البحوث

الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة

“الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة”

إعداد: د. صلاح الدين سلطان

مقدمة

الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله،وبعد

 فأحسب أننا نحتاج إلى جهود عديدة في وضع الضوابط والمعايير التي تحكم عملية الاجتهاد في فقه الأقليات، ولقد حرصت من خلال معايشتي لكتب أصول الفقه والقواعد والمقاصد مع معايشة يومية وزيارات ميدانية للمسلمين في أمريكا وأوروبا والهند والصين وغيرها على أن أساهم في رؤية متواضعة بين يدي أساتذتي وإخواني العلماء في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لعلي أحظى بتقويمهم وأنعم بدعائهم.

 وقد اخترت لفظ الضوابط قاصدا به الإطار الذي يحكم عملية الاجتهاد للأقليات المسلمة، وحرصت ألا أكتبها القواعد حتى تناقش وتنقح، أما كونها منهجية لأنها ترسم الطريق في عقل ووجدان المجتهد أن يستصحب هذه الأطر والضوابط عند الاجتهاد، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أما الأقليات المسلمة فهم في نظري حقيقة نوعان:-

أولاً: أقلية عددية في أوروبا وأمريكا والهند والصين على سبيل المثال لا الحصر.

ثانيا: أقلية في الحقوق القانونية بما يمارس عليهم من اضطهاد مثل مسلمي كشمير والشيشان وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا ..إلخ وقد يدخل فيها بعض الدول الإسلامية التي لا تحظى فيها الأكثرية المسلمة بحقوق الأقلية غير المسلمة، ويطارد فيها الدعاة والمصلحون، ويعيشون ظروفا أسوأ بكثير والمسلم الذي يعيش في الغرب.

أدعو الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا رشدنا وأن يوفقنا لحمل الأمانة وأداء الرسالة كما أنزلها الله تعالى حنيفية سمحة كالمحجة البيضاء.

الضابط الأول: تعميق الشعور بالموطنة:

من فطرة الإنسان السوي أن يحب الوطن الذي تنسم هواه و تضلع بمائه و تشبع بطعامه و تنعم بخيراته و اعتز بتراثه و الفقه لا يصادم الفطرة السوية بل يحرص على أن يمدها بالتزكية و الاعتدال.

وإذا كان المسلمون الأقلية لا يشعرون بالانتماء إلى بلد استوطنوه فإن هذا يعد خدشا في المروءة وطعناً في الكرامة ويفتح باب الذرائع أن تتوجس الأكثرية من هذه الأقلية فينفونهم أو يضطهدونهم.

وإذا كان الفقه يعالج و اقعا قائما فنحن أما ما يلي:

  • المسلمون في أمريكا أكثر من 8 ملايين منهم 22.4 % أميريكيون أصليون و 77.6% مهاجرون استوطنوا أمريكا حسب ما نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عن “الإسلام في أمريكا” و نسبة المهاجرين منهم أكثر من 40% هم أبناء إما أتوا صغارا أو ولدوا في البلد نفسه و صلة هؤلاء ببلاد آبائهم صلة حنين و متعة يثيرها الآباء في الأبناء بالحديث عن الوطن و الجد و الجدة و العم و الخال لكن هؤلاء يشعرون أن أمريكا هي بلدهم و هي جزء من حياتهم و قلوبهم
  • المسلمون في أوروبا (شرقية و غربية) يعيشون المشاعر ذاتها و أغلبهم لا يملك إمكانية العودة إلى دياره الأولى تحت ضغط الفقر و القهر.
  • المسلمون في الصين أكثر من 150 مليون هم جميعا أصليون
  • المسلمون في الهند أكثرمن 200 مليون مسلم هم من نخاع الهند
  • المسلمون في دول شرق آسيا هم أصليون أغلبية أو أقلية في أوزباكستان و طاجكستان و كازاخستان و قيرقيزيا و أذربيجان و تايلاند و سنغافورة و سيريلانكا.
  • المسلمون الأقلية في أفريقيا هم مواطنون ليس لهم دار غير دارهم في تنزانيا و أوغندا و كينيا و غانا و النيجر و جنوب افريقيا.

لمثل هؤلاء و غيرهم في اليابان واستراليا و….. يجب أن يصدر المجتهدون و الفقهاء و الأئمة و المصلحون من فقه المواطن لا المهاجر، القيم لا الراحل، ابن البلد و ليس الدخيل ؛ لأن هذا هو الواقع أولا، ولأن الوفاء للمكان الذي فيه درجت أو احتميت أو ارتويت بعد ظمأ أو شبعت بعد جوع و تعلمت بعد جهل أو تحركت بعد كبت يوجب خلق الوفاء أن يشعر بحق هذا البلد عليه في الإصلاح و المشاركة الجادة في نموها و استقرارها، و هذا لا يمنع من الحنين إلى الموطن الأصلي إن وجد لدى “المهاجرين” كما كان –صلى الله عليه وسلم- تدمع عيناه أصيلا يمدح مكة و كذا بلال و غيره لكنهم استوطنوا المدينة وأقاموا بها و حولت إلى مهد للخير و النور في الأرض كلها ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- للمدينة أن يبارك في صاعها ومدها و أن ينقل حماها إلى الجحفة فصارت يثرب طيبة في هوائها و مائها وغرسها و أهلها.

ولست أعني هنا أن يشعر المسلم المقيم في دول غير إسلامية بما كان يشعر به الصحابة نحو المدينة حيث اجتمع فيها النص الشرعي مع التطبيق العملي في سلطة شرعية و دولة إسلامية صارت نورا للبشرية ولكن أعني أن الحنين إلى بلد الولادة و المنشأ لا حرج فيه و لا يمنع من المقام في بلد آخر، و إصلاحه و الحنين إليه أيضا و الوفاء لحقه هذا مع الأخذ بالاعتبار أن النسبة الأكثر في الأقلية المسلمة هم مولودون أو ترعرعوا في بلاد عير إسلامية إذا أضفنا الأبنا ء إلى الأصليين.

و إذا كانت قضية المواطنة في البلاد غير الإسلامية موضع خلاف حتى الآن فإن الذين يصلحون للفتوى و الاجتهاد هم أولئك الذين يرون صحة أو استحباب أو وجوب الإقامة و التوطن في البلاد غير الإسلامية حملا للأمانة و تبليغا للرسالة و ابتعاثا في الخير كما نص القرآن (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، و قال النبي –صلى الله عليه و سلم- (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و قد هيمنت فكرة الابتعاث إلى الخير حتى على الأعراب مقولة ربعي بن عامر: “إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد غلى عبادة رب العباد و من جور الأديان غلى عدل الإسلام و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا و الآخرة”.

وفي جميع الأحوال لو أجمع فقهاء الأرض الآن على عدم صحة الإقامة و المواطنة فلن يغير هذا من الواقع البلاد التي بها أصليون، و لن يرحل أكثر المهاجرين إلى بلادهم التي عانوا منها، فهل من وظيفة الفقه أن يؤثم الناس ، أم يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم؟‍‍‍‍‍‍‍‍!

ولذا يبدو لي أنه يظهر المسلم في أي بلد أنه مواطن يحب بلده و يكره من يفسدها و يعاديها و هو حام لحماها حريص على حاضرها و مستقبلها و هذا لا يعني الولاء للأديان التي علت بفسادها أو الأفراد الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون أو الحكومات التي تسن القوانين المخالفة للإسلام بل هو ولاء للبلد الذي يحمل صاحبه على التفكير الجاد في أن يقدم الخير لشعبها و أرضها حتى يحقق فيها رحمة الإسلام للعالمين، ويبذر الخير للناس أجمعين.

وعليه فلا حرج حتى على المهاجرين أن يقول أنا مسلم فرنسي أو مريكي أوياباني من أصل شامي أو مغربي أو مصري أو هندي…. إلخ، كما أنه لا حرج أن يعتز ابن البلد الأصلي ببلده لا بحكومتها و لا بقوانينها المخالفة لدينه و أن يقول كل لأخيه :

خليلي إنا مقيمان ها هنا                  وكل مقيم للمقيم ينسب

وليس كما قال الشاعر:

خليلي إنا غريببان ها هنا                 وكل غريب للغريب ينسب

الضابط الثاني: تأكيد المسؤولية عن إصلاح الوطن:

يجب أن يكون الاجتهاد لفقه الأقليات دافعا إلى تأكيد دور المسلم في إصلاح وطنه و مجتمعه و عالمه لا أن ينحصر في فقه الحماية من الفتن و الوقاية من المحن، مثل من يدعون إلى وجوب إنشاء المدارس الإسلامية حماية لأبنائنا من الفتن لكن لا يوجد فكر قيادي إصلاحي لبناء قيادات حية من أبنائنا تنفع المجتمع و تقوده إلى رشده و مثل من يدعو إلى المشاركة في الانتخابات حتى لا تضيع حقوق الأقلية و تمنع الحكومات و لو جزئيا من التمييز العنصري أو مساندة الظلم العالمي على فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو كشمير أو الشيشان، هذا الفقه ضيق عن استيعاب الرسالة كلها، أو الدور الكامل للمسلم أن ينفع نفسه و أهله وفي الوقت ذاته يصل خيره إلى مجتمعه صالحا أو طالحا، و بلده حتى لو كانت تحكم بالشر لأن هذا هو الميدان الحقيقي للدعوة و إلا فأين مجال الإصلاح الذي أوجبه الله علينا؟

و من الدلالة على وجوب تبني اجتهادات فقهية للأقليات تدفعهم إلى إصلاح بلدهم و مجتمعهم ما يلي:

أولاً: قوله تعالى: “فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم و اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين، و ما كان ربك مهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون” هود:116 ، 117

هاتان الآيتان هما خلاصة سورة هود في رسالة الأنبياء حتى لا يدركهم الهلاك، و الآية الأولى تتحدث عن قوم أولي بقية من عقل أو دين كما يذكر القرطبي يقومون بواجب الإصلاح و البيان و النهي الفساد عن الأرض و ليس في ديار الإسلام فقط، و أن قيام هؤلاء بواجب الإصلاح هو العاصم من القواصم و الحافظ من الإهلاك في الآية الثانية

ثانياً: لقد شغل سيدنا إبراهيم عن البشرى الكبيرة أن يرزق بولد “إسحاق” من زوجته الأولى “سارة” شغل عن هذا كله بالجدال مع الملائكة عن قوم لوط ألا يعجلوا عليهم في العقوبة لإعطاء فرصة أخرى لإصلاحهم و لقد صور القرآن هذا المشهد المؤثر في حرص الداعية و المصلح على قومه حتى لو كانوا لوطيين في هذه الآيات: “فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إن قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.” هذا الموقف المهيب الذي يقف فيه سيدنا إبراهيم يجادل عن قوم لوط ووصفه الله تعالى بالحلم و هي صفة  ضرورية للمصلحين و امتدحت حرصه، لكن جاء الأمر الرباني بأن هؤلاء قد استنفذوا كل الوسائل و انتكست فطرهم و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.

ثالثاً: ما رواه البخاري بسنده عن عروة عن عائشة فالت سألت النبي –صلى الله عليه و سلم-: هل مر عليك يوم أشد من هذا اليوم “يوم أحد” فذكر لها يوم أن اشتد إيذاء قومه له فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال بعرض عليه –صلى الله عليه و سلم- أن يهلك أهل مكة جميعا فقل –صلى الله عليه و سلم-: لا بل أدعو الله لهم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز و جل”. هذا الموقف النبيل من النبي – صلى الله عليه و سلم- في الوقت الذي أمعنت فيه قريش في الإيذاء، و كانت تملأ المسجد الحرام أصناما حول الكعبة، و تطوف النساء و الرجال عرايا و تقول المرأة:

 اليوم يبدو كله أو بعضه                                فما يبدو منه فلا أحله

 وإذا خرجت من المسجد الحرام فستجد في مكة نفسها بيوتا للدعارة عليها رايات حمراء كما جاء في حديث البخاري عن عائشة أيضا، بالإضافة إلى ظلم الأغنياء للفقراء و السادة للعبيد، والقوي للضعيف و الرجل للمرأة ، لكن هذا كله لم يدفع النبي إلى طلب هلاكهم، بل سعى لإصلاحهم و دخل كثير منهم في دين الله أفواجا، و صاروا مادة للإسلام و عونا للمسلمين.

رابعاً: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية “حلف الفضول” لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت، يبين بجلاء أنه إذا وجد المسلم سبيلا إلى إنشاء أو المشاركة في مؤسسات ذات هدف أخلاقي أو مبدأ إنساني، أو قصد إصلاحي يجب أن يبادر المسلم إليه.

خامساً: قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله” (آل عمران: 110) توضح أننا أمة لا تتقوقع حول نفسها، ولا تنحصر في ذاتها بل هي أمة ابتعاث وإخراج إلى الناس بنور القرآن والسنة، أمة تمشي بالنور في الناس وليس في المسلمين فقط، أمة أمرها الله تعالى بالسير في الأرض كلها اثنتى عشرة مرة، وبالضرب في الأرض أربع مرات، وبالمشي فيها أربعا أخرى، أي عشرين مرة سيراً وضرباً ومشياً.

وإذا جئنا من هذه النصوص الجلية إلى أوضاعنا الحالية فسنجد أن مجتمعاته الغربية صارت فيها الحرية جزءا من الهواء الذي يتنفسونه وهي فرصته كما قال الشاعر:

 وعاجز الرأي مضياع لفرصته                                   حتى إذا فاته أمر عاتب القدرا

 وإذا كان نكسون قد كتب كتابه “الفرصة السانحة” فهي أيضا فرصته لنا أن نتقدم ببرامج إصلاحية لنا وللمجتمع الذي نعيش فيه وأضرب على ذلك مثالاً: شكل وزير التعليم الأمريكي “تيربل بل” عام 1981م لجنة من ثمانية عشر عضوا من الخبراء في التعليم والتربية والاقتصاد والاجتماع و… لدراسة كيفية النهوض بالتعليم في أمريكا، وأجرت اللجنة حوارا مفتوحا مع الآباء والأمهات وأساتذة المدارس والجامعات والطلاب والطالبات و… انتهت إلى تقرير أن أمريكا أقل دولة في مستوى التعليم بين 19 دولة متطورة تم إجراء استبيان فيها مرارا وأن هناك 23 مليون أمريكي أميون ونصف الموهوبين لا يحققون مستوى علميا يتناسب مع مواهبهم، و40% من طلاب المدارس في سن سبعة عشر لا يستطيعون نسخ مادة مكتوبة، وذكر التقرير أنه لو أرادت قوة معادية أن تفرض أداء تعليميا قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة لإعلان الحرب لكن ذلك يحدث من خلالنا، لقد بددنا هذه المكاسب التي حصلنا عليها في رفع حصلنا عليها في رفع المستوى العلمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي “سبوتينك” ودعت الجميع إلى المشاركة في إصلاح التعليم.الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة د. صلاح سلطان المسلم الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة 41703294 289609118525559 8669139574259187712 n

وأقول: ماذا لو شارك المسلمون في هذا الحوار وقدموا رؤية تعليمية تربوية فيها التوازن بين الروح والجسد، الأخلاق والواقع، الفرد والمجتمع، دور الرجل والمرأة، طرق محاربة الجريمة، بل كم من الخير لو تبنى المسلمون محو أمية 23 مليون أمريكي كم يمكن أن يسلم لله تعالى أو يحمل الخير للإسلام والمسلمين أو يكون حياديا.

لذا يجب أن تسير الفتاوى والاجتهادات الفقهية إلى دفع المسلم أن يكون مواطنا مصلحا وإنسانا نافعا، لا يتردد في إنشاء مؤسسات أو المشاركة إن وجدت والتعاون مع أبناء بلده مسلمين وغير مسلمين لوقف الظلم ووقف الحروب والحفاظ على البيئة، ووقف العنف الاجتماعي، وإحياء الأمومة والأبوة والاهتمام بالمرضى والأيتام والفقراء و المساكين، والتأكيد على النظافة وتعميم الخدمات الصحية والرفق بالحيوان ومحاربة المخدرات والتدخين، ورعاية فقراء العالم والمتضررين من الحروب واللاجئين.

إنني أرجو ألا يغالي علينا أعداء الإسلام بأن المسلمين بيننا قوم نفعيون قد أفادوا من المال والعلم والحرية لأنفسهم لكنهم لم يقدموا لبلادهم أوموطنهم  شيئا! بل يكون واقعنا العملي “خير الناس أنفعهم للناس”.

الضابط الثالث: ضرورة فقه النص والواقع معاً:

لا أعلم مخالفا من علماء المسلمين أن الفتوى أو الاجتهاد يجب أن يصدر ممن جمع فقه النص والواقع وأن يجيد إنزال النص على الواقع، والحق أن مجتمع الأقليات المسلمة مبتلى في هذا الجانب بلاء شديدا وعلى سبيل المثال:-

في أمريكا حسب إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 2000 مركز إسلامي، وروادها حسب دراسة أجرتها جامعة هارتفورد مستعينة بعدد من المؤسسات الإسلامية أكثر من 2 مليون مسلم، والواقع أكثر من هذا ولكن:

  • لا يوجد أئمة عندهم مؤهل شرعي (فقهي، دعوي، دراسات إسلامية عامة) إلا 240 إماما والباقون غير متخصصين، وبعضهم فيه نبوغ علمي وشرعي ولكن كثيرا منهم يحمل فكرا عشوائيا، فهو يحضر موضوعا لخطبة أو درس أو يقرأ في باب لأنه استفتى فيه، أما الدراسة المنظمة لعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه حتى يصل من الجزئيات إلى مقاصد الشريعة ويتكون لديه الحس الفقهي أو فقيه النفس فهذا أمر نادر جدا.
  • كثير من هؤلاء الأئمة رغم فضلهم وشرفهم وسمو رسالتهم ودورهم إما لم تؤهلهم مدارسهم الشرعية التأهيل الكافي، أو تمت عمليات تسطيح فكري تحت ضغط ظروف المصلين المتعجلين فصار الاجترار أكثر من الابتكار، وآفة العلم الترك فنسي بعضهم ما تعلمه ودار في فلك المواعظ والخطب التي تشبه الأكلات السريعة.
  • أن الجميع في حاجة إلى فقه المجتمع الأمريكي تاريخا وتحديات وآمالا ومشكلات وجرائم وحلولا وهو أمر لا غنى عنه حتى يستطيع أن يشارك في بناء الشخصية الإسلامية الحية في مجتمعها التي تحمل الاعتدال لا الاعتداء أو الاعتزال، هؤلاء جميعا بحاجة إلى دراسات منظمة وليست قراءات عشوائية، ودورات متدرجة ليرتفع إلى المستوى الذي ابتلى بالإصلاح فيه.

 والحق أن علوم الإدارة قد تطورت وصارت تعتمد التخطيط للحاضر والمستقبل ولا بد أن يبنى التخطيط على فهم وعلم بأدوار أربعة جمعوها في (SWOT) هى:

  • معرفة عناصر القوة في المجتمع (Strength)
  • معرفة عناصر الضعف (Weakness)
  • معرفة الفرص المتاحة (Opportunities)
  • معرفة التهديدات (Threat)

هذه فقط مجرد قاعدة بيانات قبل وضع الهدف الكلي والأهداف التفصيلية ثم وضع الوسائل العملية ثم تنزيلها في فترات زمنية وخطوات مرحلية (قصيرة وبعيدة المدى) ثم المتابعة الميدانية والتغذية الارتجاعية، وفي إطار هذا توضع الميزانية ويتم اجتلاب الأكفاء ذوي التخصصات العلمية. فهل يجوز لنا أن نتقدم لإصلاح دنيا الناس وآخرتهم مع الغفلة عن هذه الجوانب الحيوية في واقع الناس حولنا.

أحسب أن عملية التأهيل لفقه النص والواقع والتدريب على الفتوى التي تعالج آلام الواقع ولا تنقل هموما تاريخية أو بعيدة مكانا إلى موقع يمتلئ بالأزمات ويحتاج إلى مفتي أو فقيه شجاع يخوض بعلم وخشية من الله كي يصلح واقعه.

يبدو لي أن نجاح فقهائنا ارتبط بهذا المستوى الرفيع من فقه النص والواقع الذي جعل سيدنا عمربن الخطاب لا يتردد في فتاوى وقرارات إدارية شرعية كان قد أشاربغيرها على سيدنا أبي بكر، وواجه قضايا جديدة بفقه فريد، وتبعه علي بن أبي طالب حيث رد حد الشارب إلى أربعين ،وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب بثمانين قياسا على حد القذف ، وكان عمر بن عبد العزيز يفتي  في المدينة بشاهد واحد ويمين لصاحب الحق ، وجاء تلاميذ أبي حنيفة أبو يوسف والشيباني وابن أبي ليلى ليخالفوا إمامهم اختلاف عصر وزمان ، وليس اختلاف حجة وبرهان ،وكان للشافعي فقهه في العراق ،وآخر  في مصر .

وناقش ابن تيمية وابن القيم قضايا فقهية قيل فيها إجماع الفقهاء على حكم اجتهادي لا نص قطعي ولم يترددوا في طرح قضايا جديدة تناسب واقعهم وكتب ابن القيم في هذا بما لم يسبق إليه في اختلاف الفتوى لتغير الزمان والمكان والأحوال. وبحق يجب أن تأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد اعادة الاجتهاد فيها إذا مر عليها خمسون عاما أو تغير المكان ألف ميل وهي اشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع لا الثوابت والأصول.

والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية.

الضابط الرابع: الإحاطة إلى الاجتهاد الجماعي في القضايا العامة:

هناك قضايا جزئية أو فردية يمكن لعالم أو إمام أن يفتي فيها وحده سواء ناقلا للفتوى أو مجتهدا أصالة ، لكن القضايا العامة أو بعبارة الفقهاء مما عمت بها البلوى الأصل أن تحال إلى العقل الفقهي الجماعي ، كما ينبغي أن يتحرج أي عالم أو إمام أن يفتي فيها وحده ، وذلك اقتداء بسلفنا الصالح الذي كان يبني الفتوى على هذا التشاور للعقل الجماعي لا الفردي ومنه:

 1 – ما قاله الإمام “أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري” في كتاب “القضاء”: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به ، فإن أعياه ذلك ، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا ، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على  شئ قضى به.

 2- ذكر الإمام الدارمي في سننه بسنده عن المسيب بن رافع أن الصحابة كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها ، وأجمعوا ، فالحق فيما رأوا…

 3 – وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب كان يجمع علماء الصحابة يستشيرهم فيما ليس فيه نص ، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به ، ولما سير أبا موسى الأشعري إلى البصرة أوصاه بذلك.

  •  وروى الطبراني في الأوسط بسنده عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في كتاب ولا سنة ، فكيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ، ولا تقضي فيه برأيك خاصة.

ولهذا نجد الإمام الماوردي في صفحاته الأولى من كتابه الأحكام السلطانية يؤكد على هذا المعنى بإيراده قول الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم                              ولا سراة إذا جهالهم سادوا

 وأحسب أن من اللزوم الضرورية في الاجتهاد الجماعي ما تأسس في المجامع الفقهية من استصحاب ذوي العلم في التخصصات العلمية مثل الطب والفلك والاقتصاد والسياسة والاجتماع  والقانون و… وذلك للتطور والتعقد الذي اصطبغت به الحياة المعاصرة وصار تطور كل جانب يقاس بمدى اتساع آفاقه وفروعه وجوانبه خلافاً لبساطة الحياة وسهولتها من قبل حيث كان العالم الشرعي يلم بأصول الحياة التي تمكنه من الفتوى دون حرج ، لكن الآن يستحيل أن يحيط علماء الشريعة وحدهم بجوانب الحياة المختلفة مما يوجب الاستعانة بالخبراء في المجال الذي يتصل بالفتوى أو موضوع الاجتهاد ، ليس من باب الاستئناس بل من باب التأسيس.

ولا مانع هنا شرعا ولا عقلا أن يكون هؤلاء الخبراء غير مسلمين ، مع ضرروة الإشارة إلى تكوين علماء وفقهاء ومتخصصين من أبناء البلاد الأصليين من الأمريكيين والأوروبيين و… ليكونوا جزءا من المجامع الفقهية بعد اعدادهم دون تعجل ، لكنه أمر يجب أن يوضع في الحسبان ، وأن توضع له البرامج التي تخرجه إلى حيز الوافع العملي.

الضابط الخامس:اجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية في الاجتهاد:

لعل أكثر الناس حاجة إلى تقوى القلب هم العلماء والأئمة لأن زلة العالم يضل بها عالم ، واجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية أمر لا مناص منه في الاجتهاد الصحيح ، لأن غياب الحجة الشرعية يؤدي إلى ضعف الاجتهاد وارتباك الفتوى ، ويؤدي إلى أن يضع الانسان نفسه على حافة جهنم والعياذ بالله من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. ابن القيم يذكر أن كثرة الفتوى من كثرة العلم أو قلته.

أما الخشية القلبية فهي واضحة جلية في النصوص الشرعية حيث يقول الله تعالى: “الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله” ( الأحزاب:39)، ويقول سبحانه: “إنما يخشى الله من عباده العلماء” ( فاطر:28)، والأحاديث كثيرة عن الذين يكبهم الله على وجوههم لأنهم خافوا الناس مع علمهم فسكتوا أو أفتوا بغير ما يعلمون ويقول الله تعالى لهم: كنت إياي أحق أن تخشى ويكب على وجهه في النار.

 هذه في الواقع صارت ضرورة بعد أن كانت غالبة في علمائنا حيث ابتلى الأئمة الأربعة وصبروا على البلاء وأبى كل أن يداهن أو يقول بخلاف ما يعلم ، وكذا “ابن تيمية” و”العز بن عبد السلام” كان يصدع بالحق حتى جعل الله تعالى على يديه صناعة الأمراء ومنهم “سيف الدين قطز” وكان هذا سبباً في مواجهة جيوش “المغول” التى أحرقت الأخضر واليابس وقتلت وهتكت الأعراض وأهدرت تراثاً علمياً رائداً لم يكن هدا الفتح من تحصيل العلوم والمعارف في لبنات العقل فقط بل صاحبه انكسار في القلب من خشية الله دفعتهم إلى قول الحق ولو كان مرا وهذا الذي يجعل العامة توقر العلماء أو تقتدي بالأئمة وتحول القضايا الأساسية من النخبوية إلى الشعبية حتى يشيع الخير ويتم التغيير والإصلاح.

على أن هناك جانباً آخر لهده القضية وهى التى تجعل من هؤلاء العلماء والأئمة أصحاب رسالة مؤثرة تخرج من جدران المجامع والجوامع إلى جميع المواقع هى أن يكون هؤلاء صمام أمان من انفلات المتهورين أو انعزال المتوجسين ليدفعوا بالناس إلى التوسط والاعتدال وحسن الحوار والجدال ولذا قال أستاذنا العلامة الشيخ “القرضاوي” عبارته الدقيقة في “المجلس الأوروبي للإفتاء” في دروته المنعقدة في “فرنسا”: إن اتباع أهواء العامة لا يقل عن اتباع أهواء السلاطين حيث يقترب بعض الدعاة أو الأئمة مما يسمى بـ ما يطلبه المستمعون” فإن وجد من حوله يميلون إلى مذهب معين زكاه على غيره، أو جماعة معينة رفع من قدرها على حساب غيرها، أو يميلون إلى التشديد والعنف يخشى أن يفتى باليسر.

أو وجد بين قوم متساهلين يفتى لهم بالرخص في كل مذهب. وهذا كائن في الغرب خاصة لأن مشايخنا غالبا ما تخضع رواتبهم لمجالس إدارات مختلفة في أمزجتها واتجاهاتها وتضيع معالم الاجتهاد الإصلاحي ليظهر الاجتهاد التسويفي وبهذا يضعف دور العلماء في الشرق باتباع أهواء السلاطين وفي الغرب باتباع أهواء العامة من المسلمين إلا من رحم الله ورزقه قوة في عمله ويقينا في قلبه وشجاعة في نفسه لينهض بواجبه في تقدير المصالح والمفاسد وتحرى الأسباب والمقاصد ويفتى الناس بما يرضي رب الناس. ويحسن التوكل عليه ملتمسا منه الحفظ والأمان فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

فإن ابتلى صبر موقناً أنه بصبره وتوكله على الله سوف تصل رسالته إلي نياط القلوب الحية والعقول الدكية فتؤتى ثمارها بإذن ربها كما ننهل الآن من علم أئمتنا الأعلام مع تباعد الزمان . وهده من سنن الرحمن التى لا تتخلف في أي زمان أو مكان.

الضابط السادس: اعتماد فقه المقاصد في العبادات والمعاملات:

مما لا شك فيه أن أفعال الله تعالى وأوامره تخلو من العبث بل لكل أمر هدف أو أهداف ومقاصد تدركها العقول أو لا تدركها و نحن في فقه الأقليات يلزم أن نرجع الى تراثنا الفقهي وسنجد أن فقهاءنا لا يكاد يخلو أحدهم من فقه المقاصد والتعليل إلا ما ورد عن ابن حزم ومدرسته الظاهرية لكن الجمهور يقولون بالتعليل والمقاصد وإن كان بعضهم كتب مشيرا أو مؤصلا أو منظرا لكن أغلبهم في التطبيق العملي عند الإفتاء والاجتهاد يأخد بالمصالح والمقاصد وإلا ما ظهر القياس وهو جوهر التعليل المحدد والمصالح وهو التعليل الموسع والاستحسان وسد الذرائع والحيل الشرعية وهى في مجملها تدور حول فقه المقاصد.

ولذا يبدو لي أن من الأهمية إعادة دراسة من كتب مشيرا أو منظرا مثل ما كتبه “أبو منصور الماتريدي” في مأخد الشرائع أو ما كتبه القفال الكبير أبو بكر في محاسن الشريعة وما كتبه “أبو بكر الأبهري” المالكي في مسألة الجواب والدلائل والعلل وما كتبه “الباقلاني” في الأحكام والعلل والمقنع في أصول الفقه وما كتبه “الجويني” في البرهان و”الغياثي” وما كتبه “الغزالي” في المستضعف وشفاء العليل والإحياء والنحول وما كتبه “فخر الدين الرازي” في التفسير الكبير وما كتبه الآمدي في الأحكام في أصول الأحكام وما كتبه “ابن الحاجب” في منتهى الوصول والأمل في علمى الأصول والجدل وما كتبه “البيضاوي” في منهاج الوصول إلى علم الأصول وما كتبه “الإسنوى” في نهاية السول في شرح منهاج الأصول وما كتبه “العز بن عبد السلام” في شجرة المعارف وقواعد الأحكام في مصالح الأنام وما كتبه “شهاب الدين القرافي” في الفروق وما كتبه “نجم الدين الطوفي” في المصلحة رغم جنوحه أحياناً.

وما كتبه “ابن تيمية” في الفتاوى وما كتبه تلميذه “ابن القيم” في أعلام الموقعين عن رب العالمين والطرق الحكمية في اصلاح الراعي والرعية وبدائع الفوائد وما كتبه “ابن السبكي” في جمع الجوامع بحاشية البناني وما كتبه وأصله وفرعه الإمام “أبو إسحاق الشاطبي” في الموافقات والاعتصام وما كتبه “الشوكاني” في إرشاد الفحول ونيل الأوطار وما كتبه “شاه الله الدهلوي”.

 وما كتبه الشيخ “محمد عبده” وتلميده الشيخ “محمد رشيد رضا” في المنار وما كتبه “ابن عاشور” في المقاصد الشرعية والتحرير والتنوير وما كتبه “علاء الفاسي” عن المقاصد الشرعية وما كتب على يد أعلام الفقه المعاصر مثل شيخنا “أبي زهرة” و”الخضري” و”على حسب الله” و”الشيخ القرضاوي” و”د. عبد المجيد النجار” و”د. إسماعيل الحسني” و”أحمد الريسوني” و”د. يوسف العالم” و”د. طه العلواني” و”د. محمد البلتاجي” وآخرون.

هده الثروة الهائلة تحتاج إلى دراسة ووعي وهضم يجعل للمقاصد مكانها في العبادات والمعاملات.

وإني هنا لا أفرق بين العبادات والمعاملات في فقه المقاصد وإمكانية إدراكه فقد تخفى على فقيه دون غيره لكن لكل مقصد قد تدرك كثيرا منه في المعاملات ويكون أقل في العبادات لكن عدم العلم لا ينفي الوجود ولذا لم يكن هناك بأس من صلاة التراويح في المسجد أيام عمر وجعلها عشرين وزادها سيدنا عثمان غلى ست وثلاثين وأحدث أذانا في الزوراء وجاز إخراج زكاة الفطر نقدا أو من غالب قوت أهل البلد وجاز في الرجم اختيار أيسر الأوقات للنساء والضعفاء وأصحاب العلات.

لكن فقه المقاصد لا يعنى تجاوز نص قطعي في حكم جزئي لمخالفته في ذهن المجتهد مقصداً عاماً بل الأولى إعمال النص لا إهماله والجمع وليس النسخ أو الترجيح من أول بادرة لأن المقصد الكلي أخد من نصوص جزئية ويستحيل تعارض الجزئي مع الكلي في النصوص الشرعية   ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

ولعل أكثر الفقهاء الأول الذين جمعوا العمل بالنص في الأمر الجزئي والمقصد الكلي سيدنا “عمر بن الخطاب” حيث توقف في تقبيل الحجر الأسود والاصطباع والرمل مع النص، وتوسع في الاجتهاد المقاصدي في سهم المؤلفة قلوبهم في مصادر الزكاة وقطع يد السارق في باب العقوبات والإلزام بالطلقات الثلاث، ومنع “أبي حديفة” من الزواج بالكتابية ومنع توزيع أرض السواد وورث الأم الثلث الباقي بعد الزوج ليعطي للأب ضعف الأم والعول والمسألة المشتركة و… مما أجاب عنه أستاذي الدكتور “محمد بلتاجي” في منهج “عمر بن الخطاب” في التشريع في أن سيدنا “عمر” كان ممن ينحو نحو فقه المقاصد والمصالح في جميع الأحكام والأقضية.

 ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن حادثة صلاة العصر في بني قريظة كانت اجتهادا مقاصديا في أمر تعبدي فيه نص قطعي دلالة وثبوتا لكن الذين صلوا في الطريق هم سلف أهل المعاني والقياس والذين صلوا في بني قريظة هم سلف أهل الظاهر كما ذكر ابن القيم وهما نمطان فكريان وتبقى أن تجتمع القلوب مهما اختلفت العقول فإن اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.

 الضابط السابع: مراعاة الأولويات وفقا للإمكانات الداخلية والظروف الخارجية:

من الواجب حقا أن تراعى الأولويات وفقا لهذين المعيارين “الإمكانات الداخلية والظروف الخارجية” اقتداء بالهدى النبوي والنص القرآني مما لا يخطئه البصير بكل مرحلة من مراحل الدعوة .

ففي المرحلة الأولى كان إخفاء الدعوة ولم يعلن عن أسماء المسلمين حتى أسلم حمزة وعمر وكانت علانية الدعوة واستمر إخفاء أسماء الضعفاء وهاجر قوم إلى الحبشة منعا للصدام وفتحا للحوار وللدعوة في أرض لا يظلم فيها أحد وكان المنهج “كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة”.

ولم يستجب النبي “صلى الله عليه وسلم” للظروف الخارجية من الإيذاء والتعذيب والاستهزاء حتى قتلت سمية بنت خياط بضربة في قبلها وقتل زوجها ياسر والنبي يقول: صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة. ونهى سعدا أن يستعجل أمرا قبل أوانه لقوله تعالى: “ولا يستخفنك الدين لا يوقنون” لكن النبي لما صارت عنده دولة لم يسكت على مجرد كشف عورة امرأة مسلمة في سوق “بني قينقاع” وهو أمر أيسر كثيراً مما حدث مع “سمية”، لكن الآن معه دولة بعد أن كانت جماعة مطاردة ، ومع هذا واجه “بني قينقاع” وعلمنا العدل بعدم تعرضه لكل اليهود وكان بجوارهم “بنو النضير” و”بنو قريظة” لم يتعرض لهم حيث لم تبد منهم خيانة آنئد.

لكن النبي مع وجود الدولة كان مستعدا للتفاوض مع بعض قبائل “بني غطفان” وغيرهم على أن يعطوا ثلث ثمار المدينة عندما جاء عشرة آلاف مقاتل إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين، ومع حفر الخندق لم يعد هناك حماية بعد خيانة يهود “بني قريظة” من ناحية الجنوب فصارت المدينة بلا حماية، ولولا رفض قيادات المدينة لكان الأمر قد تم.

وتساهل أيضاً في بعض الكلمات والبنود في صلح الحديبية مثل كتابة باسمك اللهم، ورسول الله، أو شرط رد المسلم إلى الكفار إن وصل إلى المدينة وذلك لأولوية أكبر وهي الانتشار الدعوي داخل الجزيرة وخارجها ولم يدفعه جلد المؤمنين وبيعتهم على الموت والجهاد وصلف الكافرين في ردهم لهم عن المسجد الحرام أو الشروط لأن هناك أولوية أكبر وهى الانتشار الدعوى داخل وخارج الجزيرة ولم يصغ الى حمية “عمر بن الخطاب” وغيره ولم يتراجع عندما توقف الأصحاب عن التحلل بالحلق والذبح بل مضى غير مجامل ولا تابع لهده الرغبات العارمة ويزداد الأمر وضوحا في سيرته عندما دخل “مكة” فاتحاً ودخل الناس في دين الله أفواجاً لكنه لم يهدم الكعبة ليبهينها على قواعد “إبراهيم” خشية أن يرتد حديثو العهد بالاسلام ولم يقتل المنافقين مراعاة لأولوية جمع الصف ولم الشمل وألا يصد هذا أحداً عن الدخول في الإسلام وهو نفس المبدأ المستفاد من موقف سيدنا “هارون” مع “بني اسرائيل” لما عبدوا العجل وعاتبه سيدنا “موسى”.

 هذه بعض الأدلة على مراعاة الأولويات وهو ما أصله أستاذنا العلامة الشيخ “القرضاوي” في فقه الأقليات والأولويات والمآلات والموازنات وشاركه عدد من العلماء مما يحتاج إلى مزيد تأصيل وتعميق وتوسيع حتى يكون جذراً من جذور الاجتهاد في كل اجتهاد خاصة فقه الأقليات.

 ويبدو لي وهدا يحتاج الى اجتهاد جماعي أن أولويات المسلمين في الغرب تترتب كما يلي:

 أولاً: التوازن بين بناء الرجال والنساء وبناء المؤسسات.

ثانياً: اعداد قيادات حية من أبناء البلد الأصليين.

ثالثاً: استيعاب الشباب والفتيات في برامج تربوية ودعوية متدرجة.

رابعاً: الوحدة الإسلامية بين الجماعات والجنسيات.

خامساً: السعى لبناء الوقف الخيري لاستقرار المؤسسات الإسلامية.

سادساً: انشاء قنوات فضائية ومؤسسات اعلامية باللغات الحية في العالم.

سابعاً: فتح الحوار والجدال بالحسنى مع غير المسلمين وتقديم النفع لهم.

ثامناً: انشاء مشاريع اقتصادية على أسس اسلامية توقف استمرار أموال المسلمين تروسا في عملية الاقتصاد الربوي.

هذه مجرد رؤية عامة تحتاج الى نظر فقهي جماعي كما أنها لا تلغي خصوصات كل بلد واقليم ومدينة فأهل مكة أعلم بشعابها  ولا شك أن أولويات مسلمي أمريكا وأوربا الذين يتمتعون بحريات كبيرة غير أولويات مسلمي الهند وكشمير والشيشان بل ودولنا الأسلامية تختلف حيث تأتي الأولوية هنا المطالبة بالحريات وحق العيش الكريم ووقف العنصرية والاعتداء على الحرمات والمقدسات.

 ولا شك أيضا أن أولويات الأمة عامة نحو القضية الفلسطينية تختلف عن مسلمي الداخل في فلسطين الدين فرضت عليهم ألوان من الظلم والقهر والقتل التخريب مما فرض عليهم المواجهة على حين يجب على بقية الأمة المساندة.

الضابط الثامن: التقريب بين المذاهب والانتقاء أو الابداع في الاجتهاد:

هناك مغالاة في قضية المداهب بين من يدعو إلى إلغاءها “إسلام بلا مداهب” أو العصبية المدهبية في التقيد بآراء المذهب وإن كانت أضعف استدلالاً، أو أبعد مناسبة للمتغيرات الزمانية والمكانية والوسط في كل شئ أعدله وهو التقريب بين المذاهب كما طرق الشيخ “أبو زهرة” في الوصية عند “الجعفرية” وذكر أن المذاهب مثل الجداول الصغيرة التى يجب أن تصب في نهر الإسلام الكبير، ومن الخطأ الكبير اعتبار المذهب هو الدين أو نهر الإسلام الوحيد والمسلمون مع تقارب الكرة الأرضية من بعضها حتى صارت مثل القرية الصغيرة أو الفندق الكبير لم يعد ممكناً ولا مقبولاً بقاء مثل هذه العصبية المذهبية ونحتاج هنا أن نستحضر هذه الصور الحية في قبول الرأي الآخر منها ما يلي:

أولاً: ما روى عن “عمربن الخطاب” أنه سئل عن أمر فرد السائل علي سيدنا “علي بن أبي طالب” فلما رجع بعد الاستفتاء سأله عن الجواب فأخبره فقال له: لو أفتيتك لقلت بغير هذا، فقال الرجل: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين؟ فقال سيدنا عمر: لو كنت أردك الى كتاب أو سنة لفعلت ولكن أردك إلى الرأى والرأي مشترك.

ثانياً: ما روى أن “أبا حنيفة” استفتى في مسألة لا نص فيها فأفتى برأيه فقال له السائل: أو ما تفتى به هو الحق الذي غيره الحق، إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين”، ولذا خالفه تلاميذه النجباء “أبو يوسف” واين أبي ليلى ومحمد بن الحسن الشيباني وخالف بعضهم بعضاً وبقى اختلاف ثراء في العقول وليس وباء في القلوب.

رابعاً: ما استقر عليه العرف الفقهي من تعريف الاجتهاد بأنه بذل الفقيه أقصى جهده في استنباط حكم شرعي ظني، والظن لا يلغي حق الغير في اعادة الاجتهاد واستنباط حكم آخر.

 خامساً: صار من المعلوم من الواقع بالضرورة في بلادنا الإسلامية الأخذ من جميع المذاهب دون عصبية أو حساسية ومنه ما يلي :

أ-أخذت مصر والأردن وسوريا والمغرب بالوصية الواجبة من الفقه الشيعي الجعفري .

ب- أخذت أغلب الدول الإسلامية بترجيح ابن القيم وغيره في اعتبارالطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة ، خلافا لرأي الأئمة الأربعة مجتمعين.

ج- أخذت كثير من الدول بالحرمان من الميراث للقتل الخطأ خلافا لأغلبية الناس في بلادها الذين يتبعون المذاهب التي ترى أن القتل العدواني فقط هو المانع من الإرث، وذلك لشيوع الفساد والاحتيال في إخفاء قتل العمد.

د- صارت جميع المجامع الفقهية تعتمد الاختيار والانتقاء من المذاهب الثمانية ( الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والإباضي ) ، فهل يبقى المسلمون في الغرب أو الشرق وهم أقلية بعيدا عن هذا التسامح واتساع الأفق.

إن أية أقلية ستجد فيها جميع المذاهب ،ولذا يجب أن تسود روح التسامح في الأخذ بالأقوى دليلا والأنسب حالا من أي مذهب ، وقد يضطر المسلمون إلى الاخذ بالمذهب المرجوح لمصلحة أكبر، ولذا لا يصح الإنكار على المجلس الأوربي للإفتاء في فتواه بجواز ميراث المسلم من غير المسلم ، مع موافقة ذلك لرأي “معاذ بن جبل”، و”معاوية بن أبي سفيان”، و”محمد بن الحسن”، و”سعيد بن المسيب”، و”مسروق” و”يحيى بن يعمر” و”إسحاق بن راهوية” و”ابن تيمية” و”ابن القيم” مع خلاف هذا لما اتفق عليه الأئمة الأربعة، كما لا يصح الإنكار في الفتوى بجواز بقاء المرأة المسلمة لدى زوجها الذي لم يسلم لورود الخلاف فيها وتحقق مصالح شرعية ودعوية عديدة ، وإن كان هذا خلاف الرأي السائد لدى جمهور الفقهاء.

الضابط التاسع : تبني فقه التيسير ومراعاة التدرج :

من خصائص الإسلام اليسر ، ومن قواعده رفع الحرج ومنع الضرر ، ومن سماته الرحمة ، وهذه يجب أن تبقى معالم وقواعد تحكم الاجتهاد مهما قيل إنه تساهل وترخص وتحلل من عروة الدين، لأن هذا هو جوهر الشريعة ، وقد صح عن النبي “صلى الله عليه وسلم” أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما ، ولم تكن هناك دلالة على مراعاة اليسر قبل حادثة المحترق الذي جامع أهله في نهار رمضان ، والأعرابي الذي بال في المسجد ، وفي كل كانت كل خصائص الرحمة واليسر ورفع الحرج تتعامل مع الموقف ليس كحالة بل ظاهرة ، ومنهج في التيسير ورفع الحرج، بل جامع الرجل أهله ولم يقدر على الصوم شهرين أو الإنفاق والإطعام واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :”أطعم أهلك ولا تعد”، بعد أن أخذ قدرا كبيرا من التمر بعد كل ما فعله.

لعل هذا هو ماحدا بأستاذنا الشيخ العلامة الشيخ القرضاوي إلى استقراء التاريخ الفقهي ولاحظ أن أعلى درجات التيسير ورفع الحرج  والتدرج كانت في فقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده ، وبدأ الأخذ بالاحتياط  شيئا فشيئا حتى كادت أن تغلق بالاحتياط كل أبواب التسير، والأولى العودة إلى سلف الأمة وصدر عهدها.

ولقد كان “الشاطبي” بارعاً في بحث علاقة التخفيف بالمشقة تحت عنوان مقصد الشارع من وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ، فذكر أن الشارع يعمد إلى المشقة والتشديد عند الانحلال والتفسخ ( العقوبات ) والتيسير عند الغلو في الدين مثل صيام وقيام “عبدالله بن عمرو بن العاص”، ورغبة “سعد” في التصدق بكل ماله ، لكن بين هذين هناك التوسط والاعتدال في فرض الصلاة والزكاةم والصيام والجهاد ، وارتبطت المشقة بالمصالح ، فهناك مشقة محدودة بالتكليف بصلاة الفجر ومشقة بالغة في التكليف بالجهاد ،وبينهما مشقة الحج والرع يراعي هناك حجم المصالح المترتبة، فيقدم التكليف مع ما فيه من مشقة ، ولكن إذا انعدم هذا القدر من المصالح ، فالأصل هو التيسير.

أما مراعاة التدرج خاصة مع المسلم الجديد ، والمسلم التائب بعد حياة بعيدة ، ولا يعني هذا إن سأل عن حكم شيء أن نخالف المقطوع به شرعا ، بل هناك فرق بين أن يعرف الطبيب المؤمن أن المخدرات محرمة ومدمرة ، وبين أن يتدرج معه في العلاج حتى يدع تعاطيها .

الضابط العاشر: الاجتهاد في ايجاد بدائل مشروعة للمنهى عنه في واقع الأقليات:

من الضروري الا يغيب عن الفقيه أو الأمام أن يوجد للمسلمين بدائل شرعية للأوضاع النهى عنها شرعا ، والا يكتفى ببيان الحرمة أو الكراهة ، ومن الأمثلة على ذلك في واقع الأقليات ما يلي:

أولاً: إذا بالغ الزوج في ايداء زوجته والاضرار بها وطلبت اليه زوجته الوحيدة في الغرب ان نلجأ معا إلى التحكيم الشرعي فأبى فليس على الفقيه أو الإمام أن يفتيها بالذهاب الى المحكمة في الدولة غير الأسلامية.

ثانياً: إذا كان الأب معيلاً ولا يجد من يقرضه قرضاً حسناً أو يشاركه في ثمن منزل بالطريق الشرعي فليس من حرج على الإمام أن يفتيه بشراء بيت بالقرض الربوي إذا لم يجد سبيلاً غيره وكانت الأسرة معرضة للشتات.

ثالثاً: إذا كانت الاعتداءات على مؤسسات وبيوت المسلمين في الهند لا تتوقف فلا حرج فيما انتهى اليه المجمع الفقهي بالهند الى جواز التأمين على هذه المؤسسات أو البيوت مع اقرارهم بما فيه من ربا وقمار وغرر… حتى يستطيع المسلمون مواصلة الحياة والا شردوا.

هذه أمثلة لا تفيد الحصر ولا تعنى أن يكون البديل هو الأخذ بالرخصة أو ارتكاب المحرم للضرورة التى تقدر بقدرها فبعض من أرادوا شراء بيوت وهم موضع ثقة طلبت منهم أن يذهبوا الى بعض الموسرين ويشتركوا في شراء منزل ويستأجر حصتهم ثم يكون في العقد حق شراء حصة واحد وراء الآخر بسعر يوم الشراء وتم ذلك والحمد لله والأقليات اذا كثرت في تجمع واحد يمكن أن يباشروا الذبح الحلال لكنه لا يكون بديلا في أماكن أخرى.

هذه إجمالاً رؤية متواضعة فيها جهد المقل وأدعوا الله أن يكتب لي أجر الاجتهاد المضاعف فيما أصبت، والأجر الكامل فيما أخطأت، والله  تعالى من وراء القصد؛ وهو نعم المولى ونعم النصير.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق