البحوث

CARTE POLITIQUEالخارطة السياسية لأوروبا

 

 

الخارطة السياسية لأوروبا

CARTE POLITIQUE

(شباط 2003 – حزيران 2006)

CARTE POLITIQUEالخارطة السياسية لأوروبا carte europe pays 2003 02  1

مقدمة :

          إن حالة المسلمين في بلاد كأوروبا حالة متشابكة العناصر، لم تكن موضع الاهتمام منذ مدة طويلة، لأن الجالية الإسلامية كانت في أول الأمر قليلة العدد بالنسبة إلى مجموع السكان، ولم يحدث في معيشتها اليومية ما يلفت إليها أنظار الناس.

         

          غير أن هجرة المسلمين من الشمال الإفريقي وتركيا على الخصوص، إلى جانب أعداد وفيرة من الدول الأسيوية، هذه الهجرة ازدادت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وزاد في ظهورها تكاثر أولاد المهاجرين الذين غلب عليهم اسم ” الجيل الثاني ” إن لم نقل بأننا في واقعنا اليوم نعيش مع الجيل الثالث أو الرابع، وبذلك أصبحت الجالية الإسلامية في المهجر أقلية كبيرة العدد تتميّز بدينها وثقافتها وعروقها.

          واستلفت بعض أفراد الجيل الثاني الأنظارَ إليه لوجوده في كل مكان، وكثرت البطالة بين أفراده، وظهر من بعضهم تصرفاتٌ أقل ما توصف بأنها غير لائقة ومشوّهة لوجه الإسلام الناصع، وتحدثت عنهم أجهزة الإعلام حديثاً أقلق الأوساط الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمع الغربي.

          ومما لا شكّ فيه أن هجرة الآلاف من العمال، وخاصة منهم العمال المسلمين يُعتبَر في أوروبا الغربية الشمالية حدثاً مهماً على مستوى تاريخ الأديان والأفكاروالثقافة والأحوال الاجتماعية. ومن بين البلاد التي تركزت فيها الهجرة تتميز كل من فرانسا وألمانيا الاتحادية وإنكلترة وبلجيكا وهولندة والبلاد الأسكندنافية من بين بقية الدول الأوروبية بأن نسبة الهجرة فيها نسبة عالية إذا ما قيست إلى مجموع السكان.

          ونحن في دراستنا للوجود الإسلامي في الغرب يحسن بنا أن نلقي نظرة سريعة على القارة الأوروبية وموضعها في التاريخ والمكان والسكان والبنية الاجتماعية والعرقية لهذه القارة العريقة.

أوروبا    EUROPA          

أوروبا هي إحدى قارات العالم السبع، وتُعدّ جغرافياً شبهَ قارة أو شبه جزيرة كبيرة تُكوّن الجزءَ الغربي الممتد من أوراسياEurasie  بين جبال الأورال والقوقاز وبحر قزوين من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب والبحر الأبيض المتوسط والبحرالأسود ومنطقة القوقاز من الجنوب، والمحيط القطبي الشمالي من شمال القارة. ويفصل مضيق البوسفور وجبل طارق القارة الأوروبية عن كل من آسيا وأفريقيا،  وتعتبر هذه القارة صغيرة نسبيا مقارنة ببقية القارات، لكن قارة أستراليا أصغر منها.

تبلغ مساحة القارة الأوروبية حوالي 10.379 مليون كم2 (7.1 % من مساحة الأرض). وهي تعادل ثلث مساحة القارة الأفريقية أو ربع مساحة قارة آسيا أو أمريكا، وهي ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم إذ يزيد عدد سكانها عن 700 مليون نسمة (11 % من سكان الأرض). وتأتي في مرتبة تالية لكل من الصين والهند من حيث عدد السكان.

التسمية والتاريخ

تاريخ أوروبا

يعتقد البعض استنادا إلى أدبيات الميثولوجيا اليونانية لهوميروس، أن اسم القارة مشتق من اسم الأميرة الفينيقية يوروبا  Europe  ابنة آجينور Agénor التي كانت قد خُطفت من قبل زيوس Zeus– إله السماء عند اليونان – الذي استحال إلى ثور أبيض وأخذها إلى جزيرة كريت Crète. وبعد حادثة الخطف هذه سميت اليونان باسم يوروبا، ثم بحلول العام 500 ق.م امتد المقصود من الكلمة ليشمل الأراضي الواقعة شمال وغرب اليونان.

إلا أن بعض اللغويين يعتبر أن الإسم مشتق من الكلمة السامِيّة إرِب Ereb التي تعني مغرب الشمس أو الغرب Occident، والبعض الآخر يعتقد أنه اسم مركب من جذرين، أولهما هو أوريس eurýs) )εὐρύς ومعناه الواسع أو العريض، والثاني أوبس)  ps (ὤψومعناه الوجه، أي أن كلمة أوروبا تعني الوجه الواسع أو العريض، وعلى كل فإن كل هذا من الأساطير اليونانية غير المؤكدة. 

ومن الجدير بالذكر أن كلمة أوروبا كانت مستعملة قبل القرن السادس عشر الميلادي للدلالة على قارة متميزة عن آسيا وأفريقيا، ولكنها لم تكن معروفة من غير المثقفين، ولم يبدأ استعمال هذا التعبير من مواطني هذه القارة إلا بعد عصر النهضة في بداية القرن السابع عشر أو قبل ذلك بقليل.

لأوروبا تاريخٌ طويلٌ حافلٌ بالأحداث والتغيّرات الاجتماعية والثقافية والصراعات طويلة الأمد. ويُقدرالعصر الباليوليثي الذي اكتشفت بعض آثاره في مناطق في شبه الجزيرة الإيطالية، بأن تاريخ هذه القارة يعود لحوالي 800 ألف سنة خلت والتي تعتبر أول فترة في تاريخ تلك القارة العريقة.

تُنسب الحضارةُ الأوروبية الحديثة والتقدمُ الثقافي لبعض أجزاء تلك القارة، لقدامى اليونان بشكل رئيسي، كما أن للمسيحية تأثيراً كبيراً أيضا. ومن المعلوم أن الإمبراطورية الرومانية قامت على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية، وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي فاتحةَ لكثير من التغيرات في القارة، وكان من أبرزها ما حدث إبّان عصر الهجرات حيث عانت أوروبا كثيراً من المعيشة الصعبة في هذه العصور المظلمة.

وبعد دخول عصر النهضة الأوروبي وفترة الممالك الجديدة بدأت عصور الاستكشاف وازداد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والتطبيقية. وكانت البرتغال أول من بدأ بالاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي، وتبعتها بعد ذاك إسبانيا، ثم جاءت بعدهما فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا وقامت كل من هذه الدول بالاستيلاء واستعمار العديد من أراضي قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين.

وكان شغل أوروبا الشاغل بعد عصر الاستكشاف هو بث أفكار الديمقراطية وكيفية تطبيقها. حيث بدأت الشعوب الأوروبية بالمناداة بالحرية والمساواة الفردية، وكان أبرز حدث توّج تلك الأفكار والتوجهات هو الثورة الفرنسية التي أدت لشيوع وانتشار أفكار الثورة على الإقطاعيين أو رجال الدين في مختلف مناطق القارة. ثم أدى نشوء القوميات –   بمعناها الحديث – إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث. وظهر أشهر تلك الصراعات عند استلام نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، وهوالذي أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية الفرنسية التي سرعان ما انهارت. وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبياً، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.

بدأت الثورة الصناعية في المملكة المتحدة في القرن الثامن عشر الميلادي، والتي قادت الاقتصاد الأوروبي للتحوّل تدريجياً من الاعتماد على الزراعة فقط. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة كانت أوروبا مقسمة إلى قسمين سياسيين اقتصاديين رئيسيين اثنين: الشيوعيون في أوروبا الشرقية والرأسماليون في غرب القارة وأجزائها الجنوبية. وبسقوط سور برلين وإعادة توحيد ألمانيا قُضِيَ على ما كان يُسمى المعسكر الشرقي.

الجغرافيا والامتداد

جغرافياً تعدّ أوروبا جزءاً من قطعة اليابسة التي تعرف باسم أوراسيا. ويعتبر امتداد جبال الأورالOural  ممثلاً للحدود الشرقية للقارة مع قارة آسيا، بينما لا تزال الحدود مع آسيا من جهة الجنوب الشرقي مختلفاً عليها؛ فمن قائل إنها على امتداد نهر الأورال إلى قائل إن نهر إمبا هو الحد الفاصل بين القارتين. ومن الجنوب يفصل البحر المتوسط أوروبا عن القارة الأفريقية. بينما يحدُّ المحيطُ الأطلسي القارةَ من الغرب. ونظرا للاختلافات على تحديد المدى الجغرافي لعرض أو طول (الحدود بمعنى آخر) القارة الأوروبية فإن نتائج تحديد المركز الجغرافي لأوروبا تكون ذات اختلافات كبيرة.

الخواص الطبيعية

بشكل عام تعتبر أوروبا مجموعة من أشباه الجزر الصغيرة المتصلة المتراصة. يمكن تقسيم القارة إلى اثنين من أشباه الجزر: شبه الجزيرة الإسكندنافية في الشمال وبقية أجزاء القارة كشبه جزيرة أخرى يفصل بينهما بحر البلطيق. وثلاث من أشباه الجزر تتفرع من الجزء الجنوبي مخترقة أجزاء من البحر المتوسط من القارة وهي شبه جزيرة أيبيريا والبلقان وإيطاليا. وكلما اتجهنا شرقا في القارة الأوروبية يزداد اتساعها حتى يصل ذاك الاتساع ذروته عند حدود أوروبا مع آسيا؛ أي عند جبال الأورال.

 

 

التقسيمات السياسية  وعدد السكان:

تضم أوروبا في رقعتها الحالية الدول المستقلة التالية: 

1. ألبانيا

11. التشيك

21. أيسلندة

31. مولدوفا

41. سلوفاكيا

2. آندورا

12. قبرص

22. ايرلندة

32. موناكو

42. سلوفييا

3. أرمينيا

13. الدانمارك

23. إيطاليا

33. هولندة

43. اسبانيا

4. النمسا

14. استونيا

24. كازاخستان

34. النرويج

44. السويد

5. آذربيجان

15. فنلندة

25. لاتفيا

35. بولندة

45. سويسرا

6. روسيا البيضاء

16. فرنسا

26. ليختشتاين

36. البرتغال

46. تركيا

7. بلجيكا

17. جورجيا

27. لتوانيا

37. رومانيا

47. أوكرانيا

8.البوسنة والهرسك

18. ألمانيا

28. لوكسمبورغ

38. روسيا

48. انكلترا

9.بلغاريا

19. اليونان

29. مقدونيا

39. سان مارينو

49. الفاتيكان

10. كرواتيا

20. المجر

30. مالطا

40. صربيا والجبل        

 

  1. أرمينيا وقبرص ليستا أجزاءً جغرافية من القارة الأوروبية، ولكنهما قد تعتبران من أوروبا ثقافيا
  2. أذربيجان وجورجيا لهما بعض الأجزاء في القارة الأوروبية ( أي تقعان في قارتين)
  3. بعض أجزاء فرنسا تقع خارج القارة الأوروبية
  4. روسيا وكازاخستان تقعان في بعض أجزاء أوروبا غربي جبال الأورال ونهر الأورال
  5. لهولندا أجزاء خارج القارة الأوروبية
  6. جزر الماديرا البرتغالية تقع شمال المحيط الأطلسي قرب أراضي القارة الأفريقية
  7. بعض أجزاء اسبانيا تقع خارج القارة الأوروبية كجزر الكناري
  8. لتركيا جزء صغير جغرافي في أوروبا

هذا ويبلغ عدد سكان أوروبا حاليا ( إحصاء عام 2005)  380 895 732 نسمة، ومن الملاحظ أن عدد السكان في هذه القارة تطور بشكل كبير خلال عدة قرون نتيجة الهجرة المتنامية التي لم تتوقف منذ أكثر من عشرة قرون، ويكفي أن نذكر أن عدد المهاجرين الذين قدموا إلى أوروبا في عام  2004 م يزيد عن مليونين نسمة، والجدول التالي يعطي تزايد عدد السكان منذ عام 1150 حتى يومنا هذا :

                             الإحصاء  في عام    عدد الســــــكان

                                  1150                000 000 50

                                  1300                000 000 73

                                  1400                000 000 45

                                  1750                000 000 140

                                  1800                000 000 187

                                  1850                000 000 266

                                  1900                000 000 420

                                  1995                000 000 728

                                  2005                380 895 732

      

 ولولا  الهجرة المتزايدة لكان النمو السكاني في هذه القارة يتجه في المنحنى السلبي، فقد تناقص عدد السكان في عام 2005 بما لا يقل عن 000 63  نسمة .

وعلى كل حال تعتبر هذه القارة من المناطق المكتظة بالسكان، وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الصين والهند، ويوجد فيها بلدان تعتبر من أكثر البلدان كثافة سكانية  في العالم كما هي الحال في كل من بلجيكا وهولندة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرانسا.

ومن جهة أخرى فإن القارة الأوروبية لم تعرف في تاريخها وحدة سياسية على الإطلاق، إلا أن بعض الأطوار التاريخية شهدت سيطرة بعض المناطق على الأخرى من خلال القهر والقوة كما كانت الحال في الأمبراطورية الرومانية والأمبراطورية الكارولينيجية وإمبراطورية نابوليون والرايخ الثالث، وكان لبعض العائلات الحاكمة سيطرة على عديد من الدول الأوروبية كما هي الحال في عائلة هابسبورج.

وسبق للمفكر الفرنسي فيكتور هوغو أنه كان يحلم بإنشاء الولايات المتحدة الأوروبية أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية على قواعد من السلم والديمقراطية، وهذا ما أفصح عنه في خطابه الافتتاحي لمؤتمر السلم الذي عقد في باريس عام 1849م.

ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي تنامت حركة الوحدة الأوروبية حتى وصلت إلى ما عليه اليوم، حيث تضم في هذه الوحدة 27 دولة أوروبية منها 13 دولة تدخل في منطقة الأوروEUR التي تمثل الوحدة النقدية.

والوحدة الأوروبية في مسيرتها نحو التكامل تتجه إلى توحيد القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وما إلى هنالك، وعلى الرغم من بعض الصعوبات إلا إن القادة السياسيين يدفعهم الأمل باستمرار لتحقيق هذا الحلم الكبير الذي يعتبر نموذجا فريدا في تاريخنا المعاصر. 

9.       الثقافة والتنوع اللغوي

هناك العديد من العائلات اللغوية المنتشرة في القارة الأوروبية، وغالباً ما تتشابه لغات الدول حسب التشابه في التاريخ والثقافة لتلك الدول، ولكن بشكل عام يعدّ الدين هو العامل الأبرز في التحكم في توزيع اللغات على دول القارة الأوروبية. ومن المعلوم أن للعربية تأثيراً على بعض اللغات الأوروبية كالمالطية والإسبانية والألبانية.

ومن الجدير بالذكر أنه توجد 35 لغة رسمية في أوروبا  إلى جانب 225 لغة محلية غير رسمية وتشكل في مجموعها إرثا ثقافيا وأدبيا وحضاريا متنوعا بالنسبة للقارة.

ومن الناحية الإدارية تعتبر اللغة الإنكليزية والروسية والفرنسية والألمانية والإسبانية هي اللغات السائدة، واللغة الإنكليزية عمليا هي أكثرها انتشاراً  

اللغات الجرمانية:  أوروبا الجرمانية

اللغات الجرمانية هي اللغات التي يُتحدث بها في أجزاء أوروبا الشمالية الغربية وبعض أجزاء أوروبا الوسطى. وتشمل منطقة اللغات الجرمانية في أوروبا كلاً من المملكة المتحدة (بعض أجزائها كانت تتحدث باللغات الكلتية) وإيرلندا وآيسلندا وألمانيا والنمسا وهولندا والدنمارك والسويد والنرويج واللوكسمبورغ وليخشنشتاين وجزر فارو والجزء المتحدث بالألمانية من سويسرا ومنطقة الفلاندر في بلجيكا والمناطق المتحدثة بالسويدية في فنلندا ومنطقة الترايول الشمالي في إيطاليا.

اللغات الرومانسية:  أوروبا اللاتينية

اللغات الرومانسية هي اللغات التي يُتحدث بها في الأجزاء الجنوبية الغربية من أوروبا بالإضافة إلى دولتي رومانيا ومولدوفا الواقعتين في أوروبا الشرقية. وتشمل المناطق المتحدثة باللغات الرومانسية كلاً من: إٍيطاليا وفرنسا ورومانيا ومولدوفا والبرتغال والمناطق المتحدثة بالرومانشية والإيطالية في سويسرا ومنطقتي الوالون في بلجيكا ونورماندي والجزء المتحدث بالفرنسية في سويسرا.

اللغات السلافية:  أوروبا السلافية

اللغات السلافية هي اللغات التي يتحدث بها في أجزاء أوروبا الوسطى والشرقية. وتضم هذه المنطقة كلا من: روسيا البيضاء والبوسنة والهرسك وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك ومقدونيا وبولندا وروسيا وصربيا والجبل الأسود وسلوفاكيا وسلوفينيا وأوكرانيا.

اللغات الأورالية : اللغات الأورالية

هي عائلة لغوية مقسمة إلى مجموعتين: اللغات الفينية البرمية ويتحدث بها في فنلندا وإستونيا واللغات الأجرية ويتحدث بها في هنغاريا.

اللغات الألطية:اللغات التركية

يتحدث بها في تركيا وأذربيجان وقبرص والبلقان والقوقاز.

اللغات البلطية: اللغات البلطية أو لغات دول البلطيق

 ويُتحدّث بها في لتوانيا ولاتفيا.

اللغات الكلتية: أوروبا الكلتية

أوروبا الكلتية هي المنطقة التي يتحدث فيها باللغات الكلتية أو أنها كانت إلى فترة قريبة لغة رسمية في مناطق ما من القارة ولا تزال ذات تأثير على اللغات السائدة حاليا في تلك المناطق. وتشمل مناطق أوروبا الكلتية كلاً من أسكتلندا وويلز وكورنوول (في المملكة المتحدة) وجزيرة مان (تتبع التاج البريطاني) وبريتاني (في فرنسا) وإيرلندا.

لغات أخرى

غير العوائل الستة الرئيسية في القارة هناك مجموعات أخرى من اللغات وهي:

  1. اللغة اليونانية ويتحدث بها في اليونان وقبرص اليونانية.
  2. اللغة الألبانية والتي تُعدّ فرعاً منفصلاً من فروع اللغات الهندوأوروبية.
  3. اللغة الأرمينية والتي تعد إحدى لغات القارة على الرغم من الخلاف في اعتبار أرمينيا تابعة لأوروبا جغرافباً، وهي كالألبانية تعتبر فرعاً منفصلاً من فروع اللغات الهندوأوروبية.
  4. اللغات الأيبرو قوقازية.        

الأديان

أكثر الأديان والمذاهب انتشارا في القارة الأوروبية هي:

المسيحية الكاثوليكية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الكاثوليكية في القارة هي: البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب هولندا وإيرلندا وأسكتلندا وجنوب ألمانيا وجنوب سويسرا وإيطاليا والنمسا وسلوفينيا وكرواتيا وسلوفاكيا والتشيك وبولندا وغرب أوكرانيا ورومانيا وبعض مناطق لاتفيا ولتوانيا. وتوجد أقليات كاثوليكية في إنجلترا وويلز وبعض مناطق إيرلندا الشمالية.

البروتستانتية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع البروتستانتية في القارة هي: النرويج وآيسلندا والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا والمملكة المتحدة والدنمارك وألمانيا وهولندا وسويسرا. وتوجد أقليات بروتستانتية في فرنسا والتشيك وهنغاريا وإيرلندا.

الأرثودكسية المسيحية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الأرثودكسية في القارة هي: ألبانيا وأرمينيا وروسيا البيضاء والبوسنة و الهرسك وبلغاريا وفنلندا وجورجيا واليونان ومقدونيا ومولدوفا ورومانيا وروسيا وجمهورية صربيا والجبل الأسود وأوكرانيا.

الإسلام: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من المسلمين في القارة هي: ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا ومقدونيا وقبرص وكازاخستان وتركيا وأذربيجان وجورجيا. على مستوى القارة بشكل عام فإن ما يزيد عن (5 %) من مواطني دول الاتحاد الأوروبي يدينون بالإسلام، ويتركز العديد من المسلمين في ألمانيا (24,4 %) وفرتسا (4,8 %) والمملكة المتحدة (38,4 %).

من بعض الأديان الأخرى في أوروبا ما يلي:

إحصاء عدد المسلمين في الغرب:

          ليس بين أيدينا إحصاءات علمية دقيقة عن أعداد المهاجرين المسلمين في الغرب، غير أن بعض وسائل الإعلام تذكر عادةً أن عدد المسلمين في المجتمع الغربي يزيد عن ( 16 ) مليون. وهو رقم بعيد جدا عن الواقع. فالدكتور اسماعيل باليتش، وهو باحث اجتماعي، يذكر في دراسة له أن عدد المسلمين في الغرب يصل إلى (26,387952 ) بما في ذلك دول الجزء الغربي من الاتحاد السوفييتي سابقاً.

          ولقد دعانا هذا الأمر إلى إعادة البحث في المراجع الاجتماعية العلمية والديموغرافية الحديثة المتوافرة لدينا والتي استطعنا أن نصل منها إلى الإحصائيات التالية:

عدد المسلمين في أوروبا (*)

الرقمالدولةعدد السكانعدد المسلمينالنسبة %
1ألبانيا000 150 3000 205 270
2البوسنة000 112 4000 199 247,53
3صربيا والجبل الأسود000 160 8000 500 389,42
4مقدونيا000 038 2438 61310,30
5قبرص000 765000 15286,19
6بلغاريا000 965 7415 043 110,13
7فرانسا000 485 59000 000 540,8
8هولندة000 144 16000 92070,5
9بريطانيا000 229 59000 600 238,4
10سويسرا000 290 7470 31330,4
11ألمانيا الاتحادية000 495 82000 500 324,4
12النمسا000 048 8000 33820,4
13ليختنشتاين800 32345 110,4
14بلجيكا000 333 10000 35038,3
15إيطاليا000 690 57000 000 173,1
16السويد000 924 8000 13045,1
17الدانمارك000 374 5000 7641,1
18النروج000 538 4051 6236,1
19اليونان000 631 10000 14031,1
20كرواتيا000 465 45804530,1
21اسبانيا000 917 40000 45009,1
22لوكسمبورغ000 444000 367,0
23رومانيا000 300 22000 9040,0
24فنلندة000 199 5500 15298,0
25البرتغال000 177 10000 3029,0
26هنغاريا000 159 10000 2322,0
27أيرلندة000 920 3000 820,0
28بولونيا000 626 38000 2005,0
29السلوفاك000 379 5000 2037,0
30التشيك000 210 10000 202,0
المجموع800 979 497372 828 2498,4

وبإضافة المسلمين في القسم التركي الأوروبي وعددهم         000 500 1

وكذلك المسلمين في القسم الغربي من الاتحاد السوفيتي سابقا   000 500 11

 يصبح عدد المسلمين في أوروبا مساوياً إلى :          372 828,37

 

(*) إحصائيات مستقاة من : Der Fischer Weltalmanach , Zahlen-Daten-Fakten  2006

ونرى أن هذه الدراسة لا تزال تحتاج إلى إعادة النظر، لأن عدداً كبيراً من الدول الأوروبية تتحفظ على الإحصاءات الواقعية للمسلمين في أراضيها، ناهيك عن الهجرة غير الشرعية التي تزايد عددها في السنوات الأخيرة، إلى جانب تضاعف عدد الولادات بين العائلات المسلمة المقيمة في الغرب، مما يحعلنا نجزم أن الأرقام الحقيقية هي أكبر مما ذكرنا بشكل واضح.

ومهما كان الأمر، فإذا ما قورنت هذه الأرقام بتعداد السكان، كانت نسبة المسلمين في هذه البلاد تدلّ على أنهم أصبحوا يشكلون من حيث العدد المرتبة الثانية بالنسبة للأديان السائدة في هذه البلدان. وإذا كان عدد المسلمين لايزال يشكل أقلية بالنسبة لمجموع السكان الأوروبيين، إلا أن هذا العدد كان كافيا بالنسبة للغرب النصراني أن بوجّه أنظاره إلى الإسلام الذي تربّع على أرض جبهته الداخلية.

الإسلام حقيقة واقعية:

يعتقد كثير من الباحثين الغربيين بأن الإسلام أصبح حقيقة واقعية في المجتمع الغربي، بل يذهب البعض إلى القول بأن الإسلام قد غُرسَ في أوروبا غرساًً وتمكنت جذوره إلى الأبد وأنه أصبح حقيقة اجتماعية وثقافية واقتصادية ودينية وتعاونية واضحة كل الوضوح.

          ولقد دعت هذه الصورة من الغرس الإسلامي كثيراً من الباحثين إلى إعادة النظر في تعريف المهاجر أو المغترب. ففي الوقت الذي كان ينزح فيه المهاجر بعيداً عن وطنه نزوحاً موقتاً طلباً للرزق أو ما شابه؛ فقد أصبح مع الزمن عضواً في مجموعة من الأقليات المستوطنة، أو بالأحرى أصبح مواطناً جديداً وعضوا من مكوّنات المجتمع الغربي.

          وبناءً على هذا المفهوم الجديد، فإن وجه كثير من البلدان الأوروبية وخاصة المجتمعات الريفية فيها ستأخذ بالتبدل، حيث سنشاهد فيها ألواناً من القاطنين ذوي العروق المختلفة أو ذوي الديانات المختلفة أو من ذوي الثقافات المتباينة، وسيكون الإسلام بلا ريب أحد العناصر المكونة لهذا النوع من المجتمعات.

          ومما لا شك فيه أن الإسلام هو أحد المفاهيم الجوهرية الرئيسية التي تتجمع حوله الهجرة الإسلامية في المجتمع الأوروبي، وأكثر ما تتضح هذه الصورة في هجرة الجيل الأول الذي ألجأته الظروف الاقتصادية المعاصرة وضغط البطالة، إلى أن يفتش عن الحلول للمشكلات التي يعانيها في قلب البيئة الإسلامية وتجمعاتها.

          والأمر يختلف نوعا ما في الجيل الثاني، فالناشئة المغتربة اليوم أصبحت مشتتة ضمن أقليات متحزبة؛ بعضها ينادي بالعودة إلى الإسلام كمرجع عقائدي أيديولوجي لكل شؤون الحياة، والبعض الآخر يرى نجاته في الابتعاد عن الإسلام والاندماج الكامل أو بالأحرى الذوبان في قلب المجتمع الذي يعيش فيه وتبني أفكاره وألوان حياته الاجتماعية المختلفة.

          ولا ريب أن المجتمع الغربي على الرغم من أنه ينظر إلى العالم العربي والإسلامي نظرة خاصة، باعتباره مصدراً هاماً من مصادر الثروة التي لا يمكن أن يستغني عنها كالبترول والمواد الأولية المتنوعة التي تعتبر أساساً في الصناعات الغربية، وبالرغم من أنه حاول أن يزيل العلاقات المتميزة بالكراهية والحقد والبغضاء نتيجة لحروبه المستمرة ونتيجة للاستعمار، وأن يعقد بدلاً عنها علاقات وديّة تفرضها المصلحة، بالرغم من كل هذا بدأ يشعر بالخطر الذي يتهدده من جراء الهجرة المتنامية، والتي حاول أن يحدّ منها منذ منتصف السبعينيات. وزادت أحداث  الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر القلق الأوروبي من الوجود الإسلامي واصبح ينظر إليه على أنه مصدر لتنازع المصالح والخطر على أمنه القومي وقد ينقلب في يوم من أيام إلى صراع ديني وعرقي لا تحمد عقباه. ويرى بعض الكتاب من ذوي النفوذ والتأثير على القرار السياسي أن الشرق المسلم بدأ يثبت جذوره في الغرب بطريقة مشابهة لغرس الأعضاء( كما يقول المستشرق Dasseto )، وأن هذه العلاقات الودية قد تصبح وهمية ولا بدّ أن يصيبها الخلل والاضطراب نتيجة لما يفرضه الوجود الإسلامي في الغرب من مشكلات وأزمات متعددة الأشكال والصور.

          ويتساءل الكاتب الفرنسي  بيرونسيل هوغو Peroncel Hogoz  في كتابه لواء محمد Le Radeau de Mahomet  عن مصير هذه العلاقة الودية إذا اضطربت الموازين وتباينت المصالح. ويخشى من أن يضطر الشرق المسلم لإعادة تثبيت جذوره في الغرب عن طريق القوة والسلاح. ويتوقع ذلك من خلال دراسته للانفجار السكاني في شريط البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعدّ في عام 1950 حوالي (70) مليوناً في حين يتوقع أن يصبح هذا العدد في مطالع القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن ( 300) مليون، بينما لم يتزايد عدد سكان أوروبا الشمالية إلا من (140) مليونا إلى (200) في نفس الفترة من الزمن.

          ويستنتج من ذلك أن هذه العلاقات الودية هي في الواقع علاقات سطحية تشبه البناء الهرم الذي جددناه بالطلاء اللماع وهو في حقيقته مهترئٌ آيلٌ للسقوط والانهيار.

          ومن الأمور التي تُعقّد نظرة الغربيين إلى المسلمين الوافدين أن المناداة بتطبيق الإسلام والعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية المصاحبة للصحوة الإسلامية، والتي قد يصاحبها اللجوء إلى استعمال العنف، وردود الأفعال اللامسؤولة من قبل السلطات الحاكمة في بلاد الإسلام، أدى إلى اعتبار المسلمين الوافدين إلى الغرب عناصر خطيرة وغير مرغوب بها، ويمكن أن تكون في المستقبل القريب أو غير البعيد جداً مصدراً لكل اضطراب ينشأ في البلاد.

          وعلى أثر ذلك تكونت حركات معادية للوجود الإسلامي في الغرب تنادي بطرد المسلمين وعودتهم من حيث جاءوا. ولم يكتف بعض هذه الحركات بالبيان السياسي أو الإعلامي، بل لجأ بعضها لاستعمال العنف ضد المسلمين، واعتداء النازيين الجدد والمتطرفين الفرنسيين على المسلمين الأتراك والمغاربة بالقتل وحرق البيوت والمساجد والمتاجر، بل وحرق أجسادهم على مرأى من الشهود ليس منا ببعيد. كما تناقلت وسائل الإعلام نبأ دخول متطرف فرنسي إلى أحد المقاهي وبيده مسدس رشاش حيث أطلق منه عيارات نارية على زبائن المقهى فقتل عددا من المسلمين الأتراك وجرح آخرين.

          ولا شك أن بعض المهاجرين بنقلهم الخلافات الناشئة من بلادهم الأصلية إلى أرض المهجر، زاد من تخوّف الغربيين من الوجود الإسلامي، وما سيحمله في المستقبل من المخاطر المجهولة كما هو الأمر في خلافات الأكراد مع كل من تركيا والعراق.

          إن مستقبل الوجود الإسلامي على الساحة الغربية يتوقف على عوامل عدّة منها :

  • طبيعة المركز الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يحتله المسلمون.
  • تطوّر المصالح والمنافع المتبادلة بين العالم الإسلامي والغرب.
  • أثر التضامن الإسلامي في بقاء الهجرة وحمايتها وإنشاء مصالح اقتصادية لتنميتها.

ونحن في صدد دراستنا للمشكلات التي تعترض الوجود الإسلامي في مجتمع الاغتراب يجدر بنا أن نتعرف أولاً على طبيعة هذه الهجرة ومراكز تجمعاتها وبنيتها الاجتماعية والثقافية وآلامها وآمالها في المستقبل…. وماعلينا،  أن نقدمه في هذا السبيل.

أسباب الهجرة وتاريخها:

تقودنا الدراسة المتعمقة للهجرة وأسبابها وتاريخها إلى التعرف على نمطين مختلفين من الهجرة:

النمط الأول :    نمط الهجرة التي تمت في كل من فرنسا وإنكلترا على مدى حقبة طويلة من الزمن.

النمط الثاني:    نمط الهجرة التي تمت في البلاد الأوروبية الأخرى كألمانيا الاتحادية وغيرها من دول شمال أوروبا.

1- هجرة المسلمين إلى فرنسا:

          في فرنسا حالياً ما يزيد عن خمسة ملايين من المسلمين أكثريتهم من العمال المهاجرين، منهم فئة جاءت من تركيا ويوغسلافيا وفئة بدأت تتوافد من الشرق الأوسط، ولكن أكثرهم هاجروا من الشمال الأفريقي والنسبة العظمى منهم جاءت من الجزائر.

          ولا شكّ أن الهجرة الجزائرية وقفت رسميا منذ عدة أعوام، وأن عدد القادمين من تونس وبخاصة من المغرب قد ازداد زيادة ملموسة، ومع ذلك تبقى الجالية الجزائرية أكبر الجاليات المهاجرة عدداً وتأثيراً لأسباب متعددة: منها أن الهجرة من الجزائر بدأت قبل أربعين سنة من سيطرة الاستعمار على أفريقيا الشمالية، ولأن التركيب الاجتماعي لهذه الهجرة التي زاد في حدّنها الاستعمار، لا تختلف كثيرا عن التركيب الاجتماعي للهجرات الأخرى المنطلقة من الشمال الأفريقي.

بداية الهجرة:

أقرب الاحتمالات أن هذه الهجرة من شمال أفريقيا إلى أوروبا بدأت عام (1871م) و (1874م) وأنها كانت مؤلفة من الجزائريين فقط، وأنها كانت نتيجة ثورة قام بها الجزائريون بعد أن سيطر المستعمر على بلادهم. ويؤيد هذا القرارُ الصادرُ في 16/5/1874م الذي يطلب من الراغب في الهجرة الحصولَ على موافقة مسبقة من السلطات وتقديم كفالة مالية تضمن عودته إلى بلاده. لكن هذا القرار ألغي في بداية القرن العشرين بقرار جديد صدر بتاريخ 24/12/1904م، وبتعميم صدر بتاريخ 28/1/1904م فاشتدت الهجرة إلى فرنسا منذ ذلك الحين.

كانت الأصناف الأولى من المهاجرين تأتي بوجه خاص إلى الشاطيء الجنوبي من فرنسا ولا سيما إلى مدينة مرسيليا. وكان أكثرهم من صغار الباعة، والمختصين بنقل الحيوانات والخدم المرافقين للعائلات الفرنسية العائدة إلى بلادها.

وتلاها بسرعة صنف من الجزائريين الذين تحتاج إليهم الصناعة الفرنسية. وبمقدمهم بدأت فعلاً هجرة اليد العاملة المسلمة إلى فرنسا بشكل مطرد.

وقد جرّب أحد الصناعيين في مدينة (Lens) شمالي فرنسا استخدامهم في المناجم، فنجحت التجربة وانتشر الجزائريون المهجّرون في جنوب فرنسا وشمالها وفي باريس، ثم شملتهم المناطق الفرنسية الأخرى قبل نشوء الحرب العالمية الأولى عام (1914م).

ثم بدأت الهجرة تفقد صفتها المرتجلة منذ عام (1914م)، وقد أضحت هجرة رسمية منظمة تطلبها المصانع والمصالح الفرنسية، وحال دون ازديادها في أول الأمر، موقف السلطات المستعمرة للجزائر التي لم ترتح لرحيل المسلمين إلى فرنسا، فجعلت تُقيم العثرات في طريق المهاجرين.

لكن الحكومة الفرنسية أصدرت في 14/9/1916م قراراً بمصادرة الجزائريين واستجلابهم باسم القانون للعمل في فرنسا. وكان أكثر القادمين من مناطق القبائل في الجزائر. ثم التحق بهم العمال من تونس والمغرب الذين شملهم قرار المصادرة – ” ولا يدخل في هذا، الأعداد الهائلة من الجنود الذين دُعوا للخدمة العسكرية من بلاد أفريقيا الشمالية. “

وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وقفت الهجرة إلى فرنسا وعاد أكثر المهاجرين من الجزائر وتونس والمغرب إلى بلادهم خلال عام 1919م.

غير أن حاجة فرنسا إلى تعمير البلاد بعد الحرب، واستصلاح منطقتي الألزاس واللورين اللتين استرجعتهما فرنسا لأراضيها، وقلة اليد العاملة الفرنسية لا سيما من الشباب الذين أفنتهم الحرب، كل هذا جعل الهجرة تعود إلى فرنسا بكل قوة، ومن غير مصادرة حكومية، وقد بلغ عددهم حوالي (17500) من الجزائر سنوياً خلال الأعوام 1922-1924 م

وزاد في حدّة هذه الهجرة المجاعة التي ظهرت في الجزائر حينئذ وسوء الحالة الاقتصادية فيها بسبب سوء تصرّف المستعمرين.

وقد آثَرَ عدد كبير من الجنود الجزائريين الذين حاربوا في أوروبا العودة إلى فرنسا للعمل بعد أن سرّحهم الجيش. ولم تعد أغلبية المهاجرين مقتصرة على مناطق القبائل، بل شملت الهجرة الجديدة العمال القادمين من مناطق الجزائر الأخرى. وكان الأمر الوحيد الذي كان يخفف من حدتها الخلافَ القانوني بين الحكومة الفرنسية المركزية التي كانت تشجع الهجرة إلى فرنسا، وبين السلطات المستعمرة للجزائر التي كانت تعاكسها بعناد واستمرار.

ولما بدأت الأزمة الاقتصادية في الغرب في الثلاثينيات، ضَعُفَ تيار الهجرة، ثم عاد بين عامي 1936 و 1938م. لكن نشوب الحرب العالمية الثانية أوقف الهجرة من جديد إلى أن احتاجت حكومة فيشي Vichy إلى اليد العاملة عام 1942م لمساعدة الألمان على بناء السور الحاجز على شواطئ المحيط الأطلسي، فعادت الهجرة إلى فرنسا مرة أخرى ثم توقفت حين أنزل الحلفاء مع فرنسا الحرّة جيوشّهم في شمال أفريقيا وانقطعت الصلة حينئذ بين فرنسا وأفريقيا الشمالية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.   

ونظراً إلى أن فرنسا مازالت بحاجة إلى تعمير ديارها التي خرّبتها الحرب وكذلك حاجتها إلى التوسع الاقتصادي ، فقد شجعت الهجرة مرة أخرى من الشمال الأفريقي ولا سيما من الجزائر كما حدث من قبل عقب الحرب العالمية الأولى. وزاد في قوة هذه الهجرة سهولة التنقل بين الجزائر وبين فرنسا القارّية. واستمر وفود المهاجرين إلى أن قررت الجزائر المستقلة وقف الهجرة إلى فرنسا عام 1972م، وحذت فرنسا حذوها عام 1974م.

ومع ذلك استمر مجيء الزوجات والأطفال للالتحاق بالأزواج العاملين في فرنسا، وتمّ تكوين الكثير من العائلات المهجّرة.

يرى الناظر أن حركة الهجرة قبل عام 1946م كانت نتيجةً للضغط والقيود. يُرحَبُ بالمهاجرين فيأتون سراعاً، ثم يشتدُّ عليهم الضغط والتضييق فيعودون إلى بلدهم سراعاً. وكانت أسباب الضغط والتضييق منوّعةً: إدارية واقتصادية وسياسية.

وبعد عام 1946م انتظم المهاجرون في تركيب اجتماعي متكامل وأصبحوا جالية شبه مستقرة؛ فيهم الزوجات والأولاد والجدّات. وصار المهاجرون ثقيلي الحركة عاجزين عن العودة بسهولة إلى بلادهم، لهم جذورٌ عميقة ضاربة في أرض الهجرة، فإذا أصابهم ضيمٌ أو وقع عليهم تضييق لم يجدوا في شدّ الرحال والعودة إلى بلادهم الحلَّ المقبولَ، وسلكوا للمقاومة مسالكَ أخرى.

ومنذ تكاملت بنية الطبقة المهاجرة صار ازدياد عدد المهاجرين تابعاًً لعدد الوافدين الجدد من الجزائر إلى فرنسا من جهة، ولعدد أبناء المهاجرين وبناتهم الذين ولدوا في فرنسا من جهة أخرى. فمن عام 1961م إلى عام 1967م كان عدد الوافدين من الجزائر في كل سنة يعادل ثمانية أضعاف الأبناء المولودين في فرنسا. أما في الأعوام 1967م إلى عام 1972م فإن الولادات الجزائرية في فرنسا بلغت (40%) من زيادة عدد الجزائريين المهاجرين كل عام. وهذا يعني أن الهجرة بين أفريقيا الشمالية وفرنسا لم تعد مقصورة على موجات من المهاجرين تزداد وتتقلص حسب الظروف والمناسبات، بل كوّنتْ مجتمعاتٍ وجاليات شبه مستقرة وصارت جزءاً من الحياة الاجتماعية في فرنسا.

هذا وعرفت الهجرة خلال حرب التحرير نوعاً من التوقف أو قلة الاندفاع استمر من عام 1957م إلى إعلان الاستقلال، وظهرت في هذه الهجرة سماتٌ جديدة:

أولاً)    منها أنها لم تعد هجرة أفراد، بل صارت هجرة أسر (عائلات) بكاملها؛ أي مكونة من الزوج والزوجة والأولاد وبعض الأقرباء أحياناً.

ثانياً)    ومنها هجرة المسلمين الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية وهو ما يطلق عليهم الآن اسم ( المسلمين الفرنسيين).

ثالثاً)    ومنها أن الهجرة لم تعد مقتصرة على الجزائر، بل شملت المغرب وموريتانيا وتونس. يدل على هذا ازدياد عدد المغاربة من (14236) مغربيا عام 1968م إلى (260025) مغربياً عام 1975م، و(376053) عام 1978م. ونسبة النساء فيهم تصل(25%)، وتبلغ نسبة العاملات من النساء المغربيات (37%) من محموع الوافدات إلى فرنسا. أما التونسيون فكان عددهم (61028) نسمة عام 1968م، ثم أصبح (139735) تونسياً عام 1975م، ثم أضحى (176154) عام 1978م، ونسبة النساء في الجالية التونسية (25%) وفيهن (28%) من العاملات.   

وإذا كان العمال المغاربة يقبلون المهن الريفية والزراعية أو الأشغال الصعبة، فإن العمال التوانسة يفضلون أعمال البناء والعمارة ومصانع الحديد والفولاذ. ورغم أن الجالية المغربية تعتبر في عددها الجالية الخامسة في فرنسا، إلا أنها لم تستقرّ بعد في أرض المهجر استقرار الجزائريين.

ونستطيع أن نقول بأن الجالية المسلمة في فرنسا أصبحت أكثر تعقيدا وأكثر تنوعا، فهي تشمل الجزائريين والمغاربة والتوانسة والموريتانيين والأتراك والمسلمين القادمين من أفريقيا السوداء ومن يوغسلافيا وغيرها بحيث أصبحت نسبة المسلمين تساوي (8%) من مجموع السكان في فرنسا أو يزيد.

ونؤكد على أن هذه الإحصاءات هي التي عثرنا عليها في المراجع شبه الرسمية ، أما الإحصاءات الدقيقة فلا يزال أمرها عسيراً.

2- الهجرة في البلاد الأخرى:

          لا نستطيع أن نتكلم كثيراً عن النمط الثاني من الهجرة لانتفاء العامل الاستعماري الإلزامي، ولكننا نستطيع أن نحدد السمات التالية:

أولاً)    بدأت هجرة بعض المسلمين الفارين بدينهم من البلاد الشيوعية كألبانيا ويوغسلافيا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. واستوطن هؤلاء المهاجرون في عدد من البلدان، منها ألمانيا الاتحادية وبلجيكا والدول المجاورة، واستقبلتهم في بداية الأمر المؤسسات الخيرية النصرانية وهيأت لهم السكن والعمل وأماكن الدراسة للأبناء إلى جانب الرعاية الاجتماعية الخاصة.

ثانياً)    حاجة التنمية الاقتصادية إلى اليد العاملة قليلة الكلفة أدت إلى استقدامها من عدد من البلدان المضيفة.

          ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حدة الهجرة نذكر ما يلي:

  • تشجيع البلاد الأصلية المصدّرة لليد العاملة على الهجرة كالمغرب وتركيا مثلاً.
  • البحث عن العمل والرزق والهروب من البطالة والأزمات الاقتصادية المحلية.

          ونتج عن العامل الأول :

  • تسوية ميزان المدفوعات.
  • اكتساب الخبرة من البلاد المتقدمة صناعياً.
  • تحويلات العملة الصعبة والتي تشكل مورداً من الموارد الرئيسية للبلاد الأصلية.

والنتائج البعيدة لهذه السياسة يمكن تلخيصها بما يلي:

  • التسوية: لم تكن متحققة من الناحية العملية، لأن البلاد الإسلامية تنفق أضعاف ما يردها من العملة الصعبة لاستيراد المواد الغذائية فقط عدا الحاجات الهامة الأخرى.
  • أما الخبرة المكتسبة: فلم تستفد منها الدول الإسلامية بشكل مباشر، وتدل الدراسة على أن العائدين الأتراك مثلاً يذوبون في المجتمع التركي، ومن العسير العثور عليهم، وبالتالي لا يستفاد من خبراتهم بشكل منهجي، وتقتصر الفائدة منهم على أعمالهم الفردية.

وعلى الغالب يبقى ذوو الخبرة العالية المتقدمة مقيمين في المهجر، ولا يعود منهم إلا ذوي الخبرة الضعيفة من الناحية العملية.

هذا وتدلّ الدراسات الاحصائية في بلجيكا مثلاً  أن عدد العائدين من المهاجرين الإسـبان

والفنلنديين والإيطاليين واليوغسلاف أكبر بكثير من عدد العائدين الأتراك والمغاربة إلى مواطنهم. فما بين عام 1974-1978م عاد أكثر من مليون عامل من غير المسلمين في حين لم يتناقص الوجود الإسلامي بصورة محسوسة.

طبيعة الانتقال:

تمت الهجرة إلى هذه البلاد خلال ما يقرب من ربع قرن ضمن صورتين مختلفتين:

  • الهجرة العشوائية أو المرتجلة: وفيها تتم هجرة الأفراد والجماعات بدون إعداد مسبق أو معرفة مسبقة للمعطيات والمتغيرات المختلفة للبلدان المضيفة.
  • الهجرة المنظمة: تمت هذه الهجرة بمعرفة الأطراف المعنية وبناءً على اتفاقات ثنائية بين البلاد المضيفة وبين البلاد المصدرة لليد العاملة استنادا إلى الحاجة الاقتصادية. ومن مميزات هذا النمط من الهجرة أنها حققت بعض المكتسبات منها:
  • حق الإقامة والعمل.
  • أعطت حقوقا متساوية للمهاجرين مع المواطنين، عدا الحقوق السياسية في بعض البلدان، بلجيكا مثلاً.
  • ضمنت منح التأمينات الاجتماعية والتأمينات ضد البطالة.

ولا شك أن أهم عامل نشأ عن هذا النوع من الهجرة أنه حوّل الانتقال المؤقت إلى دائم مستمر.

ويلاحظ أن أكثر القادمين كانوا من الأرياف وتوزعوا بصورة إجمالية على القطاعات التالية:

          1-      القطاع الصناعي                   87%

          2-      القطاع الزراعي                    6  %    

                   3-      قطاع الخدمات                      7  %

         

ما ذا نشأ عن استقرار المهاجرين في الغرب:

  • يعتقد الرأي العام الأوروبي أن العامل المهاجر في الأصل هو الذي يفد إلى البلاد ليعمل فيها مؤقتاً ويدّخر ما يساعده على العودة الدائمة إلى الوطن الأم، وهذا ما يدعوه لاختيار السكن المتواضع لأسباب اقتصادية ويضع في بنود ميزانيته المصروف القليل مقابل الادخار الأكبر.
  • ونرى مع مرور الزمن أن كثيراً من المهاجرين تمكنت لديهم فكرة الاستقرار، ولا يواجهون فكرة العودة إلى مواطنهم في القريب العاجل.
  • ونشأ عن ذلك جيل ثانٍ وثالثٌ … وتمكن البعض من متابعة الدراسة إلى حد مقبول. ولم يعد هذا الجيل يقبل الأعمال التي تعاطاها آباؤهم والأعمال ذات المردود الضعيف، بل بدأ يتطلع إلى الأعمال الراقية المتناسبة مع التكوين المكتسب الذي يفوق مقدرات آبائهم بكثير.

ويرى بعض الباحثين أن هناك أسباباً خمسة لرغبة المهاجرين في الاستقرار في هذه البلاد وهي:

  • يشغل المهاجرون أعمالاً يهرب منها الأوروبيون عادة ولا يرون فيها أي ترقية مهنية ولا يمكن أن نتصور أن الأوروبي سيأخذ يوما ما المكانَ الذي يشغله المهاجر.

وعلى الرغم من أن نسبة البطالة مرتفعة نسبياً في كثير من البلدان الأوروبية إلا أن درجة الفعالية والانتاج لا تزال مرتفعة لدى العمال المهاجرين طبقا لدراسة قدمتها الأمم المتحدة في عام 1992م

         

  • والسبب الثاني هو أن استيطان المهاجرين يكمن في درجة تأنيث الجمهرة المهاجرة، فمن الثابت أن نسبة الذكورة كانت مرتفعة بالنسبة للأنوثة في كثير من البلاد الأوروبية في السنوات الماضية. أما اليوم فيرى بعض الباحثين الاجتماعيين أن نسبة الأنوثة آخذت بالازدياد بشكل ملجوظ، مع اختلاف واضح من قطر إلى آخر.

ومن المعلوم أن المهاجر حينما يحصل على الإقامة وإذن العمل النهائي، يسعى أول ما يسعى لاستحضار عائلته: زوجته وأولاده. ولا شك أن تطور عمل المرآة بصورة عامة، ورفض المرأة الأوروبية بصورة خاصة أن تمارس بعض الأعمال الإنتاجية، هيأ للمرأة المهاجرة أن تقبل القيام بالأعمال المتواضعة، وأن تحلّ مع الزمن محلّ المرأة الأوروبية في مجال العمل والإنتاج.

         

  • والسبب الثالث يستند إلى قرارات إيقاف الهجرة الصادرة في عام 1974م في أكثرالبلدان الأوروبية، حيث أصبحت قوانين الهجرة بموجبها قوانين صارمة جداً، وأصبحت هذه القوانين بعد اتفاقية شينجن Schengen أكثر شدة بالنسبة للوافدين الجدد. وتدل الدراسات الإحصائية أن إيقاف الهجرة إدى إلى إطالة زمن الاستيطان. وفي هذه الشروط فإن العامل العائد إلى وطنه يفقد كثيراً من فرص العودة إلى هذه البلاد ويسعى لأن يستقرّ فيها قبل أن يغادرها. ولقد ساعد هذا الاستيطان الطويل على أن يتجمع المهاجرون في أُسَرٍ فعالة ومتكاتفة، وبالتالي  دفع هذه البلاد إلى أن تحدد بدقة شروط دخول العمال وأرباب العمل وعمل الزوجات ومن يعولونهم.

4- والسبب الرابع يكمن في الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها البلاد الأصلية للمهاجرين. وفي الواقع إن الأزمة الاقتصادية تتفاقم أكثر ما تتفاقم في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث الأعمال والأجور المتواضعة نسبياً. ولقد تبين من مطالعة الدراسات والإحصائيات الحديثة أن أغلب العائدين إلى مواطنهم هم أولئك الذين فشلوا في أعمالهم في البلاد الأوروبية وعجزوا عن أن يجدوا فيها أعمالاً مستقرّة، ولذلك يعودون رغماً عنهم وليس بسبب الآمال التي يبنونها في إيجاد الأعمال اللائقة في وطنهم.

5-والسبب الأخير هو أن الجيل الثاني من المهاجرين المولود في بلاد الغرب تبعه فيما  بعد جيل ثالث ورابع وآخر، ويتطلع جيل الشباب إلى أن مستقبلهم مرتبط بالبقاء في هذه البلاد ومتابعة الدراسة فيها المتوافرة في جميع مستوياتها للجميع، إلى جانب العمل والعيش إلى أمدٍ بعيد.

ولا بد من الإشارة إلى أن الدراسات الديموغرافية أوضحت بما لا شك فيه أن نسبة الولادات في عائلات المهاجرين تفوق بكثيرالولادات لدى العائلات الغربية. بل إن بعض الدول يسير المنحنى الولادي فيها نحو التراجع,

ولنضرب على ذلك مثلا نسبة الولادات لدى المهاجرين في مدينة بروكسل بالنسبة للمواطنين البلجيك:

العامعدد الولادات الكليةولادات المهاجرينالنسبة المئوية
197014464414969,28 %
197412439423908,34 %
197912104519289,42 %
199013227608500,46 %

هذا وإن مشكلة الهجرة والمهاجرين لم تعد مشكلة محلية تتعلق بقطر دون آخر، بل أصبحت مشكلة دولية عالمية تواجهها جميع السلطات العامة بصورة مشابهة، وأصبحت من المواضيع التي يبحثها المجلس الأوروبي بصورة رئيسية، بل أوجد لها لجاناً أوروبية ( دولية ) متخصصة، مثل مجموعة شينجن Schengen ، ولم تعد أي دولة قادرةً بمفردها على تحديد سياسة معينة تجاه المهاجرين بمعزل عن الدول الأخرى؛ المجاورة لها على الأقل.

المؤسسات  والجمعيات والمراكز الإسلامية:

          لقد كان للنخبة المثقفة من الطلاب في مطالع الهجرة دور كبير في الانطلاقة إلى تأسيس جمعيات  إسلامية ومنتديات اجتماعية وثقافية منذ نهاية الخمسينيات. وكانت لقاءاتهم تجري في غرف صغيرة مستأجرة أو في قاعات تقدمها لهم الجامعات أو المؤسسات التي يتابعون دراساتهم فيها.

وكان من أول المؤسست الطلابية التي ظهرت في عام 1961 م هو اتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا الذي تأسس في مدينة  بروكسل ببلجيكا ثم انتقل فيما بعد إلى بون في ألمانيا الاتحادية، وكان لهذا الاتحاد دور كبير في رعاية الجالية الاسلامية الوافدة من الناحية الدينية والاجتماعية والثقافية وإقامة العديد من المؤسسات العبادية في مختلف البلدان الأوروبية.

وتبع ذلك إنشاء جمعيات واتحادات ومنتديات في كل مكان؛ مثل اتحاد العمال المسلمين في أوروبا واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا واتحاد الجمعيات الإسلامية واتحاد المراكز الإسلامية وغيرها.

ودعت الضرورة إلى أن تؤسس في كثير من الأقطار الأوروبية هيئات تعمل على التنسيق بين المراكز والمؤسسات الإسلامية كالمجلس الأعلى للمسلمين في بلجيكا ، والمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا واتحاد المنظمات الإسلامية في فرانسا وبريطانيا وغيرها، والمجلس الإسلامي في ألمانيا، والهيئة الاسلامية في اسبانيا واتحاد الجمعيات الاسلامية في بريطانيا وأيرلندة وجمعية الأئمة في هولندة. وتم أخيرا إنشاء مجلس تنسيق إسلامي بين المؤسسات الإسلامية الكبرى في ألمانيا.

ومنذ مطالع الهجرة تتابع على مرور الزمن إقامة المساجد والمراكز الإسلامية في مختلف الأقطار الأوروبية، وكا من أوائلها المركز الإسلامي في جنيف والمركز الإسلامي في بروكسل والمركز الإسلامي في آخن والمركز الإسلامي في ميونيخ وهامبورغ ولندن وغيرها.

وشهدنا في السنوات الأخيرة إقامة مراكز إسلامية حضارية متميزة؛ كالمراكز الإسلامية في كل من مدريد وروما  ودبلن وميلانو وستوكهولم وجبل طارق وروتردام ومالقة وأدنبرة وغيرها.

وكان مما يلفت النظر أن هذه المراكز أقامت في بنائها منشأت تعليمية تبتديء من رياض الأطفال إلى المراحل التعليمية التالية. هذا إلى جانب قيام مؤسسات تعليمية خارج المسجد والمراكز، كالمدارس العربية التي انتشرت في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمارك واسبانيا وأيرلندة وبريطانيا وأكاديمية الملك فهد في كل من لندن وبون.

وأصبح الاتجاه واضحا لإقامة مؤسسات أكاديمية وجامعية إسلامية كما هي الحال في بريطانيا وفرانسا واسبانيا وألمانيا وغيرها .

وهكذا نرى أن المؤسسات الإسلامية من جمعيات ومساجد ومراكز واتحادات أصبحت تُعدّ في أوروبا بالآلاف، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن مدينة بروكسل تضم أكثر من 115 مسجدا وأن عدد أماكن العبادة في كل من فرانسا وألمانيا يزيد عن 2000 مسجدا ومركزا وقاعة صلاة.

ويجدربنا أن نذكر أنه تكونت في بلجيكا هيئة تنفيذية منتخبة تمثل المسلمين ومنحتها الدولة البلجيكية ميزانية سنوية مجزئة.

وكان من أهم الانجازات في هذا المجال إقامة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تأسس عام 1997 م ، وهو هيئة إسلامية متخصصة مستقلة تتكون من مجموعة من العلماء تهدف إلى إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية والعمل على توحيد آرائهم الفقهية وإصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا وتحل مشكلاهم وتنظم تفاعلهم مع المجتمعات الأوروبية في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها، والمقر الحالي للمجلس في مدينة دبلن بأيرلندة.           

المؤسسات التعليمية وأبناء المهاجرين:

 

          التربية والتعليم هما الموضوعان الرئيسان بين مشكلات «الجيل الثاني» من أبناء العمال المهاجرين، ينالون قسطاً من تربيتهم وتعليمهم في المدرسة. لكن المدرسة في الوقت نفسه تخلق لهم بعض المشكلات أثناء الدراسة وتزيد في حيرتهم وبؤسهم حين تؤدي دراستهم إلى الفشل ولا تعينهم على الالتحاق بسوق العمل المتميز.

          وتدل الإحصاءات على أن الكثير من أبناء المهاجرين المسلمين لا يذهبون إلى المدارس الثانوية، فإن ذهبوا فإنهم يساقون إلى معاهد التدريب المهني أو التعليم الفني القصير ولا يدخل في التعليم الثانوي الطويل إلا ندرة لا تزيد في كثير من الأحوال عن 3-5 % من مجموع أبناء المهاجرين المسلمين. ولو بحثنا عن هذه النسب لدى أبناء المهاجرين من الجنسيات الأخرى لوجدنا أنها أكثر ارتفاعاً. ذلك لأن هذه الجنسيات أقدر على التكيّف والاندماج في المجتمع الغربي ومؤسساته التربوية وأحسن حالاً من الناحية المالية واللغوية.

          هذه الملاحظات البسيطة في ظاهرها هي من أهم المشكلات التي تجابه أبناء المهاجرين     في الغرب. وعند التأمل في الإحصاءات العلمية في بلد كفرنسا، نجد أنها تشير إلى أن عدد أبناء المهاجرين هو في ازدياد في المدارس الابتدائية بنسبة 3,2 % ، فإن صحت هذه النسبة في الزيادة، فإن نسبة أبناء المهاجرين إلى مجموع الطلاب في المدارس الابتدائية في مطالع القرن الواحد والعشرين ستكون حوالي ( 25 % ) تقريبا وذلك لكثرة الولادات في الأسر العمالية المسلمة وتناقص الولادات في الأسر الفرنسية.

          وهذه النسبة الكبيرة المتوقع تحققها في العشريات الأولى من القرن الواحد والعشرين في مدارس فرنسا الابتدائية تستحق اهتماما كبيرا من قبل العمال المهاجرين وجمعياتهم المسؤولة عنهم، ومن قبل الفرنسيين ومؤسساتهم التعليمية قبل أن تنقلب إلى أزمة كبيرة ومشكلة تستعصي على الحل.

         

          ومن جهة أخرى يلاحظ بصورة عامة أن الطلاب يعانون من بعض المشكلات الرئيسية خلال تعليمهم الثانوي. فمن المعلوم أن بين الطفولة وبين الحياة المهنية سنوات حرجة بالنسبة للأطفال المغتربين. لأن هذه السنوات بالخاصة هي السنوات الأساس التي ترتكز عليها أساليب التربية. ولا يزال هؤلاء الأطفال يستمرون في مجابهة الصعوبات سنة بعد سنة، ولا يتخلصون منها إلا بشق الأنفس. ونذكر من بين هذه الصعوبات ما يلي:

  • لا يستطيع الوالدان بصورة عملية تقديم أية مساعدة تذكر من الناحية المادية والثقافية؛ وبالتالي ينمو الطفل في مناخ ثقافي متواضع بالإضافة إلى متاعب الجو السكني غير الملائم بصورة عامة للدراسة.
  • تضطرب أحيانا العلاقة بين الأبناء والآباء من جراء التربية التي يتلقاها الأبناء، والتي تختلف في طبيعتها وأصولها عن تربية الآباء.
  • يزداد الأمر سوءاً نتيجة لعدم استقرار مشاريع الآباء من حيث الاستيطان:
    • هل سيعودون إلى أوطانهم ؟
    • أم سيبقون إلى فترة محدودة؟
    • أم سيبقون إلى الأبد أو إلى أمد غير محدد؟

4)    وفي هذا المناخ لا تستطيع المدرسة أن تلعب دوراً مناسباً في إطار التعليم.

5)    يعتقد الغربيون أن المدرسة هي الإطار المناسب للدمج الاجتماعي والثقافي للمغتربين مع المواطنين.

       إلا أن المغترب نظراً لأنه كان يأمل في يوم من الأيام بالعودة إلى وطنه. لذلك فإن تفاعله مع عملية الاندماج سلبي إلى حدّ كبير، وقد أراد بعض المسؤولين عن التعليم التغلب على هذه الصعوبة بمحاولة المحافظة على قدر معين من الثقافة الأصلية للمغترب، والاقلاع عن محاولة إبعاده عن جذوره الأصلية، ولا شك أن نتائج هذه المحاولة ستختلف باختلاف الدوافع لها؛ إن كانت تربوية حقا!! أم أن وراءها عامل اجتماعي أو ديني ما… والسير في الموضوع على النفس الطويل.

6)    يضاف إلى ذلك أن الطلاب المغتربين في مطالع هجرتهم، والذين تلقوا في الأصل مرحلة معينة من التعليم، يجدون صعوبة كبيرة للتلاؤم المباشر مع الصفوف الموافقة لسويتهم في المدارس الغربية من حيث السنّ والدراسة. ويعود هذا إلى الضعف في اللغة وفقدان لغة المخاطبة والتفاهم مع المناهج التعليمية الغربية. وقد يؤدي هذا إلى أن يخسر الطالب سنة دراسية على الأقل لكي يتلاءم مع جوّه الجديد.

7)    وقد يصادف أن القدر من الدراسة التي تابعها التلميذ في موطنه قبل الهجرة غير معترف به كاملاً أو جزئياً في ديار الغربة، فيؤدي ذلك إلى بعض الصعوبات التي قد تفضي إلى خسارة بعض سنيّ الدراسة أيضاً.

8)    وتدل الدراسات الإحصائية أن الاتجاه العام في تعليم أبناء المهاجرين واصح نحو التعليم المهني أكثر من التعليم العام أو التقني. ولو أننا أصبحنا في الأيام الأخيرة نلاحظ زيادة نسبية في التوجه نحو التعليم العام وبالتالي الانتقال إلى التعليم الجامعي.

اللغة العربية والثقافة الإسلامية:

اللغة العربية لغة رسالة حيّة  خالدة، نزل بها القرآن الكريم وهي بذلك لغة العالم الإسلامي كله، يتعبّد بها المسلمون حيث كانوا على اختلاف أوطانهم وأجناسهم.

وهي لغة حضارة أعطت ما أعطت للبشرية في عصر كادت فيه المعارف الإنسانية تتلاشى وتفنى، فاستوعبت المنجزات الحضارية، وطوّرها المسلمون إلى حدّ الإبداع والدّقة.

وهي لغة تنتظر اليوم من ينشرها ويطورها لتستوعب النهضة العلمية والتقنية ولتستجيب للحاجيات الاجتماعية المتنوعة.

إن تدريس اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية واجب ديني وحضاري يستوجب الاهتمام البالغ، تحصيناً للهوية الثقافية والذاتية الإسلامية والحضارية، وتعريفا بالقيم الإنسانية السامية التي جاء بها الإسلام.

ويجدر بنا الانتباه إلى أن اللغة العربية كوسيلة لفهم الإسلام وإدراك معانيه والاستجابة لخطابه، مهددة بالفناء والانقراض في إطار الأجيال الجديدة الناشئة من أبناء الجالية المسلمة ذات الأصول العربية في المجتمع الغربي لافتقاد لغة الأم، وعجز الأسر المسلمة – إن صحّ التعبير – عن إدراك هذا الخطر، وتقديم أي شيء في هذا السبيل، ذلك أن هذه الجاليات انحدرت غالباً، من طبقات فقيرة الموارد، فقيرة الثقافة الإسلامية، وفقيرة في الوعي أيضاً. وكان همها الأول تحقيق المكسب المادي فقط…. إلى جانب ما يمكن أن يحكمها من النظرة الساذجة التي تسيطر عليها من أن العربية هي لغة المجتمعات الفقيرة المُسْتَعمَرَة من جانب أوروبا؛ أو التي تعوزها الحرية الموجودة في أوروبا والمفقودة في بلادها. وإن اللغات الأوروبية هي لغات العلم والعمل والحضارة، ومن الكسب الكبير: التكلم بلغة السيد المستعمر المستغل، حتى يمكن القول بأنه مرّت على الجالية المسلمة في أوروبا فترة قبل حركة اليقظة والوعي التي أورثها الابتعاث، كانت تحكمها فيها عقدة الخجل من أصلها الإسلامي ولغتها العربية؛ وتحاول الهروب من انتمائها، خاصة وأن هذه الجاليات أو معظمها لم يستطع أن يتجاوز قاع المجتمعات الأوروبية، حيث لم تزل محكومة بظروفها وأعمالها التي استقدمت من أجلها، فهي الطبقة التي تشكل اليد العاملة في المهن المتواضعة نوعاً ما، ولا يتاح من خلال الفقر وعدم الوعي لأبنائها فرصة متابعة التعليم، حيث يتوجه الأولاد عمالاً بسطاء إلى المعامل والمناجم التي يعمل فيها الآباء.

ومن جهة أخرى ليس بين الدول الأوروبية إلى الآن من يعترف بالدين الإسلامي سوى بلجيكا والنمسا واسبانيا والمجر، حيث تمّ الاعتراف من قبل الأولى في آب / أغسطس 1974م ومن قبل الثانية في عام 1979م.

وفيما عدا بلجكا والنمسا وإسبانيا لا يوجد تعليم رسمي ديني لأبناء المسلمين في المدارس الحكومية، وتبقى المهمة ملقاة على عاتق المساجد والمراكز والجمعيات الإسلامية والثقافية المختلفة التي تبذل جهوداً مشكورة في تعليم أبناء المسلمين اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ولا ينسحب هذا بالدرجة الأولى إلا على أبناء الجالية من الأصول العربية، أما أبناء المسلمين من الجنسيات الأخرى فتعليم اللغة العربية ليس من الناحية العملية له شأن ملموس. ونحب أن نشير إلى أن أغلب البرامج المتبعة لا تزال ضعيفة جداً وبعيدة عن المنهجية العلمية وعدم التصور العملي لطبيعة الحاجة التي يجب توفيرها للتعليم.

وفي بلجيكا والنمسا يجري تعليم الدين الإسلامي رسميا في المدارس الحكومية من قبل مدرسين تدفع الدولة رواتبهم وضمانهم الاجتماعي وتعويضاتهم العائلية.

وفي دراسة تمت على جمهرة من أبناء المسلمين في بلجيكا، تبين أن وضعية الطفل المسلم صعبة جداً، ويخشى عليه أن ينسلخ تماماً عن هويته الثقافية والحضارية. فهو يتعرض يوميا في المدرسة والشارع وفي البيت من خلال وسائل الإعلام الفتانة إلى صور من الضغوط تجرّه جراً نحو تيار ( التغريب ) والاندماج – أو بالأحرى- الذويان في المجتمع الأوروبي، وقد تزداد هذه الوضعية تشابكا  إذا كان الطفل ينحدر من زواج مختلط ( خاصة الأم الأوروبية)، فيعيش الطفل انشطاراً محيّراً بين ثقافتين، وتكون الغلبة في أكثر الأحيان للثقافة الغربية إذا اعتبرنا جميع المؤثرات الخارجية.

أما المسؤولية في هذا الوضع المتردي فتحملها أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية والعربية التي لها جاليات هامة في الغرب. ذلك أن هذه الحكومات لم تبذل أي جهد منذ البداية في سبيل وضع سياسة واضحة بالاتفاق مع الحكومات المضيفة للمحافظة على الشخصية الإسلامية والعربية لأبناء مواطنيها. ورغم أن هناك مبادرات جريئة تطفو على السطح من حين لآخر، إلا أنها لا تعدو أن تكون حلولاً وقتية تنقصها النجاعة والديمومة والتخطيط المحكم.

كما أن الأسرة تتحمل قسطا من المسؤولية، فهي لو حافظت على عاداتها وتقاليدها الإسلامية، وحرصت على تربية أطفالها تربية إسلامية وخاطبته بالعربية دائما لأمكنها التخفيف من حدة هذا الأمر.

ومن جهة أخرى لا بدّ من كلمة حول الوسائل والمناهج المتبعة في تعليم أبناء المسلمين. فقد أظهرت لنا الدراسة المتأنية اختلاف المناهج والطرق من ناحية، وانعدام الكتاب المناسب والوسائل التعليمية المتطورة من جهة أخرى. ومن ثمّ يجد المدرس والتلميذ نفسهما في حيرة من جدوى هذا التعليم. خاصة وأن هذه الدروس تعطى في الغالب في أوقات راحة التلميذ، الذي إذا ما أحسّ بنقصان الفائدة من هذه الدروس يتضاءل شغفه بها، وهذا ما يحتم علينا العمل على توفير كل الوسائل وأسباب التشجيع وإيجاد محيط مشوّق، حتى يُقبِل هذا التلميذ بكل حماس على دروس اللغة العربية والثقافة الإسلامية.

ونعتقد أن ذلك يمكن أن يتم بما يلي:

  • إيجاد محيط إسلامي مشوّق وتوطيد المحبة بين التلميذ والمدرس والمدْرَسَة أوالمسجد.
  • تسخير الوسائل العصرية والمفيدة لاستغلال كل الفرص المتاحة حتى يكون هذا التعليم ناجعاً وفعالاً في أقصر وقت ممكن، فمن المفيد مثلاً عرض أفلام وثائقية إسلامية المضامين، حتى يتعود الطفل على سماع اللغة العربية، ويشاهد الصور ذات المضمون العربي والتي تشدّه إلى البيئة الأم باعتزاز وفخار. ويحسن كذلك تخصيص قاعات سينمائية أو فيديو في المراكز الكبرى والتي لها من الإمكانات ما يجعلها قادرة على تجهيز مثل هذه القاعات، مما يجعل التلميذ يقبل على دروس العربية بتشوق ورغبة.
  • وضع مقررات موحدة انطلاقاً من دراسة معمقة تراعي جميع جوانب العملية التربوية والأهداف الرئيسية لها.
  • وضع كتب موحدة إسلامية المضمون وعصرية الأسلوب كي تكون مشوقة وناجحة.
  • وضع رصيد لغوي موحد، وفي هذا الصدد لا بد من الاستفادة من جهود المنظمات المختصة، كالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم ( الإسيسكو) والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( الأليكسو) التي سارت شوطاً محمودا في هذا المضمار.

ولا بد لي أخيراً من أن أذكر بأن المدرسين العاملين في مختلف درجاتهم لم يكونوا مؤهلين في الأصل للقيام  بمهام تعليمية في الوسط الأوروبي، ولذلك كانوا يواجهون عند مباشرتهم لعملهم الجديد صعوبات جمّة. وهم مع ذلك قليلو العدد والعدَة والإمكانات، ويطالَبونَ بما فوق قدرتهم، وإن وسائلهم  التعليمية إذا ما قارناها بالوسائل المتوافرة في المدارس الغربية تُعَدُّ متواضعة جداً، بحيث لا تُرغّب التلميذ في الإقبال على تعلم العربية، ولذلك يجد المدرس نفسه وتلميذه في حيرة محيّرة.

مشكلات التعليم:

لدراسة الصعوبات ومشكلات التعليم أعددنا استمارة استجوابية قمنا بتوزيعها على المدرسين والتلاميذ في إحدى المداس التابعة لمركز إسلامي يهتم بتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية لأبناء المهاجرين، وكانت نتائج الاستجواب كما يلي:

أولاً) استجواب التلاميذ:

1-         عدد المستجوبين:        102    طفلاً

            منهم:                       66      ذكور

                                         36      إناث

2-         العمر / سنة              عدد الأطفال

                       8                    1

                  9                     3

                  10                       4

                11                   7

                12                   12

                  13                       18

                14             17

                  15                       14

                16             13

                17                   9

      18                     4

          المجموع              102

3-         مكان الولادة:

            –        في الغرب       76      طفلاً

            –        وافدون           26      طفلاً

4-         السن عند الوصول:

            أقل من 3 سنوات         3        أطفال

            من  3 – 6 سنوات      2        طفل

            من  6 – 9  سنوات     21      طفلاً

            المجموع                  26      طفلاً

 

5-         مهنة الأب:

            بدون             23      أب

            عامل             77      =

            موظف           2        =

            المجموع         102   

 

6-         مهنة الأم:

            عاملات          23      أم

            موظفات         2        =

            ربات بيوت      67      =

            المجموع         102    =

 

7-         اللغة المستعملة في البيت:

            اللغة الأجنبية فقط                  42

            الأجنبية والعامية          51

            العامية فقط                          9

            المجموع                            102

 

  • موقف الأطفال من تعلم اللغة:

أ)        راضٍ :          60      طفل

          لماذا:             – أريد أن أعرف لغتي

                             – أريد أن أقرأ القرآن

                             – (8) أطفال قالوا: إن الدرس مفيد والمدرس لطيف

ب)      راضٍ قليلاً      39      طفلاً

          لماذا؟             – المدرس يتكلم الأجنبية

                             – لا أفهم كثيراً

                             – ساعات التدريس قليلة

                             – الرصيد اللغوي المقدم فقير

                             – قلة التمارين الشفهية

                             – سوء تنظيم الدروس

                             – تخصيص وقت أكبر للقراءة

ج)      غير راضٍ       4        أطفال

          لماذا؟             – غير مهتم

                             – لا أفهم أبداً

                             – أتعب من الدرس

                             أريد أن ألعب

9-      عدد الأطفال الذين درسوا العربية في الوطن      19      طفلاً

10-    الأطفال الذين ابتدأوا العربية في الغرب            82      طفلاً

11-   دراسة العربية في الغرب:

عدد سنوات الدراسة          العدد              مبتديء           متوسط           متقدم

أقل من 3 سنوات             30                 6.                24               –

من 3 – 5 سنوات            48                 02               39               7.

أكثر من  5 سنوات           24                 7.                9.                8.

المجمــــوع          102               15               72               15

 

 

  • عدد الساعات الدراسية أسبوعياً:

عدد الساعات                 عدد الأطفال

من 3 – 4                         83

من 4 – 6                         19

المجموع                            102

 

  • اقتراحات المستَجوَبين:
    • زيادة عدد ساعات التدريس.
    • دراسة تاريخ وجغرافية البلدان العربية والإسلامية.
    • عرض أفلام عربية تعليمية.
    • استخدام الوسائل السمعية البصرية.
    • ضرورة إيجاد كتب تفي بالمنهاج التعليمي.
    • توزيع التلاميذ حسب أعمارهم.
    • مزيد من الاهتمام بالتمارين الكتابية.

ثانيا) استجواب المدرسين:

      برزت صعوبات من أهمها:

  • زيادة عدد التلاميذ في الفصل الواحد (أحياناً أكثر من ثلاثين).
  • تعدد لهجات التلاميذ في الفصل الواحد.
  • فقدان التنسيق بين المدرس والكتاب والرصيد اللغوي.
  • شعور التلاميذ بأن تعلم اللغة العربية يشكل عبئاً إضافيا.
  • شعور المدرسين بتخلّي الآباء عن الأبناء في التعليم.

مقترحات المدرسين:

  • العمل على توجيه الآباء والأبناء بأهمية العربية.
  • تبادل الخبرات خلال لقاءات المدرسين.
  • عقد دورات تدريبية لرفع مستوى المدرسين.
  • إلقاء الدروس النموذجية من بعض الخبراء.

النتائج العملية لهذه الدراسة:

          رأى المدرسون والقائمون على هذه الدراسة العملية تقديم الاقتراحات التالية لرفع سوية العملية التعليمية قدر الإمكان وضمن الإمكانات المتاحة للجالية المسلمة:

  • يجب أن يعتمد المغتربون في الحفاظ على أبنائهم على إمكاناتاهم الذاتية وأن لا يتكلوا على الحكومات والهيئات الرسمية فقط.
  • التعاون على إيجاد مجلس أعلى للتعليم ينبثق عنه لجنة متخصصة للمتابعة وإعداد البرامج.
  • إنشاء صندوق مالي مشترك تساهم فيه العائلات الإسلامية ولو بالقدر اليسير لدعم عملية التعليم.
  • يراعى في عملية التعليم تهيئة الأطفال على تعلّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ قصار السور في سنّ مبكرة، وقبل الالتحاق بالمدرسة الإبتدائية.
  • التأكيد على أن تقوم العائلات بمخاطبة الأولاد في البيوت باللغة العربية.
  • للأبوين دور أساسي في عملية التعليم، وعليهم متابعة الأطفال في إنجاز الواجبات البيتية.
  • عند إعداد البرامج الموَحَّدة تراعى البساطة والتدرّج والتشويق في الكتب من حيث الطباعة وحسن العرض والمضمون.
  • يمكن الاستفادة من الكتب المهيأة من عدد من الدول العربية في اقتباس بعض النصوص والتوجيهات، ولا ضرورة للتقيّد حرفيا بكامل المقرر.
  • عقد دورات تدريبية للمدرسين باستقدام أهل الاختصاص لفترات محدودة.

الجيل الثاني ومشكلات المراهقين:

يتعرّض الجيل الثاني المراهق من أبناء الجاليات الإسلامية إلى صعوبات متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي:

  • الصعوبات في جوّ المدرسة، وهو جوٌّ لم يتهيأ في الأصل لاستقبال أبناء المهاجرين.
  • الصعوبات في ميدان العمل، الذي لا ينفتح بسهولة للمراهقين الذين تركوا المدرسة ولم يختصوا بصورة مناسبة للقيام بأعمال فنية مُكسِبَة. وهناك ميادين تغلق في وجههم بسبب جنسياتهم ليس غير. أما الوظائف الحكومية فهي مسدودة عملياً في وجه من لم يحصل على الجنسية الأوروبية، وكذلك الأعمال التي من شأنها الاتصال بالجمهور الأوروبي. وتزداد الصعوبة حينما يتعلق الأمر بالإناث.
  • عدا صعوبة الدراسة وصعوبة الدخول في ميدان العمل؛ هناك حقائق اجتماعية تزيد الأمور تعقيداً، كالنزعة العرقية، هذه النزعة التي يحسها المراهقون من أبناء العمال المهاجرين تُوَلّدُ فيهم ميلاً للإنطواء على أنفسهم، كما تُنمّي في نفوسهم رغبة التهجم والعنف.
  • والصعوبة الرابعة ثقافية: فالعالـََم الثقافي لهؤلاء المراهقين لا تستطيع المدرسة التأثير فيه، ولا توسيعه؛ فيكتفون بثقافة هامشية تُمعِنُ في نشرها أجهزة الإعلام، وهي ثقافة ليس في قيمها الأخلاقية والفكرية صحة ولا قوة ولا استمرار.
  • من الصعوبات أيضاً وضع الأسرة المسلمة التي تأتي إلى الغرب بدون أن تتهيأ له، فتبقى أسيرة العادات والتقاليد التي حملتها معها من بلدها؛ فتتيبّس وتزيد من تناقض أوضاع الأسرة المسلمة في الغرب وفي قلقها ومعاناتها.
  • ويمكن أن نضيف إلى ذلك الإشارة إلى أن كبرى الصعوبات ناجعة عن أن المراهقين يعيشون خاضعين لثقافتين مختلفتين يضيعون بينهما: ثقافة جاءت معهم ومع والديهم من الوطن الأصلي، ولم يطلعوا منها إلا على وجهها المتيبّس الذي لم يتجدد ولم يتطور، وثقافة تأتيهم من مستقرّهم الجديد، فلا تصل إليهم بقوتها وصحتها وتمامها، بل تصلهم سطحية مشوّهة ناقصة فاقدة لقوتها وصلاحها.
  • ومن الصعوبات الهامة – لكنها صعوبات طارئة – ازدياد عدد الجانحين بين المراهقين من أبناء العمال المهاجرين، حيث تثبت الحوادث والإحصاءات حقيقة هذا الأمر، وإن كان يذكر في الغالب مع كثير من المبالغات لغرض من الأغراض.

يدّعي بعض الباحثين الاجتماعيين أن الجنوح لدى المراهقين يعود إلى البيئة التي يعيشون فيها مع أهلهم في ظروف اجتماعية واقتصادية خاصة. والواقع يدلّ على خلاف ذلك، إذ نستطيع أن نلمس الترابط الاجتماعي وروح الجماعة في الأحياء القديمة أو القرى الصغيرة التي يقطنها المهاجرون، ونسبة الجنوح في هذه الأمكنة ضعيفة أو نادرة.

أما في الأحياء التي يقلّ فيها عدد المهاجرين فإن نسبة الجانحين بين الشبان المهاجرين لا تزيد عن الشبان الغربيين، إن لم تكن أقل، فإن الجنوح الملموس في الأحياء المأهولة بالسكان من المهاجرين لا يتصف بصفات خاصة، ولا يختلف في طبيعته عن الجنوح المعروف في أوساط الشبان الغربيين.

ولعل البطالة من أهم بواعث الجنوح، ونظرة واحدة إلى الإحصاءات الفرنسية حول نسبة البطالة بين الفرنسيين والمهاجرين تؤكد ارتفاع هذه النسبة بشكل صريح لدى المهاجرين.

تدل الدراسة الإحصائية لعام 2005 في فرنسا على ما يلي:

نسبة البطالة لدى المهاجرين الذكور من عمر (25-39) سنة   17 %

نسبة البطالة لدى المهاجرين الإناث من عمر (25–39) سنة 28 %

نسبة البطالة لدى الفرنسيين الذكور من عمر (25-39) سنة             9   %

نسبة البطالة لدى الفرنسيين الإناث من عمر (25-39) سنة              11 %

وفي تقرير نُشر في الاتحاد الأوروبي بتاريخ 14 آذار / مارس 2003 يذكر أن العنصرية التي يعاني منها المهاجرون المقيمون أو الوافدون الجدد، والتي تدفعهم للانعزال عن المجتمع أو القبول بالأعمال الهامشية وخاصة السوداء التي يأنف منها الغربيون، قد تكون أحد العوامل الذي يساعد على نمو نسبة الجنوح في صفوفهم.

أثر الثقافة الأصلية والثقافة الأوروبية على الشبان المهاجرين:

تطالعنا الدراسة المنهجية على الصفات البارزة للشبان من الجيل الثاني المعتمدة على مؤشرين رئيسيين وهما الثقافة الأصلية والثقافة الأوروبية أن هناك ثماني فئات من هؤلاء الشبان الذين تتجلى صورتم في دولة مثل فرنسا، وهم:

  • الفئة الأولى: هي زمرة من الشباب تغلب عليهم الثقافة الأصلية وهم ميالون للعودة إلى وطنهم، لكن يحول دون هذه العودة أنهم غير مؤهلين لعمل من الأعمال. وتعيش هذه الفئة في أحياء إما آهلة بالمهاجرين، أو أن المهاجرين قليلون فيها جداً. ومعنى هذا أن تكاتف المهاجرين في منطقة ما أو قلتهم ” التي تسبب عزلتهم” يؤديان إلى نفس النتائج في حياة هذه الزمرة وفي سلوكها الاجتماعي.
  • الفئة الثانية: هي فئة الشباب الذين تشربوا الثقافة الأصلية، وأثرت فيهم الثقافة الغربية” أو الثقافة الهامشية من الثقافة الغربية” أكثر مما أثرت في الفئة الأولى. وهم يتمنون البقاء في الغرب. وتتصف هذه الفئة بأنها مؤلفة من أفراد لهم عصبية واحدة ويعيشون في أحياء كثافة المهاجرين فيها كثيرة، ودراستهم في المدارس متنوعة النتائج ، ضعيفة في الغالب، وأحياناً متوسطة وقليل منها موفق.
  • الفئة الثالثة: مؤلفة من شبان منعزلين نسبياً عن ثقافتهم الأصلية وعن الثقافة الأوروبية. وهم يرفضون العودة إلى وطنهم ويسعون للتجنس، وضياع الهوية في هذه الفئة ملموس، ونجاحهم في المدرسة هزيل، وكلّ هذا يقلل من إمكانات تلاؤمهم مع المجتمع الغربي. وتعيش هذه الفئة في مناطق قليلة العدد من المهاجرين، لكن أفرادها يعيشون على شكل عصابات أو تكتلات.
  • الفئة الرابعة: فئة الشبان الذين هم في خصام مع أسرهم ومجتمعهم الأصلي، وليس لهم تعلّق ظاهر لا بثقافتهم الأصلية ولا بالثقافة الغربية. لذلك كان من الصعب اندماجهم في البيئة الغربية. والصعوبة التي يلاقونها في الاختيار بين الوسطين تضيع شخصيتهم وهويتهم.
  • الفئة الخامسة: تتألف من مجموعة من الشبان يحولُ تعلقهم بثقافتهم الأصلية دون استفادتهم من الثقافة الغربية، ورغبتهم في العودة إلى وطنهم بارزة، ويمكن تحقيقها لأن أكثرهم ذو ثقافة عامة ومهنية ظاهرة.
  • الفئة السادسة: فئة تمثلت الثقافة الغربية جيداً، لكنها متعلقة بوطنها الأصلي، ولها اهتمام بكل ما يتصل بأحواله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ورغبتهم في العودة صادقة‘ وهي قابلة للتحقيق لأن هذه الفئة ذات ثقافة عامة جيدة وتدريب مهني وافٍ.
  • الفئة السابعة: تشبه السادسة غير أن تمثلها للثقافة الغربية معادل لتمسكها بثقافتها الأصلية. ونجد في هذه الفئة أسراً إسلامية وعربية صحيحة. وأفراد هذه الفئة ناجحون في دراساتهم وتدريبهم المهني، لكن حصيلة هاتين الثقافتين في أفراد هذه الفئة هي الرغبة في البقاء في الغرب والميل أحيانا للتجنس.
  • الفئة الثامنة: أما هذه الفئة فهي ظاهرة العزم على تمثل الحياة والثقافة الغربية ونبذ القيم الأصلية، وتفضيل طريقة الغربيين في أسلوب الحياة وفي المذاهب السياسية، ولا تفكر هذه الفئة في العودة قط إلى الوطن الأول.

 

معضلة اندماج المهاجرين في مجتمع الغرب:

هناك جماعة بشرية – وهي ما يمكن تسميته بالمجتمع- نظّمت نشاطها وترابط أفرادها فيما بينهم حسب حاجتها الاجتماعية والاقتصادية وحسب قيمها الروحية والأخلاقية. وهناك حاجة لكي يحلّ أفراد جدد من الشبان محل بعض الأفراد الذين أدركهم العجز أو انتزعهم الموت. وهناك أعمال واختبارات وامتحانات لا بدّ للشبان من معرفتها واجتيازها ليثبتوا أنهم أهل  ليحلوا محل أفراد المجتمع الذين ضمتهم القبور أو أفعدهم العجز عن الاستمرار في العمل والانتاج في إطار المجتمع.

هذا النموذج مبسطٌ جداً ويتغير بتغير المجتمعات ومناطقها الجغرافية واعتقاداتها الدينية وقيمها الثقافية وحاجاتها الاجتماعية. ففي المناطق الزراعية مثلاً نرى الإبن يقلّد أباه، ويرى فيه الإنسان الخبير في شؤون الفلاحة وتربية الحيوانات.

أما المجتمعات الأرستقراطية في القرون الوسطى، فإنها كانت تطلب من الشاب ليلحق بالرجال والكهول: الفروسية وخدمة الدين وتعلم فنون القتال.

والشاب الغربي في عصرنا هذا يُطلبُ منه اجتياز امتحانات مدرسية متعددة، وتُطلبُ منه الخدمة العسكرية لمدة معيّنة لكي يعيش في جوٍّ من التقشف والمساواة والحياة الصعبة مع عدد كبير من مواطنيه.

ولفهم عملية اندماج الفرد في المجتمع الغربي لا بدّ من معرفة طبيعة هذا المجتمع الذي يستقبل أفراده الجدد من الشبان لدمجهم واستخدامهم حسب أغراضه وحاجاته.

يتصف مجتمع البالغين في الغرب، بسبب ارتباطه الشديد بالتقدم الاقتصادي بالصفات الرئيسية التالية:

  • إنه مجتمع تتغير فيه القيم والمعايير تغيراّ سريعا.
  • إنه مجتمع يعيش فيه الأفراد أعماراً أطول من أعمار آبائهم وأجدادهم نتيجة للتقدم الصحي ومستوى الحياة.
  • إنه مجتمع مغلق يصعب على المرء الدخول فيه.
  • إنه مجتمع يطلب من القادمين للاندماج فيه معرفة وتجربة ومهارة.
  • غير أن هذه المؤهلات الثلاثة: « المعرفة والتجربة والمهارة » صارت سريعة التطور والتبدل منذ السنين الأخيرة بحيث أن هذه المؤهلات تصبح قديمة بالية غير صالحة خلال مدة قصيرة من الزمن، فلا بدّ من التدريب من جديد (أو ما يسمى إعادة التكوين) لاكتساب معارف وتجارب ومهارات جديدة مطلوبة من الفرد لكي يندمج في مجتمع ” الراشدين” في الغرب.
  • تتصف المعارف والتجارب الجديدة بأنها تقنية وتكنولوجية متطورة تزداد كل يوم دقة، وتتطلب في كل وقت تخصصا جديداً. وليس لهذه التكنولوجية الجديدة غاية تجري إليها، فلا تهدف إلا ذاتها، ولا تتطور إلا من أجل التطور، ولا تتقدم إلا من أجل الرغبة في التقدم نفسه، وبذلك تخلق حاجات جديدة غير ضرورية لتضمن لحركة الجهاز الاقتصادي تحركاً بات من الصعب ضبطه والسيطرة عليه.
  • غموض الأهداف التي يجري إليها المجتمع الغربي وصعوبة السيطرة على ميكانيكية الحياة الاقتصادية فيه، أزالَ كل الحواجز والامتحانات التي كان يطلب من الفرد اجتيازها في الماضي للاندماج في هذا النوع من المجتمع. ولم ينتبه الكثيرون من الناس لزوال هذه الحواجز والاختبارات.

وعدَّت طائفة من الناس زوال هذه الحواجز تطوراً حسناً وتقدماً اجتماعياً محققاً للعدالة والديمقراطية، وقاضياً على الامتحانات التي تصطفي فئةً من الناس دون الفئات الأخرى ومزيلاً للفروق الاجتماعية.

في الواقع لم يكن زوال الحواجز تقدما ولا كسباً للعدالة والديمقراطية، وإنما كان تغييراً جذرياً في طرائق اندماج الأفراد الشبان في مجتمع الراشدين الذي تغيّرت طبيعته وقيمه وأهدافه وصار مجتمعاً إباحياً، لا تمكن مراقبته والسيطرة عليه وعلى توجيهه، وهو في ظاهره جذاب كثير الإغراء للشبان، ولكنه في الحقيقة يسيطر عليه الغموض والشكّ، وتغيب عنه العدالة الصحيحة والديمقراطية الحقيقية، ويبعث في النفس اليأس ثم القلق باستمرار بما نشهد اليوم آثاره ومآسيه.

كل المصاعب الجديدة التي تقف في وجه الفرد في محاولة الاندماج في المجتمع الغربي تعانيها الشبيبة المسلمة من أبناء المهاجرين في حياتها اليومية على الأرض الغربية، وتعاني فوق ذلك كله صعوبتين جديدتين كبيرتين:

  • وضعهم الاقتصادي الفقير جداً
  • والرفض المستمر الذي يلقونه من المجتمع كلما سعوا للاندماج فيه، ونتيجة ذلك كله أن هذه المجموعات من الشبيبة تتجمع فيما بينها معتمدة على الروابط المختلفة والقيم الأصلية لتؤلف بؤرات اجتماعية مغلقة سلبية رافضة لكل القيم السائدة في المجتمع الغربي، وقد يتطرف بعضها فيكرّس قواه وإمكاناته للأذى والتخريب كما حدث في باريس وبعض المدن الفرنسية منذ سنوات قريبة.

وقد نمت هذه الرغبة في العدوان والتخريب في مجتمعات الشبيبة المغلقة العاطلة عن العمل لأنها استوفت الشرطين الرئيسيين اللذين يدفعان الجماهير للعنف والتخريب وهما:

  • صعوبة الاتصال والتعبير
  • ضيق الأمكنة التي حضروا للعيش فيها.

وخلاصة القول: إن العمال المهاجرين الذين جاءوا وحدهم إلى الغرب في أول الأمر ثم التحق بهم زوجاتهم وأولادهم… لم يجدوا المدرسة الأوروبية مهيأة لتربية أبنائهم بالشكل الذي يناسبهم، ولم يجدوا المجتمع مفتوحاً لاستخدام أبنائهم، ولا سيما وأن هذا المجتمع يعاني اليوم أزمة اقتصادية تشكو منها الشبيبة الأوروبية نفسها؛ فإن كانت شكوى الشبيبة المسلمة أشد وأوجع فذلك لأنهم في المجتمع الغربي أقل صناعة وأقل قدرة على المقاومة لضعف حالتهم الاقتصادية واختلافهم في العرق واللغة والدين والقيم الاجتماعية والروحية عن أبناء البلد المضيف الذي ما زال يعتبرهم غرباء مهاجرين.

ولا بد لي أن أشير أن كل الذي تحدثنا عنه ينطبق على الأوضاع في المراحل الأولى من الهجرة، ولا شك أن أغلب المعطيات تغيّرت بشكل واضح، وأصبح موضوع الاندماج هو الشغل الشاغل للمؤسسات السياسية والاجتماعية الأوروبية، ولذلك لا بد لي من معالجة الموضوع بشكل آخر على ضوء هذه المستجدات.

حول نشوء مصطلح الاندماج:

تعتبر قضية الاندماج من بين أهم القضايا التي حظيت باهتمام منقطع النظير، ليس فقط من لدن النخبة المثقفة، وإنما كذلك من قبل مختلف شرائح ومكونات المجتمع الغربي المعاصر، على تباين درجة وعيها، ومستوى عيشها، وحجم موقعها الاجتماعي، حتى أضحى هذا المصطلح يسيل على كل الألسنة، وتنشغل به أغلب الجهات، ويحضر في معظم الأنشطة، رغم أنه حديث العهد بالظهور، حيث لم يمر سوى عقدين أو ما يزيد بقليل، على سنّ سياسة إدماج المسلمين والأجانب في المجتمعات الأوروبية بخاصة، ما دام أن وجود المسلمين بالغرب انتقل من حالة الاستقرار المؤقت إلى حالة المواطنة والإقامة الدائمة، وهذا التبدل والانتقال طرح أمام سلطات وحكومات الدول التي يقطن فيها المهاجرون، إشكالات جديدة وتحديات غير متوقعة، تقتضي معالجة فورية وحلولا معقولة للوضعية التي توجد فيها اليد العاملة، التي تم استيرادها من بلدان العالم الثالث منذ أواسط القرن المنفرط، وهي وضعية تتطلب تسوية قانونية لا تقتصر على منح المهاجرين هوية قانونية ومدنية، ينالون من خلالها أحقيتهم، إما في التحرك داخل رقعة البلد الذي يقيمون فيه، أو في السفر إلى أوطانهم الأصلية أو غير ذلك، وإنما تتجاوز ذلك إلى شتى الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، إذ يصبح المهاجر باسم القانون ذا حق في العمل والصحة والتعليم والتعبير، وما يستتبع ذلك من حقوق متنوعة.

هكذا لم يعد أولئك العمال الذين استجلبهم العديد من الدول الأوروبية من مختلف بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، مجردَ ضيوف مؤقتين كما يعرفهم المصطلح الألماني الشائع (العمال الضيوف) Gastarbeiters، وإنما منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، اكتشف العديد من سلطات الدول الغربية المستورِدَة لليد العاملة، أن أولئك العمال صاروا مقيمين أو شبه مقيمين بالديار الأوروبية، بل إن كثيراً منهم حصلوا على الجنسية الأوروبية، لأن الوضعية السيئة التي كانت عليها أوطانهم الأصلية، ما عادت تشجع على العودة، إلى جانب كثير من الامتيازات التي حصلوا عليها خلال استيطانهم في الغرب. وقد تواكب هذا مع أزمة اقتصادية عالمية خانقة، لم تكن أوروبا بمنأى عن مضاعفاتها وخلفياتها، مما دفع الدول الأوروبية  ابتداءً من أوائل السبعينيات إلى وقف استيراد اليد العاملة، وإعادة النظر في تعاملها مع ملف المهاجرين، وقد ترتب عن هذه المراجعة إقحام سياسة اندماج الأجانب في مذكرتها السياسية، وبالتحديد منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم. غير أن ما حدث هو أن اندماج اليد العاملة من أصل إسباني وإيطالي كان تلقائياً وسريعاً، في حين انعزلَ المغاربة والأتراك والآسيون المسلمون في تكتلات خاصة بهم خارج بنية المجتمع الأوروبي في أغلب الدول.

وبعدما تم تقنين وضعية أعداد كبيرة من المسلمين المقيمين  في أوروبا، وصار وجودهم القانوني  بالمهجر يتحسن شيئا فشيئا، بدأت تنشأ بجانب ذلك التحسن مشاكل جديدة من عيار آخر، مشاكل ذات أبعاد أخلاقية وحضارية، تمس بشكل أو بآخر ما يعتبر مصيرياً في تفكير واعتقاد أولئك المهاجرين، كالدين والهوية والأخلاق والذريّة وغير ذلك، حيث بين عشية وضحاها تغير التفكير لدى غالبية مسلمي الغرب، من تفكير بسيط ومحدود في لقمة العيش والعمل والسكن، إلى تفكير معقد متشعب في تربية الأبناء، ومستقبل العقيدة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والتعامل مع الآخر وغير ذلك. ومن بين الأمور التي استأثرت بقسط وافر من تفكير أولئك المسلمين، وصارت لدى بعضهم بمثابة كابوس ينغّص رغد عيشهم، ويعكر صفاء حياتهم، نجد سياسة الاندماج، التي حاولت أغلب البلدان الأوروبية المستقطبة للمهاجرين، بواسطتها أن تدمج المسلمين والأجانب داخل مجتمعاتها، وتجعلهم ينخرطون في الحياة العامة بشكل منفتح وتلقائي وإيجابي، حتى أضحت تعادل ذلك الحلم الذي يراودها، ما دامت ترى في تنفيذ تلك السياسة و تحقيق أهدافها المبرمجة، حلاً سحرياً لجملة من الإشكالات الناتجة عن الوجود الإسلامي والأجنبي بالغرب، لكن هذه السياسة التي تبدو وكأنها سوف تجلب النفع والخير العميم للجميع؛ سلطةً وشعباً، أصليين وأجانب، أوروبيين ومسلمين… قوبلت بالرفض أو التحفظ من قبل العديد من المسلمين، سواء كانوا مثقفين أم عاديين، لأنها تُخفي غير ما تعلنه، وتبطن غير ما تعد به من أهداف ومشاريع، فهي تنبني على أسلوب الاحتواء الذي يسعى إلى تذويب المسلمين في أتون الثقافة الغربية، لأن ذلك الإدماج الذي يتراءى نافعا وإيجابيا، سرعان ما يتبدد نفعه وإيجابيته، لما يؤدي إلى بلع هوية الآخر وخصوصياته الحضارية والدينية.

وهكذا صار مصطلح الاندماج ينطوي على مفهوم ملتبس ومخادع، ولو أن دلالته اللغوية الأصلية واضحة ومستوعبة، والمرجع في ذلك الالتباس، أو تلك المخادعة، إلى ذلك الاستهلاك المتنوع والمستمر له، مما شحنه بشتى الأفكار والحمولات والتأويلات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، التي حرفت معناه الأصلي، فراح كل تيار أو حزب أو توجه يُؤوّل اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية والأوروبية، وفق رؤية المرجعية التي ينتسب إليها، لذلك ارتأينا في هذا المبحث أن ننقب في الجذور اللغوية لهذا المصطلح، سواء في بعض القواميس العربية أم الأجنبية.

حقيقة مصطلح الاندماج:

لقد اتفق الدارسون الذين تناولوا مصطلح الاندماج (Integration) الذي يتكرر بنفس الصيغة اللغوية أو بما يقربها، في أغلب اللغات الغربية، لاتينية كانت كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها، أم جرمانية كالألمانية والهولندية، على معادلته في اللغة العربية بمفردة (الاندماج)، ومن المؤكد أنها أحيانا تُترجم بغير ذلك من المفردات القريبة منها دِلالياً، كالإدْماج والضمّ والانضمام والتأليف والإدغام وغيرها، لكن تبقى كلمة الاندماج أكثر استعمالاً وشيوعاً، لذلك رأينا من الجدارة بمكان، أن نذهب نفس المذهب، ونستخدم هذا المصطلح، لكن بعد أن نستوعب دلالته اللغوية الأصلية، التي سوف تمكننا لا محالة من وعي الجانب الاصطلاحي الشائع بيسر وفطنة وإدراك.

إذا كانت بعض القواميس الغربية الحديثة مثل لاروس Larousse الفرنسي ودودن Duden  الألماني وفان دال الهولندي وأكسفورد الإنجليزي وغيرها، تلتقي في تحديدها لمصطلح (Integration) حول ما معناه: الدخول في وحدة أو في الكل، والتجانس مع مكونات تلك الوحدة أو ذلك الكل. فإن جملة من المعاجم العربية القديمة تكاد لا تخرج عن ذلك الخط الدلالي، حيث تشرح أغلبها مادة (دَمَجَ) التي تشتق منها مفردة الاندماج، وأحيانا صيغة (اندمج) بـ: (دخل في الشيء)، ومنها ما يزيد على ذلك الشرح عبارة: واستحكمَ فيه، كما جاء في لسان العرب والمحيط. فيكون بذلك التحديد المتكامل لمادة (دمج) هو: دخل في الشيء واستحكم فيه. وكلمة استحكم، كما هو وارد في قاموسي المحيط والوسيط، تطلق على الشيء إذا توثق وصار محكما ومضبوطا ومتقنا.

استنادا إلى هذا التحديد اللغوي لمفردة الاندماج أو جذرها (دمج)، سواء في المعاجم الغربية أم العربية، يمكن استخلاص النتائج الآتية:

إن الدلائل اللغوية لهذه المفردة تكاد تتوحد توحداً كاملاً، رغم اختلاف المعاجم التي وردت فيها، من حيث الزمان والسياق واللغة والثقافة، وهذا يعني أن ترجمتها كانت في محلها، وأن استعمالها يظل صحيحا عندما يقترن الأمر بالشق اللغوي، ولا يشذ إلا عندما يخالطه ما هو أيديولوجي وثقافي. وهذا يجعلنا كذلك، نستنتج أن مصطلح الاندماج يبدو وكأنه صالح لكل زمان ومكان، لكن بعيداً عن أي تأويل ضيق، أو إسقاط تلفيقي، ومراعاة لخصوصيات المندمج الأصلية، التي ينبغي تفادي اصطدامها مع خصوصيات غريبة عنها أثناء عملية الاندماج، وإلا انقلب مفهوم الاندماج رأسا على عقب، وصار مبطناً بمفاهيم أيديولوجية مغايرة كالاحتواء والتبعية والإقصاء والذوبان.
 إن الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) تنبني على مفهومين، لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما، أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر. وهذان المفهومان هما:

 الأول: الدخول،

 والثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في المعاجم الأوروبية.

 وهذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا وكليا في بنية ما، إلا إذا دخل في تلك البنية وتجانس مع باقي مكوناتها، واستحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها. من هنا، يتجلى أن الاندماج لا يكون بالدخول أو الانخراط في منظومة ثقافية ما أو اجتماعية أو غير ذلك، وإنما بالتجانس أو الاستحكام العقلاني مع باقي مكونات تلك المنظومة، وإلا أدى ذلك الدخول إلى ما يشبه الذوبان في ثقافة الآخر، ونكران الهوية الأصلية، لذلك فالتجانس العقلاني أو الاستحكام كما تشير القواميس اللغوية العربية، هو ضرب من التواصل المتبادل والبناء والواعي بين كل مركبات المجتمع، الذي من شأنه أن ينتج عنه اندماج إيجابي؛ يتشبث فيه المسلم والأجنبي بجذوره الثقافية والدينية، لكن في نوع من الانفتاح والتعاون مع الثقافات والعقائد الأخرى تحت مظلة المجتمع الواحد.

 وتنضاف إلى الإشارتين السابقتين ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن مفردة الاندماج التي يفضل أغلب الباحثين والمهتمين المسلمين والعرب وغيرهما استعمالها، هي مصدر لصيغة اندمج التي تقابلها في الميزان الصرفي صيغة انفعل، وهي ثلاثية الأصل، مزيدة بحرفين، وفعلها لازم لا يتعدى إلى مفعول، أي أنها تقتصر على فاعل، لكن عندما تتأمل هذا الفاعل تكتشف أنه لا يتجاوز الوظيفة النحوية، فهو لا يعمل شيئاً، ولا يسبب في عمل ما، لذلك يمكن أن نعتبره مجرد فاعل نحوي، في غياب الفاعل الدلالي والحقيقي، حيث الأحداث التي تحملها جمل من قبيل: انكسر الكأس، انهمر المطر، اندمج المسلم… ليست من عمل فاعل مباشر ومحدد، وإنما تحدث من تلقاء نفسها، وبشكل عفوي، فالانكسار أو الانهمار أو الاندماج… هي على المستوى المعنوي حالات للفواعل: الكأس والمطر والمسلم، أما على المستوى النحوي فهي فواعل. والخلاصة من هذا، أن تلك الأحداث أو الحالات كما تؤشر الأفعال تحصل بعيداً عن أي عامل معلن، حيث العامل الذاتي هو الوحيد المعلن، وهذا يدل على أن التلقائية والعفوية هي المناخ المناسب الذي يمكن أن يتبلور فيه حدث الجملة التي يوجد فيها فعل لازم مزيد بحرفين وعلى الصيغة الصرفية: انفعل.

 بناءً على هذه المقاربة اللغوية لصيغة مفردة الاندماج وما يمكن أن تحمله من إشارات دلالية لطيفة، نستطيع أن نوظفها في استيعابنا لمفهوم الاندماج على مستوى أوسع، حيث هذه التلقائية التي تطفح بها الصيغة المزيدة لجذر الاندماج، ينبغي كذلك أن تنعكس على عملية الاندماج داخل المجتمع، فلا تتأتى تلك العملية بأسلوب إجباري أو قسري، بقدرما تنبع بطريقة عفوية من تفكير وسلوك المندمج، وذلك عندما تتوفر له الشروط الملائمة لذلك، وأهمها التواصل الإيجابي المبني على الإيمان بثقافة الآخر وفكره ودوره، أما إذا كان هذا التواصل متقطعاً ومرتكزاً على العداء الخفي أو المعلن، كذلك يكون الاندماج متقطعاً، يؤسس لثقافة القطيعة لا لثقافة التعايش!

 
الوجه الخفي لسياسة الاندماج في الغرب

بالنظر إلى الخطاب السياسي المهيمن في الغرب،  الذي يُدرك أن بقاء المسلمين سواء في البلدان الأوروبية أم في الدول الغربية، غير مرهون فحسب بتوفرهم على وضعية قانونية صحيحة، أو نيلهم لجنسية البلد الذي يوجدون فيه، أو حتى انتمائهم إليه بالولادة والتربية والالتحاق بالمدارس ودرجات التعليم المختلفة ونحو ذلك، ولكنه مرهون بما هو أهم من ذلك كله، وهو وجوب انخراطهم في الحياة العامة الغربية، ثقافياًً ولغوياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً وغير ذلك، على أن يكون هذا الانخراط مسايراً، بل ومندرجاً في بوتقة المجتمع الغربي، قلباً وقالباً، تفكيراً وسلوكاً، وبعيداً عن أي تصارع مع أخلاق وتقاليد الغربيين، ولو أنها تهدد المسلمين المغتربين في هويتهم الدينية والثقافية، وفي تربية أبنائهم وتوجيههم، مما يضعهم أمام نارين؛ نار الولاء للآخر، ونار التمسك بالهوية الأصلية. وسعياً إلى تنفيذ هذا المبتغى، الذي يطلق عليه في الأدبيات الغربية سياسة الاندماج، تم حشد شتى الإمكانيات القانونية والمادية والدعائية، التي وظفها العديد من الدول الغربية في شكل مشاريع عدة، تأتلف حول أهداف موحدة، وتكلفت مختلف الأجهزة بتطبيق ذلك وتعميمه على كل الأجانب الموجودين بين ظهرانيها، من وزارات وأحزاب ومؤسسات تعليمية وجمعيات وشركات وغير ذلك، وعندما تمعن النظر في هذا الاهتمام اللافت لهذه القضية، تشعر وكأنك لست أمام سياسة الاندماج، وإنما أمام ثورة الاندماج، مادام أن أولئك المشرفين على ملفات هذه القضية، الذين تفهم من خطابهم وكأن لا خيار للأجانب والمسلمين إلا الاندماج في المجتمعات الغربية، وأن رضى الغرب عليهم لا يأتي إلا من بوابة اندماجهم وفق رؤيته الفكرية والتنظيرية، وإلا فإنهم سوف يُحشرون لا محالة في خانة الوافدين لا المواطنين! لكن، وحتى تكتمل الصورة في أذهاننا، ينبغي أن نتصفح رؤية الغرب لاندماج الآخر في مجتمعه وثقافته، لعلنا نستوضح منها ما قد يكون إيجابيا لوجودنا عنده، فيكون ذلك بمثابة المصباح الذي نستنير به في طريقنا البعيد، أو لعلنا نفقه بها ما يساعدنا على أن نفهم الأسباب العميقة لانصراف الكثير من المسلمين وتحفظهم من سياسة الاندماج، التي تقدمها لهم الحكومات الغربية على طبق من ذهب! وسوف نقتصر هنا كمثال عملي على النموذج الهولندي حيث يعيش ما يقرب من مليون مسلم في هذا البلد. يبدو واضحا من كلام وزيرة الاندماج وشؤون الأجانب في هولندة، أن سياسة الاندماج تنطوي على مشروع عقلاني، يسعى إلى إشراك الأجانب في الحياة العامة، وذلك بمنحهم فرصة تلقي اللغة الهولندية، والتعرف على تاريخ وثقافة الشعب الهولندي، ونحو ذلك من الأهداف الشريفة. وقد جاء في كلمة الوزيرة أو الوزارة المعنية بالأمر ما فحواه: “يجب أن يتم الاندماج في المدارس والشركات والحي والشارع، وهو بدرجة ما مهمة تناط بالسلطة الوطنية، حيث منطلق سياسة المواطنة الجديدة، هو أن كل مهاجر يتحمل مسؤولية اكتساب المعارف والمهارات الضرورية.”

 إن المتصفح لمثل هذا الكلام، يدرك حقا أنه لا يشكل أي تهديد لهوية وثقافة كل من سوف يطاله هذا الاندماج، لكنه في نفس الوقت، لا يكشف عن الفائدة الملموسة من هذه السياسة، علما بأن ثمة الآلاف من المسلمين الذين اندمجوا لغوياً ومعرفياً، أي أتقنوا اللغة الهولندية، وتعرفوا على قيم وتقاليد وتاريخ الشعب الهولندي، لكن رغم ذلك ظلوا بعيدين عن ذلك التواصل التلقائي والحميمي مع المجتمع الهولندي الذي ينخرطون فيه، بل ومنهم من يتفوه علنا برفض قيم المجتمع والثقافة الهولندية، وهذا الرفض لا يأتي من فراغ، وإنما يستند إلى عوامل شتى، منها ما يمكن اعتباره موضوعياً، مثل مشاكل العمل، والتواء القوانين المنظمة لبعض القطاعات كالتأمينات والمدرسة  وغير ذلك، دون نسيان الهجمة الإعلامية المدعمة ضد المسلمين، وهكذا دواليك.

واستنادا على هذا، يتقرر أن عدم إقبال مجموعة من المسلمين على الانخراط العفوي في الثقافة الأخرى، لا يُعزى إلى فشل في اندماجهم اللغوي أو المهني أو حتى الشبه ثقافي، وإنما إلى أسباب أعمق من ذلك، تتجذر في أسلوب تفكيرهم، وطريقة تعاملهم، وهما أمران لا يفهمان إلا في نطاق البنية المجتمعية العامة التي ينحدر منها هؤلاء، وهي بنية جدُّ مختلفة عن بنية المجتمع الغربي، حيث المعايير الفكرية والسلوكية السائدة لا تليق إلا بالإنسان الغربي، وعندما تطبق على الإنسان المسلم أو الأجنبي تفقد قيمتها، وتنقلب ضداً، كما ينقلب السحر على الساحر، فالحرية مثلا، بالمفهوم الغربي هي فوضى بالمقياس الشرقي أو العربي، لذلك نرى أن أغلب صور  السلوك المنحرفة والإجرامية التي يقترفها الأجانب، إنما السبب فيها هو الحرية المفرطة في غياب الأنا الأعلى (الأب، الإمام، الشيخ، السلطة…)، لذلك بمجرد ما تغيب سلطة الأب من المنزل، تنفتح شهية الأبناء للتحرر التام من كل القيود الدينية والثقافية والقانونية وغير ذلك، ومثل هذه الوضعية المعاشة التي يعانيها عدد من المسلمين في الغرب، تجعلهم يسخطون على القيم الغربية، ويعتبرونها سبب الانحرافات الخطيرة التي تتخبط فيها الأجيال الأخيرة، فيفقدون بذلك كل الثقة في المقولات الدعائية التي يروج لها الإعلاميون والسياسيون، ولا يرون في القوانين التي تصدر تباعاً بخصوص الأجانب والمسلمين، مجردَ وُعود تخفي وراءها قيوداً مصممة للحدّ من المد الإسلامي، وتدجين كل الأصوات التي تنادي بتمكين المسلمين والأجانب من حقوقهم القانونية والدستورية.
هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تزرع الارتياب في نفوس الجالية المسلمة الموجودة في الغرب، وحتى يتسنى لنا الاستيعاب الشمولي والموضوعي لهذه الوضعية الحرجة التي تعكس الحالة الحقيقية لعدد لا يستهان به من المسلمين، نبلور ذلك في النقاط الآتية:

إن سياسة الاندماج كما تطرحها بعض الحكومات الأوروبية والغربية، ليست هي النموذج الأوحد الذي يمكن بواسطته إشراك المسلمين في المنظومة الاجتماعية والثقافية الغربية، إشراكا إيجابيا وبناء، لأنها:

 أولا)  صادرة من طرف واحد، وهو الذي بيده القرار، دون تشاور مع ممثلي المسلمين ومثقفيهم، وثانيا) تبدو في جانبها النظري ذات أهداف إيجابية للكل، لكن أثناء التنفيذ يتضح زيفها وخداعها، وهذا ما راح يحصل من قبل وزيرة الاندماج الهولندية، التي جعلت من وزارتها في جانبها المرتبط بإدماج الأجانب ورشا للتجارب، مما يجعلنا نقرر ما أشرنا إليه في تحديدنا اللغوي لمصطلح الاندماج، الذي ينطوي على مفهوم شريف، ما إذا لم يعتريه ما هو أيديولوجي.

 إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية، لا يعني أنهم لم يندمجوا، بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية، ويتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها، وينتظموا بشكل إيجابي ومنتج داخل سوق العمل، لكنهم تحفظوا من الانخراط غير العقلاني في ثقافة الآخر، لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية، ومن فينة لأخرى تكشف مختلف الآراء عن هذا الموت أو التذويب للآخر في بوتقة المجتمعات الغربية، مثل آراء أحزاب اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، وغير ذلك، فكيف يُنتَظر من المسلمين أن يقبلوا على هذا الآخر الذي يرفض قيمهم الدينية والثقافية دون تربص ووجل!

ثم إن وضعية المسلم في الغرب، ينبغي أن تحلل وتفهم في نطاق أوسع، يراعي شتى الجوانب النفسية والثقافية والدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك، وهي جوانب تثبت أن الإنسان المسلم ليس هو الإنسان الأوروبي أو غيره، ومن هنا فالتعامل المثمر معه يجب أن يضع في الحسبان كل تلك الجوانب، وإلا فإنه سوف يتخذ مسارا منحرفا.

في العام الماضي كشف تقريرصدر في هولندة ( وهو ما يسمى بتقرير بلوك) عن فشل سياسة الاندماج التي سنتها الحكومات الهولندية المتتابعة طوال حوالي ثلاثة عقود، لكن هذا لا يعزى بشكل أو بآخر إلى عجز المسلمين أو الأجانب عن الاندماج، وإنما يعود إلى خلل ما في تلك السياسة، أو إلى خلل في آلية إيصال فحوى الاندماج إلى الآخر، وجعله يتقبل هذه الفكرة من أصلها، لذلك عمد ذلك التقرير إلى اقتراح توصيات، يستوجب على الحكومة الحالية العمل بها، وما تلك التوصيات إلا قيود جديدة سوف تزيد من تضييق الخناق على الأجانب، مما سوف يولد ارتجاجات جديدة، تجعل المهاجر يسري عليه ذلك المثل العامي المعروف: (الداخل إلى الحمَّام ليس كالخارج منه!). والجديد الذي يتضمنه ذلك التقرير يتمحور حول: عدم تركيز أكثر من 80 % من التلاميذ الأجانب في مؤسسات تعليمية إثنية أو دينية معينة، وإجبار أكثر من 54 % من الأقليات على الانخراط في سوق العمل، وعدم السماح بتسكين العائلات ذات الدخل الأدنى في أحياء محددة، وانتهاج أسلوب الوقاية والقمع في مواجهة السلوكات الإجرامية المنحرفة التي يسببها شباب الأجانب، وتنظيم تكوين للأئمة والحد من استيراد الأئمة من الخارج، وإصدار مذكرة حول التطرف والأسباب التي تقف من ورائه وذلك بالتشاور مع عدد من المسلمين.

كيف ينظر المسلمون إلى هذه التبدلات التي بدأت تحصل في الغرب، وهم ليسوا بعيدين عن تأثيرها؟ هل يتخذون منها موقفا معلنا، يحاولون من خلاله إثبات رفضهم أو قبولهم لذلك، أم يبقون مكتوفي الأيدي وهم ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي؟ في حقيقة الأمر، يظهر أن مسلمي هذه الألفية الجديدة يختلفون جذريا عما كان عليه أسلافهم الذين شكلوا الجيل الأول، حيث استطاعوا في ظرف وجيز أن يحضروا في شتى قطاعات المجتمع الغربي ومجالاته، لكن ما يعاب على هذا الحضور أنه يتخذ طابعا فرديا، يغيب معه التنسيق الجماعي، مما يشتت الإسهام الذي يقدمه الأجانب داخل بنية المجتمع الغربي، ويجعله باهتا ومحجوبا بالأحداث الساخنة التي يسببها بعض المنحرفين، وهي أحداث تسرق أضواء الإعلام والسياسة، فيبدو معها كل إسهام من لدن المسلمين والأجانب مقزما وليس ذا شأن! رغم ذلك فثمة العديد من المنظمات والمؤسسات الإسلامية، بدأت تتخطى الحواجز لتثبت حضورها الفعلي داخل المجتمع، ومنها من تمكن من فتح الحوار مع السلطات المسؤولة، ومنها من يجمعه معها التعاون في شتى الجوانب، غير أن ما يعوز بعض هؤلاء هو الرؤية الواضحة للأمور، التي تحاول ترتيب أوراقها الداخلية، ومعرفة دورها داخل المنظومة الغربية، ومن ثم وضع استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل الحيثيات التي تمت بصلة إلى وجود المسلمين في الغرب، وفي هذا الإطار يمكن إدراج تلك الأصوات التي تنادي بإسلام حضاري، يتكيف مع كل المناخات والثقافات، ليؤسس رؤية إنسانية وكونية ترتكز على الاعتدال والوسطية، ولا تنفي الاندماج الإيجابي في أي مجتمع، اندماج مشروط بالحفاظ على الهوية الأصلية، ومبني على التجانس العقلاني مع ثقافة الآخر، والاستحكام الذي يضمن استمرارية خصوصيات الديانة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والهوية التي يحملونها.

مشكلات الأسرة المسلمة في المهجر:

كانت الأسرة الإسلامية المهاجرة في موطنها على الغالب أسرة تعيش من الزراعة ورعي الماشية، يتعاون أفرادها – جميع أفرادها – ويتقاسمون العمل وتجمعهم الصلات الإسلامية في المعاملات والعبادات والقيم الروحية والعلاقات الأخوية والأسرية.

فلما جاءت هذه الأسرة إلى الغرب، حاولت أن تتكيف حسب مقتضيات المجتمع الجديد وانقلبت عملياً إلى أسرة حسب النموذج الصناعي. ومن المعلوم أن تركيب الأسرة الصناعية وترابطها قائم كله على المرتب ( أي على الأجر الذي يتقاضاه العامل)، وتطور الأسرة المهاجرة الصناعية من النموذج الزراعي إلى النموذج الصناعي زاد في بؤسها ومشكلاتها لأن الأسرة الصناعية الأوروبية تكسب مرتين: مرتب الزوج ومرتب الزوجة، بينما الأسرة المهاجرة الصناعية لا تجني سوى مرتب واحد لصعوبة إيجاد عمل للزوجة. كما أن الأسرة الأوروبية قليلة الأولاد، بينما الأسرة المسلمة المهاجرة كثيرة التناسل. والأسرة الأوروبية أقدر في العثور على العمل وعلى الحصول على المرتبات الجيدة من الأسرة المسلمة المهاجرة.

ولقد تطورت الصلات بين أفراد الأسرة المهاجرة تطوراً هو في الواقع تقطيع للروابط وتمزيق للوشائج وضياع للقوى الروحية التي تجمع بين أفراد الأسرة الإسلامية.

وإذا تأملنا في هذا لتطور بصورة متأنية نلاحظ أولاً تأثير العامل الاقتصادي أي أن الأسرة لم تبق سلطتها مقصورة على الأب – كما في الأسرة العربية الإسلامية – بل هي بين الفرد الذي يكسب القوت ويربح المرتب ويثبت القدرة في الكفاءة في سوق العمل. أما التقاليد وتكافل الأسرة والاهتمام بالتربية وبتلقين الدين فقد أصبح كل ذلك أمراً ثانوياً موكولاً إلى مؤسسات اجتماعية خارج الأسرة كالمدرسة والمجتمع والمسجد.

ونلاحظ ثانيا انتقاص قيمة الوالد، وهو في الحقيقة مأساة في حياة الأسرة المسلمة المهاجرة حيث يتعارض نموذجان للأب:

  • النموذج الأول هو الذي عرفه الجيل الأول من العمال المهاجرين، جاءوا بصورته من أوطانهم، وهو أبٌ يقوم بدور رب الأسرة، يرأسها ويعولها، ويطيعه جميع أفرادها.
  • أما النموذج الثاني فهو صورة الأب كما تعلمها الجيل الثاني وما بعده من أبناء المهاجرين الذين رأوها بأم أعينهم في المجتمع الصناعي الذي نشأوا فيه. وهو والد تأتي قيمته من وضعه الاقتصادي ومن قدرته على الحصول على العمل في سوق الكفاءة والمهارة. والعمل الذي يحصل عليه العامل المهاجر هو في الغالب عمل متواضع ذو أجر قليل.

وكان تصادم هذين النموذجين مدعاة لمآسي كثيرة في بعض الأسر المسلمة المهاجرة، فبينما نجد الأبناء قد قلّ تقديرهم لآبائهم الفقراء الأميين ذوي الأعمال البسيطة، نجد الآباء الذين جعلتهم ثقافتهم الأصلية موضع التقدير، يطالبون زوجاتهم وأبناءهم في أوروبا أن يعاملوهم بالاحترام الشديد والطاعة التامة والتمسك بالتقاليد.

لقد نجم عن هذا التعارض بين النظرتين خصومات كثيرة بين بعض أجيال الآباء وبعض أجيال الأبناء وكثرت الأزمات النفسية وانهيار الأعصاب من الجانبين، وساد جوّ بعض الأسر التوتر والقلق والحيرة والأمراض النفسية، وتمزق نسيج بعض الأسر من جراء ذلك شرّ ممزق.

ونلاحظ ثالثاً استمرار تفضيل الرجولة في كثير من الأسر الإسلامية المهاجرة. فعلى الرغم من تأثر الأسرة المهاجرة بالحياة الاقتصادية في المجتمع الغربي الذي عدّل تركيبها وغيّر قيمها الأخلاقية والاجتماعية ورغم تأثرها كذلك بنموذج الوالد كما صار في المجتمع الصناعي، فإن أمراً واحداً استمرّ من التقاليد القديمة وهو تفضيل الرجولة على الأنوثة. وهذا التفضيل أظهر في الطبقات الفقيرة المتواضعة، حيث اضطربت القيم وضاعت الأصالة، ولم يبق للشبان معيارٌ يتباهون به ويجدون فيه هويتهم سوى التباهي بالذكورة. وقد زاد هذا التباهي شدة وجعله أشبه بردّ فعل أو ثورة على الواقع، الدورُ الذي تقوم به المرأة في الغرب؛ وغلبة العنصر النسائي في التعليم الغربي في المدارس الأوروبية الابتدائية والثانوية وحتى في صفوف تدريب المراهقين والشبان.

ويزداد هذا الأمر حدة وعمقاً للسببين التاليين: 

  • إن آباء الشبان من الجيل الثاني غائبون أكثر الأوقات في أعمالهم، فلا يجد الشبان أمامهم سوى الأم في الدار والمعلمة في المدرسة.
  • والأم التي يعيشون معها في البيت لا تشبه الأم الغربية؛ فهي غالباً أمية لا تحسن الكلام باللغة الأوروبية، ولا تملك القدرات الفنية ولا المعلومات الثقافية التي تساعدها على حلّ مشكلات أبنائها من الشبان والمراهقين.

لكل ذلك يثور الشبان على المرأة ودورها في حياتهم، ويجدون في تمجيد الذكورة والتباهي بها خير وقاية لشخصياتهم المتزعزعة.

المرأة المسلمة ومجتمع الاغتراب:

المرأة المسلمة في الغرب أشد تعرضاً لوطأة الظروف الاجتماعية والأخلاقية من الرجل، نظراً إلى تمسك النسبة الكبرى من النساء المسلمات بالمظهر الإسلامي، في حده الأدني أحياناً وعلى الأقل، مما يجعلهن عرضة لنوع من السخرية والاستهزاء، في المدرسة أو الشارع أو العمل…. وهنّ غير قادرات على موقف المواجهة لافتقاد اللغة أحياناً أو لافتقاد التصور الإسلامي حيناً آخر.

والمرأ المسلمة إما عاملة في مصنع أو في قطاع الخدمات، أو هي ربة بيت، ونادراً ما تكون في وضع ثقافي أو اجتماعي يمكنها من مواجهة المجتمع حولها… بل وغالباً ما يكون زوجها في مثل هذا الوضع.

التوجه السياسي للمهاجرين:

لا شكّ أن المهاجرين يشكلون اليوم نسبة لا بأس بها من العاطلين عن العمل، وغالبية كبيرة من الطبقة التي تعيش من المهن الفقيرة المورد، والتي ينفر منها غيرهم ، فمن المنطق إذاً العناية قبل كل شيء بتحسين وضعهم الاقتصادي لهم ولأبنائهم الذي يطلق عليهم  الجيل الثاني. لكن هذا المنطق ظاهري لا بدّ من تصحيحه؛ وذلك لأنه لا بد من العناية في الوقت نفسه وبنفس الاهتمام، بحياتهم المعنوية والاجتماعية والثقافية والروحية. فقد أصبحوا اليوم مجموعة لها القدرة على التجمع والمطالبة بحقوقها، وعلى الكفاح من أجل الحصول على الحقوق الشرعية. وصار من السهل على الأحزاب السياسية والاتجاهات المتطرفة استثمارهم سياسياً واستخدامهم لأغراض أخرى.

غير أن الاهتمام بحياتهم المعنوية أمر صعب دقيق لا تقدر عليه سوى المؤسسات المتخصصة الإسلامية، ولا يجوز بأي حال أن يوكل الأمر إلى المؤسسات الغربية مهما خلصت نياتها وصدقت في خدمة المهاجرين؛ لأن طرائقها في تصور الحلول وفي تخطيطها وفي تنفيذها مطبوعة بطابع المدنية الغربية، والثقافة التي تغلب عليها التكنولوجيا والحلول المادية منذ قرنين من الزمن.

ومن المؤسف أننا لا نزال نجد بين قيادات المسلمين من يدعو إلى العزوف عن المشاركة السياسية في الحياة الغربية لاعتقادهم بمعارضتها لقواعد الشريعة الإسلامية, وقد أدى هذا إلى زيادة عزلتهم في المجتمع وإبعادهم عن مركز اتخاذ القرار وجعل مستقبلهم السياسي في ايدي غيرهم.

ولقد كان لفضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رأي في هذه المشاركة نشرته جريدة المدينة السعودية يحسن بنا الاطلاع عليه:

أكد الشيخ عبد الله بن بيه ان مشاركة المسلمين الذين يعيشون في الغرب في العمل السياسي هناك سواء بالترشيح او الانتخاب لا تعني بأي حال من الاحوال ولاء للكفر، ولا خروجا عن الاسلام, بل هي مشاركة تقتضيها ظروف وجودهم في هذه البلاد، وحق من حقوق المواطنة المشروعة لهم، وهذا لا شيء فيه، وهناك احداث في السيرة النبوية تؤكد ذلك، وجائزية هذه المشاركة السياسية تنعكس حتما على مصالح المسلمين، وحتى لا يعزل المسلمون انفسهم في هذه المجتمعات، واجاز الشيخ بن بيه على المسلمين في الغرب العمل ضمن الاحزاب السياسية القائمة وفق مصالحهم، ولا يعني ان قادة هذه الاحزاب وغير المسلمين، لان اغلبية هذه المجتمعات غير مسلمة، والاقلية مسلمة، ولكن لها مصالح وقضايا. وقال الشيخ عبدالله بن بيه إن الشباب المسلم في الغرب يواجه تحديات كبيرة، وان مستقبل هذا التحدي هو الذي سيشكل مصير الاسلام والمسلمين في ديار الغرب، لان الشباب اذا خرجوا عن انتمائهم الاسلامي وتركوا الاسلام بالكلية فهذا يعني ان الاسلام لن يكون له وجود، وان المسلمين سيذوبون في المجتمع الغربي وعلى العكس من ذلك لو تمسك الشباب بالاسلام ستكون البشرى والبشارة. وقال الشيخ بن بية ان الحديث عن قضية فقه الاقليات قضية زائفة والخلاف في المصطلح هو خلاف ما ينبغي ان يكون، وان فقه الاقليات ليس فقها خارجا عن الفقه الاسلامي، فهو جزء من هذا الفقه ويرتكز على الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاصول الاربعة، والتي هي اصول الشريعة، وان المسلمين في الغرب لهم مشكلاتهم واوضاعهم المشقة وهذه المشقة تدور بين الضرورة الفقهية الشديدة وبين الحاجة، ومن ثم فلا بد من معالجة قضاياهم وفق فقه (مقاصد التيسير) وهذا لا يعني وجود فقه جديد بل يعني النظر لظروف الواقع. وقال الشيخ بن بيه: ان الواقع والأقضية التي تحدث للمسلمين في الغرب هي التي تجعلنا نتحدث عن (فقه الاقليات) والمجلس الاوروبي للافتاء هو مجلس رابطة علماء ودعاة وفقهاء ويلتزم بأصول الشرع وهو يفتي في قضايا الاقلية المسلمة في الغرب .

 نظرة استشرافية لمستقبل المسلمين في الغرب

للقلق حول مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا أسباب عديدة معظمها معروف، إلاّ أنّها تختلف باختلاف الجهة السائلة عن ذلك المستقبل ودوافعها، كما تداخلت تلك الأسباب تداخلاً كبيراً يزيد صعوبة الرؤية الموضوعية بحثاً عن أرضيّة مستقرّة لاستنتاجات وتوقّعات تقترب من الصواب قدر الإمكان. ومن المشكلات التي تعترض الباحث في هذا الميدان أنّ الجهات المعنية تطرح ما لديها غالباً من منظور معيّن تعطيه الأولوية على سواه، فلا تراعي بما يكفي عناصر مؤثّرة أخرى وفق منظور آخر، ولا يمكن في مسائل التطوّرات الاجتماعية فصل جانب عن آخر فصلا كاملا، وإن جرى ذلك في دراسة أو بحث فلتسهيل عرض المطلوب عرضاً وافياً، دون الإغفال عن جوانب أخرى، لتصبّ النتائج في خاتمة المطاف في صيغة متكاملة متوازنة.

لغة الأرقامخلفية اجتماعية وثقافيةالمسلمون وسوق العمالة في أوروباافتقاد الصيغة الشمولية

لا يزال الجانب الأمني منذ سنوات يطغى على سواه في السؤال عن مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا، سواء من منطلق عدائي تثيره ظاهرة ما يُسمّى “الخوف المرضي من الإسلام” (أو الاسلاموفوبيا Islamophobie)، أو من منطلق دفاعي صادر عن خشية غالبية المسلمين من أن تشملهم النتائج المترتّبة على الخوف من دينهم دون أن يكون لذلك مسوّغ فيما يعرفونه عنه وعن أنفسهم.

 ومَن ينطلق من المنظور الأمني عدائياً ينظر أيضاًً بتخوّف وقلق إلى عامل التطوّرات المنتظرة وفق الدراسات المستقبلية على صعيد السكان في أوروبا والخلل في هرم الفئات السكانية وظاهرة الهجرة من الجنوب إلى الشمال وما يمكن أن يترتّب على ذلك من ارتفاع نسبة المسلمين إلى السكان وبالتالي ارتفاع نسبة وجود ذلك “الإسلام” الذي يُخشى منه أو تُثار المخاوف تجاهه، افتراءً في غالب الحالات وجهلاً أحياناً.

بينما يسعى أصحاب المنظور الاقتصادي المحض إلى بيان استحالة تجاوز تلك التطوّرات وبالتالي ضرورة التعامل معها مبكّرا، ويمكن أن يتلاقى هؤلاء مع أصحاب النظرة الموضوعية إلى الإسلام، سواء من داخل نطاق المسلمين أو غير المسلمين، إذا ما انطلق الجميع من تعايش الأديان والحضارات والثقافات بدلاٍ من منطلقات العداء والمواجهة والصدام.

 بين هذه النظرات المتعدّدة تسعى الفقرات التالية للبحث عن صيغة تبيّن السلبيات التي ينبغي التغلّب عليها والإيجابيات التي ينبغي دعمها وتنميتها لضمان مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، بصورة مثمرة تحقّق الفائدة لسائر الأطراف، من منطلق لا ضرر ولا ضرار.

لغة الأرقام

تتأرجح تقديرات أعداد المسلمين في الاتحاد الأوروبي كما ذطرنا سابقا في مستهل البحث، وفي غياب وجود إحصاءات رسمية دقيقة تأرجحاً كبيراً، وكانت تبدأ بحوالي 15 مليونا أو أقل من ذلك، وتصل إلى ما يتجاوز 25 مليوناً، يضاف إليهم المسلمون في دول ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي، أي ألبانيا والبوسنه والهرسك، فضلاً عن تركيا التي تنسب نفسها إلى أوروبا وتريد الانضمام إلى الاتحاد وبذلك يصل عدد المسلمين إلى ما يقرب من (37) مليوناً.

 وسيّان ما هو العدد الحقيقي، لا يصلح في وصف المسلمين في الاتحاد الأوروبي ما شاع حتى الآن من مصطلحات، كالجاليات والوافدين والأقليات، فلكلّ تعبير من ذلك سلبيّاته من حيث واقع الوجود البشري الإسلامي، أو من حيث ما يوحيه التعبير نفسه من التعامل بأساليب تتناقض مع استمرارية هذا الوجود ورعايته بصورة قويمة. ويشير إلى ذلك إشارةً عابرة مثلا ما انتشر في الإعلام الفرنسي أثناء الجدل الشديد حول تقنين حظر الحجاب على تلميذات المدارس المسلمات، كقول بعضهم إنّ عليهنّ الرحيل عن فرنسا إن رفضن قوانينها، وكأنّ لهنّ بلداً آخر ينتمين إليه سوى البلد الذي ولدن ونشأن فيه، ولهنّ على تشريعاته القانونية حقّ الحفاظ على دينهنّ.
لم يعد المسلمون في البلدان الأوروبية جزءاً من ظاهرة تاريخية أو موجة وافدين من العمال والطلبة، فالنسبة الأعظم من الملايين المذكورة هي أولئك الذين يُطلَق عليهم وصف الجيل الثاني والثالث من الأبناء والأحفاد المولودين والناشئين في أوروبا فليسوا من الوافدين، ثمّ المقيمون منذ عشرات السنين إقامة دائمة، وغالبية هؤلاء متجنّسون، علاوة على من اعتنق الإسلام من أهل البلاد الأصليين وعددُ هؤلاء في تصاعد مطّرد، لا سيّما في أوساط جيل الشبيبة، وبما يشمل سائر البلدان الغربية عموماً، أمّا الفئة التي يمكن وصف وجودها في أوروبا بأنّه وجود طارئ زمنياً، “أجنبيّ” بمنظور القانون، فهي الفئة الأقلّ عددا.

 والحديث عن مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا مرتبط إلى حدّ كبير بما تقول به الدراسات المستقبلية الموثّقة عن تطوّر الهرم السكاني عموما، وعلى مستوى المسلمين من بين السكان على وجه التخصيص، وهو الجانب الذي يحتاج إلى تخليصه من النظرة المتطرّفة، سواء كانت من أوساط غير المسلمين في الغرب، والتي تريد تصوير ارتفاع نسبة المسلمين خطراً، أو كانت من أوساط فريق من المسلمين يريدون تصوير ذلك “فتحاً” من باب السيطرة على أوروبا، وكلا الفريقين لا ينطلق من منطلق واقعيّ.

 النتائج التي تسجّلها الدراسات الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للدول الصناعية، وعدد من المعاهد الوطنية المتخصّصة في البلدان الأوروبية، تصل إلى نتائج متقاربة، من محاورها الرئيسية:

1- عدد السكان من ذوي الأصول الأوروبية في أهمّ بلدان الاتحاد وأكبرها سكانا، يتأرجح بين الثبات على ما هو عليه وبين التراجع المتزايد، كما هو الحال في أسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبولندا وفرنسا، وقليلاً ما تميّز هذه الدراسات بين المعتقدات الدينية، فهي لا تحدّد فارقاً ما، يخصّ المسلمين من ذوي الأصول الأوروبية، ولو فعلت فلن يكون هذا الفارق كبيراً.

 2- ارتفاع مطّرد لعدد غير ذوي الأصول الأوروبية من السكان، ويمثّل المسلمون أكثريتهم الكبرى، وهذا ما يجعل حصيلة نسبتهم إلى السكان في ارتفاع مستمرّ أيضاً.

 هنا تتحدّث بعض الجهات بصيغة التخويف أنّ الأوروبيين سيصبحون أقليّة داخل بلدانهم، ومن هذه الجهات ما يصوّر هذا التطوّر بشكل مفزع، عندما يتحدّث عن نسبة 20 في المائة قبل نهاية القرن الحادي والعشرين الميلادي. وهي تصوّرات تنطوي على مبالغة مقصودة أحياناً، كما تتجاهل غالباً عناصر تاريخية بشأن تكوين “العنصر” الأوروبي، فطوال ثلاثة آلاف عام على الأقلّ كانت أوروبا ساحة استقبال هجرات كبرى، ومصدراً لهجرات كبرى أيضاً، يستحيل معها عند علماء التاريخ القول إنّ العنصر الآريّ مثلا عنصر قائم بذاته منذ القدم، أو أنّ انتشاره فيما يزيد على ربع سكان الأمريكتين، لا يقابله انتشار سواه في وسط أوروبا بنسبة مماثلة أو أكثر، ولا أحد يطرح السؤال هل ينبغي أن يُعامل أحفاد المهاجرين الأوائل من ألمانيا إلى أمريكا مثلا، معاملة “الغرباء” كما يقال عن أحفاد الوافدين إلى ألمانيا؟

 العنصر الأهمّ الذي تقول به الدراسات المستقبلية هو التبدّل الذي يسجّله هرم الفئات السكانية باطّراد، أي منذ أكثر من خمسين عاما. وبدأ الآن في الوصول إلى المرحلة الحرجة، فمن أهمّ جوانبه ارتفاع نسبة المسنّين (أكثر من 60 سنة) وبالتالي الفئات السكانية غير المنتجة، مقابل انخفاض نسبة القادرين على العمل (بين 18 و60 عاما)، دون أن يوجد على صعيد نسبة الأطفال والناشئة (دون 18 سنة) – ولا على صعيد النظرة إلى الإنجاب عموماً – ما يمكن الاعتماد عليه لتعويض النقص في المستقبل المنظور، أي خلال جيلين إلى ثلاثة أجيال، وهذا ما يخصّ مجدّدا ذوي الأصول الأوروبية، مقابل صورة معكوسة على مستوى غير ذوي الأصول الأوروبية في أوروبا. والحديث عن هذه الفئة يشمل الوافدين وأبناءهم وأحفادهم من زيجات تقتصر عليهم أو مختلطة مع أهل البلاد الأصليين، ودون النظر إلى اكتساب حقٌ الإقامة الدائمة أو الجنسية.

هذا الخلل في الهرم السكاني بين زاويتي الإنتاج والاستهلاك، لا ترى الدراسات المستقبلية إمكانيةً لمعالجته دون فتح أبواب الهجرة إلى أوروبا، أي على النقيض من الممارسات السياسية على هذا الصعيد منذ مطلع الثمانينات في القرن الميلادي العشرين. والهجرة المطلوبة ليتحقّق التعويض ويبقى عدد السكان بمجموعه ثابتاً دون تناقص، تصل إلى مئات الألوف سنوياً، ابتداءً من الآن وفق التوقّعات الموضوعية حتى عام 2050م، فتصل إلى أكثر من 480 ألفا سنويا بالنسبة إلى بلد كألمانيا، وأكثر من 100 ألف لبريطانيا، وزهاء 100 ألف لفرنسا وهكذا.

ظاهرة انخفاض عدد السكان عموماً، رغم ارتفاع وسطي الأعمار نتيجة التقدّم في الرعاية الصحية والطبية، ظاهرة بدأت تطرح نفسها منذ أربعة عقود تقريبا، وانعكست في انخفاض نسبة المواليد من 18 طفل لكل ألف نسمة عام 1960م، إلى 10 أطفال لكل ألف نسمة عام 2000م، حتى أصبحت نسبة الوفيات أعلى من نسبة الولادات، وبلغ ذلك مستوى الخطر على سوق العمالة في بعض البلدان، مثل أسبانيا، ويتوقّع أن تليها على هذا الطريق ألمانيا وإيطاليا وبولندا.

 وكان يتردّد أنّ الظاهرة التي كانت معروفة في البلدان الغربية من الاتحاد الأوروبي يمكن الحدّ منها بتوسعته شرقا، ولم تكن تتوافر دراسات مستقبلية منهجية عن دوله، ولكن ظهر من قبل التوسعة الكبرى للاتحاد، أنّها ظاهرة شاملة لمعظم الدول الشرقية أيضاً. والدولة الوحيدة التي يمكن أن تعوّض عن النقص جزئيا إذا تمّ انضمامها إلى الاتحاد، هي تركيا، وليس مجهولا، أنّها ستتحوّل آنذاك سريعاً نسبياً – أي في حدود عام 2040م- إلى الدولة الكبرى سكاناً في الاتحاد الأوروبي، والمعروف أنّ سكانها مسلمون بغالبيّتهم العظمى.

خلفية اجتماعية وثقافية

بدأ الخلل في الهرم السكاني الأوروبي يظهر نتيجة انتشار سلسلة من الظواهر الاجتماعية المعروفة، كان في مقدّمتها ما يوصف عموما بتفكّك الأسرة، وهو تعبير جامع لعدد من المشكلات دفعة واحدة، يمكن تلخيص بعض ما يرتبط منها بموضوع الحديث بعناوين رئيسية:

1-طرح قضية إنصاف المرأة بعد هضم حقوقها عبر التاريخ الأوروبي طرحاً ارتبط بحاجة الثورة الصناعية إلى اليد العاملة، ممّا جعل المجتمع يقوم بمرور الزمن على استحالة إعالة الأسرة دون عمل المرأة، فأصبح عملها واجباً لازماً وليس أمراً مباحاً أو حقّا غير ملزم، أي تفرض الضرورة أن تأخذ المرأة به إن شاءت أو لا تفرض.

2- نشر النظرة الاجتماعية والثقافية التي تزدري مهمّة التربية ورعاية البيوت حتى أصبح معيار قيمة المرأة رهناً بعملها خارج المنزل، فلم تعد مسألة المساواة بين الرجال والنساء تنطلق من القيمة الذاتية للإنسان، والقيمة الذاتية لكلّ من الجنسين على حدة، وإنّما من مسألة التماثل في “الأعمال” التي يؤدّيها الطرفان، ومن المعروف أن درجة التطرّف على هذا الصعيد وصلت إلى مستوى تجاهل أيّ فارق بين مؤنّث ومذكّر فيما يُطرح حديثا تحت عنوان “الجندرة”Gender .

3- ما سمّي الثورة الجنسية منذ أواخر الستينات من القرن الميلادي العشرين، وهو ما أنشأ تدريجيا الإقبال على العلاقات بين الجنسين دون زواج، فالعزوف عن الزواج المبكّر، فالعزوف عنه وعن تكوين الأسرة أصلاً، حتى ارتفعت أعداد مَن يسكنون على انفراد في البلدان الأوروبية بصورة مطّردة، كما ارتفعت نسبة العزوف عن الإنجاب ارتفاعاً كبيراً.

كان من المستحيل أن تعوّض محاولاتُ علاج سلبيّات هذه الظواهر عن طريق إجراءات تقنينية محورها العمل على إيجاد إغراءات مالية لصالح الإنجاب، ومحاولات ضمان استمرار عمل المرأة بعد فترة زمنية محدّدة للإنجاب والحضانة الأولى، فمعظم هذه المحاولات وأمثالها يعالج ظواهر المشكلة دون التطرّق إلى أسبابها الأولى.

الوافدون من المسلمين في أجيال ماضية إلى الدول الصناعية الأوروبية الرئيسية، كانوا يعيشون في عزلة، نتيجة ظروف فُرضت عليهم اجتماعياً وأخرى ذاتية، وكان للعزلة سلبيّاتها الكبيرة مع مرور الزمن، ولكنّها حافظت على صعيد المسلمين ولا سيّما في ميدان العلاقات بين الجنسين، على قدر معيّن من ضمان استمرارية الأسرة بنسبة عالية، بما في ذلك ارتفاع عدد المواليد نسبياً. وهذا ما يفسّر أن ظاهرة التطوّر المعكوس للهرم السكانيّ في أوروبا لم تشمل المسلمين فيها إلاّ جزئياً.

 وإذا كانت نسبة المسلمين إلى عامّة السكان وفق التقديرات المشار إليها في حدود 5 في المائة حتى الآن، فإنّ نسبة أطفال المسلمين إلى عامّة الأطفال في المدارس الأوروبية تتراوح في أدنى التقديرات بين 15 و20 في المائة، وهو ما يشير إلى مستقبل تطوّر هرم الفئات السكاني خلال جيل واحد، يدعمه ازدياد عدد معتنقي الإسلام من الشبيبة عاما بعد عام.

على مثل هذه الأرقام والتوقّعات يبني بعض أصحاب النظرات المتسرّعة أو المتطرّفة توقّعاتهم المستقبلية. ففريق من المتطرّفين في موقع المسؤولية السياسية أو الإعلامية يحذّر من عدم ضبط هذا التطوّر ويطالب بسياسات متشدّدة بهدف تذويب العادات الاجتماعية للمسلمين، بما في ذلك تلك الناشئة عن المعتقدات الدينية، لا سيّما ما يرتبط بالعلاقات بين الجنسين، وفريق من المتطرّفين من أوساط المسلمين يلوّح بمستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، وبأنّ صناعة القرار ستكون في أيدي أبناء المسلمين.

 هذه الأطروحات من الجانبين لا تؤجّج أسباب العداء والتخوّف فحسب، بل تؤدّي في الوقت نفسه إلى تبنّي تصوّرات لا أصل لها على أرض الواقع.

المسلمون وسوق العمالة في أوروبا

إنّ صناعة القرار وبناء المجتمعات وتوجيه السياسات يحتاج جميعه إلى سلسلة من المواصفات والمعطيات لا يكفي معها الانطلاق من عنصر واحد ومن خلال بعض الأرقام المستقبلية فقط. ويمكن أن نأخذ هنا مثالاً على ذلك من ميدان ما يعنيه انقلاب الهرم السكاني بين متقاعدين وعاملين.

إنّ “أبناء المسلمين” في الوقت الحاضر ممّن تُطرح المخاوف المتطرّفة أو تُطرح الأماني المتطرّفة تحت عنوانهم، هم في الوقت الحاضر الأطفال المسلمون الذين تنخفض نسبتهم إلى زهاء 60 في المائة في مرحلة الدراسة الإلزامية، وأقل من 40 في المائة في تحصيل الشهادة الثانوية، ثمّ إلى ما دون ذلك بشكل ملحوظ في الدراسات الجامعية والتخصّصية.

 ولهذه الإشارة أهمية كبيرة في توقّعات ما سيكون عليه الوجود البشري الإسلامي في أوروبا خلال جيل أو جيلين. فمعظم الدراسات المنهجية حول مستقبل العمالة في الدول الصناعية عموماً، بما يشمل الأوروبية، يؤكّد أنّ الحاجة الأكبر خلال العقود القادمة لن تكون في الميدان الإنتاجي أو ما كان يُسمّى اليد العاملة الرخيصة، كما كان قبل نصف قرن تقريباً، إنّما ستكون الحاجة الأكبر إلى العمالة ذات الكفاءة المهنية العالية، ثمّ إلى الإدارة والتخطيط على مستويات تخصّصية عليا، وقد بدأ ذلك بالظهور للعيان، كما هو معروف عن جلب الخبراء والمتخصّصين في قطاعات الحاسوب والبرمجة من بلد كالهند، إلى بلد كألمانيا التي بلغ عدد العاطلين عن العمل فيها بين 4 و5 ملايين، ويعني ذلك:

سواء كانت نسبة المسلمين إلى مجموع القادرين على العمل منخفضة أو مرتفعة، فإنّ انخفاض مستوى التأهيل التعليمي والمهني إلى أقلّ من نصف مستواه لدى سواهم، سيجعل نسبة البطالة في صفوفهم -لهذا السبب وسواه- أعلى بكثير منها في صفوف سواهم، وسيكونون بذلك “عالة اجتماعية واقتصادية” وليس محرّكا إنتاجيا يعطيهم ميزات إيجابية ما.

هنا يظهر قدر كبير من عدم صحّة الاطمئنان بمنظور مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، إلى النظرة العامّة السائدة حاليا أنّ الدول الأوروبية لن تستطيع الاستغناء عن الاستعانة بالأيدي العاملة من غير ذوي الأصول الأوروبية، ومعظمُ هؤلاء من المسلمين.

إنّ مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا لا يرتبط فقط بالتطوّرات التي تطرحها الأرقام المجرّدة، ما لم توظّف التقديرات والتتنبّؤات المطروحة في الدراسات المستقبلية توظيفاً قويماً في إطار تصوّر أوسع نطاقا يشمل الجوانب الثقافية والتعليمية والتأهيلية المهنية والظروف الاجتماعية والاقتصادية في وقت واحد.

افتقاد الصيغة الشمولية

ما يسري على صعيد سوق العمالة، يسري أيضا على مختلف الميادين الأخرى، ذات العلاقة بصناعة الفرد والمجتمع، عُقديا وفكريا، اجتماعيا وثقافيا، فنيا وأدبيا، سياسيا واقتصاديا، ومن هنا يمكن القول إنّ السؤال عن مستقبل الوجود الإسلامي لا يجد الإجابة دون صيغة شمولية تتناول سائر جوانبه في وقت واحد، وتصدر عن منطلقات موضوعية لا تكتفي بأسلوب التشاؤم أو التفاؤل تجاه الأرقام المجرّدة والتقديرات المستقبلية.

 أوّل ما يواجه البحث عن مثل تلك الصيغة أنّ مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا لا يُطرح في الوقت الحاضر باعتباره قضية تحتاج إلى البحث والدراسة، بل يُطرح من منطلق أنّه مشكلة “تجب مواجهتها”، وتتعدّد جوانب هذه المشكلة على حسب منظور من يطرحها، ومن ذلك:

1- المنظور الأمني المسيطر سياسيا وإعلاميا نتيجة ظاهرة العنف، والخلط بين مقاومة مشروعة ضدّ احتلال أجنبي في نطاق الأرض الإسلامية، وبين عمليات عنف غير مشروع، لم تعد تقف عند الحدود الأوروبية.

 2- المنظور الثقافي والفكري المرتبط بموروث الفئات الثقافية والفكرية الأوروبية حول الإسلام نفسه والخلط بين مصادره المعتبرة وبين الكثير ممّا ينشر بأقلام المسلمين، سواء من فئة المتشدّدين إسلاميا أو فئة المتشدّدين في العداء للإسلام من داخل النطاق الإسلامي.

 3- منظور التنظيمات والمراكز الإسلامية الناشئة في ظروف سابقة من القرن الميلادي العشرين، ولم تتجاوز في كثير من الحالات معطيات تلك الظروف فبقي تعاملها قاصراً عن التفاعل المثمر مع المعطيات الجديدة أوروبيا وكذلك المعطيات الجديدة للأجيال الجديدة من المسلمين.

 
4- منظور جيل الشبيبة من المسلمين الذي انتشرت فيه الصحوة الإسلامية انتشارا واسعا، وهو الجيل الذي سيصنع مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، وهنا تظهر معطيات إيجابية وسلبية عديدة سيكون للتعامل معها الآن أثره الكبير على حصيلتها في المستقبل.

هذه الميادين الأربعة في حاجة إلى بحث ودراسة بما يتناول كلا منها على حدة، فيكفي في ختام هذه الدراسة التنويه بأن الجهات المسؤولة، وكذلك الروابط والمراكز الإسلامية، بدأت تستشعر أخطار القصور عن التعامل مع الوجود الإسلامي في أوروبا تعاملا موضوعيا، وفي الوقت نفسه بدأت تظهر على مستوى جيل الشبيبة طاقات جديدة قد تكون أقدر على استيعاب متطلبات المرحلة من جيل سابق يحمل أعباء مرحلة سابقة، وهذا ما يمكن البناء عليه في البحث عن صيغة شمولية تستهدف الوصول إلى ضمان مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، بما يحقّق مصالح سائر الأطراف، في إطار عملية تطوير، وليس في إطار مواجهة وعداء.

وخلاصة القول:

إن من الأمور المسلم بها أن تكون لهذه الفئة المسلمة في المجتمع الغربي مشكلاتها الخاصة ، شأنها في ذلك شأن أي أقلية تعيش في أي دولة من الدول. فهناك عقبات وصعوبات ومشكلات تواجه المسلمين في الغرب ، منها ما يتعلق بالمجتمع الغربي ونظرته المشوهة عن الإسلام والمسلمين بسبب الجهل أو بسبب مقصود، ومنه ما يتعلق بالواقع المتناقض الذي يعيشه المسلمون أنفسهم في مجتمعهم الجديد.

ويجب أن أن لا يغيب عن أنظارنا أن بين المسلمين في الغرب طائفة بدأت تبتعد عن الإسلام ولا سيما أبناؤهم وأحفادهم من الجيل الثاني والثالث وما يليهم ، الذين ولدوا أو نشأوا خارج ديار الإسلام، وعلى هذه الطائفة تنصب جهود المجتمع الغربي في سياسة الاندماج والذوبان وتبني القيم الغربية بمفاهيمها الواسعة. وعلى هذه الطائفة أيضا يجب أن تتوجه الجهود المخلصة من الدعاة والمربين الذي يؤمنون بأهمية الدور الذي يلعبه الإسلام العظيم في تكامل الحضارات والعيش المشترك بين مختلف الأجناس والعروق والديانات وتوفير الأمن والأمان لكل أفراد بني البشر.

سائلين الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويسدد خطانا

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين   

        

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق