٌ، يعوِّل المنادون بها على المشاركة التفاعليّة والتسييس الجماهيريّ والمبادرات الشعبيّة؛ بالصعود إلى الواجهة. إذ لم يعد بوسع الجيل الجديد أن يقبل باختزال مشاركته السياسية بمجرد التصويت في الجولات الانتخابيّة المتعاقبة، فظهر اتجاه متنامٍ ﻟ “ديمقراطية الشارع” ولخيارات الفعل المجتمعي المباشر ولمجموعات “المساعدة الذاتية”، وهي أنماط من تشكيلات أخذت تعبِّر كذلك عن قوى وأطراف يقع بعضُها في هامش خارطة المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، علاوة على قوى وتيارات تقع داخل ساحة المشاركة تلك. وقد اعتنقت بعض تلك المجموعات قناعاتٍ لا ترى جدوى في الأحزاب السياسيّة القائمة ولا في النظم الانتخابيّة المتبعة، معتمدة في ذلك سياسة “افعلها بنفسك” (Do it yourself policy)[117]. ومن الواضح أنّ النبذ المتزايد في بعض أوساط الأجيال الجديدة للبُنى الحزبيّة الهرميّة، والميل إلى أسلوب شبكات العمل (Networks)، خاصة مع توفّر خيارات تقنِّيّة واتصاليّة مشجِّعة على تواصل كهذا بمفعول التطوّرات الاتصالية والتقنيّة والإعلاميّة المتلاحقة؛ قد عزّز من قناعة أصحاب اتجاه المشاركة السياسيّة الذاتيّة بقابليّاتهم على التأثير في الساحة دون التعويل على التقاليد الانتخابية أو الاكتفاء بإيصال ممثِّلين “غير مؤتَمَنين” إلى المقاعد النيابيّة لممارسة دور سياسي “غير محسوب العواقب” بالإنابة عنهم. والواقع أنّ آلياتِ التنظيم والتواصل المجتمعيّ المتجدِّدة؛ قد أتاحت فرصاً غير مسبوقة للمجموعات المعنيّة للإحساس بالذات الجمعيّة وبالقدرة على التحريك والتأثير، والتبَلْوُر السريع، بغض النظر عن جدِّيّة فرص التأثير التي تتأتّى عبر ذلك.

ويمثِّل “المنتدى الاجتماعي الأوروبي” (European Social Forum) ، الذي يُعَدّ بمثابة الإطار القاريّ الخاص بأوروبا ضمن “المنتدى الاجتماعي العالمي”، الذي اشتهر بمواقفه المطالِبة بكبح جماح سياسات العولمة الاقتصادية؛ نموذجاً ملموساً على تعاظم الاتجاه الذي ينبذ الانخراط في النظم الهرميّة، وتفضيل العمل الشبكي. إلاّ أنّ هناك من يشير إلى وجود بنى هرميّة غير مرئيّة واستقطابات ضمنيّة داخل هذه الأنماط المتجدِّدة من التنظيم المجتمعيّ والسياسيّ. وقد وجّه المفكِّر طارق رمضان، أستاذ الدراسات الإسلاميّة في جامعة فريبورج وأستاذ الفلسفة في جامعة جنيف (سويسرا)، في مقال له أثار جدلاً في عام 2003؛ انتقاداتٍ قويّة إلى الحركات المعارِضة لسياسات العولمة، أكّد في سياقها أنّ “الافتقار إلى روح الديمقراطيّة والتفتّح أمر جليّ اليوم داخل حركة المناهضين للعولمة. ليس هناك زعماء، وليس هناك هيكلّ موحّد، وكلّ شيء مطروح للنقاش والجدل وإلى التصويت، والحركة مفتوحة للجميع حسب ما يُقال؛ للأفراد كما للأفكار، للشخصيّات الشهيرة كما للنكرات. لِنَرَ ذلك. في عمق الديناميكيّة يلحظ المرء تواطؤاتٍ قديمة ومصالح مسكوت عنها لكنّه مُقَرّ بها، وممارسات متعارَفة حدّدتها سنواتٌ طويلةٌ من النضال: خلف واجهة اللانمطيّة تختبئ شبكات من التواطؤ والعادات والمصطلحات. فكرةٌ بعينها مصاغة مُسبَقاً عن رموز ومصطلحات النضال الشرعيّ الحقيقيّ الوحيد هي التي تنساق أحياناً إلى الحكم بالضلال على ما لا يشبهها”[118].

ومقابل هذه الاتجاهات؛ أخذت بعض الأحزاب السياسية تستشعر حاجةً متزايدة للقيام بإصلاحات بنيوية داخلها وضمن آليات عملها، رافعة شعارات من قبيل “ديمقراطية القاعدة”[119] مثل ما يتجلى في تجارب أحزاب الخضر وخطابها، كما تأتي في هذا السياق المطالباتُ بانفتاح الأحزاب على المزيد من القطاعات والشرائح المجتمعيّة، واعتماد سياسة “القرب من المواطنين”.

يُذكَر هنا أنّ وجود مرشّحين مسلمين يحظَوْن بمعدّلات معقولة من الكفاءة والمصداقية والاحترام لدى الجمهور المسلم على قوائم الأحزاب؛ من شأنه أن يزيد من معدلات إقبال الناخبين المسلمين على الإدلاء بأصواتهم. كما أنّ إيلاء القوائم المتنافسة عنايةً لاهتمامات الناخبين المسلمين من شأنه أن يشجِّعهم على الاقتراع. ويلحق بذلك توجّه الحملات الانتخابية للجمهور المسلم مباشرة، بشتى الأدوات المتاحة لذلك، بما فيها مراعاة الخصائص اللغويّة إن لزم الأمر، وهو ما يشهد بالفعل شيئاً من النموّ في بعض البلدان الأوروبيّة، واتضح مثلاً في الحالة النمساوية بدءاً من الانتخابات البرلمانية لعام 2002 وفي الانتخابات المحلية في فيينا لعام 2005.

المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية:

مع النموّ العامّ في تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أخذ حضور المرأة المسلمة يبدو ملحوظاً أحياناً وبشكل متزايد ضمن فضاء المشاركتين السياسية والمجتمعيّة، وفي حالات عدّة بات الحجاب حاضراً ضمن هذه المشاركة.

فالنائبة المسلمة في البرلمان السويدي، عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم، مريم عثمان شريفاي (من أصل أريتري)، استَجوبت في جلسة برلمانية، وزيرة الديمقراطية والاندماج السويدية منى صالين بشأن معاناة المحجبات في سوق العمل السويدي وما يواجهنه من عوائق في هذا الشأن. وقامت مريم عثمان خلال ذلك الاستجواب بارتداء الحجاب كإشارة تضامنية مع المرأة المحجبة في السويد[120].

وفي السويد ذاتها؛ فإنّ السياسية المسلمة المحجبة لمياء العامري (من أصل تونسي)، العضو في المجلس البلدي لاستوكهولم عن دورة 2002 ـ 2006، تمثل نموذجاً لمشاركة المرأة المسلمة في الحياة السياسية، دون أن يعزلها التزامها الديني عن هذه المشاركة.

وقد فازت النمساوية المسلمة (من أصل تركي)، أمينة بولات، وهي التي ترتدي الحجاب، بمقعدٍ عن مجلس لأحد أحياء فيينا، في الانتخابات البلدية التي أجريت في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 2005، في العاصمة النمساوية.

كما بدا نموذج الشابة المسلمة السويسرية نادية صديقي (من أصول باكستانية)، لافتاً للانتباه، إذ رشّحها الحزب الديمقراطي المسيحي للانتخابات في إحدى مقاطعات كانتون تيسّان (تيتشينو) (Ticino)، في العام 2004، خاصة وأنها مسلمة محجبة وعُرف عنها حرصها على الالتزام الديني. وإن لم تكن هذه الشابة المسلمة قد نجحت في الانتخابات؛ فإنّ ذلك لا يُخرِج تجربتها من ساحة المشاركة السياسيّة للمسلمين، والتي تشهدُ في الكانتون ذاته تقدّماً ملحوظاً بالنسبة للسياق السويسري العام، خاصة مع نجاح السياسي المسلم حسن العربي (من أصول مصرية) في انتخابات برلمان محلِّيّ فيه.

وعموماً؛ لم يكن حضورُ المرأة المسلمة في الساحة السياسيّة الأوروبيّة نادراً، إذ تمكنت عدد من النساء اللواتي يتحدّرن من بلدان إسلاميّة من التقدّم بالفعل ضمن الأحزاب السياسيّة في عديد البلدان الأوروبيّة، وانتزاع مواقع في البرلمانات المحلِّية والقطرية علاوة على البرلمان الأوروبي ذاته، بل وبشكل كافأ الحضور العددي للرجال المتحدرين من بلدان إسلامية في عدد من الحالات[121]. فعلى سبيل المثال؛ لا يقلّ حضور الأسماء النسائيّة المسلمة في الساحة السياسيّة في فرنسا ودول البينيلوكس عن حضور نظيرتها للرجال المسلمين، بل ربما تقدّمت عليهم. فكما يتّضح بالنسبة للحالة الفرنسية مثلاً؛ تمكّنت أسماء نسائيّة تنتمي إلى خلفية هجرة من بلدان إسلامية من تحقيق تقدّم في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت في الثالث عشر من حزيران (يونيو) 1999؛ دون تسجيل أي حضور رجالي من الخلفية ذاتها. وبهذا شغلت كل من ياسمين بوجناح (الشيوعيون)، وطوقية سايفي (الديغوليون) وحليمة بومدين (الخضر) مقاعد في البرلمان الأوروبي عن دورة 1999 ـ 2004.

بل حتى في اليونان، دعا أكبر أحزاب المعارضة (PASOK) قاضية مسلمة شابّة تبلغ من العمر 28 عاماً، هي غولبياز قره حسن (Gülbeyaz Karahasan)، في أيار (مايو) 2006، للترشّح على قائمته عن ولاية (Drama ـ Kavala ـ Xanthi) التي تقع في شمال شرقي البلاد، حيث يتركز الوجود المسلم التاريخي، وهو الترشيح الذي أثار جدلاً في الساحتين السياسية والإعلامية.

ولكنّ المؤشِّر الجديد في هذا المضمار والآخذ بالتشكل؛ هو حضور المسلمة المحجّبة أو التي تُظهِر مزيداً من التقدير للدين الإسلامي في المستوى السياسيّ. ويكتسب ذلك أهمية إضافية بالنظر إلى أنّ “النساء المسلمات هنّ في مركز الجدالات العامة الساخنة بشأن القلق على دور الدين، والتقليد والحداثة، والعلمانية والانعتاق، وعادة ما يُصَنّفن على أنهنّ ضحايا للاضطهاد المنسوب للإسلام”[122].

ومن غير المستَبعد أن يكون التفاوت الواضح في بعض البلدان الأوروبية، بين نسبة النساء والرجال ضمن إجمالي من يعتنقون الإسلام؛ قابلاً لأن يحمل في طيّاته تفسيراً جزئياً للحضور النسويّ البارز أحياناً في ساحة المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا.

مساجد أوروبا .. وساحة المشاركة السياسية:

إنّ للمسجد في أوروبا دوراً لا يمكن إغفاله في الحياة المجتمعيّة وفي سياق المشاركة السياسيّة، ويمكن توصيف أبرز أدواره النموذجيّة في هذا الحقل؛ في تحفيز الجمهور المسلم على التفاعل الإيجابيّ مع مسارات المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، والإسهام في ترشيد هذه المشاركة وإنعاشها بفيْض القيم الإسلامية ذات الصِّلة. ولكنّ دَوْرَ المسجد في هذا المضمار، الذي يتأتّى أساساً عبر إسهامات الأئمة والخطباء والمحاضرين والوعّاظ وقادة الرأي في الأوساط المسلمة المحليّة؛ ينبغي أن يحافظ في الوقت ذاته على مسافةٍ تفصله عن مزالق الشأن السياسيّ واستقطاباته.

وفي سياق المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا بصفتها الراهنة؛ فإنّ المسجد آخذ في اكتساب قَدْرٍ وافِرٍ من ثقله عبر موقعه المحوريّ ضمن تجمّعات الوجود المسلم في البلدان الأوروبيّة، أي أنه محور النشاط المجتمعيّ للمسلمين على المستوى المحلي، وهو ما يُغري بعض السياسيِّين بالتواصل مع المساجد وجماهيرها وكسب ودّ الأئمة على نحو متزايد ولافت للانتباه في عديد الأقطار الأوروبية، غالباً لجمع الأصوات وتحسين صورة أحزابهم، وأحياناً لنزع فتائل التوتر في المجتمع الواحد في ظلال الأزمات. كما يغوي ذلك ضرباً آخر من السياسيين لاستهداف المساجد بمواقفهم وسياساتهم وتصريحاتهم، وهو ما تتوفر شواهد عليه في عدد من بلدان أوروبا.

ولكنّ المسجد له دوره الواضح في مجال تمثيل الاحتياجات الدينيّة وبعض الاهتمامات المجتمعيّة (شؤون الأحوال الشخصيّة مثلاً) والتعبير عن المصالح والمكتسبات المرتبطة بها إزاء المستوى السياسي، سواء بشكل مباشر أو من خلال أطر مختصّة بالتعبير عن ذلك كروابط المساجد أو مجالس الأئمة أو الهيئات الدينية المسلمة وما في حكمها. ثم إنّ المسجد يُفترض أن يضطلع بدور لا غنى عنه في سياق مساعي التواصل المجتمعيّ وتحقيق التفاهم ونزع فتيل التوتّرات، وهو ما تنهض بشيء منه فعاليات من قبيل “يوم المسجد المفتوح” التي تُنَظّم في معظم البلدان الأوروبيّة. بل بات تنظيم هذه فعالية “المسجد المفتوح” (Tag der offenen Moschee) في مساجد ألمانيا ككلّ يتم في وقت متزامن في أوقات محدّدة من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، في جميع الولايات، وذلك في أوسع حملةٍ منتظمة من نوعها، في ما أنّ بعض المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا قد طوّرت هذه الفعاليات ومنحتها زخماً كبيراً، كما عليه الحال بالنسبة للمركز الثقافي الإسلامي بأيرلندا (ICC) الذي يقيم ما يُطلِق عليه اسم “أسبوع الجيرة” (Neighbourhood Week) كل عام بانتظام وبنجاح لافت للانتباه.

ومقابل ذلك؛ فإنّ المسجد بات واقعاً أيضاً على محور الأزمات المتعلِّقة بالوجود المسلم في أوروبا، ليس فقط لوجود حالات من التسيير الخاطئ، أو عدم انضباط أو افتقار للحكمة لما يُقال من فوق منابر قليلة أو ما يجري من أنشطة مزعومة في بعض المساجد والمراكز الإسلامية؛ ولكن أيضاً وعلى نحو أهمّ وأوسع نطاقاً؛ تبعاً لمحاولات التحريض ضد الوجود المسلم في أوروبا واستهداف نقاط الحضور والتمركز في هذا الوجود، وليس المسجد أو المركز الإسلامي سوى العنوان الأبرز في هذا السياق.

وتولِّد الحملات السياسية أو الإعلامية على المساجد أو الأئمة في بعض الدول الأوروبية، استياءً في صفوف المسلمين. ففي معرض انتقاده لحادثة خلع إمام مسجد روما الكبير في سنة 2003، على خلفية دعاء من فوق المنبر أثار ضجّة إعلاميّة في إيطاليا؛ يعلِّق الدكتور علي أبو شويمة، مدير المركز الإسلامي في ميلانو ولومبارديا، على ذلك بالقول “إنّ حرية الكلمة والتعبير جائزة بل حقّ للجميع، ولو تهجّم صاحبُها على كلّ مقدّس وحتى لو سبّ الذاتَ الإلهية، ولكنّها محرّمةٌ وممنوعةٌ على المسلم ولو كان ذلك من قبيل الجهر بالسوء من القول لمن ظُلم. الأمر الآخر هو أنّ خطب الجمعة في أوروبا باتت تحتاج أن تمرّ على وزارات الداخليّة، لكي تملي على الخطباء ماذا يقولون وبماذا يدعون ربّهم، فكأننا في دول العالم الثالث المغلوبِ على أمرها، وبدأنا نشعر بمخالفة الواقع للشعارات. فقبل أن ننقل الديمقراطيّةَ إلى هناك؛ أُعيدت الدكتاتوريّةُ من هناك إلى هنا (أوروبا)”[123].


 

الفصل الخامس:

المشاركة السياسيّة في ظلال الأزمات

 

 

  • انعكاس الأزمات على المشاركة
  • مسلمو أوروبا وإدارة الأزمات
  • التفاعل مع الأزمات
  • الأزمات وثقافة الاعتراض السلمي


 

انعكاس الأزمات على المشاركة:

في ظلال الأزمات التي ألقت بظلالها خلال السنوات الأخيرة على أوروبا في ما يتعلق بالشأن الإسلامي؛ سادت أجواء من القلق النسبيّ وعدم الارتياح لدى قطاعات من المسلمين في المجتمعات الأوروبية. وقد رصدت تقاريرُ عدّة ما طرأ من هجمات مادِّيّة ولفظيّة وتهديدات بحقّ المسلمين والمنشآت التي تعود لهم، وكذلك من اعتداءات على المساجد خلال ذلك. ومن ذلك التقارير الصادرة بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 عن “المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية والعداء للأجانب” (EUMC)[124]، وهو مرصد مستقلّ أنشأه الاتحاد الأوروبي، علاوة على “المفوضية الأوروبية المناهضة للعنصرية واللاتسامح” (ECRI)[125]، التابعة لمجلس أوروبا.

لقد أثارت الأزمات المتلاحقة قلقاً في أوساط مسلمي أوروبا، من مغبة إساءة استغلالها بالتعدي على حقوقهم ومكتسباتهم وتوجيه الإساءات المعنوية إليهم. وقد دفع ذلك قياداتٍ مُسلمة إلى إطلاق تحذيرات من هذا النهج، كما فعل إقبال سكراني، عندما كان يشغل موقع السكرتير التنفيذي للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB). فقد حرّر القيادي المسلم بياناً باسم المجلس في 12 تموز (يوليو) 2005، بعد أيام من هجمات وسائل النقل العامة في لندن، أكد فيه أنّ “المجلس الإسلامي البريطاني يدرك تماماً وجود فئة شاذة في المجتمع ممن يتخذون مثل هذه الحوادث المأساوية ذريعة لمهاجمة مسلمي بريطانيا ومؤسساتهم ومساجدهم والحطّ من شأنهم”. وقال سكراني متابعاً “مما يُؤسَف له مشاركة بعض الإعلاميِّين المعروفين بعدائهم للإسلام والمسلمين في هذه الحملة المخزية”، حاثاً مسلمي بريطانيا على “ألاّ يتأثّروا بمثل هذه الأساليب التحريضيّة ضد الإسلام، من خلال الاستمرار في مزاولة حياتهم اليوميّة وبشكل طبيعيّ ومتماشٍ مع تعاليم دينهم الحنيف”[126].

وفي سياق المخاوف من الاشتباه التعميمي الجائر؛ ينقل تحقيق موسّع لمجلة “نيوزويك” (Newsweek) في إصدارها البولندي أنه “تدور بين المسلمين (في بولندا) الشائعات بشأن سعي أجهزة الأمن الخاصة إلى تجنيدهم، وقيامها بالتحقيق معهم وتصويرهم ومراقبتهم والتنصّت على هواتفهم”[127].

ومع التفاوت النسبيّ بين ما عليه الأمر في بلد أوروبي وآخر؛ إلاّ أنّ الحالة العامّة أثارت القلق في أوساط مسلمي أوروبا بالفعل، خاصة لتلازمها مع تغييرات قانونيّة وإجرائيّة مسّت الشأن الدينيّ الصرف، كالقوانين والإجراءات المتعلقة بزيّ المرأة والفتاة، وحالات اقتحام المساجد وتفتيشها بطريقة مهينة، وإثارة الجدل بشأن المدارس الإسلامية والأئمة في عديد الدول الأوروبية، فضلاً عن الشكوى التقليدية من بعض التغطيات الإعلامية.

ومن بين ما يستحقّ التوقّف عنده بالنظر والتحليل؛ مدى انعكاس ذلك على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا. فنموّ المشاركة يتطلّب تفاعلاً مع الساحة السياسيّة ومجرياتها، يكون مؤهلاً للتعبير عن الرؤى والتطلعات والمواقف، وكذلك عن الجوانب المطلبيّة. ويستدعي ذلك قدراً وافراً من الثقة والانفتاح والقابليّة للتعبير عن الذات. ولا ريب في أنّ التراجعات على صعيد حقوق المسلمين وحرياتهم ومكتسباتهم لن تُسدي، من هذا الوجه، خدمةً مباشرةً في اتجاه تعزيز المشاركة؛ إلاّ أنها قد تستحثّ مشاركة قطاعات من الجمهور المسلم تستشعر ضرورة تفاعلها مع الشأن السياسي وإسماع صوتها ومحاولة كبح جماح ما تراها من تراجعات. ومما قد يؤشر إلى شيء من ذلك؛ ما لوحظ من إقبال غير مسبوق في حجمه لمن يُعرفون ﺑ “شبّان الضواحي” من مسلمي فرنسا، على تسجيل أنفسهم في سجلات الناخبين قبيل انتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2007. وربط المراقبون ذلك الإقبال بالتصريحات الحادّة التي كان مرشح الرئاسة اليميني نيقولا صاركوزي قد أطلقها بدءاً من خريف 2005 بحقّ هذه الشريحة من الشباب.

وليس بعيداً عن ذلك، ترصد “مجموعة الأزمات الدولية” (International Crises Group) على ضوء اضطرابات الضواحي الفرنسية؛ ما اعتبرته “أزمة تمثيل سياسي” لمسلمي فرنسا، وخلصت في تقرير لها بهذا الشأن إلى الاستنتاج بإنّ “المفتاح لتقليل أخطار الشغب والجهاديّة المتطرِّفة يكمن في كبح جماح أشكال من العنف الذي تمارسه الدولة ضد الضواحي العمالية التي تقطنها أغلبية مسلمة، والعمل على إشراك سكانها المسلمين في العملية السياسيّة”[128].

وليس من فراغ بالتالي؛ أن يَلفت المركزُ الأوروبيّ لمراقبة العنصريّة والعداء للأجانب، انتباه الدول الأوروبية، إلى أهمية “تشجيع الجاليات المسلمة للمشاركة النشطة في المؤسسات والعمليات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية”، وهو يدعو؛ “الجاليات المسلمة لأن تقوِّي، أو تبتكر، منظمات تمثيلية تعكس تنوّع الجاليات مع تمكينها للنساء والشباب بشكل خاص”، حاثاً الدول الأوروبية على تشجيع التنظيم الذاتي لمسلمي أوروبا وتأييدهم في بناء قدراتهم[129].

وعلاوة على الدور التنبيهيّ الذي تنطوي عليه التجاوزات والتراجعات والمواقف الحادّة، وما تستحثه من ردود أفعال؛ فإنّ المستوى السياسيّ في أوروبا استشعر، إجمالاً، حاجته إلى “شركاء حوار” من الوجود المسلم يستطيع أن يتعامل معهم في ظل ازدياد الشواغل المتعلقة بالشأن الإسلامي. ومن المرجّح أن يفيد هذا الاستشعارُ المشاركةَ السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا، بالنظر إلى الحاجة إلى تشكيل أُطُر معبِّرة عنهم، لكنّ أية محاولة من السلطات للتدخل، بشكل أو بآخر، في قيام هذه الأُطُر و/ أو التأثير على تسييرها؛ لن تخدم مسعى المشاركة، بل ستُلحق أضراراً مؤكّدة بها.

مسلمو أوروبا وإدارة الأزمات:

ليس من الجائز اختزال ما صاحب بعض المنعطفات الحرجة التي عرفها مسلمو أوروبا عبر السنوات الأخيرة في بعض التطوّرات السلبية. فتلك الأزمات، وأبرزها صدمة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001؛ التي بدت اختباراً لمتانة النسيج المجتمعي في أوروبا دفعت كثيراً من المسؤولين وقادة الرأي إلى إبداء المواقف التضامنيّة مع المسلمين، عبر إطلاق التصريحات الإيجابيّة والدعوة إلى تعزيز الوئام المجتمعيّ، والإقدام على زيارة المساجد والمراكز والمدارس الإسلاميّة، فضلاً عن مبادرات ودِّيّة شملت إقامة موائد الإفطار الرمضانية في الأروقة الرسميّة وإرسال التهاني في أعياد المسلمين. كما سلّطت تلك المنعطفات الأنظارَ على وقائع من التفرقة تمسّ المسلمين وحالةٍ من التشويه والخلْط تستهدف الإسلامَ ذاته، الأمر الذي أنعش التحذيرات من “الإسلاموفوبيا” وأدخلها كمصطلح إلى بيئة التناول السياسي والرصد الحقوقي للانتهاكات والتجاوزات.

ويبقى السؤال قائماً عن المدى الذي تمكّن معه مسلمو أوروبا، من استثمار هذه المستجدات الإيجابيّة، وهل أمكن البناء عليها بطريقة مُجدِية في كافة الساحات الأوروبيّة حقاً؟. فالمؤشِّرات المتاحة تَلْفِت الانتباهَ إلى تقدّم شهده الأداء السياسيّ والمجتمعيّ للمسلمين في عدد من الساحات الأوروبيّة في غضون ذلك؛ لكنّ ساحات أخرى لم يطرأ عليها نموّ جوهريّ في الاتجاه الإيجابيّ، كما أنّ المشهد العام لمسلمي أوروبا بقي دون المنشود رغم كلّ ما طرأ عليه.

فمثلاً؛ من بين ما يصعب العثور عليه هي قائمة المطالب التي يمكن للمسلمين أن يتبنّوها في المرحلة الحاليّة، سواء في المستويات المحليّة أو القُطريّة أو القارِّيّة. وحتى عندما تخرج بعض المؤتمرات الإسلاميّة والندوات المتخصِّصة بمطالب محدّدة؛ فإنّ ساحة مسلمي أوروبا ما زالت تفتقر إلى الآليات الفاعلة التي بوسعها متابعة ذلك والعمل على تحقيقه في المستوى اللائق.

ويمكن إسقاط هذا الاستنتاج أيضاً على تجربة مسلمي أوروبا في متابعة المجريات السياسيّة والقانونيّة، والتطوّرات الحاصلة في مجالات اهتمامهم، والنظر فيها بغرض التحقق من انعكاساتها عليهم أساساً، بما يعينهم على بلورة مواقف محدّدة إزاءها. ويتعلّق الأمر هنا بالحقوق والمكتسبات التي ينبغي العمل على انتزاعها أو حمايتها؛ على المستويات المحلية والقطرية والقارِّيّة.

التفاعل مع الأزمات:

من بين ما يثير الاهتمام، بشأن التفاعل السياسيّ الذي يبديه مسلمو أوروبا؛ أنّ التعليق على التطوّرات سلبيّة الطابع أو الأزمات الداهمة والفواجع قد فرض نفسه على ذلك التفاعل، وهو ما يتضح في مضامين البيانات أو التصريحات المعبِّرة عن مواقف المؤسسات والاتحادات والجمعيات العاملة في صفوفهم مثلاً، أو حتى كما يمكن أن يُلاحَظ عبر الشواغل التي تناولتها خطب الجمعة في المساجد.

إذ يُلاحَظ على سبيل المثال؛ أنه خلال السنوات من 2000 وحتى نهاية 2006؛ برزت سلسلةٌ من التطوّرات الجارفة ضمن أبرز الموضوعاتِ التي انشغلت بها المواقف والتعليقات العامة الصادرة عن أوساط مسلمي أوروبا في فضاء الحضور السياسيّ والمجتمعيّ.

وتتمثّلُ هذه التطوّرات في اندلاع انتفاضة الأقصى بدءاً من نهاية أيلول (سبتمبر) 2000، وما تخلّلتها من محطّات لاحقة، كاغتيال أبرز القيادات السياسيّة الفلسطينيّة، والحملات الحربيّة الضارية لجيش الاحتلال. وكذلك قضيّة تفجير تماثيل بوذا في باميان بأفغانستان إبان عهد طالبان، في ربيع سنة 2001، وهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي تمثل نقطة تحوّل في هذا الاتجاه، بينما لوحظ في أوساط مسلمي أوروبا اهتمامٌ ثانويّ فاتر بالتعليق التنديديّ بالحرب على أفغانستان في خريف 2001 (التي جاءت في ظلال صدمة 11/9)، بالمقارنة مع ردود الفعل التي أعقبت سلسلة التفجيرات والهجمات المروِّعة التي شهدتها مناطق عدّة من العالم. ومن بعد جاءت الحربُ على العراق التي انطلقت في آذار (مارس) 2003، وكافة تطوّرات الوضع العراقيّ الملتهب في ما بعد؛ موضوعاً لسلسلة من المواقف والتصريحات والبيانات للمؤسسات الإسلاميّة والقيادات المجتمعيّة والسياسيّة المسلمة في أوروبا. وقد برزت أيضاً “قضيّة الحجاب”، المتمثِّلة بالتوجّه الرسميّ الفرنسيّ لحرمان التلميذات المسلمات من حق اختيار الزيّ وإصدار قانون حظر الرموز الدينيّة البارزة (2003 ـ 2004). كما تبلور اتجاه قويّ لإصدار المواقف بشتى الصور في سياق مسلسل الاختطافات في العراق لأشخاص أوروبيِّين، خاصة مع ما واكَبَها من مناشدات من جانب مسلمي أوروبا للإفراج عن الرهائن وزيارات حميدة متكرِّرة إلى بغداد لهذا الغرض. ومن التطوّرات الأخرى التي برزت؛ تفجيرات قطارات مدريد في 11 آذار (مارس) 2004، وأزمة العنف المجتمعيّ في هولندا على خلفيّة التحريض ضد الإسلام واغتيال المخرج تيو فان غوخ في خريف 2004، ثم تفجيرات وسائل النقل العام في لندن في 7 من تموز (يوليو) 2005، وصولاً إلى اندلاع أزمة الرسوم الدانمركيّة المسيئة للمقام النبويّ الشريف، بدءاً من خريف وشتاء 2005. وفي ما بعد تجددت أزمة الإساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عبر الموقف الذي عبّر عنه بابا الفاتيكان بيندكتوس السادس عشر، في محاضرة له عن “الإيمان والعقل” في ألمانيا في أيلول (سبتمبر) 2006.

ويكشف هذا التلاحقُ المتسارع في التطوّرات والفواجع، حجم الظروف الضاغطة في غضون السنوات الأخيرة، والتي استشعر مسلمو أوروبا، عبر هيئاتهم ومؤسساتهم وجمعيّاتهم وقياداتهم المجتمعيّة وسياسيِّيهم؛ أنّ عليهم مواكبَتَها والتعليقَ عليها أو ربما محاولة التأثير في مجرياتها أو التخفيف من تداعياتها. وقد ترتّب على ذلك طابعٌ عام من الحضور الإعلاميّ والسياسيّ في ظل الأزمات، وهو يمثِّل عِبئاً بحدِّ ذاته، إلاّ أنّه أبرَزَ دوراً متزايِداً للأطراف التي يُفترَضُ أنها تُعبِّرُ عن المسلمين أو حتى تمثِّلهم، في المستويين السياسيّ والإعلاميّ. فمن الناحية السياسيّة؛ تزايدت الحاجةُ إلى من يتمّ التعامل معهم من المسلمين، أو إلى “شركاء حوار”، أما من الجانب الإعلاميّ؛ فقد اكتسبت مواقفُ الهيئاتِ والأطراف والشخصيّات المسلمة وزناً إعلاميّاً أكبر، وبدت موضعَ اهتمامٍ متزايد، خاصة في ظلّ بعض المنعطفات الحرجة التي تزاحمت خلال تلك السنوات (2000 ـ 2006).

وليس من الدقّة أن يُعَدّ ذلك الاهتمامُ السياسيّ والإعلاميّ المتنامي؛ بالضرورة تزايداً في الفعاليّة والقدرة على التأثير في الساحتين السياسيّة والإعلاميّة، ذلك أنه يأتي هنا في سياقات مأزومة غالباً، وضمن ملابسات تكتسب من الناحية الإجمالية طابعاً سلبيّاً، مهما تحقّق في ثناياها من مكاسب عَرَضيّة أو ثانويّة، علاوة على أنها أبرزت نزعةً اعتذاريّةً، أو أحياناً لهجةً دفاعيّةً، في بعض صفوف مسلمي أوروبا ومؤسّساتهم. فلا ريب مثلاً في أنّ التحوّلات التي أفضى إليها منعطف الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001؛ حملت تراجعاتٍ عدة في ما يتعلّق بأوضاع المسلمين في عدد من بلدان أوروبا في أكثر من مضمار. كما أنّ سلسلة التفجيرات والهجمات المروِّعة حول العالم، خاصة ما وقع منها داخل أوروبا؛ قد جرّت أضراراً متشعِّبة على واقع الوجود المسلم في هذه القارّة. أما في حالاتٍ أخرى؛ فقد بدا أنّ تدخّلات المسلمين، بالأشكال التي اتخذتها ومستوى الأداء وطبيعة الخطاب؛ لم تُجدِ نفعاً في درء سياسات أو خطوات تنتقص من حقوقهم وحريّاتهم، وفق ما يتمثل في “قضية الحجاب” في فرنسا مثلاً.

وحتى في الحالات التي تفاعل فيها مسلمو أوروبا مع الشأن السياسيّ، كما في موجة المظاهرات التي عمّت أوروبا في النصف الأول من عام 2002 تنديداً بالحملات الحربية لقوات الاحتلال في فلسطين، وكما في مظاهرات التحذير من شنّ حرب على العراق بدءاً من خريف 2002؛ فإنّ ما كان واضحاً هو تركيز الجهود على الفعل السياسي الجماهيريّ أو المواقف الإعلاميّة التقليديّة، دون بروز أدوات أمضى نفاذاً في مسارات الفعل السياسيّ وأكثر تشابكاً معه. وقد بدا بوضوح أنّ الأداءَ السياسيّ للمسلمين قد اتخذ سمةً موسميّةً في كثير من الساحات الأوروبيّة، ولم تتوفّر أطرٌ أو أدواتٌ للمسلمين تتيح التواصُلَ السياسيَّ “المحترف” في معظم دول أوروبا ضمن هذه الملفّات أو غيرها، رغم وجود بعض النماذج الناهضة في بلدان قليلة وحالات محدودة.

ولدى تتبّع خلفيّات ذلك ضمن نطاق المسلمين أنفسهم؛ فلا يمكن فهمُهُ على أنه مرتبطٌ بأداءِ السياسيِّين المسلمين في أوروبا وحدهم، ولا بالهيئات والمؤسسات والجمعيات وحسب؛ وإنما بمجمل الأطراف والعوامل المتعلِّقة بالمسلمين، ومدى تطوّر الثقافة السياسيّة، بل وأنماط الحضورِ المجتمعي وتجلِّياته. وتُضاف إلى ذلك مجملُ العوامل الموضوعيّة والتطوّرات والملابسات ذات الأثر.

ورغم أنه قد جرى الاهتمامُ ببعض التطوّرات الاعتياديّة، التي تخرج عن نطاق الأزمات، مثل الجولات الانتخابية على نحو خاص، كما اتضح مثلاً في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2004؛ فإنّ ذلك لا ينفي واقع أنّ المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ما زالت من الناحية الإجماليّة بعيدة عن الانشغال باتجاهات مؤثِّرة وهامّة، من قبيل الإسهام في وضع جدول الأعمال (Agenda Setting) في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة، أسوة بما تسعى إليه في العادة الأطرافُ المجتمعيّةُ الفاعلة. ولا يعني ذلك عدم وجود محاولاتٍ أو تجارب في أوساط مسلمي أوروبا في هذا الجانب؛ لكنّ الواضح أنّ السمة العامة هي أنّ تفاعلهم مع الشأن السياسي يبدو أقرب إلى طابع ردود الأفعال والأداء الموسميّ الذي لا يحظى بالاستمراريّة والتواصل والاستقرار، خاصّة مع الافتقار إلى منظومة مؤسسيّة مستقرّة معنيّة بمتعلقات العمل السياسيّ، كمؤسّسات الاستشارات والخدمات، ومراكز البحوث والدراسات الكفؤة، ومؤسسات التفكير المعروفة باسم “دروع الأفكار” (Think Tanks)، و”مجموعات المصالح” الفاعلة[130]، ومؤسّسات المعلومات والإعلام، والجمعيّات الحقوقيّة ذات الصوت المسموع والأداء الضاغط، وغير ذلك.

ومع هذا؛ فلا يمكن تجاهل أهمِّيّة ردود الأفعال أو التحرّكات المتقطِّعة أو الأداء موسميّ الطابع بالنسبة لفُرَصِ إنعاشِ المشاركة السياسيّة للمسلمين. فمن جانب؛ يمكن التسليمُ بأنّ ذلك كلّه يندرج إجمالاً ضمن المشاركة السياسيّة، وإن بشكل غير مباشر، ولكنّ الأهم ربما؛ هو أنّها تمثِّل، من جانبٍ آخر، إرهاصاتٍ تُؤذِنُ غالباً بمزيدٍ من النموّ التراكميّ، أو أنها تحمل في ذاتها مؤشِّراتِ نهوضٍ على صعيد تلك المشاركة. فعبر التحركات الجماهيرية المتكرِّرة؛ من المألوف أن تتحوّل لجانُ العمل والتنسيق المؤقّتة إلى أطر أكثر استقراراً وربما إلى جمعيّات ومنظّمات، قد يضطلع بعضُها بدور فاعل[131].

وبنظرةٍ مستقبليّةٍ يمكن القولُ؛ إنّ المؤشِّرات المتاحة تتّجه إلى تبلوُر أشكالٍ أكثر استقراراً للمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، وقيام منظومةِ مؤسساتٍ رديفةٍ وهامّة لتعزيز تلك المشاركة، وذلك امتداداً للإرهاصاتِ الملموسة، كما تقدّم، وبناءً على استشعارٍ متزايد للحاجة إلى تفاعلٍ أكثر كفاءة وفعالية وتأثيراً مع الشأن السياسيّ، بموجب خبراتِ مسلمي أوروبا خلال السنوات الماضية وصدماتها في هذا الشأن.

الأزمات وثقافة الاعتراض السلمي:

تطرح الأزمات الداخليّة والخارجيّة تساؤلاً عن السبل المتاحة للتعبير عن المواقف إزاءها. وكثيراً ما يبدو التعبير الجماهيري، بالنزول إلى الشوارع للتظاهر، هو السبيل الأيسر في العادة للتعبير عن الموقف، كما أنه الخيار المتاح حتى لأولئك الذين “لا صَوْت لهم” في المستوى السياسي والساحة الإعلامية.

ومع التفاوت الملحوظ في جدوى التحركات الجماهيرية تلك في التأثير الفعلي على القرار السياسي، بحسب عوامل عدّة تحكم ذلك؛ فإنّ هذا لا ينفي الحاجة إلى تلك التحرّكات عبر الشارع، مع تقيُّدها بالقانون واتسامها بالحكمة والانضباط والتعبير الحسن عن المواقف.

فالتظاهر، وهو أحد صُوَر الاعتراض السلمي، على هذا النحو ليس مجرّد حقّ ديمقراطيّ، مكفول في المواثيق الحقوقية كافة؛ بل هو أيضاً أسلوب له جدواه من وجوه غير مُنتَظَرة منه للوهلة الأولى، ومنها تنمية ثقافة الاعتراض السلميّ والتعبير الواثق عن الذات.

فمن الأهمية بمكان أن تتبلور ثقافة الاعتراض السلمي لدى قطاعات مسلمي أوروبا، وهي ثقافة تنمو عبر مساحة حرية الرأي أساساً، وتستمدّ وقودَها من إرادة الجمهور وَوَعْيِه بالواقع وبالتحدِّيات التي ينطوي عليها.

ولعلّ موجة المظاهرات والمسيرات والاعتصامات التي أقيمت قبيل حرب احتلال العراق وأثناءها كانت هي الأكبر التي تعرفها أوروبا. ولكنها لم تأت من فراغ؛ فهي تتناسب مع نموّ آليات الحراك الشعبي وتزايد فعالية المنظمات غير الحكومية، وهي بدت آنذاك دلالة على دفقات وعي جديدة في الشارع الأوروبيّ، فضلاً عن أنّ إرهاصاتها كانت ماثلة في السنوات القليلة الماضية، من خلال التحركات المناهضة لسياسات العولمة الاقتصادية منذ مؤتمر سياتل وتوابعه، أو تلك المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال في ربيع سنة 2002.

ومن نافلة القول أنّ تنمية ثقافة الاعتراض السلمي، ينبغي أن تتماشى مع تعزيز المواطنة الصالحة للمسلم في أوروبا بشتى أبعادها. كما أنّ الاعتراض السلمي لا يُعنى به العمل المنعزل عن حركة المجتمع، وإنما التفاعل النشط معها في إطار هوية مسلمة متناغمة مع الواقع.

وفضلاً عن عدم استغناء أي مجتمع عنها؛ فإنّ إشاعة ثقافة الاعتراض السلمي يمكن أن تحقِّق جملة من المكتسبات المتّصلة بواقع الأقليات المسلمة في أوروبا، فهي تساهم في قطع الطريق على تبرعم مشاعر الكبت والدونيّة لدى الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا، ويعينها ذلك على التعبير عن مواقفها بثقة وصراحة. أما أحد الخيارات البديلة فيتمثل في تشجيع التطرّف وَخِيم العواقب.

ثمّ إنّ الاعتراض السلمي بأشكاله؛ يُبَلْور قضايا حيّة يجدر بالأقليات المسلمة أن تعيشها وتتفاعل معها، وهو ما يُعلي من مستوى شواغل هذه الأقلِّيّات، ويُطلق في الوقت ذاته طاقات أبنائها وبناتها نحو الفعل التعاوني المثمر. إنها مكتسبات منشودة قد لا تجد فرصتها في الوقت الذي تنهمك فيه كثير من المؤسسات الأوروبية المعبِّرة عن الحضور المسلم في الحصول على الاعتراف العام من المستوى الرسمي بها وبدورها. فهنا قد يُشتَبه بأنّ “روح الاعتراض” لا تنسجم مع مسعى الاعتراف، أو حتى مع النزعة الاعتذارية. وتبقى هذه معضلة ينبغي أن تحلّها هذه المؤسّسات ذاتها بمراجعة تصوّراتها في العمل العام والتحقّق من الفرضيّات التي تتحرّك بموجبها.

ويقتضي الاعتراض السلمي الناجع الانخراط في حركة المجتمع، وهو بالتالي شكل من أشكال الاندماج الإيجابيّ الفاعل، علاوة على كونه توثيقاً لعرى الصلة مع قطاعات المجتمع الأخرى، بما يقي الأقليات المسلمة مخاوف العزلة والانكفاء على الذات، وغالباً ما يشجع بناء الثقة المتبادلة مع الآخرين من شركاء الموقف الواحد.

ومن شأن الاعتراض السلمي أن يقطع الطريق على بدائل الاعتراض المنبوذة الأخرى (العنف الساخط)، التي تحذر بعض الأوساط المختصة من وجود قابليات لها بين صفوف المسلمين الناشئين في أوروبا، خاصة بعد اضطرابات الضواحي الفرنسية في خريف 2005. أي أنّ الاعتراض السلمي هو أحد أدوات امتصاص المبرِّرات المتوهّمة لهذه الأعمال المحذورة. بل يشرح الدكتور محمد الغمقي كيف “أثارت التفجيرات الأخيرة في لندن وقبلها في مدريد مخاوف بشأن بروز فئة من الشباب المسلم المقيم في الغرب، لا يجد للتعبير عن نقمته وعن غضبه لما يراه من ظلم سوى اللجوء إلى العنف القاتل والمدمّر”، محذراً من أنّ “هناك إشكالاً حقيقياً يجب معالجته بعمق”[132].

وبالمقابل؛ فإنّ الاعتراض السلميّ هو من بين وسائل “الالتحام بالجماهير”، كما أنه فرصة لصقل القيادات الجماهيرية، وتوثيق الصلة بين السياسيين والمواطنين.

هذا بشأن الاعتراض كآليّة؛ إلاّ أنّ توظيفها ينبغي أن يخضع لتقدير الدواعي والجدوى المرجوّة، ويتوجّب أن يصاحبه خطاب تواصلي غير منغلق، ولا يجنح إلى التطرّف أو التعصّب في إطاره العام وفي مفرداته. كما أنّ الانعزال في التحرّك الجماهيري، في نطاق المسلمين أنفسهم أو ضمن مجموعات هامشيّة؛ لا يرقى إلى الدور المنشود، علاوة على ما قد تستتبعه من تداعيات سلبية.


 

الفصل السادس:

مسلمو أوروبا الشرقيّة والمشاركة السياسيّة

 

 

  • المشاركة والتحوّل في النظم السياسيّة في أوروبا الشرقيّة ـ لمحة موجزة
  • خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية


 

المشاركة والتحوّل في النظم السياسيّة في أوروبا الشرقيّة ـ لمحة موجزة:

رغم الطابع الشمولي للنظم البائدة في شرقي القارة الأوروبية ووسطها؛ إلاّ أنّ شعارات المشاركة لم تكن غائبة، بل تصدّرت المشهد أحياناً بالنظر إلى حضورها في الأيديولوجية الاشتراكية، مع التفسيرات الاستثنائية لفكرة المشاركة ووضعها في السياق الذي يتماشى مع المذهب السياسي لنظم الحكم في تلك الدول. ولكنّ تطبيق الشعارات المرفوعة حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين كان له شأن آخر، مع القيود المشدّدة المفروضة على التعدّدية السياسية والحريات العامة والدينية.

إلاّ أنّ الأزمات الكبرى التي عرفتها بعض الدول الواقعة ضمن الكتلة الاشتراكية السابقة؛ قد استدعت آنذاك مراجعات أو إصلاحات، بغض النظر عن مدى جدّيتها أو شكليّتها. وكانت الإصلاحات التي اعتمدها الاتحاد السوفياتي في عهد الأمين العام للحزب الشيوعي ميخائيل غورباتشوف في النصف الثاني من الثمانينيات؛ هي التطوّر الحاسم في هذه الحالة، والتي أفضت إلى التغيير الشامل في وجهة تلك الدول، وذلك تحت شعاريْ “إعادة البناء” (بريسترويكا)، و”الشفافية” (غلاسنوست). وقبل ذلك بعقدين من الزمن؛ عرفت تشيكوسلوفاكيا توجّهاً إصلاحياً مؤقتاً في سنة 1968 تحت شعار “اشتراكية بمسحة إنسانية”، نادى بتوسيع هامش المشاركة والحريات في البلاد، قبل أن تطيح قوات حلف وارسو بالحركة الإصلاحية في آب (أغسطس) من تلك السنة، في اجتياح عسكري أسدل الستار على “ربيع براغ”.

وكمثال على المحاولات الرامية لاحتواء الأزمات الداخلية؛ أطلق النظام الشيوعي المجري في سنة 1957 سياسة “المشاركة”، التي سعت إلى إجراء إصلاحات اقتصادية وهيكلية، في أعقاب الإطاحة السوفياتية الدامية بالتجربة الإصلاحية في بودابست سنة 1956. وعلى سبيل المثال؛ فقد شملت تلك السياسة المجال الزراعيّ[133]، فمنحت هامشاً أوسع للمزراعين للمشاركة في صناعة القرار الخاص بقطاعهم وإدارته وساهم ذلك في إعادة هيكلة ذلك القطاع وتطويره وزيادة مؤشرات الربحية فيه.

مع ذلك؛ فإنّ “المشاركة” في إطارها المفهومي الذي وُضعت فيه آنذاك وكما جرت ممارستها في الدول الاشتراكية السابقة؛ تختلف اختلافاً بيِّناً عن ما عرفه الشطر الغربي من القارّة الأوروبية، وعن ما آلت إليه الأمور في تلك الدول الشرقية بعد التحوّل الذي شهدته في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

فقد أُعيد تشكيل الساحة السياسية في دول شرقيّ أوروبا، بمفعول عاملين اثنين متتابعين، أولهما انهيارُ نظم الحكم الشيوعي، وثانيهما إعادة تشكيل الخارطة السياسية في هذا الشطر من القارة، مع ما رافق ذلك من توتّرات وأزمات، بل وحروب طاحنة كان المسلمون هم أبرز ضحاياها بلا منازع. وقد نشأت دولٌ جديدةٌ من رحم هذه التحوّلات في غضون العقد الأخير من القرن العشرين.

فمع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين طرأت الانعطافةُ التاريخيّةُ في شرقيّ أوروبا، عبر وصول مسيرة التغيير فيها إلى مرحلة النضج المفاجئ. جاء ذلك بعد سلسلةٍ من الإرهاصات البطيئة، أبرزُها اجتياح السوفيات للعاصمة المجرية بودابست في سنة 1956 للإطاحة بالحكم الإصلاحي، وتقويض موسم الإصلاحات المؤقّت في تشيكوسلوفاكيا الذي عُرف باسم “ربيع براغ” في سنة 1968، وتحرّكات نقابة عمّال “تضامن” (Solidarność) البولنديّة منذ مطلع الثمانينيات، بينما تركت المبادراتُ الإصلاحيّةُ للأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف آثارَها الكبيرة، إلى أن انهار سور برلين.

إذ بدا من الواضح في ذلك الحين أنّ تلك الخطوات قد شكّلت مناخاً جديداً في أوروبا الشرقية، اكتسبت فيه شعوبُ الدول الاشتراكيّة جرأةً غير مسبوقة في انتقاد استبداد الأحزاب الشيوعيّة الحاكمة.

كانت الظروفُ الاقتصاديّة المتردِّية، وغياب الحريات، وترهّل الأوضاع بفارق ملحوظٍ عمّا عليه الحالُ على الجانب الآخر من “الستار الحديدي”؛ قد أفرز في مجموعه حالةً مثيرةً لحنق الجماهير، بينما كانت صورة الجيش السوفياتي المنسحب من أفغانستان عام 1988 قد تمرّغت في الأوحال، بعد الهزائم التي تعرّض لها.

وقد شهد العام 1989 تداعي الهياكل الحمراء الهشّة للسقوط تباعاً، وكانت بولندا هي البداية عندما التأَمت “محادثات المائدة المستديرة” بين الحكومة ونقابة “تضامن” في السادس من شباط (فبراير) من عام 1989، والتي أسفرت عن صعود ليخ فاليسا وفريقه المعارض.

لم تكن مفاجأةً أن تبعث تلك الخطوة بأصداء مدوِّيةٍ في كافة أرجاء “العالم الاشتراكي”، فسارعت بودابست وفي أقل من أسبوع إلى تأييد نظام تعدّد الأحزاب، وكان الحزبُ الشيوعي المجري بخطوته التاريخيّة تلك قد كسر حاجزاً كبيراً أدّى إلى ارتفاعِ أصواتِ القوى المنادية بالانفتاح وبالإصلاحات السياسيّة في شرقيّ أوروبا من جانب؛ وإلى تشدّد القوى المتصلِّّبة من جانب آخر. فالحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا أبدى تصلّباً كبيراً في تعاطيه مع الموقف، بل وشرع في محاكمة الأديب الشهير آنذاك فاتسلاف هافل، في العشرين من شباط (فبراير) 1989.

لقد انتهت اجتماعاتُ المائدة المستديرة في وارسو في السادس من نيسان (إبريل) 1989، لتمهِّد لانتخابات بولندية “حرّة” في أوائل حزيران (يونيو) من ذلك العام؛ انتصرت فيها المعارضة بشكل ساحق.

وفي إشارة ترمز للرغبة في خوض تحوّل تاريخيّ؛ قامت المجر في منتصف حزيران (يونيو) 1998 بإعادة دفن الزعيم الإصلاحي إمري ناغي بصورة تكريميّة. وكان ناغي قد تولّى رئاسة الوزراء في المجر بين عامي 1953 و 1955، واتبع نهجاً انفتاحياً خلال عهده، ثم تولّى رئاسة الوزراء مجدّداً في العام 1956 عقب الإطاحة بالقيادة الستالينيّة للحزب الشيوعي، وبعد أن طالب بانسحاب بلاده من حلف وارسو تدخّلت القوات السوفياتية وأطاحت بالحركة الإصلاحية، بينما جرى اقتياد ناغي إلى رومانيا، ثم أُعدم في وقت لاحق في المجر.

وفي نهاية حزيران (يونيو) 1989 تهاوى أحد رموزِ العهد الشيوعيّ، عندما قام المسؤولون المجريون والنمساويون بإزالة الأسلاك الحدودية الكثيفة التي عُرفت باسم “الستار الحديديّ” المقامة على الحدود بين البلدين، وسط اهتمام إعلاميّ كبير. وأُعلن في الشهر التالي في بودابست عن “انتخابات حرّة” ستشهدها البلاد في العام المقبل (1990).

ولم تكن ألمانيا الشرقيّة بعيدةً عما يجري. إذ كان الشارع الألماني الشرقيّ في تلك الأثناء على موعدٍ مع الخروج من صمته. فابتداءً من آب (أغسطس) من العام ذاته؛ شرعت جماهير غفيرة من مواطني “جمهورية ألمانيا الديمقراطية” بالهجرة الجماعيّة إلى الغرب، عبر المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، مستفيدين من تخفيف القيود على السفر في المجر عقب سقوط “الستار الحديدي”. وجاءت زيارة ميخائيل غورباتشوف إلى برلين الشرقية في تشرين الأول (أكتوبر) 1989 على ضوء تلك التطوّرات، لتُفضي إلى استقالة الرئيس الألماني الشرقي هونيكر من منصبه في الثامن عشر من الشهر ذاته، فجاء خليفتُه كرينتز ليَعِد بعهدٍ من التحوّل في البلاد.

ولم تَمْض سوى أيامٍ معدودات؛ حتى تهاوى جدارُ برلين، وقد مهّدت تلك الخطوة التاريخيّة لوحدة البلاد في العام التالي، بعد أن أعطى الاتحاد السوفياتي الضوءَ الأخضر لذلك.

وسرعان ما جاءت استقالةُ شيفكوف بوصفه رئيساً للدولة وللحزب الشيوعي البلغاري في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، ومهّدت تلك الخطوة لانعقاد “مؤتمر الطاولة المستديرة” في صوفيا أواخر العام نفسه، والذي حسم مستقبلَ البلاد باتجاه “الديمقراطيّة”. ثم تسارعت وتيرةُ الأحداث في العواصم الأخرى التي لم تحسم أمرَها، إذ اندلعت “الثورة المخمليّة” (أو الناعمة) في تشيكوسلوفاكيا في السابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، والتي أفضت في الأيام الأخيرة من ذلك العام إلى صعود المعارض فاتسلاف هافل إلى دفّة الرئاسة في براغ، ليكتمل مسار التحوّل في تلك الفيدرالية.

أما في رومانيا؛ فلم يستغرق التغييرُ أكثرَ من أسبوع، لكنه جاء دامياً وعنيفاً. فقد جرى ذلك عندما اندلعت في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1989 اضطراباتٌ ضاريةٌ انتهت بإعدام الرئيس المستبدّ نيقولاي تشاوشيسكو وزوجه أمام وسائل الإعلام بعد أسبوع واحد.

وهكذا انقضى العام 1989 ليجعل مستقبل ما تبقى من “العواصم الحمراء” في مهب الريح، إذ لم يقتصر التغييرُ في العامين اللاحقين على تفتّت الكتلة الشرقية؛ بل وانهارت النظم الشيوعية بالكامل من أوروبا، وتفتّتت جمهورياتُ الاتحاد السوفياتي العملاق، وانتهت الحرب الباردة رسمياً.

ومع هذا الانهيار؛ صعدت القوميات إلى واجهة المشهد السياسي، واحتدمت الصراعاتُ، وتفتّتت بعض الدول بشكل حربي أو عنيف (مثل يوغسلافيا) أو بصفة سلميّة وتعاقدية (مثل تشيكوسلوفاكيا). وبينما انعتقت ألبانيا، وهي الدولة الأوروبيّة الوحيدةُ ذات الأغلبيّة المسلمة حتى ذلك الحين، من العهد الشيوعي؛ فإنّ نشوءَ جمهورية البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة أيضاً جاء إيذاناً بحرب استصاليّة ضارية (1992 ـ 1995) أضعفت فُرَصَ هذه الدولة الناشئة وفرضت نموذجاً استثنائياً للحكم فيها (شطر محكوم بالشراكة بين البوسنيِّين المسلمين والكروات، وشطر مخصّص لجمهورية صرب البوسنة ويقوم على الأراضي التي احتلتها القوات الصربية في الحرب). كما أنّ إقليم كوسوفا بأغلبيته الألبانية المسلمة، شهد في سنة 1999 حرباً بين قوات حلف شمال الأطلسي “ناتو” والقوات اليوغسلافية التي أُرغِمت على الخروج منه. وما زال الكيان الكوسوفي مفتَقِراً إلى الشخصيّة القانونيّة المستقلةّ، منذ ذلك الحين.

ومع ذلك؛ فإنّ التحوّل السياسيّ في دول شرقيّ أوروبا، قد أتاح فرصةً لتجديد الحضور المسلم في هذه البلدان، سواء تلك التي تتركّز فيها أقلِّيّات مسلمةٌ كبيرةٌ، مثل رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا، أو لغيرها من الدول، مثل بولندا وتشيكيا وسلوفاكيا والمجر وما عداها من الدول التي التحق معظمُها بالاتحاد الأوروبي، والتي أخذ الوجودُ المسلم الحديثُ والمحدودُ في حجمه يتشكّل فيها أساساً من خلال حضورِ المهاجرين والمقيمين بصفة مؤقّتة كالطلبة، علاوة على الأعداد المتزايدة من معتنقي الدين الإسلامي من المواطنين الأصليين.

ويجِدُ الحضورُ المسلم في دول شرقيّ أوروبا، ذاتَه جزءاً من بيئةٍ أُعيد تشكيلُ الثقافة السياسيّة فيها بصفةٍ جذريّة، بل ما زالت بعض أشواطِ عمليّة إعادة التشكّل مستمرةً في مسارات عدّة، سياسيّاً ومجتمعيّاً.

خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية:

تكتسب المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في العديد من بلدان شرقيّ أوروبا ملامحَ ودلالاتٍ وأبعاداً متباينةً بوضوح عن واقع تلك المشاركة وملابساتها في غربيّ القارة ووسطها. كما أنّ التبايُنات تبدو ماثلةً بين بلدٍ أوروبيّ شرقيّ وآخر، في ما يتعلق بالمشاركة السياسية للمسلمين.

ويعود السبب في هذا التباين في واقع المشاركة السياسية للمسلمين بين شرقيّ القارة وغربيِّها؛ إلى العوامل التالية أساساً:

1/ تركُّز الوجود المسلم التاريخيّ، من السكان الأصليِّين، في بلدان شرقي أوروبا، وخاصة في البلقان، وهو ما يجعل المشاركةَ السياسيّة تتعلّقُ بمواطنين ضربت جذورُهم في أعماق البيئة التي يعيشون بين أكنافها.

2/ التحوّل الذي طرأَ على بلدان شرقيّ القارّة الأوروبيّة، في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وهو ما ترتّب عليه إعادة تشكيل الساحتين السياسية والمجتمعية، وإعادة إنتاج الثقافةِ السياسيّة، لكل بلد من هذه البلدان المتحوِّلة عن العهد الشيوعي، بما في ذلك إعادة تعريف عملية المشاركة السياسيّة ذاتها. وقد نشأت في أعقاب ذلك التحوّل أحزابٌ سياسية جديدة، وشهدت الساحة السياسيّة اصطفافات عدّة، وما زالت على نحو عام أقلّ ثباتاً مما عليه الحال في غربيّ القارة الأوروبيّة. وتلحق بتلك التحوّلات مساعي عواصم شرقي أوروبا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما أفلَحت فيه عدد من دولها[134] في ما أنّ دولاً أخرى ما زالت بانتظار دورِها في العضويّة.

3/ المسلمون في بلدان شرقيّ أوروبا، يشكِّلون الأغلبيّةَ السكانيّة أو نسبةً سكانيّة كبيرة في بعض تلك البلدان أو ضمن أقاليم بعينها فيها، في ما أنهم يمثِّلون أقليّات ذات نسبة لا يمكن تجاهلها في بلدان أو أقاليم أخرى ضمن الفضاء الأوروبي الشرقيّ. ويعني ذلك أنّ المشاركةَ السياسيّة للمسلمين، لها، من هذا الوجه، من الأهمِّيّة والوزن والخصوصيّة ما لا يتوفّر لنظيرتها بالنسبة لمسلمي أوروبا الغربية.

4/ إنّ عدداً من بلدان شرقيّ أوروبا شهدت حروباً طاحنةً وصراعاتٍ داميةً ذات صلة ما بالوجود المسلم فيها، في ما أنّ بلداناً أخرى قد عرفت حالاتٍ من الاضطهاد والاستهداف والتضييق بحق ذلك الوجود بشكل أو بآخر. وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ الوجود المسلم في شرقيّ أوروبا لم يتعافَ في كثيرٍ من بلدان تلك المنطقة من الأزمات والتوتّرات المتعلِّقة به بشكل مباشر أو غير مباشر. أي أنّ الساحة السياسيّة ما زالت في عديد بلدان شرقي أوروبا؛ محفوفةً بأماراتِ الاضطراب وملابساتِ إعادة التشكّل وهي إجمالاً أقلّ استقراراً عما عليه الحال في غربيّ القارّة الأوروبيّة، وهو ما يبرهنُ عليه وجودُ قوّاتٍ أجنبيّة ﻟ “حفظ السلام”، وهيئات مختصة بمراقبة الأوضاع وتكييفها مثل الأجهزة المنبثقة عن “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” (OSCE).

5/ إنّ المسلمين في عديد هذه البلدان يختلفون في طبيعتهم عن مسلمي أوروبا الغربية، في واقع التجانس النسبيّ الذي يطبعُ حضورَهم في كلّ بلدٍ أو إقليم أوروبيّ شرقيّ على حدة، بالمقارنة مع واقع التنوّع الملحوظ في ما يتعلّق بمسلمي غربي أوروبا. وتبعاً لذلك؛ فإنّ تعريف المسلمين لا يجري في هذه البلدان أو الأقاليم بناءً على دينِهم بالضرورة، بل ربما على أساس المجموعة القوميّة أو العرقيّة أو اللغويّة التي ينتمون إليها، مثل ما يجري في حالة الألبان في إقليم كوسوفا، أو حالة من يُصَنَّفون على أنهم “أتراك” في تراقيا الغربية (اليونان)، وكذلك في بلغاريا، أو حتى رومانيا، ومثل حالة الأقلية التترية في أوكرانيا ولتوانيا وبولندا. بل إنّ تصنيف “المسلمين” في البوسنة والهرسك يُورَدُ للدلالة على مجموعة دينيّة وعلى القومية البوسنية المسلمة (البوشناق) على حدٍّ سواء. ويترتّب على هذه التصنيفات اكتساب المشاركة والحضور من جانب المسلمين في الساحة السياسيّة طابعاً قومياً أو إثنياً قد يبرز أو يضمحلّ بحسب خصوصيّات كل حالة.

6/ إنّ الوجودَ المسلمَ في بلدان شرقيّ أوروبا لديه من بعض المقدِّرات والمقوّمات ما لا يتوافرُ لنظيره في غربيّ القارة الأوروبيّة بالصورة المماثلة في الغالب، من قبيل الهيئاتِ الدينيّة الرسمية (كالمشيَخات ودور الفتوى ورئاسة العلماء وما في حكمها)، والأعيان والمنشآت الوقفية (وإن كانت مُصادَرةً أو مسلوبةً أو مطموسةً في معظمها)، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة والمطبوعة والإلكترونيّة، وغير ذلك من المقدِّرات، وهو ما من شأنه أن ينعكس على فرص المشاركتين المجتمعيّة والسياسيّة للمسلمين بتأثيرات شتى.

7/ إنّ المسلمين في شرقيّ أوروبا قد عمَدوا إلى إنشاءِ أحزابٍ سياسية معبِّرة عنهم، أو شاركوا في تأسيس أحزابٍ “مختلطة” تجمعهم وقطاعاتٍ أخرى من الساحة السياسيّة، وقد شارك بعضُ هذه الأحزاب في الحكم بالفعل. وتبقى هذه خصوصيّة لتجارب المشاركة السياسية لمسلمي شرقيّ أوروبا بالمقارنة مع مسلمي غربيّ القارة ووسطها. أي أنّ مسألة تمثيلِ المسلمين في الساحة السياسية قد قطعت بعض الأشواط، وعلى نحو يفترق عن ظروف تمثيل المسلمين سياسياً في غربي القارة. فمثلاً؛ يحاول قطاع من مسلمي بلغاريا تنظيم قواهم السياسية ضمن حزب “حركة الحقّ والحرية”، الذي أحرز في الانتخابات العامة التي أجريت في 17 حزيران (يونيو) 2001 تقدّماً بحصوله على ما نسبته 6.75 في المائة من أصوات الناخبين، ليتربّع على 21 مقعداً من مقاعد البرلمان البلغاري (من أصل 240 مقعداً)، وشارك بموجب ذلك في الائتلاف الحكوميّ. وعلاوة على ذلك؛ فإنّ مهام تمثيل المسلمين تضطلع بها أيضاً القيادات الدينيّة الرسميّة، كالمشيخات ودور الإفتاء ورئاسات العلماء. فعلى سبيل المثال؛ فإنّ دار الإفتاء لمسلمي رومانيا، التي يرأسها المفتي، تُعَدّ الجهة الممثِّلَةَ للمسلمين في البلاد، وهي تضمّ مجلساً للشورى ومجلساً إدارياً، ويتم انتخاب المفتي بالاقتراع السري من مجلس الشورى. وحينما يتم انتخاب المفتي يُسجّل في وزارة الأديان الرومانيّة بصفته ممثلاً للطائفة المسلمة في رومانيا، وتقوم وزارة الأديان بانتداب مراقبين لها أثناء عملية انتخاب منصب المفتي، وبعد ذلك يتمّ اعتماد المفتي من قبل رئيس الجمهورية الرومانيّة. وبموجب موقعه؛ يحمل مفتي المسلمين في رومانيا جواز سفر دبلوماسياً، كما أنه يُعتَبر الناطق والممثل الرسميّ للمسلمين في بلاده[135].

ومع ذلك؛ فإنّ توفّر الأطر المعبِّرة عن مشاركة المسلمين في الشأن العام ليس كفيلاً بنشوء مشاركة سياسية متماسكة لمسلمي البلد الواحد، وهو ما يمكن استنتاجه مثلاً من الحالة الأوكرانية. ففي ظل الأزمة السياسية التي شهدتها أوكرانيا بين تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 وكانون الثاني (يناير) 2005 التي رافقت الانتخابات الرئاسية فيها الهبّة الجماهيرية التي اشتُهرت باسم “الثورة البرتقالية”؛ خيّم الانقسام على مسلمي أوكرانيا بحسب توزعهم المناطقي والأطر المعبِّرة عنهم. وبدا من الصعب إبان تلك الأزمة التي شهدتها أوكرانيا الحديث عن جالية أو أقلية مسلمة موحّدة تحمل برنامجا مشتركاً على المستوى الديني والثقافي والاجتماعي فضلاً عن المستوى السياسي، حسب ما يرد في تقرير تحليلي صادر عن اتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا “الرائد”، وهو من أبرز التجمعات المؤسسية للمسلمين. ويحدِّد التقرير أسباب ذلك في “غياب الإطار السياسي الموحّد أو المظلّة المشتركة بل حتى غياب الرؤية السياسية المتقاربة لدى المسلمين، وقد انعكس ذلك في المواقف التي تبنّتها أكبر قوتين سياسيتين تمثلان شريحة كبيرة من مسلمي أوكرانيا، وهما مجلس تتار القرم وحزب مسلمي أوكرانيا، حيث تبنّى المجلس دعم مرشح المعارضة فيكتور يوشينكو لتحقيق مصالح قومية وسياسية، في حين أعلن حزب مسلمي أوكرانيا عن دعمه لمرشح الحكومة فيكتور يانوكوفيتش، وقد يرجع ذلك إلى التوزيع الجغرافي وتبادل المصالح حيث التواجد الأكبر للحزب في منطقة الدنباس التي تساند مرشح الحكومة فيكتور يانوكوفيتش. وقد أدى ذلك إلى غياب الصوت الإسلامي الموحد، حيث انقسمت أصوات المسلمين (في أوكرانيا) بين المرشحين بشكل متساوٍ تقريباً، أما على مستوى المسلمين كأفراد؛ فبغياب المظلة السياسية التي تدعو إلى توجيه الأصوات فقد تفرقوا في أصواتهم على المرشحين كل حسب الرؤية السياسية الشخصية لديه”[136].

8/ إنّ فكرة المشاركة السياسيّة للمسلمين، على النحو المطروح في واقع الوجودِ المسلم في أوروبا الغربيّة والوسطى؛ لا تبدو متوافقةً إلى حدٍّ كبير مع ما عليه الحال في عدد من الدول أو الأقاليم في شرقي أوروبا ذات الأغلبية المسلمة، كون مساحة التنافس السياسيّ الواسعة تقع ضمن نطاق الوجود المسلم ذاته أحياناً. أي من الصعب تحديد أطراف بعينها تعبِّر عن المشاركة السياسية للمسلمين في عددٍ من بلدان شرقيّ أوروبا، بالنظر إلى التعدّد، الكبير غالباً، في ساحة المسلمين أنفسهم، وبالقدر الذي قد يوحي بالتشرذم السياسيّ أحياناً. فمثلاً في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البوسنة والهرسك في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2002، خاض متنافسون عن سبعة أحزاب أساسيّة عن “القوميّة” البوسنيّة المسلمة (البوشناق)، هذه الانتخابات، بخلاف المرشّحين عن القوميّة الكرواتيّة بالبوسنة وعن صرب البوسنة. والمرشّحون للرئاسة عن البوشناق هم كلّ من سليميان تيهيتش عن “حزب العمل الديمقراطي” (Stranka Demokratske Akcije)، وحاز على 37.3 في المائة من الأصوات، وحارث سيلايجيتش عن “الحزب للبوسنة والهرسك” (Stranka za Bosnu i Hercegovinu)، وحاز على 35.8 في المائة، وعلي (عليّا) بيهيم عن “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”(Socijaldemokratska partija Bosne i Hercegovine)، وحصل على 17.5 في المائة، وفكرت عبديتش عن “جماعة الشعب الديمقراطي” (Demokratska Narodna Zajednica) وهو من جيب بيهاتش المعزول نسبياً، وأحرز 4.1 في المائة، وفاروق باليّاجيتش عن “الحزب البوسني” (Bosanska stranka)، والذي لم يحصل على أكثر من 1.9 في المائة، بينما حصل أمير زلاتار عن “الحزب البوسني الهرسكي الوطني” على 1.3 في المائة، وأما راديم كاديتش عن “الحزب الديمقراطي الليبرالي” فحصل على 1 في المائة فقط من الأصوات.

9/ إنّ بلدانَ شرقيّ أوروبا، ومنذ التحوّل عن الشيوعيّة، بقيت مسكونةً بآمال اللحاق بأوروبا[137]. ولا شكّ أنّ نزعةَ التوجّه غرباً تترك انعكاساتها على المشهد السياسيّ العام وبعض تفاصيله، وعلى الأولويات المطروحة على جدول الأعمال السياسيّ. وفي المحصلة؛ يمكن العثور على حالة انشدادٍ لدى عديد الأطراف السياسيّة في هذه البلدان للغرب، سواء الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، وقد بقي هذان القطبان قادِرَيْن على التأثير في التوازنات السياسيّة الداخلية في بلدان شرقي أوروبا بصفة نافذة.

كما لوحظ هذا التأثير في ما يتعلّق بالأطراف المعبِّرة سياسيّاً عن المسلمين، من قبيل التوجّه الغربي الملموس بعد نهاية حرب البوسنة والهرسك، لتهميش دور “حزب العمل الديمقراطي” (SDA)، ومعه دور الرئيس البوسني السابق ورئيس الحزب علي عزت بيغوفيتش، رغم أنّ هذا الحزب قد اعتُبر المعبِّر عن مسلمي البوسنة والهرسك، وجاء هذا التأثير لصالح إبراز قوّةٍ أو قوى سياسيّة بوسنيّة أو متعدِّدة الاثنيّات تحظى بالقبول الغربي (أوروبا والولايات المتحدة).

وفي حالة بلد أوروبي يمثِّل المسلمون الأغلبيّة السكانيّة فيه، مثل ألبانيا؛ كان واضحاً منذ التحوّل عن الشيوعية أنّ الأوروبيِّين، ومعهم الولايات المتحدة، ظلّوا لاعِباً واسع النفوذ في توازناتِه السياسية الداخلية، وهو ما كان يجعلُ الأعلامَ الأمريكية مثلاً ترتفع في مظاهرات الأطراف السياسية المتنافسة في هذا البلد إبان أزماته السياسيّة الحادّة التي شهدها في أواخر التسعينيات. بل ينسب الصحافي نيلز أندرسون (Nils Andersson) إلى رمزي لاني، مدير مؤسّسة وسائل الاعلام في ألبانيا، قوله، رداً على السؤال عمّن سيكون رئيس ألبانيا؛ “اذهبوا واسألوا في السفارة الأمريكيّة، هذا إذا لم يلفت إلى الخيوط التي تمسك بها السيدة دوريس باك، صاحبة الكلمة في البرلمان الأوروبي للشؤون البلقانية، أو اليد الخفية للسيد رومانو برودي (رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك) أو أيضاً إلى إيطاليا أو اليونان (المجاورتين لألبانيا)”[138].

ولكنّ الانشداد للغرب لا يفسِّر وحده ذلك النفوذ الأوروبي والأمريكي في بعض هذه البلدان؛ بل هناك أيضاً التأثير الاقتصاديّ الكبير للبلدان الغربية، كأطراف مانحةٍ[139] ومستثمرة، وكقوى مؤثِّرة على مجمل السياسة الإقليميّة، وأيضاً كطرفٍ يُنشَدُ تجاوُبُه مع آمال اللحاق بالغرب سواء الأسرة الأوروبيّة الموحدة أو المنظومة الدفاعيّة الأطلسية المتمثِّلة بحلف “ناتو”، في ما أنّ الوجودَ العسكريّ الغربيّ المباشر في بعض دول البلقان يبقى تجسيداً لهذا النفوذ الكبير.

ولا شكّ أنّ تأثير النفوذ الغربيّ في بلدان شرقيّ أوروبا يمتدّ أيضاً إلى ميدان “الإصلاحات” التي يجري اعتمادُها في بعض هذه البلدان، إذ تشكو بعض الأصوات من أنّ هذه الإصلاحات لا تراعي بعض جوانب الخصوصيّة التي تنطوي عليها البيئات المعنيّة. ففي الحالة الألبانية؛ يقول الصحافي الألباني مصطفى نانو “إذا أردنا تحقيقَ تقدّم في فكرة الديموقراطية يجب تجاوز النموذج المفروض (من الخارج الغربي) الذي لا يتلاءَم لا مع البنى المجتمعيّة ولا مع حالتها النفسيّة. وقد فرض صانعو السياسة الالبان والغربيّون دستوراً، لكنه وُضع ليوافق الذهنيّات وأنماط التفكير الأجنبيّة. كما أنّ القانون الانتخابي هو أيضاً قانونٌ مفروضٌ لا يأخذ في الاعتبار الواقعَ السياسيّ الألبانيّ”، على حدِّ تقديره[140].

10/ إنّ التحوّلات المتسارعة في بلدانِ شرقيّ أوروبا، وما واكبَها من اختلالاتٍ عدّة واضمحلالٍ لحضور سلطة القانون في بعض الأقاليم أحياناً، علاوة على تأثير الاضطراباتِ والنزاعاتِ والحروب، والأزمات المحمولة من إرث العهود البائدة؛ كل ذلك أوجدَ بيئةً ملائمةً لتفاقم معضلات الفساد الإداريّ والجريمة المنظّمة وقوى “المافيا”، وهي معضلاتٌ ألقت بظلالها على الطبقة السياسيّة في بعض بلدان شرقيّ أوروبا. ومن الواضح بالتالي أنّ المشاركةَ السياسيّة في هذه البلدان لا تجري، على خلفيّة هذا البُعد أيضاً؛ ضمن الأجواء ذاتها التي تكتنفُ المشاركةَ في بلدانِ غربيّ القارّة.


 

الفصل السّابع:

إشكاليّة المفاضلة بين المواقف السياسيّة
عبر المجالات المختلفة

السياسات الداخلية والخارجية ـ مثالاً

 

 

  • مسلمو أوروبا وخلفيات الاهتمام بالسياسات الخارجية
  • مسلمو أوروبا ونموّ الاهتمام بشؤون السياسة الداخلية
  • حضور هامشي للسياسة الخارجية في الساحة الجماهيرية الأوروبيّة
  • ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للتفاعل السياسي لمسلمي أوروبا؟
  • مسلمو الغرب واضمحلال فرضية “القرب من مراكز صنع القرار العالمي”
  • عن التوازنات الداخليّة بشأن “القضايا الإسلامية” في السياسات الخارجية الأوروبية
  • مسلمو أوروبا .. وخيارات الدور الوسيط في العلاقة الأوروبية مع العالم الإسلامي
  • مسلمو أوروبا والتفاعل مع السياسات الخارجيّة .. نحو مشاركةٍ أكثر عمقاً
  • مراعاة الأولويات وإدراك التباينات في البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها


 

تتمثل إحدى الصعوبات الجوهرية في العمل السياسي لمسلمي أوروبا في افتقار عددٍ من قطاعات المسلمين لإدراكِ خارطة الواقع السياسيّ وعمقِه في الساحة الأوروبيّة، وهم ليسوا استثناء في ذلك عن مجتمعاتهم الأوروبيّة. إذ لا يمكن أن تحوزَ سياساتُ حزب بعيْنه أو حكومة ما، على مؤشِّرات إيجابيّة وبالمستوى ذاته في كافة المجالات. إنّ تقويم مدى توافق حزبٍ سياسيّ ما، مع ميول الناخبين المسلمين المفضّلة، أو مع مقاصد المشاركة السياسيّة للمسلمين في البلد المعنيّ؛ إنما يُفترَض أن يخضع لملاحظة رؤى الحزب وبرنامجه ومواقفه من مجالات أساسية:

– خلفيات الحزب ومنطلقاته وخطه العام وخطابه.

– مجالات السياسة الداخلية العامّة، كسياسات الصحة والتعليم واحتياجات الشباب وملف الرعاية الاجتماعية وغيرها.

– مجالات السياسة الداخلية المتعلقة بالمسلمين، وبصفة أعمّ ما يخصّ الأقليات والمتحدرين من خلفية هجرة ومن يُوصَفون بالأجانب، كملف الميز والتفرقة وحقوق الأقليات وقوانين الإقامة وغيرها.

– ما يتعلق بمجالات السياسة الخارجيّة.

والواقع أنّ الانطباعاتِ المشتّتة عن سياساتِ بعض الحكومات أو الأحزاب، قد تسبّبت في إرباكات عدة في صفوف مسلمي البلدان الأوروبية في عددٍ من الحالات لجهة اتخاذ الموقف الأنسب منها. ويبرز ضمن عوامل الإرباك[141] ما يتعلّق بالسياسات الخارجيّة التي تتّخذ طابعاً مستقلاً إلى حدٍّ ما عن مسارات السياسة الداخليّة، علاوة على أنّ الشأن السياسي الخارجي لا يتبوّأ مكانة ملحوظة في معظم الجولات الانتخابية في البلدان الأوروبية.

وعادة ما يواجِهُ الناخبون المسلمون بعضَ المصاعب في عددٍ من الدول الأوروبيّة، لجهة المفاضلة بين الخيارات السياسيّة، والانتخابيّة منها على نحو خاصّ، على خلفيّة ما يبدو أحياناً أنه تفاوتٌ كبيرٌ في تقييم الأحزاب من جانب سياساتها الداخلية والخارجية، وهو تفاوتٌ يأخذ طابع التناقض أحياناً.

ولا يمكن للتعامل مع المواقف السياسية وتقويمها وإصدار أحكام عليها؛ أن يخضع لمعايير أحادية أو سطحيّة. وما يفاقم من الصعوبة التي يستلزمها الأمر؛ أنّ بعض السياسيين، كما يبدو في الساحة الأوروبية ذاتها، قادرون على اتخاذ المواقف المشبعة بروح التناقض دون أن يرفّ لهم رمش. فمثلاً؛ من قد يمتلئ إعجاباً بالمواقف الأدبيّة والأخلاقية الملتزمة التي انطبعت بها السيرة السياسيّة للرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافل (Vaclav Havel)، كمنافح عن قيم الحرية والديمقراطية والخلاص من الهيمنة؛ قد تنتابه الصدمة عندما يدرك أنّ هافل ذاته قد اختتم سيرته السياسيّة رئيساً للجمهورية التشيكية بتأييد جارف لشنّ حرب غير مشروعة على العراق واحتلاله، بل وذيّل “وثيقة الثمانية” (الصادرة عن زعماء ثمانية دول أوروبية) المؤيِّدة للحرب بتوقيعه، إيذاناً بمشاركة قوات بلاده في الهجوم على العراق واحتلاله، متنكراً في ذلك للقيم التي دافع عنها كاتباً مسرحياً ومتحدِّثاً في تيار الخلاص من الهيمنة على إرادة شعبه إبان العهد الشيوعي البائد. إنّ مواقف كهذه، وهي ليست بالنادرة؛ تضع أعباء ثقيلة على أولئك الراغبين في إصدار حكم تقويميّ على أداء طرف سياسيّ ما ومواقفه متجاهلين الطابع المعقّد والمتلوِّن للساحة السياسيّة وللفاعلين فيها، فضلاً عن نزعة التناقض بين صناعة السياسة الداخليّة ونظيرتها الخارجيّة.

مسلمو أوروبا وخلفيات الاهتمام بالسياسات الخارجية:

ثمة خصوصيّات تعزِّز الافتراضَ والملاحظاتِ بأنّ مسلمي أوروبا هم أكثر اهتماماً بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة؛ بالمقارنة مع منسوب الاهتمام العام بتلك السياسات السائد في مجتمعات القارّة.

فأولاً؛ إنّ المسلمين، وخاصة من يتّصفون بخلفيّة الهجرة منهم، عادة ما يكونون مشدودين إلى القضايا الكبرى والأزمات المزمنة أو الطارئة التي ينضح بها العالم الإسلامي. ومن شأن هذا الانشداد أن يجعلهم أكثر اهتماماً بالشأن السياسيّ الخارجيّ لدولهم الأوروبيّة، وعلى نحوٍ أبرز ما يتعلّق بالقضايا موضع اهتمامهم. ولا يخفى أنّ ما قد يزيد أحياناً من وتيرة هذا الانشداد؛ تلك الحالة من التعويل على دور الوجود المسلم في أوروبا، أو بعض قطاعاته، في التأثير على السياسات الخارجيّة للدول الأوروبية في ملفّات بعينها، وهي الحالة التي يمكن العثور عليها في صور وأشكال عدّة. فكما خاطب[142] الرئيس الباكستانيّ الراحل محمد ضياء الحق الباكستانيِّين في أوروبا بقوله “إنكم رمز لباكستان في الخارج، وباكستان هي رمز لهويتكم”؛ فإنّ بعض الدول الإسلاميّة تعوِّل على إسناد “رعاياها في الخارج” لها في بعض القضايا والشؤون المتعلقة بالسياسات الخارجية للدول الأوروبية التي يقيمون بها.

وما قد يلفت الانتباه في هذا السياق؛ أنّ نظرة كثير من حكومات الدول الإسلامية إلى من هاجروا منها إلى أوروبا؛ بقيت مرتهنةً لفكرة “الاغتراب”، وكأنّ هؤلاء مجرّد “رعايا مغتربين”، ويجري تقديمهم في الخطاب الرسمي على أنهم “سفراء” في الخارج و”سند للتنمية” في الداخل. ومن الشواهد على ذلك؛ ما جاء في تقرير صادر في العام 2005 عن مركز جامعة الدول العربية بتونس، حول “الهجرة المغاربيّة في أوروبا”. فقد تمّ التعبير عن هذا المفهوم كمنطلق للتعامل مع “المغتربين”، كما في الحالة التونسية مثلاً التي لا تمثِّل استثناءً في هذا الصدد، “ففي إطار اهتمام الدولة بمغتربيها في الخارج بدأت بتنفيذ برنامج رئاسي لتونس الغد مدّته من 2004 إلى 2009 بعنوان: التونسيون بالخارج ـ تواصل حضاري وسند للتنمية”، وفق ما ورد فيه. وينقل التقرير إفادة لوزير الشؤون الخارجية التونسي عبد الباقي الهرماسي، أعاد فيها إلى الأذهان أنّ “الفقرة 18 من البرنامج الانتخابي للرئيس زين العابدين يقرّ: أهمِّيّة تعزيز جسور التواصل مع التونسيِّين بالخارج حتى يكونوا سنداً للتنمية الوطنية”[143].

وعلاوة على ما سبق؛ فقد بات من المألوف أن تصدر مناشداتٌ عن بعض الشعوب أو الأقليات المسلمة المنكوبة أو الواقعة تحت الاحتلال أو الاضطهاد، تحثّ مسلمي العالم أجمع على مساندتها والوقوف إلى جانب شواغلها.

وثانياً؛ إنّ أوروباً، دولاً منفردة، أو كياناً وحدوياً؛ لها من الوزن والتأثير على السياسة الدولية؛ ما لا يمكن من الناحية الإجمالية أن تتخطّاه عملياً سوى قوة واحدة هي الولايات المتحدة، التي تجمعها كذلك علاقة تحالف أو شراكة أو تعاون مع الأطراف الأوروبية في مجالات شتى. ويبدو هذا العاملُ مثيراً لاهتمام المسلمين أيضاً، خاصة وأنّ أوروبا تكتسب وزناً وتأثيراً لا يُضاهَى في قضايا وملفات بعينها. ومن المتوقع بالتالي أن يدرِكَ مسلمو أوروبا أنّ التعاطي مع هذا الدور والتأثير لا يفتقر إلى الأهمية، وقد تضعه بعض أوساط مسلمي أوروبا في مصافّ الأولويات وربما في مقدِّمتها أحياناً. فأوروبا تبدو طرفاً ذا تأثير في القضايا الهامّة في العالم الإسلامي، وهو ما يجعل مسلمي أوروبا يسعون إلى ضمان أن يكون التأثيرُ في الاتجاهات المرغوبة بالنسبة إليهم. فقضيّة فلسطين، مثلاً، نشأت في الأساس بمفعول دورٍ أوروبيّ مباشر، في ما أنّ القضية العراقية بدءاً من سنة 2003 متّصلةٌ بدور أوروبي جزئيّ، وأنّ قضايا التنمية والديون في البلدان الأفريقيّة المسلمة كثيراً ما تخضع لسياسات الدول الأوروبيّة في هذا الملف، ومثل ذلك يُقالُ بشأن الأدوار الأوروبية في قضايا عدّة. ولا شكّ أنّ التجارب الاستعماريّة الأوروبيّة في العالم الإسلامي؛ مكّنت أوروبا من الاضطلاع بأدوارٍ نافذةٍ بالفعل، تضعها بالتالي أمام مسؤوليّات شتى، وهو ما يتبيّن مثلاً في المشكلات الحدوديّة في العالم الإسلامي الناشئة عن تقسيمات العهد الاستعماري التعسفيّة، وفي ما يتعلّق بقضيّة هامة مثل كشمير، التي مثّلت تقليدياً شاغلاً هاماً لمسلمي بريطانيا من الخلفيّة جنوب الآسيويّة لعقود طويلة وانعكست على مجالات اهتماماتهم في ما يخص السياسة الخارجيّة البريطانيّة.

وبينما يصعب تحديدُ محطّاتٍ مبكِّرة لتعاطي الوجود المسلم في عديد الدول الأوروبية مع السياسات الداخلية؛ فإنّ المرء يستطيع أن يتتبع بيسر كيف تحرّك هذا الوجود في مراحل مبكرة نسبيّاً لمحاولة التأثير على السياسات الخارجية لهذه الدول، ضمن محطّات متقطعة، عندما شعر أنه ليس بوسعه الاكتفاء بالصمت ومراقبة تطوّرات رآها مُقْلِقَة. وارتبط ذلك في بواكيره بدور المثقفين المهاجرين والمنفيِّين السياسيِّين في بعض دول أوروبا. فهكذا أخذ عبد الله يوسف علي، صاحب الترجمة الشهيرة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزيّة، يتقدم تحرّكات ومظاهرات لنصرة فلسطين في بريطانيا في عام 1937. وقد أدّى ذلك التفاعل إلى مضاعفات حادّة في حالة الجزائريِّين في فرنسا في السنوات الأخيرة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، كما جسّدته المجزرة التي ارتكبتها قوّات الأمن بحق مسيرة سلميّة في باريس في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، ما أودى بحياة مائتي متظاهر جزائري دفعة واحدة.

ومع ذلك؛ فإنّ هذه البواكير قد أخذت طابعاً بدائياً ومبسّطاً في محاولة التأثير السياسيّ، ألا وهو مجرد التظاهر والخروج إلى الشوارع أو رفع الرسائل والمذكرات وصياغة المناشدات، دون أن تُتيحَ الظروفُ الذاتيّة والموضوعيّة خياراتٍ أخرى أكثر نفاذاً في مسالك التأثير السياسي. ويُشارُ أيضاً إلى أنّ تلك التحرّكات اتسمت بمواكبتها لتطوّرات حادّة في العالم الإسلاميّ، وأنها جاءت معزولةً عن أيّة برامج متابعة أو فعل منظّم على نحو مستقرّ أو أداء مؤسسي يمكن الإشارة إليه، فضلاً عن أنها اكتسبت صفة التقطّع من الناحية الزمنية، ومن الصعب القول إنها صبّت بالتالي في رصيد تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، إذ بدت لاحقاً منفصمةً عنها وعن خبراتها بوضوح بمفعول الانقطاع الزمني وغياب الأطر التي تكفل الاستمرارية والتواصل.

ثالثاً؛ أنّ “ثقافة الهجرة” ما زالت حاضرة لدى قطاعات من مسلمي أوروبا، من بين تلك التي تشكّلت بمفعول الهجرة إلى أوروبا. فأجيال “المهاجرين” التي ما زال بعضها يحتفظ بصلة معنويّة وبدرجة ملحوظة من المعايشة لشؤون الأوطان الأصليّة؛ لا شكّ ستُوْلِي اهتماماً مميّزاً للسياسات الخارجيّة الأوروبيّة، خاصة إذا ما تعلّقت تلك السياساتُ بشواغلها. ومن ذلك مثلاً؛ مدى الاهتمام الذي يوليه مسلمو أوروبا الغربيّة المتحدرين من تركيا، لملف العضوية التركيّة في الاتحاد الأوروبي، والذي يبدو من الملفات الحاسمة أحياناً بالنسبة للناخبين من أصول تركيّة في المفاضلة بين الأحزاب السياسيّة، كما في نموذج الجولات الانتخابيّة الألمانيّة. يُضاف إلى ذلك أنّ بعض المهاجرين قد يحملون في وعيهم انطباعاتٍ أو معلومات ما، بِغَضّ النظر عن دقّتها، عن السياسات الخارجيّة للدول التي يَفِدون إليها حتى قبل إقامتهم فيها، بالنظر إلى متابعاتهم الإعلامّية أو إلمامهم بالتطوّرات الدوليّة، وهي تطوّراتٌ تلتفتُ إلى الجانب الخارجيّ من السياسات أكثر من أي شيء آخر، بحكم مضامين التغطيات الإعلاميّة في الخارج التي قلّما تكترث بالشؤون المحليّة.

ورابعاً؛ أنّ العاملَ الإعلاميّ يضطلع بدورٍ واضح في توجيه قسطٍ إضافي من اهتمامات مسلمي أوروبا، أو بعض قطاعاتهم على وجه الدقة، إلى السياسات الخارجيّة الأوروبيّة. فبالنظر إلى نسبة المتابعة الملحوظة في أوساط مسلمي أوروبا لوسائل إعلامية تبثّ أو تصدر من الخارج، كالفضائيات التلفزيّة، ومحطات الإذاعة، ومواقع الإنترنت، علاوة على الدوريات المطبوعة؛ فإنّ ذلك من شأنه أن يلفت انتباههم إلى السياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة على حساب الشؤون الداخليّة أو المحلِّيّة. فما يواكبه المشاهدون العرب في أوروبا على الفضائيّات التلفزيونيّة غير الأوروبيّة، من المواد الإخباريّة والمتابعات السياسيّة؛ لا يأتي في الأساس من منطلق التماشي مع الاهتمامات المحلِّيّة، بقدر ما يركِّز على الشؤون الخارجية، والسياسات الدوليّة بعامة. ويتضح ذلك أيضاً في ما يتعلق بالفضائيّات التركيّة التي نادراً ما تكترث بالسياسات الداخليّة الأوروبيّة؛ إلاّ إذا ما تعلّقت، بشكل مباشر أو غير مباشر، بشؤون المهاجرين أو الأجانب أو المسلمين أو الوجود التركي بالأساس في أوروبا. وتكتسب هذه الملاحظة أهمِّيّة إضافيّة إذا ما أُخِذَ بعين الاعتبار واقعُ التحوّلات الإعلاميّة التي تسارعت وتيرتها منذ مطلع التسعينيات، وأصبحت المضامينُ الإعلاميّةُ بموجبها أكثر قدرة على عبور الحدود والقارّات مع تجاوزها لعامل الزمن، خاصة مع دخول محطّات التلفزة آفاق البثّ الفضائي، واتساع تطبيقات شبكة الإنترنت، وتطوّر نُظُم إصدار الصحف والمجلات وطباعتها وتوزيعها.

مسلمو أوروبا ونموّ الاهتمام بشؤون السياسة الداخلية:

ويمكن رصد تحوّلٍ جزئيّ في اهتمامات الناخبين المسلمين في عديد الدول الأوروبيّة الغربيّة، لجهة تقييمهم لمواقف الأحزاب والقوى السياسيّة، وبالتالي إمكانية المفاضلة بينها.

فكثيراً ما كان الاكتراث بالسياسة الخارجيّة لتلك الأحزاب والقوى، يتقدّم على السياسة الداخلية ومجالات أخرى. ثم طرأ بالتدريج ميلٌ لإدراك السياسة الخارجية بصفة تتساوق بشكل متزايد مع رؤية أكثر استجماعاً لمجالات سياسيّة أعمّ، بما في ذلك السياسات الداخلية لتلك الأحزاب والقوى.

بل يرصد فاروق شِن (Faruk Şen)، الذي يرأس مركز الدراسات التركية بجامعة إسِن الألمانية، أنه في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ألمانيا في نهاية أيلول (سبتمبر) 2002، كانت “السياسة الخارجية تحتلّ إلى حدّ ما قليلاً من الأهمية بالنسبة للخيار الانتخابي للمسلمين الألمان، وبصفة خاصّة يبدو لي أنّ هناك مبالغة في تقدير أهمية الأزمة في الشرق الأوسط”، كما يقول.

وعن المسائل التي اكترثَ بها الناخبون المسلمون في ألمانيا في مفاضلتهم بين الأطراف المتنافسة؛ يذكر شن في تقرير له قبل إجراء تلك الانتخابات، أنّ “في بؤرة اهتمام المسلمين هناك قانون الأجانب، وتنظيم الهجرة أو سياسة الاندماج، إنّ هذه الموضوعات، التي من حسن الحظّ لم يتم استغلالها في المعركة الانتخابية ضد المهاجرين؛ لديها مخزون كبير لحشد الناخبين المسلمين. إنّ هذا يسري أيضاً على سياسة التعليم، إذ كان المهاجرون أكثر من عانى من القصور الذي سارت عليه السياسة المدرسية في العقود الماضية. وفي الوقت ذاته؛ فإنّ المسألة الأهم لمجموع الشعب (الألماني)، وهي سبل مكافحة البطالة؛ تمثِّل بالنسبة للمسلمين معنى متمِّيزاً، فبينما تشير إحصاءات العاطلين عن العمل إلى أنّ البطالة العامّة في ألمانيا تعادل قرابة عشرة في المائة؛ فإنها تذهب إلى أنّ حصة الأتراك منها تعادل 24 في المائة”[144].

ويعكس ذلك، على ما يبدو، تَبَلْوُرَ رؤيةٍ أوسع في أوساط مسلمي أوروبا للشأن السياسي، وتنامي التحدِّيات المحلِّيّة التي تواجه الوجود المسلم في هذه القارّة، علاوة على تَبَلْوُر “شخصيّة” قائمة بذاتها لهذا الوجود، مع صعود دور الجيلين الثاني والثالث في مجمل مسارات الحياة المسلمة في أوروبا ومفاصلها. إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً بالضرورة تراجعاً جوهرياً في الاهتمام بالشأن السياسيّ الخارجيّ، خاصّة مع السخونة المتزايدة التي تكتسبها القضايا الملتهبة في العالم الإسلامي، كما يتجسد في قضيّة فلسطين منذ سنة 2000 (اندلاع انتفاضة الأقصى)، والقضية العراقية منذ سنة 2002 (الأجواء التي سبقت الحرب على العراق في سنة 2003)، والتي تفرض حضوراً كبيراً على الساحة كل عدّة سنوات، مثل ما جرى في مواكبة مسلمي أوروبا الغربيّة لقضايا البلقان المسلم خلال التسعينيات أيضاً.

فبشكل تقليديّ، تتبوّأ قضايا بعينها مراتبَ الأولويّة في اهتمامات مسلمي أوروبا على صعيد السياسات الخارجيّة، وأبرزها قضايا فلسطين، والعراق (بدءاً من مطلع التسعينيات، وبشكل أوضح منذ إرهاصات حرب احتلال العراق في خريف 2002)، وقضية كشمير التي تمثِّل شاغلاً ملموساً لدى مسلمي الجزر البريطانيّة وغالبيّتهم من جنوبي آسيا، فضلاً عن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي تمثل منذ أواخر التسعينيات أحد الاهتمامات البارزة للمسلمين من أصول تركيّة والذين يتركّزون أساساً في المنطقة الناطقة بالألمانية وفي دول البينيلوكس.

وعلاوة على ذلك؛ فإنّ هناك قضايا أخرى احتلّت موقعاً من اهتمامات الوجود المسلم في أوروبا، ولو لمراحل زمنية محدودة، مثل حروب البلقان، وبخاصة في البوسنة والهرسك (1992 ـ 1995)، وحرب كوسوفا (1999)، والقضية الشيشانية (1996 ـ 1997) و(1999 ـ … )، فضلاً عن مراحل الصراع في أفغانستان منذ سنة 1979 وحتى الآن.

وإزاء هذه الاهتمامات الواقعة ضمن ملفّات السياسة الخارجيّة؛ تفرض شواغلُ أخرى حضوراً متزايداً في أوساط مسلمي أوروبا، وهي شواغلُ تندرج ضمن ملفات السياسة الداخليّة، مثل ما يتعلّق بسياسات الرفاه الاجتماعي، ومجمل السياسات المتّصلة بمن يُوصَفون بالأجانب، علاوة على الاهتمام بنمط من التوجّهات السياسيّة يفرض نفسَه بشكل ملحوظ، ومُقلق أيضاً إلى حدٍّ ما، يبدو مختصّاً بالوجود المسلم في أوروبا، مثل حزمة السياسات المندرجة ضمن “مكافحة الإرهاب”، أو تلك التي تتعلّق بملف “الاندماج”. وتكفي في هذا الصدد الإشارةُ إلى بعض الملفات ذات العلاقة، من قبيل قضية الحجاب، والمسائل المتعلقة بالمساجد والأئمّة، والسياسات الخاصة بالرقابة والتنصّت وانتهاك المجال الشخصي للأفراد في ظل تحوّلات ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

وبالمقابل؛ فإنّ الاهتمام المتزايد في أوساط مسلمي أوروبا بالسياسات الداخلية؛ يتساوق مع النجاح النسبيّ الذي يحرزونه في المشاركة السياسيّة على المستوى المحليّ، كانتخابات البلديّات والمقاطعات، بالمقارنة مع الانتخابات التشريعيّة العامة. ومقابل ذلك التقدّم لا تتوفّر مؤشرات على أنّ مسلمي أوروبا يستشعرون أيّ تأثير يُذكر من جانبهم على السياسات الخارجية لدولهم الأوروبية، وهو ما قد يعزِّز صرف انتباههم إلى الشأن الداخلي. فالقنوط من إمكانية التفاعل الجادّ مع السياسات الخارجية؛ يتولّد أيضاً من حقيقة أنّ المنافسة بين الأحزاب والمرشّحين في الجولات الانتخابية تتمحوَر في الأصل وعلى نحو شبه حصري حول الشؤون السياسية الداخلية، لا السياسة الخارجية، باستثناء بعض المنعطفات كالانتخابات التي واكبت حرب احتلال العراق (2003) في بعض الدول الأوروبية.

ومع ذلك؛ فإنّ عاملاً هامّاً قد يضاهي مفعولَ هذه التطوّرات كافّة في توجيه اهتمام المسلمين إلى السياسات الداخليّة لدولهم الأوروبية؛ إلاّ وهو المشكلة العنصريّة وحضور أقصى اليمين السياسي وبروز الخطاب المعادي للأجانب بعامة والمسلمين بخاصة في الساحة السياسية. فلا شكّ أنّ بروز هذه الميول في كافة الساحات الأوروبيّة تقريباً[145] قد وجّه مزيداً من اهتمام المسلمين للساحة السياسيّة المحلِّيّة، وضرورة التفاعل معها، ربما سعياً لدرء المفاسد المتوقّعة قبل التوجّه لجلب المصالح المرجوّة. فعلى سبيل المثال؛ لم يكن لمسلمي النمسا أيّ حضور يُذكر في الساحة السياسية قبل الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تشرين الأول (أكتوبر) 1999. إلاّ أنّ تلك الانتخابات، التي صعدت بقوة بحزب الحرية اليميني (FPÖ)، ذي الشعارات المناهضة للأجانب إلى المرتبة الثانية في البلاد ولينضمّ بموجبها إلى الائتلاف الحاكم؛ كانت منعطفاً مُؤذِناً بتفاعل ملموس نسبيّاً من جانب مسلمي النمسا مع الساحة السياسيّة، خاصّة مع استشعار التحدِّي الذي يمثله أقصى اليمين السياسي.

إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً أنّ التحدي العنصريّ، أو الخطاب المُناهِض للأجانب والمسلمين، وموجة “الإسلاموفوبيا”؛ كفيلةٌ باستحثاث استجابات إيجابيّة في صفوف المسلمين على صعيد المشاركة السياسيّة؛ إذ قد يتسبّب ذلك في ردود أفعال سلبيّة أيضاً (مثل ما شهدته هولندا في خريف 2004 من اغتيال للمخرج المناهض للإسلام تيو فان غوخ على يد شاب مسلم، واندلاع موجة عنف مجتمعي في البلاد)، وربما يفضي ذلك إلى إحباط بعض مساعي الاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم وبيئاتهم الأوروبية. بل ومن المتوقّع أن تُسجّل استجابات إيجابيّة وسلبيّة في البيئة الواحدة من بيئات مسلمي أوروبا لتلك التحدِّيات المثيرة للقلق. وهنا تتضح، مرّة أخرى، أهمِّيّة دور قادة الرأي المحلِّيّ من المسلمين، مثل الأئمة ومسؤولي المؤسّسات والشخصيّات المسلمة المؤثِّرة والمتفاعلين مع العمل السياسيّ؛ في استحثاث استجابات إيجابيّة من قبل قطاعات الجمهور المسلم واحتواء نُذُر الانكفاء على الذات. كما أنّ توفّر خيارات متاحة للمشاركة السياسيّة وملموسة الأثر بالنسبة للجمهور المسلم سيكون عاملاً مشجعاً على الانخراط في التفاعل الإيجابي مع الشأن السياسيّ. وما يساعد على ذلك أيضاً، وعلى نحو حاسم؛ وجود أطرافٍ في الساحة السياسيّة والمجتمعيّة منفتحةٍ على المسلمين وتتعاطى معهم بإيجابيّة ومستعدّة لإنشاء التحالفات والشراكات معهم في عدد من المجالات.

حضور هامشي للسياسة الخارجية في الساحة الجماهيرية الأوروبيّة:

بالوسع الإشارة إلى عاملٍ آخر، من المُحتَمَل أن يؤثر على تراجع نسبي في اهتمام بعض قطاعات مسلمي أوروبا بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة، ألا وهو التساوق مع الاهتمامات السائدة في المجتمع العريض. فالاكتراث، الذي يبدو استثنائيّاً أحياناً، بمتعلقات السياسة الخارجيّة، قد لا يُساعد الفرد المسلم على الاندماج في محيطه المجتمعيّ، في مستوى الزمالة الدراسيّة أو المهنيّة أو ضمن نطاق العلاقات المبنيّة على أساس الجوار. وحتى إذا ما بدت هذه الملاحظة عابرةً بشكل عام؛ فإنها تكتسب وزناً خاصّاً لدى المسلمين المتحدرين من مجتمعات أكثر تسيّساً أو أوساط أكثر انشغالاً بالشأن السياسيّ الدوليّ. ويشرح طبيبٌ مسلم، من الجيل الأول المهاجر إلى النمسا هذه المشكلة،[146] بقوله “عندما أحضُرُ إلى موقع عملي في المشفى؛ فإنّ الأحداث والتطوّرات التي تشغل ذهني من واقع متابعاتي للأخبار العالميّة في الليلة الماضية على قناة “الجزيرة” وغيرها؛ لا بد وأن تنعكس على ما أودّ تبادل أطراف الحديث بشأنه مع الزملاء، لكن سرعان ما أجد أنّ اهتماماتهم بعيدة تماماً عن تلك الحروب والأزمات الكبرى، وهنا لا مفرّ أمامي من أن أتعاطى مع مسائل ليست من اهتماماتي في الأصل، وحتى لو كانت سياسيّة فإنها تتعلق بالسياسة المحلِّيّة وجزئيّاتها التي أرى أنّ هناك ربما ما هو أوْلى بالحديث عنه. الزملاء لا يتحدّثون عن السياسة، وما يشغلهم هو التعليق على هذا البرنامج التلفزيوني المسلِّي أو على الوجهة المفضلة لقضاء أوقات الفراغ، فهل يمكنني أن أندمج حقاً باهتماماتٍ غير هذه؟!”.

وكما يلاحظ الباحثُ الألمانيّ هربرت كِلمان (Herbert Kelmann)، فإنّ الجمهور “لا يكترث بكل ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، ومعلوماته يشوبها الجهلُ العام، وتتميّز بعدم الاهتمام وبالجهل والنقص في إمكانية الاستزادة (المعلوماتية بهذا الشأن) والثبات” في الآراء[147].

لكنّ الأمر يتجاوز الجمهور إلى النُّخَب ذاتها، وفق ما يرى وزير الخارجية الفرنسي السابق أوبير فيدرين (Hubert Vedrine) ، الذي يُقِرّ بأنّ “فرنسا اليوم لا تشهد سوى النزر اليسير من التحليل والتأمّل في أحوال العالم والسياسة الخارجيّة والعلاقات الدوليّة، وهذه مفارقة في زمن العولمة. والمثقّفون القادِرون على الاضطلاع بدور مفيد هم الغائبون الكبار عن هذا النقاش، إلاّ إذا استثنيْنا بعضَ ردود الفعل المحدّدة. ذلك أنهم ينتمون الى عالم مُنطوٍ على ذاته”[148].

ويستنتج الخبير الاستراتيجي أحمد رمضان أنّ النظام السياسيّ في العالم الغربيّ “يُعتبر الأكثر قدرةً وحيويّةً في فنّ التعامل مع الرأي العام لديه”، مشيراً إلى “النجاح الذي تحقّق (له) على مدى زمنيّ طويل في إقامة جدار عازل بين الجمهور الغربي ومسائل السياسة الخارجية، إلى درجة أصبحت فيها ثقافةُ الإنسان الغربيّ عن أجزاء العالم الأخرى تبدو مضحكةً ومثيرةً للدهشة في آنٍ معاً”[149].

ومما يُسجّلُ هنا؛ أنّ شؤونَ السياسة الخارجيّة لا تحتلّ موقعاً لافتاً للانتباه في برامج الأحزاب السياسية في معظم الدول الأوروبيّة. فغالباً ما تشغل هذه الشؤون مساحةً ضئيلةً من البرامج والشعارات الانتخابيّة، بينما يُلاحَظ كذلك أنّ تناول ما يتعلق بالسياسة الخارجيّة في تلك البرامج والشعارات قد يجري على شِحّته بشكل سطحيّ وتعميميّ، وبما يتوافق مع اهتمامات قطاعات الجمهور العريض المحدودة غالباً في هذا الشأن. والسائد أن يجري وضعُ السياسة الخارجيّة في سياق متّصل بانعكاساتها على الشأن المحلِّيّ. وبينما يتّضح ذلك في ما يتعلق بالأحزاب الأساسية في الساحة السياسيّة؛ فإنّ البرامج والشعارات الخاصة بأحزاب أقصى اليسار والشيوعيِّين عادةً ما تتناول الشأنَ السياسيّ الخارجيّ بتوسّع أكبر، وبدرجة ملحوظة نسبيّاً، لكنّها قوى تتموضع على أطراف الساحة السياسيّة لا في مركزها، علاوة على أنّ خطابها المؤَدلج نادراً ما يكترث بالبحث عن القواسم المشتركة مع الآخرين فيأتي معزولاً في حضوره.

ومن العوامل التي تكمُن خلفَ هذا الاهتمامِ الضئيل بالسياسة الخارجيّة في البرامج الحزبيّة والشعارات الانتخابيّة؛ حقيقةُ أنّ الأحزاب السياسيّة في أوروبا تتشكّل في الأصل بناء على مسائل واهتمامات من الواقع الداخلي للدول، أي ما يتّصل بالسياسات الداخلية، ونادراً ما تَتَبَلْوَر على خلفيّات تتعلّق بالشؤون الخارجيّة.

ومن جانب آخر؛ فإنّ الأحزاب المتنافسة على أصوات الناخبين، تبقى معنيّةً بمخاطبة الجمهور بما يراعي اهتماماته، التي تغيب عنها السياسةُ الخارجيّة بالكلِّيّة أو تأتي في مواقع ثانويّة من تلك الاهتمامات، لصالح الاهتمامات التقليديّة، المتعلِّقة عادة بمنسوب الرفاه الاقتصادي والمستوى المعيشيّ، والشواغل المتّصلة بسوق العمل والتشغيل والبطالة، ومكتسبات دولة الرعاية الاجتماعيّة، والعناية الصحيّة، والشؤون التعليميّة، ومكافحة الجريمة، وحماية البيئة، علاوة على الاهتمام المتزايد الذي يتعلّق بملف الهجرة والأجانب واللاجئين والأقلِّيّات.

وفي الحالة الهولنديّة كمثال؛ يتّضح أنّ المبادئ الأساسيّة للأحزاب السياسيّة لا تتطرّق إلى السياسة الخارجيّة إلاّ في حالات نادرة. فالبواعث على تشكيل الأحزاب السياسيّة الهولنديّة، حسب المعتاد، هي شواغل سياسيّة داخليّة. كما أنّ الجمهور الهولندي عندما يُسأل عن النقاط المثيرة للجدل السياسيّ في بلاده؛ فإنه لا يذكر من بين ذلك ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة إلاّ في ما نَدَر[150].

ونادراً ما توجد في الساحة السياسية الأوروبية قوى ذات وزن تخوض انتخاباتٍ بناء على برامج وشعارات متعلِّقة بالسياسة الخارجيّة، وحتى إن جرى ذلك؛ فإنّ النتائج التي تحصل عليها تبقى متواضعة للغاية وأقلّ من أن يُشار إليها. وفي حالة حزب “الاحترام” (Respect) البريطاني، الذي تشكّل في الأساس على خلفيّة ناقدة للسياسة الخارجيّة البريطانيّة لجهة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والمشاركة البريطانيّة في حرب العراق واحتلاله؛ فإنّه قد حقّق أداء فاتراً للغاية في أول جولة انتخابية أعقبت تشكيله، وهي انتخابات البرلمان الأوروبي (2004)، علماً بأنّ معارضيه اتهموه بأنه “حزب القضية الواحدة”. ولم تأتِ الجولاتُ الانتخابيّة التي تبعت ذلك بنتائج تكافئ توقّعات حزب “الاحترام” المسبقة، رغم أنه تشكّل بإسناد مباشر من قوى نجحت بشكل لافت في تحريك مظاهرات حاشدة في لندن لمناهضة الحرب على العراق، لم تشهد العاصمة البريطانية مثيلاً لها من قبل. وبدا واضحاً أنّ تفاعل قطاعات من الجمهور مع الشأن السياسي الخارجي في منعطفٍ ما؛ لا يمثِّل مؤشِّراً كافياً للحكم على نشوء تحوّل عميق في اهتمامات عموم جمهور الناخبين في مجمل المواسم السياسيّة والانتخابيّة.

إلاّ أنّ اهتمامات السياسة الخارجية تبقى مرشّحة لشيء من البروز في البرامج والشعارات الانتخابيّة في بعض المواسم الاستثنائيّة، كما حدث في الانتخابات العامة الألمانيّة (انتخابات البرلمان الاتحادي “بوندستاغ”) التي جرت في 22 أيلول (سبتمبر) 2002، والتي نجح فيها ائتلاف الديمقراطيين الاجتماعيين (SPD) والخضر (B’90/Die Grünen) في الفوز للدورة الثانية على التوالي، بصعوبة بالغة وبفارق ضئيل. وقد شكّل موقف الاجتماعيِّين والخضر الرافض للاشتراك في الحرب الأمريكية على العراق رافعةً انتخابيّة لائتلاف غيرهارد شرودر، مقابل الفرص الأفضل التي كان يُفتَرَض أنّ التيار السياسيّ المحافظ ـ الديمقراطيون المسيحيون (CDU) والاجتماعيون المسيحيون (CSU) ـ يتمتّع بها في الحالة الاعتيادية، وهو التيار الذي لم يُظهِر موقفاً رافضاً للاشتراك في تلك الحرب. كما أنّ الانتخابات الأسبانيّة في ربيع 2004، والتي أعقبت اعتداءات مدريد الدمويّة التي جرت في 11 آذار (مارس) 2004؛ تمثِّل شاهداً على إمكانيّة صعود أحد بنود السياسة الخارجية إلى واجهة الاهتمام الشعبيّ وبالتالي المفاضلة بين القوى المتنافسة بناءً على ذلك، وهو ما ساهم في الإطاحة بفرص خوزيه ماريا أثنار عن الحزب الشعبي (PP)، لصالح خوزيه لويز ثاباتيرو عن الحزب الاشتراكي (PSOE) المعارض للاشتراك في احتلال العراق والمتحفظ على الانسياق الجارف مع الحملات الحربية الأمريكية، فأعلن بعد ساعات من فوزه في انتخابات 14 آذار (مارس) 2004 عن سحب قوات بلاده من العراق.

ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للتفاعل السياسي لمسلمي أوروبا؟

حتى بالنسبة للجمعيّات والمؤسّسات المسلمة؛ فإنّ توجّه اهتمامها إلى شؤون السياسة الخارجيّة قد لا تراه خياراً ملائماً في الأحوال الاعتيادية. فمؤسسات التيار العام أو الرئيس (mainstream)  لمسلمي أوروبا تتمسّك بوضوح وعلى نحو متزايد؛ بخطاب الحوار والتواصل والانفتاح، وهو اتجاه يجري تأكيده من جانبها منذ أواسط التسعينيّات وشهد زخماً كبيراً منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. ومن المتوقّع أن تجد العديد من تلك المؤسسات مصاعب في التطرّق إلى شؤون السياسة الخارجيّة تطرّقاً مباشراً، خاصة وأنّ تلك الشؤون تأخذ طابعاً صراعياً أحياناً، أو تهيمن عليها تجاذبات المصالح غير المنضبطة من بعض أطراف السياسة الدولية، وهي ملابساتٌ لا تنسجم مع المناخ العام الذي قد تجد الأطرافُ المسلمة المحلِّيّة ربما أنه يحكم التواصل الداخليّ في مجتمعاتها الأوروبية.

ويبدو أنّ تفاعل مسلمي أوروبا مع السياسات الخارجية ليس شأناً عابراً بالنسبة لبعض الأطراف في بؤر الصراع العالمي. بل ويجري في هذا السياق التعامل مع العامل الديمغرافي بمنطق تحريضي، كما تفعل بعض التقارير والتعليقات الصادرة عن جهات إسرائيلية. ولم يعد أمراً استثنائياً أن يأتي في أحد التعليقات مثلاً، ما يحذِّر من “الهبوط المتسارع في التكاثر، وخصوصاً في غرب أوروبا، فذلك يتسبب في تناقص الأيدي العاملة المتزايد. وهذا يشجِّع الهجرة الجماعية، ويوفِّر تبريراً لها، والتي تُعتبر في جزئها الأكبر إسلامية. تتسبّب هذه الحركة السكانية في تأثير إسلامي على السياسة الداخلية في دول غرب أوروبا، والتي تنعكس أيضاً في سياستها الخارجية تجاه إسرائيل”[151]. إنه غيضٌ من فيض التحذيرات الشبيهة التي ارتفع منسوبها في الأعوام الماضية.

ولعلّ ما يفاقم الموقف؛ ما تقرِّره مثلاً “المدرسة الواقعيّة” (Realist School) في علم السياسة والعلاقات الدوليّة، من أنّ الدول تلتزم في سياستها الخارجيّة بالقيم والأخلاقيّات أو القانون الدوليّ؛ إذا توافق ذلك مع مصالحها القوميّة وقدراتها المتاحة. كما أنّ هذه المدرسة، التي تُعَدّ من أشهر المدارس الفكرية في دراسة مراحل عملية صنع السياسة الخارجيّة، والكيفيّة التي تتفاعل الدول بموجبها وتتعامل بها على صعيد العلاقات الدوليّة؛ ترى أيضاً أنّ السياسة الخارجية للدول ليست امتداداً للسياسة الداخلية، وبالتالي فإنّ التزام الدول بالمعايير والقيم الأخلاقيّة على الصعيد المحلِّيّ أو الداخليّ؛ لا يعني بالضرورة التزامَها بالشيء نفسه على مستوى العلاقات الدوليّة[152].

وعليه؛ يكون مفهوماً أن تشعر عديد المؤسسات الإسلامية في أوروبا بأنّ عليها أن تنأى بنفسها عن ذلك السياق غير المنسجم مع خطابها، خاصة مع ما يكتنف العلاقات الدولية من طابع صراعيّ، وهو ما يأخذ من جانب طابع التنصّل والتبرّؤ من كل ما يُحتَمَل إلصاقُه تعسّفاً بالإسلام والثقافة الإسلامية وبالمسلمين، والإحجام عن الخوض أو الاستغراق في المتابعات السياسية الخارجيّة “المؤرِّقة” والخارجة عن السياق، من جانب آخر. هكذا مثلاً يمكن أن تُفهَم الخلفيّات التي تحكم البيانات والإعلانات الصادرة عن بعض المؤتمرات التي يعقدها مسلمو أوروبا في السنوات الأخيرة على نحو خاص، أو تُدرَك البواعث التي تجعل بعض الأطراف المسلمة تحجم عن التعليق على بعض ما تُعتبر “تجاوزات أوروبيّة” في السياسة الدوليّة، مثل الشكوى من “تورّط الاتحاد الأوروبي في سياسة تجويع الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال”، على خلفيّة الانتخابات الديمقراطيّة الفلسطينيّة التي أجريت في 25 كانون الثاني (يناير) 2006.

إنّ ذلك الاتجاه الآخذ بالتبلور على نحو متزايد؛ قد يثير تساؤلات عمّا إذا كان يمضي أساساً على نحوٍ واعٍ تماماً أم بموجب الظروف والتطوّرات الضاغطة وكنمط تعاطٍ تلقائيّ وغير مدروس. وفي كلِّ الأحوال، وبمعزل عن إصدار تقييم بشأن هذا التطوّر؛ فإنّ ما يمكن على الأقلّ لفتُ الانتباه إليه في هذا المضمار؛ هو أنه قد يعزِّز الحاجة إلى وجود أطر متخصِّصة بالعمل السياسي في شؤون مسلمي أوروبا واهتماماتهم، بما في ذلك مجالات السياسات الخارجيّة. ولعلّ أحد التحدِّيات الإشكالية التي يمكن ملاحظتُها هنا، واستشرافها مستقبلاً؛ احتمال نشوءِ فجوةٍ في ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، قد تتسع تدريجياً، بين اهتمامات قطاعات من الجمهور المسلم الأوروبي وتوقّعاتها من مؤسّسات التيار الرئيس أو العام للوجود المسلم في القارّة؛ وخطاب تلك المؤسسات وأدائها. إنّ تلك الفجوة قد تتّضح أحياناً في بعض المنعطفات المأزومة، كنشوب حروب ضد بلدان مسلمة تتورّط فيها دول أوروبية، أو كاتضاح ضلوع بعض الدول الأوروبية في الإسناد المباشر لحالات احتلالية في العالم الإسلاميّ. وحقيقة أنّ الوجود المسلم في أوروبا الغربيّة والوسطى ذو طابع شابّ من الناحية العمرية؛ تجعل تلك الفجوة المفترَضة أكثر وروداً في الحسبان، بالنظر إلى أنّ الأوساط الشابّة قد تكون أحياناً أكثر قابليّة للانشداد إلى بعض القضايا الساخنة في العالم الإسلاميّ من جانب، وأنّ خطابَ المؤسّسات المعبِّرة عن الوجود المسلم في أوروبا وأداءَها قد لا يكافئ توقّعات الجمهور المسلم أو حتى “مثاليّاته”. وعلاوة على ذلك؛ يُلاحَظ أنّ هناك من يرى أنّ ما يسمى ﺑ “التضخّم الشبابيّ” يجعل المجتمعات أميَل للصراعات، وهو ما يسجِّله صموئيل هنتنغتون باهتمام كأحد العوامل الضمنيّة في واقع الشعوب المسلمة، التي تستحثّ ما يسميه “صدام الحضارات”[153].

مسلمو الغرب واضمحلال فرضية “القرب من مراكز صنع القرار العالمي”

إنّ الانصرافَ النسبيّ لمسلمي أوروبا عن الاكتراث بالسياسات الخارجيّة، يمكن تفسيره أيضاً على نحو جزئيّ من خلال الفجوة الملموسة بين التوقّعات المسبقة والنتائج المتحقّقة. فبعض التوقّعات المسبَقة كانت تفترض أنّ وجوداً مسلماً في بلدٍ أوروبيّ ما؛ من شأنه أن يتيح الفرصة، للتأثير على صناعة القرار السياسيّ الخارجيّ، مع الإقرار بأنّ ذلك يتطلّب وقتاً وجهداً وموارد. وكان التعويلُ الواضح هنا على أنّ “القُرب من مراكز صنع القرار في الغرب” يمثِّل فرصةً وينطوي على مسؤوليّة، في التأثير على صنع القرار وترشيده، وعادةً ما كانت تجري الإشارة إلى “لوبيّات” (Lobbies) بعينها وربّما منحها أبعاداً عملاقة أو حتى أسطوريّة.

إلاّ أنّ الذي يتبيّن للمعنيِّين من مسلمي أوروبا، ومسلمي الغرب عموماً، بمضيّ الوقت؛ هو أنّ هناك فارقاً بين القُرب الجغرافيّ من مراكز صنع القرار، والقُرب الفعليّ من مسالكها. بل قد يبدو أنّ الأمر يتعلّق بمعضلتيْن؛ أولاهما أن يتوفّر الإدراكُ الدقيقُ لآليّات صُنع القرار وملابساته، في الشأن السياسيّ الخارجيّ، وهو ما لا يتيسّر عموماً بالنسبة لمن ينشغلون ﺑ “طقوس” الساحة السياسيّة و”شكليّاتها” وتجاذباتها الطافية على السطح، كالجولات الانتخابيّة وتوزيعات المقاعد البرلمانية وألوان الحكومات واتجاهات الرأي العام، وحتى المواقف والتصريحات للمسؤولين ومقرّبيهم. فتلك المعطياتُ نادراً ما ترافقها تحوّلاتٌ عميقة في فضاء السياسات الخارجيّة للدول الغربيّة إجمالاً، إلاّ في مواسم التحوّل في المناخات الدوليّة كلّ بضعة عقود ربما. فالسياسة الخارجيّة على نحوٍ خاص؛ غالباً ما تبقى محكومةً بتوجّهات استراتيجيّة تصدر عنها، وهو ما يجعل الثباتَ في الملمح العام للسياسة الخارجيّة ملحوظاً أكثر من نظيره المتغيِّر؛ إذا ما قُرئت المتغيِّرات ضمن نسق زمنيّ ممتدّ بعض الشيء. والمعضلة هنا؛ أنّ النظرة السطحيّة للسياسات الخارجيّة للدول قد تُغري صاحبَها بمحاولة قراءة تلك السياسات من خلال مواقف مبعثرة مثلاً، دون أن ينفذ البصرُ إلى الأعماق، بحثاً عن الخيوط الناظمة لتلك المواقف وفرزها لتصنيف مدى جديّتها أو قابليّتها على الاستمرار. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ الذين تصوّروا أنّ الموقف الألماني الرافض لتأييد حرب احتلال العراق (2003) يمثِّل خروجاً عن العلاقة التحالفيّة التقليدية بين برلين وواشنطن؛ فإنهم في أحسن الأحوال قد أصابوا جزئيّاً وعلى نحو محدود فقط، في ما يتعلّق باكتساب تلك العلاقة ملمَحاً استقلاليّاً من الجانب الألماني عن التبعيّة للموقف الأمريكيّ، لكنّ هؤلاء أنفسهم فوجِئوا ربما بوجود دور إسناديّ ألمانيّ، في المستويات الثانوية، للحضور العسكري الأمريكي في العراق[154]. والواقع أنّ إدراك الخلفيات وفهم الأبعاد الاستراتيجية طويلة الأمد؛ يتيحان قدرةً أوفر على استيعاب المجريات على نحو أكثر دقّة وعمقاً، ووضعها في سياقاتها الصحيحة أيضاً.

أما المعضلة الثانية؛ فتتعلّق بالقدرة الفعليّة على النفاذ إلى مسالك صنع القرار السياسي الخارجي، ومدى حدودها. ولا ريب أنّ نجاح الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا في تقديم سياسيِّين على المستوى المحلِّي مثلاً (في الأطر التشريعية: كالبرلمانات المحلية للولايات أو المقاطعات أو المحافظات، أو مجالس البلديات، وما في حكمها، أو في الأطر التنفيذية: كالإدارات المحلية وحكومات المقاطعات)؛ لا يعني تلقائياً القدرة على الولوج بالمدى ذاته إلى المستوى القُطري تشريعيّاً أو تنفيذيّاً، في ما أنّ الوصول إلى دوائر السياسة الخارجيّة ذاتها له شأنٌ آخر وحيثيّات أكثر تعقيداً. وفوق ذلك؛ فإنّ وصول أفراد مسلمين إلى تلك الأوساط لا يعني مباشرةً أنهم يُعبِّرون بالضرورة عما يخامر الأقلية المسلمة من تطلّعات ورؤى وهموم في الشؤون ذات العلاقة، أو أنهم يتمتّعون بفرص التأثير الفعليّ في صناعة القرار.

إنّ لفت الانتباه إلى هاتَين المُعضِلَتين، أي إدراك مسالك السياسات الخارجية وآليات عملها والأطراف الفاعلة فيها من جانب؛ والقدرة على النفاذ إلى تلك المسالك والأوساط والتأثير الفعلي على النحو الرشيد فيها من جانب آخر؛ لا يُقصد منه القطع باستحالة هذا المطلب؛ وإنما مجرّد إضفاء لمسةٍ واقعيّةٍ عليه، ومحاولة تفسير جانب من خلفيّات التراجع النسبيّ في اكتراث مسلمي أوروبا بالتأثير على السياسات الخارجية.

وقبل عقد ونصف العقد (سنة 1991)، قالت إحدى الشخصيّات المسلمة البارزة في الساحة الأمريكية “لقد أراد الله أن يَمتَحِن إيمانَنا هنا في القدرة على التعامل مع مركز القوى العالمي، الذي تتفرّد به الولايات المتحدة اليوم، فهي التي تقرِّر مصير العالم الإسلاميّ وغيره، وهي التي تقرِّر (…) استمرار الوضع أو تغييره في أي بلد، سواء كان ذلك بالغزو الإعلامي أو الاقتصادي أو العسكري (…)”[155].

وإزاء تقديراتٍ كهذه كانت تحظى بقدر من الرَّواج في أوساط مسلمي الغرب في ما مضى؛ فإنّ الأمر بات يستدعي التمييزَ بين القُربِ الجغرافيّ المجرّد من مراكز القوى؛ والقرب الفعلي منها بما يفيد من أهليّة النفاذ إلى مسالك التأثير وصناعة القرار. ولعلّ ذلك هو ما يدفع مفكِّراً مثل الدكتور طه جابر العلواني، لأن ينبِّه إلى سطحية “تصوّر أنّ مجرّد الحصول على الإمكانات المادِّيّة سوف يجعلنا (مسلمي الولايات المتحدة) قادرين على منافسة اليهود على قلوب الأمريكان وعقولهم، (تلك) إشارات متفائلة جداً، وتحتاج من هؤلاء الأخوة إلى مراجعة، و(هي) تهمِل المنظومةَ الحضاريّةَ والثقافيّةَ لهذه الأمّة التي نعيش في ما بينها، وعلينا أن نُدرك الآخَر، أن نُدركَ ثقافتَه وحضارتَه وما يحمل، لا ينبغي أن نتصوّر أنّ هذه الحضارة الجبّارة القاهرة ذات المَعِدة الضخمة الهاضمة أنها تنتظرنا لكي نحوِّلها ونُجري فيها عمليات التغيير بكل هذه السهولة، لا، إنّ هناك أموراً مركزيّة، وهناك أمورٌ لا بدّ من دراستها، ولا بدّ من الوعي بها، لكي لا نغرق في التفاؤل، ولكي لا نذهب بعيداً ونكون سطحيِّين (…)”[156].

عن التوازنات الداخليّة بشأن “القضايا الإسلامية” في السياسات الخارجية الأوروبية:

لعلّ إحدى الخصائص التي قد تغيبُ عن الأذهان في ما يتعلّق بالمدى الذي يمكن لمسلمي أوروبا أن يتعاطَوْا بموجبه مع السياسات الخارجيّة لبلدانهم ذات الصِّلَة بالعالم الإسلاميّ؛ أنّ طبيعة التجاذبات المتشابكة في الساحة السياسيّة الأوروبيّة، تقومُ على أساس اعتبار الأقلِّيّات أو المجموعات المجتمعيّة أطرافاً معنيّة بالقضايا التي يُفتَرَض أنها ذات صلة بها أو باهتماماتها. أي أنّ الأطراف الحاضرة ضمن معادلات التجاذب، أو التي تُشرِفُ على إدارتها وضبطها أو التعاطي معها، عادةً ما تأخُذُ بعين الاعتبار أنّ المسلمين معنيّون بدرجة أو بأخرى بالقضايا “المُجمَع عليها” في العالم الإسلامي أو بما يتعلّق بالأمة الإسلامية على نحو أعمّ، كقضية فلسطين، أو رفض المساس بالمقدّسات (أزمة الرسوم مثلاً)، أو كقضية البوسنة والهرسك في ما سبق، أو قضية الحرب على العراق في ما بعد. وهنا يُفتَرَض أنّ توازن المعادلة بين شدّ الأطراف وجذبها؛ قد يكون عرضةً لاختلالٍ، أو لمزيد من الاختلال، إذا ما توفّرت في الساحة أطرافٌ تعمل في الاتجاه النقيض لما يرى المسلمون أنه من مقتضيات العدل والحريّة والإنصاف مثلاً.

ويمكن اعتبار دور المشاركة السياسية والمجتمعية؛ مساعداً على تحقيق توازن مجتمعيّ أفضل في الملفات المعنيّة. بل إنّ المشاركة قد تتيح الأرضيّة اللازمة للتواصل والتعاون، وتضبط التباينات بين تصوّرات الأطراف ومصالحها ومواقفها ضمن محدِّدات النسق المجتمعي السائد وبما قد يفضي إلى محصِّلة أفضل. فطالما أنّ “أزمات المصالح هي تلازمات طبيعيّة للعمليّات التنظيميّة والمجتمعيّة؛ فإنه يُنظر للمشاركة على أنها إحدى الوسائل الجوهريّة في العمل على التعاون والمحافظة عليه”[157].

وهنا تثور تساؤلاتٌ وإشكاليّاتٌ؛ عن المدى الذي يمكن للمسلمين أن يُحَيِّدوا معه موقفَهم إزاء قضيّة ما من هذه القضايا، ضمن ما قد يعتمل في الساحة السياسيّة التي هم على تماسٍ معها، في ما تشهد تلك الساحةُ انشداداً مثلاً إلى مربّعات الأطراف النقيضة من هذه المسألة أو تلك. أي أنه لا مناص من الموازنة الواعية بين مقتضيات النطاق الذاتيّ للوجود المسلم في بلد ما، وفي الإطار الأوروبي العام من جانب؛ ومقتضيات الانتماء إلى الأمّة ككلّ و”الأخوّة في العقيدة” من جانب آخر، علاوة على ما يستتبع الانتماءَ الى النطاق الإنسانيّ العام من أدوار والتزامات، وهذا ما ينبغي أن يُراعَى في تراتبيّة الأولويات بالنسبة للمشاركة السياسيّة للمسلمين.

إنّ “رضى” قطاع مجتمعيّ أو أكثر، بما في ذلك الأقلِّيّات ذات الحضور، أو “استياءه”، من موقف سياسيّ ما؛ ليس بالبُعد الذي يمكن لصانعي السياسات أن يتجاهلوه، حتى وإن كان تأثيرُ ذلك ضئيلاً للغاية على صناعتهم الفعليّة للقرار. ولكنّ التأثيرَ قد يأتي في المستويات الثانوية، عبر التخفيف من الانجراف في بعض القرارات أو كبح التمادي في تطبيقها، ومراعاة تداعياتٍ لها، أو ربما بمحاولة كسبِ “تفهّم” القطاع المجتمعيّ المعنيّ أو حتى “استرضائه” لهذه المواقف. ولكنّ تحييد المواقف أو حتى إظهار الرضي قد يُغري بالنقيض أحياناً، وقد يغوي بعضاً من صانعي السياسات بالذهاب بعيداً، والإسراف في بعض التطبيقات المثيرة للانتقاد، طالما تراءى لهم في هذا النهج شيئاً من المصالح المُحتَمَلة أو المكاسب المُتوهَّمة. أي أنّ مُخرَجات (Outputs) تحرّكات التأثير السياسي لا يمكن حصرُها في القرار السياسيّ المجرّد عن جملةٍ من الملابسات والتداعيات وردود الأفعال والمكاسب أو الأضرار الجانبية.

مسلمو أوروبا .. وخيارات الدور الوسيط في العلاقة الأوروبية مع العالم الإسلامي:

على أيّ حال؛ فإنّ هناك اتجاهاً واضحاً في أوساط مسلمي أوروبا لإبراز دورهم في تطوير العلاقة بين القارّة والعالم الإسلامي، وهو ما عبّر عنه مثلاً “ميثاق المسلمين في أوروبا” (Muslims of Europe Charter)، الذي جاء فيه “إنّ الإسلام بمبادئه الإنسانيّة العالميّة يؤمِنُ بالتقارب العالميّ الذي يحترم حقوق الشعوب وخصوصيّاتها، ويلتزم بقواعد العدل في التبادل والتعاون بين الناس، بعيداً عن كل أسباب الهيمنة والاستغلال. ومن هذا المنطلق؛ فإنّ المسلمين في أوروبا يدركون أنّ من واجبهم أن يساهموا في توطيد العلاقةِ بين أوروبا والعالم الإسلامي، وأنّ من مستلزماتِ ذلك؛ العمل على التخلُّص من الصورة النمطيّة السلبيّة بين الإسلام والغرب، من أجل بناء أواصر التواصل بين الشعوب والتفاعل المثمر بين الحضارات”[158].

وعن فكرة “الجسر” الرابط بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ يقول إقبال سكراني، الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، “لدينا كلّ الثقة بأننا نستطيع بمشيئة الله، من خلال العمل الجاد ودعم أصدقائنا وشركائنا؛ أن نوجد معاً مجتمعاً مسلماً بريطانياً مشارِكاً ويتمتّع بالموارد والحيويّة، يكون بمثابة جسرٍ ضروريّ ما بين الشعوب هنا وفي جميع أنحاء العالم”[159].

وما قد يبدو لافتاً للانتباه بعض الشيء؛ أنّ وَجْهاً جديداً إلى حدِّ ما من وجوه التعاطي مع السياسات الخارجيّة؛ آخذٌ بالبروز في واقع مسلمي أوروبا. إنه يتعلّق بدورِهم كوسطاء في بعض جوانب العلاقة الأوروبيّة مع العالم الإسلاميّ، وخاصة في ظلّ التطوّرات الداهمة أو المنعطفات المأزومة، وانطلاقاً من مواطنتهم الأوروبيّة.

ولعلّ تجربة مسلمي السويد في التوسّط للإفراج عن مواطنيهم العالقين في بغداد، الذين اعتُبروا بمثابة رهائن أو مُحتَجزين، إثر غزو القوات العراقية للأراضي الكويتية في آب (أغسطس) 1990؛ قد مثّلت مؤشِّراً أوَليّاً على ذلك، خاصة مع نجاح مسعى الوساطة ذاك، والذي لفت الاهتمام إلى مخزون الأدوار الإيجابيّة التي يمكن للوجود المسلم في أوروبا أن يقوم بها، في محطّات كهذه على الأقل.

ومنذ احتلال العراق (2003) وتوالي حوادث خطف رهائن أوروبيِّين، بدءاً من اختطاف اثنين من الصحافيِّين الفرنسيِّين في نهاية صيف 2004؛ فإنّ المؤسّسات الإسلاميّة في أوروبا أخذت تُكَثِّف من اهتمامها بهذا الملف، بإطلاق المناشدات تِلْوَ الأخرى، وبالقيام بزياراتٍ خاطفةٍ إلى بغداد لحثّ العلماء المسلمين العراقيين فيها على تكثيف مساعيهم للتوسّط في هذا الشأن.

ورغم أنّ المؤسّسات الإسلاميّة في أوروبا قد قامت بمساعيها تلك من منطلق التوجيهات الإسلاميّة والالتزامات الإنسانيّة والأخلاقيّة والشراكة في المواطنة، كما تؤكد؛ فإنّ تلك المساعي والتحرّكات يمكن أن تندرج أيضاً، بشكل أو بآخر، ضمن الإطار العام لمشاركتها السياسية. إلاّ أنّ الأمر على هذا النَّحو لن يفتقرَ إلى أبعادٍ حسّاسة أيضاً. وما ينبغي قولُه هنا على أيّ حال؛ أنّه كان هناك حرصٌ واضحٌ من جانب مسلمي أوروبا، على عدم تسييس تلك المساعي، وإبقائها في نطاقها الإنسانيّ البحت، إذ لم يتمّ عمليّاً استثمار تلك المواقف سياسيّاً أو حتى إقامة صلات تُذكَر مع من تحرّروا بالفعل بعد اختطافهم، رغم المفعول الحاسم أحياناً الذي اضطلعت به المناشدات الحثيثة التي أطلقها مسلمو أوروبا في إطلاق سراحهم.

وإزاء تقديرات بعض النُّخَب المسلمة في أوروبا، بأنّ المسؤوليّة الأدبيّة تُملي عليها السعيَ لتجسير الفجواتِ بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ فإنّ المستوى السياسيّ في البلدان الأوروبيّة قد يرى أدواراً مجديةً للحضورِ المسلم لديه ضمن إدارته للعلاقة مع العالم الإسلامي أيضاً.

فعلى نحوٍ أَعَمّ؛ يمكن ملاحظة كيف أنّ العلاقة مع الأقلِّيّة المسلمة آخذةٌ في تبوّؤ موقعٍ لها في السياسات الخارجيّة لعديد الدول الأوروبيّة، ولو بصفة شكليّة أو دعائيّة. فالرسائل التي تحرصُ بعض الحكومات الأوروبيّة على إيصالها إلى العالم الإسلاميّ؛ تشير عادةً إلى أنّ المسلمين لديها يعيشون حياة سوية ويتمتّعون بالحريّة الدينية والحقوق المقرّرة لهم[160]. ومن الواضح أنّ الولايات المتحدة سبقت في قيامها بمحاولات شبيهة[161].

ومن المُتوقّع أن يكونَ من بين موجِّهي السياسات الخارجيّة الأوروبيّة؛ من يأمل في كسب مواقف مسلمي أوروبا أو تحييدها، أو تخفيف اتجاهاتها “غير المرغوبة” على الأقلّ، في ما يتّصل بمتعلّقات السياسة الخارجيّة. وفي واقعٍ لا تبدو مَعَهُ الشعوبُ الأوروبيّةُ على اطلاعٍ وافٍ أحياناً على مجريات السياسة الخارجيّة لحكوماتها، بما يعتورها من ملابسات أو يترتّب عليها من أبعاد؛ لا يُنتَظَر أن يكون مسلمو أوروبا استثناءً مميّزاً من ذلك. ولكنّ الاهتمام النسبيّ للوجود المسلم في أوروبا ببعض ملفّات السياسة الخارجيّة، خاصّةً ما يتعلّق بالقضايا الساخنة والملحّة للعالم الإسلامي؛ لا يجعل موجِّهي السياسات بمعزلٍ عن الحرص على استمالة هذا الاهتمام أو جعله أكثر تساوقاً مع الاتجاهات المرغوبة تحاشياً لتعارض التأثيرات في بعض مسارات السياسة الخارجيّة المثيرة للجدل. ومن الواضح أنّ الحكومات تجد في أيديها “أوراقاً” جدِّيّة للتأثير أو حتى الضغط، ليس أقلّها استبعاد طرف ما في ساحة المسلمين من الاهتمام في التواصل، بل وتوفّر إمكانيّة تهميشه إلى أقصى ساحة تمثيل المسلمين، والتي تبقى ساحةً غير مستقرة وقابلة لبعض التبدّلات النسبية في الأدوار وتوازنات الفاعلين داخلها. إلاّ أنّ ذلك كلّه يبقى له تأثيرٌ رادِعٌ وحسب، يجعل أداءَ الأطراف المسلمة وخطابها واتجاهات مواقفها ومدى الجدِّيّة أو حتى الحدّة في تلك المواقف، محكومةً بحسابات مُسبَقَة، وتوازناتٍ، قد تنتهي بها إلى تكييف الخطاب والمواقف مع الاتجاهات السائدة، أو إضعاف حضور بعض الجوانب أو النقاط في خطابها المتعلِّق ببعض السياسات، وليست السياسات الخارجيّة سوى أكثرها حدّة في الغالب.

وقد تبدو هذه المفارقةُ أحياناً بوصفها تعبيراً واقعيّاً عن اختلال التوازن بين الأغلبيّة والأقلِّيّة. فالمسلمون في ملفٍ ما يَكتَرثون به على نحو خاصّ؛ قد يجدون أنفسَهم إزاء أغلبيّة صامتة أو غير مُدرِكةٍ لبعض أبعاد هذا الملف تاركة شأن التصرّف فيه للطبقة السياسية ذات الصِّلة (وزير الخارجية ومساعدوه والمؤسسات التي تعمل على توجيه السياسات الخارجيّة أو التأثير عليها). ومن هنا؛ وَجَبَت الإشارة إلى أنّ الخيار الذي لا غنى عنه لمسلمي أوروبا في الشأن السياسيّ، كما يتضح في مثل هذه الحالات أيضاً؛ هو خيارُ بناء التحالفات والشراكات، والسعي لإنضاج حالة من الاصطفاف المجتمعيّ والسياسيّ حول شتى المسائل والاهتمامات ذات العلاقة، ووضع مواقف المسلمين قَدْرَ الممكن ضمن النسيج المجتمعيّ والسياسيّ المتشابك، لا عزله عنه. ولكنّ ذلك لا يمثِّل خياراً متيسِّراً، بل يقتضي بذلَ الجهود الحثيثة والتراكميّة والكفؤة قالباً ومضموناً، وهو ما يأتي على أيِّ حال في صميم فعل المشاركة السياسية التي لن تحقِّق جدواها على نحو هَيِّن أو تلقائيّ.

ولا بدّ في سياق التطرّق إلى مسائل السياسة الخارجيّة من ملاحظة أنّ منسوب الأهمِّيّة لتفاعل مسلمي أوروبا مع هذه السياسات قد يتفاوت باعتبار المكان والزمان. فالسياساتُ الخارجيّةُ للبلدان الأوروبيّة ذات الوزن الدولي الأبرز (وهي هنا بريطانيا وفرنسا وألمانيا أساساً)، وهي قليلةٌ بالنظر إلى المجموع الأوروبيّ العام؛ تبدو أهم وأكثر فاعلية من نظيرتها الخاصة بدول تلي ذلك التصنيف في تراتبيّتها، والتي تتبايَنُ في ما بينها في أهمِّيّة سياستها الخارجيّة. إذ تبدو الدولُ الأبرزُ ممسكةً بزمام السياسة الخارجيّة لأوروبا الموحّدة ككلّ، وطرفاً مباشراً أحياناً أو غير مباشر في كثير من الملفّات والأزمات السياسيّة حول العالم. ومع ذلك؛ فلا ينبغي التقليلُ بحالٍ من أهمِّيّة العناية بالسياسات الخارجيّة للدول الأخرى، خاصة وأنها قد تكون نقاطَ توازنٍ أحياناً في بعض مجالات السياسة الدوليّة، كما أنّ منها دولاً تكتسبُ سياساتها الخارجيّة طابعَ الحياد أو الحياد النسبيّ، مثل سويسرا والنمسا والسويد وفنلندا وأيرلندا، بما يمنحها وزناً خاصاً في حل النزاعات والتعاطي الإيجابي مع الصراعات في بؤر العالم الملتهبة، أو يتيح لها فرصاً لإنعاش جهود التواصل والحوار والوساطة. أما من الناحية الزمانيّة؛ فإنّ إيلاء الاهتمام للسياسات الخارجيّة يتزايَدُ أو يتضاءل بالنظر لجملةٍ من المتغيِّرات والمستجدّات والتطوّرات، كزمن الحروب مثلاً. ولذا؛ فإنّ ما يُقْبَل غضُّ الطرف عنه في وقتٍ ما؛ قد لا يبدو مسوّغاً في غيره، خاصة في ظل المنعطفات التاريخيّة والمحطّات التي تنفتحُ على مآلاتٍ جسيمة.

مسلمو أوروبا والتفاعل مع السياسات الخارجيّة .. نحو مشاركةٍ أكثر عمقاً:

لا ينبغي أن يقتصر التفاعل مع السياسات الخارجيّة للدول الأوروبيّة على خطوةٍ في هذا الملف أو أخرى في غيره، إذ يتوجّب إضافة إلى ذلك؛ الالتفات إلى أهمِّيّةِ التأثير على الخلفيّات التي تَصدُرُ عنها الخطواتُ السياسيّة في الملف المعنيّ أو غيره، بحيث لا يجري التوقُّفُ عند حدود “التكتيك السياسيّ” بل التعاطي ضمن “فضاء التوجّهات الاستراتيجيّة”.

ثم إنّ أحد الجوانب التي تتطلّب قدراً من العناية لمن يروم التأثير على السياسات الخارجيّة؛ هو جانب التقاليد والمعايير التي تخضع لها السياسات الخارجيّة، وتَصدُرُ عنها المواقفُ وتتكيّفُ معها الخطوات المتّخذة. ولا جدالَ في أنّ تعديلَ بعض تلك التقاليد وتحوير بعض المعايير المتّبعة، مما لا يكون مكتوباً أو منصوصاً عليه في العادة؛ لا يبدو بالأمر اليسير، فهي أقربُ إلى الثبات منها إلى الحراك، لكنّ تعديلَها كان لا بدّ منه لتصحيح بعض جوانب السياسات الدوليّة في ما سبق ومعالجة جوانب خَلَلٍ متفاقمةٍ. هكذا أمكن مثلاً طيُّ صفحة الاستعمار التقليدي في أواسط القرن العشرين[162]، كما أُتيح عزلُ نظام “الأبارتهيد” (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا وفرض عقوباتٍ عليه وصولاً إلى سقوطه، ولم يكن خافياً أنّ هذه التحوّلات تطلّبت مراجعاتٍ في ثنايا التقاليد والمعايير السائدة في السياسات الخارجية للدول، وبخاصة في أوروبا، ولا شكّ أنّ نشوءَ رأي عام جارفٍ مواكبٍ لتفاقم الأزمات المرتبطة بكل ملف منها وتَبَلْوُرَ حالةٍ من الرَّفْضِ أو حتى المقاومة في المناطق المتضرِّرة؛ كلّ ذلك وفّر ظروفاً استدعت المراجعة، وأظهرت أنّ الكلفة اللازمة للاستمرار في تحقيق مصالح ما مُفتَرَضة باتت باهظةً وبما يفوق الجدوى المصلحيّة المنشودة.

بل تستنتج مونيك شومييه ـ جاندرو ( GendreauـMonique Chemillier )، الأستاذة في جامعة باريس السابعة “دني ديدرو”، أنّ “الشعب الفيتنامي والشعب الجزائري وشعوب أفريقيا (التي وقَعت) تحت الاستعمار البرتغاليّ؛ لم تربح حروبها ضد الغرب بموجب ميزان قوى مادِّيّة، بل على العكس ربحتها بقوّة الفكرة، فكرة التحرّر وبروز تغيير في المعيار القانونيّ مع تأكيد مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا ما أنهى شرعيةَ الاستعمار المعتَرَفِ به حتى ذلك التاريخ”[163].

وهكذا؛ يجدر التوجّه للإسهام في معالجة بعض الاختلالات الماثلة في جوانب متفرِّقة من السياسة الخارجيّة للدول الأوروبيّة. ومن ذلك ما يتعلّق بقضية فلسطين المزمنة والتي تُعدّ أوروبا طرفاً مباشراً في نشوئها واستمرارها. ومنها ما يتّصل بمواقف أوروبا من سياسات الحصار والعقوبات الاقتصادية و”التجويع” ضد بلد أو آخر، والتي تُعتَمَدُ أحياناً رغم ما تخلِّفه من انعكاسات سلبيّة على المدنيِّين بمقاييس كارثيّة أحياناً. كما تلحقُ بذلك المآخذُ على السياسات الخارجيّة لبعض الدول الأوروبية في ملفّات بعينها، والانتقادات الموجّهة إليها، كالقول بانطوائها على “معايير مزدوجة” في مسائل عدّة. ومن المجالات الأخرى ما يتّصل بمراعاة حقوق الإنسان في السياسة الخارجيّة، أو من قبيل بعض مكامن القصور في السياسات الاقتصاديّة ذات الانعكاسات الخارجيّة السلبيّة[164]. إنّ هذه المجالات وغيرَها مما يوجِّه الاهتمامَ إلى الحاجة الماسّة لإعادة النظر في التقاليد والمعايير التي تَصدُرُ عنها السياساتُ وتتماشى معها، خاصة مع أهمية ترشيد الحضور الأوروبيّ في الساحة السياسيّة الدوليّة، اتعاظاً من دروس الماضي الأوروبي والحاضر الأمريكي.

ولا ينبغي هنا إغفال الطابع الشاقّ والمعقّد والنسبيّ وطويل الأمد، لإنجاز مهمة تغيير عناصر راسخة في التقاليد والمعايير السائدة في ساحة السياسات الخارجيّة للدول الأوروبية. كما لا يجوزُ بالمقابل إغفالُ أهمِّيّة السعي إلى تحقيق مكتسبات جزئيّةٍ مؤقتة ضمن مواقف أو خطوات مهما بدت عرضيّة، بمعنى أنّ المطروح في ساحة المشاركة السياسية ليس التغيير الجذريّ الذي يقوم على منطق “إما ـ أو”، وإنما على أساسٍ من تفاعل مستمر وواعٍ ضمن الساحة الأوروبيّة العامّة. فما تجدُر مراعاتُه أيضاً؛ هي أهمِّيّة وضعِ التوجّهات والمطالب في سياقاتها الملائمة، وهو اشتراطٌ واقعيٌّ لا غنى عنه للسعي لتحقيق مكتسبات أو ممارسة التأثير من أي طرف كان في الساحة الأوروبيّة.

مراعاة الأولويات وإدراك التباينات في البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها:

إنّ تفاعل المسلمين مع السياسات الخارجية أمرٌ إيجابيّ ومرغوبٌ، ويُفترض أن ينمّ عن وَعي يقتضي الترشيد المستمر كي يكون بنّاءً ومنسجماً مع حضور مجتمعيّ فاعل. إذ ينبغي أن يجري ذلك بشكل واعٍ يستصحب أولوّياتٍ الوجود المسلم في أوروبا واحتياجاته ومتطلّباته العديدة، والتي يُفتَرَضُ أنها لا تتناقض مع التعاطي الرشيد مع السياسات الخارجيّة من حيث المبدأ.

ولكنّ الأمر لا يبدو على هذا القَدْرِ من البساطة كما يتوهّم المرءُ، ذلك أنّ الخطوطَ الفاصلة بين مدى التفاعل “المنشود” ونظيره “غير المحبّذ” مع السياسات الخارجية، ليست واضحةً في كثير من الأذهان بعدُ، وقد لا تتضح بسهولة، والأهم أنّ هناك تفاوتاً ملموساً بشأنها بالمقارنة بين واقع المسلمين في بلد أوروبي ما وواقعهم في غيره، بل وضمن نطاق الوجودِ المسلم في البلد أو الإقليم الواحد أيضاً.

ومن المستَبعَد أن يُحسَمَ الجدلُ الداخليّ في بعض الأوساط المسلمة بهذا الشأن. إذ يكفي مثلاً أن يُلاحِظَ المرءُ موقفَ المؤسّسات الإسلامية في بلدٍ كألمانيا[165] بالمقارنة مع نظيرتها في بريطانيا[166]، في ما يتعلّق بالتعاطي مع السياسة الخارجيّة.

وما يقتضي الدرسَ والتقصِّي عنه هنا؛ هي احتمالات وجود ظروفٍ ضاغطة في الواقع المحلِّيّ الألمانيّ على الأقلِّيّة المسلمة تدفعُها إلى كَبْتِ صوتها وتضييق حضورِها وانكماشها على الذات، وهو ما يثير التساؤلَ عن المدى الذي يمكُن للمسلمين أن يتسامحوا معه عن هذه الحالة المُفترَضة.

ومن جانبٍ آخر؛ فإنّ الخبرةَ التاريخية البريطانيّة في “الانفتاح” على العالم والتعاطي مع الشأن الدوليّ من موقع “الدولة العظمى”، والتواصل الحيوي نسبياً لمسلمي بريطانيا مع العالم الإسلامي وقياداته الشعبية وحركاته الإصلاحية والتحرّرية؛ ربما كان لها مفعولها في ساحةِ مسلمي بريطانيا الذين بقوا في منأى عن النزعة الانعزالية عن “الأمة الإسلامية وقضاياها”.

لقد بات المسلمون في ألمانيا يواجِهون في الإعلام والسياسة، وباستمرار، ضغوطاً متزايدة تمنح الانطباع وكأنّ المطلوب هو “البرهنة على الولاء” وفق الطريقة التي يختارُها السياسيّون (المحافظون في الغالب)، أو التي تحدِّدها السلطات الملحَقَة بوزارة الداخليّة والتي تحمل اسم “هيئة حماية الدستور” (Verfassungsschutz)، التي تُصدِر سنوياً تقارير تُفَصِّلُ فيها القول عمّن هو “جيِّد” بالنسبة للدولة والمجتمع، ومن “ليس كذلك”، وفق معايير مُتّهَمة بالإجحاف ومستعصية على المراجعة. ومن الواضح أنّ ملابساتٍ كهذه لم تكن حتى وقت قريب واردةً بهذا الشكل في البيئة البريطانيّة، التي لا تُتَخَيّل فيها إمكانيّةُ إغلاق مدارس مسلمة عريقة كما جرى في ألمانيا مثلاً في السنوات الأخيرة، وإن أخذت البيئة السياسية البريطانية تشهد مؤشرات على تحوّلات مُفترَضة في كيفية التعامل مع الوجود المسلم، اتضحت مثلاً في حزمة قوانين “مكافحة الإرهاب” وإجراءاتها، وعبر بعض المواقف والتصريحات الصادرة عن المستوى السياسي، كما تضمّنها الجدل العام بشأن النقاب الذي جرى في النصف الثاني من 2006.

ولتوضيح بعض الفوارق في المناخات السياسيّة والمجتمعيّة بين بلد أوروبي وآخر؛ يُلاحَظ أنّ مسلمي بريطانيا عندما انخرطوا في السنوات الأخيرة بقوّة في مظاهرات معارِضةٍ للحرب على العراق ومندِّدة بمجازر الاحتلال في فلسطين ومدافعة عن “حق الحجاب”؛ لم يتمكّن مسلمو فرنسا من تحريك أكثر من مسيرات وُصفت بأنها “خَجولة” ومحدودة دفاعاً عن حق التلميذات المسلمات في الزيّ في البلد ذاته الذي ارتبط بالقضية، أما مسلمو ألمانيا فلم يتمكّنوا من تنظيم أية فعاليات تنديدية تُذكر حتى بإغلاق مدرستين أو امتهان العديد من مساجدهم من قبل قوات الأمن، وسط ما يُشبه حالةً من الصمت العام في الوسط المسلم حتى عن إصدار المواقف والتصريحات، بل كان مسلمو ألمانيا يُواجَهون فوق ذلك بمطالَبات من بعض السياسيين والشخصيات العامة بضرورة النزول إلى الشوارع للتظاهر ضد “الإرهاب الذي يجري باسم الإسلام”[167]. ويعلِّق السياسي الألماني المتحدر من أصل تركي، مِهْمِت دايماغولر (Mehmet Daimagüler)، عضو المجلس الرئاسي للحزب الديمقراطي الحر الألماني (الليبرالي) (FDP) على ذلك بالقول “الآن نتحمّل عواقب إجرام الآخرين. وماذا علينا أن نفعل! إذا كانت مظاهرات الشموع المضيئة قد تُفيد؛ فإننا مستعدون كلّ الاستعداد لذلك. ولكن سوف يكون ذلك بأحاسيس غريبة، لأننا سنتنَصّل مِنْ أُناس لم تكن بيننا وبينهم صِلَة البتة. وهل لي أن أقارن نفسي بمصري أو مغربي قتل النساء والأطفال في مدريد لأنه مسلم مثلي؟”[168].

وبشكل عام يمكن ملاحظة أنه في كلّ بيئةٍ من هذه البيئات تقريباً؛ كان هناك جدلٌ داخليّ في أوساط المسلمين، تحذيراً من “الاندفاع” و”التهوّر” تارةً، أو “الركون” و”التقاعس” تارةً أخرى. ولكن قد تكفي هذه الشواهد لملاحظةِ الهوامش المتبايِنة للمشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، من بيئةٍ أوروبيّة إلى أخرى. وسيكون من مسؤوليّات هذه المشاركة؛ توسيع الهوامش وضمان الفرص المتكافئة لجميع المكوِّنات المجتمعيّة في الحضور الواثق بالذات والتفاعل المتبادل.

وبالوسع أيضاً الإشارة إلى الحالة اليونانيّة لتوضيح المدى الذي يمكن أن تكتسبه مسألة المشاركة السياسيّة للمسلمين من تبايُنٍ جَليّ في الخصوصيّات بين بلدٍ أوروبيّ وآخر، بالنظر لبعض الملابسات التي تكتنفها. إذ يَفرِضُ الجانب التاريخيّ في العلاقة مع الوجود المسلم في البلاد (مسلمو تراقيا الغربية أساساً) حضورَه على مسألةِ مشاركة المسلمين في الساحة السياسيّة، مع حساسيّة ملحوظة من حضور “العامل التركي” الشائك في هذا الملف. ويَتْرُكُ هذا العاملُ انعكاساتٍ بالفعل في مجالات شتى. فمثلاً؛ عندما أصدرت الحكومة اليونانية في العام 2000 قراراً يقضي بحذف الإشارة إلى الانتماء الدينيّ في البطاقات الشخصيّة ورفعت رسمياً القيدَ عن انضمام المسلمين إلى الهيئات الأمنيّة والقوات المسلّحة؛ تضمّنت ردودُ الأفعال التي أعقبت إلغاءَ هذه العقبات ذات الأثر التمييزي؛ الإعراب عن القلق من مغبّة “استغلال” تركيا لمسلمي اليونان في اختراق أجهزة الجيش والمؤسسات الأمنيّة، وهو ما يتساوق مع شعارات “الطابور الخامس” التقليدية[169]. وما هو مؤكّدٌ على أيّ حال أنّ ذلك القرار الرسمي لا يعني زوالَ القيود الفعليّة والعقبات العمليّة التي تحولُ دون التحاق مسلمي اليونان بقطاعات الجيش والأمن، خاصة مع إمكانية التقصِّي بوسائل شتى عن الانتماء الديني للراغبين في الالتحاق بهما.


 

الفصل الثامن:

كيف تكون المشاركة؟

بحثاً عن مداخل لتطوير
تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا

 

 

  • عن مفهوم المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا
  • المشاركةُ السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ في مقاصدها العامة
  • المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ أهدافها المباشرة
  • المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ وسائلها وأدواتها
  • مسؤوليات ووظائف مترتبة على أطراف المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا
  • من متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته
  • الموازنة بين المكتسبات الرمزية والتقدم الفعلي في ساحة المشاركة السياسية
  • المبادرة إلى الفعل واستباق التطوّرات .. بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال
  • نحو حضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية
  • تهيئة الرأي العام وتكييف الخطاب والممارسة
  • عن التنازلات في سياقات المشاركة ـ الهوامش والحدود ودور الخطاب السياسي


 

عن مفهوم المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا:

يُقصد بالمشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا، ما يُبتغَى منه تحقيقُ تفاعلِهم الإيجابيّ المثمر مع الساحة السياسيّة، بشتى الأشكال الممكنة، بالصورة التي تتوافق مع خصوصيّات الساحة الأوروبيّة وتستهدي أيضاً بالتوجيهات الإسلاميّة.

إنّ تعبير “الرشيدة”؛ إنما يُراد منه تمييز المشاركة السياسيّة المنشودة من جانب مسلمي أوروبا، عن أيّة صور أو أشكالٍ من المشاركة مما قد لا يتوافق مع المقاصد العامة المثلى، أو مما يُهمِل الأهداف العامة أو المباشرة التي ينبغي مراعاتها، أو حتى مما لا يعتمد الوسائل والأدوات المقبولة. بل إنها تكون أكثر تحرياً لتلك المقاصد والأهداف، وأمضى في استعمالها للوسائل والأدوات المقبولة والناجعة والقادرة على التأثير.

المشاركةُ السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ في مقاصدها العامة:

تتمثّل المقاصدُ العامة للمشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا في الإسهام الحسن في التأثير الإيجابي على السياسات وصناعة القرارات في شتى مستوياتها الممكنة، انطلاقاً من حقوق المواطنة وواجباتها، وأخذاً بعين الاعتبار الثقافة والتقاليد السائدة في الساحات السياسيّة الأوروبية، وتمثّلاً لقيم الإسلام والصدور عنها، مع السعي للتعبير عن التوجّهات الإسلامية التي فيها الصالح العام.

وتسعى هذه المشاركةُ إلى حماية الوجود المسلم في أوروبا والحفاظ على حقوقه وحريّاته، ورعاية مكتسباته وتثميرها، وتعزيز فرصه وتطوير إمكاناته، مع التعبير الناضج عن تصوّرات الوجود المسلم واحتياجاته ومطالبه بطريقة بنّاءة وتفاعلية، وبما يتساوق مع خصوصيّات البيئات السياسيّة الأوروبيّة.

وعلى هذه المشاركة أن تتوجّه للإسهام في خدمة الصالح العام للمجتمعات الأوروبية، سواء للمسلمين أو لغير المسلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار المسؤوليّات والواجبات المنتَظَرة في هذا الجانب لصالح الوجود المسلم على نحو خاص. وتضع هذه المشاركةُ نصب عينيها تعزيزَ الحضور الإيجابيّ للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبيّة وتفاعلهم مع الشأن العام فيها، وتحاشي الانزلاق إلى أية عوارض من العزلة والهامشيّة أو الإقصاء والتجاهل، مع تدعيم قيم الوفاق والحوار والسلم المجتمعي، ومكافحة آفات الشقاق ونزعات الخصام.

وترنو هذه المشاركة من جانب المسلمين إلى شقِّ قنواتِ الحوار وتفعيل خطوط التواصل والتعاون في الساحة الأوروبيّة العامة، بما في ذلك مع الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة، مع توفير الأجواء المساعدة على المشاركة المجتمعيّة الرشيدة للمسلمين وتعزيزها في شتى المجالات. أي يمكنُ القول إنّ المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا؛ هي تجسيدٌ بليغ للمواطنة الصالحة في المجتمعات الأوروبيّة، بما يترتب عليها من أدوار ينبغي النهوض بها في شتى المجالات، ومن بينها المجال السياسي بمستوياته المتعددة، وبما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية.

المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ أهدافها المباشرة:

1/ التأثير الإيجابي في صناعة القرار السياسي، تشريعيّاً وتنفيديّاً، مع التوجّه إلى تعزيز كفّة الأطراف المعتدلة في الحياة السياسيّة الأوروبيّة، واحتواء أية مواقف سلبيّة أو ميول متطرفة قد تظهر فيها.

2/ حماية الوجود المسلم، بما في ذلك الشأن الدينيّ الإسلاميّ، من أية تجاوزات قد تستهدفه أو أية انتهاكات قد تقع عليه، مع قطع الطريق على عوارض الإقصاء والتهميش، وحالات التفرقة والميز، مع السعي لتعزيز تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد.

3/ التحسين المستمر للحضور العام الإيجابيّ للمسلمين في الفضاء المجتمعيّ وفي تعاطى المستوى السياسي معه، بكلّ ما يتطلّبه ذلك من جهود ومساعٍ. ويلحق بذلك توفّرُ أجواءٍ مشجِّعَة للمسلمين للتعبير عن تصوّراتهم وآرائهم ومواقفهم في الرأي العام.

4/ رعاية مصالح الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، وبالصورة التي تتمتع بالمسؤوليّة وتتماشى أيضاً مع المقاصد والتوجيهات الإسلامية ذات الصلة، وبما يعزِّز في الوقت ذاته الصالح العام للمجتمعات الأوروبيّة، ويدعم السلم المجتمعيّ ويتقدم بحالة التعايش والتفاهم المتبادل داخلها.

5/ العناية بالجانب المطلبيّ لمسلمي أوروبا، وإنضاجه، أخذاً بعين الاعتبار مجمل الحقوق الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المقرّرة، مع السعي لكسب تفهّم الفضاء المجتمعيّ والأطراف السياسيّة لما يترتب على هذا الجانب.

6/ التعبير عن تصوّرات المسلمين ومواقفهم من مجمل الشؤون العامة والسياسات في الواقع الأوروبي، ومن ما يتعلق بالمسلمين أو الشأن الإسلامي وقضاياه منها على نحو أخصّ.

7/ العمل على ضمان تحقّق كافة الأطر والأنظمة القانونيّة والسياسيّة والإجرائيّة التي تكفل حالةً مُثلى من تنظيم العلاقة مع الجماعة المسلمة في بلدان أوروبا على الأصعدة القطريّة والمحلِّيّة، علاوة على الأصعدة فوق القطريّة والأوروبيّة العامة.

8/ تنوير عموم المسلمين في أوروبا بحقوقهم وواجباتهم، وبمكتسباتهم ومسؤوليّاتهم، ضمن مجمل الواقع العام في مجتمعاتهم الأوروبيّة، بما يعزِّز وعيَهم السياسي ويطوِّر من قابليّاتهم لحضور سياسيّ ومجتمعيّ فاعل ورشيد.

9/ إيجاد قنوات كفؤة للتواصل بين الساحة السياسية في أوروبا بشتى مستوياتها؛ والأقليات المسلمة الأوروبية، ولا شكّ أنّ المشاركة السياسيّة الرشيدة بوسعها أن توفِّر قنواتٍ كهذه مما لا يُستغنى عنه في مجتمع تعدّدي.

المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ وسائلها وأدواتها:

إنّ الضابط الأساس الذي يجعل من وسائل أو أدوات ما، في حقل المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، مقبولة؛ هو ضرورةُ تقيّدها بالمعايير والتوجيهات الإسلامية والقانونيّة والأخلاقية والأدبية ذات الصلة. وغنيّ عن القول في هذا المجال؛ أنّ الغاية لا يمكن أن تبرِّر الوسيلة، وهو ما ينبغي التشديدُ عليه في الحقل السياسيّ على نحو خاص، بالنظر إلى ما قد يخالطه من شبهاتٍ أو يعتوره من محظوراتٍ ينبغي التنبّه لها.

وإجمالاً؛ يمكن سرد الوسائل والأدوات التاليّة للمشاركة السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المشاركةَ الرشيدة في الساحة السياسية تقتضي أيضاً تنويع الوسائل والأدوات بما يحقق المقاصد العامة ويراعي الأهداف المباشرة المنشود تحقيقها:

1/ التحاق المسلمين بالساحة السياسية، عبر بروز سياسيِّين مسلمين، أو التحاق المسلمين بالأحزاب والقوى السياسيّة القائمة في الساحة الأوروبية.

2/ تشكيل الأطر المعبِّرة عن حضور المسلمين في الساحة السياسية، سواء أكانت تلك الأطر سياسيّة الطابع بشكل صرف (أحزاب أو قوائم مثلاً)، أم ذات تأثير ما في الساحة السياسية (منظمات غير حكومية مثلاً أو مبادرات شعبية ولجان عمل).

3/ المشاركة في العملية الانتخابية، عبر شتى حلقاتها، تصويتاً، أو ترشّحاً، أو تعبئة للناخبين وحشداً للأصوات، أو دعماً للمرشّحين، أو تواصُلاً معهم، أو ما سوى ذلك. وبالمقابل؛ فإنّ الإحجام عن المشاركة في العملية الانتخابيّة بصورة واعية لذلك؛ إنما تمثِّل بحدِّ ذاتها صورةً من صور المشاركة الضمنيّة في الفعل السياسي، عبر إرادة المقاطعة الانتخابيّة، أو حجب الأصوات مثلاً، أو التعبير عن رسالةِ تنديدٍ صامتة، أو غير ذلك.

4/ تنظيم النشاطات والفعاليّات الجماهيريّة التي تحمل رسائل عامة أو محدّدة للمستويات السياسيّة، كالمظاهرات، والاعتصامات، والتحركات المطلبيّة، وإعداد العرائض وحملات التوقيع، واقتراح سنّ قوانين أو اتخاذ إجراءات، والمطالبة بإجراء استفتاءات، وغير ذلك.

5/ بناء التحالفات مع القوى السياسيّة أو المنظمات غير الحكوميّة أو حتى الشخصيات العامة، بما يُرجَى معه زيادةُ القدرة على التواصل أو التأثير أو الضغط في المجال السياسي. وبالمقابل؛ فإنّ الإحجام عن الاستجابة لنداءات بعض الأطراف في الساحة السياسيّة أو المجتمعيّة للتعاون والتنسيق أو التحالف؛ إنما قد يعبِّر أحياناً عن إرادة سياسية، بما يمثل أحياناً ضرباً من ضروب المشاركة السياسية (السلبيّة).

6/ بلورة أطر أو هياكل أو تجمّعات معبِّرة عن اهتمامات المسلمين بشأن المشاركة في العمل السياسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وغالباً ما تكونُ هذه الأُطُر بمثابة مقدِّمات ذات تأثير على صعيد الفعل السياسيّ، بحكم المفعول التراكميّ للتنسيق أو التحالف أو العمل الجبهوي.

7/ التوعية العامة لجمهور المسلمين بمتعلقات العمل السياسي، كأهمية التصويت في الانتخابات، وكنشر المعلومات التوضيحيّة عن برامج الأحزاب ومواقفها من مسائل بعينها، وكذلك تهيئة الجمهور المسلم لممارسة العملية الديمقراطيّة. كما تدخل في ذلك التوعيةُ العامة بالحقوق والواجبات، وبنشر الوعي القانونيّ والحقوقيّ، وما إلى ذلك.

8/ تنظيم اللقاءات التي تجمع السياسيِّين بالجمهور، أو بممثِّليه، والتي تشكل بحدِّ ذاتها أداةً هامة من أدوات التواصل المتبادل، ومحاولة المرشّحين استمالة الناخبين، أو محاولة تأثير الجمهور على السياسيّ وحزبه، فضلاً عن أية مضامين أخرى للتواصل قد تتحقّق، مثلاً من قبيل تعبير السياسيّ عن بعض المواقف (تضامن، مواساة، .. إلخ)، أو غير ذلك.

9/ حضور الفعاليات والنشاطات السياسيّة، كجلسات البرلمان، والمؤتمرات الحزبيّة، والندوات والمحاضرات والتجمّعات التي تنظمها القوى السياسية أو تلك المتفاعلة مع الشأن السياسي، وما إلى ذلك.

10/ تمويل النشاطات السياسيّة والانتخابيّة، أو ما يتصل بها، بالشكل الذي يتوافق مع القانون ولا يخرج عليه، وبما لا يمثِّل أيضاً انتهاكاً للقيم والتوجيهات الإسلامية والأخلاقيّة والأدبية ذات الصِّلة، وبما يحقِّق الصالح العام إجمالاً.

11/ الإعلام السياسي، بما يتيح التعبير عن الرؤى والتصورات والمطالب والمواقف وما إلى ذلك، بالطريقة الفاعلة والناجعة.

12/ إصدار التقارير والمذكرات وتحرير الرسائل، وإعداد البحوث والدراسات، وعقد المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش وورش العمل، بما يفضي إلى إنضاج التصوّرات ومدارسة الخيارات.

13/ إقامة المؤسسات المتخصِّصة في المتابعات السياسيّة بشتى متعلقاتها، كمؤسسات التفكير السياسيّ، ومراكز البحوث والدراسات والتخطيط، وأطر التواصل مع المستوى السياسي، وغير ذلك.

مسؤوليات ووظائف مترتبة على أطراف المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا:

تتضمّن المسؤوليّات المترتِّبة على المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، جملةً من الأدوار والوظائف، التي بنبغي أن يقوم بها، على نحو إجمالي، من يُفترَض أنهم يُعَبِّرون عن تلكَ المشاركة أو يجسِّدونها، كلّ في نطاقه. أي ينبغي أن تنهض بهذه الأدوار والوظائف، على نحو إجمالي وتكاملي؛ مجملُ الأطراف المسلمة ذات الصلة بالمشاركة السياسيّة.

وتشتمل هذه المسؤوليات على وظائف ضمن المستوى التشريعيّ، كمراقبة مشروعات القوانين والتعاطي معها والإدلاء بمواقف بشأنها، مع منح الأولويّة لما يتعلّق بمصالح المسلمين وشؤونهم واهتماماتهم، ودون إغفال مجمل المسائل العامة الأخرى.

وهناك وظائف ضمن المستوى التنفيذيّ، تقضي مثلاً بمراقبة تنفيذ القوانين واتخاذ الإجراءات ومسار السياسات وكيفية تنزيلها على أرض الواقع. كما تشتمل هذه المسؤوليات على وظائف ضمن المستوى التواصليّ، مثل المهام الإعلامية، بالتعبير عن تطلّعات المسلمين واهتماماتهم ومصالحهم في الرأي العام، وخاصة إزاء الساحة السياسيّة، والسعي المستمرّ للتأثير بما ينسجم مع ذلك من خلال التواصل الإعلاميّ. والتواصل الجماهيريّ، بما في ذلك جهود التوعية والإقناع والحشد والتعبئة، علاوة على تشجيع التواصل بين القطاعات والمؤسسات والنُّخَب وفئات الجمهور المسلم، وتشجيع التواصل بين المسلمين وغير المسلمين، وتشجيع التواصل بين المسلمين والأطراف السياسيّة والمجتمعيّة. ويقتضي الأمرُ أيضاً النهوض بواقع الإعلام السياسيّ للمسلمين وترشيده، وهو ما يتعلّق أساساً بالمواقف والبيانات والتصريحات والإصدارات ذات الصلة بالشأن السياسي وتطوّراته.

وضمن المسؤوليات المترتبة على المشاركة السياسية؛ ثمة وظائف ضمن المستوى التحفيزيّ، تقتضي، مثلاً، تحفيز كافة قطاعات الجمهور المسلم في النطاقات المعنية على الإسهام في المشاركة السياسية والمجتمعية، دون إغفال النساء والشباب وحتى الفئات ذات الاحتياجات الخاصة.

في ما أنّ هناك وظائف ضمن المستوى التوجيهيّ أو الإرشاديّ، وهذه تشتملُ على تنظيم الصوت المسلم وتوجيهه بما يحقِّق أقصى جدوى ممكنة وبما يتّفق مع التوجيهات والضوابط ذات الصِّلَة، وكسب قادة الرأي والقيادات المحلية والمجتمعيّة في صفوف المسلمين للتوجّهات الرشيدة في ما يتعلق بالمشاركة السياسيّة والمجتمعيّة. كما يتضمّن ذلك توعية الجمهور المسلم بحقوقه وواجباته، وبمصالحه ومكتسباته، وبما يترتب على ذلك من مسؤوليّات عامة على الفرد والجماعة. وفي هذا السياق أيضاً؛ هناك متطلّباتٌ تتعلّق بالتأهيل السياسيّ العام للجمهور المسلم، والتأهيل النوعيّ التراكميّ للمسلمين المعنيِّين مباشرة، أو حتى بشكل غير مباشر؛ بالشأن السياسيّ. ويلحق بذلك؛ السعي لكسب تفهّم عموم الجمهور في البلدان الأوروبيّة، وعلى المستوى الأوروبيّ العام، لحقوق المسلمين ومصالحهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولدورهم العام في المجتمع والسياسة، علاوة على التوجّه لإحراز قبول الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة بهذه الأبعاد قَدْر الممكن.

كما أنّ هناك وظائف ضمن مستوى القيادة السياسيّة والمجتمعيّة، تقضي ببَلْوَرَة مطالب وصياغة أهداف ووضع مقترحات. كما تقضي مسؤوليّات القيادة السياسيّة والمجتمعيّة؛ بالتعرّف على القواسم المشتركة التي تجمع قطاعاتِ الجمهور المسلم، ومحاولة توسيع هوامشها، وتدعيمها، والاستناد إليها قَدْر الممكن في الأداء السياسيّ. أي أنّ الأداءَ السياسيّ ينبغي أن يحرص على تجميع المسلمين لا تفريقهم، وأن يعزِّز وَحْدَتهم وتواصُلَهم ما أمكَنه ذلك، متحاشياً التشرذم والفرقة.

ويمكن تحديدُ وظائف أخرى مترتبة على مسؤوليات المشاركة السياسية للمسلمين، منها، مثلاً، على نحو تفصيلي، وظيفة استفادة المسلمين من المخصّصات المالية والصناديق العامة وبرامج الدعم الرسميّ في شتى الحقول، وهنا يُفتَرَض بالمشاركة السياسيّة للمسلمين أن تنهض بدور إرشاديّ للمسلمين، مؤسساتٍ وأفراداً، بأهمية تحصيل المخصّصات العامة وموارد الدعم وكيفية ذلك أسوة بشركاء المجتمع العريض، وأن تتولّى أطراف المشاركة السياسيّة للمسلمين، الاضطلاع بدور توجيهيّ للمستوى السياسي وللجهات المسؤولة بضرورة مراعاة احتياجات المسلمين وخصوصيّاتهم في المخصّصات المالية وبرامج الدعم الرسمي.

من متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته:

1/ الانبثاق عن منطلقات سليمة، واعتماد توجّهات رشيدة، وتحديد أهداف مثمرة، واختيار أنسب الوسائل وأنجعها مما لا يتعارض مع ذلك كلّه ولا يخرج عن المعايير الشرعيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، مع السعي ـ قدر المستطاع لا على سبيل الإطلاق بالضرورة[170] ـ لأن يتماشى ذلك مع الأعراف السياسيّة والمجتمعيّة السائدة.

2/ التعرّف الدقيق على احتياجات الجمهور المسلم (الشرائح المباشرة التي ينبثقُ عنها العملُ السياسيّ أو يتعاطى معها) على نحو خاص، وعلى احتياجات المجتمع العريض على نحو عام.

3/ تعبئة كافة الموارد البشريّة والماديّة الممكنة لخدمة المشاركة السياسيّة على أسس سليمة، مع الحرص على تنظيم هذه الموارد وتوزيعها وتوظيفها واستثمارها بأنجع الصور.

4/ الموازنة بين التطلّعات والاحتياجات والإمكانات، بما يتيح الفرصةَ لأداءٍ مستقرّ ومتوازن، يراعي الأولويّات، وينفتح على آفاق التطوير المستمر.

5/ إدراك واقع ساحة التحرّك السياسيّ، في شتى النطاقات والأبعاد ذات العلاقة، وهو ما لا ينبغي أن يَستَثْنيَ أيضاً واقع المسلمين في النطاق المعنيّ أيضاً وخصوصيّاتهم.

6/ المشاركة الداخليّة: فمن غير المتوقع أن تنهض تجارب فاعلة من المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، لمسلمي أوروبا، في ما لو افتَقَروا إلى فرص المشاركة والتفاعل البنّاء داخل أُطرهم ومؤسّساتهم. وتدخُلُ في ذلك على نحوٍ خاص؛ مشاركةُ المرأة، ومشاركةُ الشرائح الشابّة والأجيال الجديدة، ومشاركة المنتمين لشتى الفئات قَدْرَ الممكن، ومراعاة التنوّع الذي عليه الوجود المسلم. إنّ هذه المشاركة الداخليّة ليست مطلوبةً لذاتها وحسب؛ بل وتُعَزِّز الحاجةَ إليها ما تتيحُه لتجارب المشاركةِ السياسيّة والمجتمعيّة من قابلية أكبر على إدراك الواقع الذي تتعاطى معه أيضاً.

7/ المأسَسَة: أي التوجّه إلى إقامة المؤسّسات وتطوير ما هو قائمٌ منها، وهو توجّه يهدف إجمالاً إلى النهوض بذلك العمل الجماعيّ المُنظّم، الذي يقومُ على توزيع المهام وتحديد الصلاحيّات، من أجل تحقيق أهدافٍ محدّدة في إطار واقعٍ معيّن. ومع ذلك؛ فإنّ المأسسة لا تعني استبعادَ مجهودات الأفراد المتفرِّقين أو إهمالها، والتي يبقى لها دورٌ هام في سياق المشاركة السياسيّة للمسلمين، ولكنّ المعنيّ هو أن تنهضَ مؤسساتٌ فاعلةٌ في ساحة المشاركة تلك سياسيّاً ومجتمعيّاً.

8/ التخصّص: إنّ المنحى التخصّصي في ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعية لمسلمي أوروبا هو مطلبٌ للنهوض بالمسؤوليّات والاستجابة الواعية للتحديّات المتعاظمة على عاتق تلك المشاركة. ولا ريب في أنّ الافتقار إلى المؤسّسات والأطر المتخصّصة، والأفراد المتخصِّصين، في شتى المجالات الأساسيّة والفرعيّة؛ سينعكس بالسلب على الأداء العام الذي لن يُكافئ الاحتياجات المنتَظَرة منه. ومن المؤكد أنه لم يَعُد بالوسع تقديمُ إسهاماتٍ في المستوى اللائق، ضمن مسارات المجتمع والسياسة، من خلال هياكل مؤسسيّة أو قيادات مجتمعية ذات اهتمامات عامّة، لا يرقى أداؤها للتخصّص في ميدان واحد بشكل متميِّز.

9/ المراجعة والتقويم والتطوير على نحو مستمر، ويتطلب ذلك اعتماد آليات فاعلة لهذا الغرض، وتقويم الأداء على أسس دقيقة لا تخضع للاستئناسات والتخمينات.

10/ استقلاليّة الإرادة عن الأطراف السياسية الأخرى في الساحة: فجوهر تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ينبغي أن تكون مستقلة الإرادة ومتحرِّرة من التبعيّة وتملك قرارَها[171]، مع التعاطي الواعي مع تلك الأطراف السياسية.

11/ التواصل والتنسيق وتجسيد معادلة الوَحدة والتنوّع: وذلك بأن تكونَ المشاركةُ السياسيّةُ لمسلمي أوروبا، قائمةً في العموم على مبدأ التواصل بين مكوِّنات الأقلِّيّة المسلمة والتنسيق في ما بينها، وهو الحدّ الأدنى المعقول في هذا المجال. ويقتضي الأمرُ الحفاظَ على حالة التنوّع في نطاق المسلمين، باعتبارها من حيث المبدأ مكسباً لا عبئاً، مع التعامل الحصيف في الوقت ذاته مع أيّة انعكاسات سلبيّة تترتب على تلك التعدّدية، والحذر من أن تُفضي إلى التمزّق والتشرذم بما قد يستتبعه من تداعياتٍ سلبيّة على صعيد المشاركة السياسيّة.

الموازنة بين المكتسبات الرمزية والتقدم الفعلي في ساحة المشاركة السياسية

غنيٌّ عن القول إنّ المشاركةَ السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا معنيّةٌ بتحقيق تقدّمٍ في مجالات متعدِّدة ومسارات شتى، ومن ذلك تعزيز المكانة الأدبيّة والاعتباريّة للوجود المسلم وخصوصيّاته الدينيّة. والواقع أنّ هذا مسعى ينطوي على أهمية بالغة ودلالة رمزية فائقة كذلك، ولكنه لا ينبغي أن يتّخذ من المكتسبات ذات الطابع الرمزي مؤشِّراً تلقائيّاً على إحراز تقدّم فعليّ في واقع المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة.

ومن غير الممكن عملياً وضعُ حدودٍ فاصلة بين الخطوات الرمزيّة وتلك “العمليّة”، خاصّة وأنه من المعتاد أن يترتّب على المكتسبات ذات الطابع الرمزي ما يحقِّقُ احتياجاتٍ عمليّة. إلاّ أنّ المكتسبات الرمزيّة هي ما تنطوي على تعزيزٍ للمكانة الأدبية في التعامل مع المسلمين أو الشأن الإسلامي في مجال أو أكثر. ومن المجالات التي يمكن الإشارة إليها في هذا المضمار على سبيل المثال؛ مما طرأ عليه بعض التقدم منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين؛ ما يلي:

– إدراج المناسبات الإسلامية ضمن قوائم المناسبات التي تراعيها النُّظُم والتقاليد السياسيّة والإداريّة في البلدان الأوروبية (مثل “البروتوكول” الرسميّ مثلاً)، بإرسال التهاني وتنظيم حفلات الاستقبال، وما إلى ذلك. ومن البلدان التي سجّلت تقدّماً في هذا المضمار خلال الأعوام الأخيرة النمسا مثلاً. كما تشهد بريطانيا تقليداً متزايداً في ما يتعلق بتوجيه القادة السياسيِّين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء، رسائل تهنئة رسمية للمسلمين بالأعياد.

– اعتماد المحاكم للشهادة القانونيّة على المصحف الشريف مراعاةً لخصوصيّة المسلمين. كما جرى مثلاً بالنسبة لإحدى المحاكم المحلِّيّة في مدينة ليمرك الأيرلندية وبعض المدن المجاورة لها، التي اتّصلت في العام 2000 بالمركز الثقافي الإسلامي بأيرلندا (ICC) لطلب نُسَخٍ من المصحف الشريف مع التعهّد بحفظه في مكان طاهر[172].

– مراعاة الشعائر الإسلاميّة في الثكنات العسكرية، بافتتاح المصلّيات واعتماد أئمة مسلمين، مراعاة للاحتياجات الدينية للمجنّدين المسلمين. وهو ما أصبح أمراً واقعاً في ثكنة عسكريّة في العاصمة النمساوية فيينا بدءاً من العام 2004.

– زيارة كبار المسؤولين للمساجد والمراكز الإسلامية والتعبير عن الاحترام للدين الإسلامي والتقدير للمسلمين. وقد شهدت بريطانيا، مبكِّراً بالمقارنة مع بلدان أوروبية أخرى؛ زياراتٍ عدّة كهذه، ضمن تقاليد زيارة دور العبادة للطوائف الدينية التي دأبت عليها المؤسسة الملكيّة البريطانيّة. وهناك بلدانٌ كثيرة زار كبار المسؤولين فيها مركزاً إسلامياً أو مسجداً، لعلّ من أبرزها أيرلندا والسويد، وفي الأخيرة قام بزيارة مسجد استوكهولم (المركز الإسلامي) كبار المسؤولين في الدولة، وعلى رأسهم الملك والملكة (8 تشرين الأول (أكتوبر) 2003)، ورئيس الوزراء (12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003)، وثلاثة من وزراء الحكومة في افتتاحه (8 حزيران (يونيو) 2000)، علاوة على زيارات أخرى عدّة. ويُشار أيضاً إلى أنّ تلك الزيارات شهدت انتعاشاً ملموساً في مسعى طمأنة الوجود المسلم في عدد من البلدان الأوروبية بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

– الإشادة بالإسلام والثقافة الإسلاميّة وبإسهامات الوجود المسلم، في خطابات المسلمين ومواقفهم، وهو ما يُعَدّ أمراً مألوفاً في عدد من بلدان أوروبا، بينما يُعَدّ أمراً استثنائيّاً أو غائباً بالكليّة في بلدانٍ أخرى من هذه القارّة.

ومع ذلك؛ فإنّ العنايةَ بالجانب الرمزيّ لا ينبغي أن يَغُضّ الطرف عن تحقيق مكتسبات فعليّة، كما ينبغي أن تُوْضَعَ بعضُ هذه الخطوات، خاصة “البروتوكوليّة” منها، في سياقاتها الصحيحة. فالحكم على “جدِّيّة” الخطوات الرمزيّة ينبغي أن يتمّ كذلك من خلال ملاحظة انعكاسها على أنماط التعامل مع الوجود المسلم ككلّ وروحيّة هذا التعامل. فالأمثل هو أن يلمس عامّة مسلمي البلد الأوروبي المعنيّ توجّهاً إيجابيّاً من جهة الأوساط المسؤولة في التعامل معهم، لا أن يقتصر الأمر على ما تستشعره بعض النُّخَب المسلمة في البلد ذاته وحسب من ودّ وانفتاح[173].

وإن لم تكن وفرةُ الخطوات الرمزيّة الإيجابيّة نحو المسلمين كافيةً وحدَها للدلالة على توجّه إيجابيّ عام في التعامل مع الوجود المسلم وخصوصيّاته؛ فإنّ ما يمكن تأكيده بالمقابل أنّ ندرة تلك الخطوات الرمزيّة في بلد أوروبي ما ستؤشر غالباً إلى عدم نضوج توجّه إيجابيّ، أو اهتمام في المستوى اللائق، صوب التعامل مع الوجود المسلم.

بل كان إحجامُ حكومة أنوس فو راسموسن الدانمركية عن اتخاذ موقف مما تقتضيه في الأصل تقاليد العمل الدبلوماسيّ، كاستقبال وفد السفراء المسلمين المعتمدين في كوبنهاغن إثر أزمة الرسوم المسيئة للمقام النبويّ الشريف في خريف 2005؛ تأكيداً لموقف سلبيّ متأصِّل من جانب الحكومة ذات التوجّهات اليمينيّة من هذا الملف، وهو ما تساوق مع سجلِّها غير اللائق بدولة كالدانمرك في العلاقة مع الوجود المسلم المحلِّيّ.

كما أنّ الحالةَ الألمانيّة كمثال؛ تُظهِر كيف تُبدي القيادةُ السياسية على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات، تحفّظات متزايدة في الانفتاح على مسلمي البلاد ومؤسّساتهم. بل إنّ الخطوات الودِّية، القليلة نسبيّاً[174]، ذات الطابع الرمزي التي يمكن العثور عليها؛ تكاد تتبدّد أمام حالة عامة من التعاطي المأزوم سياسياً وإعلاميّاً مع ملف المسلمين في البلاد.

وقد بدت التجربةُ الفرنسيّةُ وكأنها تفتقر إلى الكياسة أو الحساسية اللائقة في التعامل مع الوجود المسلم في البلاد، والذي يُعتبر الأعرض على المستوى الأوروبيّ العام. وهكذا تبدو الإشاراتُ الودِّيّة التي حاول الرئيسُ الفرنسيّ جاك شيراك إبداءَها في خطابه الذي ألقاه في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003، من قبيل قوله إنّ “الإسلام الذي هو الدين الأكثر حداثة على أرضنا، له مكانته الكاملة بين كافّة الديانات الكبرى التي اتخذت موطئ قدمٍ لها على ترابنا”، واعتباره أنّ “السائرين على التقليد الإسلامي” (…) “يُعَدُّون جزءاً لا يتجزّأ من أمتنا”[175]؛ ليست ذات شأن طالما أنّ الخطاب ذاته جاء للدّفع باتجاه حرمان التلميذات المسلمات من حقّ ارتداء الزي الذي يخترنه، ورفض مقترحات “لجنة ستازي” بمراعاة الأعياد الإسلامية واليهودية في العطلات الرسمية.

كما أنّ لفتات الودّ والاحترام للثقافة الإسلاميّة تفقد زخمها عندما يُوردُها مسؤولٌ أوروبيّ في سياق تبرير مشاركة بلاده في الحرب على العراق مثلاًَ، مثل ما دأب عليه وزير الخارجية البريطانيّ السابق جاك سترو في عدد من خطاباته التي ألقاها سنتي 2002 و2003.

وعن الأبعاد الرمزيّة وأهميّتها، مثل مآدب الإفطار الرمضانيّة التي أصبحت معروفة في الوسط السياسي النمساوي في غضون الأعوام القليلة الماضية؛ يقول عضو برلمان العاصمة النمساوية فيينا عمر الراوي، إنّ “هذه الظاهرة مهمّة جداً. فمع أنها رمزية، فإنّ فيها في الوقت نفسه عدة مؤشِّرات. المؤشِّر الأول هو الاعتراف بالإسلام والمسلمين كجزء من هذا المجتمع، ثانياً: الاعتراف بطقوسه الدينية كجزء حضاري من هذا المجتمع”. ويضيف النائب الراوي “عندنا (في النمسا) أصبحت إقامة الصلاة في القصر الجمهوري أو في بلدية فيينا شيئاً عادياً، بينما في فرنسا قد تهتزّ الدولة والجمهوريّة أو الدستور إذا حصل الشيء نفسه. وفي المستقبل عندما نتكلّم عن المسلمين واحتياجاتهم (في النمسا)؛ فإننا لن نرى من لا يتفهّم هذا الشيء. فاستقبالهم والاعترافُ بهم يُقَوِّي بحدِّ ذاته المناخَ العام، الذي يساعدنا في المستقبل لحماية حقوقِهم (المسلمين) والذود عنهم، وخاصة عندما تُقام حملةٌ أو هجوم ضدّهم”[176].

وعلاوة على ما سبق؛ فإنّ من يدقِّق النظر في واقع مسلمي أوروبا الغربية والوسطى؛ قد يلحظُ في سياق تأمّلاته خيوطاً ناظمة لاصطفافاتٍ بعينها في الخطاب المجتمعيّ والسياسيّ، وفي الأداء التواصليّ وفعل الممارسة المترتِّبيْن عليه. ويمكن الإشارة هنا إلى اصطفافاتٍ عدة قد لا يجوزُ حصرُها أو اختزالها في نماذج قليلة، لكنّ ما يسترعي الانتباه منها اتجاهان، يقوم أوّلهما على نزعة تغليب خطاب الحوار والتواصل ومحاولة البرهنة على “حُسن النيّة” في التعامل مع الوسط المجتمعيّ والسياسيّ. في ما أنّ المعبِّرين عن الاتجاه الآخر يقفون على النقيض، مرتكزين إلى إبراز التناقضات ومغفلين القواسم المشتركة أو فرص التواصل واللقاء مع الأطراف المجتمعية.

وفي ما أنّ الاتجاه الثاني لا يقدم تصوّراً ولا برنامجاً للمشاركة السياسيّة فضلاً عن المشاركة المجتمعية؛ فإنّ الاتجاه الأول يبقى مَدعُوّاً لبلورة خيارات التعاطي مع الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة على أسس أكثر وعياً ونقديّة. ويمكن القول إنّ اتجاهاً ثالثاً يمكن العثورُ عليه في أوساط مسلمي أوروبا، يدرك أنّ التواصل والحوار والتفاعل المتبادل لا يقتضي التملّص من التناول النقديّ للمسائل المطروحة في الساحة السياسيّة، وذلك على أساس بناء الجسور من جانب وحماية المصالح والمكتسبات من جانب آخر.

كما ينبغي أن يكون واضحاً؛ أنّ الخلط بين الأدوار ضمن ساحات التواصل السياسي والمجتمعي، قد يبدو بالأمر المُحتَمل أحياناً، ولكنه قد يجانب المصلحة أحياناً عدة. واستقاءً من واقع ذلك التواصل في ساحات مسلمي أوروبا؛ فإنّ ذلك الخلط يجري أحياناً في التعامل مع المسؤول السياسي البارز، تارة بصفة الحفاوة والترحيب وبروح المبالغة في تقدير وزن اللفتات الرمزيّة التي “يمنحها” للجانب المسلم، وتارة أخرى، كما يُفتَرَض بمنطق التعاطي السياسيّ القائم على المحاجَجة وربما الشدّ والجذب في مواسم الجدل أو الأزمات.

ولكن هل يمكن للمرء ذاته أن يتقمّص الدورَيْن معاً، وأن ينجح فيهما أيضاً كما هو مُرتجى، وعلى نحو مستمر؟.

قد يُفْلِحُ بعضُهم حقاً في الأمر، أو يخفقون في الاثنين معاً، ولكنّ آخرين إما أن يُضّطَروا إلى تخفيض سقوف التعاطي في الشقّ السياسي، فيغلب منطق المجاملات مثلاً على تواصلهم مع ساحة محكومة بقوانين التجاذبات والتوازنات وتقاطعات المصالح وافتراقها؛ أو أن يأتي حضورُهم في الفعاليات “البروتوكوليّة” والرمزيّة خارجاً عن سياقه ومحفوفاً بنزعة تسييسيّة قد لا تكون ملائمة وبما لا يراكم النجاحات المفترضة في هذا الحقل من حقول التواصل.

أي أنّ التساؤل يتعلّق هنا بالمدى المعقول لانشغال المعبِّرين عن مصالح الوجود المسلم في أوروبا، في الفعاليّات ذات الطابع “البروتوكولي”، خاصة مع الحاجة إلى قراءة التأثيرات التي تنشأ عن اختزال المسافة بين “الشخصية المسلمة” والمسؤول السياسي على خطاب الأول وأدائه وفعاليته. ولعلّ هذا يستدعي إبقاء هوامش معقولة تحفظ الاستقلاليّة بالنسبة لأولئك الذين عليهم أن ينشغلوا بملفّات وقضايا شائكة تتطلّب “أصحاب الأصوات المسموعة” وليس “ذوي الأيادي المصفِّقة”، وتتطلّب الباحثين عن مفردات التعاطي السياسيّ لا المنهمكين بتنميق الخطاب بما يلائم “البروتوكول”. إلاّ أنّ التواصل المجتمعيّ يستدعي بالمقابل من يتعاطى مع الدبلوماسيّة المجتمعيّة والسياسيّة، ويتقن “البروتوكول” ذاته مُدرِكاً أنّ منتديات اللقاء الودِّي معنيّة أكثر بتعزيز الثقة وإشاعة الأجواء الإيجابيّة والبحث عن القواسم المشتركة، مما لا يفي به الخطاب المطلبيّ الذي لا يتسع للمجاملات وإشارات التودّد.

وخلاصة القول في هذا الشأن؛ أنّ مسلمي أوروبا بحاجة إلى الدورَيْن معاً، علاوة على أدوار أخرى، وهو ما لا يمكن التفريطُ فيه في سياق مشاركتهم المجتمعيّة والسياسيّة.

المبادرة إلى الفعل واستباق التطوّرات.. بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال

إنّ المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا ليست معنيّة بتنويع أدواتها وحسب؛ بل وعليها أن تتهيّأ لما يمكن أن تأتي به التطوّرات المُحتَمَلة، فتسعى بالتالي لامتلاك زمام المبادرة بدلاً من الاستئناس بالاقتصار على ردود الأفعال وحسب. ومن يتأمّل في حالة “قضيّة الحجاب” في فرنسا مثلاً؛ فإنّ ما قد يستوقفه هو أنّ المسلمين في فرنسا رغم كلّ ما بذلوه في هذا السياق لم يتمكّنوا من إقامة منابر متخصِّصة وفاعلة، تضع نصب عينيها الدفاع عن حقوق المرأة والفتاة في اختيار الزي، رغم أنّ تلك القضية تعود إلى سنة 1989[177]، وكانت تتفاعل وتتفاقم بين مرحلة وأخرى. ومن المُستَغرَب عدم التوجّه إلى خطوةٍ كهذه أو ما يشبهها طوال خمس عشرة سنة، وصولاً إلى ارتسام نُذُر حظر ما يسمى ﺑ “العلامات الدينية البارزة” عبر تطوّرات استغرقت عدة أشهر في سنتيْ 2003 و2004. ومن المؤسف أنّ أول إطار متخصِّص في هذا الشأن قد نهض لاحقاً، أي بعد سنّ قانون “الرموز الدينية” ذاك، وحمل اسم “لجنة الخامس عشر من مارس للحريات”. ومن اسمها الذي استوحته من تاريخ شرعنة “حظر الحجاب” بالمدارس (15 آذار (مارس) 2004)؛ فإنّ هذه اللجنة، وهي تجربة جديرة بالاهتمام[178]، جاءت في الواقع ردّ فعل وانعكاس ومحاولة لتخفيف وطأة تطبيق القانون في الممارسة العملية. وربما كان الأوْلى لو نهض عملٌ مُوَسّع في المجتمع المدنيّ والحقل الحقوقيّ والإعلاميّ لاعتراض النُذُر المتراكمة قبل سنوات من ذلك، وربما قبل شهور من صدور ذلك القانون على الأقل. ولا يعني ذلك إغفال جهود عدّة بُذلت في هذا الإطار عبر أعوام مديدة، ولكنها بدت موسميّة ومتقطِّعة، ومفتقرة إلى المَأسَسة التي تكفل لها عملاً متخصِّصاً ومستقرّاً وقابلاً للتطوير المستمر.

ومع ذلك؛ فإنّ الواقع العام للوجود المسلم في أوروبا، ما زال يركنُ إلى ردود الأفعال والقصور في استباق التطوّرات، وهو ما يُرشِدُ بحدّ ذاته إلى أهمِّيّة الحاجة إلى الاستشعار المبكِّر للأزمات المحتملة والملفات المتفاقمة، والتي يمكن أن تأتي على هوامش من حريّات المسلمين وحقوقهم، وتقوِّض شيئاً من مصالحهم ومكتسباتهم.

وما بات يحدُث في حالاتٍ عدّة؛ هو أنّ تفاعلَ بعض ثنايا الساحة المسلمة في أوروبا مع بعض الملفات، يأخذ طابع الفتور حيناً، وربما اللامبالاة، إلى أن يصل إلى نقطةٍ يبدو معها الموقف وكأنّه قد تجاوز الحدود المحتَمَلة، فتنطلق حملات موسّعة، تفاجِئُ قطاعاتٍ من المواكبين والمتابعين وعموم الرأي العام. وهنا قد لا يحدث تفهّمٌ لهذه الهبّات المفاجئة، والتي لم تكن مسبوقَةً بجهودٍ تواصُليّة حثيثةٍ ومتراكمة لكسب تفهّم الرأي العام والقطاعات المعنيّة، بما في ذلك المستوى السياسي؛ لما يراه المسلمون من هذه القضية أو تلك. وتُعَزِّز هذه الملاحظات من أهمِّيّة التفات مسلمي أوروبا إلى أيّة مكامن خلل مُحتَمَلة، وهي كثيرةٌ على الأرجح، ومحاولة وضع تقديراتٍ للتعامل معها والتواصل مع الرأي العام والأطراف المعنيّة بشأنها ما أمكن ذلك، وهو ما ينبغي أن يقع ضمن مسؤوليّات المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا على أي حال.

نحو حضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية:

لعلّ إحدى المسؤوليّات الكبرى التي تترتّب على توجّه المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة؛ تتمثل في وضع رؤى وتصوّراتٍ جادّة، وصياغة برامج عمليّة، والمضيّ في الممارسة التطبيقيّة على قَدْرٍ من الجدِّيّة والمسؤوليّة والكفاءة.

ويتطلّب هذا المسعى وضعَ جداول أعمالٍ (Agendas) متجدِّدة، وتعبئة جمهور مسلمي أوروبا، كلّ في بلده أو إقليمه أو منطقته أو قطاعه الذي ينتمي إليه، للتفاعل مع هذه الأولويّات والمضيّ فيها، وهو ما يفرض مطلب التوضيح والتوعية العامّة، لكي يكون الجمهورُ المسلمُ هو الحاضنة لهذه المشاركة السياسيّة، مع الحذر من عُزلَته عنها أو انفصامِه عن مستجداتها.

وما سيُعينُ على ذلك؛ هو بروزُ أُطُرٍ ومؤسّسات وقيادات للعمل السياسيّ والتواصل المجتمعيّ في أوساط مسلمي أوروبا، لا تعوزُها المصداقيّة، وتكون مؤهّلةً لحيازة رضى الجمهور المسلم، الذي سيكون مطالَباً بأن يمنحها ثِقَتَه لتمثيل تطلّعاته واهتماماتِه ومصالحه في المستويات السياسيّة والمجتمعيّة، مع قدرة هذه الأطر والمؤسسات والقيادات على الحضور الحسن واللائق بمسؤوليّاتها وأدوارها في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة العريضة في أوروبا.

لا ريبَ في أنّ هذه جميعاً ليست بالمهامّ المتيسِّرة، إلاّ أنّه لا غنى عن المضيّ فيها قَدْرَ الوُسْع.

ولا ريبَ أيضاً؛ في أنّ إحدى المعضِلات التي ينبغي على المشاركةِ السياسيّة لمسلمي أوروبا أن تتصدّى لها؛ هي كيفيّة التفاعل مع الساحة السياسيّة، دون أن يكون ذلك التفاعلُ مجرّدَ كمٍّ تصويتيّ يكتفي بشَرْعَنَة الأداء السياسيّ القائم دونما تأثيرٍ فاعلٍ فيه أو قُدْرَةٍ على الإسهام في تصويبِه وفقَ التوجّهات والمصالح المرعيّة. ويتطلّب ذلك التفريقَ بين مجرّد انتزاع مكتسبات مطلبيّة مُبَعثَرة أو تحقيق إنجازات متفرِّقة من جانب؛ وتحقيق حضورٍ فاعل في الساحة السياسيّة على أساس التواصل والتعاون والشراكة مع عدد من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى بما لا يتوقف مردوده عند حدود مكتسبات جزئية متناثرة، بل ويرقى إلى تحقيق إنجازات متراكمة في مجالات عدّة.

ثم إنّ تواصُلَ الأطرافِ المسلمة المعنيّةِ بالعمل السياسيّ مع الأحزاب والقوى السياسيّة والأطراف المجتمعيّة بعامّة؛ لا ينبغي أن يقتَصِرَ على مطالب جزئيّة أو أهداف شكليّة، مثلاً من قبيل تثبيت مرشّحين على القوائم الانتخابية وحسب، أو إمكانية دعم حزبٍ ما في التعبئة الانتخابيّة من عدمها؛ بل الأمثل علاوة على هذا كُلِّه؛ أن ينفتحَ التواصُلُ مع هذه القوى على جداول أعمالٍ أكثر رحابةً واتساعاً وعُمقاً في العموم، وبالطبع مع التركيز والدقّة والضبط كلما لزم الموقف.

أيّ أنّ الأمر يقتضي استيعابَ البرامج والمشروعات، وإدراك السياسات والمواقف، التي تتحرّك الأطرافُ السياسيّة بها وبموجبها. وسيُفيدُ ذلك الأطرافَ المعنيّةَ بتوجيه المشاركة السياسيّة للمسلمين في تحرِّي التموضع الأرجح في الساحة السياسيّة. ولن يكون ذلك مُتاحاً على الوجه الأمثل بمعزل عن وضع توجّهاتٍ رشيدة وحصيفةٍ للعمل السياسي، وربما اقتراح حلولٍ لمشكلاتٍ وطرح خياراتٍ واقعيّة للتعامل معها، دون أن يكون ذلك متعلِّقاً بشؤون المسلمين واهتماماتهم الأخصّ وحسب. وسيُساعد ذلك الأطرافَ المسلمةَ على تقديم إسهاماتٍ ومقترحاتٍ وآراءٍ فاعِلة في الساحة السياسيّة في مجالات متنوِّعة، بدلاً من أن يبدو حضورُهم السياسيّ مجرد ثقل تصويتيّ يركِّز على الجوانب المطلبيّة وحدها، وبما يخصّ “الطائفة” أو “الجالية” لا أكثر. أي أنّ المنشودَ هو التمكين لحضور مؤهّلٍ لأن يُضيفَ شيئاً للساحة، وأن يحدِّد على نحو أدقّ شركاءَه المحتَملين ومن يقفون على النقيض منه.

ويستلزم الأمرُ حواراً داخليّاً في الأوساط المسلمة المعنيّة، وتواصلاً مع قطاعات الوجود المسلم وجماهيره التي يُطلَبُ إسنادُها للتوجّهات والخيارات المحدّدة، بدلاً من أن تنشأ الفجواتُ بين النخب السياسيّة والمجتمعيّة المسلمة من جانب؛ وعموم الجماهير المسلمة من جانب آخر، أو حتى أن تتفاقم تلك الفجوات وتتعاظم.

إنّ اهتمامَ المعبِّرين عن الوجود الإسلامي في أوروبا، بالإدلاء بمواقف متميِّزة في حقولٍ ومجالات شتى، ومدى قابليّاتهم وكفاءاتهم في القيام بذلك، وبقدر ينطوي على التميّز الإيجابيّ من جانب وطابع التواصل المجتمعيّ من جانبٍ آخر؛ لهو أحد المؤشِّرات بالغةِ الأهمِّيّة، وربما ذات الأثر الحاسم نسبيّاً؛ على نجاح عملية اندماجهم الإيجابّي في الحياة العامة. بل إنّ ذلك ليس مؤشِّراً وحسب على نجاح مفترض كهذا؛ بل هو مطلبٌ له، وباعثٌ على تحفيزه أيضاً.

وليس من شكّ في أنّ غياب المسلمين عن جولات الجدل (Debate) السياسيّ والمجتمعيّ التي تشهدها البيئات الأوروبيّة بين موسم وآخر؛ إنما يشي بغيابهم عن قلب المجتمع وعدم حضورهم في ساحته، أو ربما يُنبِئُ بعدم اكتراثهم بما يدور في الفضاء السياسيّ والمجتمعيّ، أو قد يبعث على الظنّ بافتقارهم لما يمكن أن يقدِّموه، مع الافتراض الساذج ربما بأنّ خصوصيّتهم الدينية والثقافية قد تتحمّل المسؤولية عن ذلك بقدْر أو بآخر. وسيُغري ذلك مَن قد تَضطّرِمُ لديهم نوازعُ الإقصاء والتهميش، بالذهاب بعيداً في استهداف هذا الوجود المسلم والحمل عليه بشتى السبل المتاحة له، وهو ما تُبرهِنُ عليه شواهدُ عدّة في بعض البيئات الأوروبيّة.

تهيئة الرأي العام وتكييف الخطاب والممارسة:

من مكامنِ القُصور التي يمكنُ لأية مجموعة ترومُ المشاركةَ السياسيّة أن تقع فيها؛ تركيزُها للتواصل والتأثير أو حتى الضغط على المستوى السياسيّ الصرف، مع تجاهلِ أهمِّيّة التعامل مع الرأي العام الذي ينبغي تهيئته لاستيعاب المطالب والتطلّعات ولتفهّم المصالح والاهتمامات المنشودة من خلال المشاركة السياسيّة تلك. والواقع أنّ السعيَ ﻟ “فتح الخطوط” بين الأقلِّيّات المسلمة والأوساط السياسيّة، وتفعيل التواصل بين الجانبين؛ لا يبدو وحده خياراً مجدِياً، خاصة إذا ما اتضح أنّ خطوطَ التواصل مع قطاعات المجتمع وفئات الرأي العام، بشكل عام أو في ما يتعلق بمسائل محدّدة؛ تبدو مسدودةً أو مقطّعة أو حتى متعثِّرة. والمشكلةُ هنا ستبدو محكومةً، إلى حدٍّ ما، بالتوازنات غير المتكافئة بين الأغلبيّة والأقلِّيّة، وهي التوازنات التي يُفتَرَضُ أنّ السياسيّ الباحث عن الإسناد الشعبيّ يراعيها بعنايةٍ ويُدرِكُ حساسيّتها الفائقة، بما يحول دون توقّّع الوقوف في مربّع الأقلية بعيداً عن ميول الأغلبيّة، في حالة التناقض المفترَض بينهما في مسألة ما.

من هنا؛ يكتسبُ الفعلُ المجتمعيُّ بعامّة، والتواصل مع الرأي العام بخاصّة؛ أهمِّيّةً فائقةً لإنجاح مساعي المشاركة السياسيّة، التي يبدو الحضورُ الإعلاميّ الإيجابيّ مَطْلَباً لا غنى عنه بالنسبة إليها.

إلاّ أنّ ذلك لا يعني مجرّد الاهتمام بالفعل الإعلامي كنشاط موجّه؛ وإنما بأن يأخذ ذلك سمةً تواصُلَيّة تقوم على التفاعل المتبادل، بما يعنيه ذلك من تكييف المرامي والخطاب والممارسة، قَدْرَ الممكن وبلا تكّلف وضمن الإطار العام للخصوصيّات، وبما يتساوق مع الفكرة ومنطلقاتها الأساسية؛ مع مطالب المجتمع الكبير وتطلّعاته، ومصالحه واهتماماته، بحيث يُسعَى لأن يكون فعلُ المشاركةِ السياسيّة بشتى تضاعيفه مفهوماً، ومُتَقبّلاً، أو على الأقل بما يُحَيِّد بعض الصعاب التي من المحتَمَل أن تَعترضَه ضمن الفضاء المجتمعي، وبالتالي عبر البيئة السياسيّة. ولكنّ الأمر يتعدّى مجرّد كسب التفهّم والقبول أو التحييد؛ إلى السعي لوضع المشاركة السياسيّة للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا على مسارات المشاركة السياسيّة العامة للنطاق المجتمعي العريض، بحيث تتقاطع إيجابياً مع مشاركة فئات المجتمع وشرائحه ومجموعاته الأخرى، بما يفتحه ذلك من آفاق التعاون والتنسيق، وبما يتيحه من فرص التحالف والشراكة، علاوة على أنه سيجعل مشاركةَ الأقلِّيّة ضمن المعادلة المجتمعيّة والسياسية العامة للبلاد، لا أن تبدو طارئةً عليها أو متمايزةً عن سياقها أو حتى أن توحي وكأنها تقف على النقيض من “مصالح” الأغلبية واهتماماتها.

عن التنازلات في سياقات المشاركة ـ الهوامش والحدود ودور الخطاب السياسي:

إنّ من يراقبُ بدقّة بعض مظاهر الأداء في ساحة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، لا بدّ وأن يعثر في سياق التعاطي مع بعض القضايا أو المسائل التي تتجاذبها أطراف عدّة؛ على حالات تنطوي على ارتباكٍ في الأداء، أو حتى على تنازلاتٍ في مضامين جوهريّة لموقف بعينه، أو تصعيد غير مبرّر في مسائل بعينها على حساب جوانب أخرى قد لا تقلّ أهمية، بما يمسّ أحياناً جانِباً مُصَنّفاً على أنه ذو طابع مبدئيّ أو ينتقص من حقّ لا يُقبل التفريط به مثلاً.

وبمزيد من التأمّل والتحليل؛ قد يتّضح، على سبيل الاحتمال، أنّ الأمر جاء حصيلةً لجهود مناوئة لذلك الموقف المبدئيّ أو حتى نتاجاً لضغوط مناهضة لذلك الحقّ الذي يُفترَض أن يكون مكفولاً. وفي ساحةٍ تتنازعُها المصالح والرؤى، بل قد لا تغيب عن بعض أطرافها إرادةُ المزاحمة أو حتى نزعات الصراع؛ يكون من الخطورة بمكان التسليم بالتخلِّي عمّا يمكن تصنيفه ضمن المبادئ الراسخة أو ما يمكن فرزها على أنها حقوق غير قابلة للمساس أو مكتسبات لا يجوز تقليصها أو التعدِّي عليها. ولذا؛ فلا بدّ من التعاطي بحذر مع الهوامش التي يمكن قبول التنازل فيها أو المرونة بشأنها، خاصة في سياقات التدافع، وما يكون التنازل مُتوقّعاً أساساً إلاّ تحت الضغوط، أيّاً كانت صورها.

ولا ريب مثلاً في أنّ المرونة والتكيّف في الخطاب وما يتفرّع عنه من رسائل ذات مضامين وسياقات وصياغات حصيفة؛ تتيحُ إجمالاً هوامش معقولة نسبيّاً من الحراك والتعاطي مع المستجدات، مع الحرص على عدم التناقض في ذلك مع المفاهيم والتصوّرات، أو مصادمة الثوابت والمبادئ. وثمة ما يؤشِّر على أنّ القصور في الخطاب والأداء المرتبك في تمريره وحالة الضعف في التواصل وإهمال مستلزمات الإقناع والمحاججة؛ تتحمّل جملةً أو فرادى قسطاً، قد يكون وافراً أحياناً، من المسؤولية عن محاولة بحث بعض العالقين في مآزق التواصل السياسي وما يصاحبه من خطاب ورسائل منبثقة عنه؛ عن مخارج وملاذات من خلال التوجّه لتفكيك الثوابت التي حدّدوها لأنفسهم وربما بالتفريط بحقوق ومصالح لحساب أنصافها أو أرباعها أو حتى أقلّ من ذلك. ولذا؛ يلفت الخبير الاستراتيجي أحمد رمضان، الانتباهَ إلى أنّ التواصلَ السياسيّ يتطلّب، ضمن ما يتطلّبه، “توفّر خطاب سياسيّ انسيابيّ، قادر على معالجة الأخطاء بالسرعة الممكنة، وتفادي المضيّ في سياسات قد تُلحِق ضرراً استراتيجياً بالأداء العام للقضيّة المركزيّة التي يتم تبنِّيها، وبالتالي؛ فإنّ عناصر هذا الخطاب يجب أن تكون محلّ دراسةٍ وتمحيص بشكل متواصل بما ينسجم مع تفاعلات الواقع (…)، ولا يعني ذلك بأيّ حال من الأحوال تقديم تنازلات في البرنامج السياسيّ المركزيّ لجهة الاحتفاظ بتأييد الرأي العام، لأنّ تقديم التنازلات لا يُعتَبر مؤشِّراً لكسب الرأي العام بقدر ما هو دليل على عدم القدرة على إنجاز ذلك والرضوخ لضغوط الخصم الذي يُفتَرَض أنه نجح في تحقيق انحياز المجتمع المدني لصالحه، في صورة ترغم الطرف الآخر على تقديم تنازلات”[179].

والواقع على أيِّ حال أنّ التحذير من مغبة تقديم “التنازلات” يمكن العثورُ عليه في ما يتعلّق بالتجارب السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا، ومن ذلك تحذيراتٌ أطلقَها الدكتور عدنان علي رضا النحوي، جاء فيها “لقد نَصَحتُ في حدود وُسعي، ونبّهتُ إلى الخطر الذي يقع بسبب هذه التنازلات (…). لقد كوّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدّت زمناً طويلاً قوّةً نفسيّةً للكثيرين في العالم الغربي، تُغريهم بالجرأة على تحدِّي الإسلام والمسلمين في قضايا الحجاب وغيرها، لمّا رأوا أنّ بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعدادُ النفسيُّ والفكريُّ للتنازلات”[180].

وسواء استصحب المرءُ تحذيراتٍ كهذه أم لم يفعل؛ فإنّ ما يتوجّب لَفْتُ الأنظار إليه على أيّ حال؛ هو خطورة التهوين من قصور الخطاب السياسيّ أو ما يتفرّع عنه، ضمن ساحات المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، لأنّه قد يستَحِثّ مفعولاً ارتدادياً غير مبرّرٍ أو مُجْدٍ يتّجه لتخفيض سقوف الثوابث والانتقاص من خانة الحقوق وتآكل جدول الأعمال السياسيّ.

أي أنّه لا يُستَبْعَدُ أن تجري أحياناً الاستعاضةُ عن معالجة مكامن الضعف والقصور في الخطاب والرسائل التي تتفرّع عنه؛ بالنزوع، الواعي أو غير الواعي، إلى تفكيك التصوّرات والمفاهيم. أي الانتقال خطوتين إلى الوراء دفعةً واحدة، وربما لإعفاء الذات من المسؤوليّة عن القصور بالمسارعة إلى التفتيش عن مكامن الخلل في النسق المفاهيمي الذي يجري الصدور عنه، و”ليس العيْبُ فينا”. والمثير أنّ هذه العملّيّة قد تتكرّر باستمرار لتعيد إنتاجَ ذاتها، لتُبقي على خطابٍ سياسيّ مرتَبِكٍ وقاصر من جانب؛ في ما يَقِفُ على أرضيّة مبدئيّة متآكلةٍ باستمرار وتحت سقف مفاهيميّ يزداد انخفاضاً.

وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ هذه الملاحظات إنما تعزِّز القناعةَ بأهمِّيّة إيلاء مزيدٍ من العناية لمسألة التواصل السياسيّ، ورفع مستوى الكفاءة فيه في أوساط مسلمي أوروبا، ومن باب أَوْلى لمن يقومون بهذا التواصُل بالفعل.

وقد يقتضي الأمرُ التنبيهَ؛ إلى أنّ خطاب التواصل السياسي وما يتفرّع عنه من رسائل وإشارات؛ لا يتطابَقُ في طبيعته ومواصفاته مع ذاك الذي يمكن معه خوض جولات الحوار الدينيّ أو الثقافيّ، مهما اتسع النطاق المشترك بينهما. فالمضيّ إلى ساحة الحوار بين الأديان وجولات التواصل الثقافي (وهو من الشواغل البارزة لكثير من قيادات مسلمي أوروبا اليوم والتي يتصدى بعضها للشأن السياسي أيضاً، خاصة مع عدم نضوج أطر متخصِّصة في أي من المجالين في عدد من الساحات الأوروبيّة المسلمة)؛ ليس ممّا يَحتَمِل استصحابَ خطابِ المزاحمة والمدافعة الذي قد تتطلّبه تجاذبات الساحة السياسية إن لزم الموقف.

وعن فكرة التدافع هذه؛ يشرح الداعيةُ الفرنسيّ المسلم حسن أقيوسن، الأمرَ بأنّ مسلمي أوروبا “ما داموا ليسوا في المستوى الذي يؤهِّلهم للدفاع عن أنفسهم؛ فإنّ الميزَ سيتواصل، بل ستزيد حدّته. فإذا لم يشغل المسلمون الساحة السياسيّة ليدافعوا عن أفكارهم ومعتقداتهم؛ فإنّ الآخرين سيشغلونها وسيدافعون عن أفكارهم ومصالحهم التي قد تتصادم مع أفكارنا (مسلمي أوروبا) ومصالحنا، وهذا هو قانون التدافُع في الواقع. ونظراً لغياب المسلمين عن مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات، ولجان أولياء التلاميذ في المدارس، واللجان الثقافيّة والاجتماعيّة في المجالس البلديّة وفي الأحياء؛ فإنّ هذا الغياب لا يُسهِم في إعطاء الصورة الصحيحة عنهم. من هنا تأتي ضرورة المشاركة والسعي لتصحيح الصورة بالمثابرة والعمل الجاد وإعطاء المثال”. ولذا؛ فإنّ حسن أقيوسن يدعو المسلمين إلى المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، بما في ذلك الانضمام إلى الأحزاب[181].

ولكنّ محاولة إمساك بعض القيادات المجتمعيّة المسلمة في أوروبا بزمام الموقفيْن معاً (موقف البحث عن الوفاق والقواسم المشتركة وتعزيز الحوار من جانب، وموقف رعاية المصالح وحماية المكتسبات وانتزاع المطالب والمزاحمة في الساحة السياسية من جانب آخر)؛ يُضعِفُ أحدَهما أو كليهما معاً، وقد يفضي إلى ارتباك قد لا تُحمَد عُقباه في مواسم الأزمات.

ويقتضي ذلك وضعَ بعض الحدود والهوامش لمدى الأداء وأبعاد الخطاب السياسيّ الذي يمكن لمستوى القيادة المجتمعيّة أو الدينيّة المنشغلة بشؤون الحوار أو الدعوة أن تتوغّل فيهما، ووضع هوامش نظيرة مقابلة للقيادة المنشغلة بالشأن السياسيّ في ما يتعلّق بالدرجة المقبولة منها للانغماس في “شؤون الدعوة” أو مسارات الحوار. أي ليس من الوارد إحداث القطيعة، أو اصطناع التناقض، وإنما أن تَصدُرَ أداءات أكثر تمرّساً وتخصّصاً عن مشكاة واحدة أو مشتركة أو جامعة، قَدْرَ الممكن؛ من التصوّرات والمفاهيم والمنطلقات الرشيدة.

أي أنّ تنويع أدوات الفعل المجتمعيّ مطلبٌ لا غنى عنه، يتيح فرصاً أفضل لمزيد من التخصّصيّة ضمن مسارات هذا الفعل، كما يوسِّع هوامش الحراك والمناورة ويرفع السقوف الواطئة ويوفر آفاقاً أرحب لإقامة التحالفات ونسج عرى الشراكة والتعاون والتنسيق والتواصل على مستويات عدّة، ويشجِّع فوق ذلك كلِّه مطلب الانتشار المجتمعي الواعي والحميد، وهو ما يتساوق مع رؤى “الاندماج الإيجابي” التي تكاد تتوافق عليها الساحة الوسطيّة لمسلمي أوروبا.

ومن هنا؛ تتطلّب المشاركةُ السياسيّة لمسلمي أوروبا، إذا ما نشدت الفعاليّةَ في خضمّ ساحةٍ معقّدة وتتجاذبها أطرافٌ عدّة، أن تنطوي، كما يقول الخبير أحمد رمضان؛ على وجود “قوى منظّمة بشكل فعّال ومُحكَم تتولّى التعامل مع الرأي العام على اختلاف أطيافه، وتتوفّر على قدرات كافية ثقافيّة وفكريّة وبشريّة ومادِّيّة، تتيح لها إمكانية الاستمرار والتطوير في أساليبها وأدواتها، ولا بدّ لتلك القوى من أن تحسن اختيار مفردات خطابها الموجّه، وتُدَقِّق في توقيت تحرّكاتها، ولا تركن إلى النجاحات التي يمكن أن تحقِّقها، بقدر ما تبدي اهتماماً بالتحدِّيات التي تواجهها، والانكسارات التي قد تصيبُها، لأنّ من شأن الخصم الانقضاض على الخطأ وتحويله إلى فشلٍ ذريع ومن ثمّ الإفادة منه في تقويض قدرات الطرف المقابل وشلِّه”[182].


 

الفصل التاسع:

مسائل وإشكاليّات في العمل السياسي لمسلمي أوروبا

 

  • السياسي المسلم وإشكالية “ازدواجية الولاء” (المزعومة) بين الأقلية المسلمة والحزب السياسي
  • تحدي القدرة الفعلية للسياسي المسلم على التأثير في المستوى السياسي
  • إشكالية التوافق مع مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي
  • هل من معايير لإمكانية بقاء السياسي المسلم في إطار حزبي بعينه؟
  • إشكالية التشابك بين “السياسي” و”الدعوي”، أو إشكالية “تسييس” الحضور العام لمسلمي أوروبا
  • إشكالية “الالتزام الحزبي” في الحياة السياسية والبرلمانية
  • مسألة التعاطي مع “القواسم المشتركة” بين المبادئ والتوجيهات الإسلامية من جانب؛ والمبادئ والأيديولوجيّات الحزبية من جانب آخر
  • إشكاليّة التنازع أو التردّد بين أنماط الخطاب ضمن مجمل الحضور السياسي والمجتمعي لمسلمي أوروبا
  • إشكالية الموازنة بين مقتضيات المبدأ والواجب والدور؛ وضرورات الحذر والاحتراس


 

يبقى العملُ السياسيّ لمسلمي أوروبا، محفوفاً بتساؤلات وإشكاليّات، ومرتبطاً بتحدِّيات عدّة، ينبغي استعراضُها ومناقشتها باستفاضة وعُمق.

ولمّا كان العملُ السياسيّ لمسلمي أوروبا خاضعاً لتقديراتٍ اجتهاديّة وافرة، ومتعلقاً بموازنات معقّدة ومتشعِّبة أحياناً؛ فإنه لا بد من لفت الانتباه إلى جملةٍ من المحاذير والنقاط الجديرة بالانتباه، بناءً على خصوصيّة مسلمي أوروبا وطبيعة ساحتهم السياسيّة.

وتلي محاولاتٌ لتشخيص بعض الإشكاليّات، أو التساؤلات، المتعلِّقة بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وربما المشارَكة المجتمعيّة العامّة ككلّ، وهي مستقاةٌ إجمالاً من واقع هذه المشاركة، ومُغْتَرَفَةٌ من صميم ما يموج فيها من تجاذباتٍ وما يخيِّم عليها من التباسات، وقد تنحو أحياناً منحى استشرافياً لما يُتَوَقّع أن يُثارَ في الحاضر والمستقبل من تساؤلاتٍ في هذا السياق.

وبهذا؛ فإنّ الإشكاليّات التالية تتفاوتُ في مدى جديّتها، وتتمايز في عُمقها وتأثيراتها، كما تتبايَنُ في قوّة حضورها أو ضعفه في ساحة مسلمي أوروبا، دون أن يُنقِص ذلك من دواعي التصدِّى لها بمعالجات تحليليّة ناقدة، سعياً لتوضيح ملابساتها، وصولاً إلى بعض الاستنتاجات أو التوصيات، حسب ما يلي:

أولاً/ السياسي المسلم وإشكالية “ازدواجية الولاء” (المزعومة) بين الأقلية المسلمة والحزب السياسي:

إنّ إثارة تساؤلات بشأن “ولاء” السياسيِّين، هي إحدى الإشكاليّات التي يمكن العثور عليها أحياناً في ساحة مسلمي أوروبا، بل وفي أوساط الأقلِّيّات بشكل عام. فالسياسيّ المسلم الذي يُعَوِّل أساساً على أصوات الناخبين المسلمين، والمرشّح بدوره على قائمة حزب سياسي ما؛ هو مُنتَمٍ إلى أقليّته، لكنه مُنْضَوٍ في إطار حزبِهِ أيضاً.

ومن المألوف أن تثور الشكوك والتساؤلات في بعض صفوف الناخبين المسلمين بشأن “حقيقة ولاء” السياسيّ؛ أَهُوَ للأقلِّيّة المسلمة، أم للحزب المعنيّ. ومن الواضح أنّ هذه التساؤلات، التي تصدر في العادة من منافسي السياسيّ المذكور، أو من معارضيه، أو من الناقدين لأدائه لسبب أو لآخر؛ إنما تعوِّل على القابليّة للشكّ والارتياب التي عادةً ما تكون مُتوقّّعة في صفوف الأقلِّيّات إزاء جدِّيّة المواقف “الودِّيّة” التي تُبديها بعض الأحزاب السياسية أو الدواعي الكامنة خلف بعض الخطوات. وعادة ما يأتي ذلك التعويلُ عبر إثارة تساؤلاتٍ ذات دلالاتٍ مُبهَمة، وتخضع لتقديرات ذاتيّة (subjective) غير دقيقة، علاوة على اصطناعها تناقضاً مُفترَضاً وملتبساً بين “الولاء للحزب” و”الولاء للأقلِّيّة”، بينما تقفزُ هذه المزاعِمُ أحياناً فوق مساحة المصالح المشتركة والتعاطي المتبادل بين الأقلِّيّة والحزب، التي عادةً ما يسعى السياسيّون المعبِّرون عن الأقلِّيّات للعمل من خلالها بدرجاتٍ متفاوتة من المسؤولية والجدِّيّة والكفاءة والتأثير.

وفي معظم الأحوال؛ تأتي هذه التساؤلاتُ المتعلِّقة باصطناع تناقض في “الولاء” لنطاقيْن غير متجانسيْن (الأقلية والحزب)؛ منطلِقَةً من رؤى سائدةٍ في بعض صفوف الناخبين داخل الأقلِّيّة، أكثر من تساوقها مع واقع العمل السياسيّ والحزبيّ. ولا مجال للاستفاضة في هذا المقام بإيراد حالات أُثيرت فيها (في أوساط مسلمي بعض البلدان الأوروبية) تساؤلات “الولاء” إياها بصياغات عدّة، ترمي إلى التشكيك في التزام سياسيِّين مسلمين بعينهم نحو الأقلِّيّة المسلمة أو في جدِّيّة قيامهم بالتعبير عن مصالحها، من قبيل أنّ “السياسي زيد هو مرشّح الحزب إياه لدى المسلمين وليس مرشّح المسلمين لدى ذلك الحزب”، وغير ذلك من صيغ التراشقات اللفظيّة التي يصعب ضبط دلالاتها بدقة، والتي يبقى توقّعها أمراً لا مناص منه في صفوف أيّة أقلِّيّة كانت.

إلاّ أنّ ما يتجاوز تلك التجاذبات؛ هو واقع العمل السياسي والحزبي، وطبيعة النظم الانتخابية. فالسياسيّ المسلم، إذا ما كان نائباً برلمانيّاً مثلاً، مهما اعتُبر “موالياً” لأقليّته المسلمة أو “وفيّاً” للقطاعات التي اقترعت لصالحه؛ يبقى محكوماً بمسؤوليّات وتقاليد حزبيّة، وبالتزامات تفرضها الثقافة السياسيّة في البلاد. إذ يبقى ذلك السياسيّ مرتبطاً بحزب وضعه على قائمة انتخابيّة وصولاً إلى مقعد برلماني مثلاً، وربما إلى موقع تنفيذيّ أو حتى منصب وزاريّ. وقد يجد السياسيُّ المسلمُ نفسَه مشدوداً بأقدار متفاوتة إلى ناخبيه وإلى حزبه أو حكومته. ومن غير المستبعد أن تنشأ عن هذا الانشداد المتبادل؛ إشكاليّاتٌ ومصاعب عدّة، فقد يتمّ تحميل السياسي الفرد مسؤوليّة برامج حزبه وسياساته ومواقفه بالكامل، أو حتى الجهاز التنفيذي أو الحكومة، وستكون وطأة ذلك أشدّ بكل تأكيد كلّما بدا لجمهور المسلمين أو بعضهم أنّ الأمر يخلّ بما يندرج ضمن اهتماماتهم أو تطلعاتهم أو مصالحهم.

وقد يواجه السياسي المسلم مصاعب من طرف مقابل، أي من الأوساط الحزبيّة ذاتها، ومن بعض الناقدين أو المنافسين له داخل صفوف الحزب، خاصة عندما يتبنّى بعضُهم مواقفَ متحفظة أو سلبية، معلَنة أو كامنة، من المسلمين في بلاده أو إقليمه، بل وقد لا تتعدّى بواعثُ (Motives) بعضهم مجرّد منافسته على “مساحة ما مفترضة تبدو مخصّصة للمسلمين داخل الحزب”.

وفي ظل تجاذبات كهذه؛ فإنّ السياسي المسلم، المعروف بالتزامه الديني و/أو بانحياز قطاعات من الجمهور المسلم له، والذي ينجح في الارتقاء في مراتب الحياة السياسية؛ لا يُستَبعد أن تستهدفه انتقاداتٌ إعلاميّة أو سياسيّة على خلفية “الإسلاموفوبيا”، أو على خلفيات أخرى، أي أنّ ذلك من شأنه أن يضاعف من مفعول الصعوبات التي يواجهها ذلك السياسيّ، وقد يفضي إلى تضييق هوامش التصرّف التي يتمتّع بها، بما قد يتسبّب له في إرباكات مع قاعدته الانتخابية.

وينبغي الانتباه في هذا الصدد؛ إلى أنّ من يُنْظَر إليهم على أنهم سياسيّون معبِّرون عن الأقلِّيّات، بما فيها الأقلِّيّة المسلمة، أو مرشّحون أو نواب عنها؛ يرتبطون من جانب بمؤسسة حزبيّة لها نظمها ومبادئها وبرامجها وسياساتها ومواقفها المحدّدة في عديد المجالات، بينما يرتبط أولئك السياسيّون بأقليّاتهم التي هي في الأحوال الاعتياديّة عبارة عن مجموعة، أو مجموعات، بشريّة تشترك في بعض الخصائص، لكنها ليست بمؤسسة، ولا تحكمها بالتالي نُظُمٌ مؤسسيّة محددة، وأما مبادئها ومواقفها فهي ما يسود في أوساط اتحاداتها وجمعياتها ونخبها وجمهورها من قناعات وآراء وتقديرات لا تفتقر إلى الهلاميّة في الدلالات أحياناً أو التفاوت الواضح في ما بينها أحياناً أخرى.

يعني ذلك أنّ إطلاق تعبيراتٍ من قبيل “مرشّح المسلمين” كما يشيع أحياناً، إنما يحمل دلالاتٍ نسبيّة، وغالباً ما تفتقر إلى الدقّة الكافية، طالما أنّ “المسلمين” ليسوا مؤسّسة، إلاّ لو افتُرِضَ وجودُ إطار جامع لمسلمي البلد أو ضمن الدائرة الانتخابية المعنيّة معبّر عنهم بدقة وشفافيّة، وهو احتمال، على فرضيّته، نادراً ما يتساوق مع آليات الفرز السياسيّ في صفوف الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، علاوة على افتقاره لأهلية التماشي مع الأنماط المألوفة في ساحات العمل الحزبيّ بالبلدان الأوروبية.

ومع ذلك؛ فإنّ السياسيّ المسلم قد يجد أنه من الملائم أحياناً أن تتمّ الإشارةُ إليه بوصفه مُرشّح المسلمين، بما قد يمنحه وزناً سياسياً أكبر، و/أو يزيد فرصه في الحصول على دعم المسلمين وأصواتهم، علاوة على احتمال تساوق ذلك بالفعل مع قناعته أو قناعات مؤيِّديه بأنه ممثِّلٌ للمسلمين حقاً، سواء بالنظر إلى تعبيره عن مجموعهم أم أخذاً بعين الاعتبار اهتماماتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم المُفترَضة.

ولا ريب أنّ هناك من المؤشرات المتاحة ما يفيد في تقييم تجارب السياسيِّين المسلمين واختبار جديتها، ومن ذلك مثلاً مدى إسهام السياسيّ المسلم في إنعاش التواصل بين الجمهور المسلم، ممثّلاً بأطره ومؤسّساته وقادة الرأي فيه؛ والوسط السياسيّ الذي يتحرّك فيه. ومن هنا تماماً تكتسب بعض الملاحظات أهميتها، مثل ما يوضِّحه أول نائب مسلم في برلمان محلِّي نمساوي[183]، من أنّ تجربته خلال الدورة الأولى التي استغرقت أربعة أعوام (2001 ـ 2005) قد تركّزت على “تهيئة المناخ المناسب للتعامل بين المسلمين والسياسيين وباتجاهين، لذا فقد أصبح للمسلمين تجاوب وتفاعل في الساحة السياسية”، على حد تقديره.

ثانياً/ تحدي القدرة الفعلية للسياسي المسلم على التأثير في المستوى السياسي:

من الضرورة بمكان؛ الانتباه إلى القابليات الموضوعية التي يحوزها الأفراد المسلمون المتفرِّقون، المنخرطون في العمل السياسي، للتأثير في بيئات سياسية تعجّ بالمؤسسات الفاعلة وتحفل بالتقاليد الراسخة، بل وبمراكز القوى ومحاور النفوذ.

– وأخذاً بعين الاعتبار القابليات المحدودة إيّاها؛

– وسعياً لاعتماد خيارات فاعلة للعمل السياسي لمسلمي أوروبا (بالتعاون قدر الممكن مع شركائهم في الساحة المجتمعيّة والسياسيّة الأوروبيّة) بما ينهض بدور المشاركة السياسية، بما في ذلك ما يتيحُ العملَ من داخل الأحزاب السياسية؛

– وتلافياً لاحتمال خفض سقوف الآمال وتقليص التطلّعات المعقودة على ناصية العمل السياسي لمسلمي أوروبا، طالما أنه يبقى خاضعاً لتقديرات سياسيِّين فرادى نادراً ما يجدون إسناداً من أطر مؤسسيّة خاصة بمسلمي أوروبا؛

فإنّ الأقليات المسلمة في أوروبا ستكون معنيّة بالمقاربة بين الآمال والتطلّعات من جانب، والإمكانات المتاحة من جانب آخر، وذلك تحرِّياً للتطوير المرحلي المحسوب.

فالخيار الأمثل هو خوض تجارب المشاركة السياسية بمنحى تراكمي، وهي التراكمية التي لا تتأتّى بمعزل عن ميدان التطبيق الفعلي والممارسة العملية.

قد ينجح بعضُ المسلمين في دخول ساحة العمل السياسيّ المباشر في البلدان الأوروبيّة، ليعكس ذلك من حيث المبدأ مؤشِّراً إيجابياً في ما يتعلّق بالمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا. لكن؛ كيف يبدو الحضور الواقعي لممثِّلي الأقليات، ومنها الأقليات المسلمة، أو المعبِّرين عن مصالح الفئات المجتمعيّة أو بعض القوى والأطراف، في الأطر الحزبيّة والسياسيّة؟

إزاء التساؤلات التي يمكن طرحُها بشأن فرص حضور هؤلاء، ومدى تأثيرهم الفعليّ في النطاق الحزبي؛ فإنّ الأمر يستدعي الإشارةَ إلى أنّ فرص تأثير السياسيّ المسلم ضمن نطاقه السياسيّ أو الحزبيّ تبقى محكومةً بعوامل عدة، ومنها عوامل ذاتيّة مرتبطة به مباشرة، كالمكاسب الانتخابية التي يحققها للحزب، مثلاً عبر الثقل التصويتي، أي حجم الأصوات التي يحصل عليها الحزب من خلال ترشّح ذلك السياسي على قوائمه مثلاً.

ومن العوامل الذاتية أيضاً؛ المؤهلاتُ والمهاراتُ والخبراتُ التي يتمتع بها السياسيّ، ذلك أنّ الفارق يبقى ملحوظاً بين سياسيّ لا يمثل سوى ثقل انتخابي، وآخر يحوز، علاوة على ذلك، على مؤهِّلات عالية، مثلاً، ومهارات تواصليّة، وخبرات في العمل السياسيّ أو التنفيذيّ، وعلاقات نافذة في الداخل والخارج. فالأحزابُ والحكومات تبقى بحاجة للأشخاص الأكفاء وذوي المهارات والخبرات، ليغطوا مجالات الحاجة، ولينهضوا بالمسؤوليات المتجدِّدة.

ومن العوامل الذاتيّة الأخرى؛ قدرة السياسي على التعامل المُثمِر مع الأوساط الداخلية للحزب والمؤسّسة السياسيّة، وفي أوساط الحياة العامّة ككلّ، بما في ذلك بناء التحالفات والقيام بمبادرات فاعلة وغير ذلك من التحرّكات، بما يؤهله لأن يَكسب أوسع قطاعاتٍ ممكنة داخل حزبه أو حكومته لصالح ما يتبنّاه من رؤى ومواقف، وأن ينعكس ذلك بالتالي على أداء الحزب.

ومن تلك العوامل أيضاً؛ قدرة السياسيّ على إدماج من يعزِّزون دورَه ويُسنِدون حضورَه في نطاق الحزب أو المستوى السياسي، وقيامه بذلك بالسبل المُثلى، وهي ملاحظة ذات أهمية خاصة بالنسبة للمشاركة السياسية للأقلِّيّات.

أما من الناحية الموضوعيّة؛ فإنّه لا يغيب عن الأذهان أنّ السياسيِّين المسلمين في الأحزاب القائمة في الساحات الأوروبيّة، هم مجرد أفراد من حيث المبدأ يعملون ضمن إطار عام، بما يجعل فرصَهم في التأثير محدودةً بدون شكّ. إلاّ أنّ ذلك الإطار الحزبي، أو ربما الحكوميّ، ليس متجانساً في واقع الأمر. فمن المألوف أن تضمّ الأحزابُ السياسيّة الأوروبيّة، خاصة الأحزاب العريقة والكبرى، بين جنباتها أجنحةً وأقطاباً، ومراكزَ قوى، وجماعات معبرة عن مصالح الفئات التي تتعامل معها الأحزاب. وعادة ما يكون مجمل الأداء الحزبي بمثابة محصِّلة للاتجاهات والتجاذبات الداخلية في النطاق الحزبي. “وحتى مع سعي بعض فئات المجتمع للدفاع عن مصالحها من خلال جماعات المصالح، والتي تختلف وظائفها عن الأحزاب؛ فإنه من الممكن اعتبار الأحزاب تجمّعاً لقوى ومصالح اجتماعية مختلفة”[184].

ومن المألوف بالتالي أن تعبِّر بعض المواقع أو اللجان أو المجموعات العاملة ضمن الوسط الحزبي؛ عن مراكز قوى أو جماعات مصالح أو حتى قوى ضغط، قد تكون معنيّة بمجمل الأداء الحزبيّ أو معظمه، أو قد تسلِّط جهودها على الجوانب المُحَدّدة المتّصلة باهتماماتها وتطلّعاتها ومصالحها. فالقوى النقابيّة مثلاً، إذا كان لها من يعبِّر عنها داخل هذا الحزب أو ذاك؛ فإنها ستمنح الأولويّة لمحاولة التأثير على ما يتعلّق بشؤون الشرائح الممثِّلة لها. وإذا ما تعلّق الأمر بالأشخاص ذوي الإعاقة؛ فإنّ تركيز التأثير يتمّ ضمن ما يعني هذه الشريحة المجتمعيّة على نحو خاص، وهو ما يسري على فئات وشرائح شتى أيضاً.

أيّ أنّ هذه الأطراف تعمل ﻛ “لوبيّات” (Lobbies)، أو مجموعات ضاغطة (Preasure Groups)، داخل صفوف الأحزاب ذاتها، دون التفريط من حيث المبدأ بمطلب “خدمة الحزب”. وتفيد تلك الأطراف من أداء مجموعات المصالح الرديفة، أو ذات الاهتمام المشترك، الواقعة خارج نطاق الحزب، وقد يكون السياسيّ ذاته عضواً فيها.

يعني ذلك؛ أنّ قدرة السياسي المسلم وإن كانت محدودةً حقاً؛ فإنّ قابليّتها على التأثير يمكن أن تتقلّص أو بالوسع تثميرها، بحسب الإمكانات الذاتية لذاك السياسي ورؤيته وقدراته على التفاعل مع مكوِّنات الواقع الذي يتحرّك ضمنه وتوظيفه للعوامل والمتغيّرات، فضلاً عن امتلاكه لرؤية وتصوّر، يسترشد بهما في ساحة شائكة ومعقّدة في الغالب، علاوة على الظروف الموضوعية التي تكتنفه.

ثالثاً/ إشكالية التوافق مع مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي:

لعلّ أحد الأسئلة الإشكاليّة الدقيقة، التي تكتسب أهمِّيّةً خاصة بالنسبة لمسلمي أوروبا في ما يتعلّق بميدان العمل السياسي عبر الأحزاب؛ ما يتّصل بافتراض مطلب الموافقة على كافة مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي؛ لكي يكون مقبولاً الانضمام إلى صفوفه أو النشاط السياسي من خلاله.

والواقع أنّ مسألة الموافقة هذه، لا يمكن أن تؤخَذ على إطلاقها، ذلك أنّ الإقرار بالتعامل الإيجابي مع منظومة النظريات والبرامج والأقوال والمواقف والأداءات الصادرة عن حزب ما؛ لا يرقَى لأن يكون موافقةً مُطلَقةً أو ينطوي على تَبَنّ لكلّ ذلك جملةً وتفصيلاً. ومثل هذه الموافقة أو هذا التبنِّي، بصفة مُطلَقَة، غير واردة ولا مُنتظرَة من عموم المنخرطين في صفوف حزب ما، كما أنه من غير المألوف أن يُطالَب بها العضو في الأحزاب الكبرى الفاعلة على نحو صريح ومشدّد عليه، إلاّ أنّ مجرّد انضمامه للحزب إنما يحمل إقراراً ضمنيّاً، أو حتى نصِّيّاً، بسياسات الحزب العامة وبرامجه، مع الاستعداد لدعم الحزب والتعبير عن منطلقاته وسياساته.

وقد يتوجّب في هذا السياق مراعاة الفارق بين المجموعة الأيديولوجيّة، ذات الخطاب “المُؤدلَج”، ولو كانت حزباً سياسيّاً، من جانب؛ والأحزاب المتموضعة داخل الساحة السياسيّة، لا على أطرافها، من جانب آخر. وتتأتّى أهمية هذا التفريق من التمايز الملموس بين “البيت السياسيّ” و”البيت الأيديولوجيّ”. صحيحٌ أنّ لكثير من الأحزاب السياسيّة الأوروبيّة جذوراً أو ارتباطات فكرية أو أيديولوجية؛ إلاّ أنّ الأحزاب الأوروبيّة ذاتها، عندما تحرص على أصوات أوسع شرائح مجتمعيّة ممكنة، وتسعى إلى ضم معبِّرين عن تلك الشرائح قَدْرَ الممكن إلى صفوفها؛ فإنها عادةً ما تنأى بنفسها عن الاصطباغ بلونٍ فكريّ صارخ أو طابع أيديولوجيّ بارز، مفضِّلة بدلاً عن ذلك التعبير عن “قيم” عامة و”مبادئ” تبدو مشتركة وأقدر على اجتذاب أوسع قطاعات مجتمعيّة ممكنة، دون الإلزام بتعريفات صارمة ذات دلالات لا تقبل التأويل، ومع هذا؛ فإنّ ذلك يتمّ، عادةً، بما لا يتناقض في الوقت ذاته مع خصوصيّات كل حزب وهويّته العامة. ولذا تتّجه بعض الأحزاب يميناً أو يساراً بعض الشيء من موسم إلى آخر، بناء على اتجاهات الرأي العام وتبعاً للتوازنات الداخلية في أطرها أيضاً. وربما بات الانزياح نحو اليمين (غالباً) أو اليسار؛ أكثر يُسراً من ذي قبل مع الظاهرة المسماة “اضمحلال الأيديولوجيات”. فلا فارق واضحاً اليوم بين يسار الوسط ويمين الوسط في عيون قطاعات من الناخبين في عديد البلدان الأوروبية، كما تتّجه المزيد من أحزاب اليمين والقوى المحافظة لتقمّص بعض مضامين خطاب اليمين المتطرف.

أما الخلفيّةُ الفكريّة أو الأيديولوجيّة للحزب؛ فقد يتمّ الاحتفاظ بها، ولكن في إطار خاص، قد يمثِّل “نواة صلبة” (من قبيل هيئة داخل الحزب، أو لجنة مختصّة، أو قسم لتأهيل الكوادر، أو مركز دراسات، أو مجموعة تفكير، أو نادٍ للناشطين، أو غير ذلك)، عادة ما تكون موئلاً لعقائديِّي الحزب، أو غير ذلك من الصور. وعليه؛ فإنّ الفارق واضحٌ بين المستوييْن؛ مستوى النطاقات الأيديولوجيّة الخاصّة، ومستوى الفضاءات الحزبيّة العامّة.

والواقع أنّ الأوساط الداخليّة في أطر الأحزاب الأساسيّة في الساحات السياسيّة الأوروبيّة؛ عادة ما تتمتّع بهامش تناولٍ نقديّ يتسع أو يضيق بحسب كل حزب وكل مرحلة وكل مسألة، دون أن يعني ذلك عدم وجود “محظورات” أو “محرّمات” (تابوهات) بالعرف السياسيّ والحزبيّ، أي “خطوط حمراء”. وفي أوساط الحزب الواحد؛ لا يُستَبعَد تشخيص تيّارات وأجنحة ومراكز قوى، بما في ذلك قوى متديِّنة وأخرى علمانيّة متصالحة مع الأديان وغيرها علمانيّة متطرِّفة. ففي الحزب الواحد؛ كحزب العمال البريطاني مثلاً، يمكن العثور على سياسي ملحد، وإن قادَهُ سياسيّ من خلفية متديِّنة ويرتاد الكنيسة ويقرأ “العهديْن القديم والجديد” بانتظام كطوني بلير. وفي حزب العمال ذاته؛ يمكن العثور على “مجموعة أصدقاء إسرائيل”، كما يمكن تصنيف نواب من الحزب على أنهم مؤيِّدون تقليديّون للحقوق الفلسطينية. بل وفي الحزب نفسه؛ كان هناك من أيّد الحرب على العراق، وهناك من عارضها، وبحدّة مثل جورج غالاوي قبل انفصاله عن الحزب. ويصدُقُ هذا النموذج، بقَدْرٍ أو بآخر؛ على الطابع العام للساحة الحزبيّة الأساسيّة في عموم أوروبا، دون أن يعني ذلك عدم وجود استثناءات.

وما تجدر الإشارة إليه أيضاً؛ أنّ السياسيّ المسلم، الذي يُفتَرَض أن يكون مُعَبِّراً عن المشاركة السياسيّة للأقليّة المسلمة؛ إنما ينبغي، كما عليه الحال بالنسبة لمعظم أقرانه السياسيين؛ أن يُبقي لذاته مساحة من التحفّظ على بعض التفاصيل الواردة ضمن منظومة النظريّات والأقوال والمواقف والأداءات الصادرة عن حزبه. فالتماهي المطلق مع تلك المنظومة كفيلٌ بأن يُفقِدَهُ خصوصيّته كسياسيّ معبِّر عن إرادة المشاركة السياسيّة للمسلمين، وهي مشاركةٌ، عندما تصدُر عن أي مجموعة مجتمعيّة؛ إنما تروم الحفاظ على المكتسبات من جانب؛ وإحداث تغيير ما في صناعة القرار السياسي من جانب آخر، بما يوافق رؤاها وتصوّراتها ومصالحها. فكيف تتأتّى المشاركةُ، بما تقتضيه من إرادة التغيير؛ مع ذلك التماهي المُفترَض؟.

ولا يمكن الاحتجاجُ في هذا الشأن بأنّ التغييرَ أو التأثيرَ المنشودَ هو في الساحة السياسيّة ككلّ أو في القرار السياسيّ العام؛ وليس كذلك في مستوى الحزب الذي ينخرط فيه السياسيّ المسلم بما لا يمنع التماهي معه. فما ينبغي التشديدُ عليه في هذا الموضع؛ أنه لا يمكن إحداث تغيير عبر الحزب في القرار السياسيّ العام على أي مستوى، مع القفز على مطلب التأثير ضمن النطاق الحزبي ذاته (كاعتماد موقف معيّن مثلاً)، ولو جرى التسليم بخلاف ذلك لأمكن اعتبار الحزب إياه معبِّراً تلقائياً عن إرادة المشاركة السياسيّة للمسلمين، ولانْتَفَت، ربما، الحاجةُ إلى دور السياسي المسلم أو من في حُكمه من شركاء المسلمين.

ومن الواضح أنّ المسلمين غالباً ما يجدون في كلّ حزب من الأحزاب الجماهيريّة في الساحة الأوروبيّة، من ضمن ما يُوصَف بالأحزاب الديمقراطية المعتدلة؛ ما يخاطب جانباً أو جوانب من اهتماماتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم على نحو خاص، مع تفاوُتٍ بين حزبٍ وآخر في ذلك. ويمكن البناءُ على تلك القواسم المشتركة بالفعل، وهو ما يحاول أن يفعله عمليّاً بعض الساسة المسلمين المنضوين في تلك الأحزاب أو المرشّحين على قوائمها، كما أنّّ ذلك هو ما تعمد إليه أحياناً آلياتُ الاستقطاب السياسيّ والانتخابيّ لتلك الأحزاب في تعاملها مع المسلمين.

فمثلاً؛ عن مبادرته للتواصل بين الإسلام والمذهب “الديمقراطي الاجتماعي” (Islam und Sozialdemokratie)؛ يقول عمر الراوي النائب المسلم في برلمان مقاطعة فيينا عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي (SPÖ)، “برأيي أنّ هناك ثلاثة مقومات عندما تدلي بصوتك لأيّ حزب. المقوم الأول: ما هي سياسة الحزب تجاهي كإنسان وكمواطن في هذه البلاد؟ هل سياسة الحزب مع تكاليف التعليم المجاني؟ مع التأمين المعقول؟ مع توزيع الأموال بشكل عادل بين الغنيّ والفقير والتكافل الاجتماعيّ؟ عندما أقيّم سياسة الحزب الديمقراطي الاجتماعيّ؛ أجدها سياسة أقرب إلى دعم الطبقة الكادحة في المجتمع. والمقوّم الثاني: ما هي سياسة الحزب تجاه الأقلِّيّات؟ هل هو حزب منفتح يحترم الآخرين؟ يحترم الأديان؟ يحترم تعدّد الآراء والأفكار؟ والمقوم الثالث: ما هي سياسته العالمية؟ هل هو حزب مع الحياد أم منحاز؟ هل هو حزب مع السلام العالمي أم مع الولايات المتحدة؟ مثلاً في ألمانيا في الانتخابات السابقة؛ قال الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) إنه لن يشارك بالحرب، وقال الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) أنا سأشارك في حرب العراق، وحُسمت الانتخابات بمشاركة 6027 صوت، وهم الذين رجّحوا حزباً على حزب. فهذه المعايير هي التي يجب أن نُقَيِّم الأحزاب بناءً عليها”[185].

أما الشابّة المسلمة السويسرية نادية صديقي (من أصول باكستانية)، والتي رشّحها الحزب الديمقراطي المسيحي للانتخابات في إحدى مقاطعات كانتون تيسان (تيتشينو)، في العام 2004؛ فقد أكّدت أنّ قبولها عرضَ الحزب يعني بشكل رئيس قبولها “بقيم الحزب وسياساته التي تعطي الأولويّة للفرد وللحفاظ على الكيان الأسريّ، وهي القيم ذاتها التي يدعو إليها ديني الذي يحثّني أيضاً على الاهتمام بالآخرين وبالمجتمع الذي أعيش فيه”[186]. وعلى أيّ حال؛ فقد أثار نموذج نادية صديقي الانتباه لأنها مسلمة محجبة وعُرف عنها حرصها على الالتزام الديني.

فالمسلمون المنضوون في الأحزاب الديمقراطية الاجتماعيّة (تيار الوسط الاشتراكي) غالباً ما يُبرِزون الجوانب المتعلِّقة بالرعاية الاجتماعيّة ومكتسبات دولة الرفاه، وأما المسلمون المنضوون في الأحزاب المحافظة فيركِّزون عادة على الجوانب المتعلِّقة بقيم الأسرة وحمايتها ودعمها وتعزيزها، في ما أنّ أحزاب الخُضر تميل لاستعراض تجاربها في مجال تكافؤ الفرص والصعود بأبناء الأقليات وربما في ما يتعلق بسياستها المنفتحة تقليدياً نحو “المهاجرين”، وأما القوى الليبرالية فقد تجد في تركيزها على الشجاعة المدنيّة (Civil Courage) وقيم الحوار المجتمعي وإطلاق الفرص؛ ما قد يلفت إليها اهتمام المسلمين. بل من المثير أنّ بعض من يتحدرون من خلفية هجرة ومن ينتمون إلى الأقليات بما في ذلك المسلمون أو اليهود أيضاً؛ يتجهون للتصويت لأقصى اليمين السياسي ذي الخطاب المتطرِّف نحو “المهاجرين”[187]، وهو ما يُعزَى جزئيّاً لخلفيّات نفسيّة واجتماعيّة كامنة، منها نزعة تأكيد الانتماء للمجتمع الجديد وإقناع الذات باستيفاء التزامات المواطنة علاوة على ما يعدّها بعضهم أنها “ظاهرة” الأجانب أو أبناء الأقليات “الكارهين لذواتهم”.

إلاّ أنه ينبغي على أيّ حال التمييز بين مقتضيات تعزيز القواسم المشتركة، ومتطلبات الانفتاح على الأحزاب الأساسية الفاعلة، من جانب؛ وإصدار أحكام وتقديرات موضوعيّة (Objective) لمُجمل توجّهات كل حزب وبرامجه وسياساته وأداءاته، من جانب آخر. فلإصدار أحكام وتقديرات موضوعيّة كهذه؛ لا بدّ وأن تتوفّر رؤى أشمل ومعايير أدقّ وأدوات ناقدة، وبدون ذلك؛ فإنّ تجارب المشاركة السياسية للمسلمين قد لا تسير وفق خارطة طريق (Road Map) صحيحة، وإنما قد تتجاذبها مواسم انتخابيّة متقطّعة ومتقلِّبة، وتتنازعها إنجازاتٌ عابرة أو سطحيّة، وتقديرات أو تخمينات متضاربة، وسط تساؤلات عن الجدوى العميقة والمردود الفعلي من ذلك كلِّه.

وبالمقابل؛ فإنّ استبعاد إمكانيّة المشاركة السياسيّة للمسلمين من أيّ حزب قائم في الساحة السياسيّة، لمجرد التعارض مع مسائل بعينها؛ إنما يهدِّد بالنفي الشامل لإمكانية تلك المشاركة في أيّ من الأحزاب، وهو ما تترتّب عليه مفاسد لا تُدرَأ ومصالح لا تُجلَب. إذ لا سبيلَ لتوافُقٍ مُطلَق كما تقدّم، ولا بد من وجود تباينات ما، وإنّ التباينات تلك هي ما يتيح للمشاركة أحد مبرِّارتها الهامة، بل وتؤشِّر لوظيفةٍ جوهرية من وظائفها، أي وظيفة التأثير الحسن ونشدان التغيير نحو ما هو أفضل دوماً والإصلاح قدر الاستطاعة. ومن الأهمية بمكان أن يُشار هنا إلى أنّ تلك التباينات ليست “استثناءً إسلاميّاً”، أي أنها لا تختصّ بما يتعلّق بالمسلمين وحدهم، بل هي حاضرةٌ، بقَدْرٍ أو بآخر، مع شتى الفئات والأطراف المجتمعية، والتي تتوجّه بدورها إلى المشاركة السياسيّة سعياً لتغيير يتوافق مع ما تَصدُرُ عنه من قناعات أو اهتمامات، وبما يتماشى مع ما تراه لنفسها من مصالح.

إلاّ أّنّ التباينات ينبغي أن تبقى محسوبةً، وأن تظلّ قابلة لأن يتم الالتفاف عليها أو تجسير هوّتها، وإلاّ فإنّ المشاركة لن تتوفّر لها الشروط الموضوعيّة للنجاح. ومن ذلك؛ عبثيّة المشاركة في أحزاب تتبنّى برامج أو خطاباً معادياً للمسلمين أو من تصفهم ﺑ “الأجانب”، أو أخرى تقوم على أرضية عنصريّة، أو حتى بعض الأحزاب المُؤدلَجة خاصة إن كانت صارخةً في التعبير عن أيديولوجيّتها، أو غيرها المتورِّطة في سياسات مثيرة للجدل وباعثة على التذمّر الواسع وبما لا تتوافر مؤشِّرات مشجِّعة على قابليّته للإصلاح والتقويم.

ولعلّ ما يسري على منطق الحكم على المشاركة من خلال الأحزاب؛ إنما يُفترَض أن يراعَى أيضاً في ما يتعلّق بالتحالف السياسيّ أو الوصول إلى قواسم مشتركة مع الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة، من قبيل تشكيل جبهات عمل مشتركة، أو تحرير عرائض ومذكّرات أو التوقيع عليها.

ولكن في كلِّ الأحوال؛ لا ينبغي أن يغيبَ عن الانتباه، أنّ السياسيّ المسلم، يسَعه ما لا يسَع الأقلية المسلمة، وأنّ السياسيّ المسلم الذي ينشط أحياناً ضمن موازناتٍ متشابكة وتقديراتٍ غير يسيرة؛ يبقى أكثر قابلية للوقوع في الزلل أو ارتكاب أخطاء، ينبغي أن يبقى الوجود المسلم والأطراف المعبرة عنه بمعزل عن تداعياتها قدر الممكن. ومن هنا تبرز مجدّداً أهمية وجود أطر معبِّرة تعبيراً صرفاً عن الوجود المسلم واهتماماته ومصالحه وتطلعاته، وبالصورة التي تحتفظ بمسافة حياد عن المؤسسة السياسية والسلطات وعن الأطراف الحزبيّة والتيارات المجتمعيّة الأخرى وجماعات المصالح غير المسلمة، مع الانتباه جيِّداً إلى أنّ اختزال تلك المسافة بحق أيّة أقلية كانت ليس بالأمر الذي يُستَبعَدُ وقوعُه، بناء على حصيلة التفاعلات التي تجري في الساحتيْن السياسيّة والمجتمعيّة ضمن ما يتّصل بالأقليّة إياها، وهو ما يجدر التنّبه له والحذر منه، من جانب الأقلِّيّات الحريصة على ضمان استقلاليّتها في كلّ الظروف والأحوال.

رابعاً/ هل من معايير لإمكانية بقاء السياسي المسلم في إطار حزبي بعينه؟

عطفاً على ما سبق؛ فإنّ بقاء السياسي المسلم (والمعنيّ هنا أساساً هو المتدرِّج في مراتب العمل السياسيّ وليس مجرّد العضو) في نطاق حزب ما؛ ينبغي أن يكون مشروطاً بتوفّر واحد على الأقل من المعايير التالية، وهي معايير ذاتيّة، تخضع كيفيّةُ تنزيلِها لتقديرات السياسيّ المسلم نفسه أساساً، والذي تُفترَض فيه الحصافة الكافية وتُنتَظَر منه الأمانة في تقييم المواقف، دون إعفائِه من مسؤوليّاته كسياسيّ أو عدم محاسبته عن أيّ قصور أو تقصير ضمن مقتضيات النُّظُم والتقاليد والأعراف المرعيّة:

1/ القدرة على تغيير ما قد يراه سلبياً أو مرفوضاً:

ولا يُشتَرَط في ذلك؛ التغيير المطلق، أو الكليّ، بل قد يكون التغيير جزئياً، ولو بالحدّ من تفاقم الجانب السلبيّ، وهذه من سنن التدافع البشري. ومن جانب آخر؛ فإنّ ما قد يراهُ السياسيّ سلبيّاً أو مرفوضاً؛ يتفاوت ضمناً في سلبيّته ودرجة التغليظ في رفضه، وهو ما يخضع إجمالاً لتقدير كل موقف بقَدْره. فمثلاً؛ إنّ صدور موقف سلبيّ إزاء المسلمين من سياسيّ مغمور في الحزب؛ لا يستوي مع صدور الموقف ذاته من قيادي بارز في الحزب أو تضمين ذلك في برنامج انتخابي مثلاً (مع الإشارة إلى ضرورة تبرّؤ قيادة الحزب من المواقف السلبيّة المنسوبة لأي من سياسيِّيه).

2/ القدرة على التعبير عن رأي يرى أنه لا بدّ من التعبير عنه:

وهنا ينبغي التمييز بين تلك القُدْرَة وما يتعلّق بالتعبير عن مجمل آرائه وقناعاته ومفاهيمه. ذلك أنّ تقاليد العمل السياسيّ ومتطلّباته لا تتيح متّسعاً للإسراف في مثل ذلك، بل ما يُنتظر من السياسي الفاعل، والذي يرى أنّ تغييراً ما لا بدّ منه، أن يوصل الرسالة التي تحقِّق المقصد في الجانب المطلوب تحديداً وفي التوقيت الأكثر ملاءَمة لذلك. ويُلاحَظ هنا أنّ السياسيّ الفاعل، حسب ما يتضح من واقع الساحة الأوروبيّة، قد يبوح بعد اعتزاله السياسة أو تقدّمه في السنّ بكثير من المفاهيم والقناعات والآراء مما لم يكن يجرؤ على الإدلاء ببعض منه بينما كان في ذروة نشاطه السياسيّ. وفي العمل السياسي، وكما يتجلّى في التقاليد الأوروبيّة على نحو خاص؛ ثمة رسائل أو مضامين سياسيّة يعبِّر عنها السياسيون، وهي تنبثق عن مجمل خطابهم السياسي، والذي يصدر عن منظومة مفاهيمية يستندون إليها (وهي ليست بالضرورة، ولا حتى في الغالب، المنظومة ذاتها للحزب وعلى نحو دقيق أو مطابق). إلاّ أنّه يكون من الصعوبة على وجه الدقّة؛ التعرّف على المنظومة المفاهيميّة الخاصّة بكل سياسيّ، إلاّ في مراحل متأخِّرة ربما. أي أنّ للمفاهيم الخاصّة بكل سياسيّ متّسعاً في وعيه يمكنه أن يصدر عنها حسب ما يلزم وبما يراعي الحاجة. إلاّ أنه في هذا المضمار، ينبغي التفريق بين التعبير المدروس والواعي عن الرأي، والحالة التي لا يكون بوسع السياسي التعبير معها عن رأي يستنتج أنه لا بدّ من التعبير عنه، بما يتّصل مثلاً بدرء مفسَدة متحقّقة أو تعطيل مصلحة ذات شأن ماثلةٍ له. إلاّ أنّ تعبيره عن رأي ما، لا يجوز أن يتعارض مع مفاهيمه، ولا أن يتمّ ضرب الحقيقة الكليّة بجزء من الحقيقة.

3/ القناعة بأنّ مجرد البقاء في صفوف الحزب من شأنه أن يحقق مصلحة لا يجدر التفريط بها، أو يدفع مفسدة لا ينبغي الإبقاء عليها:

ويلحق بذلك أن يرى أنه بالوسع تحقّق المعياريْن الأوّل أو الثاني أو كليهما معاً في قابلات الأيام، أي في مراحل لاحقة، بناءً على معطيات ذاتيّة خاصة به، و/أو موضوعيّة متعلِّقة بالحزب وظروفه وأوضاعه الداخليّة أو بالساحة العامة ككلّ والظروف التي تكتنفها. فمثلاً؛ قد يكون السياسيّ المسلم متدرِّجاً في حزب ما، ولم يتمكّن بعد من تثبيت أقدامه في مواقع مؤثِّرة، فلا يُؤْبَهُ لقَولِه أو لا يُكْتَرَثُ بملاحظاته، أو لم تتحقّق له بعد من القُدْرَة على التأثير ما قد يحوزه لاحقاً. أو قد تكون التوازناتُ القائمة داخل الحزب في مرحلة ما، أو أوضاع الحزب العامّة في توقيتٍ بعينه، أو الملابسات الظرفيّة التي تحكُمُه؛ غير ملائِمَةٍ لتحرّك من جانبه حسب المعياريْن الأوّل والثاني، بينما يمكن تجاوز تلك الظروف لاحقاً. كما قد يحدث أن تكون هناك ظروفٌ داهِمَةٌ ضمن مجمل الساحة العامّة، تفرض تقديراتٍ استثنائية كما في المنعطفات السياسيّة والأمنيّة ومواسم الحروب وغيرها. ويلحق بما سبق ضمن هذا المعيار أيضاً؛ التفريطُ بمصلحةٍ سعياً لتحقيق مصلحةٍ أكبر منها، أو التهاون مع مفسَدَةٍ ما لما يُرَى من ضرورة الانصراف إلى دَرءِ مفسدةٍ أعظم منها.

ويُلاحَظ في هذا الصدد، أنّه من المشكوك فيه أن يتّصف حزبٌ لا تتحقّق فيه إمكانيّة إعمالِ أحد هذه المعايير الثلاث سابقة الذكر؛ بالتماشي مع مقتضيات الديمقراطيّة والاعتدال والحيويّة. ذلك أنّ نوعية الأداء الديمقراطي ستكون ضعيفة، وتخالطها ملابسات غير ديمقراطيّة وتتناقض مع روحيّتها ومقتضياتها؛ في ما لو لم تتوفر لأعضاء الحزب إمكانيّة تفعيل أيّ من هذه المعايير حال الحاجة، فضلاً عن أن يكون ذلك متعلِّقاً بمن هم في مستويات أعلى أو حتى قياديّة في صفوف الحزب.

خامساً/ إشكالية التشابك بين “السياسي” و”الدعوي”، أو إشكالية “تسييس” الحضور العام لمسلمي أوروبا:

غنيّ عن القول إنّ ممارسات العمل السياسيّ للمسلمين في الساحة الأوروبيّة، لا يمكن تصوّرها تعبيراً واضحاً عن الدعوة للإسلام أو التعريف به، كما قد يتردّد أحياناً في بعض أوساط المسلمين. فذلك العمل عندما يكون رشيداً وفاعلاً، إنما ينطلق بتمثّل القيم والتوجيهات الإسلامية والاجتهاد في التعبير اللائق عنها، وبروحيّة التواصل الذي يحثّ عليه الإسلام، إلاّ أنه لا بدّ وأن يكون واضحاً؛ أنّ للتعريف بالإسلام، لجهة أمانة البلاغ؛ منابرَ وميادين ينبغي أن تحافِظَ على استقلاليّتها وضمان هامشٍ أوسع لها مع طابع دعويّ عام، وهو ما لا ينسجم مع مقتضيات العمل السياسيّ الذي يروم التغيير في السياسات وتطويرها أسوةً بشركاء المجتمع الواحد، وضمن تقاليد الساحة السياسيّة الأوروبيّة، بشرط عدم تعارضها مع التعاليم والتوجيهات الإسلاميّة ذات الصلة تعارضاً لا مراء فيه.

ولا يُقصَد من هذه الإشارة، في واقع الأمر، مجرّد تقرير ما هو معروفٌ لدى المعنيِّين؛ بل وتنبيه الفاعلين في ساحة مسلمي أوروبا، من غير السياسيِّين، إلى أنّ العملَ السياسيّ، على أهمِّيّته؛ يبقى أحد مسارات المشاركة المجتمعيّة، وأنه من المحذور تحميله ما لا يحتمل، كما أنه لا يُتَصوّر تعطيل الأدوار المجتمعيّة الأخرى للمسلمين، بما في ذلك الحاجة إلى حضورٍ مجتمعيّ يعبِّر عن الشخصيّة المسلمة الأوروبيّة تعبيراً صريحاً ومسؤولاً وحكيماً، وهو ليس الدورُ الذي يُنْتَظَرُ حصراً من سياسيِّين أفراد يتوزّعون إجمالاً على المربّعات الحزبيّة في الساحة السياسيّة.

ولما كانت المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، مهيّأةً لأن تتّخذ ملامح عدة، ومنها ملمح التدافع ضمن ساحةٍ تتجاذبها أطرافٌ عدّة؛ فإنّ هذا من شأنه أن يثير إشكاليّةً دقيقةً وحسّاسة، تتعلّق بالمدى المعقول الذي يمكن معه الزجّ بالوجود المسلم في تجاذبات السياسة، ومعه على وجه الاحتمال أو الافتراض؛ “الخطاب الإسلامي”، أو حتى مجرد إضفاء “طابع إسلامي” على تلك المشاركة.

ولكنّ النزوع إلى تسييس الحضور العام لمسلمي أوروبا يمكن أن يُلحظ أيضاً في بعض التناولات الإعلامية أو في سياقات الجدل السياسي، التي يُنظر فيها إلى المسلمين ومؤسساتهم وحتى مساجدهم بمنظور التجاذبات المجتمعية والسياسية. ورغم أنّ ذلك لا يمكن عزله دوماً عن السياق العام للتناول الإعلامي؛ فإنّ ارتباط الحضور المسلم بأزمات ذات طابع سياسي بدرجة أو بأخرى يعزِّز طابع التسييس السلبيّ هذا. بل من اللافت للانتباه في هذا المجال، تلك الحجج التي تُساق أحياناً من الأوساط المناهضة للحريات الدينية والحقوق، كالأصوات المتحفظة على حق المرأة في ارتداء الزي الإسلامي باعتبار الحجاب أحياناً “رمزاً سياسيّاً”، بل إنّ الأمر يبلغ ببعض الأصوات المتطرفة حدّ النظرة المسيّسة للمساجد، من قبيل الادعاء بأنّ مآذنها هي “رمز للسيطرة على أرض” (Symbol für die Eroberung eines Gebietes) كما ورد في شعارات حملة مناهضة لتشييدها أطلقها حزب الشعب السويسري (SVP) وبعض قوى اليمين القومي في كانتون زيوريخ في خريف 2006 وأثارت انتقادات واسعة في الأوساط السياسية والدينية في الكانتون. وإجمالاً؛ لا يمكن تجاهل ذلك التناول التسييسي المتزايد للوجود المسلم في أوروبا، المطبوع بطابع الأزمة، وهو ما يتساوق مع نزعة الإسلاموفوبيا التي قد تنظر إلى الإسلام على أنه “أيديولوجية سياسية ويُستخدم لتحقيق أغراض سياسية أو عسكرية”[188].

ويبدو أنّ هناك وعياً في بعض أوساط مسلمي أوروبا بضرورة عدم الانزلاق إلى بؤرة التسييس إياها؛ إذ يؤكد اتحاد المنظمات الاجتماعية “الرائد”، مثلاً، وهو من أبرز التجمعات المؤسسية للمسلمين في أوكرانيا، أنه منذ تأسيسه “مؤسسة اجتماعية ثقافية تعمل على خدمة مسلمي أوكرانيا والارتقاء بهم والتواصل مع طبقات المجتمع الأوكراني، كما كان الرائد يؤكد دائما أنه ليس حزباً سياسياً ولا يتدخل في الشؤون السياسية لأوكرانيا”. ويؤكد الاتحاد “إصراره على عدم التدخل في مجريات الحملات الانتخابية أو توجيه أصوات الناخبين المسلمين لأحد المرشحين لا عبر منابره ولا عبر وسائله الإعلامية ولا عبر علاقاته وشعبيته وسط الجالية المسلمة في أوكرانيا، تاركاً الخيار للمؤسسات السياسية وللأفراد، ملتزماً بذلك بمبادئه وسياساته التي كان ينادي بها دائماً ليطبق ما يقول على أرض الواقع”[189].

ويوضح أنس التكريتي، رئيس”الرابطة الإسلامية في بريطانيا” (MAB) سابقاً أنّ الرابطة قرّرت أن لا تشارك في المؤتمر التأسيسي لحزب “الاحترام” (Respect) البريطاني، في كانون الثاني (يناير) 2004، رغم أنها دُعيت إلى ذلك باعتبار تعاونها الواسع مع الأطراف المجتمعية التي أسّست الحزب، وذلك، كما يقول[190]، “رغبة منها في ألاّ تنضوي تحت لواء أي حزب سياسيّ على وجه التحديد، رغم موافقتها وإقرارها للبنود الأساسية لبرنامج الحزب، وكذلك كونها مؤسسة دعوية من حيث الأصل تمثل المجتمع المسلم بأطيافه المختلفة. فالرابطة لا تريد أن تنضوي تحت لواء الحزب، فتقطع بذلك سبيل التواصل مع الأحزاب الأخرى وتحقيق مصالح للمجتمع المسلم في بريطانيا”. وفي تجربة جديرة بالاهتمام؛ جاء ترشّح أنس التكريتي[191] على رأس قائمة للحزب في الانتخابات الأوروبية التي جرت في حزيران (يونيو) 2004، عن مقاطعة يوركشاير وهامبر سايد (Yorkshire and Hamberside)، مصحوباً باستقالته من رئاسة الرابطة، وذلك كما يوضح من جانبه “لسببين رئيسين: استحالة الجمع بين المهمّتين، مهمّة الحملة الانتخابية وتسيير شؤون الرابطة، بالإضافة إلى قضية استقلالية الرابطة عن الأحزاب السياسية”.

وعلى نحو أكثر دقّة؛ لم يكن من النادر العثور على ملاحظات في أوساط النخب المسلمة في هذا الاتجاه، تتعلّق بمخاوف من مغبة ارتهان الحضور الدينيّ الإسلاميّ الصّرف للتجاذبات السياسيّة. فمثلاً يشرح الدكتور أحمد جاء بالله، ذلك بقوله “نحن في الغرب نعتقدُ أنه لا مانع من أن نتبنّى قضايا المسلمين هنا وهناك، ولكن ليكن واضحاً في طرحنا الإسلاميّ أننا ندعو إلى دينٍ وإلى عقيدة، لا نخلطها دوماً بتبنِّينا للقضايا السياسيّة مما يعزل أمرَ دعوتنا عن الآخرين. قد يكونُ الإنسان الغربيّ لا تهمه قضيّة من قضايانا التي نعتبرها نحن أساسيّةً بالنسبة لنا في هذا البلد أو ذاك، فلماذا نحرمه من دعوةِ الإسلامِ عندما نجعل الإسلامَ ملتصقاً دائماً بقضية النضال السياسيّ؟! (…) وأنا ممن يعتقد أنه حتى في دفاع المسلمين عن حقوقِهم في بلاد الغرب؛ أنهم ليسوا مضّطرين لأن ينطلقوا من منطلق الإسلام للمطالبة بحقوقهم، بل ينبغي أن ينطلقوا من منطلق صفتهم كمواطنين في المجتمع. وفي هذه البلاد (الغربية) قوانين تكفل لهم حقوقاً كما تكفل لغيرهم، فما هو الداعي لأن ننطلق في الدفاع عن حقوق اجتماعيّة أو حقوق اقتصاديّة أو سياسيّة وأن نبرزها من المنطلق الإسلامي؟!. إنه بإمكاننا في هذه البلاد، ومن خلال قوانينها وأعرافها؛ أن نُطالِبَ بحقوقِنا وأن ندافع عن قضايانا كمواطنين في هذا المجتمع؛ حتى لا يُقْحَمَ الإسلامُ في قضيّة صراعٍ قد تُبعِدُهُ عن قبول الناس له”[192].

ولو حاولنا أن نتعاطى مع هذه الإشكالية، بمجرد التذكير بأنّ الأمر يتعلق بالمشاركة السياسية “للمسلمين” في أوروبا، وليس بالمشاركة السياسية “الإسلاميّة” في أوروبا؛ فإنّ الاستئناس لذلك وحده لا يمثِّل على ما يَبدو خياراً وافياً، ذلك أنّ خصوصية المسلمين لا بدّ وأن تستدعي ربطاً تلقائيّاً مع الإسلام والثقافة الإسلاميّة في أذهان عامة الجمهور، وهي ملاحظة تنطوي على وزنٍ أكبر في الواقع الأوروبيّ، حيث يسود الانطباع بأنّ الإسلام يكاد يشكِّل مجمل حياة المسلمين بتفاصيلها، بما يفضي إلى استنتاجات واهيةٍ من قبيل أنه يتحمّل بالتالي المسؤوليّةَ عن تصرّفاتهم، وأخطائهم أيضاً.

لذا؛ ينبغي إلى جانب التفريق بين المشاركة السياسيّة “للمسلمين”، والمشاركة السياسيّة “الإسلاميّة”؛ أن تُوضَعَ هذه المشاركة أساساً ضمن نسقها المجتمعي، وبشكل متشابك معه، من جانب؛ ومن جانب آخر؛ بإبقاء هوامش معقولة من الحصانة، والحماية، للأطر والمؤسسات والأفراد، ممن يتولّون التعبير عن الحضور المسلم ذي الصفة الدينيّة الصرفة (الشعائرية مثلاً) من مغبة الانغماس في الشؤون السياسية، بينما الأوْلى أن تُعنى أطرافٌ أخرى أكثر تخصّصاً بالسهر على هذه الشؤون.

لا شكّ أنّ ذلك كفيلٌ بإثارة تساؤلاتٍ على الجانب الآخر؛ تتعلّق أساساً بإمكانية أن يقود ذلك إلى تقمّص التجربة الكنسيّة الراهنة مثلاً، أو حتى فصل الشأن الدينيّ الإسلاميّ عن المجريات العامة. وإزاء ذلك ينبغي إيراد ثلاث إشارات؛

– الأولى هي أنّ الأطر الدينية الصرفة للمسلمين بوسعها أن تُدلي ببعض المواقف ذات الصلة بالشؤون العامّة، ولكنّ ذلك يبقى محكوماً بخطابٍ وأدواتٍ ووتيرةٍ وتعبيراتٍ ومُفرَداتٍ ملائمة للمقام الدينيّ الصّرف وخصوصيّته وحساسيّة موقعه.

– أما الإشارةُ الثانية؛ فتتعلّق بالحاجة إلى إبقاء المسارِ العام لهذه المواقف متمتِّعاً باستقلاليّته عن أطراف الساحة السياسيّة وإبقاء مسافة معقولة تفصله عنها.

– والإشارةُ الثالثة؛ أنّ هناك فارقاً بين “حضور التديّن”، وما يُتَصوّر أنه “تمثيل الدين”، ويُقصَدُ في الأخير حضور الأشخاص الذين يُتَصَوّر في الثقافة السائدة أنهم يعبِّرون عن الدين أو “المؤسّسة الدينيّة”.

وعلى سبيل المثال؛ إن كانت مشاركة الإمام المسلم بملمحه العام المعروف عنه (المعمّم مثلاً) في الحياة السياسيّة المباشرة، كأن يشغل موقعاً برلمانياً، أمراً معهوداً أو معقولاً في بعض التجارب البرلمانية بالعالم الإسلاميّ (مصر، الأردن، المغرب، باكستان، إندونيسيا، وغيرها)، حيث المجتمعات مجتمعات مسلمة بعامّة، وموقع الإمام ودوره واضِحَان إلى حدٍّ ما باعتباره غير ممثِّلٍ للدِّين رسميّاً وفق المفهوم الإسلاميّ الذي لا يضمّ طبقة “رجال الدين”؛ فإنّ ذلك يتطلّب أكثر من وَقفة إذا ما افتُرِض في واقع مسلمي أوروبا مثلاً، فهو ليس معهوداً في الثقافة السياسيّة والحياة البرلمانيّة؛ والأهمّ من ذلك ربما ما قد يتعلّق بمعقوليّته لجهة جدواه وانعكاساته. فالرأيُ العام في المجتمعات الأوروبيّة يتعامل إجمالاً مع الإمام بمنطق مطبوع بالنظرة إلى رجل الدين النصرانيّ، باعتباره ممثلاً رسمياً للدين، وسيتسبّب هذا الالتباس بجعل ما يصدُر عنه من أقوال أو أفعال، أو مواقف أو إقرارات، أو حتى إشارات وإيحاءات؛ يؤخَذ غالباً على هذا المحمل. أما مشاركة المسلم “المتديِّن” مشاركة مباشرة في الساحة السياسيّة؛ فإنّ لها شأناً آخر. فالأمر في هذه الحالة يخرج، بشكل عام، عن ذلك الالتباس.

ولا ينبغي أن يُظَنّ أنّ الساحات السياسيّة الأوروبيّة معزولة عن المؤثِّر الديني، أو منفصمة عنه بالكامل، فهذا المؤثِّر يرقد كامناً تحت السطح أحياناً، أو يبدو قادراً على التعبير عن نفسه بصفة شبه صريحة أحياناً أخرى، والمؤكد أنّ هذا المؤثِّر كان قد أعيد إنتاجه بما يتوافق مع خصائص الساحة السياسيّة العلمانيّة. وقد يكون هذا المؤثر شكليّ الطابع وفق ما يبدو أحياناً، أو حاضراً في المضامين دون العناوين أحياناً أخرى. ولكن في كلّ الأحوال؛ لا يمكن استبعاد وجوده من بعض ثنايا الساحة السياسيّة مهما قيل عن الفصل بين الدين والدولة (وهو ليس بالفصل المنصوص عليه بالمستوى ذاته في الدساتير والأعراف القانونية لكافة بلدان أوروبا). وعلاوة على وجود أحزاب “ديمقراطية مسيحية” أو “اجتماعية مسيحية” في قلب الساحة السياسيّة في كثير من دول أوروبا؛ يمكن الإشارة إلى شواهد أخرى منها أنّ كييل بونديفيك (Kjell Magne Bondevik)، رئيس الوزراء النرويجي السابق (2001 ـ 2005)؛ حاصل على تأهيل لاهوتي من جامعة أوسلو، علاوة على تعيينه قسيساً في الكنيسة اللوثريّة في العام 1979، بينما مصطلح “كنيسة الدولة” أو “كنيسة الشعب” لم يَغِب بالكلِّيّة عن الإقليم الأوروبي الاسكندنافي.

ثمّ قد يتبيّن بمزيد من إعمال النظر في الممارسات الواقعيّة؛ أنّ افتقار الأقلِّيّات المسلمة إلى أدوات للتعاطي مع الشأن السياسيّ، تكون مستقلّةً عن الشأن الدينيّ الصّرف؛ قد يجعل المتابعات السياسيّة متروكةً للأطر المعبرة عن الشأن الدينيّ الصّرف أو المعنيِّين ببعض الميادين غير ذات الصلة المباشرة والفاعلة بالواقع السياسي، وهو ما تنجم عنه إشكاليات عدّة على صعيد جدوى الأداء، مثل ضعف الكفاءة في التعاطي مع المجريات السياسيّة لعدّم التخصّص (التخصّص في الممارسة العملية) أو الافتقار للتعمّق غالباً في هذا الملف، وهو ما يعود أحياناً بعواقب غير حميدة ويفوِّت فرصاً ومصالح عدّة، وأيضاً من قبيل استشعار المؤسّسات والقيادات المسلمة ذات الصفة الدينيّة الصرفة لضيق هوامش التصرّف والتعبير المتاحة لها بالنظر إلى حساسيّة مواقعها وخصوصيّة مكانتها، وهو ما يجعلها غير مؤهّلة للتعاطي مع تجاذبات الساحة السياسيّة التي لا تفتقر إلى الحدّة أحياناً، فتبدو مواقفُها متراخيَةً مثلاً عندما يتطلّب الأمر إصراراً على الحقوق ومنافحةً عن المكتسبات.

وينبغي التشديدُ كذلك على أهمِّيّة أن يحافِظَ الجمهورُ المسلم، عبر الأطر المعبّرة عنه، على مسافة متقاربة من الأحزاب المعتدلة والجادّة في التقرّب منه، حتى ولو اختار الانحيازَ إلى أحدها في جولة انتخابيّةٍ أو في موقفٍ بعيْنه، بمعنى أنه لا ينبغي أن تُعَدّ الأقلِّيّةُ المسلمةُ منحازَةً تلقائياً لحزب سياسيّ بعينه، وذلك تحقيقاً للمقاصد التالية، أو تجنباً للمحاذير ذات الصلة مما يلي:

1/ ضرورة أن تُدرِكَ بعض الأحزاب والقوى السياسيّة أنّ أصوات المسلمين ليست مضمونةً لها بشكل تلقائيّ، وأنه من الأهمِّيّة بمكان أن تتكيّف مع احتياجات المسلمين واهتماماتهم، وأن تراعي توقّعاتهم ومطالبهم، وأن تسعى لتعزيز مكتسباتهم وحماية حقوقهم، وكذلك بأن تُدرِكَ الأحزاب الأخرى أنّ أصوات المسلمين ليست محجوبةً بشكل مبدئيّ عنها، ما قد يحثّها على التقرّب من الأقلِّيّة المسلمة ومحاولة استمالتها لها.

2/ تحاشي وضع المسلمين في خانة سياسيّة بعينها، بما يعنيه ذلك من تجنّب محاذير عدّة، كتشجيع قوى سياسيّة ما على الاصطفاف في الجهة المقابلة لمصالح المسلمين تبعاً لذلك، خاصة إذا ما ارتأت تلك القوى أنّ ذلك يحقِّق لها مكاسب ما على مستويات أخرى.

3/ الحفاظ على استقرار العلاقة بين الوجود المسلم في البلد المعني والمستوى السياسي فيه، بحيث تبقى تلك العلاقة قائمةً على أساس التقدير المستمر من جانب الوجود المسلم لتفاعلات الساحة السياسيّة وتحديد الخيارات الملائمة بناء على ذلك، وليس الانجراف مع طرف سياسي بعينه بشكل قد يؤدِّي إلى الإضرار بالتواصل مع أطراف أخرى معتدلة أو حتى القطيعة معها.

4/ استثمار الجوانب الإيجابية لدى شتى الأطراف السياسيّة، والبناء عليها وتطويرها، ومعالجة الجوانب السلبيّة، أخذاً بعين الاعتبار فرص التأثير المتاحة، وطابع الحراك في الساحة السياسيّة سواء لجهة تبدّل موازين القوى فيها، أم من جانب معادلة الثابت والمتغيِّر في تصوّرات الأحزاب والقوى السياسيّة ومواقفها.

وخلاصة القول؛ فإنّ المنشود من جانب هي مشاركةٌ فاعلةٌ لمسلمي أوروبا في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة، والمطلوب من جانب ثانٍ أن تأتي هذه المشاركة بشكل متساوق قدر الممكن في طبيعة حضورها مع الملامح العامة للواقع القائم في البيئات الأوروبية ومتشابك مع نسيجها غير منفصم عنه، ومن جانب ثالث؛ بأن يتم ذلك دون استدراج الإطار العام للحضور المسلم إلى فخاخ التسييس الشامل، بما يجعل الوجود المسلم برمّته طرفاً من أطراف التجاذبات السياسيّة في الساحة. ويفضي ذلك إلى المطلب الرابع المتمثل في الحفاظ على الحصانة والخصوصيّة المتعلقة بالشأن الديني لمسلمي أوروبا من مغبة الانشغال بالمتابعات السياسيّة عن الأدوار الأساسيّة المنتَظَرة في الملف الدينيّ الصّرف، فضلاً عن احتمالات الوقوع في محاذير الانجرار إلى تجاذبات سياسيّة حادّة تعود بمضاعفات سلبيّة.

سادساً/ إشكالية “الالتزام الحزبي” في الحياة السياسية والبرلمانية:

عادةً ما تتردّد آمالٌ في أوساط مسلمي أوروبا، بأن ينضمّ من يُعَبِّرون عنهم إلى الأطر الحزبيّة، لإنعاش فرص مشاركتهم السياسيّة، عبر تمثيل اهتمامات الأقلِّيّة المسلمة وتطلّعاتها ومصالحها، في النطاق البرلماني مثلاً.

أي أنّ التوقّعات المبنيّة على هذا المطلب؛ قد تتعلّق بمجرد وصول السياسيّ المسلم إلى مقاعد البرلمان، باعتبار ذلك نقطة التحوّل المُفتَرَضة في الأداء السياسي. إلاّ أنّ الأمر لا يبدو وفقَ هذه الشاكلة متيسِّراً، ذلك أنّ مسائل وإشكاليّات عدّة تبقى مطروحةً للنقاش، بغرض التحقّق من جدِّيّة التعويل السّلِس على مشاركةٍ فاعلةٍ عبر “صوت برلماني” وحسب.

وتتعلّق إحدى الإشكاليات الماثلة في هذا الشأن؛ بنظام الالتزام الحزبي، والذي يجعل النائب مُلْزَماً بالتصويت مع حزبه بغض النظر عما يراه هو شخصيّاً. ويُقصد بالالتزام الحزبي، أن يكون النظامُ المعمولُ به هو تصويتُ النوّاب من أعضاء الحزب (وهو ما يمكن أن يسري على أطر سياسيّة وتمثيليّة غير البرلمانات أيضاً، كالهيئات النقابيّة مثلاً) إلزاماً مع حزبهم؛ وإلاّ فإنّ عقوبات تُوقَعُ عليهم.

وقد تعني الفرضيّةُ المترتِّبَةُ على ذلك؛ أنّ الثقل التصويتيّ للنائب المسلم قد يبقى ملكاً للحزب أكثر من كونه مملوكاً له، أو للأقليّة المسلمة مباشرة، في ما أنّ دورَه هو الإدلاء بصوته نيابة عن الحزب بناءً على ما تقرّر سلفاً في أوساط الحزب، لا جرّاء ما تراه الأقلِّيّة المسلمة. ويصدُقُ ذلك في حال النوّاب ككلّ، فتمثيلُهم المباشر من الناحية العمليّة هو إلى أحزابهم؛ أدنى منه إلى الشعب (الناخبين) الذي فوّضهم للوصول إلى هذه المواقع. ويبقى مدى تمثيل الأحزاب، كأطر سياسيّة، أو كمجموع من السياسيِّين والنوّاب، للشعب؛ مسألة تتّسع لتقديرات عدّة.

والواقع أنّ مدى العمل بنظام الالتزام الحزبي يتفاوت بين دولة أوروبيّة وأخرى، ثم إنّ النائب يستطيع التغيّب عن بعض الجلسات البرلمانيّة، وقد يُتاح له التحفّظ على الإدلاء بموقف، وهو ما يُؤخَذُ بعين الاعتبار أيضاً.

ولا يُعمل في حالة البرلمان الأوروبي بنظام جبريّة التصويت مع الكتلة البرلمانية، فللنائب حرية الاقتراع. كما أنّ النواب في “البوندستاغ” (Bundestag) (الغرفة الدنيا للبرلمان الألماني) بوسعهم التصويت خلافاً لما تقرِّره كتلهم البرلمانية.

ولكن في حالة “المجلس الوطني” (Nationalrat) وهو الغرفة الدنيا للبرلمان النمساوي، يتولّى كل حزب من الأحزاب الممثلة على مقاعده انتخاب رئيس لفريقه البرلماني (Klubobmann)، ويقوم الأخير بتحديد التوجيهات للنوّاب في فريقه في ما يتعلق بسلوكهم التصويتي، وهو ما يُعرف بجبريّة الفريق (Klubzwang)، وبمقتضاها فإنّ نواب كتلة برلمانية ما يتوجب عليهم أن يصوِّتوا بالكيفية المتفق عليها مع رئيس الكتلة في الاجتماع الذي تعقده لهذا الغرض ولا يسعهم سوى الالتزام بالموقف المعتمد. وعلى النقيض من ذلك؛ فإنّ “النيابة الحرة” (freie Mandat)، تتعلّق بالحالة التي يكون من مسؤولية النائب فيها أن يصوِّت بما يعبِّر عن قناعته الشخصية وعن ضميره، وهو ما يمكن أن يتيحه زعماء الكتل البرلمانية إن رأوا ذلك. أما عملية التصويت في المجلس الوطني النمساوي فتجري غالباً بشكل علنيّ، ونادراً ما تتم بالاقتراع السريّ. ومن شأن ترك الحرية للنوّاب كي يصوِّتوا بموجب قرارهم الذاتي أن يؤثِّر تأثيراً واضحاً على نتيجة الاقتراع في البرلمان بالمقارنة مع الأحوال العادية، الأمر الذي يفسِّر بعض التدخلات للمطالبة برفع نظام جبريّة الفريق في جولات تصويتيّة معيّنة، كما فعل حزب الخضر[193] مثلاً في الثالث من تموز (يوليو) 2005، عندما طالب زعيميْ أكبر كتلتين بالبرلمان النمساوي (حزب الشعب والحزب الديمقراطي الاجتماعي) بالعدول عن الجبريّة إلى “النيابة الحرّة” لنوابهم، في التصويت على حزمة قانونيّة مثيرة للجدل تتعلق بالأجانب تقدمت بها وزيرة الداخلية آنذاك ليزه بروكوب (Liese Prokop).

وعن الأوضاع داخل كتلة “الأحرار” (Klub der Freiheitlichen) البرلمانية اليمينية المنقسمة على ذاتها (أواخر سنة 2005)؛ يذكر قائد الكتلة هربرت شايبنر (Herbert Scheibner) أنها أخذت تعتمد على أسلوب حرية التصويت للنواب المسمى “النيابة الحرة”، شارحاً مزايا ذلك بالقول “إننا لا نحتاج إلى جبريّة الفريق، بل يجري التباحث عوضاً عن ذلك طويلاً حتى يوافق النواب (داخل الفريق البرلماني) بارتياح في الضمير وبقناعة كاملة على الإصلاحات الضرورية”[194].

أما في حالة “مجلس العموم” (House of Commons)، الغرفة الدنيا للبرلمان البريطاني؛ فإنّ كل كتلة برلمانيّة تختار قائداً لها هو “السائس” أو “الراعي” (Chief Whip)، ليتولى ضبط السلوك التصويتيّ لنواب كتلته وفق الخطّ المحدّد. وتجري عملية التوجيه هذه عبر خطاب مكتوب وحسب ثلاث رتب من التأكيدات، ويبلغ الإلزام أقصاه في درجته الثالثة التي يتوجّب على النائب بمقتضاها اتباع حزبه في عملية التصويت إلزاماً. ومع ذلك؛ فإنّّ قائد الكتلة قد يضمن لنوابه حرية التصويت أحياناً. أما الاقتراع في مجلس العموم البريطاني فيجري بشكل علنيّ، إذ أنّ النواب يغادرون عبر باب “نعم” أو باب “لا”.

وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ نظام الالتزام الحزبي، إنما يقلِّل بالفعل من جدوى التعويل على أصوات مبعثرة ضمن كتلةٍ نيابيّة، وهو ما يؤكِّد أنّ ساحة العمل الفعليّة لا تتركّز في جلسات التصويت البرلمانيّة، وإنما في التواصل السياسي الذي يجري في خلفيّتها، بغية التأثير على المواقف المعتمدة، وهو ما يعيد إلى الأذهان أهمية مراعاة الكفاءة من كافة وجوهها ذات العلاقة، بالنسبة للصاعدين في دروب العمل السياسي عن المسلمين.

سابعاً/ مسألة التعاطي مع “القواسم المشتركة” بين المبادئ والتوجيهات الإسلامية من جانب؛ والمبادئ والأيديولوجيّات الحزبية من جانب آخر:

عبر الإشارة إلى وجود قواسم مشتركة بين توجّهات حزب ما “معتدل” والمبادئ الإسلامية؛ يجدر التطرّق إلى أنّ تعزيز تلك القواسم وإن كان مطلباً وجيهاً من حيث المبدأ؛ إلاّ أنه لا ينبغي أن يتم بشكل ينطوي على قدر من التكلّف الذي قد يفضي إلى تشكيل انطباعات مضلِّلة في وعي الجمهور.

بمعنى أنّ هناك فارقاً بين “البحث عن المشترك” و”اصطناع المشترك”. وما هو أخطر من ذلك؛ أن يبدو الأمر وكأنه “احتواءٌ للإسلام” ضمن الإطار العام لمبادئ حزب ما أو توجيهاته. ورغم أنّ ذلك قد يبدو مُستَبْعَداً على نحو كبير في الممارسة القائمة في الواقع؛ إلاّ أنّه لا غنى عن لفت الانتباه إليه كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. فمن غير المقبول أن يَبلُغَ الأمرُ مثلاً حدّ “ارتهان الإسلام” لمبادئ حزبٍ ما وتوجيهاته، لمجرد التفتيش عن قواسم مشتركة. إذ يتّضح الفارق بين القول إنّ الإسلام “يصون حقوقَ العمال”، والذهاب إلى حد الزعم بأنّ الإسلام “يتبنى مطالب البروليتاريا” (بغض النظر عن الموقف من تلك المطالب المُفتَرَضة)، تماماً كأن يُقال إنّ الإسلام “يعنى بالبيئة وحمايتها”؛ وأن يذهب بعضهم إلى حد وصفه بأنه “دين حماية البيئة” أو “دين بيئيّ”، فهي تعبيرات وإن وافقت حظاً وافراً من الصواب إلاّ أنها تنطوي على طابع التكلّف الممجوج. ويمكن تحديد تباينات عدّة بشأن القواسم المشتركة الأخرى المحتملة، مثل الفارق بين القول إنّ الإسلام “يحرص على الأسرة وتماسكها واستقرارها”، وأنه “يتبنّى القيم المحافظة”، خاصة وأنّ هذه القيم متفاوتة الدلالة وملتبسة في خلفياتها حسب التجارب البشرية المتمايزة بين بيئة وأخرى.

إنّ التباين بين الحالتين في الشواهد السابقة المُفتَرَضة؛ لا يتمثّل في مجرّد تضخيم القاسم المشترك أو المبالغة فيه؛ بل وقد يتعدّاه أحياناً لاحتمال إبراز التوجّهات والمبادئ الحزبيّة باعتبارها الأصل أو الإطار الأعمّ، فيتم تجيير المفهوم الإسلامي (في ما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية مثلاً) لحساب ما يتساوق معه من مفاهيم الأحزاب مع إغفال الخصوصيّة الإسلاميّة، أو لما يُفضي لإمكانيّة طمس الوعي بتكامل الرسالة الإسلاميّة وتوازنها، فيجري وضعُ الإسلام في كفّة (أو حتى لحساب طبقة) مجتمعيّة أو سياسيّة دون أخرى (كفة القيم المحافظة، أو كفة الطبقة العاملة).

وإذا ما بدا للوهلة الأولى أنّ إشارات كهذه تُوغِلُ في المبالغة؛ فإنه لا مناص من التذكير بأنّه لا حصانة من مفارقاتٍ كهذه ضمن زخم التفاعلات المتوقعة في الساحة السياسيّة بالبلدان الأوروبية، لجهة صلتها بالمسلمين. وبغضّ النظر عن بعض الشواهد المتفرِّقة التي يمكن الإشارة إليها من واقع التجارب القائمة في أوروبا في هذا المضمار، وسواء بدت جدِّيّة أم عابرة؛ فإنّ الذاكرةَ لا يغيب عنها أنّ العالم الإسلامي ذاته كان قد شهد ما يشبه ذلك في أواسط القرن العشرين مثلاً، في أتون التفاعل مع التيارات المجتمعيّة والسياسيّة الوافدة من أوروبا، فظهرت مقولاتٌ أثارت جدلاً من قبيل “اشتراكية الإسلام”، كما برزت أعمال مكتوبة تكاد تشي باختزال الرسالة الإسلامية في قيمة على حساب أخرى، من قبيل “محمد (صلى الله عليه وسلم) رسول الحرية”، وغيرها كثير.

وإذا ما سلّم المرءُ بأنّ هذه المفارقات تبقى مُستَبعَدة عموماً في واقع التعاطي المتبادل بين المسلمين والأحزاب السياسية في أوروبا؛ فإنّ الإشكالية قد تبدو أكثر احتمالاً إذا ما تعلّق الأمر بأحزاب تُقَدَّم على أنها أحزاب معبِّرة عن المسلمين أساساً. فهذا النمط من الأحزاب قد نودي به في بعض بلدان أوروبا الغربية، ويبدو أنه موجود بالفعل بعض بلدان أوروبا الشرقية التي تضم وجوداً تاريخياً عريضاً للمسلمين.

وخلاصة القول في الأمر؛ أنّ البحث عن القواسم المشتركة (كلمة سواء)، وتعزيزها، توجّه إيجابي من حيث المبدأ، ولكن ينبغي المضيّ فيه بمسؤوليّة ورشد أيضاً.

ثامناً/ إشكاليّة التنازع أو التردّد بين أنماط الخطاب ضمن مجمل الحضور السياسي والمجتمعي لمسلمي أوروبا:

هل المطلوب من المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا أن تركن إلى ما يمكن وصفه بالخطاب المبدئي، الذي ينصرف لتأكيد المبادئ العامة والتمسّك بها، دون الخوض في ما قد يشوب التعبير عن الفكرة الكلِّيّة؟ أم ينبغي التوجّه إلى “الخطاب المطلبي”، من موقع المسؤوليّة عن الحفاظ على الحقوق وحماية المكتسبات وتثميرها؟ وما هي الفرص التي ستتبقّى في أي من الحالتين “للخطاب التواصلي والحواري” مثلاً، وهو الذي يسعي إلى تشجيع آفاق التواصل والبحث عن القواسم المشتركة، وتجنّب مكامن التوتّر أو التنازع أو التأزيم؟.

إنّ من يدقِّق النظر؛ سيجد أنّ هذه الإشكالية، وشواهدها كثيرة، إنما تترتّب أساساً على عدم نضوج أدوات التعبير عن المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، ومحدوديّتها، فيكون عليها بالتالي أن تتصدّى لحالات عدّة لا تنهض بها على النحو الأمثل إلاّ أُطُرٌ متنوِّعة تتوزّع على جوانب وتخصّصات وفقَ ما تمليه الحاجة ويتطلّبه الواقع.

فالخطابُ “المتنوِّع” يتطلّب تنويعَ أدوات التعبير والممارسة، بحيث ينبثق كلّ خطاب فرعي عن “أداة” ملائمة له، وعادة ما تتولّى هذه المهمة عمليات الفرز المجتمعيّ المستمرّة، لكنّ الأوفق أن تنبثق عن تخطيط منهجيّ، خاصة بالنسبة للأقلِّيات التي تشعر مؤسّساتها ويدرك قادتها وحكماؤها؛ أنّ المطلوب هو تطوير الحضور والأداء بصورة غير عفوية.

وعليه؛ فإنّ المشاركةَ السياسيّة من خلال “جماعات المصالح” أو الأطر النقابية مثلاً؛ ستكون معنيّة بالخطاب ذي النزعة المطلبيّة، في ما أنّ المشاركة السياسيّة غير المباشرة، عبر الساحة المجتمعيّة العريضة؛ قد يلائمُها الخطابُ ذو الطابع التواصلّي والحواريّ، الذي ينزع أكثر من غيره ربما إلى تشجيع آفاق التواصل والبحث عن القواسم المشتركة، وتجنّب مكامن التوتّر أو التنازع والمزاحمة. في ما أنّ الحضورَ المجتمعيّ للهيئات المعبِّرة عن الحضور الدينيّ الإسلاميّ الصّرف ـ إن جاز التعبير ـ، وتلحق بها بعض الأوساط الفكرية والأكاديمية الإسلامية؛ له أن يركِّز على الخطاب ذي الملامح المبدئيّة، أي الذي ينصرف لتأكيد المبادئ العامة والتمسّك بها، ويولي عنايةً خاصّة للتعبير عن الإسلام وقيمه ومبادئه وتوجيهاته.

إلاّ أنّ الخلطَ في أدوار الحضور المجتمعيّ والسياسيّ؛ من شأنه أن يُوْرِثَ الاضطراب والتردّد، وبالتالي الارتباك في تقمّص تجلِّيّات الخطاب في هذا الاتجاه أو ذاك. ورغم أنه لا يُستَبعَدُ العثور على بعض المزايا لحضور المؤسّسة الواحدة، أو حتى الشخصية العامة الواحدة، في أكثر من حقل أو مضمار، بما يتطلّبه ذلك من تنويع أَوْجُه الخطاب وطابعه؛ فإنّ الاحتجاج بذلك لا يصمد أمام المتطلّبات الواقعيّة التي تراعي الحاضر والمستقبل ومستلزمات الانفتاح على آفاق المشاركتين المجتمعيّة والسياسيّة بالنسبة لمسلمي أوروبا.

ومما يتوجّب التشديد عليه في هذا الشأن؛ هو أنّ الحاجة إلى تنويع تجلِّيات الخطاب في ساحتيْ المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا؛ ينبغي أن تُراعَى مع استصحاب الحرص على عدم تعارض ذلك مع الأرضيّة المفاهيميّة التي ينبثق عنها ذلك الوجود المسلم، وبمواءمة ذلك قدر الممكن؛ مع واقع الساحتيْن السياسية والمجتمعية وملامح الخطاب السائدة فيهما. فتنوّع تجلِّيّات الخطاب في تلك المشاركة؛ لا يعني بحال الخروج عن الأرضية المفاهيميّة تلك، فالخطاب الذي يُبرِز جانب الحقوق أو المطالب؛ لا ينبغي له أن يتعارض مبدئيّاً مع النسق المفاهيميّ الذي يصدُر عنه، مثلما يجب أن يكون عليه الأمر مع ذلك الخطاب الذي يلتفت إلى توثيق عرى التواصل وتعزيز فرص الحوار المجتمعيّ.

وعلى أيّ حال؛ فإنه لا مناص من قبول واقع التنوّع في أوجُه الخطاب وعدم التبرّم منه مبدئياً، ولعلّ ذلك الواقع يمثل ضمانة لحضور متوازن للمشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا.

تاسعاً/ إشكالية الموازنة بين مقتضيات المبدأ والواجب والدور؛ وضرورات الحذر والاحتراس:

لا يستطيع من يلاحظ التجاذبات الجارية في بعض الساحات السياسيّة الأوروبيّة في ما يتعلق بالشأن الإسلاميّ؛ أن يُغفِلَ وجود “مصمِّمي أزمات” أو من يسهرون على محاولات استدراج بعض الأطراف إلى فخاخ سياسيّة وإعلاميّة ومجتمعيّة مركّبة. وقد يبدو ذلك للوهلة الأولى بالأمر المستَغرَب أو الاستثنائي؛ لكنه قد يُفهم على أنه متساوقٌ مع نزعات الصِّراع أو توجّهات التهميش التي لا يمكن استبعادُها من بعض ثنايا أيّ واقع سياسيّ كان؛ مهما افتُرِضَت النوايا الطيِّبة وسلامة الطويّة وأُحسنت الظُّنون.

فعملياً؛ يمكن لصحيفة واحدة اليوم أن تُصمِّم أزمة مجتمعيّة وسياسيّة وبأبعاد عابرةٍ للحدود والقارّات، من قبيل تجربة صحيفة “يولاندز بوستن” الدانمركية، في حملتها التحريضية التي أطلقتها في الثلاثين من أيلول (سبتمبر) 2005. وليس ذلك على ما يبدو سوى غيْضٍ من فيض الشواهد التي يمكن الإشارة إليها، دون أن تكون قضية الحجاب في فرنسا معزولةً عن ذلك أيضاً، وفق تقديرات بعض قيادات مسلمي فرنسا. إذ يقول رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (l’UOIF)، الحاج التهامي إبريز، في سياق تلك القضيّة (مطلع عام 2004)؛ “هناك حملةٌ شرسةٌ وكبيرة من بعض الجهات المعادية (لمسلمي فرنسا) التي لا تقبل أن يتصالح الإسلام مع الدولة (الفرنسيّة). وتحاول هذه الجهات إحداث جوّ متوتِّر بأيّ طريقة. ونحن في هذه الحال؛ نحاول أن نتماشى مع القانون (ذي الصلة بحظر الحجاب)، ونستعمل كلّ الأساليب الممكنة، ومن بينها حقّ التظاهر والمحاكم العادلة التي تمكِّننا من حقنا دون التنازل عن كل شيء”[195].

ومع أهمية هذه الإشارات إلى وجود محاولات مصطَنَعة لتوتير العلاقة وتأزيم الموقف؛ إلاّ أنه من غير الصائب التعامل معها باعتبارها استثناءً، بل يتوجّب التعاطي معها على أنها حالة متوقّعة في أي وقت وبيئة بالنظر إلى طبيعة التجاذبات التي تنطوي عليها الساحتان السياسيّة والمجتمعيّة، والتي قد تتّخذ طابع الحدّة من جانب بعض الأطراف ودون اكتراث ربما بأية معايير مُعتَبرة. كما ينبغي التسليم بذلك؛ أخذاً بعين الاعتبار أيضاً ما ينطوي عليه الحضورُ الإسلاميّ في أوروبا من تماس مع جوانب وأبعاد حسّاسة وشائكة بالنسبة لبعض الأطراف التي يُتَوقّع أن لا يثير الاندماج الإيجابيّ لمسلمي أوروبا، أو مشاركتهم السياسيّة والمجتمعيّة؛ ارتياحَها، ربما لشعورها بتناقض مُفترَض لذلك مع مصالحها أو لغير ذلك من الاحتمالات.

ومهما يكن من أمر؛ فإنّ ذلك سيثير تساؤليْن اثنيْن على الأقل:

– هل يُسوّغ الوقوع في الفخاخ المنصوبة بعناية أو الانجرار إلى محاولات الاستدراج المُدبّرة بليل؟

– هل يُقبل التنازل عن جوانب مبدئيّة والتلكّؤ في حماية الحقوق أو التقاعس عن حفظ المصالح أو تبديد بعض المكتسبات أو تجميد بعض الأدوار المؤثِّرة وربما إهمالها؟

إنّ هذيْن التساؤليْن، مهما بدا أحدهما أو كلاهما ساذجاً؛ يُوْجِزان في الواقع قَدْراً وافراً من القوْل بشأن إشكاليّة التنازع بين بعض الخيارات التي تتراءى للفاعلين في ساحة مسلمي أوروبا. فعلى نحو غير حصريّ؛ ثمة اصطفافات ضمن فريق يحذِّر من الفخاخ ومكامن الاستدراج، ويحتجّ بتفويت الفرصة على من يرمون إلى وقوع المسلمين في هذه الفخاخ، فيأتي الحديثُ مُفعَماً لدى بعضهم بإشارات عن “أخفّ الضرريْن وأهون الشرّيْن”، إيذاناً بتقديم تنازلات مُحتَمَلة، ربما “انحناءً للعاصفة”. وفي هذه الحالة كثيراً ما يجري الاستئناسُ بأدوارٍ هامشيّة من الفعل، مع الميل إلى تضخيم مردودها، مع مصاحبَةِ ذلك باتجاه للتحوّل من موقع الحضور الفاعل الإيجابيّ إلى موقع المراقب السلبيّ، أي تحييد الفعل الذاتي أو الاقتراب من حالة التحييد هذه.

وثمة اصطفافات مقابلة في صفوف مسلمي أوروبا؛ تُعَظِّم من إبراز الجوانب المبدئيّة، وتُمعن في تأكيد ما لحماية الحقوق من أهمِّيّة، وما يستوجبه “الموقف الداهمُ” من حفظ المصالح أو الذود عن المكتسبات، مع إيغال في التعبئة ربما، إلى درجة ذهاب بعضهم إلى التلويح بإشارات الاستعداد بحزم الحقائب والرحيل (إلى أين؟) إن بلغ الأمر حدّ المساومة على الدين والمبادئ.

ولعلّ في ثنايا هذه الاستقطابات والاصطفافات التي أخذت تطفو على السطح في صفوف مسلمي أوروبا منذ مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين؛ ما يعين على رسم بعضٍ من محدِّدات الموقف العام الرشيد للتعاطي السياسيّ للوجود المسلم في أوروبا مع بعض القضايا والملفات المأزومة، وهي متكاثرة على أي حال. لكن من المؤكد أنّ أياً من هذين الاستقطابيْن ليس مؤهّلاً لحمل مشروع مشاركة سياسيّة فاعلة للوجود المسلم في أوروبا. فكلاهما ينطوي على نزعة تقويض صامتة لما يمكن البناء عليه ومراكمته. ولا بدّ من البحث عن إطار للتحرّك، وخيارات للفعل، بعيداً عن نزوعٍ إلى هذا الاتجاه أو ذاك، ضماناً لحضور فاعل ومدروس ومتوازن. ولابد لخيارات المشاركة السياسية والمجتمعية المنشودة؛ أن تستجمعَ المطلبيْن معاً بحنكة وتؤدة والتزام: أي التمسك من جانب بالإطار المبدئي، والمضي في حماية الحقوق وحفظ المصالح وتثمير المكتسبات وتفعيل الأدوار المؤثرة؛ دون الوقوع من جانب آخر في الفخاخ المنصوبة بعناية، أو الانجرار إلى محاولات الاستدراج المُدبّرة بليل، أو حتى الانزلاق إلى إغراءات حرق المراحل.

لا شكّ أنها ليست بالمعادلة اليسيرة، لكنّ المخاطر المحدقة بحقوق الوجود المسلم ومكتسباته في بعض المجالات؛ تفرض مراجعاتٍ جادّة، وصولاً للإنضاج والبَلْوَرَة، في النطاقيْن النظريّ والعمليّ، بكل ما يستدعيه ذلك من إعداد وبناء.

وكما قد يتبيّن؛ فإنّ هذه الدراسة، تقترح في جوانب متفرقة منها، خياراتٍ للتعاطي، بل وتصف بعض الأدوات ذات الطابع العملي التي تصلح لإنعاش المدارسة في هذا الحقل الهام والشائك.

وبإيجاز شديد؛ فإنّ ما لا ينبغي القفز عليه في هذا الصدد؛ هو أنّ مسلمي أوروبا لا يصحّ بحال أن يتحوّلوا إلى مجرد طرف معزول عن النسيج المجتمعي العام، فعليهم أن يحقِّقوا في فعلهم ومشاركتهم مفهومَ الانتشار المجتمعي الحميد، وبتوزيع الأدوار تُقتَسم الأعباء وينجلي بعضٌ من الخيارات المصيرية القاهرة، مما قد تستشعره مؤسّسةٌ واحدة أو اثنتان، تستجمعُ أو تستجمعان، كافة الأوراق، لتوازن هذه أو كلتاهما، في ساعة العسرة بين جميع الضغوط، لتجد نفسها عاجزةً عن الفعل ومحشورة في الزاوية. كما أنّ على مسلمي أوروبا أن يَصُبّوا اهتمامهم على عنصر المبادرة، باستباق الفعل، بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال.


 

 

 

 

خاتمة:

المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا

 ـ خلاصات ـ


 

(1)

تصف المشاركةُ السياسيّة تلك الأداءات التي يتولّى الجمهور القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي. أي أنّ هذه المشاركة يُقصَد بها ما يتعلّق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي.

وفي حالة مسلمي أوروبا؛ ينبغي أن تُقرَأَ هذه المشاركة باعتبارها محصِّلة مشاركة المجموع المسلم المتنوِّع في ذاته، والتي تأتي، دون فقدان خصوصيّتها الجوهرية، في سياق فعل المشاركة للمجتمع العام. ولكنّ وضع المسلمين في سياقهم المجتمعي؛ لا يبرِّر النزوعَ إلى منطق يَفتَرِض ذوبانَهم فيه أو يطمس أَثرَهم وملامحَهم الجامعة المشتركة؛ بذريعة تشابكهم مع النسيج المجتمعيّ العام.

أمّا المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ فلا يُقصَدُ بها “المشاركة الإسلاميّة” في الساحة السياسية الأوروبية، أي انبثاق المشاركة هذه عن توجيهات الدين الإسلامي؛ كما قد ينصرف إليه الذهن. ولكن يُفترَض بالممارسة الرشيدة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسية المحلية والقُطرية والقارِّيّة أن تكون منسجمةً بقدر معقول مع خصوصيّات البيئات السياسية الأوروبية، وغير متعارضة مع قيم الإسلام وتوجيهاته وتعاليمه، بل وأن تكون، وهذا هو الأوْلى والأوفَق؛ مستهديةً ومسترشِدةً بهذه القيم والتوجيهات والتعاليم الإسلامية مع انطباعها الإيجابيّ بخصوصيّة بيئيةٍ تجعلُها متّصلةً بواقعها غير منفصمةٍ عنه.

ومن هنا؛ يمكن التفريق بين مفهوم “المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا”، كحالة مُستلّة من الواقع، وتلك الممارسة إذا ما وُصفت بالرُّشد، كحالة مُثلى أو قريباً من ذلك، كممارسة منشودة أو مرتجاة.

وهي، من حيث كونها مشاركةً؛ إنما تهدف بالطبع إلى الحضور اللائق في هذه الساحة على أسس التفاعل السليم مع شركاء المواطنة من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى، وهو ليس بالمطلب المتيسِّر على أي حال.

أي يُقصد بالمشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا؛ ما يُبتغَى منه تحقيقُ تفاعلِهم الإيجابيّ المثمر مع الساحة السياسيّة، بشتى الأشكال الممكنة، بالصورة التي تتوافق مع خصوصيّات الساحة الأوروبيّة وتستهدي أيضاً بالتوجيهات الإسلاميّة.

أي يمكنُ القول إنّ المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا، في مقاصدها العامة؛ هي تجسيدٌ بليغ للمواطنة الصالحة في المجتمعات الأوروبيّة، بما يترتب عليها من أدوار ينبغي النهوض بها في شتى المجالات، ومن بينها المجال السياسي بمستوياته المتعددة، وبما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية.

وإنّ الضابط الأساس الذي يجعل من وسائل أو أدوات ما، في حقل المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، مقبولة؛ هو ضرورةُ تقيّدها بالمعايير والتوجيهات الإسلامية والقانونيّة والأخلاقية والأدبية ذات الصلة.

(2)

ويمكن تحديد الأهداف المباشرة للمشاركة السياسية المنشودة لمسلمي أوروبا في ما يلي:

1/ التأثير الإيجابي في صناعة القرار السياسي، تشريعيّاً وتنفيديّاً، مع التوجّه إلى تعزيز كفّة الأطراف المعتدلة في الحياة السياسيّة الأوروبيّة، واحتواء أية مواقف سلبيّة أو ميول متطرفة قد تظهر فيها.

2/ حماية الوجود المسلم، بما في ذلك الشأن الدينيّ الإسلاميّ، من أية تجاوزات قد تستهدفه أو أية انتهاكات قد تقع عليه، مع قطع الطريق على عوارض الإقصاء والتهميش، وحالات التفرقة والميز، مع السعي لتعزيز تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد.

3/ التحسين المستمر للحضور العام الإيجابيّ للمسلمين في الفضاء المجتمعيّ وفي تعاطى المستوى السياسي معه، بكلّ ما يتطلّبه ذلك من جهود ومساعٍ. ويلحق بذلك توفّرُ أجواءٍ مشجِّعَة للمسلمين للتعبير عن تصوّراتهم وآرائهم ومواقفهم في الرأي العام.

4/ رعاية مصالح الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، وبالصورة التي تتمتع بالمسؤوليّة وتتماشى أيضاً مع المقاصد والتوجيهات الإسلامية ذات الصلة، وبما يعزِّز في الوقت ذاته الصالح العام للمجتمعات الأوروبيّة، ويدعم السلم المجتمعيّ ويتقدم بحالة التعايش والتفاهم المتبادل داخلها.

5/ العناية بالجانب المطلبيّ لمسلمي أوروبا، وإنضاجه، أخذاً بعين الاعتبار مجمل الحقوق الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المقرّرة، مع السعي لكسب تفهّم الفضاء المجتمعيّ والأطراف السياسيّة لما يترتب على هذا الجانب.

6/ التعبير عن تصوّرات المسلمين ومواقفهم من مجمل الشؤون العامة والسياسات في الواقع الأوروبي، ومن ما يتعلق بالمسلمين أو الشأن الإسلامي وقضاياه منها على نحو أخصّ.

7/ العمل على ضمان تحقّق كافة الأطر والأنظمة القانونيّة والسياسيّة والإجرائيّة التي تكفل حالةً مُثلى من تنظيم العلاقة مع الجماعة المسلمة في بلدان أوروبا على الأصعدة القطريّة والمحلِّيّة، علاوة على الأصعدة فوق القطريّة والأوروبيّة العامة.

8/ تنوير عموم المسلمين في أوروبا بحقوقهم وواجباتهم، وبمكتسباتهم ومسؤوليّاتهم، ضمن مجمل الواقع العام في مجتمعاتهم الأوروبيّة، بما يعزِّز وعيَهم السياسي ويطوِّر من قابليّاتهم لحضور سياسيّ ومجتمعيّ فاعل ورشيد.

9/ إيجاد قنوات كفؤة للتواصل بين الساحة السياسية في أوروبا بشتى مستوياتها؛ والأقليات المسلمة الأوروبية، ولا شكّ أنّ المشاركة السياسيّة الرشيدة بوسعها أن توفِّر قنواتٍ كهذه مما لا يُستغنى عنه في مجتمع تعدّدي.

(3)

ولا يمكن عزل المشاركة السياسية عن المشاركة المجتمعية كسياق عام. ذلك أنّ المشاركة السياسية تبقى جزءاً من المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل. ولا شك أنّ العلاقة بين المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية هي علاقة جدليّة، فكلما تزايد منسوب المشاركة المجتمعية الفاعلة لمجموعة بشرية أو أقلية ما؛ ازدادت احتمالات مشاركتها السياسية الفاعلة، وكلما انخفض ذلك المنسوب تضاءلت فرص المشاركة السياسية الفاعلة وإمكاناتها. كما أنّ المشاركة السياسية ذاتها تنعكس بالإيجاب على تطوير واقع المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل، وتحفيزها بالنسبة للمجموعة البشرية أو الأقلية المعنية.

ورغم أهمية إدراك الفعل السياسي ضمن مجمل الفعل المجتمعي العام، ورغم ضرورة تناول المشاركة السياسية ضمن مجمل المشاركة المجتمعية؛ فإنّ المشاركةَ السياسية، على نحو يرومُ التناولَ الأدقَّ؛ إنما يُقصَد بها ما يتعلق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي. فهذه المشاركة تصف تلك الأداءات التي يتولى المواطنون القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي.

وإنّ إدراكَ تشابكِ المشاركة السياسية مع مجمل المشاركة المجتمعية؛ ضروريّ جداً لفهم بعض خصائص الثبات والحراك في المجتمع والسياسة. أما على صعيد الأدوات؛ فيبدو نشاط الأطراف المجتمعيّة مدخلاً لا غنى عنه للتحوّلات السياسية، خاصة وأنّ بعض أوجُه هذا النشاط وصُوَرِه يمكن قراءتها أيضاً على أنها مشاركة سياسية مباشرة أو غير مباشرة.

(4)

ومن المطالب الهامّة التي تلوح في أفق المشاركة؛ التوجّه إلى تنويع خيارات الفعل المجتمعي والسياسي وأدواته. ولا مناص من استفادة المشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي لأوروبا من مجمل خيارات الفعل وأدوات التأثير، ضمن الضوابط القانونيّة والشرعيّة والأخلاقيّة، ومن خلال الموازنات الدقيقة، والتقدير الحصيف للمصالح والمفاسد. وبالمقابل؛ فإنّ التعويل على خيارات بعينها دون مجمل ما يتطلّبه التدافعُ المدنيُّ الرشيد؛ قد يُفَوِّتُ الكثير من المصالح، بل وغالباً ما يُغري بتجاوزات عدّة على حساب مسلمي أوروبا لا تتوفّر الحصانة منها دوماً، حتى في بيئة مسيّجة بمواثيق حقوقية والتزامات أدبية.

ويلحق بذلك؛ التحذير من خطورة الاستئناس بالتصرّف بمعزل عن النسيج المجتمعي، بمعنى أن تظهر الأقليّات معزولة عن “مجتمع الأغلبية”، ومكشوفة أمام معادلة كثيراً ما تبدو غير متكافئة. ولا جدال في أنّ أيّ فعل مجتمعيّ أو سياسيّ قائم على منطق العزلة أو حتى إرادة الانعزال؛ إنما يتناقض مع روحيّة فعل “المشاركة” مجتمعيّاً أو سياسيّاً. ومن هنا؛ فإنّه لا مناص من السعي للانتشار في شتى قطاعات الفعل المجتمعي الرشيد، وبناء التحالفات والشراكات، وتوثيق أواصر التعاون والتنسيق؛ مع الأطراف الفاعلة في البيئة المجتمعيّة والسياسيّة، بناءً على مخزون القواسم المشتركة، واسترشاداً بالتوجيهات الإسلامية في هذا الشأن، وأخذاً بعين الاعتبار مجمل المعايير والضوابط ذات الصِّلة.

كما ينبغي التعامل الواعي مع مفهوم “العمل في نطاق القانون”، أو “احترام القوانين”، أو ما في حكم ذلك من تعبيرات. فذلك يبقى مطلباً، والتزاماً هامّاً ينبغي أن يتقيّد به مسلمو أوروبا، دون أن يُفهَم منه إخراجُ الفعلِ المجتمعيّ والسياسيّ لمسلمي أوروبا، ولشركائهم وحلفائهم؛ من ساحة الفعل والتأثير اللازمة للتطوير المستمرّ للمنظومة القانونية، عبر معالجة أية اختلالات أو ثغرات ذات صِلَة.

ويبقى القول إنّ استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية؛ هو خيار لا غنى عنه لمسلمي أوروبا على نحو أخصّ.

ثمّ إنّ للتحرّك السياسي حدوداً تستمدّ تفسيرَها من واقع الساحة المجتمعيّة، وأنه بموجب ذلك؛ يكون من غير المتوقع أن يجد مسلمو أوروبا في المشاركة السياسية، على نحو حصريّ، وصفةً ناجعةً للنهوض الشامل بواقعهم.

(5)

وإذا ما تركّز الانتباه بشأن المشاركة على مدى تفاعل مسلمي أوروبا مع الساحة السياسية العامة؛ فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان، أنّ الفعل السياسي للمسلمين يمضي في مسارات غير مُتوقّعة بالضرورة أحياناً، من قبيل التفاعلات السياسيّة في ساحة مسلمي البلد الأوروبي الواحد، أو في ساحة مسلمي أوروبا ككلّ. ورغم أنّ ذلك لا يبدو ملموساً في عديد البلدان الأوروبية، إلاّ أنّه يتجسّد حقيقةً قائمة في بعضها بالفعل. ويمكن الاستنتاج مثلاً؛ أنّ ملف تمثيل المسلمين، وما في حكمه، هو ملف لا يفتقر أحياناً إلى طابع سياسيّ، بل قد يطغي عليه هذا الطابع بالنظر إلى ظروف ذاتيّة وموضوعيّة أو ملابسات ظرفية عدّة.

(6)

ولا يخفى أنّ مشاركةَ مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة تعترضها صعوباتٌ عدة، يُعزَى بعضُها إلى صعوباتٍ عامّة بالنسبة للسياق المجتمعي، وأخرى متعلِّقة بالأقلِّيّات أو من يُصَنّفون على أنهم “أجانب”، علاوة على صعوبات متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين. وتتداخل هذه الصعوبات وتتشابك، مع تفاوُتٍ نسبيّ في ذلك بين بيئةٍ أوروبيّة وأخرى، وهو ما يفرض، باستمرار، ملاحظةَ التباينات القائمة وأخذَها بعين الاعتبار، تحاشياً للانجرار إلى التعميم.

ومن بين ما يستوقف المرء في ثنايا ذلك؛ أنّ الاحتكام الصارم لمنطق الأغلبيّة والأقليّة في الحياة السياسية، يثير إشكاليات عدّة، بل ويحمل محاذير على صعيد الممارسة التطبيقية، وهو ما يمنح أهمِّيّةً إضافيّةً لأن تتقدّم الأقلياتُ إلى ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، وتسعى لتعزيز حضورِها فيها، والتنبّه المستمر إلى أية نُذُر قد تحيقُ بها، والذود عن حقوقها ومكتسباتها، دون الإخلالِ بالسلم المجتمعي أو انتهاكٍ للمعايير والضوابط ذات الصلة.

ومن المعضلات التي واجهت، وتواجه، تجارب المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا، على تفاوتٍ بين بلد وآخر؛ هي حالة التمركز حول الأشخاص، التي غالباً ما تكون باديةً للعيان في أوساط الجيل الأول للوجود المسلم المهاجر. وما جرى في حالات عدّة؛ لم يكن سوى “تركيب” المؤسسة على القيادات الفردية، أي تقمّص لملامح مؤسسيّة، وليس اتجاهاً جادّاً نحو المأْسَسَة بالضرورة. وتنشأ هذه المعضلة مع تركّز الخبرة في أيدٍ قليلة، وإمساك أفراد قلائل بمفاتيح التأثير، وتصدّرهم المشهد العام للحضور المسلم في ساحة المشاركة السياسية والمجتمعية. وقد انعكس ذلك على تماسك ساحة المسلمين أحياناً، وعلى كفاءة مشاركتهم المجتمعية والسياسية بكلّ تأكيد، وأورث مشْكلةً ملموسةً على صعيد التواصل بين الأجيال. وفي بعض الأحيان؛ بدت تلك وكأنها حالة مُستَأْنَسة حتى من بعض الأطراف السياسيّة في الساحات الأوروبية، التي ترى في هذا الشخص أو ذاك خياراً مريحاً بالنسبة إليها.

كما يمكن تحديد إحدى أهمّ الصعوبات التي تحكم فرص المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا على نحو مرتبط بخصوصيّتهم أساساً؛ في افتقار الساحة المؤسسيّة لمسلمي أوروبا إلى النضوج التخصصيّ، وهو ما لم يُتِح في معظم البيئات الأوروبية الفرصةَ لتَبَلْوُر نسقٍ مؤسسيّ متكامل وقادر على رفد التجارب السياسية المحليّة الناشئة في صفوف المسلمين بمستلزمات النهوض والدعم والتجدّد. وتبدو ضمن ذلك إشكالية الافتقار إلى أطر مؤسسيّة لا غنى عنها في سياق العمل السياسيّ الفاعل، أو التعامل المؤثِّر مع الساحة السياسيّة، في البيئة الأوروبية؛ من قبيل مؤسسات البحث والدراسات، والمراصد الحقوقية الفاعلة، ومجموعات الضغط والتأثير والتعبير عن المصالح، وأطر التأهيل السياسي، وغير ذلك.

(7)

وبشكل عام؛ يمكن القولُ إنّ واقع مسلمي أوروبا ما زال شاهداً على الافتقار إلى تَبَلْوُر أدواتٍ للعمل السياسي تكون في مستوى يلائم ما عليه الحال في الساحة الأوروبية، سواء تعلّق الأمر بالبلدان والأقاليم الأوروبية كلّ على حدة؛ أم تعلّق بالمستوى الأوروبي العام. ومع ذلك؛ فلا يمكن تجاهل النموّ النوعيّ الذي شهدته بعض الساحات الأوروبية في غضون الأعوام الماضية؛ إلاّ أنّ الطابعَ العام ما زال دون المستوى الذي يمكن التعويلُ الجادّ عليه. وقد برهنت عديدُ الحالات على أنّ مسلمي أوروبا إجمالاً، وفي بعض البيئات الأوروبية على نحو خاص؛ يَفتَقِرون بوضوح لأدواتِ المشاركةِ المجتمعيّة والسياسيّة الفاعلة والقادرة على التعاطي مع خصوصيّات الساحة التي يتحرّكون فيها، وهو ما يمكن أن يُعزَى إلى ظروف ذاتيّة متعلقة بخصوصيّة الوجود المسلم ذاته في البلد أو الإقليم المعنيّ ومقدّراته وإمكاناته؛ وإلى ظروف موضوعيّة متّصلة بالبيئة أو الظرف الناشئ.

(8)

وتحوم الشكوك في أوساط بعض النخب الأوروبية حول فعّاليّة فرص المشاركة السياسية لعموم المواطنين. وقد عبّرت عن ذلك مؤلّفات ومنتديات عدة، تطرّقت إلى جوانب هذه المعضلة، واقترح بعضُها حلولاً للتعاطي معها، في ما يعبِّر آخرون في مرافعاتهم عن نبرة يائسة، وربما تبدو متطرِّفة أحياناً؛ إزاء مجمل واقع النظام السياسي في البيئات الأوروبيّة.

لكنّ ما يتّصل بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، ينطوي على مُعضِلَتين؛ واحدة يشتركون فيها مع نظرائهم في المجتمع العريض، وأخرى تتعلّق بخصوصيّتهم لجهة كونهم يتوزّعون على أقلِّيّات غالباً، وما زال طابعهم العام في معظم البلدان الأوروبية الغربية والوسطى مرتبطاً بملمح الهجرة، وإن نشأت أجيالٌ متعاقبة منهم في الأوطان الأوروبية.

وفي السياق الخاص بمسلمي أوروبا؛ فإنّ التصوّرات المُشرِقة التي حملَها المهاجرون المسلمون إلى أوروبا عن “البيئة الديمقراطية” و”أجواء الحرية”، التي سيصادفونها؛ أخذت بالاهتزاز التدريجي في بعض البيئات التي وفدوا إليها. ومع تجذّرهم في هذا الواقع؛ انقَشَعت الهالةُ التي ارتسمت في أذهانهم للواقع السياسي عن تفاصيل معقدة لا تُدرَك بنظرةٍ أفقيّة حالمة. وقد جاءت “صدمة 11/9” لتهزّ شيئاً من القناعات في هذا الجانب لدى قطاعات من مسلمي أوروبا، الذين أخذ بعضهم، وعلى نحو غير مسبوق، يخشى على حقوقه ومكتسباته في بيئة ديمقراطية.

(9)

ولإدراك الكيفيّة التي تضيق بها منافذ المشاركة السياسيّة؛ يُستَحسَن الالتفاتُ إلى أنّ التنوّع الذي ينطوي عليه الواقع المجتمعيّ في البلدان الأوروبية؛ لا ينعكس بالدرجة المماثلة من التعدّديّة في ساحة المشاركة المجتمعيّة، في ما تتضاءل بوضوح هذه التعدّديّة في ساحة المشاركة السياسية، وأما المستويات العليا من صنع القرار السياسي فتبدو أكثر تجانساً وأبعد عن أن تكون انعكاساً لواقع التنوّع المجتمعيّ. وفي ظلال هذا الواقع تضطلع فرص الصعود ومعايير الاصطفاء ومؤهلات البروز المجتمعيّ والسياسيّ؛ بأدوار حاسمة في الإبقاء على هذه الحالة، وربما تكريسها.

إنّ هذه المعضلة، التي تتفاوت في حضورها بين بيئة أوروبيّة وأخرى؛ تنطوي على تحدّ غير يسير بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا، لجهة فرصه في المشاركة الفاعلة في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة. فمسلمو أوروبا لا يتمتعون حتى الآن بفرص ذات شأن في الحضور الملموس ضمن دوائر النخب، خاصة في غربي أوروبا ووسطها، حتى مع وجود نسبة ملحوظة من المسلمين في بعض القطاعات المهنيّة المرموقة نسبياً كالأطباء والمهندسين مثلاً، في عديد البلدان الأوروبية.

ولعلّ ذلك يلفت الانتباه إلى أحد الأدوار الأدبيّة التي يُستَحسن بالمشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي أوروبا أن تأخذها على عاتقها، ألا وهو الإسهام في ردم الفجوات التي تفصل النُّخَب عن الواقع، خاصّة من خلال الحرص على نهج “القرب من المواطنين” وتَمَثُّلِه وتأكيده بصورة رشيدة من قبل الفاعلين المجتمعيِّين والسياسيِّين المسلمين وشركائِهم، وهو مطلبٌ يتواءَم على أي حال مع القيم والتوجيهات الإسلاميّة في هذا المجال.

(10)

ومما يقتضي لفت الاهتمام إليه؛ أنّ تحفيز المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أو لأيّة أقلِّيّة كانت على نحو عام؛ هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأطراف الفاعلة، مؤسسات وقيادات، في نطاق الأقلِّيّة ذاتها، من جانب؛ وعلى عاتق الأطراف الممسكة بزمام النظام السياسي في البيئة المعنيّة، أي في الدول الأوروبية والنطاق الأوروبي العام، من جانب آخر، علاوة على مجمل الفضاء المجتمعي من منطلق الشراكة والتعاون والتفاعل المتبادل المثمر.

(11)

يمكن تصنيف مواقف مسلمي أوروبا، مؤسّسات وتجمّعات وقادة رأي وشخصِّيات عامة، من المشاركة السياسية؛ ضمن فئات عدة، تتوزع إجمالاً بين خانات “المؤيِّدين” و”المتردِّدين” و”المعارضين”. لكنّ التيار الرئيس (mainstream) المسلم في أوروبا، المعبِّر إجمالاً عن الوجود المسلم، يؤيد فكرة المشاركة السياسية بلا مواربة، بل يرى أهميتها وربما قال بعض قياداته بوجوبها أو ما فوق ذلك، حتى مع وجود بعض التقديرات المتردِّدة في الإقدام على المشاركة الفعلية. ومع هذا؛ فإنّ ساحة مسلمي أوروبا اتّسعت لمواقف أخرى من تلك المشاركة، تحفظت عليها وربما قالت بحرمتها، وهي مواقف بقيت إجمالاً في هامش الساحة المجتمعية المسلمة في هذه القارّة.

ومع التمايز بين الفئات؛ فإنّ في كل جانب منها أطيافٌ من التنوّع والتباين الضمنيّ في بعض الحيثيات والحجج أو في مدى الحماسة لهذا الموقف أو ذاك، أو حتى في ما يتّصل بإمكانية إيراد تحفّظات أو ضوابط أو “خيارات بديلة”.

وإجمالاً؛ يتّضح بشكل جليّ، أنّ الحضور المسلم في أوروبا يميل للمضيّ في نهج المشاركة السياسية والمجتمعية، ومعه معظم المؤسسات الإسلامية وقادة الرأي المسلم والأئمة. والحديث هنا هو عن المواقف التي تنطلق أساساً من المرجعية الإسلامية أو تحاول أن تنسجم معها. ولا ينفي ذلك أنّ أطوار التشكّل التي اجتازتها الأقليات المسلمة أو ما زالت تشهدها؛ لا تجعل مطلب المشاركة السياسية في مقدمة الأولويات التي تحدِّدها لنفسها في هذه المرحلة أو تلك.

وبهذا؛ يمكن تصنيف مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية ضمن فئات مؤيِّدة بوضوح للمشاركة السياسية، وأخرى لا تعارضها لكنها تتردّد في الإقدام عليها، وثالثة تعارضها بوضوح أو ترفض بعض صور المشاركة المباشرة السياسية على الأقل.

ومما تجدر ملاحظته هنا؛ أنّ موقف المجموعات التي ترى حرمة مشاركة مسلمي الغرب في شتى المستويات الانتخابية، من شأنها حال افتراض الأخذ بها، وهو أمر مستبعد جدّاً؛ أن تفضي إلى عزلة شاملة للمسلمين عن أحد أبرز خيارات التفاعل مع هذه المستويات والقطاعات كافة في البلدان والمجتمعات التي يعيشون فيها. وما أثار أسفاً واسعاً في أوساط المسلمين أنّ بعض المجموعات العاملة ضمن نطاق المسلمين في بعض البلدان الأوروبية، تدخّلت بوسائل شتى للحيلولة دون انخراط المسلمين في الساحة السياسية والتفاعل الإيجابي معها.

بل على نحو عام؛ من المرجّح أن تنعكس المواقف المتحفظة على الديمقراطية من قبل بعض الأطراف المسلمة؛ على إمكانيات التواصل واللقاء والتنسيق ضمن الوجود المسلم في البلدان الأوروبية.

(12)

تأتي المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا وثيقةَ الصلة بجملة من التطوّرات والملابسات، وطيف من الخلفيات والأبعاد الظرفية، مما يمكن أن يُعبَّر عنه إجمالاً بالظرف التاريخيّ.

ويمكن التعرّف على أهم الأبعاد المكوِّنة لذلك الظرف التاريخي من خلال ميراث علاقة مطبوعة بالأعباء التاريخية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وملامح أزمة ثقة متجدِّدة في العلاقة بين الدائرتين الحضاريِّتين الإسلامية والغربية. ومن الأبعاد الأخرى؛ العامل الديمغرافي (السكاني)، وتبلور واقع مأزوم في العلاقة مع الوجود المسلم في أوروبا، علاوة على التباين في الرؤى والممارسات في التعامل مع المسلمين والأقليات، ونموّ في صور تعبير مسلمي أوروبا عن الذات. كما تلحق بذلك التحوّلات التي طرأت على حالة الوجود المسلم التاريخي في أوروبا الشرقية، وملامح التحوّل النسبيّ في الثقافة السياسية في بلدان أوروبا نحو تعزيز فكرة مشاركة المواطنين في الشأن السياسي، زيادة على تسارع عملية التكامل الأوروبي، وتنامي الشعور بالهويّة والخصوصيّة الإسلاميّة في أوساط مسلمي أوروبا.

(13)

وفي ما يتعلّق بملامحها العامة؛ فإنّ المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا بدت في الغالب مكتسبةً طابع الأداء المتقطِّع، الذي لا يستندُ إلى برامج متواصلة أو أدوات مستقرّة. ورغم المؤشرات المتصاعدة لفعل المشاركة هذا في الأعوام القليلة الماضية؛ إلاّ أنّ الحصيلة العامّة لتجاربها تبدو متواضعةً، وغالباً ما جاءت أدنى بوضوح من المنسوب المتعارَف عليه في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة في بلدان القارّة، مع تفاوت في ذلك بين بلد أو إقليم وآخر.

ومع هذا؛ فإنّ المؤشرات المتاحة تسير عموماً في اتجاه نموّ المشاركة السياسيّة للمسلمين، وربما النموّ المتسارع بشكل ملحوظ في بعض البلدان والأقاليم، ومن المتوقّع أن يكون ذلك النموّ في الأمد القريب كمِّيّاً أكثر من كونه نوعيّاً، أي بحجم الحضور في الميادين ذت الصلة بالتأثير السياسيّ، من ناحية الثقل والزخم (كما في مدى إقبال الناخبين المسلمين على الاقتراع، وأعداد المسلمين المرشّحين على القوائم الحزبية، وأعداد البرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية، ووتيرة الإدلاء بمواقف سياسيّة أو عدد البيانات التي يجري إصدارها، وغير ذلك)، في ما أنّه يبقى مُنتَظَراً أن يطرأ نموٌّ في الجوانب النوعيّة للمشاركة، والتي يمكن أن تمنحها تأثيراً أكبر (مثل جودة الأداء السياسي، ومواصفات المواقف والبيانات ونوعية التصريحات، وطبيعة الصلات مع المستوى السياسي، وغير ذلك).

 

(14)

وتمثِّل مشاركة المسلمين السياسية على المستويات المحلِّيّة (كالبلديّات والمقاطعات أو الولايات) والقطاعية (كالنقابات) ميداناً هامّاً لتوسيع نطاق مشاركتهم السياسية وإكسابها زخماً كبيراً. وفي واقع الأمر؛ يحقِّق مسلمو أوروبا حضوراً متزايداً في المستوى السياسيّ المحلِّيّ في بلدانهم، بينما ظلّ حضورُهم السياسيّ في المستويات القُطريّة متواضعاً نسبيّاً. وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ مسلمي أوروبا قدّموا وجوهاً أكثر عدداً في العمل السياسيّ المحلِّيّ، بالمقارنة مع النُّدرَة الملحوظة في الوجوه السياسيّة المسلمة العاملة ضمن المستويات القطريّة والأوروبيّة.

ومن غير المستَبعَد أن تتّخذ المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في عديد البلدان الأوروبيّة مساراً يَبدَأُ من المستويات المحلِّيّة إلى ما فوقها، بحيث يبرُزُ مركزُ الثقل في البلديّات والمقاطعات وحتى مجالس الأحياء، علاوة على المستويات القطاعيّة كالنقابات، قبل أن يتعزّز الحضورُ السياسيّ على المستوى القُطريّ العام، وهذا هو الاتجاه العام السائد في تجارب المسلمين في معظم بلدان أوروبا، في ما يبدو مُستَبعَداً أن يتحقّق حضورٌ للمسلمين يلفت الانتباه على المستويات القُطريّة مع تجاوز الحضور السياسيّ المحليّ.

وفي بعض البلدان؛ تكتسب المشاركةُ السياسيّة على المستويات المحلِّيّة وزناً أكبر مما هي عليه في بلدان أوروبيّة أخرى، كما يتّضح مثلاً في البلدان الاتحاديّة (الفيدراليّة) كألمانيا، أو في حالة بلجيكا مثلاً، وعلى نحو أكثر بروزاً في سويسرا، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي السويسري، الذي يتيح هوامش واسعة للكانتونات ضمن نطاق الاتحاد الكونفدرالي.

(15)

إنّ المشاركة السياسيّة ضمن المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة يُفترَض أن يكون بوسعها الاضطلاع بدور صمّام الأمان الإضافيّ للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، خاصة عندما ينطوي الأداءُ السياسيّ المركزيّ أو القُطريّ على تجاوزاتٍ ما أو على ما يُعَدّ انتقاصاً محتَمَلاً من مكتسبات المسلمين أو تهميشاً لمصالحهم. ولكنّ العكس صحيحٌ أيضاً، باعتبار أنّ المستوى القُطريّ أو الاتحاديّ، وربما الأوروبي أيضاً؛ بوسعه أن يكون صمّام أمان لأية تجاوزات مُفترَضة في المستويات المحلِّيّة.

وبكلمة؛ فإنّ المشاركةَ السياسيّة، والمجتمعيّة أيضاً، للمسلمين على المستويات المحلِّيّة؛ تكتسب أهمِّيّة فائقةً وتنطوي على حساسيّة خاصّة أيضاً، فهي مطلوبةٌ لتحقيق مكتسباتٍ وتعزيز مصالح، وأيضاً لدفع أضرارٍ محتَمَلة.

(16)

وقد تنوّعت التجارب التي تَبَلْوَرَت في ساحات مسلمي أوروبا، على صعيد تفعيل مشاركتهم السياسيّة وترشيدها، ومن ذلك تشكيل أطر ولجان متخصِّصة بالإشراف على العمل السياسيّ المباشر أو تنسيقه.

وإجمالاً يمكن القول إنّ هذه التجارب قد لا تكون عرفت استمراراً أو استقراراً طويلاً من الناحية الزمنيّة، ولكنّها كانت مُجْدِيَةً من أوجه عدّة، أهمّها أنّها أَسْدَت خدماتٍ لا يمكن التهوينُ من شأنها في بعض المراحل، بما في ذلك بعض مواسم الذروة السياسيّة. وحتى في حالة اضمحلال إحداها؛ فإنّ ذلك كان يؤذِنُ بصعود أخرى جديدة، وهي ولادةٌ قد تأتي من رَحِم التجربة الأولى، وربما بصورة أكثر نُضجاً. والثابت على كلِّ حال؛ أنّ التجارب تبزُغُ ثم قد تتوارى نسبيّاً أو ربما تنطفئ؛ لكنّ الخبرات المشترَكة مؤهّلة لأن تتراكم وتنفتح على آفاقٍ متجدِّدة.

(17)

ومن العسير التسليمُ تلقائيّاً بأنّ السلوك التصويتيّ للمسلمين في هذا البلد الأوروبيّ أو ذاك ينمّ عن وضوح رؤيةٍ سياسيّة أو حتى عن تشويش فيها؛ إلاّ أنّ مجرّد إقبال المسلمين على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، على نحو رشيدٍ أو أقلّ رشداً؛ هو مطلب هام بحدّ ذاته لتحقيق حالة تراكميّة من الوعي العام في هذا الجانب، تبقى قابلةً للتطوير والتوجيه لاحقاً.

 

 

(18)

وإن كان مألوفاً أن تُسْمَع بعضُ الانتقادات التي تأخذ على الجمهور المسلم في أوروبا، عدم إقبالِه على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، والزهد في التصويت؛ فإنّ هذه الحالة يصعُبُ ُانْتَزَاعها من سياقِها المجتمعيّ العريض، الذي يشهدُ ظاهرةَ عدم الاكتراث بالتصويت.

وهناك عدد من العوامل، تتداخل في ما بينها أحياناً، يمكن اعتبارُها مسؤولةً إجمالاً عن عدم إقبال قطاع من المسلمين الذين يحقّ لهم الاقتراع، على الإدلاء بأصواتهم في المواسم الانتخابيّة التي تجري في مستويات عدّة. ويُلاحَظ في هذا الصدد أنّ تلك العوامل ليست مقتصرة بعامّة على المسلمين، فهي تتّصل بعدد من القطاعات في المجتمع العريض، وعلى تفاوت في ما بينها. ويتعلّق الأمر بأسباب إجرائيّة أو فنيّة بحتة، وأسباب دينيّة أو أيديولوجيّة أو مبدئيّة، وأخرى تتصل بمواقف السخط والتنديد، وركود الساحة السياسية والقناعة بصعوبة تفعيلها. ومن بين الأسباب الدافعة إلى ذلك الإحجام أيضاً؛ عدم وعي الأفراد والمجموعات بأهمية أصواتهم، وعدم تبلور خيارات مشجعة للتصويت لها، وتآكل الثقة بالأحزاب السياسية. ومن الأسباب الأخرى؛ مواقف الأطراف السياسية من اهتمامات المسلمين والشؤون الإسلامية و”الإسلاموفوبيا، واستشعار قطاع من الناخبين سلفاً أنّ النتائج محسومة، فضلاً عن عدم الاكتراث بالشؤون العامة، فضلاً عن مقتضيات واقع الهامشيّة المجتمعيّة، والقنوط من الديمقراطيّة النيابيّة (التمثيليّة).

يُذكَر هنا أنّ وجود مرشّحين مسلمين يحظَوْن بمعدّلات معقولة من الكفاءة والمصداقية والاحترام لدى الجمهور المسلم على قوائم الأحزاب؛ من شأنه أن يزيد من معدلات إقبال الناخبين المسلمين على الإدلاء بأصواتهم. كما أنّ إيلاء القوائم المتنافسة عنايةً لاهتمامات الناخبين المسلمين من شأنه أن يشجِّعهم على الاقتراع. ويلحق بذلك توجّه الحملات الانتخابية للجمهور المسلم مباشرة، بشتى الأدوات المتاحة لذلك، بما فيها مراعاة الخصائص اللغويّة إن لزم الأمر، وهو ما يشهد بالفعل بعض النموّ في بعض البلدان الأوروبيّة.

(19)

ومع النموّ العامّ في تجارب المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، أخذ حضور المرأة المسلمة يبدو ملحوظاً أحياناً وبشكل متزايد ضمن فضاء المشاركتين السياسيّة والمجتمعيّة، وفي حالات عدّة بات الحجاب حاضراً ضمن هذه المشاركة.

وعموماً؛ لم يكن حضورُ المرأة المسلمة في الساحة السياسيّة الأوروبيّة نادراً، إذ تمكنت عدد من النساء اللواتي يتحدّرن من بلدان إسلاميّة من التقدّم بالفعل ضمن الأحزاب السياسيّة في عديد البلدان الأوروبيّة، وانتزاع مواقع في البرلمانات المحلِّية والقطرية علاوة على البرلمان الأوروبيّ ذاته، بل وبشكل كافأ الحضور العدديّ للرجال المتحدرين من بلدان إسلامية في عدد من الحالات.

ولكنّ المؤشِّر الجديد في هذا المضمار والآخذ بالتشكل؛ هو حضور المسلمة المحجّبة أو التي تُظهِر مزيداً من التقدير للدين الإسلامي في المستوى السياسيّ.

(20)

وما يبدو ملحوظاً؛ أنّ للمسجد في أوروبا دوراً لا يمكن إغفاله في الحياة المجتمعيّة، وبالتالي في سياق المشاركة السياسيّة، ويمكن توصيف أبرز أدواره النموذجيّة في هذا الحقل؛ في تحفيز الجمهور المسلم على التفاعل الإيجابيّ مع مسارات المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، والإسهام في ترشيد هذه المشاركة وإنعاشها بفيْض القيم الإسلاميّة ذات الصِّلة. ولكنّ دَوْرَ المسجد في هذا المضمار، الذي يتأتّى أساساً عبر إسهامات الأئمة والخطباء والمحاضرين والوعّاظ وقادة الرأي في الأوساط المسلمة المحليّة؛ ينبغي أن يحافظ في الوقت ذاته على مسافةٍ تفصله عن مزالق الشأن السياسيّ واستقطاباته.

وفي سياق المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا بصفتها الراهنة؛ فإنّ المسجد آخذٌ في اكتساب قَدْرٍ وافِرٍ من ثقله عبر موقعه المحوريّ ضمن تجمّعات الوجود المسلم في البلدان الأوروبيّة، أي أنه محور النشاط المجتمعيّ للمسلمين على المستوى المحلي، وهو ما يُغري بعض السياسيِّين بالتواصل مع المساجد وجماهيرها وكسب ودّ الأئمة على نحو متزايد ولافت للانتباه في عديد الأقطار الأوروبية، غالباً لجمع الأصوات وتحسين صورة أحزابهم، وأحياناً لنزع فتائل التوتر في المجتمع الواحد في ظلال الأزمات. كما يغوي ذلك ضرباً آخر من السياسيين لاستهداف المساجد بمواقفهم وسياساتهم وتصريحاتهم، وهو ما تتوفر عليه شواهد عدّة في عدد من بلدان أوروبا.

ولكنّ المسجد له دوره الواضح في مجال تمثيل الاحتياجات الدينيّة وبعض الاهتمامات المجتمعيّة (شؤون الأحوال الشخصيّة مثلاً) والتعبير عن المصالح والمكتسبات المرتبطة بها إزاء المستوى السياسيّ، سواء بشكل مباشر أو من خلال أطر مختصّة بالتعبير عن ذلك كروابط المساجد أو مجالس الأئمة أو الهيئات الدينية المسلمة وما في حكمها. ثم إنّ المسجد يُفترض أن يضطلع بدور لا غنى عنه في سياق مساعي التواصل المجتمعيّ وتحقيق التفاهم ونزع فتيل التوتّرات.

ومقابل ذلك؛ فإنّ المسجد بات واقعاً أيضاً على محور الأزمات المتعلِّقة بالوجود المسلم في أوروبا، ليس فقط لوجود حالات من التسيير الخاطئ، أو عدم انضباط أو افتقار للحكمة لما يُقال من فوق منابر قليلة أو ما يجري من أنشطة مزعومة في بعض المساجد والمراكز الإسلامية؛ ولكن أيضاً وعلى نحو أهمّ وأوسع نطاقاً؛ تبعاً لمحاولات التحريض ضد الوجود المسلم في أوروبا واستهداف نقاط الحضور والتمركز في هذا الوجود، وليس المسجد أو المركز الإسلامي سوى العنوان الأبرز في هذا السياق.

(21)

من غير المتوقّع أن تسدي التراجعات على صعيد حقوق مسلمي أوروبا وحرياتهم ومكتسباتهم خدمةً مباشرةً في اتجاه تعزيز المشاركة؛ إلاّ أنها قد تستحثّ مشاركة قطاعات من الجمهور المسلم تستشعر ضرورة تفاعلها مع الشأن السياسيّ وإسماع صوتها ومحاولة كبح جماح ما قد تراها من تراجعات.

وعلاوة على الدور التنبيهيّ الذي تنطوي عليه التجاوزات والتراجعات والمواقف الحادّة، وما تستحثّه من ردود أفعال؛ فإنّ المستوى السياسيّ في أوروبا استشعر، إجمالاً، حاجته إلى “شركاء حوار” من الوجود المسلم يستطيع أن يتعامل معهم في ظل ازدياد الشواغل المتعلقة بالشأن الإسلامي. ومن المرجّح أن يفيد هذا الاستشعارُ المشاركةَ السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا، بالنظر إلى الحاجة إلى تشكيل أُطُر معبِّرة عنهم، لكنّ أية محاولة من السلطات للتدخل، بشكل أو بآخر، في قيام هذه الأُطُر و/ أو التأثير على تسييرها؛ لن تخدم مسعى المشاركة، بل ستُلحق أضراراً مؤكّدة بها.

(22)

ومن بين ما يثير الاهتمام، بشأن التفاعل السياسيّ الذي يبديه مسلمو أوروبا؛ أنّ التعليق على التطوّرات سلبيّة الطابع أو الأزمات الداهمة والفواجع قد فرض نفسه على ذلك التفاعل.

ويكشف التلاحقُ المتسارع في التطوّرات والفواجع؛ حجم الظروف الضاغطة في غضون السنوات الأخيرة، والتي استشعر مسلمو أوروبا، عبر هيئاتهم ومؤسساتهم وجمعيّاتهم وقياداتهم المجتمعيّة وسياسيِّيهم؛ أنّ عليهم مواكبَتَها والتعليقَ عليها أو ربما محاولة التأثير في مجرياتها أو التخفيف من تداعياتها. وقد ترتّب على ذلك طابعٌ عام من الحضور الإعلاميّ والسياسيّ في ظلّ الأزمات، وهو يمثِّل عِبئاً بحدِّ ذاته، إلاّ أنّه أبرَزَ دوراً متزايِداً للأطراف التي يُفترَضُ أنها تُعبِّرُ عن المسلمين أو حتى تمثِّلهم، في المستويين السياسيّ والإعلاميّ. وليس من الدقّة أن يُعَدّ ذلك الاهتمامُ السياسيّ والإعلاميّ المتنامي؛ بالضرورة تزايداً في الفعاليّة والقدرة على التأثير في الساحتين السياسيّة والإعلاميّة، ذلك أنه يأتي هنا في سياقات مأزومة غالباً، وضمن ملابسات تكتسب من الناحية الإجمالية طابعاً سلبيّاً، مهما تحقّق في ثناياها من مكاسب عَرَضيّة أو ثانويّة، علاوة على أنها أبرزت نزعةً اعتذاريّةً، أو أحياناً لهجةً دفاعيّةً، في بعض صفوف مسلمي أوروبا ومؤسّساتهم.

(23)

من الأهمية بمكان أن تتبلور ثقافة الاعتراض السلمي لدى قطاعات مسلمي أوروبا، وهي ثقافة تنمو عبر مساحة حرية الرأي أساساً، وتستمدّ وقودَها من إرادة الجمهور وَوَعْيِه بالواقع وبالتحدِّيات التي ينطوي عليها. ومن نافلة القول أنّ تنمية ثقافة الاعتراض السلمي؛ ينبغي أن تتماشى مع تعزيز المواطنة الصالحة للمسلم في أوروبا بشتى أبعادها. كما أنّ الاعتراض السلمي لا يُعنى به العمل المنعزل عن حركة المجتمع، وإنما التفاعل النشط معها في إطار هوية مسلمة متناغمة مع الواقع.

وفضلاً عن عدم استغناء أي مجتمع عنها؛ فإنّ إشاعة ثقافة الاعتراض السلمي يمكن أن يحقِّق جملة من المكتسبات المتّصلة بواقع الأقليات المسلمة في أوروبا، فهي تساهم في قطع الطريق على تبرعم مشاعر الكبت والدونيّة لدى الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا، ويعينها ذلك على التعبير عن مواقفها بثقة وصراحة. أما أحد الخيارات البديلة فيتمثل في تشجيع التطرّف وَخِيم العواقب، خاصّة وأنّ من شأن الاعتراض السلمي أن يقطع الطريق على بدائل الاعتراض المنبوذة الأخرى (العنف الساخط).

ثمّ إنّ الاعتراض السلميّ بأشكاله؛ يُبَلْور قضايا حيّة يجدر بالأقليات المسلمة أن تعيشها وتتفاعل معها، وهو ما يُعلي من مستوى شواغل هذه الأقلِّيّات، ويُطلق في الوقت ذاته طاقات أبنائها وبناتها نحو الفعل التعاوني المثمر.

ويقتضي الاعتراض السلمي الناجع الانخراط في حركة المجتمع، وهو بالتالي شكل من أشكال الاندماج الإيجابيّ الفاعل، علاوة على كونه توثيقاً لعرى الصلة مع قطاعات المجتمع الأخرى، بما يقي الأقليات المسلمة مخاوف العزلة والانكفاء على الذات، وغالباً ما يشجع بناء الثقة المتبادلة مع الآخرين من شركاء الموقف الواحد. وبالمقابل؛ فإنّ الاعتراض السلميّ هو من بين وسائل “الالتحام بالجماهير”، كما أنه فرصة لصقل القيادات الجماهيرية، وتوثيق الصلة بين السياسيين والمواطنين.

هذا بشأن الاعتراض كآليّة؛ إلاّ أنّ توظيفها ينبغي أن يخضع لتقدير الدواعي والجدوى المرجوّة، ويتوجّب أن يصاحبه خطاب تواصليّ غير منغلق، ولا يجنح إلى التطرّف أو التعصّب في إطاره العام وفي مفرداته. كما أنّ الانعزال في التحرّك الجماهيري، في نطاق المسلمين أنفسهم أو ضمن مجموعات هامشيّة؛ لا يرقى إلى الدور المنشود، علاوة على ما قد تستتبعه من تداعيات سلبية.

 

 

(24)

ربما استطاع مسلمو أوروبا أن يساهموا في التفاعل مع الشأن السياسيّ في حالات عدة، منها مثلاً في موجة المظاهرات التي عمّت أوروبا في النصف الأول من عام 2002 تنديداً بالحملات الحربية لقوات الاحتلال في فلسطين، وكما في مظاهرات التحذير من شنّ حرب على العراق بدءاً من خريف 2002. ولكن ما كان واضحاً في مثل هذه الحالات وغيرها؛ هو تركيز الجهود على الفعل السياسي الجماهيريّ أو المواقف الإعلاميّة التقليديّة، دون بروز أدوات أمضى نفاذاً في مسارات الفعل السياسيّ وأكثر تشابكاً معه.

كما بدا بوضوح أنّ الأداءَ السياسيّ للمسلمين قد اتخذ سمةً موسميّةً في كثير من الساحات الأوروبيّة، ولم تتوفّر أطرٌ أو أدواتٌ للمسلمين تتيح التواصُلَ السياسيَّ “المحترف” في معظم دول أوروبا، رغم وجود بعض النماذج الناهضة في بلدان قليلة وحالات محدودة.

ورغم أنه قد جرى الاهتمامُ ببعض التطوّرات الاعتياديّة، التي تخرج عن نطاق الأزمات، مثل الجولات الانتخابية على نحو خاص، كما اتضح مثلاً في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2004؛ فإنّ ذلك لا ينفي واقع أنّ المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ما زالت من الناحية الإجماليّة بعيدة عن الانشغال باتجاهات مؤثِّرة وهامّة، من قبيل الإسهام في وضع جدول الأعمال (Agenda Setting) في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة، أسوة بما تسعى إليه في العادة الأطرافُ المجتمعيّةُ الفاعلة.

ولا يعني ذلك عدم وجود محاولاتٍ أو تجارب في أوساط مسلمي أوروبا في هذا الجانب؛ لكنّ الواضح أنّ السمة العامّة هي أنّ تفاعلهم مع الشأن السياسي يبدو أقرب إلى طابع ردود الأفعال والأداء الموسميّ الذي لا يحظى بالاستمراريّة والتواصل والاستقرار، خاصّة مع الافتقار إلى منظومة مؤسسيّة مستقرّة معنيّة بمتعلقات العمل السياسيّ، كمؤسّسات الاستشارات والخدمات، ومراكز البحوث والدراسات الكفؤة، ومؤسسات التفكير المعروفة باسم “دروع الأفكار” (Think Tanks)، و”مجموعات المصالح” الفاعلة، ومؤسّسات المعلومات والإعلام، والجمعيّات الحقوقيّة ذات الصوت المسموع والأداء الضاغط، وغير ذلك.

ومع هذا؛ فلا يمكن تجاهل أهمِّيّة ردود الأفعال أو التحرّكات المتقطِّعة أو الأداء موسميّ الطابع بالنسبة لفُرَصِ إنعاشِ المشاركة السياسيّة للمسلمين.

(25)

وبنظرةٍ مستقبليّةٍ يمكن القولُ؛ إنّ المؤشِّرات المتاحة تتّجه إلى تبلوُر أشكالٍ أكثر استقراراً للمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، وقيام منظومةِ مؤسساتٍ رديفةٍ وهامّة لتعزيز تلك المشاركة، وذلك امتداداً للإرهاصاتِ الملموسة، وبناءً على استشعارٍ متزايد للحاجة إلى تفاعلٍ أكثر كفاءة وفعالية وتأثيراً مع الشأن السياسيّ، بمفعول خبراتِ مسلمي أوروبا خلال السنوات الماضية وصدماتها في هذا الشأن.

(26)

أمّا الساحة السياسية في دول شرقيّ أوروبا؛ فقد أُعيد تشكيلها بمفعول عاملين اثنين متتابعين؛ أولهما انهيارُ نُظُم الحكم الشيوعي، وثانيهما إعادة تشكيل الخارطة السياسيّة في هذا الشطر من القارّة، مع ما رافقه من توتّرات وأزمات، بل وحروب طاحنة كان المسلمون هم أبرز ضحاياها بلا منازع. وقد نشأت دولٌ جديدةٌ من رحم هذه التحوّلات في غضون العقد الأخير من القرن العشرين.

ويجِدُ الحضورُ المسلم في دول شرقيّ أوروبا، ذاتَه جزءاً من بيئةٍ أُعيد تشكيلُ الثقافة السياسيّة فيها بصفةٍ جذريّة، بل ما زالت بعض أشواطِ عمليّة إعادة التشكّل مستمرةً في مسارات عدّة، سياسيّاً ومجتمعيّاً.

وتكتسب المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في العديد من بلدان شرقيّ أوروبا ملامحَ ودلالاتٍ وأبعاداً متباينةً بوضوح عن واقع تلك المشاركة وملابساتها في غربيّ القارة ووسطها. كما أنّ التبايُنات تبدو ماثلةً بين بلدٍ أوروبيّ شرقيّ وآخر، في ما يتعلق بالمشاركة السياسيّة للمسلمين.

 

 

(27)

وتتمثل إحدى الصعوبات الجوهرية في العمل السياسي لمسلمي أوروبا في افتقار عددٍ من قطاعات المسلمين لإدراكِ خارطة الواقع السياسيّ وعُمقِه في الساحة الأوروبيّة. إذ لا يمكن أن تحوزَ سياساتُ حزب بعيْنه أو حكومة ما؛ على مؤشِّرات إيجابيّة وبالمستوى ذاته في كافة المجالات.

إنّ تقويم مدى توافق حزبٍ سياسيّ ما، مع ميول الناخبين المسلمين المفضّلة، أو مع مقاصد المشاركة السياسيّة للمسلمين في البلد المعنيّ؛ إنما يُفترَض أن يخضع لملاحظة رؤى الحزب وبرنامجه ومواقفه من مجالات أساسية:

– خلفيات الحزب ومنطلقاته وخطه العام وخطابه.

– مجالات السياسة الداخلية العامّة، كسياسات الصحة والتعليم واحتياجات الشباب وملف الرعاية الاجتماعية وغيرها.

– مجالات السياسة الداخلية المتعلقة بالمسلمين، وبصفة أعمّ ما يخصّ الأقليات والمتحدرين من خلفية هجرة ومن يُوصَفون بالأجانب، كملف الميز والتفرقة وحقوق الأقليات وقوانين الإقامة وغيرها.

– ما يتعلق بمجالات السياسة الخارجيّة.

والواقع أنّ الانطباعاتِ المشتّتة عن سياساتِ بعض الحكومات أو الأحزاب، قد تسبّبت في إرباكات عدة في صفوف مسلمي البلدان الأوروبية في عددٍ من الحالات لجهة اتخاذ الموقف الأنسب منها. ويبرز ضمن عوامل الإرباك ما يتعلّق بالسياسات الخارجيّة التي تتّخذ طابعاً مستقلاً إلى حدٍّ ما عن مسارات السياسة الداخليّة، علاوة على أنّ الشأن السياسي الخارجي لا يتبوّأ مكانة ملحوظة في معظم الجولات الانتخابية في البلدان الأوروبية.

وعادة ما يواجِهُ الناخبون المسلمون بعضَ المصاعب في عددٍ من الدول الأوروبيّة، لجهة المفاضلة بين الخيارات السياسيّة، والانتخابيّة منها على نحو خاصّ، على خلفيّة ما يبدو أحياناً أنه تفاوتٌ كبيرٌ في تقييم الأحزاب من جانب سياساتها الداخليّة والخارجيّة، وهو تفاوتٌ يأخذ طابع التناقض أحياناً.

(28)

ثمة خصوصيّات تعزِّز الافتراضَ والملاحظاتِ بأنّ مسلمي أوروبا هم أكثر اهتماماً بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبية؛ بالمقارنة مع منسوب الاهتمام العام بتلك السياسات السائد في مجتمعاتهم الأوروبيّة.

ويمكن رصد تحوّلٍ لافت للانتباه منذ أواسط التسعينيات، في اهتمامات الناخبين المسلمين في عديد الدول الأوروبيّة الغربيّة، لجهة تقييمهم لمواقف الأحزاب والقوى السياسيّة، وبالتالي إمكانية المفاضلة بينها.

فكثيراً ما كان الاكتراث بالسياسة الخارجية لتلك الأحزاب والقوى، يتقدّم على السياسة الداخلية ومجالات أخرى. ثم طرأ بالتدريج ميلٌ لإدراك السياسة الخارجية بصفة تتساوق بشكل متزايد مع رؤية أكثر استجماعاً لمجالات سياسيّة أعمّ، بما في ذلك السياسات الداخلية لتلك الأحزاب والقوى.

ويعكس ذلك، على ما يبدو، تَبَلْوُرَ رؤيةٍ أوسع في أوساط مسلمي أوروبا للشأن السياسي، وتنامي التحدِّيات المحلِّيّة التي تواجه الوجود المسلم في هذه القارّة، علاوة على تَبَلْوُر “شخصيّة” قائمة بذاتها لهذا الوجود، مع صعود دور الجيلين الثاني والثالث في مجمل مسارات الحياة المسلمة في أوروبا ومفاصلها. إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً بالضرورة تراجعاً جوهرياً في الاهتمام بالشأن السياسيّ الخارجيّ، خاصّة مع السخونة المتزايدة التي تكتسبها القضايا الملتهبة في العالم الإسلامي.

(29)

وإزاء الاهتمامات الواقعة ضمن ملفّات السياسة الخارجيّة؛ تفرض شواغلُ أخرى حضوراً متزايداً في أوساط مسلمي أوروبا، وهي شواغلُ تندرج ضمن ملفات السياسة الداخليّة. وبالمقابل؛ فإنّ الاهتمام المتزايد في أوساط مسلمي أوروبا بالسياسات الداخلية؛ يتساوق مع النجاح النسبيّ الذي يحرزونه في المشاركة السياسيّة على المستوى المحليّ، كانتخابات البلديّات والمقاطعات مثلاً، بالمقارنة مع الانتخابات التشريعيّة العامة مثلاً.

ومقابل ذلك التقدّم في الاهتمامات على الصعيد الداخليّ؛ لا تتوفّر مؤشرات على أنّ مسلمي أوروبا يستشعرون أيّ تأثير يُذكر من جانبهم على السياسات الخارجية لدولهم الأوروبيّة، وهو ما قد يعزِّز صرف انتباههم إلى الساحة الداخليّة. فالقنوط من إمكانية التفاعل الجادّ مع السياسات الخارجية؛ يتولّد أيضاً من حقيقة أنّ المنافسة بين الأحزاب والمرشّحين في الجولات الانتخابية تتمحوَر في الأصل وعلى نحو شبه حصري حول الشؤون السياسية الداخلية، لا السياسة الخارجية، باستثناء بعض المنعطفات كالانتخابات التي واكبت حرب احتلال العراق (2003) في بعض الدول الأوروبية.

(30)

وهناك عامل هامّ كان له أثره الواضح في توجيه اهتمام المسلمين إلى السياسات الداخليّة لدولهم الأوروبيّة؛ ألا وهي المشكلة العنصريّة وحضور أقصى اليمين السياسي وبروز الخطاب المعادي للأجانب بعامّة والمسلمين بخاصة في الساحة السياسيّة.

إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً أنّ التحدي العنصريّ، أو الخطاب المُناهِض للأجانب والمسلمين، وموجة “الإسلاموفوبيا”؛ كفيلةٌ باستحثاث استجابات إيجابيّة في صفوف المسلمين على صعيد المشاركة السياسيّة؛ إذ قد يتسبّب ذلك في ردود أفعال سلبيّة أيضاً، وربما يفضي ذلك إلى إحباط بعض مساعي الاندماج الإيجابيّ للمسلمين في مجتمعاتهم وبيئاتهم الأوروبية، بل ومن المتوقّع أن تُسجّل استجابات إيجابيّة وسلبيّة في البيئة الواحدة من بيئات مسلمي أوروبا لتلك التحدِّيات المثيرة للقلق.

وهنا تتضح مرّة أخرى أهمِّيّة دور قادة الرأي المحلِّيّ من المسلمين، مثل الأئمة ومسؤولي المؤسّسات والشخصيّات المسلمة المؤثِّرة والمتفاعلين مع العمل السياسيّ؛ في استحثاث استجابات إيجابيّة من قبل قطاعات الجمهور المسلم واحتواء نُذُر الانكفاء على الذات. كما أنّ توفّر خيارات متاحة للمشاركة السياسيّة وملموسة الأثر بالنسبة للجمهور المسلم سيكون عاملاً مشجِّعاً على الانخراط في التفاعل الإيجابي مع الشأن السياسيّ. وما يساعد على ذلك أيضاً، وعلى نحو حاسم؛ وجود أطرافٍ في الساحة السياسيّة والمجتمعيّة منفتحةٍ على المسلمين وتتعاطى معهم بإيجابيّة ومستعدّة لإنشاء التحالفات والشراكات معهم في عدد من المجالات.

(31)

وبالوسع الإشارة إلى عاملٍ آخر، من المُحتَمَل أن يؤثر على تراجع نسبي في اهتمام بعض قطاعات مسلمي أوروبا بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة، ألا وهو التساوق مع الاهتمامات السائدة في المجتمع العريض.

وحتى بالنسبة للجمعيّات والمؤسّسات المسلمة؛ فإنّ توجّه الاهتمام إلى شؤون السياسة الخارجيّة قد لا يبدو بالنسبة لها خياراً ملائماً في الأحوال الاعتيادية. ومن المتوقّع أن تجد العديد من تلك المؤسسات مصاعب في التطرّق إلى شؤون السياسة الخارجيّة تطرّقاً مباشراً، خاصة وأنّ تلك الشؤون تأخذ طابعاً صراعياً أحياناً، أو تهيمن عليها تجاذبات المصالح غير المنضبطة من بعض أطراف السياسة الدولية، وهي ملابساتٌ لا تنسجم مع المناخ العام الذي قد تجد الأطرافُ المسلمة المحلِّيّة ربما أنه يحكم التواصل الداخليّ في مجتمعاتها الأوروبية.

وعليه؛ يكون مفهوماً أن تشعر عديد المؤسسات الإسلامية في أوروبا بأنّ عليها أن تنأى بنفسها عن ذلك السياق غير المنسجم مع خطابها، خاصة مع ما يكتنف العلاقات الدولية من طابع صراعيّ، وهو ما يأخذ من جانب طابع التنصّل والتبرّؤ من كل ما يُحتَمَل إلصاقُه تعسّفاً بالإسلام والثقافة الإسلامية وبالمسلمين، والإحجام عن الخوض أو الاستغراق في المتابعات السياسية الخارجيّة “المؤرِّقة” والخارجة عن السياق، من جانب آخر.

إنّ ذلك الاتجاه الآخذ بالتبلور على نحو متزايد؛ قد يثير تساؤلات عمّا إذا كان يمضي أساساً على نحوٍ واعٍ تماماً أم بموجب الظروف والتطوّرات الضاغطة وكنمط تعاطٍ تلقائيّ وغير مدروس. وفي كلِّ الأحوال، وبمعزل عن إصدار تقييم بشأن هذا التطوّر؛ فإنّ ما يمكن على الأقلّ لفتُ الانتباه إليه في هذا المضمار؛ هو أنه قد يعزِّز الحاجة إلى وجود أطر متخصِّصة بالعمل السياسي في شؤون مسلمي أوروبا واهتماماتهم، بما في ذلك مجالات السياسات الخارجيّة.

ولعلّ أحد التحدِّيات الإشكاليّة التي يمكن ملاحظتُها هنا، واستشرافها مستقبلاً؛ احتمال نشوءِ فجوةٍ في ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، قد تتسع تدريجياً، بين اهتمامات قطاعات من الجمهور المسلم الأوروبي وتوقّعاتها من مؤسّسات التيار الرئيس أو العام للوجود المسلم في القارّة؛ وخطاب تلك المؤسسات وأدائها.

(32)

مما يتبيّن للمعنيِّين من مسلمي أوروبا، ومسلمي الغرب عموماً، بمضيّ الوقت؛ هو أنّ هناك فارقاً بين القُرب الجغرافيّ من مراكز صنع القرار العالمي، والقُرب الفعليّ من مسالكها.

والأمر يتعلق في هذا المقام بمُعضِلَتين ربما تفسران جانباً من خلفيّات التراجع النسبيّ في اكتراث مسلمي أوروبا بالتأثير على السياسات الخارجية، هما الحاجة إلى إدراك مسالك السياسات الخارجية وآليات عملها والأطراف الفاعلة فيها من جانب؛ والقدرة على النفاذ إلى تلك المسالك والأوساط والتأثير الفعلي على النحو الرشيد فيها من جانب آخر.

(33)

ويمكن رصد اتجاه واضح في أوساط مسلمي أوروبا لإبراز دورهم في تطوير العلاقة بين القارّة والعالم الإسلامي. وما قد يبدو لافتاً للانتباه بعض الشيء؛ أنّ وَجْهاً جديداً إلى حدِّ ما من وجوه التعاطي مع السياسات الخارجيّة؛ آخذٌ بالبروز في واقع مسلمي أوروبا. إنه يتعلّق بدورِهم كوسطاء في بعض جوانب العلاقة الأوروبيّة مع العالم الإسلاميّ، وخاصة في ظلّ التطوّرات الداهمة أو المنعطفات المأزومة، وانطلاقاً من مواطنتهم الأوروبيّة.

وإزاء تقديرات بعض النُّخَب المسلمة في أوروبا، بأنّ المسؤوليّة الأدبيّة تُملي عليها السعيَ لتجسير الفجواتِ بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ فإنّ المستوى السياسيّ في البلدان الأوروبيّة قد يرى أدواراً مجديةً للحضورِ المسلم لديه ضمن إدارته للعلاقة مع العالم الإسلامي أيضاً.

(34)

ويُلاحَظ في سياق التطرّق إلى مسائل السياسة الخارجيّة؛ أنّ منسوب الأهمِّيّة لتفاعل مسلمي أوروبا مع هذه السياسات قد يتفاوت باعتبار المكان والزمان.

ومما يقلِّص الجدوى المنتظرة؛ أن يقتصر التفاعل مع السياسات الخارجيّة للدول الأوروبيّة على خطوةٍ في هذا الملف أو أخرى في غيره، إذ يتوجّب إضافة إلى ذلك؛ الالتفات إلى أهمِّيّةِ التأثير على الخلفيّات التي تَصدُرُ عنها الخطواتُ السياسيّة في الملف المعنيّ أو غيره، بحيث لا يجري التوقُّفُ عند حدود “التكتيك السياسيّ” بل التعاطي ضمن “فضاء التوجّهات الاستراتيجيّة”.

وهكذا؛ يجدر التوجّه للإسهام في معالجة بعض الاختلالات الماثلة في جوانب متفرِّقة من السياسة الخارجيّة للدول الأوروبيّة، وذلك مما يوجِّه الاهتمامَ إلى الحاجة الماسّة لإعادة النظر في التقاليد والمعايير التي تَصدُرُ عنها السياساتُ وتتماشى معها، خاصة مع أهمية ترشيد الحضور الأوروبيّ في الساحة السياسيّة الدوليّة، اتعاظاً من دروس الماضي الأوروبي والحاضر الأمريكي.

(35)

وفي كل الأحوال؛ فإنّ تفاعل المسلمين مع السياسات الخارجية أمرٌ إيجابيّ ومرغوبٌ، ويُفترض أن ينمّ عن وَعي يقتضي الترشيد المستمر كي يكون بنّاءً ومنسجماً مع حضور مجتمعيّ فاعل. إذ ينبغي أن يجري ذلك بشكل واعٍ يستصحب أولوّياتٍ الوجود المسلم في أوروبا واحتياجاته ومتطلّباته العديدة، والتي يُفتَرَضُ أنها لا تتناقض مع التعاطي الرشيد مع السياسات الخارجيّة من حيث المبدأ.

ولكنّ الأمر لا يبدو على هذا القَدْرِ من البساطة كما يتوهّم المرءُ، ذلك أنّ الخطوطَ الفاصلة بين مدى التفاعل “المنشود” ونظيره “غير المحبّذ” مع السياسات الخارجية، ليست واضحةً في كثير من الأذهان بعدُ، وقد لا تتضح بسهولة، والأهم أنّ هناك تفاوتاً ملموساً بشأنها بالمقارنة بين واقع المسلمين في بلد أوروبي ما وواقعهم في غيره، بل وضمن نطاق الوجودِ المسلم في البلد أو الإقليم الواحد أيضاً. ومن المستَبعَد أن يُحسَمَ الجدلُ الداخليّ في بعض الأوساط المسلمة بهذا الشأن.

(36)

والمطروح في ساحة المشاركة السياسية ليس التغيير الجذريّ الذي يقوم على منطق “إما ـ أو”، وإنما على أساسٍ من تفاعل مستمر وواعٍ ضمن الساحة الأوروبيّة العامّة. فما تجدُر مراعاتُه أيضاً؛ هي أهمِّيّة وضعِ التوجّهات والمطالب في سياقاتها الملائمة، وهو اشتراطٌ واقعيٌّ لا غنى عنه للسعي لتحقيق مكتسبات أو ممارسة التأثير من أي طرف كان في الساحة الأوروبيّة.

ومما يتوجب التشديد عليه؛ أنّ الخيار الذي لا غنى عنه لمسلمي أوروبا في الشأن السياسيّ، هو خيارُ بناء التحالفات والشراكات، والسعي لإنضاج حالة من الاصطفاف المجتمعيّ والسياسيّ حول شتى المسائل والاهتمامات ذات العلاقة، ووضع مواقف المسلمين قَدْرَ الممكن ضمن النسيج المجتمعيّ والسياسيّ المتشابك، لا عزله عنه.

ولكنّ ذلك لا يمثِّل خياراً متيسِّراً، بل يقتضي بذلَ الجهود الحثيثة والتراكميّة والكفؤة قالباً ومضموناً، وهو ما يأتي على أيِّ حال في صميم فعل المشاركة السياسيّة التي لن تحقِّق جدواها على نحو هَيِّن أو تلقائيّ.

(37)

وتقتضي المشاركة الرشيدة في الساحة السياسية تنويع الوسائل والأدوات، بما يحقق المقاصد العامة ويراعي الأهداف المباشرة المنشود تحقيقها.

وينبغي استصحاب ذلك الاقتضاء مع التذكير بأنّ الضابط الأساس الذي يجعل من وسائل أو أدوات ما، في حقل المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، مقبولة؛ هو ضرورةُ تقيّدها بالمعايير والتوجيهات الإسلامية والقانونيّة والأخلاقية والأدبية ذات الصلة.

 

 

(38)

وتتضمّن المسؤوليّات المترتِّبة على المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، جملةً من الأدوار والوظائف، التي بنبغي أن يقوم بها، على نحو إجمالي، من يُفترَض أنهم يُعَبِّرون عن تلكَ المشاركة أو يجسِّدونها، كلّ في نطاقه. أي ينبغي أن تنهض بهذه الأدوار والوظائف، على نحو إجمالي وتكاملي؛ مجملُ الأطراف المسلمة ذات الصلة بالمشاركة السياسيّة.

وتشتمل هذه المسؤوليات على وظائف ضمن كل من المستوى التشريعيّ، والتنفيذيّ، والتواصليّ، والتحفيزيّ، في ما أنّ هناك وظائف ضمن المستوى التوجيهيّ أو الإرشاديّ، وأخرى ضمن مستوى القيادة السياسيّة والمجتمعيّة. وما يُنتظر في هذا السياق مثلاً؛ أن يحرص القائمون على الأداء السياسيّ على تجميع المسلمين لا تفريقهم، وأن يعزِّز ذلك الأداءُ وَحْدَتهم وتواصُلَهم ما أمكَنه ذلك، متحاشياً التشرذم والفرقة. كما يمكن تحديدُ وظائف أخرى مترتبة على مسؤوليات المشاركة السياسية للمسلمين.

(39)

غنيٌّ عن القول إنّ المشاركةَ السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا معنيّةٌ بتحقيق تقدّمٍ في مجالات متعدِّدة ومسارات شتى، ومن ذلك تعزيز المكانة الأدبيّة والاعتباريّة للوجود المسلم وخصوصيّاته الدينيّة. والواقع أنّ هذا مسعى ينطوي على أهمية بالغة ودلالة رمزية فائقة كذلك، ولكنه لا ينبغي أن يتّخذ من المكتسبات ذات الطابع الرمزي مؤشِّراً تلقائيّاً على إحراز تقدّم فعليّ في واقع المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة.

وإن لم تكن وفرةُ الخطوات الرمزيّة الإيجابيّة نحو المسلمين كافيةً وحدَها للدلالة على توجّه إيجابيّ عام في التعامل مع الوجود المسلم وخصوصيّاته؛ فإنّ ما يمكن تأكيده بالمقابل أنّ ندرة تلك الخطوات الرمزيّة في بلد أوروبي ما ستؤشر غالباً إلى عدم نضوج توجّه إيجابيّ، أو اهتمام في المستوى اللائق، صوب التعامل مع الوجود المسلم.

(40)

ومن يدقِّق النظر في واقع مسلمي أوروبا الغربية والوسطى؛ قد يلحظُ في سياق تأمّلاته خيوطاً ناظمة لاصطفافاتٍ بعينها في الخطاب المجتمعيّ والسياسيّ، وفي الأداء التواصليّ وفعل الممارسة المترتِّبيْن عليه. ويمكن الإشارة هنا إلى اصطفافاتٍ عدة قد لا يجوزُ حصرُها أو اختزالها في نماذج قليلة، لكنّ ما يسترعي الانتباه منها اتجاهان، يقوم أوّلهما على نزعة تغليب خطاب الحوار والتواصل ومحاولة البرهنة على “حُسن النيّة” في التعامل مع الوسط المجتمعيّ والسياسيّ. في ما أنّ المعبِّرين عن الاتجاه الآخر يقفون على النقيض، مرتكزين إلى إبراز التناقضات ومغفلين القواسم المشتركة أو فرص التواصل واللقاء مع الأطراف المجتمعية.

وفي ما أنّ الاتجاه الثاني لا يقدم تصوّراً ولا برنامجاً للمشاركة السياسيّة فضلاً عن المشاركة المجتمعية؛ فإنّ الاتجاه الأول يبقى مَدعُوّاً لبلورة خيارات التعاطي مع الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة على أسس أكثر وعياً ونقديّة. ويمكن القول إنّ اتجاهاً ثالثاً يمكن العثورُ عليه في أوساط مسلمي أوروبا، يدرك أنّ التواصل والحوار والتفاعل المتبادل لا يقتضي التملّص من التناول النقديّ للمسائل المطروحة في الساحة السياسيّة، وذلك على أساس بناء الجسور من جانب وحماية المصالح والمكتسبات من جانب آخر.

(41)

وعلى المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا؛ أن تتهيّأ لما يمكن أن تأتي به التطوّرات المُحتَمَلة، فتسعى بالتالي لامتلاك زمام المبادرة بدلاً من الاستئناس بالاقتصار على ردود الأفعال وحسب.

ومع ذلك؛ فإنّ الواقع العام للوجود المسلم في أوروبا؛ ما زال يركنُ إلى ردود الأفعال والقصور في استباق التطوّرات، وهو ما يُرشِدُ بحدّ ذاته إلى أهمِّيّة الحاجة إلى الاستشعار المبكِّر للأزمات المحتملة والملفات المتفاقمة، والتي يمكن أن تأتي على هوامش من حريّات المسلمين وحقوقهم، وتقوِّض شيئاً من مصالحهم ومكتسباتهم.

وما بات يحدُث في حالاتٍ عدّة؛ هو أنّ تفاعلَ بعض ثنايا الساحة المسلمة في أوروبا مع بعض الملفات، يأخذ طابع الفتور حيناً، وربما اللامبالاة، إلى أن يصل إلى نقطةٍ يبدو معها الموقف وكأنّه قد تجاوز الحدود المحتَمَلة، فتنطلق حملات موسّعة، تفاجِئُ قطاعاتٍ من المواكبين والمتابعين وعموم الرأي العام. وهنا قد لا يحدث تفهّمٌ لهذه الهبّات المفاجئة، والتي لم تكن مسبوقَةً بجهودٍ تواصُليّة حثيثةٍ ومتراكمة لكسب تفهّم الرأي العام والقطاعات المعنيّة، بما في ذلك المستوى السياسي؛ لما يراه المسلمون من هذه القضية أو تلك. وتُعَزِّز هذه الملاحظات من أهمِّيّة التفات مسلمي أوروبا إلى أيّة مكامن خلل مُحتَمَلة، وهي كثيرةٌ على الأرجح، ومحاولة وضع تقديراتٍ للتعامل معها والتواصل مع الرأي العام والأطراف المعنيّة بشأنها ما أمكن ذلك، وهو ما ينبغي أن يقع ضمن مسؤوليّات المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا على أي حال.

(42)

ولعلّ إحدى المسؤوليّات الكبرى التي تترتّب على توجّه المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة؛ تتمثل في وضع رؤى وتصوّراتٍ جادّة، وصياغة برامج عمليّة، والمضيّ في الممارسة التطبيقيّة على قَدْرٍ من الجدِّيّة والمسؤوليّة والكفاءة.

ويتطلّب هذا المسعى وضعَ جداول أعمالٍ (Agendas) متجدِّدة، وتعبئة جمهور مسلمي أوروبا، كلّ في بلده أو إقليمه أو منطقته أو قطاعه الذي ينتمي إليه، للتفاعل مع هذه الأولويّات والمضيّ فيها، وهو ما يفرض مطلب التوضيح والتوعية العامّة، لكي يكون الجمهورُ المسلمُ هو الحاضنة لهذه المشاركة السياسيّة، مع الحذر من عُزلَته عنها أو انفصامِه عن مستجداتها.

وما سيُعينُ على ذلك؛ هو بروزُ أُطُرٍ ومؤسّسات وقيادات للعمل السياسيّ والتواصل المجتمعيّ في أوساط مسلمي أوروبا، لا تعوزُها المصداقيّة، وتكون مؤهّلةً لحيازة رضى الجمهور المسلم، الذي سيكون مطالَباً بأن يمنحها ثِقَتَه لتمثيل تطلّعاته واهتماماتِه ومصالحه في المستويات السياسيّة والمجتمعيّة، مع قدرة هذه الأطر والمؤسسات والقيادات على الحضور الحسن واللائق بمسؤوليّاتها وأدوارها في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة العريضة في أوروبا. وليست هذه جميعاً بالمهامّ المتيسِّرة، إلاّ أنّه لا غنى عن المضيّ فيها قَدْرَ الوُسْع.

(43)

ولا ريبَ في أنّ إحدى المعضِلات التي ينبغي على المشاركةِ السياسيّة لمسلمي أوروبا أن تتصدّى لها؛ هي كيفيّة التفاعل مع الساحة السياسيّة، دون أن يكون ذلك التفاعلُ مجرّدَ كمٍّ تصويتيّ يكتفي بشَرْعَنَة الأداء السياسيّ القائم دونما تأثيرٍ فاعلٍ فيه أو قُدْرَةٍ على الإسهام في تصويبِه وفقَ التوجّهات والمصالح المرعيّة.

ويتطلّب ذلك التفريقَ بين مجرّد انتزاع مكتسبات مطلبيّة مُبَعثَرة أو تحقيق إنجازات متفرِّقة من جانب؛ وتحقيق حضورٍ فاعل في الساحة السياسيّة على أساس التواصل والتعاون والشراكة مع عدد من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى، بما لا يتوقف مردوده عند حدود مكتسبات جزئية متناثرة، بل ويرقى إلى تحقيق إنجازات متراكمة في مجالات عدّة.

ثم إنّ تواصُلَ الأطرافِ المسلمة المعنيّةِ بالعمل السياسيّ مع الأحزاب والقوى السياسيّة والأطراف المجتمعيّة بعامّة؛ لا ينبغي أن يقتَصِرَ على مطالب جزئيّة أو أهداف شكليّة، مثلاً من قبيل تثبيت مرشّحين على القوائم الانتخابية وحسب، أو إمكانية دعم حزبٍ ما في التعبئة الانتخابيّة من عدمها؛ بل الأمثل علاوة على هذا كُلِّه؛ أن ينفتحَ التواصُلُ مع هذه القوى على جداول أعمالٍ أكثر رحابةً واتساعاً وعُمقاً في العموم، وبالطبع مع التركيز والدقّة والضبط كلما لزم الموقف.

أيّ أنّ الأمر يقتضي استيعابَ البرامج والمشروعات، وإدراك السياسات والمواقف، التي تتحرّك الأطرافُ السياسيّة بها وبموجبها. وسيُفيدُ ذلك الأطرافَ المعنيّةَ بتوجيه المشاركة السياسيّة للمسلمين في تحرِّي التموضع الأرجح في الساحة السياسيّة. ولن يكون ذلك مُتاحاً على الوجه الأمثل بمعزل عن وضع توجّهاتٍ رشيدة وحصيفةٍ للعمل السياسي، وربما اقتراح حلولٍ لمشكلاتٍ وطرح خياراتٍ واقعيّة للتعامل معها، دون أن يكون ذلك متعلِّقاً بشؤون المسلمين واهتماماتهم الأخصّ وحسب. وسيُساعد ذلك الأطرافَ المسلمةَ على تقديم إسهاماتٍ ومقترحاتٍ وآراءٍ فاعِلة في الساحة السياسيّة في مجالات متنوِّعة، بدلاً من أن يبدو حضورُهم السياسيّ مجرد ثقل تصويتيّ يركِّز على الجوانب المطلبيّة وحدها، وبما يخصّ “الطائفة” أو “الجالية” لا أكثر. أي أنّ المنشودَ هو التمكين لحضور مؤهّلٍ لأن يُضيفَ شيئاً للساحة، وأن يحدِّد على نحو أدقّ شركاءَه المحتَملين ومن يقفون على النقيض منه.

 

(44)

ويستلزم الأمرُ حواراً داخليّاً في الأوساط المسلمة المعنيّة، وتواصلاً مع قطاعات الوجود المسلم وجماهيره التي يُطلَبُ إسنادُها للتوجّهات والخيارات المحدّدة، بدلاً من أن تنشأ الفجواتُ بين النخب السياسيّة والمجتمعيّة المسلمة من جانب؛ وعموم الجماهير المسلمة من جانب آخر، أو حتى أن تتفاقم تلك الفجوات وتتعاظم.

(45)

إنّ اهتمامَ المعبِّرين عن الوجود الإسلامي في أوروبا، بالإدلاء بمواقف متميِّزة في حقولٍ ومجالات شتى، ومدى قابليّاتهم وكفاءاتهم في القيام بذلك، وبقدر ينطوي على التميّز الإيجابيّ من جانب وطابع التواصل المجتمعيّ من جانبٍ آخر؛ لهو أحد المؤشِّرات بالغةِ الأهمِّيّة، وربما ذات الأثر الحاسم نسبيّاً؛ على نجاح عملية اندماجهم الإيجابّي في الحياة العامة.

وعلى نحو أعمّ؛ يجدر السعي لوضع المشاركة السياسيّة للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا على مسارات المشاركة السياسيّة العامة للنطاق المجتمعي العريض، بحيث تتقاطع إيجابياً مع مشاركة فئات المجتمع وشرائحه ومجموعاته الأخرى، بما يفتحه ذلك من آفاق التعاون والتنسيق، وبما يتيحه من فرص التحالف والشراكة، علاوة على أنه سيجعل مشاركةَ الأقلِّيّة ضمن المعادلة المجتمعيّة والسياسية العامة للبلاد، لا أن تبدو طارئةً عليها أو متمايزةً عن سياقها أو حتى أن توحي وكأنها تقف على النقيض من “مصالح” الأغلبية واهتماماتها.

(46)

وإنّ من يراقبُ بدقّة بعض مظاهر الأداء في ساحة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، لا بدّ وأن يعثر في سياق التعاطي مع بعض القضايا أو المسائل التي تتجاذبها أطراف عدّة؛ على حالات تنطوي على ارتباكٍ في الأداء، أو حتى على تنازلاتٍ في مضامين جوهريّة لموقف بعينه، أو تصعيد غير مبرّر في مسائل بعينها على حساب جوانب أخرى قد لا تقلّ أهمية، بما يمسّ أحياناً جانِباً مُصَنّفاً على أنه ذو طابع مبدئيّ أو ينتقص من حقّ لا يُقبل التفريط به مثلاً.

ولا بدّ من التعاطي بحذر مع الهوامش التي يمكن قبول التنازل فيها أو المرونة بشأنها، خاصة في سياقات التدافع، وما يكون التنازل مُتوقّعاً أساساً إلاّ تحت الضغوط، أيّاً كانت صورها.

ولا ريب مثلاً في أنّ المرونة والتكيّف في الخطاب وما يتفرّع عنه من رسائل ذات مضامين وسياقات وصياغات حصيفة؛ تتيحُ إجمالاً هوامش معقولة نسبيّاً من الحراك والتعاطي مع المستجدات، مع الحرص على عدم التناقض في ذلك مع المفاهيم والتصوّرات، أو مصادمة الثوابت والمبادئ.

ولا يُستَبْعَدُ أن تجري أحياناً الاستعاضةُ عن معالجة مكامن الضعف والقصور في الخطاب والرسائل التي تتفرّع عنه؛ بالنزوع، الواعي أو غير الواعي، إلى تفكيك التصوّرات والمفاهيم.

(47)

وقد يقتضي الأمرُ التنبيهَ؛ إلى أنّ خطاب التواصل السياسي وما يتفرّع عنه من رسائل وإشارات؛ لا يتطابَقُ في طبيعته ومواصفاته مع ذاك الذي يمكن معه خوض جولات الحوار الدينيّ أو الثقافيّ، مهما اتسع النطاق المشترك بينهما. ولكنّ محاولة إمساك بعض القيادات المجتمعيّة المسلمة في أوروبا بزمام الموقفيْن معاً؛ يُضعِفُ أحدَهما أو كليهما معاً، وقد يفضي إلى ارتباك قد لا تُحمَد عُقباه في مواسم الأزمات.

أي أنّ تنويع أدوات الفعل المجتمعيّ مطلبٌ لا غنى عنه، يتيح فرصاً أفضل لمزيد من التخصّصيّة ضمن مسارات هذا الفعل، كما يوسِّع هوامش الحراك والمناورة ويرفع السقوف الواطئة ويوفر آفاقاً أرحب لإقامة التحالفات ونسج عرى الشراكة والتعاون والتنسيق والتواصل على مستويات عدّة، ويشجِّع فوق ذلك كلِّه مطلب الانتشار المجتمعي الواعي والحميد، وهو ما يتساوق مع رؤى “الاندماج الإيجابي” التي تكاد تتوافق عليها الساحة الوسطيّة لمسلمي أوروبا.

 

 

(48)

وتشمل الوسائل والأدوات المنشودة لتفعيل المشاركة في الساحة السياسية؛ التحاق المسلمين بتلك الساحة، وتشكيل الأطر المعبِّرة عن حضورهم فيها، والمشاركة في العملية الانتخابية، عبر شتى حلقاتها، وتنظيم النشاطات والفعاليّات الجماهيريّة التي تحمل رسائل عامة أو محدّدة للمستويات السياسيّة، وبناء التحالفات مع القوى السياسيّة أو المنظمات غير الحكوميّة أو حتى الشخصيات العامة، بما يُرجَى معه زيادةُ القدرة على التواصل أو التأثير أو الضغط في المجال السياسي.

وتلحق بتلك الوسائل والأدوات؛ أهمية بلورة أطر أو هياكل أو تجمّعات معبِّرة عن اهتمامات المسلمين بشأن المشاركة في العمل السياسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والتوعية العامة لجمهور المسلمين بمتعلقات ذلك، علاوة على التوعية العامة بالحقوق والواجبات، وبنشر الوعي القانونيّ والحقوقيّ.

ومن الوسائل والأدوات الأخرى؛ تنظيم اللقاءات التي تجمع السياسيِّين بالجمهور، أو بممثِّليه، وحضور الفعاليات والنشاطات السياسيّة، وتمويل النشاطات السياسيّة والانتخابيّة، أو ما يتصل بها، بالشكل الذي يتوافق مع القانون ولا يخرج عليه، وبما لا يمثِّل أيضاً انتهاكاً للقيم والتوجيهات الإسلامية والأخلاقيّة والأدبية ذات الصِّلة، وبما يحقِّق الصالح العام إجمالاً. وتتضمن وسائل التحرك وأدواته؛ الإعلام السياسي، وإصدار التقارير والمذكرات وتحرير الرسائل، وإعداد البحوث والدراسات، وعقد المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش وورش العمل، بما يفضي إلى إنضاج التصوّرات ومدارسة الخيارات، علاوة على إقامة المؤسسات المتخصِّصة في المتابعات السياسيّة بشتى متعلقاتها.

(49)

ويمكن تحديد جملة من البنود التي تستوجب العناية الفائقة ضمن متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته. ومن ذلك؛ الانبثاق عن منطلقات سليمة، واعتماد توجّهات رشيدة، وتحديد أهداف مثمرة، واختيار أنسب الوسائل وأنجعها مما لا يتعارض مع ذلك كلّه ولا يخرج عن المعايير الشرعيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، مع السعي، قدر المستطاع، لأن يتماشى ذلك مع الأعراف السياسيّة والمجتمعيّة السائدة.

ومن المتطلبات الهامّة في هذا السياق ؛ التعرّف الدقيق على احتياجات الجمهور المسلم على نحو خاص، وعلى احتياجات المجتمع العريض على نحو عام، وتعبئة كافة الموارد البشريّة والماديّة الممكنة لخدمة المشاركة السياسيّة على أسس سليمة، مع الحرص على تنظيم هذه الموارد وتوزيعها وتوظيفها واستثمارها بأنجع الصور.

ويتطلب الأمر الموازنة بين التطلّعات والاحتياجات والإمكانات، بما يتيح الفرصةَ لأداءٍ مستقرّ ومتوازن، يراعي الأولويّات، وينفتح على آفاق التطوير المستمر، مع إدراك واقع ساحة التحرّك السياسيّ.

ومن غير المتوقع أن تنهض تجارب فاعلة من المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، لمسلمي أوروبا، في ما لو افتَقَروا إلى فرص المشاركة والتفاعل البنّاء داخل أُطرهم ومؤسّساتهم. وإنّ هذه المشاركة الداخليّة ليست مطلوبةً لذاتها وحسب؛ بل وتُعَزِّز الحاجةَ إليها ما تتيحُه لتجارب المشاركةِ السياسيّة والمجتمعيّة من قابلية أكبر على إدراك الواقع الذي تتعاطى معه أيضاً.

وتبقى المأسَسَة والتخصّص في ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعية لمسلمي أوروبا من المطالب الحاسمة للنهوض بالمسؤوليّات والاستجابة الواعية للتحديّات المتعاظمة على عاتق تلك المشاركة، فضلاً عن المراجعة والتقويم والتطوير على نحو مستمر.

ومن مواصفات المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسية؛ أن تتمتع في ملمحها العام باستقلاليّة الإرادة عن الأطراف السياسية الأخرى في الساحة، وهو ما يتعلق بجوهر تجربة المشاركة تلك، مع التعاطي الواعي مع الأطراف السياسية.

ومن مقومات النهوض بالمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، أن تقوم في العموم على مبدأ التواصل بين مكوِّنات الأقلِّيّة المسلمة والتنسيق في ما بينها، وهو الحدّ الأدنى المعقول في هذا المجال. ويقتضي الأمرُ تجسيد معادلة الوَحدة والتنوّع في نطاق المسلمين أنفسهم، والحذر من التمزّق والتشرذم بما قد يستتبعه من تداعياتٍ سلبيّة على صعيد المشاركة السياسيّة.

(50)

وختاماً؛ تبقى المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا محفوفةً بتساؤلات جمّة، ومرتبطةً بتحدِّيات عدّة، خاصة وأنّ بعض ثناياها تخضع لتقديراتٍ اجتهاديّة وافرة، أو تتعلق بموازنات معقّدة ومتشعِّبة أحياناً، وذلك بناءً على خصوصيّة مسلمي أوروبا وطبيعة ساحتهم السياسيّة وبعض المتغيِّرات المتسارعة.

وتتفاوت الإشكاليّات المطروحة في مدى جديّتها، وتتمايز في عُمقها وتأثيراتها، كما تتبايَنُ في قوّة حضورها أو ضعفه في ساحة مسلمي أوروبا.

وقد تبعث التساؤلات المطروحة اليوم، والتي ستُطرح في الغد، في أفق المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا؛ الانطباع بأنها ذات طابع معقّد ومركّب، فقد يعثر المرء في كلّ تساؤل منها على أوجه تستلزم الدرس والبحث وإمعان النظر، في ملابسات الواقع وخلفيّاته ومآلاته، خاصة وأنّ تلك المشاركة التي تشقّ طريقها تمثِّل تجربة متجدِّدة.

 

* * * * * * * *

والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل

[1] غراهام، لورنس/ فاركاس، ريتشارد/ غريدي، روبرت/ راسموسن، يورغن/ تسوروتاني، تيكتسوجو: “السياسة والحكومة ـ مقدمة للأنظمة السياسية” (الترجمة العربية). الرياض، 2000، ص ط.

[2] Kaase, Max: „Vergleichende Politische Partizipationsforschung“. In: Berg-Schlosser, Dirk/ Müller-Rommel, Ferdinand (Hrsg.): „Vergleichende Politikwissenschaft“. Leverkusen, 1987, S. 136.

[3] قد يبدو أنّ صفة إرادة التأثير تشمل العنف السياسي، لكنّ العنف لا يتوافق مع روح المشاركة وطابعها.

[4] مثال ذلك حملة الضغط العارمة التي أعقبت صعود زعيم حزب “الجبهة الوطنية” (Front National) السياسي المتطرف جان ماري لوبن إلى جولة الانتخابات الرئاسية الفرنسية الثانية سنة 2002، والمقاطعة الأوروبية للنمسا عقب التقدم الكبير الذي أحرزه حزب الحرية النمساوي (FPÖ) بشعاراته المعادية للأجانب في انتخابات 1999 واشتراكه في الائتلاف الحاكم، ومن قبل كان أحد النماذج الصارخة والإشكالية متمثلاً بفوز الحزب النازي (القومي الاشتراكي) (NSDAP) بقيادة أدولف هتلر في آخر انتخابات ديمقراطية تشهدها ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية.

[5] جاء ذلك في سياق مقال لكارلا آمنة بغجاتي، المسؤولة الإعلامية بالهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا، حمل عنوان “المسلمون في النمسا ـ أي دور مجتمعي يضطلعون به؟”، وقد عمّمته الهيئة على وسائل الإعلام في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2004، في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها.

Baghajati, Carla Amina (Medienreferentin der IGGiÖ): „Muslime in Österreich – Welche gesellschaftliche Rolle spielen sie?“ (Essay). Wien, 2004.

[6] Kaase, Max, S. 136.

[7] الغنوشي، راشد: “الإسلام في الغرب وعلاقته بالأنظمة الغربية”. في: أبو شمالة، مجدي عقيل (محرِّر): “رسالة المسلمين في بلاد الغرب”. إربد، لندن، 2000، ص 108.

[8] Easton, David: „The Political System – An Inquiry into the State of Political Science“. New York, 1981, p. 39.

[9] Kaase, Max, S. 136.

[10] نيكوس بولانتزاس، ولد في أثينا عام 1936، أستاذ علم الاجتماع بجامعة باريس، واشتغل بالتدريس في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، وقد توفي منتحراً في سنة 1979، تاركاً وراءه عدد من المؤلفات في العلوم السياسية، منها كتابه “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية” (Pouvoir politique et Classes sociales)، الصادر عام 1972.

[11] بولانتزاس، نيكوس: “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية”. بيروت، 1980، ص 41ـ43.

[12] مما قاله مارتن لوثر كنغ في خطابه الشهير، في تجمع حاشد من السود ومختلف الفئات العرقية الأمريكية، في الثامن والعشرين من آب (أغسطس) 1963 (اغتيل على يد عنصري أبيض في 4/4/1968):

لديّ حلمٌ عميق الجذور نابت في تربة الحلم الأمريكي ذاته. أحلم بيوم تسمو فيه الأمّة إلى آفاق تحقيق جوهر ما تؤمن به من أنّ الله قد خلق الناس جميعاً متساوين. أحلم بيوم تصبح فيه حتى ولاية مسيسيبي التي تئنّ تحت القمع؛ واحةً للحرية والعدالة. أحلم بيوم يعيش فيه أطفالي الأربعة في أمّة لا يُقيّم الناس فيها على أساس لونهم وإنما على أساس ذواتهم. لديّ اليوم حلمٌ. أحلم بأنه يوماً ما في ولاية ألاباما، بكل ما فيها من عنصريِّين آثمين، وبحاكمها الذي تقطر من فمه معاني البغضاء والإنكار؛ سيشبك أطفالنا السود الصغار، أولاداً وبنات، أيديهم مع أقرانهم الصغار من البيض، كأخوة وأخوات حقيقيين. لديّ اليوم حلمٌ. أحلم بيوم تغمر فيه المياه كلّ واد، وتعلو فيه هامة كلّ هضبة، ويصبح كلّ جبل أقل علوّاً، وتمهّد كل الطرق المحطمة، فتنكشف عظمة الله للناس جميعاً. هذا هو حلمنا، وهذه هي الرؤية التي سأحملها معي إلى الجنوب، والتي بها سنكون قادرين على انتزاع صخور الأمل من جبل اليأس. إنها الرؤية التي ستتيح لنا تحويل الشقاق الرهيب الذي يلفّ أمّتنا إلى معزوفة إخاء جميلة.

[13] برز نموذج “مبادرات المواطنين” (Bürgerinitiativen) في تجربة المجتمع المدني الألماني في سنوات السبعينيات، وإن كانت التجربة سابقة لذلك، وهي عبارة عن تشكيلات مرنة ولا تنطوي على هياكل ثابتة أو بنى هرمية، وتضع نصب عينيها اهتمامات محلية في المقام الأول. وتبدو هذه المبادرات أشبه بجماعات المصالح، فهي تركز على بنود بعينها أو حتى على نقطة واحدة فقط تحاول حشد الرأي العام حولها وتقوم بالتواصل مع المستوى السياسي لهذا الغرض.

[14] عن تلك التقاليد والخلفيات وتباينها الواضح من بيئة سياسية أوروبية إلى أخرى، انظر مثلاً: “السياسة والحكومة”. مصدر سابق، ص 120 – 121.

[15] “السياسة والحكومة”، مصدر سابق، ص 132.

[16] المنعقد بضاحية لوبورجيه الباريسية، من 18 إلى 21 نيسان (أبريل) 2003، تحت عنوان “الإسلام من الفهم إلى التطبيق”.

[17] كما ذكر الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الخطاب الذي ألقاه مساء يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003 بحضور أربعمائة شخصية فرنسية سياسية ودينية، من بينهم الأعضاء العشرون للجنة برنار ستاسي التي قدمت تقريرها النهائي حول مراقبة تطبيق العلمانية في فرنسا. وقد أعلن شيراك في خطابه تأييده لسرعة إصدار قانون يحظر ما يسمى “الرموز الدينية الظاهرة”، وعلى الأخص الحجاب.

[18] تتمثل نجاحاتهم السياسية تلك في عهد كل من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (جمهوري) ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر (محافظة)، عبر إطلاق العنان لدور القطاع الخاص في البلدين، وأيضاً الاتجاه الواسع نحو الخصخصة في بريطانيا، وتخفيف تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، وغير ذلك من الإجراءات والتدابير. ويُعتبر عهد كل من ريغان وتاتشر نقطة تحوّل بالنسبة للتيار الليبرالي الجديد، الذي تعاظم حضوره منذ ذلك الحين، وسط انتقادات له بأنه أتاح لقوى السوق أن تهيمن على الساحة السياسية، وهو ما جعل بعض الأصوات تحذِّر من “موت الديمقراطية”، وهو ما تتبنّاه مثلاً نورينا هيرتز، المديرة المشاركة لمركز الأعمال والإدارة الدوليين بمعهد القانون التابع لجامعة كامبردج البريطانية، انظر:

Hertz, Noreena: “The Silent Takeover – Global Capitalism and the Death of Democracy”. London, 2001.

[19] الطالب، هشام: “كيف حقّق الليبراليون خطتهم في 35 عاماً”. في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): “مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج”. شيكاغو، 1991، ص 429.

[20] الطالب، هشام، مصدر سابق، ص 430.

 

[21] في ذروة تلك التحرّكات شهدت جنوى صدامات عنيفة لجأت فيها قوات الشرطة إلى استخدام العنف، وقد قُتل الشاب الإيطالي المتظاهر كارلو جولياني بمفعول ذلك بطلقة نارية في الوجه من يد شرطي في مثل سنِّه. وبعد مرور 24 ساعة على الواقعة، قامت ليلاً مجموعة من رجال الشرطة بالتعرض لحوالي مائة متظاهر أثناء رقادهم وأوقعت جرحى في صفوفهم في ما وصفه معلقون بأنها حملة جرت “بوحشية”.

[22] يربط مشروع القانون بقوّة بين حقوق المهاجرين، وخاصة حق الحصول على تصريح إقامة، باشتراط تمتعهم ببطاقة عمل، وقد تخلّلت الحركة المنددة بالقانون فعالياتٌ كان من بينها تنظيم ما عرف بـ “إضرابات ملوّنة” شملت قطاعات صناعية حيوية في شمالي إيطاليا. وقد اكتسب القانون المشار إليه شهرته باسم “قانون بوسي ـ فيني” نسبة إلى كل من أُمبرتو بوسي، الذي يقود “رابطة الشمال” (Liga Nord) المعروفة بمواقفها الانفصالية والرافضة للاجانب والمعادية للمسلمين، وجيانفرانكو فيني الذي يقود “التحالف الوطني”
(Alleanza Nazionale)، وهي حركة اجتماعية ذات ميول فاشية سابقاً وتحوّلت منذ منتصف التسعينيات الى حزب يميني ليبرالي. وقد جاء القانون من خلال عضوية بوسي وفيني في حكومة سيلفيو برلوسكوني.

[23] يتوجب التفريق ببن مفهوم المشاركة غير المباشرة الذي نقصده في سياق هذا الكتاب؛ ومفهومها الآخر الذي تُقصد به المشاركة عبر ممثلين أو نوّاب يعبِّرون عن المصالح والاهتمامات. فالمشاركة السياسية المباشرة نعني بها في تناولنا هنا؛ المشاركة في الفعل السياسي الصرف، كالجولات الانتخابية مثلاً، بينما نقصد بالمشاركة السياسية غير المباشرة ما يستوعب صور المشاركة التي تتواصل مع الساحة السياسية وتفاعلاتها دون أن تُعدّ تلك الصور من صميم الفعل السياسي. وقد يصعب في واقع الأمر وضع حدود فاصلة بين الجانبين، المباشر وغير المباشر، وهو ما يؤكد بحدِّ ذاته مدى الترابط والتعاضد بينهما.

[24] Saramago, José: „Que reste-t-il de la démocratie?“. Le Monde diplomatique, août 2004.

[25] تستار، جاك: “اختراع أشكال الديمقراطية التشاركية ـ التجربة الواعدة لمؤتمرات المواطنين”. لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الثاني (يناير) 2005.

[26] Einem, Casper: „Ein neuer Staat befreiter Bürger – Politik für eine veränderte Gesellschaft“. Wien 1999, S. 9.

[27] Dorna, Alexandre: „Le Populisme”. Paris, 1999.

[28] دورنا، ألكسندر: “هل يجب أن نخاف من الشعبوية؟”. في: لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 2003.

[29] هذا العدد من اللغات هو حسب معطيات ما بعد التوسعة الكبرى للاتحاد الأوروبي التي جرت مطلع سنة 2007، ومن المنتظر أن يتصاعد عدد اللغات المعتمدة رسمياً كلغات أولى مع انضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد، إذ تمتلك كل دولة عضو الحق في تحديد لغة من جانبها ليتم اعتمادها على قدم المساواة مع اللغات الرسمية لبيروقراطية الاتحاد الأوروبي.

[30] كما ذكر الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الخطاب الذي ألقاه مساء يوم الأربعاء 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003 بحضور أربعمائة شخصية فرنسية سياسية ودينية.

[31] Von Krockow, Christian Graf: „Die liberale Demokratie“. In: Fetscher, Iring / Münkler, Herfried (Hrsg.): „Politikwissenschaft: Begriffe – Analysen – Theorien“. Hamburg, 1985, S. 458.

[32] Ben Jelloun, Tahar: “Le racisme exliqué à ma fille”. Paris 1998, p.90.

[33] الغنوشي، راشد، مصدر سابق، ص 109.

[34] الدبعي، محمود: “الإسلام والغرب ـ الطريق إلى الفهم المتبادل”. الأوروبية (مجلة)، العدد 18، باريس، حزيران (يونيو) 2000، ص 28.

[35] Ali, Muazim: „Pakistanis in Europe“. Manchester, 1982, p. 15.

[36] Daimagüler, Mehmet: „Muslime in Deutschland: Wort zum Freitag“. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, Frankfurt 23.6.2004.

[37] الكاتب البرتغالي خوزيه ساراموغا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، من خطاب ألقاه في الجلسة الختامية لـ”المنتدى الاجتماعي العالمي” الأول، في بورتو أليغري، بالبرازيل، في الخامس من شباط (فبراير) 2002.

[38] Dahrendorf, Ralf: „Fundamentale und liberale Demokratie. Über Teilnahme und Initiative in der modernen Politik“. In: Dahrendorf, Ralf (Hrsg.): Konflikt der Freiheit. Auf dem Weg zur Dienstklassengesellschaft. München 1972, S. 225-237.

[39] Oberreuter, Heinrich: „Aus Politik und Zeitgeschichte“. Beilage zum Wochenzeitung „Das Parlament“, B 2/1983, Bonn, 15.1.1983, S. 28-31.

[40] “السياسة والحكومة”. مصدر سابق، ص 70.

[41] كما يشرح جاك تستار، مدير الابحاث بالمؤسسة الوطنية للصحة والبحث الطبي (Inserm) في فرنسا، فإنه بموجب أسلوب “مؤتمرات المواطنين”، “يمكن لمجموعة محدودة، حوالى 15 شخصاً، أن تمثِّل السكان في تنوّعهم، كما يُصار أحياناً الى اختيار عشوائي لعشرات من المتطوعين يُوزّعون على الأعمار والجنسين والمهن والخيارات السياسية والمناطق. والهدف من ذلك؛ الحصول على رأي يُفترَض به تمثيل جميع السكان لو مُنحوا الوسائل لإبداء رأي مستنير، وهذا ما لا يمكن توفيره مادياً. المطلوب ليس فقط إبداء الرأي في ملف معين بل السماح لمجموعة من المواطنين بفهم المسألة وتبادل الأفكار حولها تمهيداً لاتخاذ الموقف المسؤول منها. (…) (ويتم) اختيار هذه المجموعة من المواطنين لهدف محدد وهو تلقيها كل المعلومات الضرورية لتكوين الرأي من دون تمويه للمصاعب أو للمتناقضات. ويساعد المجموعة اختصاصي في علم النفس الاجتماعي على أن تنأى بنفسها عن إمكان التلاعب ـ لا تُكشف هوية المشاركين حتى انتهاء مهمتهم ـ وينفرط عقدها في ما بعد كي لا تتحوّل الى مجموعة من الخبراء من خارج الاختصاص. تكون المعلومات المقدمة إلى المواطنين المشاركين في هذه التجربة، على درجة كبيرة من الأهمية. فمن أجل تأمين الموضوعية يبدو أنه من الأنسب تكوين لجنة قيادة تضم إضافة إلى القيِّمين على التجربة خبراء من أصحاب الآراء المتنوعة، لا بل المتعارضة. فتقوم هذه اللجنة ببناء برنامج إعدادي توافقي يتضمن المواضيع المطروحة والوثائق المقدمة وهوية المشرفين على الإعداد. فيكون للحركة التشاركية مكانها داخل لجنة القيادة كما في صفوف المشرفين على الإعداد، لتوفِّر نوعاً من الخبرة المضادة المتعارضة في الغالب مع ما يقدمه الخبراء التابعون للمؤسسات.

وقد أظهرت التجارب أنّ كل مواطن يوافق على المشاركة يُظهِر الكفاءة كونه قادراً على التعلّم والفهم والتحليل وإبداء الرأي المعلّل، كما تبيّن أنّ أقلية فقط ـ الثلث تقريباً ـ من الاشخاص المطروحين للمشاركة توافق على التضحية بعطل نهاية الأسبوع للاستعلام والنقاش والتساؤل وإبداء الرأي بصورة مغفلة ومن دون بدل مادي. إنه لمسار ديمقراطي أصيل يمكن أن يخلق تطابقاً بين السياسة وخيارات الغالبية من المواطنين الذين يوافقون على التعلم والفهم، وهو مسار منفتح على الجميع وفي متناولهم. علينا الانتهاء من المفهوم السحري للديمقراطية الذي يدفع إلى الاعتقاد بأنه في مقدور أي كان تكوين رأي صائب حول مسألة معقدة دون التزود المسبق بالوسائل اللازمة لتكوين هذا الرأي”. ـ تستار، مصدر سابق.

[42] أبو شويمة، علي: “كلمة التحرير”، الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 4.

[43] عن بعض جوانب هذه المعضلة انظر مثلاً ما كتبه ميشيل بَنسون ومونيك بَنسون ـ شارلو، وهما عالما اجتماع فرنسيان، ومديرا أبحاث في المركز الوطني للدراسات العلمية في فرنسا، ومؤلفا العديد من الكتب حول البورجوازية، ومنها “سوسيولوجيا البرجوازية”:

Pinçon, Michel/ Pinçon-Charlot, Monique: „Sociologie de la bourgeoisie”. Paris, 2000.

وانظر أيضاً: بَنسون، ميشيل/ بَنسون ـ شارلو، مونيك: “على خطى الطبقى المترفة”. لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، أيلول (سبتمبر) 2001.

[44] على سبيل المثال يبدو الحضور المسلم في “طبقة” المال والأعمال النمساوية هامشياً للغاية، وغير ملحوظ، رغم بعض الاستثمارات لعرب ومسلمين المستقرة في النمسا منذ زمن، حسب مجلة (Business People) النمساوية، في عددها لشهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2002، والذي خصّصت موضوعه المركزي لأبرز ألف مرتبة من رجال الأعمال والاقتصاديين والمديرين في النمسا، بناء على مؤشرات جمعتها في النصف الأول من عام 2002 عن حجم أعمالهم وتجاراتهم وما تحققه من نمو. فقد جاءت المراتب بحسب الشركات وغالباً ما ضمّت المرتبة الواحدة أكثر من اسم. وإجمالاً؛ فقد وردت أسماء عربية أو مسلمة في خمس مراتب منها فقط، أي ما يقل عن نصف في المائة من إجمالي العدد (نسبة المسلمين في النمسا تبلغ 4 في المائة من السكان). فحاملو الأسماء العربية أو المسلمة (ليسوا من المسلمين بالضرورة) جاؤوا في المراتب 97 و365 و754 و894 و921. دون استبعاد أن يكون هناك مسلمون آخرون بأسماء غير مسلمة (معتنقو الإسلام مثلاً). انظر:

Business People (Magazin), Nr. 6, Juli/August 2002, Wien.

[45] مثل “الهيئة الاتحادية للتأهيل السياسي” في ألمانيا (Bundeszentrale für politische Bildung).

[46] Committee on Comparative Politics – Social Science Research Council (USA).

[47] Hartmann, Jürgen: „Vergleichende Regierungslehre und vergleichende politische Systemforschung“. In: Bergschlosser, D./ Müller-Rommel, F.: „Vergleichende Politikwissenschaft“. Opladen, 1987, S. 38.

[48] “السياسة والحكومة”، مصدر سابق، ص 117 ـ 118.

[49] European Monitoring Centre on Racism and Xenophobia: “Muslims in the European Union – Discrimination and Islamophobia”. Vienna 2006, p. 109.

[50] النجار، عبد المجيد: “الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي بالغرب”. باريس، 2005، ص 5.

[51] خفاجي، عبد الحليم: “دور أوروبا في مستقبل العمل الإسلامي”. ميونيخ، 1993، ص 36.

[52] الداودية، عبد الكريم: “مساجدنا في الغرب ـ واقعها والدور المطلوب”. بروكسل، 2002، ص 116 ـ 117.

[53] كما قال في مداخلته خلال ندوة عقدت في فرجينيا بالولايات المتحدة بين 19 و21 تموز (يوليو) 1991 عن “مستقبل العمل الإسلامي”.

عطية، محيي الدين: “العمل الإسلامي في الولايات المتحدة ـ نحن الآن هنا”. في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): “مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج”. شيكاغو، 1991، ص 451 ـ 452.

[54] European Monitoring Centre on Racism and Xenophobia: “Muslims in the European Union – Discrimination and Islamophobia”. Vienna 2006, p. 9.

[55] كما قالت في مشاركتها في أعمال المؤتمر السنوي الحادي عشر لرابطة مسلمي سويسرا، الذي انعقد في مدينة فريبورغ السويسرية في مطلع حزيران (يونيو) 2001. وقد جاء ذلك في:

“مسلمو سويسرا يستشرفون تحديات المستقبل”. الأوروبية (مجلة)، العدد 26، تموز (يوليو) 2001، ص 41.

[56] “ميثاق المسلمين في أوروبا”. فيينا، نيسان (أبريل) 2006.

[57] ورد ذلك في نشرة تعريفية صادرة عن “الرابطة الإسلامية في السويد”، وتحمل عنوان “من هي الرابطة الإسلامية في السويد”، ويُقدّر تاريخ صدورها في عام 1999 أو قبل ذلك قليلاً ربما (بلا تاريخ).

[58] مقابلة مع رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الحاج التهامي إبريز: الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 26.

[59] جاء ذلك في لقاء معه: الأوروبية (مجلة)، العدد 22، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 2000، ص 24 ـ 25.

[60] جاء بالله، أحمد: “العودة وسنة الاستئناف”. الأوروبية (مجلة)، العدد 14، باريس، أيلول (سبتمبر) 1999، ص 5.

[61] Ramadan, Tariq: „Muslimsein in Europa“. Köln 2001, S. 276.

[62] الراوي، عمر: (مقابلة)، “سلام” (صحيفة)، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 7.

[63] “أمانة معاذ الخيرية ـ عقد من العطاء ـ بوابة حضارية إسلامية بريطانية”، برمنغهام، 2003، ص3.

[64] ورد ذلك ضمن “إعلان غراتس” (Grazer Erklärung)، الصادر عن “مؤتمر رؤساء المراكز والإسلامية والأئمة في أوروبا”، المنعقد في مدينة غراتس النمساوية (عاصمة الثقافة الأوروبية آنذاك) من 13 إلى 15 حزيران (يونيو) 2003.

[65] Zentralrat der Muslime in Deutschland: „Islamische Charta – Grundsatzerklärung des ZMD zur Beziehung der Muslime zum Staat und zur Gesellschaft“. Berlin, 2002.

[66] الراوي، أحمد: “دور المؤسسات الإسلامية في الغرب” (ورقة). لندن، 2001.

[67] من ذلك مثلاً؛ بيان وزّعه “حزب التحرير” في بريطانيا وأوروبا، حمل تاريخ 17 أيار (مايو) 2002، وهو يعبِّر عن موقفه من قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، الرافض لها بشدة، وقد حمل البيان عنوان “كتاب مفتوح إلى مسلمي بريطانيا بشأن الدعوة الخطِرة إلى الاندماج”.

[68] حزب التحرير ـ أوروبا: “حكم مشاركة المسلمين الموجودين في العالم الغربي في الحياة السياسية فيه”. 2002، لا تفاصيل إضافية، ص 12ـ13.

[69] حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 34 ـ 35.

[70] حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 32.

[71] من قبيل مجلس الجمهور Publikumsrat في هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساويةORF ، وكانت قد شهدت بالفعل ترشح ثلاثة مسلمين في انتخابات عضويتها في جولة 2001، وإن لم يتمكن أيّ منهم من الحصول على مقعد فيها.

[72] حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 63 ـ 75.

[73] بدري، مختار: “حتى تكون دعوتنا مثمرة”. الأوروبية (مجلة)، العدد 22، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 2000، ص 32.

[74] انظر مثلاً تعليق الدكتور كمال الهلباوي على حادثة المسجد المركزي بلندن في حلقة “الشريعة والحياة” التي بثتها قناة “الجزيرة” يوم 6 آب (أغسطس) 2000، وكذلك تعليق مختار بدري على الصخب الذي رافق التجمع المندِّد بزيارة بوتين: بدري، مختار، مصدر سابق، ص 33.

[75] الدبعي، محمود: “الحوار بين المؤسسات الإسلامية”. الأوروبية (مجلة)، العدد 20، باريس، آب (أغسطس) 2000، ص 21.

[76] أُنشئت مؤسسة “رانيميد” في عام 1968، وهي مؤسسة تفكير (Think Tank) معنية بشؤون التنوّع الإثني والثقافي في المجتمع البريطاني، انظر: www.runnymedetrust.org

[77] Runnymede Trust: „Islamophobia: A challange for Us All“ (Report). London 1997.

[78] استُقيت هذه المعطيات من تقارير إعلامية صادرة في تشرين الأول (أكتوبر) 2001، عن مؤسسة (Inter-Nations)، وهي وكالة إعلامية حكومية كانت تتخذ من بون مقراً لها، وجرى دمجها مؤخراً ضمن مؤسسة “غوتة” المعنية بالترويج للإعلام والثقافة الألمانيين في الخارج.

[79] „Wir haben Arbeitskräfte gerufen, und Menschen sind gekommen.“

[80] “The West and the Muslim World – A Muslim Position” (Report). Stuttgart 2004, p. 150.

[81] Funcke, Liselotte: „Wie lange noch ein Zuwanderer Ausländer?“. In: Iranbomy, Shahram (Hrsg.): „Einwanderbares Deutschland“. Frankfurt/M. 1993, S. 43.

[82] Kühne, Peter/ Scholand, Hildegard: „Kommunikationsprobleme ausländischer Arbeiter“. In: „Wortwechsel – Kommunikation im Alltag“. Köln 1976, S. 33.

[83] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen: „Migranten und Integration 2000. Daten und Fakten zur Entwicklung im Land Bremen“. In-tegration, Heft 1/2001, Bremen 2001, S. 4.

[84] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 5.

[85] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 10.

[86] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 28.

[87] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 36.

[88] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 17.

[89] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 22.

[90] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 23.

[91] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 24.

[92] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 25.

[93] Die Ausländerbeauftragte des Landes Bremen, S. 27.

[94] على مستوى الأقطار الأوروبية، يرد في ذلك مثلاً تشكيل المجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، وكل من المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) ومجلس الإسلام في ألمانيا (Islamrat)، والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، والهيئة التمثيلية للمسلمين في بلجيكا، والمجلس الإسلامي السويدي، واتحاد الهيئات والجاليات الإسلامية في إيطاليا (UCOII)، ومن قبل جاء تشكيل الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا (IGGiÖ). وعلى نحو عام؛ يتضح تباين تلك التجارب بحسب سياقاتها، وتفاوتها في مدى النجاح أو الإخفاق الذي يحتسب لها أو عليها.

[95] جاء ذلك في سياق الكلمة التي ألقاها رئيس الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا أنس الشقفة، في الاحتفالية التي أقيمت في فيينا في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2004، بمناسبة حلول الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس الهيئة.

[96] خاصة مع عدم تضمين نصوص وافية في هذا الجانب في ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد أو في مشروع الدستور الأوروبي، وقد ضغطت بعض الدول الأوروبية في هذا الاتجاه وفي مقدمتها فرنسا.

[97] من المفارقات التي سجّلتها عدد من التقارير الميدانية في هذا الشأن؛ أنّ بعض غير المسلمين قد جرى استهدافهم باعتداءات جسدية أو لفظية أو بحالات من التمييز بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، في بلدان غربية، ظنّاً بأنهم مسلمون، كما وقع مع بعض المنتمين إلى الطائفة السيخية مثلاً الذين يعتمرون عمائم بمقتضى تعاليمهم الدينية.

[98] وعادة ما تتبع بعض الأحزاب السياسية في أوروبا تكتيكاً شبيهاً، مثل ما قام به الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات البرلمانية النمساوية التي أُجريت في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، عندما رشّح سبعة عشر شخصاً على قوائمه من “خلفية هجرة” ومنهم عدد من المسلمين، دون أن يصل أي منهم للبرلمان الاتحادي بالفعل رغم امتصاص معظم أصوات المسلمين ومن هم من خلفية هجرة لصالح الحزب. ويشرح السياسي النمساوي المسلم عمر الراوي ذلك بقوله “الحقيقة أنّ الحزب الديمقراطي الاجتماعي قرّر خوض المعركة الانتخابية بطريقة المجموعات المُستَهدَفة، وهذا هو سبب التنوّع (في عدد المرشحين). فهناك من يمثِّل اليوغسلاف، والهنود، والمسلمين، وغيرهم من الأقليات الثقافية والحضارية. هذه كانت الفكرة في الأصل. ولكن يجب أن نقول للأمانة أنّ الحزب ليس هو الذي عرض هذا العدد من المرشّحين، بل كانت هناك استماتة من جانب عدد كبير للترشّح في الانتخابات على قائمة الحزب”. انظر: مقابلة مع النائب عمر الراوي، الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، ص 24.

[99] عن ذلك انظر مثلاً: “نائبان في مجلس العموم فوز دون المأمول لمسلمي بريطانيا ـ اضطراب البوصلة السياسية مسؤول عن التقدم الانتخابي التواضع”، الأوروبية (مجلة)، العدد 26، باريس، تموز (يوليو) 2001، ص 38.

[100] في تعليق له نشره موقع الصحيفة على الإنترنت www.muslimnews.co.uk في السادس من أيار (مايو) 2005.

[101] تتمثل تلك التطورات ذات الصفة غير المباشرة في: تفاعلات انتفاضة الأقصى، تطوّرات ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وملف “الحرب ضد الإرهاب”، وحرب أفغانستان في 2001 و2002، وأما التطوّرات ذات الصفة المباشرة: حرب العراق واحتلاله، والتي واكبتها تفاعلات جارفة في الساحتين السياسية والمجتمعية البريطانية كما اتضح في المسيرة الضخمة التي شهدتها لندن في الخامس عشر من شباط (فبراير) 2003 بمشاركة مسلمة ملحوظة.

[102] مثل المجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، الرابطة الإسلامية في بريطانيا (MAB)، وإلى حدّ ما الجمعية الإسلامية البريطانية (ISB)، وبعض الأطراف الأخرى في الساحة المجتمعية المسلمة، علاوة على دور الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت التي يديرها مسلمون بريطانيون.

[103] مقابلة مع أنس التكريتي: الأوروبية (مجلة)، العدد المزدوج 39 و40، باريس، آب (أغسطس) 2004، ص 30.

[104] جاء ذلك في سياق تعريف عن المسلمين في بريطانيا، على موقع وزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت، على الوصلة التالية:

http://www.fco.gov.uk/servlet/Front?pagename=OpenMarket/Xcelerate/ShowPage&c=Page&cid=1089129265351

[105] Ramadan, Tariq: „Muslimsein in Europa“. Köln 2001, S. 276–277.

[106] „(The) residence of foreigners in the national territory is now a permanent feature of the European societies”.

[107] Davy, Ulrike: „Die Integration von Einwanderern – Rechtliche Regelungen im europäischen Vergleich“. Wien 2001, S. 67-69.

[108] أي أنّ عدد السياسيين من أعضاء الأجهزة التشريعية والتنفيذية يقل في المستوى الأوروبي عنه في المستوى القطري، ويقل في المستوى القطري عنه في المستوى البلدي أو المحلي، وتتسع قاعدة الهرم في أدنى مستويات العمل السياسي المحلي كمجالس الأحياء والقطاعات النقابية الفرعية مثلاً.

[109] الخطيب، الصحبي: “انتخاب أول عربي مسلم في المجلس البلدي بمقاطعة لوغانو”. الأوروبية (مجلة)، العددان 39 و40، باريس، آب (أغسطس) 2004، ص 43.

[110] من الكلمة الافتتاحية التي ألقاها شكيب بن مخلوف، رئيس الرابطة الإسلامية في السويد (آنذاك)، في افتتاح المؤتمر الثامن عشر للرابطة في الثاني من نيسان (أبريل) 1999.

[111] الدبعي، محمود / الغمقي، محمد: “السويد أكثر البلدان الأوروبية انفتاحاً على المسلمين”. الأوروبية (مجلة)، العدد 12، باريس، تموز (يوليو) 1999، ص 39.

[112] المعلومات الواردة مستقاة من معاينات ميدانية ومتابعات ومشاورات أجراها الباحث مع قيادات مسلمة في بلجيكا ومنها الأستاذ يونس شكري ذاته، وانظر أيضاً: الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 21.

[113] Dahrendorf, Ralf: „Fundamentale und liberale Demokratie. Über Teilnahme und Initiative in der modernen Politik“. In: Dahrendorf, Ralf (Hrsg.): „Konflikt der Freiheit. Auf dem Weg zur Dienstklassengesellschaft“. München 1972, S. 225-237.

[114] Feist, Ursula, S. 29.

[115] Feist, Ursula, S. 38.

[116] Feist, Ursula, S. 48-49.

[117] Feist, Ursula, S. 54.

[118] www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-345/_nr-15/_p-1/i.html

[119] Feist, Ursula, S. 127.

[120] الأوروبية (مجلة)، العدد 35، باريس، تموز (يوليو) 2003، ص 9.

[121] يبدو أنّ هذه الظاهرة تتطلّب وقفة تحليلية من جوانب عدة، إذ أنها قد تُظهِر من جانب أنّ مخزون الكفاءة السياسية لدى النساء المسلمات في أوروبا قد لا يقلّ أحياناً عن ما يمكن توقّعه من الرجال المسلمين، بل ربما يزيد عليه في بعض الأحوال. وقد يطيب لآخرين أن يقرؤوا الأمر على أنه يأتي تعبيراً عن “ردّ فعل” على إقصاء المرأة المسلمة عن المشاركة في الفعل السياسي والمجتمعي. وبالمقابل؛ يمكن النظر إلى ذلك ضمن هامش الفعل الحرّ للمرأة في التجمعات المسلمة في أوروبا، على افتراض أنها لم تجد فرصتها اللائقة في المؤسسات المعبرة عن الوجود المسلم في الفضاء المجتمعي، وهي المؤسسات التي يمكن أن تتحمّل مسؤولية نسبيّة عن إضعاف المشاركة السياسية للمسلمين إذا ما انطوت على مبالغة في البنى الهرمية على حساب الانسيابية والتواصل، أي أنّ إعفاء النساء من التقيّد بكثير من هذه المؤسسات قد يكون أتاح لهنّ فرص التواصل مع الفضاء المجتمعي المفتوح. وتبقى هذه إجمالاً مجرّد تقديرات أو تخمينات، وهي تشكل تساؤلات تتطلّب البحث والتحليل. لكن ما تجدر دراسته أيضاً؛ احتمال أن يكون نموذج المرأة المتحدرة من العالم الإسلامي، و”المتحرِّرة” من الحجاب والمظهر الإسلامي العام النمطي المرسوم في الصورة الذهنية الرائجة في المجتمعات الأوروبية، له دوره الكفيل بتشجيع بعض النماذج على الارتقاء في مراتب العمل السياسيّ، ولو كان تشجيعاً يتمّ بصورة غير واعية.

[122] European Monitoring Centre on Racism and Xenophobia: “Muslims in the European Union – Discrimination and Islamophobia”. Vienna 2006, p. 10.

[123] أبو شويمة، علي: “كلمة التحرير”. الأوروبية (مجلة)، العدد 35، باريس، تموز (يوليو) 2003، ص 4.

[124] European Monitoring Centre on Racism and Xenophobia.

[125] European Commission against Racism and Intolerance.

[126] ورد ذلك في بيان صحفي صادر عن إقبال سكراني، السكرتير التنفيذي للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، في 12 تموز (يوليو) 2005.

[127] Newsweek (Magazine – Polish Issue), 11/2004, Warsaw 14.3.2004.

[128] International Crises Group: „France and it’s Muslims: Riots, Jihadism and Dipoliticisation“. Europe Report N° 172, Paris/ Brussels 9.3.2006.

[129] European Monitoring Centre on Racism and Xenophobia: “Muslims in the European Union – Discrimination and Islamophobia”. Vienna 2006, p. 114.

[130] في واقع الأمر؛ يمكن لكبريات المؤسسات الإسلامية في أوروبا أن تُصنّف على أنها “مجموعات مصالح”، لكونها تعبِّر عن مصالح واهتمامات قطاعات من أفراد المجتمع، لكنّ الواضح أنّ درجة فعالية هذه المؤسسات يبقى موضع تساؤل، خاصة وأنّ كثيراً منها يفتقر إلى الهيئات والآليات النظامية لتسيير شؤونها، فضلاً عن مدى التزامها بالنظم التي وضعتها لذاتها في مجال التسيير. ومع ذلك؛ فقد تبلورت على مستوى بعض الأقطار الأوروبية مؤسسات فاعلة للمسلمين، وكذلك على الصعيد الأوروبي القاريّ، تحاول أن تردم الفجوة في هذا الجانب.

[131] كمثال على ذلك؛ فإنّ أحزاب الخضر تشكّلت في الأصل من تجمع قوى وأطراف مجتمعية عدة تبلورت ضمن فعاليات جماهيرية تطالب بحماية البيئة، كما أنّ حزب “الاحترام” البريطاني تشكّل امتداداً لموجة المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي شهدتها لندن للتحذير من شنّ حرب على العراق. أيضاً فإنّ المظاهرات المناهضة للعنصرية التي شهدتها بعض دول أوروبا في أعقاب تنامي الموجة المعادية للأجانب؛ قد أفضى بعضها إلى تشكيل مؤسسات ولجان دائمة للعمل الحقوقي ومناهضة العنصرية، كما في حالة منظمة “إس أو إس متمنش” (SOS Mitmensch) النمساوية مثلاً. ومما يلفت الانتباه على نحو خاص، أنّ الانتخابات البرلمانية النمساوية لسنة 1999 التي شهدت صعوداً قوياً لحزب الحرية (FPÖ) الذي يقف على أقصى يمين الساحة السياسية والذي خاض الانتخابات بشعارات مناهضة لمن يُوصَفون بالأجانب؛ جاءت إيذاناً بانطلاق مرحلة جديدة إلى حدّ كبير من مشاركة مسلمي النمسا في الساحتين المجتمعية والسياسية، وهو ما تؤكده الهيئة الدينية الإسلامية الرسمية في النمسا. انظر مثلاً مقالاً لكارلا آمنة بغجاتي، المسؤولة الإعلامية بالهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا، حمل عنوان “المسلمون في النمسا ـ أي دور مجتمعي يضطلعون به؟”، وقد عممته الهيئة على وسائل الإعلام في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2004، في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها:

Baghajati, Carla Amina (Medienreferentin der IGGiÖ): „Muslime in Österreich – Welche gesellschaftliche Rolle spielen sie?“. (Essay), Wien, 2004.

[132] الغمقي، محمد: “كيف يتم ترشيد نقمة الشباب المسلم في الغرب على ما يراه من ظلم؟” (مقال). باريس، 5 آب (أغسطس) 2005. الوصلة:

http://www.eu-islam.com/ar/templates/Article_ar.asp?articleid=454&zoneid=6

[133] Héthy, Lajos: „Plant-Level Participation in Hungry“. In: Österreichische Zeitschrift für Soziologie, 1/1988, Wien 1988, S. 38-49.

[134] دول شرقي أوروبا التي انضمت حتى 2007 إلى الاتحاد الأوروبي هي كل من المجر، تشيكيا، سلوفاكيا، بولندا، سلوفينيا، لاتفيا، لتوانيا، إستونيا، رومانيا، بلغاريا.

[135] اللقطة، علاء: “الإسلام في رومانيا”. الأوروبية (مجلة)، العدد 15، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 1999، ص 37.

[136] تقرير تحليلي بعنوان “مسلمو أوكرانيا والانتخابات”، منشور على موقع اتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا “الرائد” على الإنترنت (www.arraid.org) في كانون الأول (ديسمبر) 2004.

[137] يعكس ذلك بحدّ ذاته مدى المفارقة في مفهوم أوروبا والذي يُورَد عادة للدلالة على أوروبا الغربية والوسطى وليست أوروبا الجغرافيا أو الشعوب.

[138] أندرسون، نيلز: “ألبانيا في سعيها إلى الحصول على الاعتراف”. لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، حزيران (يونيو) 2002.

[139] تبنّى الاتحاد الأوروبي في العاشر من حزيران (يونيو) 1999، توجّهاً إنمائياً لدول جنوب شرقي أوروبا، تحت عنوان “تحالف الاستقرار”، وجاء ذلك في أعقاب حرب كوسوفو مباشرة التي اندلعت في آذار (مارس) 1999.

[140] كما نقل عنه نيلز أندرسون (Nils Andersson) ، في: أندرسون، نيلز، مصدر سابق.

[141] من ذلك مثلاً أمارات التردّد بين المسلمين التي لوحظت في مواسم سياسية بعينها في بلدان أوروبية، مثل بعض التذبذب لدى مسلمي فرنسا بين التصويت للاشتراكيين كخيار تقليدي مفضل أم التوجه للديغوليين عقاباً للوزير الأول الاشتراكي ليونيل جوسبان على مواقف منحازة للسياسات الإسرائيلية أبداها في سنة 2000، وفي بريطانيا تبلور إحجام نسبي وشيء من التردّد من جانب المسلمين إزاء التصويت لحزب العمال بعد حرب احتلال العراق في سنة 2003، رغم أنه خيارهم الانتخابي التقليدي.

[142] من خطاب الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق الذي بعث به إلى مؤتمر “الباكستانيّون في أوروبا”، المنعقد في مدينة مانشتستر البريطانية، يومي 20 و21 شباط (فبراير) 1982.

[143] التقرير هو الأول للمركز، حيث يرصد الأحداث المتعلقة بـ “الهجرة المغاربية إلى أوروبا” خلال الثلث الأول من عام 2005. ويستعرض التقرير الأحداث من خلال رصد مواقف دول المغرب العربي من مواطنيها المهاجرين إلى أوروبا، مع توضيح السياسة الأوروبية تجاه الهجرة المغاربية.

ـ مركز جامعة الدول العربية في تونس: “مذكرة معلومات حول تقرير الهجرة المغاربية في أوروبا” (مذكرة). تونس، 20 تموز (يوليو) 2005.

[144] جاء ذلك في تقرير لفاروق شِن، نشرته مجلة “فوكوس” الألمانية، في 15 تموز (يوليو) 2002، أي قبل شهرين ونصف الشهر من إجراء تلك الانتخابات، انظر:

Şen, Faruk: Focus, Nr. 29/2002, München, 15. Juli 2002.

[145] من قبيل أحزاب أقصى اليمين السياسي أو الفوى السياسية المناهضة للمسلمين أو المتحفظة على الوجود الأجنبي، مثل الكتلة الفلمنكية (Vlaams Blok) في بلجيكا والتي أعيد تأسيسها بعد حلها في سنة 2004 لتخرج في إطار جديد باسم “المصلحة الفلمنكية” (Vlaams Belang)، والحزب القومي البريطاني (BNP)، وحزب الحرية النمساوي (FPÖ)، والجبهة الوطنية في فرنسا (FN)، ورابطة الشمال في إيطاليا (Liga Nord)، وحزب الشعب الدانمركي (Dansk Folkeparti)، وقائمة بيم فورتوين (LPF) في هولندا، والجناح اليميني من حزب الشعب السويسري (قومي محافظ) (SVP)، وأحزاب “الجمهوريون” (Die Republikaner) والقومي الألماني (NPD) واتحاد الشعب الألماني (DVU) في ألمانيا، وغيرها.

[146] في إفادة أدلى بها للباحث بهذا الصدد.

[147] أورد ذلك: مسلّم، سامي: “صورة العرب في صحافة ألمانيا الاتحادية”. بيروت، 1986، ص 32. نقلاً عن:

Kelmann, Herbert: „Sozialpsychologische Aspekte Internationalen Verhaltens“. In: Nerlich, Uwe (Hrsg.): „Krieg und Frieden im indusriellen Zeitalter“. Gütersloh, 1966.

[148] فيدرين، أوبير: “من أجل إعادة تأسيس السياسة الخارجية الفرنسية” (مقال). لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الأول (ديسمبر) 2000.

[149] رمضان، أحمد: “حركة الرأي العام في الغرب وقواعد التأثير ـ دور مسلمي أوروبا في التفعيل الإيجابي للرأي العام الغربي”. الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، شباط (فبراير) 2001، ص 29.

[150] Baehr, Peter: „Innenpolitische Beeinflussung der Aussenpolitik in den Niederlanden“. In: Österreichische Zeitschrift für Politikwissenschaft. 84/2, Wien, 1984, S. 226.

[151] سلبتر، إيلياهو: “أربع سحابات في سماء الصيف اليهودي” (مقال). صحيفة “هآرتس” العبرية، 13 تموز (يوليو) 2005.

[152] خشيم، مصطفى: “موسوعة علم العلاقات الدولية”. بنغازي، 1996، ص 143 ـ 146.

[153] هنتغتون، صموئيل: “صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي”. مصراته، 1999، ص 444 ـ 448.

[154] على سبيل المثال، يمكن التعرّف على بعض جوانب هذا الدور الإسنادي، من خلال الوظيفة الهامة للقواعد العسكرية الأمريكية فوق الأراضي الألمانية في الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وفي إسناده، وفي تلقي حالات العلاج لجرحى الميدان. كما يتضح في دور جهاز المخابرات الألماني (BND) في توفير خدمات معلوماتية للأمريكيين في العراق، وهو ما كُشف النقاب عن بعض تفاصيله بدءاً من خريف وشتاء 2005.

[155] الحديث للدكتور جمال البرزنجي، أحد قيادات الساحة الإسلامية الأمريكية ووجوهها المعروفة، وقد جاء النص في سياق عرضه وتلخيصه وتعليقه على وقائع ندوة عقدت في فرجينيا بالولايات المتحدة بين 19 و21 تموز (يوليو) 1991 عن “مستقبل العمل الإسلامي”. انظر:

البرزنجي، جمال: “عرض وتلخيص لوقائع الندوة وأهم مقترحاتها”. في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): “مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج”. شيكاغو، 1991، ص 502.

[156] الحديث للدكتور طه جابر العلواني، أحد الشخصيات البارزة في الساحة الإسلامية الأمريكية علاوة على حضوره في ساحة الفكرية الإسلامية ككلّ، وقد جاء النص في سياق كلمته الختامية في ندوة عقدت في فرجينيا بالولايات المتحدة بين 19 و21 تموز (يوليو) 1991 عن “مستقبل العمل الإسلامي”.

العلواني، طه جابر: “كلمة ختامية” في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): “مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج”. شيكاغو، 1991، ص 506.

[157] Héthy, Lajos: „Plant-Level Participation in Hungry“. In: Österreichische Zeitschrift für Soziologie, Wien 1/1988, S. 38.

[158] المادة 23، “ميثاق المسلمين في أوروبا”. فيينا، نيسان (أبريل) 2006.

[159] جاء ذلك في سياق تعريف عن المسلمين في بريطانيا، على موقع وزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت، على الوصلة التالية:

http://www.fco.gov.uk/servlet/Front?pagename=OpenMarket/Xcelerate/ShowPage&c=Page&cid=1089129265351

[160] مثلاً؛ يتضمن الموقع العربي لوزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت www.fco.gov.uk عرضاً موسعاً عن الإسلام والمسلمين في بريطانيا.

[161] في هذا السياق؛ تعمد وزارة الخارجية الأمريكية إلى تشكيل وفود تضم أئمة مسلمين للحديث عن أوضاع إيجابية مفترضة لمسلمي الولايات المتحدة، علاوة على برامج تقوم بها السفارات الأمريكية للتواصل مع البلدان والأقليات المسلمة، وباتت تشتمل على تقاليد دورية ثابتة مثل إقامة موائد إفطار رسمية في شهر رمضان، وهو ما تقوم به السفارات الأمريكية بالفعل في معظم العواصم الأوروبية منذ عام 2002 وتدعو إليها قيادات المسلمين في كلّ بلد، وإن كانت هذه الدعوات تقابل في العادة باهتمام فاتر يصل أحياناً إلى حدّ المقاطعة على خلفية السياسات الخارجية والحربية الأمريكية المثيرة للانتقاد. وانظر أيضاً ملفاً خاصاً على موقع وزارة الخارجية الأمريكية باللغة العربية تحت عنوان “هكذا يعيش المسلمون في أمريكا”، على الوصلة التالية:

http://usinfo.state.gov/arabic/muslimlife/homepage.htm

[162] وإن نشأت في مرحلة ما بعد إعلانات الاستقلال في العالم الثالث حالة يصفها بعضهم بالاستعمار الجديد أو ما بعد الاستعمار.

[163] شومييه ـ جاندرو، مونيك: “في سبيل نظام عالمي ديمقراطي عام”. لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الأول (ديسمبر) 2002.

[164] كسياسة الدعم الزراعي الداخلي مثلاً والذي يحرم مزارعي “الجنوب” من المنافسة المتكافئة فيفاقم من أزمة الفقر التي يعانون منها ويحرمهم من منافع “انفتاح الأسواق” بل وقد يجعلهم ضحايا لذلك “الانفتاح”.

[165] كما في حالة المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) والمجلس الإسلامي لألمانيا (Islamrat). ويعيش في ألمانيا قرابة 3.4 مليون مسلم حسب بعض المصادر.

[166] كما في حالة المجلس الإسلامي البريطاني (MCB) والرابطة الإسلامية ببريطانيا (MAB)، ويعيش في بريطانيا أكثر من مليون ونصف المليون مسلم وفقاً لإحصاء رسمي.

[167] جرت مظاهرة إسلامية في مدينة كولونيا الألمانية ضد الإرهاب في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 شارك فيها قرابة 25 ألف شخص، تحت شعار “يداً بيد من أجل السلام وضدّ الإرهاب” (Hand in Hand für Frieden und gegen Terror) وتفرّد بتنظيمها الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية DITIB المرتبط بالدولة التركية والمعروف باسم DIYANET دون تنسيق مسبق مع الأطراف الفاعلة في ساحة مسلمي ألمانيا. وتم تنظيم المظاهرة تحت شعارات تؤكد أنّ الإسلام بريء من وصمة الإرهاب، وذلك في ذروة جدل عام داخلي في ألمانيا في ظل الأزمة التي شهدتها هولندا إثر اغتيال المخرج السينمائي تيو فان غوخ.

[168] Daimagüler, Mehmet: „Muslime in Deutschland: Wort zum Freitag“. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, Frankfurt 23.6.2004.

[169] انظر مثلاً ما نشرته صحيفة “إخورا” اليونانية، من مواقف وردود فعل في هذا الشأن، في عددها الصادر في 12 حزيران (يونيو) 2000 تحت العنوان العريض “مسلمون في الجيش والشرطة”.

[170] لا تمثل الأعراف السياسية والمجتمعية حالة جامدة غير قابلة للتطوير أو التحوير، حتى وإن احتفظت بملامحها العامة بما يوحي بالثبات. ولعلّ ما هو أهمّ أنّ هذه الأعراف ليس منصوصاً عليها بشكل جامع مانع وعلى نحو دقيق، علاوة على أنها تخضع لمؤثرات وعوامل عدة. ومن الملاحظ هنا؛ أنّه ليس من النادر أن تجري محاولات إقصاء أو تهميش للأقليات تحت لافتة تلك الأعراف التي قد تُغري بعض الأطراف لأن تستخدمها ذريعة لفرض رؤى أو اختيارات بعينها على مجمل الساحتين المجتمعية والسياسية. ومن هنا؛ جاءت الملاحظة التي لا بدّ منها، بالسعي إلى التماشي مع تلك الأعراف، ولكن ضمن حدود الممكن والمقبول وحسب، كي لا تُقدّم تلك الأعراف على أنها قَدَر محتوم على الواقع الراهن أو على فرص الأجيال المقبلة وخياراتها.

[171] على نحو واعٍ؛ جرى ربط مطلب الاستقلالية بجوهر المشاركة، لا بكل تجلياتها، أخذاً بعين الاعتبار أنّ تلك التجليات لا تأخذ طابعاً انفرادياً، بل تتعاطى مع أطر العمل السياسي، تأثيراً وتأثراً، بما في ذلك الانضمام إلى الأحزاب والأطر السياسية ذات العلاقة. ولكن ما ينبغي ضمانه باستمرار؛ أن لا تكون المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا في ذاتها خاضعة أو مرتهنة لأية أطراف كانت مع انفتاحها على عموم الساحة، وهو المطلب المُشار إليه بتعبير استقلالية جوهر تلك المشاركة.

[172] “الأوروبية” (مجلة)، العدد 18، باريس، حزيران (يونيو) 2000، ص6.

[173] من المفارقات المرصودة مثلاً؛ أنّ عدداً من اللقاءات الودية الهامة في المناسبات الإسلامية، مثل شهر رمضان والعيدين ورأس السنة الهجرية، التي أقامها في الأعوام الأخيرة بعض كبار الشخصيات السياسية النمساوية واستضافوا فيها قيادات مسلمي بلادهم وشخصياتهم المعروفة تم تجاهلها بوضوح من الأقسام الإعلامية الخاصة بهؤلاء المسؤولين، كما لم تظهر على مواقعهم الرسمية ضمن قائمة النشاطات المجتمعية اليومية التي يقومون بها، بحيث يبدو وكأنها قد انتُزِعت من سياقها. وقد يكمن التفسير المحتمل لذلك في خشية هؤلاء السياسيين من اغتنام أقصى اليمين السياسي لهذه اللقاءات، خاصة مع حملات حزب الحرية المناهضة للمسلمين في البلاد، والتي برهنت على جدواها الانتخابية في حصد قطاع من أصوات الجمهور، كما اتضح مثلاً في الانتخابات المحلية بفيينا، التي أجريت في تشرين الأول (أكتوبر) 2005.

[174] كزيارة وفد من البرلمان الألماني لأقدم مساجد برلين في 18 أيلول (سبتمبر) 2001، واستقبال كل من الرئيس الألماني آنذاك يوهاناس راو والمستشار في حينه غيرهارد شرودر وفداً يمثل مسلمي ألمانيا في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

[175] من نص الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، مساء يوم الأربعاء 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003 بحضور 400 شخصية فرنسية سياسية ودينية، من بينهم الأعضاء العشرون للجنة برنار ستازي، التي قدّمت تقريرها النهائي حول “مراقبة تطبيق العلمانية” في فرنسا، وقد أعلن شيراك في خطابه تأييده لسرعة إصدار قانون يحظر “كافة الرموز الدينية الظاهرة”، وعلى الأخص الحجاب.

[176] الراوي، عمر (مقابلة): “سلام” (صحيفة). العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 6.

 

[177] نشأت في العام 1989 ضجة واسعة في فرنسا عرفت بـ “قضية الفولار” على إثر منع فتيات مسلمات محجبات من دخول المدرسة، فطلبت الحكومة الفرنسية الاشتراكية آنذاك من مجلس الدولة، وهو أعلى سلطة دستورية في فرنسا، تقييم الموقف، فتوصل المجلس من جانبه في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، إلى أنّ مظاهر الانتماء الديني أو السياسي متماشية في الأصل مع العلمانية ما لم تتسبب في اضطراب النظام العام.

[178] جاء في بيان تعريفي صادر عن “لجنة الخامس عشر من مارس للحريات” في فرنسا إثر تأسيسها في سنة 2004، أنها “تتكوّن من مجموعة من النساء والرجال العاملين في مجال العمل الاجتماعي التطوعي بهدف خدمة ومساندة طالبات المدارس المتوسطة والثانوية اللواتي يتعرضن إلى التشدد في تطبيق قانون 15 مارس 2004 المتعلق بالرموز الدينية المثيرة.

وقد وضعت اللجنة على ذمة الفتيات وأوليائهن رقما هاتفيا مجانياً للاستعلام عن هذا القانون. وتعمل اللجنة على توضيح التفسير الحقيقي لهذا القانون، وعلى التخفيف من وطأته، وذلك عن طريق دعوة المسؤولين التربويين ورؤساء المعاهد إلى عدم التعسف في تطبيقه والتضييق على المسلمات إلى حد منعهن من أي غطاء للشعر ولو كان صغيراً، ودعوة المسلمات إلى الالتزام بالغطاء الذي ليس فيه إثارة لأنّ القانون لا يمنع مطلقاً أي غطاء.

وقد انبثقت عن لجنة 15 مارس للحريات لجان محلية وجهوية بغرض معرفة الوضع الحقيقي بعد تطبيق هذا القانون، من خلال تتبع طريقة وآثار ونتائج تطبيقه وكذلك لمساندة الفتيات وأهاليهن في هذه المحنة.

يتمثل عمل اللجنة في: أولاًـ دعوة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية والتعاون معه كمؤسسة رسمية؛ للتوسط لدى إدارة التعليم والمعاهد الحكومية لإيجاد حل للفتيات المتمسكات بحجابهن كاملاً والتفاوض لقبول مجرد غطاء للشعر. ثانياًـ تقديم الدعم المدرسي وتوفير الهياكل التعليمية في حالة الطرد اللواتي يخترن الدراسة بالمراسلة. ثالثاًـ تقديم الدعم النفسي للفتيات والأسر التي تمر بهذه الأزمة. رابعاًـ تقديم المعلومات والدعم في المجال الحقوقي بتعريف المعنيين بحقوقهم على ضوء مجمل الأحكام المتعلقة بحماية الحريات الدينية والحقوق الأساسية في التعليم.

يساند اللجنة منذ إنشائها كل من: الرابطة الفرنسية للمرأة المسلمة، اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، وصندوق الدفاع عن المسلمين أمام العدالة، وهي تعلن انفتاحها على كل منظمة أو مؤسسة تشاطر أهدافها، كما تؤكد اللجنة على طابعها اللاسياسي حيث أن طموحها الوحيد هو خدمة الطالبات ومساندتهن في المعاناة”.

[179] رمضان، أحمد: “حركة الرأي العام في الغرب وقواعد التأثير ـ دور مسلمي أوروبا في التفعيل الإيجابي للرأي العام الغربي”. الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، شباط (فبراير) 2001، ص 29.

[180] النحوي، عدنان علي رضا: “مع قضية الحجاب”. الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 41.

[181] جاء ذلك في مداخلة للداعية حسن أقيوسن، في ندوة عقدتها “جمعية مسلمي روني سوبوا” (Association des Musulmans de Rosny) في السادس من آذار (مارس) 2004، عن التمييز العنصري ضد المسلمين والأجانب في فرنسا، ونشرت مجلة “الأوروبية” مقتطفات منها. انظر: الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 47.

[182] رمضان، أحمد. مصدر سابق، ص 29.

[183] هو النائب عمر الراوي، انظر: عمر الراوي (مقابلة)، صحيفة “سلام”، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 6.

[184] “السياسة والحكومة”. مصدر سابق، ص 138.

[185] الراوي، عمر (مقابلة): سلام (صحيفة)، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 7.

[186] الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 8.

[187] وهي ظاهرة ملموسة جزئياً في بعض البلدان الأوروبية، مثل فرنسا مثلاً التي تتوجه أصوات نسبة من “الأجانب” فيها لصالح حزب “الجبهة الوطنية” (Front National) اليميني المتطرف.

[188] Runnymede Trust: „Islamophobia: A challange for Us All“ (Report). London 1997.

[189] تقرير تحليلي بعنوان “مسلمو أوكرانيا والانتخابات”، منشور على موقع اتحاد المنظمات الاجتماعية في أوكرانيا “الرائد” على الإنترنت (www.arraid.org) في كانون الأول (ديسمبر) 2004.

[190] مقابلة مع أنس التكريتي. الأوروبية (مجلة)، العددان 39 و40، باريس، آب (أغسطس) 2004، ص 27.

[191] ترشّح على قوائم حزب “الاحترام” البريطاني للانتخابات الأوروبية التي جرت في حزيران (يونيو) 2004، عدد من المسلمين، منهم أنس التكريتي، ومحمد بياض سليمان، وسلمي يعقوب، والدكتور أحمد هادي، وإيفون ريغلي، وهي صحافية بريطانية اعتقلتها حركة طالبان في أفغانستان ثم أسلمت. ولم ينجح أي مرشح من جانب حزب “الاحترام” في الوصول إلى البرلمان الأوروبي في تلك الجولة، بمن فيهم زعيم الحزب جورج غالوي.

[192] جاء بالله، أحمد، مصدر سابق، ص 61ـ62.

[193] www.gruene.at/menschenrechte/artikel/lesen/1225/

[194] Scheibner, Herbert: „Wir brauchen keinen Klubzwang“ (Gastkommentar). Wiener Zeitung, Wien 11. November 2005.

[195] إبريز، الحاج التهامي (مقابلة): الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 26.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق