البحوث

السياسة و الدين في الغرب الحديث

السياسة والدين

في الغرب الحديث

 الدكتور رقيق عبدالسلام
بحث مقدم

للدورة السادسة عشرة للمجلس – اسطنبول

جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م

بسم الله الرحمن الرحيم 

 1 ـ الحروب الدينية والعلاج العلماني:

من المهم لفت الانتباه إلى أن علاقة الدين  بالسياسة عامة، وبالدولة خاصة لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقات التاريخ السياسي الغربي، كما أن الحديث عن المسألة الدينية في الغرب الحديث لا ينفصل عما يمكن تسميته بالحل العلماني الذي فرض نفسه على الفضاء السياسي الغربي خلال القرنين الأخيرين على الأقل، مع تفاوت في درجة الأخذ بهذا الحل من بلد غربي إلى آخر.

كانت العلمانية في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها أجواء الحروب الدينية التي شقت القارة الأوروبية بدءا من القرن السادس عشر، بما جعل من غير الممكن استمرار الوضع على ما كان عليه، أو  العودة به إلى  ما قبل مرحلة الحروب الدينية.

فقد حاولت الكنيسة البابوية في روما مثلا إعادة فرض الانسجام الداخلي المفقود بقوة الحديد والنار، ولكن الشروخ التي فتحتها موجة الحروب الدينية  أخذت من الاتساع مأخذا  يفوق إرادة الرتق البابوي.

وهذا لا يعني أن تاريخ المسيحية عامة، والمسيحية الأوروبية خاصة، كان تاريخ الموادعة والسلم، أو أن حروب القرن السادس عشر كانت مجرد حدث استثنائي وعابر  في مسار التاريخ الكنسي،  فقد كان التاريخ  المسيحي في صورته الغالبة عبارة عن حالة دائمة من الصراعات والمنازعات الباردة والساخنة بين مختلف الطوائف المسيحية وغيرها، ولكن ما ميز الحروب الدينية للقرن السادس عشر قياساً بسابقاتها هو اتساع الشرخ الذي فتحته داخل المسيحية الكاثوليكية مع عجز الكنيسة عن استعادة زمام المبادرة، بما جعل البروتستانتية تتحول من مجرد “هرطقة” ناشزة، إلى “دين” جديد منازع للدين الرسمي.

لئن تمكنت الكنيسة البابوية ومنذ وقت مبكر ( أي منذ أن احتضنتها الدولة الرومانية) من فرض نوع من الانسجام والاستقرار الداخليين في عموم أوروبا المسيحية، إلا أن  ذلك لم يكن  بمنأى عن استخدام ضروب شتى من القهر الديني والكبت الفكري.

كانت الكنيسة البابوية مهووسة بإدارة حرب دائمة لا هوادة فيها ضد من  أسمتهم هراطقة الداخل، أي مختلف النحل المسيحية التي لا تنسجم تأويلاتها الدينية مع التأويل الرسمي للكنيسة البابوية في روما، وضد  وثنيي وكفرة الخارج الذين يهددون أتباع الصليب والكنيسة، أي ضد اليهود والوثنيين ثم المسلمين.

ولعل هذا  ما حدا بالمؤرخ الفرنسي داليمو إلى  القول بأن سر عبقرية الغرب المسيحي الأوروبي، إن كانت هنالك عبقرية أصلا، إنما تكمن أساسا في قدرته الخارقة على الاستمرار والتعايش مع موجات القتل والحروب المرعبة التي كان لها أن تطمس وجوده وتخسف كيانه من الأساس.

فمأساة الحروب الدينية  وما صحبها من  أوبئة مفنية وأمراض مهلكة للحرث والنسل، والتي كان من الممكن أن تنهي أي معنى للحياة المدنية، هي نفسها التي دفعت بالأوروبيين إلى البحث عن الخروج من هذا النفق المظلم عبر انتهاج الحل العلماني، وقد بد أ هذا الحل  اجتراجا عمليا لوفاقات دينية بين مختلف الطوائف المتنازعة، قبل أن يكتسب الحل دلالة فكرية أو سياسية محددة المعالم فيما بعد.[4]

مرت  أوروبا وعلى امتداد مائة وثلاثين سنة متتالية ( 1559-1689)، أي منذ ظهور الحركة البروتستانتية في الشمال الأوروبي وتمدّدها نحو الوسط بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة.

ففرنسا مثلاً امتدت حروبها الدينية زهاء ستة وثلاثين سنة تقريباً (ما بين 1562 إلى1598 )  قبل أن تتجدد مرة أخرى في القرن السابع عشر، مخلفة وراءها ركاما هائلا من القتل والتدمير والانتقام المتبادل بين الكاثوليك والطائفة البروتستانتية الكالفينية.

أما ألمانيا فقد  امتدت حربها  الدينية هي الأخرى ما بين 1618 و 1648  في إطار ما عرف وقتها  بحرب الثلاثين سنة.

ورغم أن حروب بريطانيا  وثوراتها الداخلية لم تكن لأسباب دينية محضة إلا أن العامل الديني لم يكن غائبا منها تماما، سواء أكان ذلك فيما عرف  وقتها بالثورة الطهورية التي امتدت من  1660 إلى غاية  1688، ثم  ثورة  المجد ما بين سنتي 1688 –1689. كما مرت أسبانيا والنمسا وأغلب ممالك أوروبا الغربية بأجواء مشابهة تقريباً.

وفعلاً تمكنت الكالفينية وفي أقل من ثلاثة عقود من  الزمن من السيطرة على سكوتلندا والأراضي الشمالية للبلاد الأسكوندينافية، وتمكنت بصورة مؤقتة  من الاستيلاء على السلطة في بريطانيا مع محاولات مماثلة في فرنسا وألمانيا وبولونيا وهنجاريا[5].

وفي مواجهة ذلك حاولت الكنيسة الكاثوليكية،  ومنذ أواسط القرن السادس عشر وإلى غاية منتصف القرن السابع عشر استعادة وحدة المسيحية البابوية بكل ما هو متاح من أدوات القتل والانتقام وألوان التنكيل التي  يشيب لهولها الولدان… من ذلك أنه أضحى غير كاف عدم المجاهرة بالعداء للكنيسة بل لا بد من الكشف عن السرائر و”شق” الصدور، في إطار ما أطلق عليه فيما بعد  اسم محاكم التفتيش.  ولكن مع كل هذه المحاولات المضنية التي قامت بها الكنيسة البابوية بهدف إلغاء حالة الانقسام التي شقت الكنيسة بقوة الإكراه والعنف،  ظل الشرخ عميقا ولم تقدر على رأبه أو إلغائه.

فقد غطى الانقسام الطائفي جميع المستويات الاجتماعية والسياسية: الأمم والمدن والقرى والعائلات، وعليه زادت  الكنيسة في استفحال الأزمة بدل مداواتها، وتبعا لذلك فقدت  قدرتها على التوحيد الاجتماعي والنظم السياسي.

ومن  أعماق هذه الأزمة الواسعة بدأت تتخلق بذور التعايش بين مختلف الطوائف المسيحية، ومن أتون هذه الحروب الدامية بدأت تتبلور مقولة التسامح الديني، أي فكرة التعايش السلمي مع حالة التعدد الديني والتنوع الطائفي، وقد اقتضى ذلك جهدا كبيرا في  إعادة تأويل مصادر التفكير المسيحي .

والخلاصة من كل ذلك، أن العلمانية السياسية، بما هي فصل الكنيسة عن الدولة لم تكن خياراً أيديولوجياً بقدر ما كانت حلاً إجرائياً فرضته الصراعات الدينية، في حالة تاريخية كانت  مطبوعة بالتصدع والأزمات الخانقة بما جعل من غير الممكن تأسيس الاجتماع السياسي والثقافة العامة على أساس وحدة الدين، وقد اقتضى ذلك إعادة بناء التفكير الديني على ضوء الموازنات الجديدة التي أفرزتها هذه الحروب الدينية.

ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا تجد العلمانيات الغربية  إلى يومنا هذا  صعوبات كبيرة في التعاطي مع الوجود الإسلامي الناشئ –كما وجدت قبل ذلك صعوبة في التعامل مع الأقليات اليهودية – على كثرة ما يرفع من شعارات التسامح والتعايش الديني والثقافي، فمبعث ذلك يعود إلى كون مفهوم التسامح الذي  نشأ في مناخات الحروب الدينية لا يعدو أن يكون استجابة لمعالجة الانقسام الحاصل داخل الكنيسة بالأساس، ولم يكن معالجة لمشكلة التعددية الدينية بإطلاق، ومن ثم  لم يكن من اليسير تمديد هذا المفهوم ليشمل طوائف دينية ومذهبية أخرى خارج إطار الكنيسة الرسمية أو الديانة المهيمنة، وإن كان ذلك لا ينفي وجود محاولات محتشمة  يبذلها اليوم بعض رجال الدين من ذوي التوجهات الليبرالية لتمديد فكرة الخلاص الديني لتشمل الديانات المغايرة  بدل اقتصارها على أتباع  المسيح المخلص، كما أن هناك محاولات يبذلها بعض المفكرين الليبراليين لتوسيع نطاق فكرة التسامح لتشمل المسلمين.

قامت الإصلاحية البروتستانتية دون وعي منها بزرع بذور  العلمنة السياسية في عموم القارة الأوروبية وخاصة في الشق الشمالي منه، أين تمكنت اللوثرية والكالفينية من مد جذورها وتثبيت أقدامها.

ولا يعني ذلك أن الإصلاحية البروتستانتية التي نادت بالعودة إلى أصول الكتب المقدسة وما أسمته بالآباء الروحيين بديلا عن التأويلات الكنسية الرسمية، لا يعني أنها كانت تهدف بمحض إرادتها إلى تحفيز حركة العلمنة، أو الانعطاف عن الدين بقدر ما تمخضت هذه الحركة عن جملة من التداعيات السياسية والاجتماعية  لم تكن هي نفسها واعية بمآلاتها ونهاياتها، ومن أهمّ تلك التداعيات الممهّدة للعلمانية ما يلي:

أولاً: تفجير عرى النظام السياسي والاجتماعي”الوسيط” الذي كانت تقوم  البابوية الكاثوليكية على شد عراه، ولحم سداه، وذلك بحلّ الترابط  الوثيق الذي كان يربط الكنيسة البابوية بالدولة الإقطاعية، فضلاً عن الادعاءات الثيوقراطية المقدسة التي كان يتأسس عليها النظام السياسي الاجتماعي وقتها.

كانت البروتستانتية بمثابة الفتيل الذي أشعل لهيب حروب دينية وطائفية واسعة النطاق، الأمر الذي أدخل النظام الإقطاعي الكنسي في أتون أزمة خانقة لم يقدر على تجاوز مخلفاتها، ولا تدارك ذيولها، ومن ثم فتحت هذه الحروب الأفق التاريخي أمام العلاج العلماني دون وعي منها، فمن رحم الحروب الدينية تشكلت مقولة الفصل بين الكنيسة والدولة، ثم مطلب تموضع هذه الأخيرة فوق الصراعات الطائفية باعتبارها حامية السلم المدني، مع إخضاع الكنيسة لسيادة الدولة القومية.

ثانياً: وفرت البروتستانتية الشروط التاريخية، والمسوغات الدينية والكلامية التي ساعدت على تعاظم سلطة الدولة الزمنية، التي ستصبح تدريجيا أهم قوة محركة للعلمنة في الفضاء السياسي والثقافي الغربي.

فقد عملت الدولة الزمنية على افتكاك الكثير من الوظائف السياسية والاجتماعية التي كانت تستأثر بها الكنيسة، كما قامت على  صهر المختزنات المسيحية ضمن وعاء المشاعر القومية المتمركزة حول فكرة الأمة، وفكرة والمجد القومي المطبوعتين بروح دنيوية معلمنة[6].

بل إن الدولة القومية الحديثة قد أخذت الكثير من الطقوس والبنى التي كانت حاضرة في الكنيسة ضمن وعاء معلمن بما يعزز شرعيتها الرمزية وسلطانها الفعلي على الأرض.

 لقد حرص الإصلاحيون البروتستانت وفي معرض تبرمهم من الكنيسة البابوية، وسعيهم إلى توهين نفوذها على منح الحكام الزمنيين والسلط “العلمانية” شرعية كاملة وصلاحية مطلقة في إدارة الشأن الدنيوي، وفي مقدمة ذلك تسويغ استخدام السيف  بهدف فرض الاستقرار المدني بين الناس المدفوعين بطبائعهم الشريرة إلى ارتكاب الآثام، والإقدام على الظلم والعدوان على ما يقول “لوثر” مثلاً.

ومن المعلوم هنا أن نظرة الآباء الإصلاحيين  للاجتماع السياسي  تتأسس  على تصور قاتم ومخيف للذات البشرية، إذ هي تكاد  تتطابق عندهم  مع غريزة الاستحواذ والعدوان، وهي نفس الوجهة  التي  سيعمل بعض الفلاسفة السياسيين المنعوتين بالواقعيين وخصوصا هوبس في القرن السابع عشر على  دفعها إلى حدودها القصوى[9].

كما نادت الإصلاحية عامة بضرورة طاعة الحاكم، وإلى الخضوع للسلطة الزمنية مهما كانت أخطاؤها وانحرافاتها، وذلك باعتبارها ضامنة السلم المدني،وصاحبة السيادة الشرعية على أجساد المؤمنين.

ولم يكتف  “لوثر” بتفكيك أسس الشرعية الدينية والكلامية التي تتأسس عليها سلطة الكنيسة البابوية، بل أكثر من ذلك عمل  على ملء الفراغ الديني والسياسي الذي تركته البابوية، وذلك  عبر مقولة  حق الأمراء في إدارة الشؤون الزمنية  والدينية على السواء، بما في ذلك حقهم  في  ممارسة  سلطتهم الإكراهية على الكنيسة نفسها، كما دافع لوثر عن  مقولة الطاعة المطلقة للحكام الزمنيين، حتى وإن كانوا من صنف الحكام  الظلمة والمتجبرين.

صحيح أن النموذج الأمثل الذي ينشده لوثر هو نموذج من أسماهم  بالأمراء الربانيين الذين يديرون شؤون الرعية برأفة وعدل، ولكن في حالة انعدام هذا النموذج الأمثل (وفعلا أضحى هذا النموذج غائبا في عصره) فإن مبدأ الضرورة السياسية- أي ضرورة فرض السلم المدني ومنع العدوان- فرض عليه إعطاء الأولوية للطاعة والانضباط المطلقين على المطالب الأخلاقية المثالية.

ثالثاً: عملت البروتستانتية على نزع الغطاء الديني عن الكنيسة البابوية من خلال دمغها بالمروق الديني  والفساد المالي، ومن ثم تجريدها من مشروعية التحكم في أرواح المؤمنين وأجسادهم، ومثال ذلك أن مقولة الخلاص الديني عند الإصلاحيين البروتستانت أضحت مرتبطة بدواخل  المؤمن وإرادة الرب، وما عاد لها علاقة مباشرة بالكنيسة ورجالاتها.

فالخلاص الديني عند “لوثر” و”كالفن” وبقية تلاميذهما يتأسس على الانتداب أو الاصطفاء الربوبي في تخليص من يشاء من عباده ولا صلة له بالكنيسة من قريب أو من بعيد، كما عملت  البروتستانتية بالتزامن مع ذلك على نفي فكرة حق  الكنائس التدخل المباشر في مجال السلطة السياسية الزمنية[8].

ورغم أن لوثر  أعاد الاعتبار لثنائية المتكلم المسيحي “أوجستين” الراجعة  للقرن الرابع ميلادية، تلك الثنائية القائمة على مملكة الرب الروحية ومملكة الإنسان الزمنية الفانية، إلا أن  المملكة  الروحية عنده وخلافا لأوجستين تتعلق بالمجال الباطني الروحي للمؤمن أساسا ولا تتعداه إلى المجال الزمني.

رابعاً: ساهمت الحركة الإصلاحية في تعميق نزعة استقلالية جهوية عن الكنيسة البابوية في روما، ومن ثم  إعطاء زخم جديد  للروح القومية الآخذة في التبلور، وعلى هذا الأساس أصبحت البروتستانتية حاملا لمشاعر قومية وإن كان ذلك ضمن وعاء لغة دينية ورموز إنجيلية.

فاللوثرية في “ألمانيا”، والكالفينية في “سويسرا” لم تكتف بالحمل على البابوية واتهامها  بالفساد الأخلاقي والديني، بل عملت  فضلاً عن ذلك على إقامة  كنائسها الخاصة في المواقع الجغرافية التي سيطرت عليها، وانتزعتها من بين أيدي السلطة البابوية في “روما”… وفعلاً تحولت هذه الكنائس بشكل أو بآخر إلى خزان حامل لمشاعر جهوية انفصالية، مهدت الطريق لما عرف لاحقا بتشكل بالروح القومية[10].

ما سبق ذكره أعلاه يبين أنه لا يمكن تقديم قراءة جادة لحركة العلمنة في السياق الغربي بمعزل عن القوى الفاعلة والمحركة لهذه الظاهرة، ومن ذلك خطل تلك المقولة الرائجة في أوساط الكثير من المثقفين العرب والمسلمين والتي مفادها أن الغرب المسيحي قد سار على درب العلمانية لمجرد كون المسيحية قد نادت بإعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أو لمجرد  وجود خطاب فلسفي منافح عن قيم العلمنة أو الإلحاد، دونما انتباه يذكر إلى الطابع المركب والمعقد سواء للمسيحية- نصوصا ومواريث كلامية- أو للتجربة تاريخية.

صحيح أن  النصوص الدينية المسيحية  قد تم استدعاؤها وإعادة تأويلها بما يخدم خيار العلمنة السياسية، كما  استعملت سندا قويا سواء  لتبرير فصل الكنائس عن الدولة أو لإخضاعها بالكامل لسلطة الدولة الزمنية، ولكن مع ذلك يبدو لي أنه ما كان من الممكن الاتكاء على هذه المسوغات الإنجيلية والكلامية لولا ظهور الدولة الزمنية والقوى الاجتماعية العلمانية كقوى منافسة للكنائس ورجال الدين.

وعلى هذا الأساس لا يمكن فهم حركة العلمنة من خلال التبريرات الكلامية أو المسوغات النظرية التي قامت عليها، بمعزل عن البواعث التاريخية والقوى الاجتماعية الدافعة لها.. فالعلمانية تظل في جوهرها حركة اجتماعية تاريخية لها بواعثها الموضوعية، وحملتها الاجتماعيون قبل أن تكون منتجا آليا للنصوص الإنجيلية، أو إفرازاً لمدونات اللاهوتيين أو تنظيرات الفلاسفة.

ومثال ذلك  أن  مقولة إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر التي وردت في الأناجيل نقلا عن السيد المسيح عليه السلام، كانت هي نفسها تفهم ضمن السياق المسيحي الوسيط باعتبارها دعوة  للجمع بين الديني والسياسي، وهي نفسها أصبحت تفهم في أجواء “الأزمنة الحديثة” وصعود قوى العلمنة بدءا من القرن السادس عشر على أنها دعوة للفصل بين الكنيسة والدولة. وهذا الأمر يدل على أن عملية تأويل النصوص الدينية لا تنفصل في حقيقة الأمر عن طبيعة الأوضاع التاريخية التي تتنزل ضمنها، وعن الأجواء الثقافية والمشاغل السياسية للمؤولين.

وعلى الجملة يمكن القول إن العلمانية كانت  في محصلتها النهائية تعبيراً عن انكسار المعادلة التاريخية التقليدية القائمة على الكنيسة المستحوذة على الدولة لصالح معادلة جديدة تحتل فيها الدولة اليد العليا فوق  الكنيسة، أو لنقل الدولة المستحوذة على الكنيسة، الأمر الذي حفز القوى الجديدة من خارج الكنيسة أولاً، ثم من داخلها فيما بعد على إعادة تأويل النصوص الدينية بما لا يصادم المعادلة الجديدة التي استقرت لصالح الدولة الزمنية، وقوى العلمنة على حساب القوى الكنسية.

ورغم أنه لا يمكن نكران دور الخطاب الفلسفي والأكاديمي في تحريك قاطرة العلمنة، ومدها بالمستندات النظرية التي تحتاجها، وخصوصا خلال القرنين الأخيرين، ولكن يبدو لي أنه من المبالغة إرجاع كل شيء للفكر وبنى الوعي.

ولا يمكن  فهم حالة الدفق الهائل التي شهدتها حركة العلمنة خلال القرنين الماضيين بمعزل عن التحولات الواسعة التي خضع لها الواقع الغربي في مجال الاجتماع والاقتصاد ووسائل العيش، وما جلبته معها من تبدلات في أنماط الحياة وأشكال الرؤية للعالم ولنظام القيم، من ذلك مثلا تزايد نسب سكان الحواضر والمدن على حساب الأرياف والبوادي، والتحول من الاقتصاد الزراعي البسيط إلى الاقتصاد الصناعي القائم على مكنة الآلة، فضلا عن ارتفاع نسب التعليم وشيوع الثقافة العالمة التي تقوم على التعليم الإجباري في المدرسة  محل ثقافة الكنيسة.

كما أنه لا يمكن فهم التحولات التي تجري بين ناظرينا اليوم وبمعزل عن التحولات التقنية وأدوات التواصل المستجدة، وما تحملها معها من تغيرات اجتماعية وثقافية واسعة. صحيح أن القراءة الماركسية وكذا الأمر بالنسبة  للفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر)  التي تميل إلى تفسير كل شيء بالاقتصاد وبنى الاجتماع  كثيرا ما تسقط في النمطية والادعاءات الشمولية، وتكون أخطاؤها أشد فداحة حينما يتم تعميم النموذج العلماني الغربي والارتقاء به إلى مستوى الكونية ، ولكنها مع ذلك تظل لها مقدرة تفسيرية لا يمكن الاستهانة بها، مهما كان وعينا بمحدوديتها ونسبيتها.

2 ـ نماذج الدولة العلمانية في علاقتها بالدين:

  يمكن القول على سبيل الإجمال إن خيار العلمانية كان في صورته الغالبة  مستجيبا لمطلب تحرير الدولة القومية من سيطرة الكنائس التي كانت تقاسمها النفوذ السياسي تارة، وتنازعها أخرى على مر قرون متتالية، وقد تراوحت هذه العلاقة بين ثلاثة وجوه مختلفة.

أولاً: خيار مصادمة  الدين والاستيلاء عليه بقوة الدولة كما هو حال التجربة اليعقوبية الفرنسية والشيوعية عامة، وهو نموذج يتسم بوجهة تدخلية ثقيلة، ونزعة تسلطية هائلة، إذ لا تكتفي الدولة هنا بإضعاف الدين ورده إلى حدود الكنائس ودور العبادة، بل تعمل أكثر من ذلك على تطهير مناهج التعليم والثقافة العامة من أي حضور ديني، وإحلال الروح الدهرية محلها، فضلا عن المراهنة على تخليص المؤسسات الاجتماعية والسياسية من أي أثر من آثار الدين.

وبالنظر إلى ثقل الدور المؤسسي للكنيسة البابوية في فرنسا  والاورتدوكسية في روسيا، ثم التوجهات المعادية للدين التي طبعت كلا منهما، فقد حاولت الدولة العلمانية  التخلص من سيطرة الكنيسة  عبر الصدمات العنيفة، مع  ما رافق ذلك من صراع وتدابر متبادل بين الطرفين.

فالعلمانية هنا لا تكتفي بتحرير الدولة أو الفضاء السياسي عامة من سيطرة الكنيسة  بقدر ما تعمل على إحلال  دين علماني وضعي محل الديانات القائمة، أي فرض رؤية دهريه و غرس قيم ومسلكيات علمانية صلبة تحل  محل التصورات والقيم الدينية وذلك بقوة الدولة وأجهزتها الإيديولوجية والعنفية.

ثانياً: خيار الانفصال الوظيفي بين الدولة والكنيسة مع الالتزام بحيادية الدولة إزاء  الشأن الديني، كما هو حال بعض البلاد السكوندينافية.

ولكن من المهم التنبيه هنا إلى أن مسألة الحياد هذه  تظل مقولة نسبية بل مشكوكاً في صدقيتها في الكثير من الأحيان.

إذ يتبين عند  التحقيق التاريخي أنه  لا توجد دولة “سلبية” بإطلاق، وليس لها أجندتها الثقافية وسياساتها الدينية الخاصة بها التي تعمل على فرضها، رغباً ورهباً، على المجتمع.

هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إحدى الملامح الأساسية التي تطبع  العصر الحديث تتمثل في ظهور الدولة الدهرية كفاعل أعظم في توجيه حياة الأفراد والجماعات، وفي صنع أذواقهم وأنماط معاشهم، فهي التي تحتكر أدوات العنف وتنفرد بشرعية استخدامه على نحو ما بين ذلك عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر”، وهي  التي تحدد أنظمة التعليم وأدوات صياغة الوعي العام ، وهي التي ترسم الحدود الفاصلة بين دائرة المشروع وغير المشروع.

وقد تعاظم نفوذ هذه الدولة أكثر فأكثر، وتقوت أذرع سيطرتها بما هو أشدّ مع  التطور الهائل وغير المسبوق الذي أتاحته التقنيات الحديثة ومعها أدوات الرقابة بالغة التطور، مثل الحاسوب والكاميرا والالكترونيات بأنواعها المختلفة، ثم أخيراً وليس آخراً التقنيات الرقمية الموصولة بالأقمار الصناعية، والعلوم البيولوجية الجينية التي توظف كلها من طرف الدولة المركزية الحديثة، إلى الحد الذي تحول فيه “المواطن” الحر والرشيد الذي تتحدث عنه الأدبيات الليبرالية بصورة حالمة إلى مجرد خزان معلوماتي ورقمي مبسوط أمام أعين وآذان  الدولة –الرقيب، واستحال أمره إلى ما يشبه العجينة الطيعة والقابلة “للتصميم” الاصطناعي على أيدي الدولة وخبرائها المهرة.

وبغض النظر عن علاقة الدولة الغربية الحديثة بالدين والكنيسة، وعما إذا كانت موصولة بالدين والكنيسة أو منفصلة عنهما، وما إذا كانت “ديمقراطية” أو شمولية فالثابت في كل ذلك أن هذه الدولة قد أضحت اللاعب الأكبر، بعد أن فرضت سيادتها العلوية والقاهرة فوق جميع القوى والجماعات المنظمة، بما في ذلك الكنائس والهيئات الدينية، وأجبرتها طوعاً وكرهاً على  التسليم بسلطتها الفوقية والمطلقة،  وفي هذا الإطار نفهم مقولة شهيرة ظل يرددها منظرو الدولة الحديثة وهي أن” الكنيسة في الدولة، أما الدولة فهي فوق الكنيسة”.

وأخلص من ذلك إلى القول بأن الدولة الحديثة  بما في ذلك شكلها الليبرالي الناعم والتي غالبا ما تدعي الحيادية  ليست في حقيقة الأمر  حيادية إلا بمقادير نسبية،  هذا إذا ما علمنا أن الدولة “الحيادية” هي  نفسها التي  تقوم على  ضبط حدود الديني ورسم مجالاته وفق رؤاها وأولوياتها، وهي التي  تفرض ثقافتها  وإيديولوجيتها الخاصة- فوق أي ثقافة أخرى سواء أكانت  دينية أم وضعية.

كما أن مقولة الحياد هذه لا تعني التزام  الدولة على نحو ما تدعي المساواة بين كل الديانات والطوائف الدينية،

ثالثاً: خيار الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة كما هو الحال في بريطانيا وايطاليا وايرلندا واليونان وإلى حد ما أمريكا التي فصلت دستورا ولكنها ربطت واقعا ربطا وثيقا بين الجانبين.

يتسم هذا النموذج في صورته الغالبة بإعطاء دور متقدم للدين والكنيسة في الفضاء العام  والحياة السياسية ، وتبدو هذه العلاقة  أقرب ما يكون  إلى  الوفاق والتناغم منها إلى التأميم والتصادم..

هكذا  تتيح الدولة للكنيسة والدين عامة دورا متقدما في مجالات التعليم والثقافة، وتمكنهما من  ممارسة حضور نشيط في مجال المجتمع المدني، مقابل ذلك  توفر الكنيسة للدولة نوعا من الإسناد ومددا بالشرعية الرمزية، كما هو واقع الحال في بريطانيا حيث يتيح النظام الملكي نوعا من الامتياز الخاص للكنيسة الانجليكانية، ولا تتردد هذه الأخيرة في إسناد الملكية بطقوسها ورمزياتها الدينية.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية ، فينص الدستور على فصل الكنيسة عن الدولة، إلا أن الثقافة السياسية في هذا البلد، وطريقة حياة الأمريكيين وأعرافهم الاجتماعية لا تشهد بذلك.

كما أن الكنائس في هذا البلد مازالت تتمتع  بحضور قوي وفاعل في مختلف مناحي الحياة الأمريكية بما في ذلك في الحياة السياسية وفي قلب الأحزاب الكبرى، إذ يطبع  الدين مختلف مناحي المجتمع الأمريكي ومفرداته.

وفي بلد مثل “إيطاليا” مازال “الفاتيكان” يتمتع بنفوذ سياسي قوي إذ  كثيراً ما يتدخل في تعيين وزرائه في الحكومة وفي الإطاحة بآخرين غير مرغوب فيهم، هذا إذا ما علمنا أن الكنيسة الكاثوليكية تعد جزءاً مكيناً من الهوية القومية والأمجاد التاريخية للايطاليين.

3 ـ الخصوصية الفرنسية في علاقة الدين بالدولة:

غالباً ما تتم قراءة  التجارب السياسية الغربية بصيغة الجمع دون تمييز ما بينها من تباينات واختلافات، سواء  من جهة التشريعات القانونية أو من جهة اشتغالها على أرض الواقع، ولسوء حظنا نحن العرب والمسلمين فإننا كثيرا ما نقرأ التجربة الغربية في علاقة الدولة بالدين بالغة الثراء والتنوع من خلال النافذة الفرنسية الضيقة، أو كما تقدم التجربة الفرنسية لنا نفسها من خلال أدبيات بعض الفلاسفة والكتاب الفرنسيين، أو بعض “الوكلاء” الايديولوجيين، والوسطاء السطحيين العرب الفاقدين لعمق الفهم وحس النقد، فلم نمتلك ما يكفي من ناصية المعرفة والإدراك  للتجربة الفرنسية، فضلا عن تجارب الآخرين.

بيد أنه لو  تفحصنا المسألة العلمانية بعيداً عن النماذج النظرية الجاهزة، والتعميمات السائدة لتبين لنا أنها أكثر تعقيداً مما يعنّ للكثير من لمثقفين والسياسيين العرب والمسلمين.

فلو تأملنا المسألة من الزاوية التشريعية مثلا -التي تعد التعبير الأكثر إفصاحاً في موضوع العلمانية وصلة الدين بالدولة- لتبين أن علاقة الديني بالسياسي في الغرب هي علاقة شديدة التنوع وبالغة التركيب بما لا يسمح بالركون إلى نموذج نمطي جاهز .

تعد فرنسا البلد الأوروبي الوحيد من بين الاثني عشر دولة مكونة تقليديا للاتحاد الأوروبي (أي قبل انضمام أوروبا الشرقية للاتحاد)  الذي نصّ صراحة  على لائكية الدولة مع الامتناع عن الإشارة إلى الديانة الرسمية، وقد كان ذلك لأول مرة في دستور 1905، أي بعد ما يربو عن القرن والربع من اندلاع  الثورة الفرنسية، هذا إذا استثنينا الفصل السابع من القانون الأساسي الألماني الذي اكتفى بالتنصيص على لائكية  المدرسة.

أما الدنمارك وبريطانيا فقد اتسم كل منهما بنوع من الربط الوثيق بين الكنيسة والدولة، وهي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الحالة الأولى والكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في الحالة الثانية، ومثال ذلك أن ملكة بريطانيا  مازالت إلى يومنا هذا  تتمتع  بتمثيل التاج البريطاني إلى جانب رئاسة الكنيسية الانجليكانية، في حين نصت “اليونان” و”إيطاليا” على  الدين الرسمي للدولة، وهو الأورتودوكسية في الحالة اليونانية والكاثولوكية في الحالة الإيطالية.

أما “أيرلندا” فقد اكتفت بالتنصيص على قدسية الرب والتثليث دون أن تذكر الدين الرسمي على  سبيل الحصر.

وجماع القول أن القراءة المتأنية للحالة  العلمانية بما في ذلك في أوروبا الغربية التي تعد أكثر مواطن العالم علمنة تُبين أنّ دول أوروبا  الغربية -إذا استثنينا الحالة الفرنسية- تراوح أمرها بين ملازمة الصمت إزاء المرجعية الدينية للدولة، وبين تنصيص واضح وصريح  على الدين الرسمي، وهذا يعني أن “فرنسا” تظل حالة فريدة من نوعها واستثنائية حتى بالمقاييس الغربية عامة والأوروبية خاصة. وإذا استثنينا التجارب الشيوعية ذات التوجهات  العلمانية الجذرية، والتي نص بعضها على توجه إلحادي للدولة  فإن بقية التجارب الغربية بوجهيها الأوروبي والأطلسي كانت في حقيقة الأمر  أقرب إلى الاحتواء والمزاوجة بين الديني والسياسي  منها إلى المصادمة والمفاصلة.

لقد تضافرت جملة من العوامل التاريخية والفكرية في تشكيل ملامح الخصوصية الفرنسية على نحو ما جسدتها  ثورتها العنيفة والصاخبة، ومن ذلك:

أولاً:، وجود دولة مركزية شديدة  أخذت تتعاظم مع ظهور الملكيات الإطلاقية بما جعل التاريخ السياسي الفرنسي ينطبع بتسلطية سياسية بالغة القسوة والجبروت.

وثانياً:، وجود مؤسسة كاثوليكية شديدة الوطأة والنزوع التدخلي، وذات اندماج بملكيات إطلاقية  إلى الحد الذي لا يمكن معه تصور الانفصال بينهما دون أن يتداعي أحدهما أو كلاهما للسقوط.

وثالثاً:، عدم التسامح مع بقية الطوائف الدينية وخاصة مع الأقلية البروتستانتية بما صبغ التاريخ الديني الفرنسي بطابع انفجاري وصراعي مستديم.

كان لمجموع هذه المعطيات التي ذكرنا كبير الأثر  في توجيه فلسفة الأنوار  الفرنسية نحو وجهة معادية للدين عامة، والكنيسة خاصة، كما أضفت عليها نزعة مادية وإلحادية جلية، وذلك خلافاً للجارين الألماني والانجليزي، فضلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية التي نهجت  منهج  المواءمة والتوفيق بين الديني والسياسي  بدل نهج الصدام والقطيعة.

لقد اتسمت الثورة الفرنسية بنزعة عدائية  واضحة للدين عامة والكنيسة الكاثوليكية خاصة، وذلك ضمن مسعى رجالات الثورة إلى الإطاحة “بالنظام القديم” وتفكيك مرتكزاته الايديولوجية والمؤسسية، وعلى رأس ذلك  فكرة الحق الإلهي على نحو ما صاغ معالمها متكلمو الكنيسة، ثم العمل على إحلال نظام جديد محله يقوم على مبادئ العقل وقوانين الطبيعة الكونية. فقد  بدأت  الثورة الفرنسية منذ مراحلها الأولى بمصادرة واسعة لممتلكات الكنيسة من أرض وعقار، مع تصميم على إلغاء دورها من المجال السياسي والمدني لصالح الدولة الزمنية، وكان ذلك مصحوبا بتصميم لا يلين على ” تطهير” المجتمع الفرنسي من الموجّهات المسيحية  الكنسية.

ثم تعمقت القطيعة بين الثورة الفرنسية والكنيسة أكثر فأكثر مع الانتفاضة المضادة التي قادتها الكنيسة سنة  1792 ضد الثورة في محاولة لاستعادة سلطانها السياسي والديني المفقودين، وقد لحق ذلك جملة من القرارات والإجراءات السياسية لامست دور الكنيسة في الصميم، من ذلك إلغاء تجمعات العبادة، ومنع الكنيسة من تسجيل المواليد وحالات الزواج والوفايات لصالح الهيئات البلدية المدنية،  والسماح بالطلاق خلافا للتعاليم الكاثولكية الكنسية،  ومنع رجال الدين من ارتداء أزيائهم   الدينية الرسمية خارج حدود الكنيسة.

وفي هذا الإطار صدر  سنة 1793  مرسوم  باستبدال التاريخ المسيحي “الجريجوري”  الرسمي، بما سمي وقتها “اليومية الثورية” التي أعادت تحقيب التاريخ على ضوء حادثة الثورة، باعتبارها السنة الصفر في مسار الزمن.

ومن بين هذه الاجراءات المناهضة للكنيسة التي أقدمت عليها الثورة  إصدار المجلس الباريسي يوم 24 نوفمبر من نفس السنة  قرارا بإغلاق جميع كنائس العاصمة أمام كل أشكال التجمع الديني وممارسات العبادة، مشفوعاً بحركة استيلاء واسعة على أملاك الكنيسة وتحويلها إلى مستشفيات ومدارس ومحلات تجارية، فضلاً عن إزالة التماثيل الدينية والصلبان من الأماكن العام واستبدال الصلبان بأعلام الثورة ورموزها السياسية في المقابر، وقد دفعت هذه الإجراءات المعادية للمسحية والكنيسة، عددا كبيرا من رجال الدين إما  إلى الاختفاء، أوالهجرة إلى البلاد الأوروبية المجاورة لفرنسا[11].

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى محاولة إحلال كنائس وضعية تقوم على عبادة تتسس عبادة العقل والحرية محل الكنائس الكاثوليكية.

ورغم أن روبسبيير حاول كبح جماح هذه الحركة اللائكية التطهيرية خشية المبالغة في استفزاز المشاعر الدينية وما عساه ينجر عن ذلك من إضعاف شرعية الثورة في صفوف المتدينين، وذلك عبر إصداره مرسوما سنة 1794  يقر بأن “الشعب الفرنسي يعترف بوجود الكائن الأسمى وأزلية الروح”، بيد أن ذلك  لم يحل دون تحويل الكنائس إلى مراكز وضعية لعبادة الكائن الأسمى (أي العقل والحرية) وتحويل الطقوس الكاثوليكية إلى مراسم احتفالية ثورية، إذ تم التقاط هذا الاعتراف الرسمي بوحود الكائن الأسمى لإضفاء شرعية على الكنائس الوضعية باعتبارها مراكز روحية لعبادة كائن مبهم وغير منضبط المعنى يسمى بالكائن الأسمى.

ما سبق ذكره يبين كم هي مركبة ومعقدة علاقة الدين بالسياسة عامة، وعلاقته  بالكنيسة خاصة سواء كان ذلك  في السياق الأوروبي عامة،  أو في التجربة الفرنسية حصراً، إلى الحد الذي يجعل من التبسيط المخل قراءة الوضع الديني وحركة العلمنة من خلال النافذة الفرنسية  التي تمثل حتى ضمن المقاييس الأوروبية والغربية حالة استثنائية، قبل أن نتحدث هنا عن الحالة الدينية في مختلف مناحي المعمورة الكونية التي هي بكل تأكيد أكثر تعقيدا وأشد تشعباً.

فخلافاً للتجربة الفرنسية التي اتسمت بمنزع علماني مصادم للدين والكنيسة فإن “الولايات المتحدة الأمريكية” مثلاً انطبعت بروح دينية بروتستانتية واضحة المعالم، إلى الحد الذي لا يمكن معه فهم  التاريخ الأمريكي، أوسبر أغوار المجتمع الأمريكي دون التوقف عند دور الكنيسة البروتستنانتية والرموز المسيحية التي ألهمت “الآباء المؤسسين” وصبغت الروح الأمريكية العامة.

ورغم أن  الدستور الأمريكي  أقر  بالفصل بين الكنيسة والدولة في إطار ما أسماه بعض الباحثين الأمريكان بإقامة خط “جفرسون” الفاصل بين الكنيسة والدولة، وذلك تجنباً لآفة الانقسام الديني والطائفي الذي صاحب الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أن الروح البروتستانتية مع ذلك ظلت منبثة في مختلف مفاصل المجتمع الأمريكي ومنغرسة في شتى مؤسساته الحيوية: من التعليم، إلى التشريع القانوني، إلى الأخلاق “المدنية”، إلى الثقافة السياسية  إلى الاقتصاد، بل إن المسيحية البروتستانتية بما في ذلك ضمن شكلها اليميني المهود مازالت تلعب دوراً بالغ الفاعلية في الحقل السياسي وفي الفضاء العام في الولايات المتحدة الأمريكية.

وهنا يجب التمييز عند قراءة الحالة الأمريكية والغربية عامة  بين العلاقة الحصرية والضيقة التي تخص صلة الكنيسة بالدولة وبين علاقة الدين بالسياسة  وبالمجتمع عامة التي هي أكثر تركيبا وتشعبا مما يظن الكثر.

فلئن  اتجهت أغلب الدول الغربية إلى الإقرار  بنوع من الانفصال الوظيفي بين الكنيسة والدولة حيث استقل كل منهما بمجاله الخاص، إلا أن الدين بقي فاعلاً مهماً سواء كثقافة عامة تطبع المجتمع ومسالك الأفراد وفي بعض الأحيان مؤثراً فاعلاً في مجال السياسة، وعليه يبدو من الخطأِ المجحف قراءة الوضع الديني من خلال الزاوية الحصرية ممثلة في ثنائية كنيسة-دولة، لأن هذه الزاوية الضيقة لا تقدم صورة كاشفة لواقع الدين ولا لمسار العلمنة على السواء[14].

بل إن التجربة الفرنسية نفسها ورغم ما رافقها من سياسات بالغة الضراوة والحدة  على نحو ما بيناه أعلاه إلا أنها لم تخل بدورها من تعرجات ومن حركة  مساومة مع الكنيسة والمواريث الكاثوليكية، ودليل ذلك أن  لائكية الدولة لم تعلن رسمياً إلا بعد ما يزيد عن القرن والربع، وفي إطار أجواء معقدة  تراوحت بين المنازلات والمعارك الساخنة وبين الجنوح إلى المساومات والتنازلات المتبادلة.

4 ـ كيف نقرأ حركة العلمنة في علاقتها بالدين؟  

من الخطإ المنهجي والعلمي قراءة حركة العلمنة في الفضاء الغربي من خلال المنظومة العلمانية  ومسلماتها الوثوقية، التي هي أقرب ما يكون إلى المدونة الثيولوجية (الكلامية) المغلقة منها إلى نظرية علمية  على ما يقول عالم الاجتماع البريطاني   “دايفد مارتن” [15]، كما أنه من الاختزال والتعميم قراءة الواقع الديني في المجتمعات الغربية من خلال أدبيات بعض المفكرين والأكاديميين الليبراليين والعدميين  الذين لا يكفون عن ترديد مقولة انتفاء الدين لصالح القيم الوضعية والإلحادية الجذرية.

 فثمة مسافة شاسعة بين نظرية العلمنة التي يكتفي أصحابها غالبا  بالتشديد على الطابع الانتصاري للعلمانية وتراجع الأديان والعقائد، وبين واقع الدين الذي يتسم بالتعرج والتركيب، كما أن هنالك مسافة شاسعة  بين النزعة العدمية والتفكيكية التي تطبع خطاب بعض  المفكرين والكتاب الغربيين، وبين عامة الناس الذين يميلون عادة إلى إطفاء جوعة الضمير بنوع من التوليف بين متطلبات الحياة اليومية المعلمنة وبين ما تبقى من مختزنات دينية وروحية بما يجنبهم قسوة الشعور بالفراغ وانتفاء المعنى.

يجب أن نميز هنا بين تلك العلمانية الإلحادية والعدمية على نحو ما ينافح عنها منظروها من أرباب الأكاديميا والفكر، وبين تلك العلمانية الاجرائية والبراجماتية التي يتعايش فيها الديني مع العلماني عل نحو ما هو غالب على  الفئات الشعبية.

لم يكن غريبا أن يفاجأ المراقبون والمحللون السياسيون  بالانفجار الديني  في هذه المناسبة أو تلك، بما يناقض قراءاتهم وتوقعاتهم الوثوقية.

من ذلك ما حظيت به وفاة “البابا يوحنا بولس الثاني” مثلاً من اهتمام غير مسبوق،  فضلاً عما أثاره هذا الحدث من مشاعر دينية  وطقوس كنسية كان الكثير يظن أنها قد انقضت إلى غير رجعة بانقضاء “العصور الكنسية” الوسطى.

هذا لا يعني أن “أوروبا” المعلمنة هي بصدد القطع مع تقاليدها العلمانية تماماً، أو هي بصدد الانعطاف الكامل باتجاه المواريث المسيحية الكنسية على نحو ما كان عليه الأمر قبل ثلاثة أو أربعة قرون خلت، إذ لا يتعلق الأمر بحركة تواصل رتيب وجامد، كما أنه لا يتعلق بحركة قطع  وانتقال كاملين، فحركة الفكر وبنيات المجتمع أكثر تركيباً وتعقيداً مما تعبر عنه النماذج النظرية الجاهزة سواء تلك التي تقول بمطلق القطع الانفصالي أو تلك التي تقول بالتواصل الرتيب.

مما ريب فيه أن الفضاء الغربي بشقيه الأوروبي والأطلسي قد خضع لمسار علمنة واسع النطاق لامس مجمل البناء الاجتماعي والسياسي، كما طبع مجال المنظورات والقيم، ولكن ذلك لا يفضي ضرورة  إلى القول باختفاء الحضور الديني أو حتى تراجعه المتتالي على ما تقول أدبيات العلمانيين الوثوقيين.

فكما أن حركة العلمنة بنية خفية وليست بالضرورة مخططات واضحة وواعية على نحو ما يذكر المفكر المصري عبد الوهاب المسيري،   فكذا هو الأمر بالنسبة للمجال الديني الذي قد يأخذ تعبيرات مؤسسية واضحة  المعالم كما  يأخذ تعبيرات نفسية ورمزية خفية[16].

لقد تعود علماء الاجتماع الغربيين الحديث الاحتفائي عن الانتصار الكاسح لحركة العلمنة من خلال التأكيد على تدني نسبة المتدينين ومرتادي الكنائس وتراجع  الحضور الديني في مجال الحياة العامة، وغالباً ما يستند هؤلاء إلى معطيات الرصد الحسابي والجداول الإحصائية التي تثبت دعواهم، ولكن مع ذلك  لا تقدم هذه المعطيات صورة كاشفة  وشاملة عن دور الدين ومجال فعله سواء في الحياة الخاصة أو في الهيئة الاجتماعية والسياسية العامة؛ ذلك أن المتابعة الدقيقة تبين أن  الدين سواء في  أشكاله الخفية أوالمعلنة -وحتى في أكثر المجتمعات خضوعا لسياسات علمنة جذرية – مازال يتمتع بحضور متزايد.

وخلافاً لقراءات وتوقعات العلمانيين نلاحظ  اليوم أن الدين يشهد  نوعا من  الانتعاش  والصعود قياسا لما  كان عليه الأمر قبل عقد أو عقدين من الزمن، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

هذا ما نلاحظه  بصورة جلية في روسيا ودول أوروبا الشرقية  والولايات المتحدة الأمريكية  وبلاد أمريكا الجنوبية قبل أن نتحدث عن العالم الإسلامي أصلا. صحيح أن هنالك  تراجعاً ملحوظاً ومتزايداً للنشاط الديني المؤسسي في البلاد الغربية وخاصة في الشق الأوروبي الغربي لصالح الممارسة الدينية الفردية، ولصالح أنماط جديدة من الديانات الأغنوصية والوضعية،  إلا أن ذلك يجب ألا  يحجب عنا حقيقتين اثنتين.

أولاهما: أن الإيمان الديني ليس متساوقا بالضرورة مع التعبير المؤسسي، إذ يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون في حالة تراجع في حين ترتفع معدلات التدين، بمعنى ارتفاع مستوى الاعتقاد والمسلكيات الدينية سواء في دائرة السلوك الفردي أو الحياة العامة، والعكس صحيح أيضاً، أي يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون قوية ومتماسكة ولكن بالتوازي مع ذلك يشهد الدين نوعاً من الضعف والتراجع.

من ذلك مثلاً أن الاعتقاد في وجود خالق وحياة آخرة، والاعتقاد في أهمية الأخلاق والمعايير الدينية تزداد معدلاتها ارتفاعا في المجتمعات الغربية  قياسا  بالتصورات الدهرية الالحادية، رغم ضعف الإقبال على الكنائس والمعابد.

وربما يعود ذلك إلى كون الإنسان الغربي صار يجد في المعاني الروحية والقيم الدينية  نوعاً من الحماية من زحمة الرأسمالية الصاخبة وموجات التفكيك الدهرية المخيفة، وتداعياتها المدمرة على الأفراد والجماعات، خاصة في هذه الحقبة التي بلغ فيها النظام الرأسمالي المعولم درجة عالية من التوحش والذرائعية.

وثانيهما : أن  الكنيسة  لم تختف من المشهد الثقافي والاجتماعي عل نحو ما بشرت بذلك أدبيات العلمانيين الدهريين بقدر ما فرضت عليها تحولات الحداثة  وأزماتها الراهنة تحويل الجزء الأكبر من نشاطها من المجال الحصري للدولة أو الحدود الضيقة للمباني الكنسية إلى الحقل الاجتماعي العام وإلى الفضاء  السياسي بمعناه الواسع…

وعليه غدت الكنيسة جزءاً مكيناً مما يسمى اليوم بالمجتمع المدني حيث تتولى الدفاع عن فئات المحرومين والمهمشين، وتشد أزر المتساقطين من ضحايا الآلة الرأسمالية القاسية والعلمانية الكالحة، وهي إلى جانب ذلك مازالت  تلعب دورا بارزا في مجال التعليم والثقافة.

أما على صعيد التجربة  العملية فيكفي أن يتأمل المرء حالة الحماية والدعم الذين توفرهما الدول الغربية  للتعليم الديني الكنسي بما في ذلك تلك الدول الموصوفة بالعلمانية الجذرية مثل “فرنسا”،  وأن يتأمل دور الكنائس  والجماعات الدينية في الحياة السياسية في بلد مثل “الولايات المتحدة الأمريكية” حيث تتحكم الكنائس بل الجماعات الأصولية المسيحية المهودة في مسار الأحزاب ومستقبل الانتخابات وفي تصعيد السياسيين وإسقاطهم، فضلاً عن توجيه السياسات الخارجية والعلاقات الدولية حتى يدرك هذه الحقيقة.

صحيح أن الكنيسة في الغرب الحديث كفت عن أن تكون صاحبة السلطة العليا في مجال السياسة  ونمط الاجتماع بعدما زاحمتها قوى كثيرة وجبارة وعلى رأس ذلك  الدولة القومية، وسلطة السوق الرأسمالية إلا  أن ذلك لا يعني  انتفاء دورها سواء في الحقل السياسي أو في المجتمع المدني، وهذا ما نلاحظه على وجه الخصوص في الدول البروتستانتية-كما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حد ما بريطانيا- التي لعبت فيها الكنيسة الإصلاحية دوراً أساسيا في زعزعة الكنيسة الرومانية وإعادة بناء الحقل السياسي المدني، إلى الحد الذي لا يكاد ينفصل عندها الديني عن المدني، كما أنه  ليس بخاف الدور البارز الذي قامت به  الكنيسة خلال الحرب الباردة  في زعزعة المنظومة الشيوعية وهزها من القواعد أو ما تقوم به اليوم من أدوار تبشيرية وسياسية متزايدة في إفريقيا وآسيا ومختلف مناطق العالم.

إن التأمل الثاقب في واقع المجتمعات الغربية يظهر فعلا  نوعا من الدفق القوي لحركة العلمنة خاصة مع شيوع قيم السوق الراسمالية، وتفكك الروابط الاجتماعية العضوية لصالح الفردية المتذررة، وتزايد سطوة الدولة البيروقراطية، والانفجار الإعلامي الهائل الذي داهم أخص خواص الحياة الفردية،  ولكن هذا الأمر  يجب ألا يحجب عنا  الوجه الآخر من  المسألة، ألا وهو استمرار الحضور الديني سواء كمخزون ثقافي أو كنظام قيم عامة، وإن كان ذلك في شكل مدني معلمن، إلى جانب بقاء الكنيسة والمؤسسات الدينية، عناصر  فاعلة وموجهة في مجال المجتمع المدني، وحتى في الحياة السياسية العامة.

لعله  مما يحفظ بعضا من توازن المجتمعات الغربية  ويحميها من مخاطر التمزق الكامل، وتجنب الحالة الذئبية المخيفة التي تحدث عنها هوبس ما بقي من ترسبات مسيحية دينية سواء كان ذلك في شكلها المباشر أو في شكلها المدني المعلمن، وفي مقدمة ذلك مؤسسة الأسرة والعلاقات الزوجية، ومعنى الواجب الأخلاقي والالتزام الاجتماعي سواء كان ذلك بتأسيس ديني مباشر أو باستلهام مضمر.

وقد رأينا كيف ساهمت حركة العلمنة الجامحة في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية في تفاقم أزماتها وتزايد أعطابها بما أودى بها إلى الانهيار السريع، بسبب ما رافق هذه العلمانية الجذرية من طابع تفكيكي وهدمي مريع.

وهنا أقول إن حياة علمانية كاملة على نحو ما  نظّر لذلك  نيتشه وأتباعه  مثلا هي حياة لا تحتمل، كما أن عالما معلمنا بالكامل على نحو ما نظر لذلك فيبر ومن قبله “ماركس” تبدو بالغة الكلفة  على الأفراد والمجموعات، وذلك بالنظر إلى ما يرافق هذه العلمانيات الجذرية عادة من نزعات عدمية مدمرة.

صحيح أن ثمة نخبة من الأفراد أو المجموعات لا تجد غضاضة في  “التعايش” مع حالة الفراغ العدمي مع ما يصحب ذلك من قلق  وزلزلة في الضمير، بل قد يجعل بعضها من هذه الحالة العدمية والإلحادية موضعا للتفكير والتأمل الثاقبين، ولكن مع ذلك  ليس بمقدور عامة الناس احتمال مثل هذا  الفراغ العدمي، كما أنه ليس بمكنة المجتمعات  تحمل الكلفة الباهظة  لهذه العدمية لما يصحب ذلك من زعزعة استقرار المؤسسات وتصرم العمران.

ولعل هذا الشعور المتزايد بقسوة العلمنة وجدب الروح هو الذي دفع ويدفع بالكثير من الناس في قلب المجتمعات الغربية نفسها  إلى إعادة اكتشاف “المقدس”  والنهل من معين المنابع الروحية للأديان والعقائد، بما في ذلك ديانات آسيا البعيدة من مثل البوذية والهندوسية، والديانات الأرواحية القديمة فضلاً عن اتجاه قوي نحو التصوف الأغنوصي، وهي ذات الأسباب التي تدفع بالكثير من الدول الغربية إلى إعادة الاعتبار للثقافة الدينية في المدارس ومناهج التعليم لغايات نفعية عملية،  وهذا ما حدا ببعض  الباحثين الغربيين الحديث عن “انفجار” المقدس وما شابه ذلك،  كما اجترح بعضهم الآخر مصطلح ما بعد العلمانية دلالة على تهافت المقولات العلمانية على نحو ما  راج منذ بدايات القرن التاسع عشر.

والخلاصة من كل ذلك: كما أنه من التبسيط المخل وصف المجتمعات الغربية بأنها مسيحية كتابية على النحو الذي تصوره الأدبيات الإسلامية التقليدية في معرض مقارنتها بين “الشرق الشيوعي الكافر” والغرب “المسيحي الكتابي”، فإنه من التسطيح المشط اعتبارها علمانية كاملة على نحو ما تصور أدبيات الكثير من العلمانيين عندنا، وكأن هذه المجتمعات حالة غفل  ومقطوعة الصلة بالتاريخ  والمواريث المسيحية الغائرة..

والحقيقة أنه من غير الدقيق اعتبار الغرب الحديث علمانيا خالصا، ومن غير الصحيح أيضا تصنيفه بالمسيحي الخالص بل الواجب قراءته من هذين الوجهين معا. فالغرب الحديث يتداخل فيه البعد الديني المسيحي مع الوثني الروماني والإغريقي مع الوجه العلماني الدهري إلى الحد الذي لا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها البعض.

                                                د. رفيق عبد السلام

                                          باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية

                                             “لندن” المملكة المتحدة

[1] Weber M., The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, translated by T. Parsons; introduction by A. Giddens, (London, 1998)

 [2] Rawls J., A Theory of Justice, (Cambridge, 1971).

[3] Rorty R., Philosophy and Social Hope, (London, 1999)

[4] Delumeau J., La  peur en Occident (XIV eme-XVIII eme  siècles), (Paris, 1978)

 [5] See Richard S. Dunn  The Age of Religious Wars 1559-1689

[6] See George H Sabine, A History of Political Theory (London, Sydny Toronto, Bombay 1949), pp. 304-318.

[7] See, J. P. Whitney, Reformation Essays (London, 1939) Essay 5, pp.133-67

[8] See R. W. Southern, Western Society (London, 1967) p133.

[9] Skinner Q., The Foundations of Modern Political Thought, Vol. I The Rrenaissance, (London, 1979)

[10]   نفس المصدر

[11] Jean-Louis Ormière, Politique et Religion en France ( Paris,2002(

[12] Jean-Louis Ormière Politique et Religion en France ( Paris,2002 p.42-43

 [13] Ibid p.50-92

[14]  See peter Berger and the Study of Religion , Edited by Linda Woodhead with Paul Heelas and David Martin (London and New York, 2001)

[15]Martin D., The Religious and The Secular, (London, 1964)

[16]  عبد الوهاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (دار الشروق، مصر، 2002)

[17]  أنظر منير شفيق: الديمقراطية والعلمانية في التجربة الغربية (رؤية إسلامية)، المركز المغاربي للبحوث والترجمة (لندن، بيروت 2001)

[18] Gadamer H. G., Philosophical Hermeneutics, translated and edited by D. E. Linge, (California, 1977)

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق