البيانات الختاميةمميز

البيان الختامي للدورة الطارئة الثلاثين للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقدة بتقنية (ZOOM) التواصلية

البيان الختامي
للدورة الطارئة الثلاثين
للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة بتقنية (ZOOM) التواصلية
في الفترة من 1 إلى 4 شعبان 1441هـ  
الموافق له 25-28 مارس (آذار) 2020م

تحت عنوان:                                                              

المستجدّات الفقهيّة لنازلة فيروس كورونا كوفيد 19″

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أمّا بعد..

فقد انعقدت- بتيسير الله وتوفيقه- الدّورةُ الطارئةُ الثلاثون للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بتقنية  (ZOOM) التواصلية، في الفترة من 1 إلى 4 شعبان 1441ه، الموافق له 25-28 مارس (آذار) 2020م، تحت عنوان: “المستجدّات الفقهيّة لنازلة فيروس كورونا كوفيد 19” برئاسة سماحة الشيخ “صهيب حسن عبد الغفار” القائم بأعمال رئيس المجلس، وبحضور أغلبية أعضائه، وعدد من الأطباء المختصّين الذين شاركوا في الجلسة الأولى، وهم:

الدكتور/ “يحيى مكي”. طبيب وباحث مختص في الفيروسات. “فرنسا”

الدكتور/ “أنس شاكر”. مختص في التخدير والإنعاش. “فرنسا”

الدكتور/ “محمد الهمص”. استشاري الأمراض الباطنية والحادة . “بريطانيا”

الدكتور/ “منذر رجب”. اختصاصي أمراض باطنية وقلب وطب الأسرة. “ألمانيا”

وقد افُتتحت أعمال الدورة بكلمة ترحيبية ألقاها فضيلة الشيخ “حسين حلاوة” الأمين العام للمجلس، أبان فيها أهميّة هذه الدورة والأسباب التي دعت إلى عقدها على نحو عاجل، كما شرح طبيعة وكثرة الأسئلة التي وصلت إلى الأمانة العامة للمجلس حول فيروس كورونا، وأن فيها مسائل تتطلب اجتهادًا جماعيًّا ينطلق من محكمات الشرع ومقاصده، ويراعي ظروف الخلق ومصالحهم، ويسعى للتيسير عليهم كما هو منهج المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، كما شكر فضيلته السادة العلماء أعضاء المجلس على سرعة استجابتهم وتعاونهم مع كثرة مشاغلهم وأعمالهم، ورحّب بالأطباء المشاركين في الدورة مع انشغالهم بواجباتهم الطبية وضيق أوقاتهم ودقّة وأعمالهم، وأكد فضيلته أهميّة رجوع الفقهاء إلى الأطباء الثقات وبناء فتاواهم وآرائهم وتقريرها على معلومات دقيقة محررة، وأبان منهج المجلس الذي يزاوج دائمًا بين حضور الخبراء إلى جانب الفقهاء حسب طبيعة المسائل المعروضة عليه، كما سبق في المسائل الاقتصاديّة والفلكيّة وغيرها.

ثم ألقى فضيلة الشيخ “صهيب حسن” القائم بأعمال رئيس المجلس بالإنابة كلمةً جدد فيها الترحيب بالأعضاء والأطباء وثمن انعقاد الدورة في هذه الظروف وبهذه التقنيات، ثم توالت الجلسات وتتابعت النقاشات التي بدأت بمداخلات للأطباء الأربعة قدَّموا فيها الحقائق والمعلومات الطبية والإشكالات الواقعيّة العمليّة في الوقاية والإصابة والتعامل مع حالات الوفاة الخاصة بالمسلمين، وما يجب على الفقيه معرفته عن الفيروس لتتنزل فتواه على الواقع على نحو صحيح، ثم طرح العلماءُ أعضاء المجلس على الأطباء أسئلتهم وأجابوا عنها باستفاضة، ثم تتابعت الجلسات للإجابة عن الفتاوى والأسئلة العاجلة التي وردت إلى المجلس.

وانتهى المجلس بعد نقاشات مستفيضة إلى الفتاوى والتوصيات الآتية:

أولاً: الفتاوى

تمهيدٌ في نظرة الإسلام للطواعين والأوبئة:

تتأسّس الرؤية الإسلاميّة على منظومة السنن الإلهية التي أودعها الله الكون الطبيعي والبشري، فقال عنها سبحانه: ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر: 43]، بخلاف الفلسفات الأخرى التي لا تعرف إلّا الأسباب والنتائج الماديّة، مما يقاس ويحسب ويلاحظ رياضيًّا أو معمليًّا، أما في المنهجيّة الإسلامية فالأسباب بعضها مادي مباشر وبعضها معنوي غيبي، والتفسير المنطقي للظواهر قد يتعلق بغايات معينة يسعى النظام الكوني برمته لها ضمن منظومة من القوانين العليا التي صُمّمت أصلاً لتشد الحاضر تجاه المستقبل.

هذه الغايات والقوانين العليا هي منظومة السنن الإلهيّة أو السنن الربّانية، أي: النواميس التي وضعها الله تعالى لنظام الكون باطراد وإحكام.

‎ومن هذه السنن ما يتعلق بالابتلاء والضراء حسب المفاهيم القرآنيّة، ردعًا للطغيان البشري والفساد في الأرض. قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  [الروم: 41] وهناك سنن مقابلة تتعلق بالسراء وفتح البركات من السماء والأرض، استجابةً لداعي الهدي الربّاني للإصلاح في الأرض والتقوى والاستغفار من الأخطاء والعيوب ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

ووباء “الكوفيد-19” أو “الكورونا” هو من سنن الابتلاء، ومن أسبابه: الفساد في التعامل مع البيئة والمصادر الطبيعيّة، والظلم الذي نشهده بأنواعه المختلفة، والاستخفاف بالإيمان والأخلاق والقيم، حتّى اختل التوازن الكوني العام كما نلاحظ في العقود والسنوات الأخيرة، وسنن الله لا تحيد ولا تحابي أحدًا، وينجي الله في نهاية الأمر الذين قاموا بأمانة النهي عن السوء، كما يشاء سبحانه ﴿  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ  [الأعراف: 165]، ‎وبعد الإدراك الواعي للواقع حسب السنن الإلهيّة، علينا أن نسعى لتغيير ذلك الواقع للأفضل على المستويات كلّها، وأمّا الفيروس فستدور دوائر الأيام، ويذهب إن شاء الله كما ذهبت طواعين التاريخ كلّها، وتبقى العظات والعبر لمن اعتبر.

فتوى (1/30) هل الفيروسات والكوارث عقوبة إلهية؟

السؤال: هل الفيروسات والكوارث عقابٌ من الله للناس؟

الجواب: إنّ الابتلاءات والكوارث التي تحصل في واقع الناس هي من سنن الحياة، فلا يسلم الناس فرادى وجماعات من وقوع مصائب تنزل بهم على اختلاف منازلهم ومراتبهم؛ ويكون الابتلاء بالشر كما يكون بالخير.

قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ  [الأنبياء: 35] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط)، ومن ثوابت الإسلام الإيمان بالقدر خيره وشره، سواء أدركنا حكمة الله تعالى أو جهلناها، ولكن هذا الإيمان الراسخ لا يمنع المسلم من التدبر والموعظة، وفي حالة الكوارث الكونيّة التي تصيب الجميع صالحين وطالحين قد تكون تذكرة للبشريّة أنّه مهما حقّقت من إنجازات ماديّة وعلميّة فعليها أن لا تهمل الجوانب الروحيّة والأخلاقيّة، وأن توثق صلتها بالخالق جلّ وعلا، وأن تلتزم بالقيم الأساسية كالعدالة الاجتماعية، والتعايش السلمي، واحترام الكرامة الإنسانية، والتعاون بين الجميع على البر والتقوى.

 والابتلاء بهذا المعنى ليس انتقامًا من الناس، لأنّ الله تعالى رؤوف رحيمٌ بعباده ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ  [البقرة: 143]،

وإنما يأتي البلاء لحِكَمٍ مقصودة منها:

* تذكير الناس بنعم الله عليهم عندما يُصابون بفقد بعضها، فلا يدرك نعمة الصحّة إلّا من ابتلي بالمرض، ولا يعرف نعمة الأمن إلّا من عاش الخوف؛ والإنسان يغفل كثيرًا- بحُكم الإلف والعادة- عن فضل الله تعالى عليه بما أسبغ عليه من النعم الظاهرة والباطنة. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [لقمان: 20]، وكلّما تذكّر العبدُ نعمَ الله تعالى عليه ازداد شكرًا له، وأورثه ذلك قناعةً بما آتاه الله من فضله.

* تنبيه العبد إلى دوام اللجوء إلى الله تعالى وطلب الحفظ والعون منه؛ والإنسان بطبعه عند المصائب والشدائد يبحث عمن يُغيثه وينصره، فإذا أدرك أنّ الله تعالى هو الذي يكون مع العبد ويكفيه في هذه الأحوال العصيبة أورث ذلك في نفسه الطمأنينة والسكينة، التي تعينه على مجابهة الابتلاءات، وحرّره من التعلق بغير الله تعالى: ﴿  ۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، ويُعبّر العبد في حالات الشدّة عن لجوئه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [لقمان: 32]، وقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ [الأنعام: 43].

* وقد تأتي المصائب والابتلاءات تحذيرًا للعباد من الوقوع في المعاصي والذنوب؛ فمن رحمة الله تعالى بهم أنه يُنبّههم ويحذّرهم، حتى يقلعوا عمّا هم فيه من المخالفات التي يقترفونها في حق أنفسهم؛ إذ إنّ ضرر المعصية يعود على الإنسان في نفسه وفي مجتمعه، ولا ينال اللهَ من معاصي الناس شيء؛ ويستوي في هذا التحذير الناس كلّهم: المؤمن منهم وغير المؤمن؛ فليس الابتلاء انتقامًا وإنّما هو تحذير وتنبيه لما يكتسبه الإنسان من عمل سيئ عسى أن يرجع عنه. قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

ويجب التنبيه هنا إلى أنّه مما قد خصّ الله تعالى به نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم، بعدّه خاتم الرسل، تفضّلًا منه على عباده، أنّه أعفى أهل العصيان من عقوبة الهلاك العام التي تحلّ بهم في الدنيا، كما حصل لبعض الأقوام السابقين، وجعل حسابهم في الآخرة، ليترك لهم مجالًا للتوبة والمراجعة في الدنيا؛ ولذلك لم يدعُ النبي صلى الله عليه وسلم بالشر على من خالفه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قيل: يا رسول الله، ادع الله على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعّانا، وإنما بُعثت رحمة)” رواه مسلم ـ

وقد ذكر الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59] ـ عن قتادة قوله: (وإن الله يُخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت – أي أصابها الزلزال – على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيّها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه؛ ونقل عن الحسن ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا  قال: الموت الذريع).

والابتلاء عام للمؤمن وغير المؤمن، بل إنّ المؤمن أشدّ عرضة للبلاء من غيره؛ لأنّ الإيمان يصبّره على البلاء. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)، وينبغي أن نقول: إن الابتلاء الذي يأتي تحذيرًا من المعاصي يشمل كل تصرّف يُجانب فيه الإنسان سبيل الصواب سواء في علاقته بربه، أو في علاقته بأخيه الإنسان، أو في علاقته بالكون الذي يحيط به؛ ولا يخفى على أحد اليوم ما يقع فيه الناس من مُخالفات على كل هذه الأصعدة؛ وقد بدأت اليوم، بعد حصول هذا الوباء “فيروس كورونا”، تتعالى أصوات الحكماء في العالم تدعو إلى مراجعة كثير من السلوكيات الخاطئة التي سادت حياة الناس في كل الجوانب، ويقول هؤلاء العقلاء أنه سيكون في تاريخ البشرية المعاصر خط فاصل بين: ما قبل “كورونا” وما بعدها؛ فالخلل الذي يمسّ القيم والأخلاق، والخلل الحاصل في إقامة العدل بين الناس، وحسن توزيع الثروات فيما بينهم، والخلل في مجال التعامل مع البيئة، والحفاظ عليها من أسباب التلوث والتغير، والخلل الناشئ بسبب إشعال الحروب والصراعات، كلها من الذنوب التي ينبغي أن تتوب منها البشرية؛ ويأتي الابتلاء مُحذّرًا لها من مغبة الاستمرار في سبل الظلم والعدوان.

  فتوى (2/30) وظيفة الدين في التعامل مع الفيروسات والكوارث

السؤال: أين موقع الدين ووظيفته من حدث انتشار فيروس كورونا وتداعياته؟

الجواب: إن هذا الحدث الكوني المتمثل في “فيروس كورونا” قد عمّ العالم كلّه واستنفر جميع الدول بما تملكه من قدرات مادية وصحية لمقاومته؛ ولا شكّ في أنّ مجابهة هذا الوباء يقتضي تسخير ما يمتلكه الإنسان كلّه من قدرات ماديّة ومعنويّة، وللدين دور في المساعدة على مجابهة خطر “فيروس كورونا” والتوقّي منه من خلال الوظائف الآتية:

* إن من أهم وظائف الدين تزويد الإنسان بالطاقة الإيمانية التي ترشده إلى الخير وتمده بقوة معنويّة تجعله يجابه الشدائد بشجاعة ورباطة جأش؛ والإنسان يحتاج من أجل مقاومة الأمراض إلى أن تكون مناعته البدنيّة والنفسيّة قويّة، وهو ما يُقرّره الأطباء والمختصّون، فكلّما كان المريض يعيش حالة من السكينة والطمـأنينة كان أقدر على التصدّي للمرض، مع ضرورة الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج بالتأكيد؛ ومن أسباب المناعة الصحيّة العناية بالنظام الصحّي في الحياة من: غذاء وحركة ووقاية؛ وهذه العناصر الوقائية كلّها هي مما دعا إليه الدين وحثّ عليه، فقد أمر الله تعالى بالأكل من الطيبات وتجنب الخبائث. يقول الله تعالى مذكّرًا بما جاءت به جميع الرسالات وأكدّه النبي- صلى الله عليه وسلم- في رسالته الخاتمة: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157] قال ابن كثير في تفسير الطيبات والخبائث نقلًا عن بعض العلماء: (كل ما أحلّ الله تعالى، فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرّمه فهو خبيث ضار في البدن والدين).

* وإن من وظائف الدين أيضًا تأكيد العناية بالنظافة بكلّ ما تعنيه وتشمله؛ ولا عجب أن يكون الباب الأوّل في الفقه الإسلامي هو باب الطهارة التي تعدّ المدخل الأول إلى العبادة؛ وما جاء في ذلك من أحكام الغسل، وتشريع الوضوء للصلاة بتنظيف الأعضاء الظاهرة من الجسم، والحث على نظافة اليدين قبل الطعام وبعده، والترغيب في السواك (إرشاد نبوي لتنظيف الأسنان وتطييب رائحة الفم بعود شجري رطب)، وما جاء في السنة من الأخذ بخصال الفطرة، وحفظ الطعام عن التغير والتلوث.. كلها تعليمات صحية الغرض منها جعل النظافة سلوكًا عاماً يلتزم به الإنسان في حياته.

يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري عن جابر رضي الله عنه: (أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلّقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمّروا الطعام والشراب) وفي لفظ مسلم: (لا يمرّ بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء، إلا نزل فيه من ذلك الوباء).

لا شك في أن هذه التعليمات الصحية لها أثر كبير في الوقاية من الأمراض، وهو ما تدعو إليه الدوائر الطبية أيضًا، والمؤمن عندما يلتزم بهذه التوجيهات إنما هو في الوقت ذاته يُطبق ما ينفعه صحيًّا ويُمارس عملًا عباديًّا، وهو مما يزيده حرصًا على ذلك.

* ومن التوجيهات الدينية التي جاء بها الدين في حال وجود الأوبئة الأخذ بالتدابير الصحية التي تمنع من انتشار العدوى؛ فقد جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن زيد- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا سمعتم الطاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإن وقع بأرض، وأنتم فيها، فلا تخرجوا منها) متفق عليه، وهذا التوجيه النبوي في حال وجود الأوبئة يُعلّم المؤمن المسؤولية في المحافظة على نفسه من الضرر ومنعه من إيقاع الضرر بغيره؛ وقد جاء في الحديث النبوي قوله عليه الصلاة والسلام الذي يضع قاعدة عامة للأحكام الشرعيّة:(لا ضرر ولا ضرار) رواه مالك في الموطأ، وقد جاء في شرح الحديث في “المنتقى شرح موطأ مالك”: (الضرر هو ما لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة، والضّرار ما ليس فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة، ومعنى ذلك ـ والله علم ـ أن الضرر ما قصد الإنسان به منفعة نفسه وكان فيه ضرر على غيره، وأنّ الضرار ما قصد به الإضرار لغيره).

* ومن وظائف الدين في التصدي لوباء “كورونا” أيضًا: حثّ المؤمنين على أن يلتزموا بالتعليمات الصحية التي تصدرها الجهات الرسميّة، حفاظًا على أنفسهم وعلى نفوس الآخرين؛ وهو ما جاء الدين يدعو إليه بترسيخ مفهوم المسؤولية الجماعية، الذي أكّده حديث السفينة؛ وهو قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا ” أخرجه البخاري.

وكذلك الشعور بالواجب في درء هذا الوباء لكل من يملك قدرة على ذلك بمختلف الوسائل بحسب قدرات كل أحد، فعلى الطبيب والممرض أن يقوم بواجبه في علاج المرضى، وعلى الباحث أن يجتهد في الكشف عن الأدوية واللقاحات الواقية، وعلى كل إنسان أن يساعد العاجزين وكبار السن الذين يحتاجون إلى عون؛ وعلى صاحب المال أن يتبرع من أمواله للمساعدة في البحث العلمي والعلاج وسدّ حاجات الناس، وأن يستحضر كل إنسان أن سعيه في حوائج الناس من أعظم القربات التي يتقرب بها إلى الله تعالى؛ وقد جاء في الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام لمن سأله عن أحبّ الناس إلى الله تعالى فقال له: (أحبّ الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس.. الحديث) حديث حسن رواه ابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما.

إن ما ينزل بالناس من كوارث وابتلاءات يجب أن يذكرهم بالله وأن يسوقهم إلى العودة إليه والإيمان به، والتضرع إليه أن يكشف عنهم ما نزل بهم قال الله تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (السجدة / 21)، وطريق الرجعة هو طريق التضرع إلى الله تعالى، قال تعالى : ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (الأنعام/ 43).

فتوى (3/30) مدى مشروعية تعليق الصلوات في المساجد بسبب فيروس كورونا

السؤال: هل جاء في الشريعة ما ينص على تقديم صحة الجسد على إقامة العبادات، وما الدليل من القرآن الكريم والسنة النبوية على تعليق الصلوات في المساجد في هذه الظروف؟

 الجواب: لقد جاءت التعاليم الإسلامية تدعو إلى الحفاظ على حياة الإنسان وحماية نفسه من كل أذى، واعتبرت ذلك الأمر من جملة القيم العليا التي جاء الدين بترسيخها؛ وقد بلغت عناية الدين بحماية النفس الإنسانية إلى حد أن القرآن الكريم قد أباح للمسلم في حال الإكراه أن يتلفظ بكلمة الكفر حفاظًا على نفسه من القتل فقال تعالى: ﴿ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، وأباح للمريض والمسافر الفطر في رمضان حفاظًا على النفس من المشقة الشديدة أو الضرر، فقال تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام ﴾ [البقرة: 184]، رغم ما في تلك الصور من ترك للعزيمة والأكمل، ولذلك فإنه يصّح من باب أولى تعليق الصلوات في المساجد حفاظًا على الأرواح والأنفس من نقل عدوى فيروس كورونا إليها، وتؤدّى الصلوات في البيوت.

أمّا الأدلة على جواز ترك إقامة الشعائر في المساجد في هذه الظروف فبالإضافة إلى القواعد الشرعية المتفق عليها: كالضرر يزال، والضرورات تبيح المحظورات، والمشقة تجلب التيسير، يمكن الاستدلال بما يلي:

  1. روى الشيخان عن أَبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»،  وقد جزم الأطباء أن حامل فيروس كورونا قد لا تظهر عليه أي أعراض لمدة طويلة؛ لذا فهو ينقل العدوي لكل من يقابله، وهو ما يحدث في المساجد دخولًا وخروجًا، وتقاربًا في الصفوف، وتكرارًا لتعدد الساجدين في الموضع الواحد.
  2. روى الشيخان عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ »، وإذا كان هذا مطلوبًا بشكل عام بين الدول والمناطق والمدن، فمن باب أولى في التجمعات الأصغر كالمساجد، والحماية للجميع تفرض الإغلاق بالكليّة خاصّة مع وجود بدائل شرعية منصوص عليها للجمع والجماعات.
  3. القياس على ترك الجمعة لأجل المطر الذي يحمل الناس على تغطية رؤوسهم، ففي الصحيحين: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : إذَا قُلْت : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. قَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَلِكَ ؟ لَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم )، ولا شك في أن خطر الفيروس ومشاقّه أعظم من مشقة الذهاب للصلاة مع المطر.
  4. قرَّر الفقهاء أن الخوف على النفس أو الأهل أعذار تبيح ترك الجمعة أو الجماعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” مَنْ سَمِعَ الْمُنَادِيَ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌأ“. أخرجه أبو داود والنسائي، وإذا كان كل من يسافر أو يختلط بالناس اليوم يخاف على نفسه وأهله من الفيروس فهو معذور في التخلف عن الجمعة أو الجماعة.

فتوى (4/30) صلاة الجمعة في البيوت بمتابعة الخطبة عبر وسائل الاتصال الشبكي

 السؤال:  هل تجوز صلاة الجمعة عن بُعد، وصورتها أن يقدم الإمام الخطبة من على منبر مسجده، ويكون معه شخص أو شخصان، وبقية الناس يتابعون الخطبة من بيوتهم، ثم يصلون بصلاة الإمام ولا يصلون الظهر بعدها؟

الجواب: صلاة الجمعة في البيوت خلف المذياع أو التلفاز أو البث المباشر أو غير ذلك من وسائل الاتصال الشبكي لا تجوز، ولا تجزئ عن صلاة الجمعة، ولا تُسقط صلاةَ الظهر عمّن صلّاها على هذا النحو، وهو ما انتهت إليه الهيئات والمؤسسات الإفتائية المعاصرة، وما أفتى به جمهور الفقهاء المعاصرين في هذه النازلة أو قبلها بعقود؛ لأنّ صلاة الجمعة عبادة توقيفية تعبدية لها صفة وهيئة شرعية لا تقع العبادة صحيحةً إلا بها، وقد دلّ على تلك الصفة والشروط والأركان ما نُقل من القول والفعل النبوي منذ فرض الجمعة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواتر أداؤها على تلك الصفة منذ العهد النبوي إلى يومنا هذا دون تعديل أو تغيير، وأداؤها في البيوت على الصفة المذكورة مناقض لتلك الهيئة النبوية، واستحداث صورة جديدة لصلاة الجمعة يضادّ الأمر النبوي ويبطل تلك الصلاة، ويُستدل على عدم صحة صلاة الجمعة في البيوت بسماع الخطبة بوسائل الاتصال الشبكي بما يلي:

أولاً:  قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 9]، فهذا أمر من الله بالسعي للجمعة، وقد اتفق العلماء من أهل الفقه والتفسير على وجوب السعي للجمعة، والسعي لا يتحقق بالصلاة في البيوت خلف المذياع، وأيضًا الأحاديث النبوية الصحيحة التي خصّت صلاة الجمعة بهيئة وأحكام لا تتم في حال أدائها في البيوت، كحديث أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “من غسَّل يومَ الجمعةِ واغتسل، ثم بكَّر وابتكر، ومشى ولم يركبْ، ودنا من الإمام، واستمع، وأنصت، ولم يَلْغُ، كان له بكلِّ خطوةٍ يخطوها من بيتِه إلى المسجدِ، عملُ سَنَةٍ، أجرُ صيامِها وقيامِها“. أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه بسند حسن، فكيف نحقق معاني التبكير والاجتماع والشعار إذا أُديت الصلاة في البيوت خلف البث المباشر؟

ثانياً: الجمعة فريضة لها هيئة وصفة شرعية، ومقاصد مرعية، وبعد اتفاق أهل العلم أن فرض الوقت الجمعة أو الظهر، فإنهم اختلفوا في أيهما أصل والآخر بدل منه، والراجح من أقوال العلماء أنّ الظهر هو الأصل والجمعة بدل منه؛ لأنّه الظهر فُرض في الإسراء، والجمعة متأخر فرضها، فإذا تعذّر إقامة الجمعة لعدم توفر شرائطها عُدنا إلى الأصل وهو الظهر، ومازال المسلمون في كثير من المدن والأقطار الإسلاميّة يفرقون بين مساجد الجُمع والجماعات، فيُقصرون صلاة الجمعة على المساجد الجامعة الكبيرة ويغلقون المساجد الصغيرة يوم الجمعة، لتحقيق معنى الاجتماع والشعيرة والعيد الأسبوعي للمسلمين، وكلّ هذا ينهدم إذا قلنا بصحة الصلاة خلف المذياع ونحوه.

ثالثاً: من المآلات المترتبة على صلاة الجمعة في البيوت خلف البث المباشر: القضاء على روح الشعيرة، والوصول إلى إبطال الجُمع والجماعات بالكلية سواء مع الجائحة أو بعد زوالها، فإذا صحت صلاة الجمعة خلف المذياع صحت صلاة الجماعة من باب أولى، وهو ذريعة لإبطال أصل بناء المساجد وتعميرها، فيكفي الناسَ في كلّ بلد مسجدٌ صغيرٌ واحدٌ يسع اثنين مع الإمام وبقية الناس يصلون من بيوتهم وأماكن عملهم بمشاهدة البث المباشر، وأعجبُ منه الصلاة خلف إمام الحرم عند اتحاد الوقت بينهم وبين وقت الصلاة في الحرم، لتحصيل الأجر المضاعف وهم في البيوت.

رابعاً: اشترط الفقهاء لصحة الاقتداء في الصلاة: اجتماع المأموم مع الإمام في مكان واحد، وعلم المأموم بانتقالات الإمام على نحو ينفي الاشتباه ويمنع جهل المأموم بحال إمامه، فإن وقع لم تصح صلاته، كما اشترط الفقهاء عدم الفصل بين المأموم والإمام بفاصل كبير كجدار، أو نهر كبير تجري فيه السفن، أو حاجزٍ يمنع وصول المأموم إلى إمامه لو قصد الوصول إليه، والائتمام من البيوت بمتابعة البث المباشر وما ماثله يُخل بهذه الشروط، ويمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه، ويبطل الصلاة عند جمهور الفقهاء لقوله صلى الله عليه وسلم: “إنما جعل الإمام ليؤتم به” متفق عليه.

خامساً: لو قلنا بصحة صلاة الجمعة على تلك الصفة فإمّا أن نؤسس هذا القول على الضرورة والاستثناء نظرًا للنازلة التي نزلت بالمسلمين، أو نؤسسه على أصل المشروعية، ولا يصح الجمع بينهما لأنه تناقض، والبناء على أحدهما باطل؛ أمّا الأول فلأن الضرورة لا تُغيّر الأحكام فيما له بدل شرعي، والجمعة بدلها الظهر إذا تعذرت إقامتها أو لم تتحقق شرائطها فيُصار إليه، وأمّا الثاني فلأنه يفضي إلى استمرار العمل بها بعد زوال الغمة، وهو ما لم يقل به أحد.

والمجلس يدعو الأئمة والخطباء في أوروبا إلى القيام بدورهم في وعظ الناس وتذكيرهم وإغنائهم عن موعظة الجمعة طوال الأسبوع، على نحو لا يشتبه بصلاة الجمعة ولا يقلل من هيبة الشعيرة ومكانتها في نفوس المسلمين ومن ذلك: تسميتها خطبة الجمعة، أو تقديمها من على المنبر، أو سبقها بأذان.

فتوى (5/30) صلاة الجمعة في البيوت

السؤال: هل يمكن نظرًا  لتعليق الصلوات في المساجد في هذه الظروف أن تُصلَّى الجمعة بمجموعة من ثلاثة أو أكثر في المنزل أو مكان العمل، حيث يؤمّهم أحدهم فيخطب ويصلون الجمعة ركعتين؟ أم أنه لا تجوز صلاة الجمعة إلا في المساجد

الجواب: صلاة الجمعة في البيوت على الصفة المذكورة لا تجوز شرعًا، ولا يَسقط فرض الجمعة بها، والواجب شرعًا هو لزوم البيوت حفاظًا على النفس والغير، وصلاة الظهر بدل الجمعة مهما طال الوقت؛ لأنّ الرخصة عند الاستثناء يبقى حكمها ما بقي سببها، وهو ما أفتت به دور الفتوى في العالم الإسلامي، وما قال به أغلب الفقهاء المعاصرين، ويُستدل على عدم صحة صلاة الجمعة في البيوت بما يلي:

أولاً: الأصل في صلاة الجمعة التعبديّة والتوقيفية، قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ “صلوا كما رأيتموني أصلي“، وقد صلّى النبيّ- صلى الله عليه وسلم- الجمعة على هيئة وصفة مخصوصتين، وبيَّن بفعله ما أُجمل في القرآن الكريم من أمرٍ بالسعي إلى الجمعة، كما تَرَكها في أحوالٍ أخرى مع القدرة على أدائها في البيوت، ولا يُتصور شرعًا أن يتركها وهو مخاطبٌ بها، كما لم يثبت عنه- صلى الله عليه وسلم-  ولا عن الصحابة الكرام، ولا عمّن بعدهم، أنّهم صلوها على غير هيئتها وصفتها الشرعية التعبدية ولو مرّة مع إمكان ذلك، ولهذا كان أهل العوالي في زمن النبيّ- صلى الله عليه وسلم- يعطِّلون مساجدهم يوم الجمعة، للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤذن لهم في إقامتها في بيوتهم أو مساجدهم.

ثانياً: إنّ الجمعة شعيرة من شعائر الله، وكونها شعيرة فهذا يقتضي إظهارها والإعلام بها ليحضرها الناس، وصلاتها في البيوت منافٍ لذلك، لهذا شُرط لها الأداء في مكانٍ معلوم مخصص لصلاة جماعة المسلمين عند من لم يشترط لها المسجدية، وبه يتحقق أعظم مقاصد الجمعة وهو اجتماع المسلمين.

ثالثاً: القول بجواز صلاة الجمعة في البيوت يتخرج على رأي الحنفية في العدد الذي تنعقد به الجمعة، ولا يصحّ التخريج عليه إلا بتحقيق بقية شروط الحنفية كشرطهم أن تؤدّى بإذن عام يستلزم الاشتهار بإقامتها في مكان بارز معلوم لكل الناس مع فتح الأبواب للقادمين إليه، وهو ما لا يتحقق في البيوت بحال، كذلك فإن تصحيح صلاة الجمعة في البيوت يقوم على تلفيق بين المذاهب الفقهية لا يتفق مع شروط أيّ مذهب وصلاة الجمعة عليه، وينتهي إلى صورة تلفيقية مرفوضة عند علماء الأصول.

رابعاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” رواه الشيخان، وصلاة الجمعة في البيوت قولٌ محدث لم يقع في التاريخ ومع الأوبئة والطواعين، وليس نازلة جديدة تستوجب اختراع صورة محدثة لصلاة الجمعة لم يقل بها أحد، فقد وقع إيقاف الجُمع والجماعات غير مرة في تاريخ الإسلام، ولم يقل أحد بإقامة الجمعة على غير ما قامت عليه في العهد النبوي وما بعده.

ومن وقائع إيقاف الجمع والجماعات ما ذكره الذهبي قال: “وَكَانَ القَحْطُ عَظِيْمًا بِمِصْرَ وَبَالأَنْدَلُس وَمَا عُهِدَ قَحْطٌ وَلاَ وَبَاءٌ مِثْله بقُرْطُبَة حَتَّى بَقِيَت المَسَاجِدُ مغلقَة بِلاَ مُصَلٍّ وَسُمِّيَ عَام الْجُوع الكَبِيْر”. سير أعلام النبلاء (13/ 438).

والمقريزي قال: وَبَطلَت الأفراح والأعراس من بَين النَّاس فَلم يعرف أَن أحدا عمل فَرحا فِي مُدَّة الوباء وَلَا سمع صَوت غناء. وتعطل الْأَذَان من عدَّة مَوَاضِع وَبَقِي فِي الْموضع الْمَشْهُور بِأَذَان وَاحِد، وغلقت أَكثر الْمَسَاجِد والزوايا. السلوك لمعرفة دول الملوك (4/ 88).

وفي سنة 827هـ يقول ابن حجر: وفي أوائل هذه السنة وقع بمكة وباء عظيم بحيث مات في كل يوم أربعون نفسًا، وحصر من مات في ربيع الأول ألفًا وسبعمائة، ويقال إن إمام المقام لم يصل معه في تلك الأيام إلا اثنين وبقية الأئمة بطلوا، لعدم من يصلي معهم. إنباء الغمر بأبناء العمر (3/ 326).

خامساً: يَمنع جمهور الفقهاء تعدد الجمعة في البلد الواحد؛ تحقيقًا لمعنى الاجتماع والتلاقي، وتكثيرها بكثرة المساجد يناقضه، وقد أفرد الشيخ تقي الدين السبكي المسألة برسالة خاصة سماها: {الاعتصامُ بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد}، ورجَّح القولَ بعدم جواز تعدّد الجمعة إلا للحاجة، ثم قال:”وأما تخيل أن ذلك -أي تعدد الجمعة- يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة، فهذا من المنكر بالضرورة في دين الإسلام” فتاوى السبكي 1/180 .

فماذا عساه يقول عن تعدّدها في البيوت؟ وإذا كان الفقهاء يمنعون تعدّد الجمعة في البلد الواحد رغم أدائها في المسجد، وبحضور الإمام والعدد الكثير، فهل يُجوزون تعدَّدها في البيوت دون إمام وبثلاثة أفراد تعدَّدًا لا يُحصى حتى يبلغ الآلاف في البلد الواحد؟ وهل يُقبل عقلًا أن تقام عشر جمعات أو يزيد في بناية واحدة؟

سادساً: بناءُ القول بالجواز على أصل الضرورة لا يصح؛ لأنّ شرط الضرورة أن يكون المكلف مخاطبًا بها، والصحيح سقوط التكليف بها بسبب عذر الجائحة بل تسقط بما دونه من الأعذار كالمطر، ومن مآلات القول بإقامة الجمعة في البيوت مداومة الناس عليها بعد زوال الجائحة واستهانتهم بالذهاب إلى المساجد، خاصة أنّ من قال بجوازها من المعاصرين لم يؤسِّس قوله على الجائحة، وإنما على أقوال فقهيّة عامة تصدق على الأحوال والأوقات كلّها.

سابعاً: فاضَلَ العلماء بين الجمعة وبين يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يجمعهما من الاجتماع والدعاء حتى قال ابن القيم: “صَلَاةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ آكَدِ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَجْمَعٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ وَأَفْرَضُهُ سِوَى مَجْمَعِ عَرَفَة” فهل يصح أن تكون فريضة بهذه المنزلة تؤدّى بثلاثة أفراد في البيوت؟

إنّ صلاة الجمعة بصورتها وشرائطها المعروفة من مفاخر الإسلام ومن نِعم الله على المسلمين، وقد ذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد أنّ صلاة الجمعة خصّت عن غيرها من الصلوات بثلاثٍ وثلاثين خاصيّة كالاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، وغيرها، وتصحيح صلاتها في البيوت يفوّت هذا الامتياز وتلك الخصائص للجمعة، فعلى الأئمة وعموم المسلمين أن يتمسكوا بصفتها وصورتها الشرعية، وأن لا يبدلوها بصورٍ أخرى ما قصَدَها ولا عناها الفقهاء الأُوَل بحال، وهي اجتهادات تُعسّر ما يسّرَه الله، وتضيِّق ما وسَّعه.

فتوى (6/30) الذهاب إلى المسجد في مدينة لم تسجل بها إصابات بكورونا

السؤال: لم يعلن في مدينتي حتى الآن عن تسجيل إصابات بفيروس كورونا، ولم يصدر قرار بإغلاق مسجدنا، وكما يقول الأطباء قد يوجد مصابون ونحن لا نعلم، حيث لا تظهر عليهم الأعراض فهل أمتنع عن الذهاب إلى المسجد في هذه الحالة؟

الجواب: الأصل هو الالتزام بقرار السلطات والمنظمات الصحية في مدينتك، فإذا كانت حركة الحياة طبيعية ولم تسجل إصابات ولم يصدر قرار بمنع التجمعات فلا حرج عليك في الذهاب إلى المسجد، وعليك أن تتابع المنظمات الصحية في بلدك، فإذا منعت التجمعات تلزم بيتك وتؤدّي صلاتك فيه: الجمعة ظهرًا والصلوات الخمس جماعةً مع أهل بيتك، ويجب أن تعلق الصلوات في المساجد في هذه الحالة حفاظا على أرواح الناس لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].

فتوى (7/30)  صلاة الجماعة بمسافة متر بين المصلين

السؤال: بعد انتشار فيروس كورونا انتشرت صورة لصلاة الجماعة في بعض المساجد حرصًا من الناس على استمرارها، وهي أن تُباعد المصلين عن بعضهم بمسافة متر أو يزيد تجنبًا للعدوى، فما حكم الشرع في تلك الصلاة؟

الجواب: الأَوْلى في هذه الظروف إيقاف الصلوات في المساجد وأدائها في البيوت؛ فإنّ صلاة الجماعة سنّة مؤكدة، والحفاظ على أرواح الناس واجب، ولا يقبل تقديم السنة على الواجب، والصلاة على الصفة المذكورة تكلَّف وتعقيد لأمر يسّره الله، كما أنّها تُناقض روح صلاة الجماعة، وتهدم نصوصها الآمرة بالتقارب ورص الصفوف، والناهية عن صلاة المنفرد خلف الصف.

على أنّ هذا الإجراء لا يحمي الناس من العدوى، حيث يختلطون ببعضهم دخولًا وخروجًا من المساجد، وسجودًا في الموضع الواحد، ولمسًا للأبواب عند فتحها، ويجب أن تكون المساجد عنوانًا على الالتزام بالنظم والقوانين والتحوط في الحفاظ على أرواح الناس لا العكس.

فتوى (8/30) العبادة الجماعية في أوقات معينة لرفع البلاء

السؤال: انتشرت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لتحديد أوقات للعبادة بنيّة رفع البلاء، كتحديد يوم للصيام أو ليلة للقيام أو ساعات للاستغفار، فهل يُشرع ذلك أم يُنهى عنه لبدعيته؟

الجواب: المسلم إذا فزعه أمرٌ أو نزل به ضُرٌ هرع إلى الصلاة والدعاء والتضرع لله تعالى، ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43] وكما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» البخاري، وكما أنّ الخسوف والكسوف آيتان من الله تعالى تدلّان على قدرته، كذلك الوباء وسائر الأمراض كلّها آيات من الله تعالى، وكما أنّ الإنسان مأمور بالمسارعة إلى الصلاة فيهما كذلك مأمور بالرجوع إليه في الوباء وغيره، ودعوة المسلمين إلى الصلاة والاستغفار والدعاء الخالص في مثل هذه المصائب مشروع وهو ما أمر به القرآن الكريم:  ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [سورة البقرة، 2/45]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. [سورة البقرة، 2/153]، ولا يوجد نص يمنع من التداعي والتواصي لتحديد وقت للعبادة بنية رفع البلاء، وقد قرر علماء الأصول أن التزام وقت معين في العبادات المطلقة كقيام الليل والذكر والدعاء مشروع، إن كان الباعثُ عليه عدم اعتقاد فضل خاص للعبادة بهذه الصورة.

ومن النصوص الفقهية الدالة على المشروعية قول الفقيه الحنفي على القارئ « وكذا يصلون فرادى عند حصول الضوء القوي بالليل، وعند انتشار الكواكب، وعند حصول الظلمة القوية بالنهار، وعند حصول الريح الشديدة، والزلازل، والصواعق، والثلج والمطر الدائمين، وعموم الأمراض، والخوف من العدو» . ( فتح باب العناية لعلي القارئ، 1/348).

وذكر المؤرخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن القرشي الدمشقي الشافعي (توفي بعد 780هـ) في كتابه المسمى “شفاء القلب المحزون في بيان ما يتعلق بالطاعون”: أنه حدث طاعون كبير سنة 764هـ، فـ«كان الناس به على خير عظيم من إحياء الليل وصوم النهار، والصدقة والتوبة».

فتوى (9/30) تعجيل إخراج الزكاة للمساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا

 السؤال: ما حكم تعجيل الزكاة للمساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا بسبب الحاجة الشديدة بعد جائحة كورونا؟

الجواب: يجوز تعجيل إخراج الزكاة لعام أو أكثر حسب حاجة المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا، ما بلغ المال نصابًا، وإن لم يحلّ عليه الحول، والقول بتعجيل الزكاة قبل حولها لمصلحة معتبرة هو رأي جمهور الفقهاء، وأكثر أهل العلم كالحنفية، والشافعية، والحنابلة، ومن وافقهم، وقد استدلوا بالحديث الحسن الذي رواه الترمذي، عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “أنَّ العبَّاس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخَّص له في ذلك“، ولأنّه حق ماليّ جعل له أجل ترفّقًا بالمزكّي، فجاز تعجيله قبل أجله قياسًا على الدين.

والمساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا تعتمد على تبرعات المسلمين ونفقاتهم رافدًا ماليًّا رئيسًا، وبعد إغلاق المساجد بسبب فيروس كورونا توقفت التبرعات، وما توقفت حاجة المساجد والمراكز المالية لدفع رواتب الموظفين ومصروفات البنايات ولوازمها، بل إنّ بعض المساجد مهدّدة بالإغلاق التام بسبب وضعيتها الماليّة، والمجلس يدعو عموم المسلمين في أوروبا إلى القيام بواجبهم بتثبيت دعمهم المالي المنتظم للمراكز الإسلامية من تبرعاتهم وصدقاتهم غير الزكاة، فهذا واجب الوقت، والصدقة من أسباب رفع البلاء والوباء، ولا يخفى أنّ المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا تمثل الوسيلة الأعظم لحفظ الدين على مسلمي أوروبا، وقد جوَّز المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في فتوى سابقة دفع الزكاة لصالح هذه المراكز.

فتوى (10/30) الدعاء لغير المسلمين بالشفاء

السؤال: ما حكم الدعاء لغير المسلمين بالشفاء؟

الجواب: لدى بعض المسلمين تصوّر خاطئ مفاده أنّ التعامل بأخلاق الإسلام يكون بين المسلمين فقط، وهذا مخالف للفهم الإسلامي الصحيح؛ لأنّ أخلاق الإسلام تطبّق مع الناس كلّهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وخالق الناس بخلق حسن“، رواه الترمذي، والتعامل الإنساني من الدعاء لغير المسلمين والرحمة بهم ومساعدتهم بشتّى الصور هو تعامل مشروع، بل مأجور عليه من الله تعالى إن شاء الله، والدعاء نوع من أنواع البرّ، ونحن مأمورون به، بنص كتاب الله وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد اتفق العلماء على جواز الدعاء لغير المسلمين بالصحة لأبدانهم والشفاء لأمراضهم، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه“؛ رواه البخاري ومسلم، والمراد هو الأخوة العامة التي تشمل المسلم وغير المسلم، فكما يحب المسلم الصحة والشفاء لنفسه يحبها لأخيه غير المسلم، جاء في دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين:  وقال ابن العماد: الأولى أن يحمل على عموم الأخوة، حتى يشمل الكافر فيحبّ لأخيه الكافر ما يحبُّ لنفسه.

فتوى (11/30) التنمُّر من المصابين بكورونا

السؤال: ما حكم التنمُّر والاشمئزاز من المصابين بالكورونا وذويهم ؟

الجواب: لا يجوز شرعًا التنمُّر أو الاشمئزاز من شخص مصاب بالكورونا أو بأيّ بلية أخرى، والمصاب ببلية من البلايا ما هو إلا مبتلى أو مكروب، فإن رأيت وقد عافاك الله من هذه البلية فما عليك إلّا أن تحمد الله تعالى، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ رَأَى صَاحِبَ بَلاءٍ فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلاكَ بِهِ ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا إِلا عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مَا عَاشَ” رواه الترمذي بسند حسن. وقد يكون المبتلى أعلى منزلة عند الله من المعافى كما ورد في الحديث : قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ – لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ – ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ، ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى)  رواه أبو داود بسند صحيح، فمن استطاع أن يعين المبتلى، وأن يخفف عن المريض، وأن يساعد كبار السن  فلا يقصر في المسارعة إليها، لأنّ هذا مما يجعله محبوبًًا عند الله تعالى؛ روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) حديث حسن.

وهناك فرق بين التوقَّي المطلوب عند نازلة الوباء في مجال مخالطة الناس وتغير سلوك المرء تجاه الرجل المصاب، فالطبيب الذي يعالج مثل هذا المريض يتّخذ الإجراءات الوقائية كلّها عندما يقترب من المريض للفحص والعلاج، لكنّه لا يستقبحه ولا يتسّخط عليه، وهكذا يجب أن يكون سلوك المرء تجاه المصاب، فهو إن لم يستطع مساعدته، فعلى الأقل يدعو له بالشفاء ويخاطبه بلطف وإكرام، ويدخل عليه السرور ولو ببسط الوجه وانشراح الصدر عند اللقاء.

فتوى (12/30) الرقية من الوباء

 السؤال: هل تصح الرقية الشرعية من الوباء؟

الجواب: إنّ ما يسمّى “الرقية الشرعيّة”  قد لوَّثته تقاليد وممارسات ليست شرعيّة، بل هي مضادّة للشرع ومقاصده، فليحذر الناس من مثل هذه الرقى أشد الحذر، ويتجنّبوا الاختلاف إلى الراقين والعزّامين الذين أفسدوا دين الله تعالى، واستغلوا عقول الضعفاء وظروف المبتلين أسوأ استغلال.

والطريقة الصحيحة في الوباء بل في الأمراض بصفة عامّة هي اتباع الإجراءات المعتادة في ضوء إرشادات الأطباء المتخصّصين فيها، فيتحتّم على المسلمين وغيرهم من سائر البشر في هذا الوباء المتفشي الآن أن يتقيّدوا بإرشادات خبراء الصحة وتعاليم الحكومات المسؤولة عن رعاية شؤون مواطنيها، والرقية الشرعيّة دعاء وتضرع إلى الله بالشفاء، والأصل فيها أن يقوم بها الإنسان لنفسه خاصة في أوقات الأوبئة والطواعين.

فتوى (13/30) الخروج من المنزل في مناطق الحجر

السؤال: ما حكم الخروج من المنزل لغير حاجة في مناطق الحجر؟

الجواب: لا يخفى على أحد أنّ هذا الوباء يتفشّى باحتكاك الناس بعضهم ببعض بسرعة كبيرة، ومن ثمّ يؤدّي إلى ابتلاء عدد كبير جدًّا بالمرض، ووفاة بعضهم، وكلّ من تعمّد شيئًا من ذلك كان مخطئًا بل آثمًا، فليعتكف الناس في بيوتهم ولا يخرجوا منها إلّا لحاجات قاهرة، وليتوخّوا الابتعاد عن غيرهم على النحو اللازم، ونخشى أن تكون مخالفة ذلك ممن تأكد من إصابته بالفيروس في درجة القتل شبه العمد إذا تسبب بخروجه في موت أحد.

فتوى (14/30)  الانتقال والسفر في مناطق الوباء

 السؤال: ما حكم الانتقال والسفر من وإلى مناطق الوباء؟

الجواب: فيروس كورونا المسمى covid- 19 هو أحد الفيروسات القاتلة الّتي يمكن انتقالها من شخصٍ مصاب به إلى غيره بأشكال الاختلاط والتَّماس المختلفة، مما قد يسبب نقل الوباء وتعرض الإنسان للموت بسببه والله تعالى يقول ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ البقرة 195 ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ النساء ، 29 كما جاءت الأحاديث عن النبيّ- صلّى الله عليه وسلّم- بنهي المسلم عن الدخول إلى أرض وقع بها الطاعون أو الخروج منها.

روى البخاري، ومسلم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنّه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ [يعني : الطاعون] بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْه) ومن هذه الأدلة يُعلم عدم جواز الدخول أو الخروج من وإلى الأماكن التي نزل بها الوباء حفاظًا على النفس التي هي مقصد من مقاصد الشريعة، والواجب على المسلم أن يلتزم بقرار السلطات الرسمية والمنظمات الصحية في بلده، ولا يخرج من بيته إلا للضرورة متقيدًا عند خروجه بقوانين الحجر ومتطلبات الوقاية والسلامة، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن واجب الوقت في أزمنة الطواعين هو لزوم البيت، فعن عائشة أم المؤمنين قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الطاعونِ، فأخبَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “أنَّه كان عَذابًا يَبعَثُه اللهُ على مَن يَشاءُ، فجعَلَه رَحمةً للمُؤمِنينَ، فليس مِن رَجُلٍ يَقَعَ الطاعونُ فيَمكُثُ في بَيتِه صابِرًا مُحتَسِبًا يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللهُ له إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ الشَّهيدِ“. رواه أحمد.

فتوى (15/30) المصافحة والمعانقة في زمن الأوبئة

السؤال: ما حكم المصافحة والمعانقة في زمن الأوبئة وخوف انتقال العدوى؟

الجواب: المصافحة عند لقاء المسلم أخاه من السنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم إذا صافح أخاه تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر.) رواه البزار بسند صحيح، وأمّا إذا كانت المصافحة والمعانقة سببًا لانتقال العدوى، وهذا ما أكّده الأطباء وأهل الاختصاص، فإن المصافحة والمعانقة تصير محرمة؛ للقواعد الشرعية المقررة لا ضرر ولا ضرار، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة رجل مجذوم في وفد ثقيف قائلًا: ارجعْ فقد بايعتك، ولا شكّ في أنّ خطر انتقال عدوى الفيروس أكبر من الجذام.

فتوى (16/30) المسؤولية عن موت شخص بسبب العدوى

السؤال: لو ثبت أنّى كنت مصابًا بفيروس كورونا ونقلت العدوى لغيري، فهل يعدّ شروعًا في قتل، أو قتل خطأ، وما الذي يجب عليّ شرعًا؟

الجواب: يجب على الإنسان أن يأخذ جميع التدابير التي يجب اتخاذها للحفاظ على نفسه والآخرين، فإذا كان الإنسان يعرف أنّه مصاب بالفيروس فيجب عليه أن يبتعد عن الناس وإلّا يكون آثمًا محاسبًا أمام الله تعالى؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها». البخاري، وهذا أمر والأمر المطلق يفيد الوجوب، وقد أفتى بعض فقهاء الحنفية في شخص مصاب بالطاعون وهو يعلم وقد خالف الحجر في أيام الطاعون فسافر ونقل العدوى لشخص آخر فمات، أنّه قتل بالتسبّب وتجب الدية على العاقلة، أمّا إذا أخذ المصاب الاحتياطات الطبية اللازمة لعدم نقل العدوى لغيره، ورغم ذلك انتقلت وأدّت إلى موت شخص فلا شيء عليه، لقوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5].

فتوى (17/30) تخزين السلع ورفع الأسعار

السؤال: ماحكم تخزين السلع الغذائية فوق الحاجة ورفع الأسعار من قبل التجار؟

الجواب: الأصل أن يقتصر المسلم في تسوّقه على حاجاته المعتادة، وأن يقتصد قدر الإمكان خاصة في أوقات الأزمات والأوبئة؛ فإنّ المبالغة في تخزين السلع الغذائية فوق الحاجة يؤدّي إلى الإضرار باحتياجات الآخرين، كما ينشر الخوف من نقص الغذاء بين الناس، ويساهم في رفع الأسعار، ولا يجوز للتاجر المسلم أن يستغل حاجات الناس برفع الأسعار، أو تخزين السلع انتظارًا لرفع ثمنها، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتكار فقال: (لا يحتكر إلا خاطئ) قال الإمام  النووي رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: (الخاطئ ): هو العاصي الآثم، وقال: قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار دفع الضرر عن عامة الناس، وفي أوقات الأزمات يجب أن يجسّد المسلم خلق الإيثار لا الأثرة، والرحمانية لا الأنانيّة.

فتوى (18/30) الأولى بالتقديم في العلاج عند التزاحم

السؤال: ماذا نفعل نحن الأطباء المسلمون في ظل كثرة المرضى وقلة أجهزة التنفس الصناعي؟ مثلاً: عندما نكون أمام مريضين: الأول يُرجى شفاؤه والثاني: من الصعب شفاؤه لتدهور حالته الصحية.

الجواب: على الأطباء المسلمين الالتزام بالنظم واللوائح الطبية في المشافي التي يعملون بها، فإن وُكِل الأمر إليهم عليهم أن يحكّموا المعايير الطبيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، ولا يجوز نزع الأجهزة عن مريض يعالج بها، لصالح مريض جاء بعده، أمّا إذا كان الطبيب حائرًا بين مريضين بحيث لم يَعد له مجال إلا لاختيار أحدهما، فيُقدّم الأسبق إلّا إن كان ميؤوسًا من شفائه، ومن يحتاج إلى  الإسعاف الطبي العاجل على من تسمح حالته بالتأخر، ومن يُرجى شفاؤه على من لا يُرجى، وذلك بغلبة الظن والتقدير الطبي.

فتوى (19/30)  أحكام الجنائز في ظل أزمة كورونا

السؤال: لا يخفى ما تمرّ به البشريّة اليوم من جرّاء تفشي وباء كورونا المستجد من كثرة الأمراض والأموات وما ترتب على انتشاره من قوانين وإجراءات ،كادت الحياة معها أن تتوقف ،حيث أغلقت الدول حدودها، والمواصلات انخفضت إلى أدنى حدودها أو انقطعت ، والمستشفيات امتلأت بالمصابين حتى أصبحت غرف العناية المركّزة لا تكفى للمرضى، ولا تكفى الأمكنة المخصّصة لأعمال الجنائز في بعض المدن، ما اضطر العلماء والمجامع الفقهية إلى إصدار الفتاوى لهذه الحالة الطارئة مثل إيقاف العبادة الجماعيّة بما فيها صلاة الجمعة لحفظ أرواح الناس، وفى هذه الظروف الطارئة وبسبب كثرة الوفيات وخطورة عدوى الوباء، فإنه لن يتمكن المسلمون من التعامل مع جنائزهم وموتاهم بالطريقة الأكمل والأمثل المعروفة في الأحوال المعتادة، فكيف يتعامل المسلمون مع موتاهم تغسيلًا وتكفينًا وصلاةً ودفنًا؟

الجواب: الفتوى – كما هو معلوم – تتغيّر بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال، وقد تقرّرت في فقهنا الإسلامي جملةٌ من القواعد التي تراعي الظروف الاستثنائية وحالات الضرورة، ومنها: (الضرورات تبيح المحظورات)، (المشقة تجلب التيسير)،(لا تكليف إلا بمقدور)، وهذه القواعد كلّها ونظائرها وفروعها، إنما بُنيتْ على استقراء نصوص الوحي، ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ (البقرة/286) وقوله: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ  ﴾ (الحج/78) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا) وغير ذلك من النصوص الكثيرة، ومن هنا فإنّنا ومع تأكيد ضرورة الالتزام بالقوانين والتعليمات الصادرة عن الدولة والجهات المعنية، نلخص الأجوبة عن أهم الأسئلة المطروحة في باب الجنائز وأحكامها في ظل هذا الوضع الحرج، في النقاط الآتية:

أولاً: بالنسبة لغسل المتوفَّى من المصابين بهذا المرض فإنّ المجلس بعد نقاشات مستفيضة وسؤال الأطباء العاملين في مناطق الوباء، انتهى إلى ترجيح دفن الميت المصاب بداء كورونا بالكيس وفي التابوت الذي خرج به من المشفى، دون تغسيل أو تيمم حتى إن سُمح به قانونًا وذلك لما يلي:

  • إنّ تغسيل الميّت المسلم على اختلاف بين الفقهاء في حكمه، فجمهورهم على الوجوب، وفي قول عند المالكية والحنفية أنّه سنة مؤكدة، وهو خلافٌ معتبر وسببه: أنّ الغسل نُقل بالعمل لا بالقول، والعمل ليس له صيغة تُفهِم الوجوب، أولا تُفهمه، كما أنّه ورد على سبيل التعليم له، لا الأمر به، والراجح هو وجوب الغسل لكنّه لا يُقدر عليه إلا في الأحوال الطبيعيّة، أمّا في الأحوال الاستثنائيّة كأوقات الأوبئة والطواعين فيجوز ترك التغسيل والتيمم.
  • المعلوم اليوم لدى الأوساط الصحيّة أنّ التغسيل أو التيميم مع أخذ الاحتياطات الوقائية للمُغسِّل لا ينفي عنه خطر العدوى، خصوصًا أنّ الأخذ بشروط الوقاية للمغسل يحتاج إلى تدريب وخبرة غير مقدور عليها الآن، وإذا كانت الطواقم الطبيّة يتعرّض أعضاؤها للعدوى رغم تدريبها ومبالغتها في التحوط من الإصابة، فكيف بمغسِّل لا يمتلك هذه الخبرة ويتصل بالميّت اتصالاً مباشراً؟!
  • إنّ القواعد الفقهيّة والنصوص الشرعيّة تدل على أنّ المحافظة على حياة الحيّ الصحيح تقدّم على إقامة السنّة أو الواجب في حق الميّت، ويكفي في الأحكام اعتبار غلبة الظن المتمثل في انتقال العدوى للمغسل ثم انتقالها منه لغيره. هذا وينبّه المجلس إلى أنّ الميّت في هذا الوباء إذا دُفن على تلك الصفة لا ينقص من أجره شيئًا، وتبرأ ذمة المسلمين وأهله شرعًا بما فعلوا، وقد دلَّت النصوص على أنّه بمنزلة الشهيد عند الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم:” فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ” البخاري.

ثانياً: الصلاة على الميّت فرض كفاية عند الجمهور، إذا قام بها بعضهم سقط وجوبها عن بقيّة المكلفين، ويكفي أن يصلّي عليه من يسمح لهم القانون حتى لو كانوا ثلاثة، بل ذهب بعض العلماء إلى أنّ الوجوب يسقط بصلاة المكلف من الرجال، كما هو عند الحنفية والشافعية والحنابلة.

ويمكن لمن شاء من المسلمين أن يصلي عليه صلاة الغائب ولو فرادى، فقد ذكر بعض الشافعية والحنابلة جواز الصلاة على الميّت (صلاة الغائب) إذا شقّ حضور الصلاة عليه، والصلاة في هذه الحالة من باب أولى، لتعذر الحضور .

ثالثاً: أمّا الدفن، فإنّ الأصل فيه أن يدفن المسلم في المكان الذي يموت فيه، فقد دفن الصحابة رضي الله عنهم في الأماكن التي ماتوا فيها، والأصل كذلك أن يدفن المسلم في المقابر الخاصّة بالمسلمين؛ فإن لم يتيسّر فيدفن حيث أمكن ولو في مقابر غير المسلمين؛ إذ لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يضرّ المسلم في حالة كهذه أن يدفن في مقابر غير المسلمين، فإنّ الذي ينفعه في آخرته هو عمله وليس موضع دفنه. قال تعالى: ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴾ [النجم: 39]، وكما قال سيدنا سلمان رضي الله عنه: (الأرض لا تقدس أحدًا) رواه مالك في الموطأ .

فتوى (20/30) حرق أموات المسلمين في الوباء

السؤال: هل يجوز حرق الأموات الذين ماتوا بهذا الوباء خاصة لو دعت الجهات المسؤولة لذلك؟

الجواب: إن دفن الموتى في القبور هو الموافق لشرف الإنسان وحرمته، وهو المنصوص عليه في كتاب الله، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)  أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ﴾ [المرسلات: 25، 26]، وهي الطريقة المتبعة من زمن نبيّنا- صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا في جميع أراضي المسلمين ومجتمعاتهم، فليُصِرّ المسلمون على التمسك بهذه السنة المحمدية بحق موتاهم.

وعلى المؤسسات الإسلامية أن تبذل جهدها لبيان الخصوصية الدينية لأمر الدفن عند المسلمين، وما يخلقه قرار إحراق الجثث في نفوس المسلمين من إشكالات، والحمد لله أنّنا لا نعلم أنّ في أوروبا بلدًا يُلزِم بالحرق، بل يجعل ذلك اختياريًّا.

فتوى (21/30) العجز عن تنفيذ الوصية بالدفن خارج أوروبا

السؤال: توفيت أمي بسبب الإصابة بفيروس كورونا، وتركت وصيةً بالدفن في موطنها الأصلي، وكما هو معلوم أن حركة الطيران متوقفة ولا يمكن نقلها خارج أوروبا، فهل نأثم بدفنها حيث ماتت؟

الجواب: الأصل أن يدفن الإنسان حيث يموت، والسنة التعجيل بالدفن قدر الإمكان، وهذا في الأحوال العادية، فكيف بالظروف الاستثنائية التي يستحيل فيها نقل الجثمان وتنفيذ الوصيّة؟ فعليك أن تعجّل بدفن والدتك في مقابر المسلمين حيث ماتت، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة فضل خاص لمن مات بعيدًا عن مكان ولادته، فمن ذلك ما رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وابن حبان من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:”مَاتَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: يَا لَيْتَهُ مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قَالُوا: وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ بِغَيْرِ مَوْلِدِهِ، قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إِلَى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ فِي الْجَنَّة”  صححه أحمد شاكر، ونسأل الله أن يكتب لها أجر الشهيد، وأن يرفع درجتها عنده.

ثانيًا: التوصيات

وفي ظل هذه المحنة الحرجة والظروف الصعبة التي تعيشها أوروبا ويعيشها العالم فإن المجلس يوصي عموم المسلمين في الغرب بما يلي: 

  1. أن يجدّدوا صلتهم بربهم سبحانه وتعالى، وأن يكثروا من التقرّب إليه بالطاعات من صلاة وصدقة وصيام وغيرها، وأن يتضرّعوا إليه بالدعاء كثيرًا أن يرفع الوباء عن بلدانهم، وعن بلاد الدنيا كلّها، وأن يداوموا على الاستغفار والتوبة الصادقة.
  2. يهيب المجلس بمسلمي أوروبا أن يلتزموا بقرار السلطات بالبقاء في البيوت، والاستمرار في عدم إقامة الشعائر في المساجد، ومنع التجمعات حتى تنكشف الغُمّة، كما يحذّر من نقل الشائعات وترويجها التي تضرّ بالصالح العام تهوينًا أو تهويلًا.
  3. يدعو المجلس عموم المسلمين إلى الاستمرار في أداء واجبهم في تقديم الدعم المطلوب، من تبرعاتهم وصدقاتهم وزكواتهم، لصالح المؤسسات الإسلاميّة من مساجد ومدارس ومراكز إسلامية حتى تستمر في أداء واجباتها، والعمل على كفاية حاجات العاملين فيها خصوصًا الأئمة والمدرسون؛ لما لهم من دور كبير في مجال التوجيه والتعليم، ووفاءً لما قدّموه ويقدّمونه للمسلمين من خدمات جليلة.
  4. يتوجه المجلس بالشكر الخالص للطواقم الطبية التي تسهر على رعاية المرضى وخدمتهم، ويدعو الله تعالى أن يحفظهم وأن يُسلمهم من كلّ داءٍ وشر.
  5. يوصي المجلس عموم المسلمين بضرورة التفاعل مع أوطانهم الأوروبيّة في هذه المحنة، ويشجّع المجلس المبادرات الإيجابية كلّها التي قدّمها المسلمون والمؤسسات الإسلامية في عدد من الدول من قبيل حملات التبرع بالمال لدعم المستشفيات، حملات التبرع بالدم، التطوع لخدمة المحتاجين والمسنّين، والتطوّع مع فرق الإسعاف ومؤسسات الحماية المدنية، وأن يكون ذلك كلّه بالتنسيق مع الجهات المعنيّة في كل مدينة، ومع مراعاة كل الاحتياطات الوقائيّة اللازمة.
  6. يشدّد المجلس على عدم المبالغة في تخزين السلع الغذائية والاكتفاء بالحاجات الطبيعيّة، كما يحذّر التجار المسلمين من عاقبة الاحتكار ورفع أسعار السلع واستغلال حاجات الناس.
  7. يدعو المجلس الأئمة والدعاة الأوروبيّين إلى أداء دورهم في إرشاد الناس ودعمهم روحيًّا وثقافيًّا بوسائل الاتصال الحديثة، وتبنّي خطاب حضاري إنساني عالمي، وبثّ روح الأمل والتفاؤل، وإبراز مظاهر التيسير والرحمة والمنح في أوقات البلاء والمحن والشدائد، واعتماد قرارات هيئات الافتاء والاجتهاد الجماعي.
  8. يدعو المجلس عموم المسلمين إلى التراحم والتعاون مع المجتمع وإظهار روح الإيثار والتضامن، وتجسيد أخلاق الإسلام وقيمه في أوقات الأزمات والشدائد.
  9. يوصي المجلس الأُسر المسلمة في أوروبا بتنظيم الوقت واستثماره واغتنام العزلة في البرامج العلميّة والروحيّة والترويحيّة المفيدة، كما يدعوهم إلى صلة أرحامهم والتغافر والتسامح والتواصل الدائم فيما بينهم، وتفقّد أحوال إخوانهم وصلة أرحامهم في حدود ما تسمح به الظروف من التواصل عبر وسائل الاتصال المختلفة، والدعاء لأهلهم وأقاربهم بالسلامة والحفظ.
  10. يوصي المجلس المؤسسات الإسلامية باستمرار المطالبة بحقوق المسلمين في المقابر الخاصة بهم، ومراعاة ما أمكن أحكام الدفن الشرعي مع الإكثار من الدعاء للموتى بالرحمة وللمرضى بالشفاء وللبشرية كلها برفع الوباء عنها.

ختام الدورة:

بعد انتهاء المداولات العلميّة للمجلس تقرّر عقد جلسة تكميلية للدورة بإذن الله تعالى. في13 إبريل 2020م  بتقنية الزووم التواصليّة، لمتابعة الأسئلة المتعلقة بشهر رمضان، والعيدين ،وزكاة الفطر، وما يستجد من أسئلة في ظل أزمة “كورونا”.

والمجلس في ختام دورته يتقدّم بخالص الشكر للأمانة العامة للمجلس، وجميع من بذل جهدًا لإنجاح هذه الدورة، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع البلاء والوباء عن البشرية جمعاء، وأن يشفي المرضى، ويعافى المبتلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق